النور الساطع في الفقه النافع

اشارة

نام كتاب: النور الساطع في الفقه النافع

موضوع: فقه استدلالى

نويسنده: نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى

تاريخ وفات مؤلف: 1411 ه ق

زبان: عربى

قطع: وزيرى

تعداد جلد: 2

ناشر: مطبعة الآداب

تاريخ نشر: 1381 ه ق

نوبت چاپ: اول

مكان چاپ: نجف اشرف- عراق

الجزء الأول

[خطبة الكتاب و الموضوع الذي يبحث فيه]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ و به نستعين

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله و صحبه الطيبين الطاهرين

(و بعد): فيقول المفتقر الى اللّه عز و جل علي بن المرحوم الشيخ محمد رضا بن المرحوم الشيخ هادي من آل كاشف الغطاء: قد ساعدني التوفيق الرباني على وضع كتاب في علم الفقه الجعفري سميته ب (النور الساطع في الفقه النافع) قد شرحت به المسائل الفقهية شرحا وافيا يتضح به معانيها و يتجلى فيه مداركها و مبانيها سائلا المولى عز و جل أن يوفقنا لإتمامه و نيل الثواب الجزيل في إنجازه و قد وضعت له مقدمة في طرق امتثال التكليف تشتمل على مباحث الاحتياط و الاجتهاد و التقليد، و من اللّه تعالى نستمد العون و التوفيق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 4

الطرق لامتثال التكاليف

اشارة

(الاحتياط، و الاجتهاد، و التقليد) قال الفقهاء رضوان اللّه عليهم: يجب على المكلف أن يكون محتاطا أو مجتهدا أو مقلدا، و مرادهم بالوجوب هو الوجوب العقلي الإرشادي إذا كان دليلهم على ذلك هو قاعدة الاشتغال أو وجوب شكر المنعم كما سيجي ء توضيح ذلك إن شاء اللّه لأن الوجوب فيهما وجوب عقلي لدفع العقاب المحتمل، و اما إذا قلنا ان الدليل عليه هو مقتضى الجمع بين الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الاحتياط و وجوب التفقه و وجوب التقليد فيمكن أن يقال ان الوجوب يكون وجوبا شرعيا كما يمكن أن يكون أعم من الشرعي و العقلي و سيجي ء إن شاء اللّه بيان ذلك مفصلا في الأدلة على هذه القاعدة، و اما التخيير بين هذه الأمور الثلاثة فهو تابع للوجوب فان كان الوجوب عقليا فالتخيير كذلك و هكذا إن كان شرعيا أو

أعم من الشرعي و العقلي لأن التخيير تنويع للوجوب تابع للحاكم بالوجوب و المراد بالمكلف هو البالغ العاقل لأنه الذي وضع عليه قلم التكليف و أريد منه امتثاله، و المراد بالاحتياط و الاجتهاد و التقليد هو الصحيح منها عند المكلف بمعنى ما يراه صحيحا إذ ان الذي يراه فاسدا و إن كان صحيحا في الواقع لا يكون مؤمّنا للعبد من العقاب المحتمل على مخالفة الواقع، و إنما قدمنا الاحتياط في الذكر لحصول الموافقة للواقع القطعية به بخلاف الاجتهاد و التقليد فإن الذي يحصل بها هو الموافقة للواقع الاحتمالية المعتبرة ثمَّ قدمنا الاجتهاد على التقليد لأن الاجتهاد مأخوذ في موضوعه إذ التقليد إنما يكون للمجتهد، هذا غاية ما يمكن من توضيح القاعدة المذكورة.

[الأدلة على قاعدة: يجب على المكلف الاحتياط و الاجتهاد و التقليد]

و اما الدليل عليها فما يمكن أن يستدل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 5

به أو استدل به عليها فوجوه:

(الأول) ان العبد عند بلوغه حد التكليف يعلم إجمالا بتوجه تكاليف عليه من الشارع المقدس يستحق على مخالفتها العقاب و إلا لزم إهمال الشارع لعباده فيحكم عقله بوجوب الخروج عن عهدة تلك التكاليف فرارا عن العقاب المذكور و لا يحصل له الخروج عن عهدتها إلا بأحد الأمور المذكورة من الاحتياط فيها أو الاجتهاد فيها أو التقليد فيها. و على هذا التقرير يكون الدليل على القاعدة المذكورة هو قاعدة الاشتغال التي مرجعها الى حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

(الثاني) ان شكر المنعم واجب بحكم العقل خوفا من سلب نعمته و قطع فيوضاته بترك شكره، و المنعم هو المشرع للتكاليف الدينية، و شكره إنما يكون بتنفيذ مئاربه و امتثال أوامره و إطاعة نواهيه و هي إنما تكون بأحد هذه الطرق المذكورة من

الاحتياط و الاجتهاد و التقليد، و على هذا فالوجوب المذكور في القاعدة يكون أيضا وجوبا عقليا من باب وجوب شكر المنعم الذي هو وجوب عقلي.

(الثالث) ان مقتضى الجمع بين أدلة التفقه كقوله تعالى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ و أدلة الامارات و الأصول الآمرة بالرجوع إليها و بين أدلة الاحتياط كقوله عليه السّلام: «احتط لدينك»، و بين أدلة التقليد كقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* هو التخير الشرعي بين هذه الطرق الثلاثة، و على هذا يكون الوجوب شرعيا طريقيا و لكن هذا يتم إذا قلنا بأن أدلة وجوب الاحتياط و التقليد تثبت وجوبهما الشرعي و هو في غاية الإشكال لأن الظاهر ان أدلة الاحتياط إرشادية و الذي ذهب اليه الكثير من علمائنا ان وجوب التقليد عقلي و وجوب الاجتهاد أيضا عقلي و لو فرضنا ان بعضها عقلي و بعضها شرعي كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 6

المراد بالوجوب في القاعدة أعم من الوجوب الشرعي و العقلي.

[الدليل على الحصر بالأمور الثلاثة من الاحتياط و الاجتهاد و التقليد]

و اما الدليل على الحصر بهذه الأمور الثلاثة فهو أن يقال ان التكليف في مقام امتثاله اما أن يأتي العبد بسائر محتملاته أولا و الأول هو الاحتياط و الثاني اما أن يرجع الى رأيه أو الى غيره و الأول هو الاجتهاد و الثاني هو التقليد، و لكن هذا الدليل على الحصر لا يتم إلا بضميمة الاستقراء أو بدعوى الإجماع، إلا ان الاستقراء و الإجماع لو تما فكل واحد منهما دليل مستقل على الحصر و لا يحتاج الى الدليل المذكور، هذا غاية ما يمكن من تقريب القاعدة المذكورة و توضيحها

[الإيرادات على القاعدة المذكورة]

و الذي يمكن أن يورد عليها أو أورد عليها به أمور:

(أحدها) ان هذا التخيير منهم ان كان لبيان وظيفة العبد و ان وظيفة العبد في مقام العبودية لا تخلو من أحد هذه الأمور الثلاثة بحكم العقل فهو غير صحيح لأن وظيفة العبد هو الرجوع لعقله في كيفية الإطاعة فما أدى اليه عقله فهو المتبع فلو أدى عقله الى العمل بالظن كفاه ذلك و لو أدى عقله الى العمل بالاحتياط تعين عليه ذلك و لا يجوز أن يعدل عنه الى التقليد أو الاجتهاد فالواجب على العبد بحكم العقل الاجتهاد بتعيين وظيفته من تقليد أو احتياط أو اجتهاد و ان كان هذا التخيير منهم لبيان التقسيم الواقعي بمعنى ان العبد في مقام العبودية في الواقع لا يخلو من هذه الأمور فهو مع انه خلاف وظيفة الفقيه غير صحيح لأن الكثير من العوام يفعل بعض الأحكام كالمعاملات بل و حتى بعض العبادات بدون هذه الأمور الثلاثة خصوصا إن كان مرادهم بها الاحتياط الصحيح و التقليد الصحيح و الاجتهاد الصحيح لوضوح ان أغلب العوام في أوائل بلوغهم ليس في

أعمالهم عندهم من ذلك شيئا فالأولى أن يقال: انه يجب على المكلف أن يرجع لعقله في تعيين ما هو وظيفته و طريقه في امتثال التكاليف الشرعية إلا اللهم أن يقال ان ذلك هو مقتضى الجمع بين الأدلة كما تقدم في الدليل الثالث أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 7

مقتضى الاستقراء أو الإجماع، و لا يخفى ما فيه فان العقل من جملة الأدلة و هو قد يرى طريقا غيرها أو تعيين واحد منها، و الاستقراء و الإجماع غير مسلمين.

(و ثانيها) ان العلم الإجمالي بالتكاليف منحل بالعلم التفصيلي بها ضرورة ان كل أحد يعلم بوجوب الصلاة و الصوم و الزكاة و الحج و حلية البيع و نحو ذلك و حينئذ فما عدى ذلك من التكاليف يرجع فيها إلى أصالة البراءة.

و جوابه ان العلم الإجمالي لم ينحل بذلك بل في باقي الموارد يكون أيضا علم إجمالي بوجود التكاليف فيها سلمنا لكن لا مجال لجريان أصل البراءة في باقي التكاليف إذ أن أصل البراءة في الأحكام لا يجري إلا بعد الفحص و لا أقل من احتمال عدم جريانه فلا يستقل العقل بالبراءة بل يستقل العقل بالاشتغال و الاحتياط لعدم المؤمن له من مخالفة التكليف.

(ثالثها) ان القاعدة المذكورة لا دليل عليها في المعاملات إذ لا تكليف فيها يحتمل على مخالفته العقاب فلا يحكم العقل بتعيين الوظيفة لها لعدم استحقاقه العقاب فيها.

و جوابه ان العقل إنما يحكم في المعاملات بالقاعدة المذكورة فرارا عما يترتب على المعاملات من التكاليف فاذا شك في صحة المعاملة احتمل حرمة تصرفه بالمال الذي انتقل اليه بالبيع و غير ذلك.

(رابعها) ان القاعدة المذكورة لا دليل عليها في الوقائع التي تكاليفها غير منجزة عليه لكونها

غير ملتفت إليها أو ليست بمحل ابتلائه إذا فسرنا المكلف بالبالغ العاقل كما هو المعروف عندهم و اما إذا فسرناه بمعناه الوصفي و هو من كان مكلفا فعليا فلا يرد عليها بالوقائع الخارجة عن محل الابتلاء. و هكذا لا دليل على القاعدة المذكورة في الوقائع التي يعلم بأن تكاليفها غير إلزامية عليه لعدم احتمال العقاب في ذلك و هكذا لا دليل عليها في التكاليف اليقينية لاستقلال العقل بوجوب متابعة اليقين و القطع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 8

فالواجب تقييد القاعدة بذلك إلا اللهم إذا احتمل أنه بترك التقليد أو الاجتهاد في ذلك عقاب عليه بحيث يعاقب على نفس ترك ذلك و إن لم يخالف الواقع و لم يعص المولى.

(خامسها) انهم ذكروا أنه لا بد في الاحتياط من أن يكون مجتهدا أو مقلدا لأن مسألة جواز الاحتياط خلافية. و عليه فالقسمة ينبغي أن تكون ثنائية لا ثلاثية بأن يقال أن المكلف اما مجتهد أو مقلد (على رأيهم) و إن كان الحق أن الاحتياط جوازه عقلي فطري.

ما يستثنى من القاعدة

قد عرفت في الإيراد الرابع على القاعدة المذكورة أنه ينبغي أن يستثنى من قاعدة (أن المكلف لا بد أن يكون مجتهدا أو محتاطا أو مقلدا) الوقائع التي تكون أحكامها معلومة بالضرورة أو باليقين لحصول المؤمن له عقلا من العقاب فلا يحتاج إلى الاجتهاد و لا التقليد بل لا يصلحه الرجوع إلى التقليد و لا إلى سائر الأمارات المجعولة لأنها إنما جعلها الشارع للشاك لا للعالم بالواقع و لم يبق موضوع للاحتياط لانكشاف الواقع عنده و الاحتياط يكون مع الجهل بالواقع، و قد يستثنى من القاعدة المذكورة في مقابل ذلك الوقائع المجمع عليها و لكن الإجماع أن كان

دليلا اجتهاديا لمن حصل عنده فهو مجتهد و إن لم يكن دليلا اجتهاديا كما لو حصل للعامي فإن حصل له اليقين بالمسألة اجتزى به لحصول المؤمن له من العقاب و الوقوع في خلاف الواقع فتكون من الوقائع التي أحكامها معلومة و إلا فلا يصح له العمل بالإجماع لعدم المؤمن له من العقاب لاحتمال الوقوع في خلاف الواقع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 9

عمل العامي بدون الأمور الثلاثة إذ طابق الواقع أجزأه أو مبحث معذورية الجاهل

اشارة

عمل الجاهل بدون احتياط و لا تقليد و لا اجتهاد ليس بمؤمن له من العقوبة لاحتمال مخالفته للواقع و إذا اتفق مطابقته للواقع كان مجزيا له سواء كان قاصرا بأن لم يلتفت الى لزوم امتثال التكاليف بالطرق المعتبرة أو مقصرا بأن كان ملتفتا الى ذلك و لم يمتثل كذلك خلافا للسيد (ره) في عروته فإنه أفتى ببطلان عمل الجاهل المقصر و ان طابق الواقع كما في مسألة (16) و لعل فتوى السيد بذلك ناظرة للعبادات من جهة عدم تأتي قصد القربة من الملتفت كما يظهر من كلماته و لا يخفى ما فيه من الاشكال لعدم المانع من التقرب لاحتمال الموافقة للواقع فالعامد التارك للتقليد و الاجتهاد و الاحتياط لما كان يحتمل أن يكون ما يأتي به موافقا للواقع يتمكن من الإتيان به برجاء الواقع فكما انه مع عدم التمكن من معرفة الواقع يحصل التقرب بالإتيان برجاء الواقع فكذا مع التمكن لعدم تأثير التمكن و عدمه في ذلك لعدم مدخلية الجزم بالأمر في الطاعة. نعم المتمكن ليس له الاكتفاء بهذا النحو من الإتيان لعدم حصول الأمن له من العقوبة و لو اكتفى به كان عليه وزر التجري لكن ذلك لا دخل له في الصحة على تقدير المطابقة.

إن قلت: ان الموارد التي

كان مقتضى الأصول الشرعية عدم الصحة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 10

و عدم المطابقة للواقع يكون الشرع قد عبّدنا بعدم كون المأتي به موافقا للمأمور به و حينئذ يمتنع التقرب به لكونه غير مراد له.

قلنا: لو سلمنا جريان هذه الأصول فهو إنما يتم بالنسبة إلى الملتفت الى هذا الأصل الجازم بثبوته من الشرع و إلا فإن احتمل عدمه أمكنه التقرب برجاء عدم صدور هذا الأصل من الشرع أو عدم كون المورد من مصاديقه فان باب الإطاعة واسع.

إن قلت: لو كان رجاء الواقع هو الداعي للعمل لأتى بباقي المحتملات فعدم إتيانه بالباقي يعلم منه انه لم يكن هو الباعث له و إنما الباعث شي ء آخر.

قلنا: يمكن أن يكون هو الباعث له و لكن لم يأتي بالباقي لأسباب أخر كالعجز و عدم الرغبة.

و الحاصل ان السيد (ره) لو ألغى التفصيل بين الالتفات و عدمه و قال:

«ان تأتي منه قصد القربة صح ان طابق الواقع و إلا فلا» كان أحسن. و كيف كان فالأصحاب قد اختلفوا في معذورية الجاهل على أقوال فقول بعدم معذوريته مطلقا سواء طابق الواقع أم لا مع القصور أو التقصير و قول بمعذورية الجاهل مطلقا حتى مع عدم المطابقة و مع التقصير، و نسبه صاحب الحدائق إلى السيد نعمة اللّه الجزائري و قول بالمعذورية عند المطابقة للواقع و عدم المعذورية مع عدمها ينسب للأردبيلي (ره) و قول بالمعذورية مع القصور دون التقصير و هو المحكي عن الوحيد البهبهاني (ره) و ينسب للمحقق الثالث.

[المراد بالجاهل القاصر و الجاهل المقصر]

و المراد بالقاصر هو الذي لم يتمكن من تعلم المسائل لا تقليدا و لا اجتهادا اما لغفلته عن المسألة أصلا كمن غفل عن كون القهقهة مبطلة للصلاة أو

لعدم التفاته الى وجوب أخذ المسائل و تعلمها أو التفت و لكن لم تصل يده الى مجتهد و لم يتمكن من الاجتهاد كالمحبوس و ما عدى ذلك فهو مقصر و هو من تمكن من تعلم المسائل اجتهادا أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 11

تقليدا و إن زال تمكنه بعد ذلك لأن عدم تمكنه كان بسوء اختياره و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، كما ان محل الكلام إنما هو في صحة عمله و اجزائه عن الواقع أو فساده و ليس محل الكلام هو ترتب الإثم على عمله و عدمه فإنه لا اشكال مع قصوره لا إثم عليه مع عدم التمكن من الاحتياط لعدم القدرة و يأثم مع مخالفة الواقع و تمكنه من الاحتياط و لم يحتاط و ليس له معذّر كما ان المقصر مع المطابقة للواقع لا إثم عليه و سيجي ء إن شاء اللّه ان وجوب التعلم لا توجب مخالفته العقاب كما لا ينبغي الإشكال في استحقاقه العقاب مع المخالفة للواقع و إنما محل الكلام ان العامي بدون الأمور الثلاثة إن تأتي منه قصد القربة و أتى بالعبادة ثمَّ انكشف له موافقتها للواقع هل يجزيه أم لا؟ التحقيق انه يجزيه و لا يجب عليه الإعادة و لا القضاء لأنه قد أتى بما هو متعلق لأمره الواقعي و الاجزاء أمر قهري لأن إتيان متعلق الأمر موجب لسقوطه و المفروض تحقق شرائط امتثاله و هكذا المعاملات فاذن لا وجه للقول بأن عمل العامي بلا احتياط و لا تقليد باطل كما عن بعضهم بل اللازم تقييده بالعبادات و لم يتمش منه قصد القربة إلا اللهم ان يريد بالبطلان عدم الأمان من مخالفة الواقع و اما لو

أراد به الفساد فيتعين التقييد بعدم تمشي قصد القربة و من اضافة بدون احتياط إذ مع الاحتياط يكون عمله ليس بباطل إلا أن يلتزم بأن الاحتياط لا بد من الاجتهاد أو التقليد في جوازه، و قد عرفت انه غير لازم مضافا الى ان التقليد لا بد من الاجتهاد في جوازه فلو كان نظره الى ذلك لكان عليه أن يقول عمل العامي بدون اجتهاد باطل، و يحتمل أن يكون مراده ان عمل العامي إذا خالف الواقع و كان بلا تقليد و لا اجتهاد فهو باطل لأنه لم يمتثل الأمر الواقعي و لا الظاهري و اما لو خالف الواقع و كان عن تقليد أو اجتهاد فهو غير باطل لاجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي فتلخص ان البطلان اما أن يحمل على عدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 12

الأمن من العقاب أو على صورة المخالفة للواقع.

و الحاصل ان عمل العامي بدون الأمور الثلاثة ان كان عن يقين فلا يجب عليه شي ء من الأمور الثلاثة كما عرفت لحصول المؤمن له، و اما ان كان عن ظن معتبر فهو لا يخلو اما أن يرجع للاجتهاد و هو ليس محل كلامنا أو التقليد و هو أيضا ليس محل كلامنا، و اما إن كان عن ظن غير معتبر كما لو حصل له الظن من متابعة الآباء و الأمهات أو من كلام معلم أو مشاهدة أصدقائه و رفقائه أو قراءة كتاب من متون الفقه كما هو الغالب في العوام و النساء أو كان أمرا كيفيا تباعا لهواه فاذا طابق عمله الواقع كان صحيحا اما في المعاملات فواضح و اما في العبادات فبشرط تأتّي قصد القربة منه لأنه قد أتى بما هو

مطلوب الشارع و اما عدم تعبده بالطريق فلا يوجب عقابا عليه و لا فسادا لعمله، لأن الأمر بالطريق اجتهادا أو تقليدا لحصول الواقع فاذا حصل الغرض و هو حصول الواقع سقط الأمر الغيري بالطريق مع ان العامي قد يكون غافلا عن وجوب الطريق عليه فيكون معذورا في عدم سلوكه.

و استدل صاحب العناوين على ذلك أولا: بالأخبار الكثيرة المنتشرة في أبواب الفقه المشتملة على السؤال عن إتيان العمل بكيفية اختيارها السائل بدون دليل و جواب الامام (ع) له بالصحة، مثلا يقول: أجريت المعاملة الفلانية بهذه الكيفية، و الامام (ع) يجيبه بالصحة، أو يقول: صليت بدون كذا أو مع كذا، فيجيبه الامام بلا بأس فلو كان العمل بدون الطريق المعتبر فاسدا لاستفسر الامام (ع) عن كيفية عمله من انها مع الطريق المعتبر أو بدونه لا أن يجيبه بالصحة، مع أن الظاهر انه كان العمل بدون طريق معتبر إذ لو كان مع الطريق المعتبر لما سئل الإمام (ع) عن الصحة.

و ثانيا ان نوع المسلمين على ذلك فلو كان يجب الإعادة أو القضاء للعبادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 13

أو عدم ترتيب الأثر على المعاملة لأمر هم الأئمة (ع) بذلك و لاشتهر ذلك لعموم البلوى و قل ما يتفق لشخص أن يعمل بالتقليد أو الاجتهاد أوائل بلوغه مع انه لم نجد عينا و لا أثرا في الأخبار ما يدل على لزوم الإعادة، و يؤيد ذلك ما روي عن ان عمار أصابته جنابة فتمعك في التراب فقال له رسول اللّه (ص): كذلك يتمرغ الحمار أ فلا صنعت كذا، فعلمه (ص) التيمم. فان قوله (ص): أ فلا صنعت، يدل على أن عمار لو فعل كذا لكان صحيحا مع

جهله بالحكم من دون تقصير لأن ظاهر حال عمار عدم التقصير، فصدر الرواية يدل على بطلان العمل مع المخالفة للواقع و ذيلها يدل على صحة عمل القاصر مع المطابقة للواقع.

[حجة المشهور القائلين بعدم معذرية الجاهل مطلقا]
اشارة

حجة المشهور القائلين باعتبار كون العمل مستندا لأحد الطرق المعتبرة و ان الجاهل غير معذور مطلقا قاصرا كان أو مقصرا مطابقا عمله للواقع أم لا وجوه:

(الأول) أصالة الاشتغال

المقتضية لاشتراط صحة العبادة بتعلم مسائلها الواجبة و قضية ذلك فساد عبادة الجاهل مطلقا و إن كان قاصرا و ان طابق عمله الواقع لفقدان شرط الصحة و هو تعلم المسائل الواجبة فيكون عبادته باطلة يجب إعادتها في الوقت و قضائها خارج الوقت.

و جوابه: ان الأصل مقطوع بما أثبتناه بالأدلة الاجتهادية من أن التعلم ليس بشرط للصحة و سيجي ء إن شاء اللّه عما قريب، و قد يجاب عنه بأنه غير جار بالنسبة إلى القاصر على مذهب العدلية لكونه غير مكلف بالعلم لعدم قدرته عليه فاذا أتى بالعمل على طبق الواقع فقد أجزأه. و فيه انه للخصم أن يدعي بأن العمل إذا كان مشروطا بالعلم و هو لم يأت به مع شرطه فلو تمكن بعد ذلك من تحصيل الشرط وجب عليه إعادة العمل إلا إذا قلنا بأن الميسور يجزي عن المعسور.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 14

(الثاني) من أدلتهم ان الجاهل مأمور بتحصيل المسائل الواجبة

كما مر و الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضده أو عدم الأمر بضده، و عبادته ضد لتحصيل الأمر فعلى التقديرين تكون عبادته فاسدة اما على الأول لتعليق النهي بالعبادة و هو فيها موجب للفساد و اما على الثاني فلأن صحة العبادة تتوقف على بقاء الأمر بها و بعد تعلق الأمر بتحصيل المسائل ارتفع الأمر بالعبادة فإن الأمر بالتحصيل دل على عدم الأمر بالعبادة فتكون عبادته فاسدة.

و الجواب عنه أولا: ان الأمر بالشي ء لا يقتضي النهي عن ضده الخاص و لا عدم الأمر به كما هو المختار. و ثانيا: انه لا يتم في القاصر لعدم تعلق الأمر بالتحصيل في حقه و إلا لزم التكليف بما لا يطاق، فلم يكن هناك أمر بشي ء حتى يدل على النهي عن ضده أو

عدم الأمر به. و ثالثا: ان العبادة قد لا تكون ضدا لتحصيل المسائل كما في التروك التي تجتمع و تجامع كل فعل فلو قصد الصوم و شرع في تحصيل مسائل الصوم أو لم يشرع فيها لا يدل الأمر بالتحصيل على النهي عن الصوم و لا على عدم الأمر به لعدم كونه ضدا له كما لا يخفى.

(الثالث) من أدلتهم: ان قصد القربة شرط في صحة كل عبادة

و هو لا يحصل مع الجهل بالمأمور به إذ لا يتمكن الجاهل من قصد القربة إذ القربة هو الامتثال للأمر و لا يدري الجاهل ان ما يريد إتيانه هو المأمور به أم لا فلا يحصل منه قصد القربة لا سيما إذا كان عالما بلزوم تحصيل المسائل اجتهادا أو تقليدا و قصر في ذلك فيكون عمله باطلا لعدم تحقق الامتثال العرفي للزوم الجزم بالإطاعة و مع العلم بوجوب التحصيل و الأخذ عن المجتهد لا يبقى له اطمينان بظنه و تقليده فيصير ما يعتقد كونه مأمورا به موهوما فلا يحصل الامتثال العرفي لأنه لا يحصل إلا بقصد الامتثال و قصد الامتثال. بالفعل لا يحصل إلا بمعرفة ان هذا الفعل هو نفس المأمور به و المفروض ان الجاهل لا يعلم ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 15

و الجواب عنه ان قصد القربة يحصل للجاهل مطلقا اما في القاصر الذي يعتقد ان ما سمعه من أبيه أو أمه أو معلمة هو المأمور به الواقعي فتحقق قصد القربة في حقه من الواضحات و منكره مكابر، و اما المقصر الذي علم وجوب تحصيل الاحكام و أخذها من المجتهد و قصر في ذلك فيتحقق قصد القربة في حقه أيضا لأن ما يأتي به مع التقصير في أخذ مسائله يحتمل أن يكون مطلوبا و انه

عين ما أمر بإتيانه. و يكفي في تحقق قصد القربة في الفعل احتمال كون ذلك الفعل هو المأمور به، و قولك ان قصد الامتثال لا يحصل إلا بمعرفة ان هذا الفعل هو نفس المأمور به ممنوع نعم ما ينافي قصد القربة هو الجزم بعدم كونه مأمورا به بل يكفي في تحقق قصد القربة احتمال كون الفعل مأمورا به كما يتحقق قصد القربة في فعل يحتمل مطلوبيته و دل على استحبابه دليل غير معتبر و كذلك العمل بالاحتياط حيث يأتي بالمشكوك باحتمال كونه مأمورا به و لا ريب ان المحتاط و الفاعل للمستحب الذي دل عليه دليل غير معتبر يقصدان القربة لاحتمال كون فعلهما مأمورا به.

فان قلت: ان المحتاط أو المتسامح يقطعان بكون فعلهما مأمورا به لقوله عليه السلام: خذ الحائطة لدينك، احتط لدينك. و قوله (ع): من بلغه ثواب على عمل فهما يقصدان القربة بهذا الأمر الثاني المقطوع به لهما.

قلت: أولا- لو سلمنا ذلك فإنهما كما يقصدان القربة بامتثال الأمر الظاهري من خطاب احتط لدينك و ائت بما يحتمل ندبيته كذلك يقصدان القربة بالأمر الواقعي.

و ثانيا- لا يتم ذلك في من يأتي بفرد استحبابا و يقصد القربة به باحتمال كونه فردا للكلي الذي دل على استحبابه دليل غير معتبر كما لو أخبره فاسق بأن في التختم بالعقيق اليماني ثواب عظيم و فاسق آخر بأن هذا الفص عقيق يماني فيقصد القربة بالتختم به مع ان (من بلغه ثواب) دل على جواز التسامح في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 16

المستحبات من حيث الاحكام لا الموضوعات، مضافا الى ان المقصر إذا عصى بالتقصير الى آخر الوقت فأمره دائر بين الترك عن أصل و بين أن

يعمل بما يحتمل كونه مأمورا به و لا ريب ان مقتضى الاحتياط هو الأخير فيتحقق قصد القربة في حقه لقطعه بأن عمله هذا مأمورا به لقوله: (ع) خذ الحائطة لدينك.

و ثالثا- بناء العقلاء، ألا ترى انه لو أمر المولى باصطياد غزال و أمره بتحصيل معرفة الغزال من الشخص الخاص و قصر و لم يتعلم منه الى آخر الوقت فأخبره صبي بأن هذا الحيوان الذي تراه يركض هو الغزال لبادر الى اصطياده امتثالا لأمر المولى باصطياده و إن علم كونه عاصيا من جهة ترك الأمر بالتعلم و الأخذ عمن عينه المولى فهو يقصد الامتثال بصيده مع انه لم يجزم بكونه غزالا بل يحتمل ذلك عنده.

و بالجملة لا يشترط في تحقق قصد القربة الجزم بكون الفعل هو المأمور به كما يشهد به الوجدان السليم و الطبع المستقيم.

(الرابع) من أدلتهم قولهم: الناس صنفان اما مجتهد و اما مقلد

، و الظاهر إجماعهم عليه و هو ظاهر في بطلان عمل غيرهما كما هو صريح بعضهم و ان عبادة الثالث فاسدة و المفروض ان الجاهل مطلقا ليس بمجتهد و لا بمقلد فتكون عبادته فاسدة بالإجماع المستفاد من قولهم.

و الجواب عنه أولا: انه ليس بحديث أصلا بل هو كلام الشهيد و من تبعه، و ثانيا: سلمنا كونه كلام جماعة كثيرة ممن تقدم على الشهيد و تأخر عنه لكنه لم يبلغ حد الإجماع، و ثالثا: انه منزل على الأغلب و إلا فلا ريب في وجود صنف ثالث خارج عن الصنفين و هو المحتاط و لم يقل أحد ببطلان عمله لكونه غير داخل في الصنفين بل المحكي انه صرح بعضهم كالسيد بحر العلوم في المنظومة بصحة عباداته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 17

نعم لا بد للمحتاط في كثير من المسائل أن

يجتهد أو يقلد كدوران الأمر بين المتباينين و بين الوجوب و الحرمة فيدخل في أحد الصنفين و إن كان بالنسبة إلى المسائل التي يمكن له الاحتياط غير داخل في أحد الصنفين فلما لم يكن حصرهم الناس في الصنفين تاما لوجود المحتاط ينبغي أن ينزل كلامهم هذا على ان العمل الغير المطابق للواقع لا يثمر للعامل إلا إذا كان على سبيل الاجتهاد أو التقليد و لا يصح و لا يصير سببا لسقوط القضاء و الاجزاء إلا أن يأتيه بأحد الطريقين و اما المطابق للواقع فصحته لا يلازم أن يكون على أحد الطريقين. و رابعا:

اتفاقهم في المعاملات على ان المدار فيها على الواقع و معاملة الخارج عن الصنفين أي الجاهل صحيحة في صورة المطابقة فليس كلامهم هذا باق على عمومه و إطلاقه

(الخامس) من أدلتهم: الآيات الدالة على وجوب التعلم

و تحصيل العلم و الأخبار الواردة في ذلك كقوله عليه السّلام: الناس اما عالم أو متعلم و الناس كلهم هالكون إلا العالمون. و ما روي في الفقيه ان القضاة أربعة و الناجي منهم واحد و الباقي في النار، و مثل: بني الإسلام على خمس إلخ الدالة على انه لا تنفع الطاعة إلا أن تكون بولاية ولي اللّه و بأن يكون جميع أعماله بدلالته اليه، و مثل ما ورد انه لا عمل إلا بالفقه و المعرفة و بالعلم و بإصابة السنة، و ما رواه في الكافي في الصحيح قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لحمران بن أعين في شي ء سأله: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون.

و الجواب عنها ما سيجي ء إن شاء اللّه في وجوب التعلم و المعرفة و انهما غير واجبين بالذات مع ان بعضها ظاهر في الرد على أهل الرأي و القياس مع

ان ما ورد في ان الجاهل هالك بترك السؤال فنحن أيضا نقول به لأنه بترك السؤال و عدم بنائه على أخذ الأحكام عن الطريق المعتبر اجتهادا أو تقليدا في معرض الهلاك إذ ربما لا يصادف عمله الواقع فتكون أعماله باطلة و وجب عليه قضاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 18

عباداته الفاسدة في سبعين سنة و يعسر عليه ذلك فيتركها فيهلك بذلك.

(السادس) من أدلتهم: ان التفصيل بين الجاهل

الذي طابق عمله للواقع فالحكم بصحة عمله و بين الجاهل الذي لم يطابق عمله للواقع، فالحكم بعدم صحة عمله و أثابه الأول دون الثاني مع كونهما متساويين في الأعمال البدنية و الحركات و السكنات الاختيارية يستلزم مخالفة القواعد العدلية لأن مصادفة الواقع في الأول أمر غير اختياري بل هو حاصل بضرب من الاتفاق، فاذا فرضنا قاصرين أو مقصرين في أول الوقت صليا بصلاة مع تساويهما في الجد و الجهد و العمل فاتفق مطابقة صلاة أحدهما للواقع دون الآخر فالحكم للأول بعدم وجوب الإعادة و القضاء و إعطاء الثواب دون الثاني مع كون المفروض تساويهما في الحركات و السكنات الاختيارية يستلزم الظلم للثاني لأن المصادفة للواقع لم يكن باختياره هكذا ينسب للفاضل القمي و لكن التحقيق ان هذا الاستدلال مستفاد من إيراد السبزواري في شرحه على الإرشاد فإنه بعد ما نقل شطرا من كلام المولى الأردبيلي حيث قال في بحث الوقت: و بالجملة فكل من فعل ما هو في نفس الأمر و ان لم يعرف كونه كذلك ما لم يكن عالما بنهيه وقت الفعل حتى لو أخذ المسائل من غير أهلها بل و لو لم يأخذ من أحد و ظنها كذلك و فعل فإنه يصح فعله، الى أن قال: و كذا يفهم

من كلام منسوب الى المحقق نصير الدين الطوسي قال- أي السبزواري: ان ما ذكره منظور فيه مخالف للقواعد المقررة العدلية و ليس المقام محل تفصيل. ثمَّ قال السبزواري:

(أقول) إجمالا ان أحد الجاهلين إن صلى في الوقت و الآخر في غير الوقت فلا يخلو اما أن يستحقا العقاب أو لم يستحقا أصلا أو يستحق أحدهما دون الآخر و على الأول يثبت المطلوب و على الثاني يلزم خروج الواجب عن كونه واجبا و على الثالث يلزم خلاف قواعد العدل لاستوائهما في الحركات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 19

الاختيارية الموجبة للمدح و الذم و إنما حصل مصادفة الوقت و عدمه بضرب من الاتفاق من غير أن يكون لأحدهما فيه ضرب من التعمد أو السعي، و تجويز مدخلية الاتفاق الخارج عن المقدور في استحقاق المدح و الذم مما هدم بنيانه البرهان و عليه إطباق العدلية في كل زمان انتهى.

و الجواب عنه ان المصادفة لما كانت ترجع الى الاختيار لكون مقدماتها باختياره صح الثواب عليها بخلاف من لم يصادف فإنه لم يتحقق العمل الموجب للثواب منه حتى يستحق الثواب. و لقد تصدى لدفع هذا الإيراد عن المولى الأردبيلي جمع من الأصحاب منهم الشيخ المحدث يوسف البحراني في كتابه المسمى بدرر النجفية ص 9 طبع إيران قال فيه: (أولا) بعد اختيار الشق الثالث الذي هو محل النزاع انه متى قام الدليل من خارج على معذورية الجاهل و صحة عباداته إذا طابقت الواقع، فهذا الاستبعاد العقلي لا يسمع و إن اشتهر بينهم ترجيح الدليل العقلي على النقلي إلا ان ما نحن فيه ليس منه.

و (ثانيا) ان المدح و الذم على هذه الحركات الاختيارية إن كان من اللّه تعالى، فاستواؤهما

فيه ممنوع إذ إيجاب الحركات للمدح و الذم ليس لذاتها و إنما هو لموافقة الأمر و عدمها تعمدا أو اتفاقا و حينئذ فمقتضى ما قلنا من قيام الدليل على صحة عبادة الجاهل إذا صادفت الواقع فإنه تصح عبادة من صادفت صلاته الوقت و تكون حركاته موجبة للمدح بخلاف من لم تصادف فإنها تكون موجبة للذم لعدم المصادفة.

و (ثالثا) ان الغرض من التكليف الإتيان بما كلف به حسب الأمر و من صادفت صلاته الوقت يصدق عليه انه أتى بالمأمور به و امتثال الأمر يقتضي الاجزاء و (رابعا) انه منقوض بما وقع الاتفاق عليه نصا و فتوى من صحة صلاة الجاهل بوجوب التقصير فصلى تماما مع كونها غير مطابقة للواقع فاذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 20

كان الجهل عذرا مع عدم المطابقة فبالأولى أن يكون عذرا معها.

و (خامسا) بأنه معارض بما صرح به الأصحاب كما نقله عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية من أن من صلى في النجاسة جاهلا بها و ان صحت صلاته ظاهرا إلا انها غير صحيحة و لا مقبولة واقعا فإن للقائل أن يقول فيها أيضا انه يلزم خلاف العدل لاستواء حركات هذا المصلي مع حركات من اتفق كون صلاته في طاهر واقعا في المدح و الذم فكيف تقبل إحداهما دون الأخرى إذ كل منهما قد بنى على ظاهر الطهارة في نظره و إنما حصلت الطهارة الواقعية في أحدهما دون الآخر بضرب من الاتفاق الخارج الذي لا مدخل له و مثل ذلك أيضا في من توضأ بماء نجس واقعا مع كونه طاهرا في الظاهر فان بطلان طهارته و عبادته دون من توضأ بماء طاهر ظاهرا و واقعا مع اشتراكهما فيما

ذكر من الحركات و السكنات و كون الطهارة و النجاسة واقعا بنوع من الاتفاق دون التعمد خلاف العدل أيضا و الأصحاب لا يقولون به.

و (سادسا) لو كان الاتفاق الخارج لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الإطلاق كما زعمه لما أجزأ صوم آخر يوم من شعبان عن أول شهر رمضان متى ظهر كونه منه بعد ذلك و يسقط القضاء عمن أفطر يوما من شهر رمضان لعدم الرؤية ثمَّ ظهرت الرؤية في البلاد المتقاربة أو مطلقا على الخلاف في ذلك و لوجب الحد على من زنى بامرأة ثمَّ ظهر كونها زوجته و لصح شراء من اشترى شيئا من يد أحد المسلمين ثمَّ ظهر كونه غصبا و لوجب القضاء و الكفارة على من أفطر يوم الثلاثين من شهر رمضان ثمَّ ظهر كونه من شوال و لوجب القود أو الدية على من قتل شخصا عدوانا ثمَّ ظهر كونه ممن قتله قودا و لوجب العوض على من غصب ما لا و تصرف فيه ثمَّ ظهر كونه له، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع و اللوازم كلها باطلة اتفاقا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 21

ثمَّ اعترض على نفسه بقوله: فان قيل: ان الأحكام المعترف بها هنا إنما صير إليها لقيام الدليل عليها.

و أجاب بتوضيح و تنقيح منا: بأن قيام الدليل عليها دليل على ان الدليل العقلي الدال على ان الاتفاق واقعا مما لا مدخل له في الذم و المدح و الصحة و الفساد كما هو المدعى ليس دليلا صحيحا لعدم إمكان التخصيص في الدليل العقلي، فالتخصيص بما ذكر و خروج المذكورات عن هذا الحكم دليل على بطلان هذا الحكم و إلا لامتنع خروجها عن الحكم-

انتهى كلامه مع توضيح منا. مضافا الى أن الجاهلين أما أن يكونان قاصرين أم مقصرين أم مختلفين فعلي الأول نختار الشق الثاني و هو عدم العقاب على شي ء منهما من حيث الحكم التكليفي و إلا لزم التكليف بما لا يطاق بل هما مثابان لاتيانهما بما فهماه و لزوم الإعادة أو القضاء على من صلى خارج الوقت دون من صلى فيه و هذا لا يستلزم الظلم على الأول لحصول فوت العبادة الواقعية عنه دون الثاني، و إن كانا مقصرين نختار الشق الأول و هو استحقاقهما العقاب على ترك تحصيل المسائل الواجبة عن الطريق المعتبر عند الشارع بناء على وجوب التعلم مولويا ذاتيا و لزوم الإعادة و القضاء على من صلى خارج الوقت لما فات عنه من الصلاة المطلوبة في الوقت و لا ظلم أيضا كما لا ظلم في المكلفين اللذين صليا بالطهارة المستصحبة ثمَّ قبل خروج الوقت أو بعده تبين بطلان طهارة أحدهما دون الآخر فيجب الإعادة و القضاء على الأول دون الثاني من دون أن يلزم ظلم على الأول، و إن كانا مختلفين فان كان المصلي في الوقت قاصرا و الآخر مقصرا اخترنا الشق الثالث و حكمنا باستحقاق المقصر الذي عمله لم يطابق الواقع العقاب لمكان تقصيره بالفرض دون الآخر و بوجوب الإعادة و القضاء عليه دون القاصر الذي عمله مطابق للواقع و إن كان المصلي في الوقت مقصرا و المصلي في خارج الوقت قاصرا حكمنا باستحقاق المقصر للعقاب لمكان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 22

تقصيره في تحصيل الأحكام دون القاصر و بوجوب الإعادة و القضاء على القاصر لعدم مطابقة صلاته للواقع دون المقصر الذي طابق عمله للواقع.

و بالجملة الحكم باستحقاق العقاب

و عدمه دائر مدار التقصير و عدمه سواء طابق الواقع أم لا إلا أن المقصر له عقابان إن لم يطابق عمله للواقع أحدهما لترك تحصيل الأحكام الواجبة و الآخر لعدم إتيانه بالمأمور به الواقعي و إن طابق عمله للواقع له عقاب واحد لأجل ترك تعلم الأحكام.

فان قيل: ان تحصيل العلم بالأحكام واجب مقدمي غيري لأجل العمل و لا عقاب في ترك المقدمات و التارك للمقدمة و ذيها لا يستحق عقابين و إنما يستحق عقابا واحدا على ترك ذي المقدمة.

قلنا: فرض كلامنا مع البناء على وجوب التعلم مولويا ذاتيا أو نبني على التفصيل بين المقدمة التي تركها يستلزم ترك ذيها فيعاقب على تركها و بين ما لم يستلزم ذلك فلا عقاب على تركها و ما نحن فيه من قبيل الأول، و لا ريب ان هذا الحكم غير مناف للعدل، كما انا نقول: ان الحكم بوجوب الإعادة و القضاء و عدمه دائر مدار مخالفة العمل للواقع و مطابقته للواقع، و هذا الحكم أيضا لا ينافي العدل و لا يستلزم الظلم كما لا يخفى.

(السابع) من أدلتهم: الجاهل بالعبادة مأمور بطلب العلم

و تحصيل المعرفة بالعبادات فعمله الذي أتى به عن جهل عمل بما وراء العلم و العمل بما وراء العلم حرام للعمومات الناهية و إذا كانت عباداته محرمة منهيا عنها كانت فاسدة، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد فتكون عبادة الجاهل و ان طابقت الواقع فاسدة و الجواب عنه: (أولا) بأن النهي عن العمل بما وراء العلم حرام مقدمي غيري لإفضائه إلى خلاف الواقع و إتيانه بما ليس بمأمور به لأن العمل بما وراء العلم غالبا غير مصيب للواقع و غير موصل اليه فنهى الشارع عنه لئلا يقع عباده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 23

في خلاف الواقع و لذا في بعض الأخبار (محق الدين).

و الحاصل ان النهي عن العمل بما وراء العلم نظير الأمر بتعلم المسائل عن الطريق المعتبر لاصابة الواقع فاذا أتى بذي المقدمة و هو المأمور به الواقعي فلا دليل على وجوب الإعادة و القضاء عليه، و النهي المقدمي لا يقتضي الفساد.

و (ثانيا) هذا يتم لو قلنا: ان العمومات الناهية مثل «لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» و غيرها معناه النهي عن الشروع في العمل، و إلا فلو قلنا: انها دالة على حرمة الاكتفاء بما وراء العلم فمعنى الآية الشريفة مثلا لا تكتف بما ليس لك به علم، فلم يكن في المقام نهيا مقدميا أيضا، فإن معناها حينئذ انه إذا أتيت بعمل من غير علم لا تكتف به بل تفحص في العمل الصادر عنك جهلا فان كان غير مطابق للواقع فأعده و إلا فلا، فتدبر فإنه تعالى العالم.

(الثامن) من أدلتهم: الأدلة الدالة على حرمة إتباع الهوى و الرأي.

و جوابه أنها ناظرة إلى لزوم تحصيل الواقع فهي إرشاد اليه، و لو سلمنا فغايتها هو حرمة اتباع الهوى و الظن و لا يقتضي ذلك فساد العمل و بطلانه، هذا مع انه يمكن أن يجاب عن الجميع بما تقدم من الأدلة على صحة العمل بدون المعرفة فتكون مخصصة و حاكمة على هذه الأدلة.

[حجة القول بالتفصيل بين القاصر و المقصر فالمعذورية في الأول دون الثاني]

اما حجة القول بالتفصيل بين القاصر و المقصر فالمعذورية في الأول و عدم المعذورية في الثاني هو الوجوه المذكورة للمشهور لكنها مختصة بالمقصر لأن القاصر لمكان جهله و قصوره و غفلته لا يجري فيه الأدلة المذكورة إذ هو مكلف بما فهمه و إلا لزم التكليف بما لا يطاق و قد أتى به و الأمر يقتضي الاجزاء فلا يجب عليه الإعادة و لا القضاء لأنه بفرض جديد و الفرض الجديد متوجه الى من فات عنه فريضة و القاصر لم يفت منه شي ء.

و يظهر الجواب عنها مما مر بأن لزوم التكليف بما لا يطلق لا يرفع إلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 24

الإثم و العقاب، و نحن نقول: بأن القاصر مطلقا غير آثم و لا معاقب، إلا انه بعد ما تفطن بوجوب تحصيل الأحكام و أخذها عن المجتهد الجامع للشرائط فإن ظهر له المطابقة لرأيه فلا شي ء عليه وضعا كما لا شي ء عليه تكليفا. و إلا وجب عليه الإعادة في الوقت و القضاء خارج الوقت و هو غير مستلزم للتكليف بما لا يطاق فان التكليف بالقضاء كما في المقصر ليس تكليفا بما لا يطاق كذلك في القاصر و اما أصالة عدم وجوب القضاء فهي مقطوعة بالأدلة الواردة مثل:

«من فاتته فريضة فليقضها» و غيره. و دعوى عدم صدق الفوات في القاصر لأنه

لم يفت منه ما كان مكلفا به عرفا. غير سديدة لأنه إنما خرج عن عهدة التكليف الظاهري اما تكليفه الواقعي فلم يأت منه شيئا فإن القاصر في زمان جهله كان مكلفا بإتيان الصلاة الواقعية فإذا التفت في أثناء الوقت توجه الأمر بها نحوه لعدم سقوطه عنه و إن التفت خارج الوقت توجه نحوه الأمر بقضائها لصدق موضوع القضاء و هو الفوت، هذا و قد نسب للمحقق الثالث (ره) صحة عمل الجاهل القاصر و سقوط الإعادة و القضاء عنه و إن كان عمله غير مطابق للواقع و استدل على ذلك بوجوه:

(الأول) ان الأمر يقتضي الاجزاء فلا يجب عليه الإعادة و القضاء.

(الثاني) ان التكاليف إنما تثبت على حسب أفهام المكلفين و لذلك لا يشترط في صحة صلاة المجتهد موافقتها للواقع.

(الثالث) ان الجاهل القاصر لو كان مكلفا بالإتيان بالعبادات الواقعية و بما يوافق الواقع لزم التكليف بالمحال.

(الرابع) انه لا معنى محصل لموافقة نفس الأمر و لم يظهر ان المراد منه هو حكم اللّه الواقعي الذي لا يطلع عليه أحد إلا اللّه أو ما وافق رأي المجتهد الذي في ذلك البلد أو أحد المجتهدين و ما المبين و المميز له و حكم المجتهد بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 25

اطلاعه بالموافقة و عدم الموافقة أي فائدة فيه لما فعله قبل ذلك و قال: اللهم إلا أن يقال المراد الحكم بلزوم القضاء و عدمه فيتبع ذلك أي المجتهد الذي يقلده بعد المعرفة فيحكم بأنه فات منه الصلاة أو لم يفت، و أنت خبير بأن الحكم بالفوات و عدم الفوات تابع لكون المكلف حينئذ مكلفا بشي ء ثمَّ فات منه و هو أول الكلام، و منه صدق الفوات في

الحق الجاهل الغافل إذ لا تكليف عليه بغير معتقده حتى يصدق في حقه الفوات، و ثبوت القضاء في حق النائم و الناسي إنما ثبت بالنص و إلا فمقتضى القاعدة عدم لزوم القضاء عليهما.

(الخامس) عموم الأخبار الدالة على أصل البراءة و عدم التكليف فيما لا يعلمه المكلف كما ذكرنا جملة منها- انتهى.

و الجواب عن الأول فبأن الأمر إنما يقتضي الاجزاء إذا اتى المكلف بالمأمور به على وجهه، ضرورة ان المكلف بالصلاة الواقعة لا يجزيه بالنسبة الى هذا التكليف إلا الإتيان بالصلاة الواقعية أو ما جعله الشارع بدلا عنها، و لا ريب ان إتيانه بما يعتقد أنها صلاة واقعية إنما يقتضي الاجزاء عنه ظاهرا إذا لم ينكشف له الخلاف و لم يتفطن بوجوب معرفة الاحكام و لم يتمكن منها الى زمان موته اما بعد التفطن و التمكن صار تكليفه بالعبادات الواقعية تنجيزيا ففي صورة عدم الموافقة لا يكون ما أتى به معتقدا أنه صلاة مجزيا عن الصلاة الواقعية و عن الثاني: ان المسلم هو كون التكاليف الظاهرية تابعة لإفهام المكلفين و انها تتبع إفهامهم و تثبت بحسب إدراكهم، و اما التكاليف الواقعية لا تتبع أفهام المكلفين قطعا و إلا لزم القول بالتصويب و هو باطل بإجماع الفرقة و أخبارهم فيتجه وجوب الإعادة و القضاء حين ثبوت التكليف بالواقع مع انكشاف الخلاف لعدم الخروج عن عهدة الأمر الواقعي فلم يرتفع التكليف الواقعي بما أتى به مع مغايرته له و عدم مطابقته لما جعله الشارع بدلا عنه و لا فرق في ذلك بين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 26

القاطع بالحكم و غيره فكما ان الجاهل القاصر الظان بعدم جزئية الركوع في الصلاة و أتى بها من

غير ركوع ثمَّ علم ان الركوع ركن و تركه عمدا أو سهوا أو جهلا مبطل وجب عليه الإعادة أو القضاء فكذلك لو قطع بذلك فصلى من غير ركوع ثمَّ تبين له الحال وجب عليه الإعادة أو القضاء.

نعم قد استدل على عدم وجوب الإعادة أو القضاء في صورة ما إذا قام الظن المعتبر على صحة عبادة على كيفية و أتى بها مكيفة بتلك الكيفية بالإجماع و بأنه لم يعلم بمخالفة مؤدى ظنه الأول للواقع، و سيجي ء ان شاء اللّه التعرض لذلك في تبدل رأي المجتهد تفصيلا و تحقيقا.

و عن الثالث: ان تكليف الجاهل القاصر بالواقع إذا كان مطلقا و منجزا مستلزم للتكليف بالمحال و نحن لا نقول به، و اما إذا كان تنجيزه معلقا على الشعور و زوال غفلته كما هو الشأن في جميع التكاليف الواقعية فلا يستلزم التكليف بالمحال فهي بعد الشعور و زوال الغفلة تصير منجزة فاذا لم يكن مطابقا لها و لم يأت بها على وجه أمرها وجب عليه الإعادة أو القضاء.

و عن الرابع: بأن المراد بالواقع و إن كان ما ثبت في اللوح المحفوظ و نزل به الروح الأمين على خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أن الشارع جعل له طرقا كواشفا عنه مثل العلم الشرعي الحاصل من الاجتهاد و التقليد المعتبرين فاذا أتى المكلف بعمل من طريق غير معتبر لجهله بالطرق المعتبرة أو عدم تمكنه منها لم يكن آثما لكن بعد التفطن و التمكن يجب عليه الرجوع الى الطريق المعتبر ليتمسك عند ربه في براءته و خروجه عن عهدة التكليف بحجة صحيحة و طريقة معتبرة (و الحاصل) انه عند انكشاف بطلان الطريق الذي عول عليه في الإتيان

بالعمل يجب عليه أولا الرجوع الى العلم الوجداني أو ما جعله الشارع حجة له حتى عند التمكن من العلم فان لم يتمكن منهما وجب عليه المراجعة إلى العلم الشرعي الحاصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 27

من الاجتهاد الصحيح و ان لم يتمكن من ذلك أيضا وجب عليه الرجوع الى التقليد الصحيح فان وجد عمله الذي أخذه من طريق غير معتبر موافقا للطريق المتعين في حقه فقد خرج عن عهدة التكليف لإتيانه بالواقع و إن كان بطريق غير معتبر، غاية ما في الباب انه لو فرض تقصيره في تحصيل الطريق المعتبر و إتيانه بالعمل منه كان متجريا فاذا قلنا بعقاب المتجري كان قد أثم و استحق العقاب لإتيانه بالعمل بطريق غير معتبر و إن كان مثابا و مأجورا و خارجا عن عهدة التكليف لإتيانه بالمأمور به الواقعي و إذا وجده مخالفا للطريق المعتبر المتعين له وجب عليه التدارك من الإعادة في الوقت و قضائه خارج الوقت ليخرج عن عهدة التكليف بالواقع لما مر من الأدلة التي أقمناها على وجوب الإعادة عند عدم مطابقة عمل الجاهل للواقع و الفرق بين الجاهل الذي لم يطابق عمله للواقع لا سيما مع عدم التقصير و بين النائم و الناسي غير واضح. نعم في صورة التقصير يكون آثما و لا إثم على النائم و الناسي مع انه ربما يمكن أن يقال: ان النائم و الناسي أيضا آثمان معاقبان كما لو أوجد مقدمات النوم الذي لا يمكن معه الإتيان بالصلاة أو أكل دواء موجبا للنسيان لأن ينسى عن الصلاة أو سائر التكاليف.

و عن الخامس بأن الأخبار الدالة على البراءة مثل ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم،

و كل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي، و رفع عن أمتي تسعة و منها ما لا يعلمون و غيرها إنما تدل على عدم تعلق التكليف بالواقع تكليفا فعليا على وجه التنجيز فالجاهل الغافل غير منجز عليه الواقع ما دام جاهلا و ما برح علم اللّه تعالى عنه محجوبا فلا يكون مفادها منافيا لكون الجاهل مكلفا بالواقع تكليفا معلقا تنجيزه على الفهم و الشعور و زوال الجهل و إلا لكان مفادها سقوط التكاليف عن الجاهل بها و هو مع كونه فاسدا في نفسه للزوم التصويب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 28

غير مستفاد من الاخبار و لا يفهم منها من له أدنى دراية.

[حجة القول بمعذورية الجاهل مطلقا قاصرا أو مقصرا. طابق عمله الواقع أم لا]

حجة القول بمعذورية الجاهل التارك للطرق الثلاثة مطلقا قاصرا أو مقصرا سواء طابق عمله الواقع أم لا و هو و ان لم نجد به قائلا صريحا لكن حكاه الشيخ المحدث البحراني في درره عن جمع من الأخباريين منهم السيد نعمة اللّه الجزائري و المولى الأمين الأسترآبادي و الشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني و المحدث الكاشاني و حكاه أيضا عن المولى الأردبيلي و السيد محمد صاحب المدارك إلا انه اعترف بأن المولى الأردبيلي كلامه ظاهر في التفصيل بين المطابق للواقع و عدمه و بأن تلميذه صاحب المدارك بعد ما نقل شطرا من كلام استفاده قال و هو في غاية الجودة، ثمَّ قال: و المفهوم من كلام السيد نعمة اللّه طاب ثراه هو المعذورية و ان لم يطابق بمعنى أن يخل ببعض الواجبات أو يرتكب بعض المنهيات جهلا، ثمَّ انه بعد حكاية القول بالمعذورية مطلقا عنهم قال: و هو الحق الحقيق بالاتباع (أقول) الأظهر هو الخطأ في النقل و لا قائل

بهذا القول في من وجدنا كلماته في هذا المقام عند التأمل حتى يظهر من استدلال الناقل- بأي صاحب الحدائق- التفصيل بين القاصر و المقصر، و كذا يظهر ذلك عن السيد نعمة اللّه الجزائري و كأن هؤلاء الاعلام جعلوا محل النزاع هو الجاهل القاصر، و لذا اختاروا القول بالمعذورية مطلقا و نقله صاحب الحدائق عنهم. و كيف ما كان فالدليل على القول بالمعذورية مطلقا وجوه:

(الأول) ما حكاه صاحب الحدائق في الدرر النجفية عن السيد نعمة اللّه الجزائري انه قال في شرح كتاب غوالي اللئالي بعد نقل ذلك- أي بطلان عبادة الجاهل- عن الشهيدين: و يلزم على هذا بطلان عبادة أكثر الناس خصوصا في هذه الأعصار و ما قاربها و ذلك ان وجود المجتهد في كل صقع و بلد متعذر لأن صروف الليالي أذهبت العلماء و لا بقي من يرجع الى قوله إلا القليل في بلد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 29

من البلدان أو صقع من الأصقاع فكأنما برق تألق بالحمى ثمَّ انثنى فكأنه لم يطلع و إذا كان العامي في أقاصي البلدان كيف يتمكن من الوصول الى المجتهد في أكثر أوقاته فيلزم الحرج على الخلق- الى أن قال-: و الناس في الأعصار السابقة و اللاحقة كانوا يتعلمون العبادات و أحكامها من الواجبات و السنن بعضهم من بعض من غير معرفة باجتهاد و لا تقليد و العوام في جميع الأعصار حتى في أعصار الأئمة عليهم السلام كانوا يصلون و يصومون على ما أخذوا من الآباء و من حضرهم من العلماء و ان لم يبلغوا مرتبة الاجتهاد على ان الصلاة المأمور بها شرعا ما كان يتفق إلا من آحاد العلماء ألا ترى الى حماد كيف

كان يحفظ كتاب حريز في الصلاة فلما صلى بحضور الامام الصادق عليه السّلام قال: يا حماد لا تحسن أن تصلي، فقام عليه السّلام فصلى ركعتين تعليما له. هذا و حماد من أجل أهل الرواية و من أصحاب الأئمة (ع) فما ظنك بصلاة غيره لو أوقعها بحضور أحدهم (ع) على ان الصلاة إذا وقعت على نهج الصواب و كانت مأخوذة من أهل الإيمان فما السبب في بطلانها، و شي ء آخر و هو انهم صرحوا بأنه لا فرق بين تارك الصلاة و بين من أوقعها على غير الوجه المطلوب و لو بالإخلال بحرف من القراءة أو حركة أو ذكر أو قيام أو قعود أو غير ذلك مما حرروه في كتبهم و أنت إذا اتبعت عبادات عوام المذهب لا سيما في الصلاة ما تجد أحدا منهم إلا و الخلل في عباداته خصوصا الصلاة و لا سيما القراءة مما يوجب بطلانها بكثير فيلزم بطلان صلاتهم كلها فيكونون معتمدين في ترك الصلاة مدة أعمارهم بل مستحلين تركها لأنهم يرون ان الصلاة المشروعة هي ما أتوا به و قد حكمتم ببطلانه فهذه هي الداهية العظمى و المصيبة الكبرى على عوام مذهبنا مع تكثرهم و وفورهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 30

فان قلت: فما المخلص من هذه البلية العامة؟

قلت: قد استفاض في الاخبار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته عليهم السّلام: الناس في سعة ما لم يعلموا فمن كان جاهلا للأصل أو للحكم يكون داخلا تحت عموم الخبر فيعذر في جهله حتى يعرف الحكم فيطلبه و حينئذ فيكون الاولى أن يحصل الضابط هكذا: الجاهل معذور إلا ما قام الدليل عليه و الأكثر عكسوا الكلية و قالوا:

الجاهل كالعامد إلا ما خرج بالدليل، فلزم ما تقدم من الضيق و الحرج و للنظر الى ما حررناه وردت الاخبار المتضمنة لقولهم (ع):

ما أخذ اللّه على الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا- الى أن قال-: و الحاصل ان الجهال معذورون حتى تأتي إليهم علوم الاحكام و المعرفة بها من علماء الدين- انتهى كلامه.

(أقول) و للنظر في مواضع من كلامه مجال لكن لا مجال لنا ببيانه ثمَّ انه بناء على ان قوله: الجهال معذورون، بعمومه يشمل القاصر و المقصر و صريح كلماته السابقة في ان الجهال معذورون سواء طابق عملهم للواقع أم لا، فحاصل دليله هذا انه لو لم يكن الجاهل مطلقا معذورا لزم الضيق و الحرج.

و الجواب عنه أولا بمنع العسر و الحرج في معرفة الاحكام و تحصيلها عن الطريق المعتبر و لو بالتقليد الصحيح و لا يشترط فيه مشافهة المفتي بل يكفي الأخذ عن كتابه أو عن واسطة عدل، هذا إذا أراد ان تحصيل الاحكام مستلزم لذلك، اما إذا أراد ان الحكم بالقضاء على الجاهل عليه عسر شديد. ففيه أولا: انه ليس بعسر إلا في بعض الموارد و الحالات التي تكاد أن تكون بحكم العدم لندرتها و ليس هناك حرج نوعي يوجب رفع التكليف من أصله و إنما هو حرج شخصي في بعض الحالات و الأوضاع كما في الجاهل الهرم إذا رجع آخر عمره فوجد ان ما اتبع به أباه و معلمة مخالفا للواقع. و ثانيا: ان نفس العسر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 31

و الحرج ليس مما يستقل بثبوته العقل و إلا امتنع وقوعه مع ان التكاليف العسيرة كانت في الأمم السابقة و توجد في شريعتنا كالجهاد

بل إنما ثبت نفيه بالظواهر و العمومات و هي موهونة جدا باعراض المشهور القائلين بعدم المعذورية عنها. و ثالثا: ان هذا التكليف المعسور في المقصر مسبب من سوء اختياره فهو أقدم على تحمل هذا العسر، و ما دل على نفي العسر دل انه تعالى لم يجعل حكما ابتداء معسورا مثل «يُرِيدُ اللّٰهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لٰا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» فلا منافاة، و اما في القاصر فيندفع بالحكم بلزوم الإتيان بالقضاء على حسب وسعه أي إلى حد لم ينجر الى العسر لقوله (ص): «الميسور لا يسقط بالمعسور» و قوله (ص):

«إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم» و قوله (ع): «ما لا يدرك كله لا يترك كله» و ما بقي عليه يوصي بقضائه فتدبر.

الثاني من أدلة القول بالمعذورية مطلقا الأخبار الكثيرة (منها) ما رواه صاحب الحدائق عن عبد الصمد بن بشير عن أبى عبد اللّه (ع) قال: جاء رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام و هو يلبي و عليه قميصه فوثب اليه الناس من أصحاب أبي حنيفة فقالوا: شق قميصك و أخرجه من رجليك فان عليك بدنة و عليك الحج من قابل و حجك فاسد، فطلع أبو عبد اللّه (ع) فقام على باب المسجد فكبّر و استقبل الكعبة فدنا الرجل من ابى عبد اللّه (ع) و هو ينتف شعره و يضرب وجهه فقال له أبو عبد اللّه: اسكن يا عبد اللّه، فلما كلمه و كان الرجل أعجميا فقال له أبو عبد اللّه (ع): ما تقول؟ قال: كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحدا عن شي ء فأفتوني هؤلاء أن أشق قميصي و انزعه من قبل رجلي و ان حجي فاسد و ان عليّ

بدنة، فقال (ع):

متى لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال: قبل أن ألبي، قال: فأخرجه من رأسك فإنه ليس عليك بدنة و ليس عليك الحج من قابل أي رجل ركب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 32

أمرا بجهالة فلا شي ء عليه طف بالبيت سبعا وصل ركعتين عند مقام إبراهيم واسع بين الصفا و المروة و قصر من شعرك فاذا كان يوم التروية فاغتسل و أهل بالحج و اصنع كما يصنع الناس.

(و منها): صحيحة زرارة عن ابى جعفر (ع) قال: من لبس ثوبا لا ينبغي لبسه و هو محرم ففعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو جاهلا فلا شي ء عليه و من فعله متعمدا فعليه دم.

(و منها) مرسلة جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام في رجل نسي أن يحرم أو جهل و قد شهد المناسك كلها و طاف و سعى، قال: تجزيه نيته إذا كان قد نوى ذلك فقد تمَّ حجه و ان لم يهل و نظير هذه روايات واردة في اعمال الحج بحيث لا تكاد ان تحصى.

(و منها) صحيحة الحلبي عن ابى عبد اللّه (ع) قال: قلت له: رجل صام في السفر فقال: ان كان بلغه ان رسول اللّه (ص) نهى عن ذلك فعليه القضاء و ان لم يكن بلغه فلا شي ء عليه و بمضمونها بالنسبة إلى الصيام في السفر بجهالة صحيحة العيص و صحيحة أبي بصير و صحيحة عبد الرحمن.

(و منها) ما ورد في النكاح في العدة كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي إبراهيم قال: سألته عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة أ هي ممن لا تحل له ابدا، قال: لا، اما إذا كان بجهالة فيتزوجها بعد ما

تنقضي عدتها و قد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك، فقلت: بأي الجهالتين أعذر:

بجهالته ان يعلم ان ذلك محرم عليه أم بجهالته انها في عدة، فقال: احدى الجهالتين أهون من الأخرى الجهالة بأن اللّه حرم عليه ذلك، و ذلك بأنه لا يقدر على الاحتياط معها، فقلت: هو في الأخرى معذور؟ فقال: نعم إذا انقضت عدتها فهو معذور في ان يتزوجها. و بمضمونها روايات عديدة رواها صاحب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 33

الوسائل في أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

و (منها) ما ورد في الحدود كموثقة عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رجل شرب الخمر على عهد أبي بكر و عمر و اعتذر بجهله بالتحريم فسألا أمير المؤمنين (ع) فأمر بأن يدار به على مجالس المهاجرين و الأنصار و قال من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا ذلك فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله، و بمضمون ذلك في الحدود روايات عديدة الى غير ذلك من الأخبار التي ذكرها دليلا على المقام فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع كتاب الدرر النجفية.

و الجواب عنها مضافا الى ان بعضها ظاهر في الغفلة لا مطلق الجهل و الغافل قاصر فهو معذور، ان هذه الأخبار (أولا) معارضة بالروايات الدالة على عقاب الجاهل كالمروي في الكافي عن زرارة و محمد بن مسلم و بريد العجلي ان أبا عبد اللّه قال: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون، الى غير ذلك من الأخبار التي هي بمضمونها فلا بد من الجمع بينها بحمل هذه على الجاهل المقصر الذي خالف عمله للواقع و حمل تلك على القاصر كما تشعر بذلك صحيحة ابن الحجاج المتقدمة.

و (ثانيا) ان

تلك الأخبار لا بد من الاقتصار فيها على موردها للزوم كثرة التخصيص بالأخبار الدالة على القضاء و الإعادة عند مخالفة الواقع جهلا.

و (ثالثا) بأنه لو كان الجاهل مطلقا معذورا حتى المقصر لزم تضييع الأحكام الدينية إذ لا موجب للبحث عنها و لا داعي لمعرفتها.

الثالث مما استدلوا به: صعوبة معرفة الأحكام الشرعية بالطرق المعتبرة لأنه اما من طريق الاجتهاد و هو مبني على عدالة الوسائط أو بالتقليد و هو مبني على عدالة المجتهد و معرفة العدالة صعبة جدا لأنها لا تحصل غالبا إلا بمعرفة المحرمات و الواجبات، و هم بعد لم يحصلوا شيئا منها لأن الفرض انهم لم يقلدوا و لم يجتهدوا و هكذا لا يمكنهم معرفتها بالشياع أو شهادة العدلين إذ ليس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 34

معلوم لهم حجيتهما، قال بعض الأخباريين: ان جماعة من الشيوخ و النساء و سكان القرى و الصحاري و من في طبقتهم لو كلفوا بأحد الطريقين لزم منه التكليف بما لا يطاق، و حجج اللّه ما كانوا يأخذون الجهال بأمثال ذلك.

و جوابه انه ان أريد بذلك خصوص الجاهل القاصر عن إدراك ذلك أو الغافل غير المتفطن كما هو ظاهر الاستدلال بصعوبة المعرفة فلا كلام لنا معهم، و إن أرادوا مطلق الجهال كذلك سواء كانوا قاصرين أم مقصرين فهو غير صحيح إذ طرق معرفة العدالة كثيرة و سهلة، منها ان من رأى شخصا مواظبا على صلاته في أوقاتها و يكثر الاستغفار يحصل له اليقين العادي بعدالته، و منها الشياع المفيد للعلم بالعدالة، و منها ان نوع الواجبات و المحرمات بديهية فلا تحتاج إلى المعرفة بالاجتهاد و لا التقليد فإذا رأى الإنسان مطيعا لمولاه فيها علم بعدالته علما

عاديا، و سيجي ء ان شاء اللّه بيان طرق معرفة العدالة.

وظيفة العامي إذا التفت الى ان عمله بدون الأمور الثلاثة

اشارة

إذا كان عمل العامي بدون الأمور الثلاثة المذكورة- أي بدون الاحتياط و الاجتهاد و التقليد- فلا يخلو إما أن يكون غافلا و غير ملتفت الى بطلان الطريق الذي سلكه حتى يموت فلا ريب في عدم وجوب شي ء عليه و لا عقاب عليه حتى لو كان مخالفا عمله للواقع لكونه جاهلا قاصرا. نعم سيجي ء ان شاء اللّه في محله انه هل يجب على وليه القضاء لو كان عمله مخالفا للواقع أم لا، و اما أن يلتفت الى عدم صحة الطريق الذي سلكه بحيث حصل له التزلزل في صحة الاعتماد عليه فيجب عليه عقلا بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة تحصيل العلم أو الاجتهاد أو التقليد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 35

أو يحتاط خوفا من العقاب و دفعا لاحتمال الضرر الأخروي و بهذا الملاك يجب عليه أن يحصل المعرفة بمطابقة أعماله السابقة للواقع اما بالعلم أو بالاجتهاد أو بالتقليد أو يحتاط بنحو يعلم بفراغ ذمته منها و عدم العقاب عليها، و يمكن أن يقال بجريان أصالة الصحة فيها فلا يجب عليه تحصيل العلم بالمطابقة للواقع كما سيجي ء ان شاء اللّه عما قريب، لكن لما كان يجب عليه بالنسبة للأعمال اللاحقة الاحتياط أو الاجتهاد أو التقليد، فلو اجتهد أو قلد في الوقائع التي تكون من نوع تلك الوقائع الماضية فحينئذ يظهر له بحسب اجتهاده أو تقليده ان تلك الوقائع الماضية إما مطابقة للواقع أو مخالفة له أو يشك في ذلك لنسيانه لكيفيتها، فان وجد أعماله الماضية مطابقة للواقع بحسب علمه أو اجتهاده أو تقليده فلا يجب عليه اعادتها و لا قضاؤها. و ان وجدها مخالفة للواقع بحسب

علمه أو اجتهاده أو تقليده فيجب عليه إعادتها أو قضائها لعدم إتيانه بالواقع بحسب ما عنده من الدليل، و ان شك في أنها مطابقة للواقع أو مخالفة له من جهة نسيانه للكيفية التي أتى بها لعمله، فقد يقال ان الظاهر في العبادات ان كان في الوقت هو وجوب الإعادة لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني و للاستصحاب و ان كان خارج الوقت فالأصل البراءة من القضاء لأنه لا يعلم صدق الفوت عليه، و قد يقال بوجوب القضاء عليه من جهة ان استصحاب عدم الإتيان في الوقت يحرز به موضوع وجوب القضاء لأن موضوعه هو الفوت، و الفوت ليس إلا عبارة عن عدم الإتيان أو من جهة ان وجوب القضاء بالأمر الأول لأن تقييده بالوقت من باب تعدد المطلوب و لا أقل من الشك في ذلك فيستصحب التكليف. و قد يقال بوجوب الإعادة في التكاليف الغير الموقتة كالزكاة و الخمس و كالنذور المطلقة و الحج و نحوها دون التكاليف الموقتة لعدم العلم بتحقق موضوع القضاء فيها لان الفوت ليس عبارة عن محض عدم الإتيان.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 36

و الظاهر من الأستاذ كا «ره» «1» انه يذهب إلى وجوب الإعادة و القضاء لقاعدة الاشتغال و الاستصحاب

[التحقيق في أصالة الصحة.]

، و لكن التحقيق انه لا اعادة و لا قضاء للأعمال الماضية المشكوك صحتها من دون فرق بين العبادات و المعاملات لجريان قاعدة الصحة و الفراغ، لشمول قوله (ع) في موثقة ابن أبي يعفور:

«إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه»، و قوله (ع) في موثقة سماعة: «كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو»، و لقاعدة حمل فعل المسلم على الصحة فإن التحقيق ان

المسلم كما يحمل فعل غيره على الصحة كذلك يحمل فعل نفسه على الصحة، و المراد بالصحة الصحة الواقعية و مقتضى ذلك هو عدم وجوب الإعادة و القضاء، و قد حكي عن صاحب الفصول تمسكه بالقاعدة المذكورة في عبادة الجاهل.

إن قلت ان قاعدة الفراغ و الصحة موردهما هو صورة معرفة الواقع يقينا أو بطريق معتبر حين العمل مع عدم الالتفات إلى ان العمل الصادر مطابق له أم لا، فهما مختصان بصورة عدم الشك عند فرض الالتفات، ألا ترى الى التعليل لقاعدة الفراغ الواقع في بعض أدلتها بقوله (ع): «انه حين يتوضأ اذكر» فإنه ظاهر في ان لغوية الشك بعد الفراغ بمناط الاذكرية حين العمل، و عليه فلا يلغى بها إلا الشك في الصحة المستند إلى الغفلة و النسيان لكيفية العمل مع معرفة الواقع حين العمل دون الشك المستند إلى عدم معرفة الواقع حين العمل كما فيما نحن فيه، و قد علل غير واحد من الاعلام أن الحكم بالصحة في قاعدة الفراغ من جهة ظهور الحال من حيث أن العاقل الكامل لا ينصرف عن العمل إلا بعد إكماله و هذا يقتضي أن يكون عارفا بالواقع حين العمل و شكه إنما كان

______________________________

(1) اشارة لاستاذنا المعظم آية اللّه الشيخ محمد كاظم الشيرازي قدس سره.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 37

في العمل باعتبار احتماله أن يكون قد غفل أو نسي بعض خصوصياته و مقوماته و هذا بخلاف ما نحن فيه فإنه لا ظهور لحال فعل الجاهل بالواقع في صحة عمله، و لذا لم يعتمدوا على قاعدة الفراغ و التجاوز في الطهارة فيما إذا علم بأنه لم يحرك خاتمه حين الغسل و كان يصل الماء تحته تارة و

لا يصل أخرى و لم يعتمدوا عليها فيما إذا توضأ بأحد طرفي الشبهة غفلة و احتمل انه صادف الواقع و ما نحن فيه يشبه هذا لكون الجاهل يعلم إجمالا بالتكليف و قد أتى بأحد أفراده، و عليه فمقتضى القاعدة هو الاشتغال، و اما أصالة الصحة فهي على التحقيق ترجع لقاعدة الفراغ و ليست بأصل آخر غيرها.

قلنا: ذكر المرحوم صاحب القوانين و الحاج آقا رضا الهمداني (ره) و غيرهما ما حاصله: ان ليس مدرك الحكم بالصحة منحصرا بالأدلة اللفظية حتى يدعى الانصراف أو يؤخذ بمفهوم العلة على تقدير استفادة العلية و يقيد به عموم الموثقين المذكورتين، بل العمدة في حمل الأعمال الماضية الصادرة من المكلف نفسه أو مكلف آخر على الصحيح إنما هو الإجماع و السيرة القطعية فإنه لو لا الحمل على الصحة لاختل نظام المعاش و المعاد و لم يقم للمسلمين سوق فضلا عن لزوم العسر و الحرج المنفيين في الشريعة إذ ما من أحد إلا إذا التفت إلى إعماله الماضية من عباداته و معاملاته إلا و يشك في أكثرها لأجل الجهل بأحكامها أو اقترانها بأمور توجب الشك فيها كما انه لو التفت إلى إعمال غيره يشك في صحتها غالبا فلو بنى على الاعتناء بشكه لضاق عليه العيش كما لا يخفى، و لو كان الوجه في الحمل على الصحة هو ظاهر الحال لاختص الحمل بفعل من عرف أحكامه دون الجاهل مع أن من المعلوم من سيرة الأئمة (ع) و أصحابهم انهم كانوا يعاملون مع العامة في معاملاتهم الفاسدة و تطهيراتهم الخبثية معاملة الصحيح مع ابتناء مذهبهم الفاسد على جواز مباشرة أعيان بعض النجاسات و عدم التحرز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 38

عنها

كيف و السيرة قائمة على حمل أعمال أهل السواد على الصحيح مع انهم لا يعرفون أحكامهم الشرعية غالبا.

هذا كله مع أن ظاهر الأخبار هو الحمل على الصحة مطلقا و لا وجه لتقييدها أو تخصيصها بالتعليل في خبر بكير بن أعين (هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك) لاحتمال أنه تعلل لقاعدة أخرى و ليس بتعليل لقاعدة الفراغ فان الخبر المذكورة يختص بالوضوء لأن الإمام إنما قال ذلك في (الرجل يشك بعد ما يتوضأ) و مجرد قوله (ع) في هذا المورد لا يدل على أنه تعليل لقاعدة الفراغ، بل لعله لبيان قاعدة أخرى جارية في المقام كقاعدة ظهور الحال و نحوها فالأقوى جريان قاعدة الفراغ في جميع موارد الشك، و اما ما ذكره من مسألة الخاتم و الوضوء بأحد أطراف الشبهة فجوابه ما ذكره الحاج آقا رضا (ره) من جريان القاعدة في جميع موارد الشك و لذا لم يستثن أحد من الأعلام من مجراها شيئا من هذه الصور المشكلة، و احتمال غفلتهم عنها مع عموم البلوى بها في غاية البعد ا ه. و يؤكد ذلك رواية الحسين بن أبي العلاء قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الخاتم إذا اغتسلت، قال: حوله من مكانه، و قال في الوضوء، تديره فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة، فإن الظاهر أن نفي الإعادة من جهة قاعدة الفراغ و الصحة.

هذا و لكن لا يخفى أن قاعدة الصحة و الفراغ و قاعدة الشك بعد خروج الوقت و قاعدة التجاوز إنما تجري إذا كان الشك بعد حدوث العمل لا في حين العمل لظهور أدلتها في الشك بعد وقوع العمل، و عليه فلا يصح للجاهل أن يتمسك بها

في صحة أجزاء العمل الماضية إذا كان في أثناء العمل، هذا مضافا إلى انه يمكن تصحيح الصلاة بحديث: «لا تعاد الصلاة» و سيجي ء ان شاء اللّه في مبحث الصلاة وجه التمسك بهذا الحديث.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 39

انكشاف الواقع للعامي بالتقليد هل يكون بمطابقة العمل لرأي المجتهد حين العمل أو حين الالتفات

لا يخفى ان عمل الجاهل الذي انكشف له الواقع و لو ظاهرا إذا لم يطابق قول مقلده أو الذي ينبغي أن يقلده فهو باطل و لا يكفي موافقته لأحد الأقوال في المسألة لعدم وجود الحجة الشرعية على صحته، و اما إذا لم يطابق قول مقلده الفعلي أو لم يطابق قول من كان ينبغي له أن يقلده حين العمل ففي صحته إشكال و توضيح الحال و تنقيحه: ان العامي إذا التفت الى ان له أعمال سابقة قد وقعت بدون اجتهاد أو تقليد أو احتياط و لكنها حسب فتوى مقلده الفعلي صحيحة و حسب فتوى المجتهد في حين صدورها باطلة فهل العبرة بفتوى مقلده الفعلي أو بفتوى المجتهد في حين العمل يعني المجتهد الذي كان وظيفته الرجوع اليه حين العمل أو المجتهد الذي رجع اليه حين الالتفات؟ صريح العروة هو الثاني و مبنى الوجهين انه إن قلنا بأن عند عدم العمل بالطريق للواقعيات فالمطلوب هو الواقع.

و المخالفة للطرق و الامارات تكون تجريا محضا إذا كان قد حصل الواقع فالواجب مطابقة المجتهد الثاني لكونه هو الحجة الفعلية على الواقع و الكاشفة عنه دون الأول نظير العلم فعلا بالواقع أو الاجتهاد الفعلي بالواقع. و اما إن قلنا بأن المطلوب هو مؤديات الامارات و الأصول فالواجب هو مطابقة المجتهد الأول لأن مؤدى رأيه هو مؤدى الإمارة في ذلك الوقت فيكون هو المطلوب منه في ذلك الوقت، و يمكن القول

بالاكتفاء بموافقة أحدهما اما لو وافق الأول فقد وافق الحكم الظاهري فإن فتوى المجتهد الأول حكما ظاهريا بالنسبة إليه، فبناء على ان موافقة الحكم الظاهري تجزيه عن الواقع كان ذلك مجزيا عن الواقع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 40

و اما لو وافق المجتهد الثاني فقد كان قد أتى بالواقع و هو لا إشكال في إجزائه و لكن التحقيق هو لزوم موافقة رأي المجتهد الثاني لأن المطلوب منه و المعاقب على مخالفته هو الواقع لا مؤدى الامارة و لذا في صورة ما إذا كان العامي المذكور اجتهد أو علم بالواقع يكون المناط هو المعلوم و مؤدى اجتهاده لا رأي المجتهد حين العمل فلو كان هو المطلوب للزم في هاتين الصورتين موافقة رأى المجتهد حين العمل مع انه لم يقل به أحد خصوصا إذا قلنا باعتبار الأخذ و الاستناد لرأي المجتهد في حجية فتواه فالحكم الظاهري لم يكن متحققا بفتوى المجتهد حين العمل و لم يكن رأيه حجة على العامي لأن العامي لم يتحقق منه الأخذ و الاستناد للمجتهد.

إن قلت: ان الدليل على صحة عمله فتوى المجتهد حين العمل لأنها هي التي كانت حجة عليه حين العمل دون غيرها كما هو الفرض، و فتوى المجتهد الثاني إنما كانت حجة عليه بعد العمل، نعم له أن يفتي بأن عملك لما كان موافقا لمجتهد عصرك كنبي العصر أو إمامه يكون صحيحا. كذا ذكره بعضهم.

قلنا: حجية الفتوى و لو في الحال لكنها لما كانت تثبت الواقع فهي تقتضي ثبوته حتى في الزمان الماضي كما هو شأن الامارات و ليست حجيتها مقتصرة على الأعمال المستقبلة و اما عصر النبي فهو ينسخ الحكم فيه و اما الامام فالقول فيه

كالقول في الفتوى فإنه يعمل بما سمعه من إمامه فيما يتعلق بما مضى من أعماله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 41

إذا لم يعلم العامي المقدار من الأعمال المخالفة للواقع

إذا علم المكلف صدور أعمال مخالفة للواقع يقينا أو اجتهادا أو تقليدا و لكن لا يدري مقدارها مثلا يدري انه صدر منه صلاة بلا ركوع و لكن لا يدري انها أربع سنين أو خمس فالواجب عليه القضاء للأقل لدوران الأمر بين الأقل و الأكثر و الأصل البراءة من وجوب الأكثر و هذا يتصور على نحوين (أحدهما) أن يعلم بأن خمس سنين صلى بلا ركوع و لكن يشك في الواجب منها انه أربع أو خمس للشك في بلوغه مثلا أو كان يشتغل بالقضاء استحبابا.

(ثانيهما) أنه يدري ما صلاه كان واجبا و لكن يشك في مقداره إنه أربع أو خمس سنين فهو يدري بأن ما صدر منه من الصلاة المخالفة للواقع كان واجبا عليه و لكن لا يعلم مقدارها ففي كلا الصورتين يجري أصل البراءة من وجوب الزائد عليه لدوران الأمر بين الأقل و الأكثر فإن القضاء على التحقيق انه بأمر جديد و استصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت الذي هو موضوع القضاء.

خصوصا و الشك بعد خروج الوقت في الصلاة.

إذا عرض على العامي في أثناء العبادة مسألة لا يعرف حكمها

لا يخفى ان ما يتفق للعامي أثناء قيامه بالعبادة من الشكوك اما أن يحتمل أن يكون ما عرض عليه مبطلا للعبادة كأن خرج منه مذي أو ودي و لا يعلم انه مفسد لصلاته أم لا، فان كان قاصرا في ترك التعلم جاز له رفع اليد عن العبادة لعدم العلم بكون رفع اليد إبطالا للعمل و الأصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 42

البراءة منه أو نقول ان حرمة القطع لا دليل عليها إلا الإجماع و القدر المتيقن منه هو صورة ما إذا أحرز ان إتمامه يكون إتماما للعمل على وجه الصحة كما يجوز له عدم

رفع اليد عن العمل بإتمامه بالبناء على أحد الطرفين برجاء إدراك الواقع و السؤال عن حكمه بعد الصلاة فإن كان مطابقا للواقع صح عمله و أجزأه لأنه قد أتى بالعمل على الوجه المطلوب منه، و القربة المعتبرة في العبادة تتحقق بمجرد احتمال المطلوبية و إلا أعاد العمل. و هذا إذا كان قاصرا في التعلم. و اما إذا كان مقصرا وجب عليه المضي في عمله لأنه معاقب على إبطال العمل على تقدير كونه إبطالا كما هو القاعدة في كل جهل عن تقصير لعدم كونه عذرا عند مخالفة الواقع و لا يجري معه أصل البراءة كما تقدم ذلك في الجاهل المقصر هذا كله إذا عرض عليه في أثناء العبادة ما احتمل كونه مبطلا للعبادة، و اما إذا عرض عليه في أثناء العبادة ما يعلم انه ليس بمبطل لها كما لو شك في القراءة و هو في المحل و لم يعلم الوظيفة عليه ما هي ففي هذه الصورة سواء كان قاصرا في ترك التعلم أو مقصرا يحرم عليه رفع اليد عن العمل و لا بد له من البناء على أحد الطرفين و إتمام العمل للعلم بأن رفع اليد عنه إبطال للعمل فيحرم و عند الفراغ من العمل يرجع لمقلده ليعرف صحة ما أتى به أو فساده. هذا إذا لم يكن أحد الطرفين موافقا للاحتياط، و اما إذا كان موافقا للاحتياط كما إذا شك في وجوب القنوت عليه مع العلم بأنه لا يضر بصحة الصلاة وجب عليه الاحتياط لاحتمال انه بتركه يكون إبطالا للعمل الذي هو محرم إلا إذا كان قاصرا و قلنا بجريان أصل البراءة. و بهذا يظهر لك ما في عروة السيد (ره) و كلام بعض المعلقين

عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 43

وجوب تعلم الأحكام الشرعية على الجاهل

اشارة

قد عرفت فيما تقدم صحة عمل الجاهل إذا طابق الواقع، و فساده عند عدمها يقينا أو اجتهادا أو تقليدا، و اما وجوب تعلمه للاحكام يقينا أو اجتهادا أو تقليدا فقد يقال من باب حكم العقل بالوجوب لدفع الضرر المحتمل لأنه بترك التعلم يحتمل أن يقع في خلاف الواقع بسوء اختياره بمعنى انه يحتمل أن يرتكب المحرم أو يترك الواجب بسوء اختياره فيستحق العقاب و الذم، فوجوب التعلم يكون من باب وجوب الإطاعة و لتحصيل براءة الذمة و الفراغ، و على هذا المبنى يترتب أمور (أحدها) ان الجاهل القاصر الذي لم يلتفت الى وجود واجبات و محرمات عليه كأوائل البلوغ أو التفت و لكن لم يلتفت الى وجود معرفة الواقع عليه بنحو اليقين به أو الاجتهاد فيه أو التقليد للغير أو التفت و لكنه لم يتمكن من التعلم للواقع بأحد الأنحاء الثلاثة فلا إشكال و لا ريب في عدم وجوب تعلمه عقلا للأحكام الشرعية و متعلقاتها لأنه تكليف بغير المقدور و لا يستحق العقاب عند مخالفته للواقع و إنما وجوب التعلم يثبت للمقصر و هو الملتفت الى وجود واجبات و محرمات عليه فهو إذا لم يحتاط في امتثالها اما تشهيا أو للحرج عليه أو لعدم القدرة على ذلك يجب عليه التعلم للأحكام الشرعية يقينا أو اجتهادا أو تقليدا لدفع الضرر المحتمل الذي هو العقاب.

(ثانيها) ان الواجب عليه التعلم بمقدار ما هو محل ابتلائه و لا يمكن التخلص منه كما لو أمكن التوكيل فيه كالزواج و التجارة فإنه لا يجب عليه التعلم لإمكان أن يوكل غيره عنه إذ ما ليس محل ابتلائه لا يحتمل بترك تعلمه أن يقع

في خلاف الواقع فلا يحتمل العقاب و هكذا ما أمكنه التخلص منه، و أما ما شك في انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 44

محل ابتلائه، فقد يقال بوجوب التعلم لأنه باحتمال الابتلاء به يحتمل العقاب على مخالفته، و قد يقال بجريان استصحاب عدم ابتلائه به حتى يرتفع وجوب التعلم له عليه، و دعوى ان الاستصحاب لا يجري في المقام لأن الابتلاء بالشي ء أمر مستقبل و الاستصحاب إنما يجرى في الأمور الحالية فاسدة لأن الاستصحاب يجري في الأمور الحالية و المستقبلة كمن يجرى استصحاب عدم صوم الغد ليرفع وجوب الغسل عليه فعلا، و أورد على هذا الاستصحاب المرحوم النائيني بأن عدم الابتلاء ليس بأثر شرعي و لا ذا أثر شرعي حتى يستصحب عدمه، و اما وجوب التعلم فهو أثر عقلي كما عرفت، و لا يخفى ما فيه فان عدم الابتلاء يرجع الى عدم الحكم الفعلي عليه و هذا بنفسه أثر شرعي كما يستصحب إعدام سائر الأحكام الشرعية عند الشك فيها، فالأولى أن يقال ان هذا الاستصحاب لو أجريناه لزم تفويت أغلب الواجبات بترك التعلم و هذا يقطع بعدم إرادة الشارع له فهو غير جاري. نظير ما يقال من أن أصل العدم غير جاري في القدرة للزوم عدم امتثال الواجبات، إلا اللهم أن يقال لا نسلم وجود الكثرة في محتملات الابتلاء بهذا الحد و ان نوع التكاليف معلوم الابتلاء بها أو عدمه.

و قد يجاب عن الاستصحاب المذكور بأنه محكوم بإطلاق الأدلة الدالة على وجوب التعلم فإنها تشمل صورة القطع بالابتلاء و صورة احتمال الابتلاء، و لكن لا يخفى انها كما عرفت ان وجوبها إرشادي لحكم العقل فلا إطلاق لها و قد (يجاب) عنه بوجود

العلم الإجمالي بالابتلاء ببعض المسائل مدة حياته، فاستصحاب عدم الابتلاء في كل واقعة يحتمل الابتلاء بها معارض في الأخرى و لا يخفى ما فيه فان الوقائع المحتمل الابتلاء بها فعلا ليس عندنا علم إجمالي بالابتلاء بأحدها فعلا. نعم لو وجد حصل التعارض في خصوص ذلك المورد و مجرد العلم الإجمالي بالمخالفة على سبيل التدريج لا يضر بجريان الأصل كما في أصالة الطهارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 45

وجوب تعلم مسائل الشك و السهو
اشارة

و من هنا يتوجه الاشكال على وجوب تعلم مسائل الشك و السهو قبل حصول الشك و السهو مع انه نسب الى المشهور وجوب تعلمها قبل حصولها حتى نسب الى الشيخ الأنصاري (ره) فسق من لم يتعلم مسائل الشك و السهو العامة البلوى، و أيضا يتوجه الاشكال على وجوب تعلم الواجب المشروط أو الموقت قبل حصول شرطه أو وقته مع ذهاب جل العلماء الى وجوب ذلك.

و جوابه: انا لا نسلم ان المشهور يذهبون الى وجوب التعلم مطلقا و إنما يقولون به فيما إذا لم يمكن الامتثال و لو بنحو الاحتياط عند الابتلاء بالتكليف و لا يمكنه التعلم عند الابتلاء به لأن مقدار حكم العقل بوجوب التعلم لأوامر المولى و نواهيه هو فيما إذا كان في معرض الابتلاء به و لو بأن يحتمل أنه يبتلي به و لكن بشرط أن يعلم أو يقوم عنده ما يقوم مقام العلم انه حين الابتلاء به لا يمكنه امتثاله إذا لم يتعلم، و اما إذا احتمل ذلك بأن احتمل انه حين الابتلاء به يمكنه التخلص منه بتعلمه كما في مسائل المواريث أو يمكنه الاحتياط حين الابتلاء به كما في مسائل الطهارة و القصر و التمام أو التوكيل و النيابة عنه

كما في مسائل البيع فالعقل لا يحكم بوجوب التعلم عليه لوجود العذر له بأن يعتذر إني كنت أحتمل التمكن من الواقع، فهذا هو مقدار حكم العقل لا أزيد منه و لا أنقص.

و (الحاصل) ان العلم لما كان ليس بشرط للتكليف، و الجهل ليس بمانع من التكليف، و لذا التكليف مشترك بين العالم و الجاهل، و إنما الجهل يكون عذرا عن امتثال التكليف و مقدار حكم العقل بمعذريّته إنما هو فيما إذا لم يلتفت الى التكليف أصلا أو التفت اليه و لكنه لم يعلم و لم تقم عنده أمارة معتبرة بأنه لا يمكنه التخلص منه إذا لم يتعلم. أما إذا التفت الى التكليف مع قيام العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 46

أو الامارة المعتبرة على الوقوع في خلاف الواقع بالجهل فالعقل يلزمه بالتعلم سواء كان وقت التكليف حضر أم لا و سواء كان مبتلي به فعلا أو قبل الابتلاء به لصحة عقابه على المخالفة عند ما يبتلي به لكون الجهل حينئذ ليس بمعذّر له عن مخالفة الواقع. و لذا لو قال السيد لعبده سافر غدا عند الصباح و كان سفره يتوقف على استعلام الطريق فأخر العبد الاستعلام الى الصباح حتى أوجب تأخره عن السفر عند الصباح استحق عند العقلاء العقاب على تركه السفر في الوقت المعين المستند لترك التعلم الذي تمكن منه قبل الوقت.

و (بعبارة أخرى) ان وجوب التعلم إنما يحكم به العقل حيث لا يكون الجهل عذرا. إن قلت ان التعلم من قبيل المقدمات المفوتة للتكليف قبل تحققه و قد تحقق في محله ان المقدمات المفوتة لا تجب فكذا التعلم ليس بواجب.

قلنا: ان المقدمات المفوتة لما كانت لها دخل في القدرة على

الواجب بحيث بتركها لا قدرة على الواجب فلا تكليف بخلاف ما نحن فيه فان التعلم للتكليف و متعلقه ليس له دخل في القدرة عليه حتى يرتفع الواجب عند عدمه، و لو فرض ان التعلم قد توقفت القدرة عليه كما قيل في تعلم الأعجمي للقراءة فيكون حكمه حكم المقدمة المفوتة، و لا يهمنا تحقيق صغريات الموضوع بعد اتضاح كبرياته. و عليه فيتضح الحال في وجه ما نسب إلى المشهور من وجوب تعلم مسائل الشك و السهو قبل حصول الشك و السهو حتى نسب إلى الشيخ الأنصاري (ره) فسق من لم يتعلمها إذا كانت عامة البلوى و هكذا وجوب تعلم الواجب المشروط و الموقت قبل حصول الوقت و الشرط حتى نسبه بعضهم الى جل العلماء فإنه إنما يجب ذلك إذا احتمل ابتلائه بها و انه عند الابتلاء لا يمكنه الاحتياط و التخلص من مخالفة الواقع كالوقوع في حرمة إبطال العمل، اما إذا لم يلتفت فلا يجب عليه ذلك كما انه لو التفت و لكن لم يحتمل ابتلائه بها ككثير الشك أو كان يمكنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 47

الاحتياط كالشك بين القصر و الإتمام فلا يجب التعلم.

(ثالثها) ان مقتضى ذلك وجوب التعلم فيما لم يحتاط فيه إذ مع الاحتياط قد حصل الواقع فبرئت ذمته فلا يحتمل العقاب على مخالفة الواقع.

(رابعها) ان مقتضى ذلك وجوب التعلم فيما احتمل وجوبه أو حرمته دون ما يقطع بكونه ليس بواجب و لا حرام كشرب ماء الرمان.

(خامسها) ان مقتضى ذلك هو وجوب التعلم للمتفطن و الملتفت الى ذلك إذ مع عدم الالتفات يكون معذورا في مخالفة التكليف.

(سادسها) لا فرق في وجوب التعلم بين الاحكام و متعلقاتها و لا بين

الأحكام التكليفية و لا الوضعية كالجزئية و الشرطية و المانعية. نعم المتعلق إذا كان مرددا بين أمور أحدها خارج عن محل ابتلائه فلا يجب التعلم لا للتكليف و لا لمتعلقاته حيث لا يكون التكليف منجزا عليه.

(سابعها) هو صحة العمل و ان لم يتعلم إذا طاب عمله الواقع فان التعلم على هذا ليس بشرط للعمل خلافا لما سيجي ء ان شاء اللّه من بعضهم من جعله شرطا لصحة العمل.

[أدلة وجوب تعلم الأحكام الشرعية من باب حكم الشرع بوجوبه نفسيا.]

و قد يجعل وجوب التعلم من باب حكم الشرع بوجوبه وجوبا نفسيا كما هو المحكي عن المرحوم الأردبيلي (ره) لقوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* فإن الأمر حقيقة في الوجوب، و لما روي في الكافي عن يونس عن بعض أصحابه قال سئل أبو الحسن (ع) هل يسع الناس ترك المسئلة عما يحتاجون فقال لا، و لما روي في الكافي عن زرارة و محمد ابن مسلم و بريد العجلي قالوا جميعا قال أبو عبد اللّه (ع) لحمران بن أعين في شي ء سئله انما يهلك الناس لأنهم لا يسألون، و لما روي في الكافي عن يونس عمن ذكره عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال رسول اللّه (ص) أف لرجل لا يفرغ نفسه في كل جمعة لأمر دينه فيتعاهده و يسأل عن دينه، و لما روي في الكافي عن الصادق (ع) عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 48

رسول اللّه (ص) انه قال طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة، و لما روي في الكافي عن الصادق (ع) انه قال وددت ان أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتى يتفقهوا، و لما روي في الكافي عن أمير المؤمنين (ع) ان كمال الدين طلب العلم و العمل

به ألا و ان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال و العلم مخزون عند أهله و قد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه، و في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) من لم يتفقه في دين اللّه لم ينظر اللّه اليه يوم القيامة و لم يزك له عملا، و لما روي في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) لا يقبل اللّه عملا إلا بمعرفة و لا معرفة إلا بعمل فمن عرف دلت المعرفة على العمل و من لم يعمل فلا معرفة له، الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يمكن دعوى تواترها بالمعنى على وجوب تعلم الأحكام الشرعية و التفقه في الدين وجوبا نفسيا شرعيا.

و يمكن المناقشة في دلالتها على ذلك بأن وجوب التعلم لو كان شرعيا لكان وجوب تعلم وجوب التعلم شرعيا أيضا لأنه من سنخه و هلم جرا فيلزم التسلسل في الوجوبات الشرعية نظير ما قيل في وجوب الطاعة فلا بد ان يكون وجوبا عقليا و هذه الاخبار إرشاد إليه. مضافا الى أنه خلاف ما حكي من الاتفاق على ان الجاهل المقصر يعاقب على ترك الواجبات و فعل المحرمات لا على ترك التعلم من حيث هو إلا أن يلتزم صاحب هذا القول بأنه وجوب شرعي تهيئي نظير ما قيل في وجوب الغسل قبل الصوم. مضافا الى لزوم العسر و الحرج بل التكليف بما لا يطاق إذ أحد لا يطيق تعلم سائر الأحكام الشرعية فلو كان ذلك واجبا على الناس و لو بنحو التقليد للزم ترك الناس اشغالهم و أعمالهم لتعلمها إلا ان يلتزم بتخصيصها بمقدار لا يوجب العسر و الحرج مضافا الى وجود القرينة العقلية على ان المراد من تلك الأخبار الإرشاد إلى

حكم العقل و هي بداهة ان العلم انما هو طريق للواقع و انما يراد لتحصيل الواقع. و يؤيد ذلك ما في الكافي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 49

عن أبي عبد اللّه (ع) في قوله تعالى إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ قال (ع) يعني بالعلماء من صدق فعله قوله، و من لم يصدق فعله قوله، فليس بعالم. و يؤيده أيضا ما في الكافي ان أبا عبد اللّه (ع) قال: العامل على، غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا.

و يؤيده أيضا ما رواه الكافي عن الصيقلي قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول لا يقبل اللّه عملا إلا بمعرفة و لا معرفة إلا بعمل فمن عرف دلت المعرفة على العمل و من لم يعمل فلا معرفة له، فان ظاهره ان طلب المعرفة لأجل العمل بقرينة التعليل بقوله: (فمن عرف). و يؤيده أيضا ما رواه الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال رسول اللّه (ص) من عمل على غير علم كان يفسد أكثر مما يصلح. و يؤيده أيضا ما رواه في الكافي عن أبي عبد اللّه العلم مقرون الى العمل فمن علم عمل و من عمل علم و العلم يهتف بالعمل فإن اجابه و إلا ارتحل. و قد يناقش في الوجوب الشرعي للتعلم بأن العلم أمر وجداني فهو ليس بمقدار.

و جوابه ما قرره علماء الكلام من انه مقدور بالواسطة بالرجوع إلى الأدلة أو تقليد الغير.

[أدلة القول بأن معرفة الاحكام الشرعية شرط لصحة العمل.]

و قد يجعل وجوب التعلم للأحكام الشرعية شرطا لصحة العمل عند الشارع فتكون عبادة الجاهل بل و معاملته باطلة حتى لو فرض ان عمله مطابق للواقع على سبيل الاتفاق لانتفاء الشرط المذكور أعني

العلم بالأحكام و استدلوا على ذلك بالروايات الدالة على أنه لا عمل إلا بالمعرفة و لا عمل إلا بدلالة ولي اللّه فإنها ظاهرة في شرطية العلم للعمل مطلقا عبادة كان أو معاملة. و فيه ما لا يخفى فإن الأخبار من أول الفقه الى آخره يسأل فيها عن صحة العمل الصادر من السائل و يجيب الامام (ع) بالصحة فلو كان العلم شرطا للصحة لإجابة الإمام (ع) بالبطلان مضافا الى اتفاقهم على صحة المعاملة المطابقة للواقع من الجاهل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 50

[أدلة القول بأن وجوب المعرفة للأحكام الشرعية من جهة قبح تعجيز العبد نفسه.]

و قد يجعل وجوبها كما في شرح العروة لبعضهم من جهة قبح تعجيز العبد نفسه عن القيام بالواجب في نظر العقل بلا فرق بين المطلق و المشروط و لا بين ما قبل الشرط أو بعده. و لا يخفى انا لو سلمنا حكم العقل بقبح تعجيز العبد نفسه قبل الوجوب مع انه قابل للمنع خصوصا إذا كان لغرض عقلائي كمن قطع يده لمرض فلا نسلم ان ترك التعلم تعجيز للعبد لعدم توقف القدرة على التعلم و إلا لزم عدم اشتراك الجاهل مع العالم لعجزه عن التكليف. و لان ترك التعلم ليس بتعجيز لأن التعجيز هو عبارة عن سلب القدرة على العمل و ليس فيما نحن فيه كانت قدرة على العمل ثمَّ بترك التعلم قد ذهبت عنه حتى يكون تعجيزا و انما هو عجزه السابق ظل مستمرا فتأمل.

[أدلة القول بوجوب المعرفة للاحكام من جهة حفظ غرض المولى.]

و قد يجعل وجوبها من جهة حفظ غرض المولى فإنه يجب عقلا إحراز تحصيل غرض المولى من غير فرق بين المطلق و المشروط بعد الشرط أو قبله كما يظهر من استاذنا المشكيني (ره)، و فيه ما لا يخفى فإنه لا يحكم العقل بوجوب تحصيل غرض المولى قبل تحقق وجوبه عليه.

[أدلة القول بوجوب المعرفة للاحكام من باب وجوب المقدمة.]

و قد يجعل وجوبها من باب وجوب المقدمة و يلتزم في الواجب المشروط و الموقت أو في المقدمة بأحد أمور، اما بالوجوب المعلق فتكون واجبة قبل مجي ء وقت ذيها.

و فيه ان كون التعلم مقدمة وجودية للواجب غير صحيح خصوصا تعلم الحكم فان تعلم الشي ء لا يتوقف وجوده عليه و إنما يتوقف العلم بحصوله عليه بداهة عدم سلب القدرة على الواجب بترك معرفة حكمه و ماهيته و لذا قد يصدر من الجاهل، هذا مع إنه لا يتم عند من ينكر الواجب المعلق.

أو يلتزم بوجوب المقدمة المفوتة، فقد قيل ان المقدمة و إن لم تكن واجبة قبل الوقت و الشرط من حيث كونها مقدمة لكن قد يكون عدم الإتيان بها قبل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 51

ذلك مفوتا للتكليف الآتي في المستقبل، و تفويت التكليف و جعل الإنسان نفسه غير قابل لأمر المولى قبيح عقلا و شرعا، اما عقلا فلما سبق من ذم العقلاء للعبد المأمور بالمسافرة في صباح غد مع عدم تهيئته لمقدمات سفره من الليل، و اما شرعا فلما ورد عن أبي عبد اللّه (ع) في رجل يجنب في السفر فلا يجد إلا الثلج، انه لا يرى له أن يعود الى هذه الأرض. و لما ورد عن أحدهما (ع) في الرجل الذي يقيم بالبلاد في أشهر ليس فيها ماء لأجل المرعى و

إصلاح الإبل انه قال (ع): لا، الى غير ذلك مما يدل على وجوب إبقاء القدرة و عدم جواز فعل ما يخرجه عن أهلية التكليف. و المعرفة و التعلم من هذا القبيل.

و لا يخفى ما فيه لما ذكره صاحب البدائع من أن هذا القبح لو سلم فإنما هو قبح فاعلى لا فعلي إذ لم يصدر منه فعل يذم عليه و يعاقب عليه و العقاب بلا تكليف و معصية لا يصح عند العقلاء و اما الاخبار فهي غير معمول بها في موردها على وجه التحريم بل هي محمولة على الكراهة فكيف يصح الاعتماد عليها في غير موردها لا سيما في خصوص المقام و نحوه من المسائل العقلية.

أو يلتزم بالوجوب التهيئي، فقد قيل انه قد يوجب المولى شيئا لا بالوجوب النفسي الثابت لمصلحة في نفسه و لا بوجوب غيري مترشح من الواجب بل بوجوب أصلي ثابت بدليل مستقل و لكن لمصلحة واجب آخر يسمى بالوجوب التهيئي و ليس هو بوجوب نفسي كما هو واضح لعدم المصلحة في متعلقه و لا يعاقب على مخالفته و لا بوجوب غيري لأنه يجب قبل وجوب الواجب الآخر و لا يتولد منه بل هو نظير الغسل للصوم، و المعرفة و التعلم من هذا القبيل.

و فيه ما لا يخفى فان هذا إنما يتم فيما لو ثبت الوجوب شرعا، و قد عرفت ان الأخبار كلها للإرشاد لحكم العقل و قرائن الأحوال إنما تثبت وجوب المعرفة عقلا لا شرعا كما تقدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 52

مبحث الاحتياط

اشارة

و بعد أن انتهى الكلام فيما يلزم من العمل في امتثال التكاليف و حكم من لم يسلك أحد الطرق الثلاثة المذكورة من الاحتياط و الاجتهاد و التقليد

فلا بد لنا من الكلام في كل واحد منها و في صحة الاجتزاء به في امتثال التكليف و ما يتبع ذلك و قدمنا الكلام في الاحتياط لحصول الموافقة القطعية به ثمَّ الاجتهاد لحصول الموافقة الاحتمالية المعتبرة به ثمَّ التقليد لأن الاجتهاد مأخوذ في موضوعه إذ التقليد إنما يكون للمجتهد فنقول:

تعريف الاحتياط:

الاحتياط و يسمى بالموافقة أو الإطاعة الإجمالية القطعية هو ما يحصل به القطع بامتثال التكليف و اليقين بحصول الواقع المطلوب منه من دون استناد الى حجة شرعية كآية قرآنية أو قول معصوم أو فتوى مجتهد أو نحو ذلك في تعيين الواقع.

البرهان على جواز العمل بالاحتياط

اشارة

يجوز العمل بالاحتياط حتى مع التمكن من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر بامتثال التكليف من دون فرق بين أن يستلزم الاحتياط تكرار العمل كما لو دار الأمر بين المتباينين كالظهر و الجمعة أو لا يستلزم كما لو كان الشك في الأجزاء و الشرائط مع عدم احتمال المانعية و إلا لزم التكرار و سواء كان العمل عباديا أم لا، مثل ما لو علم إجمالا بأن صيغة النكاح واحدة و لكن تردد في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 53

أن لفظ (التزويج) متعد للمفعول الثاني بنفسه أو بالباء و ان لفظ (النكاح) متعد الى المفعول الثاني بنفسه أو بمن، فإنه يجوز له الاحتياط بإتيان جميع الصور و ان تمكن من تحصيل العلم التفصيلي أو الظن المعتبر بالصيغة الصحيحة. و كذا يجوز له الاحتياط بإتيان الظهر و الجمعة و ان تمكن من العلم التفصيلي أو الظن المعتبر بالواجب الواقعي منهما، و الدليل على جواز الاحتياط و الاكتفاء به هو حكم العقل بأن غرض المولي هو حصول الواقع و إتيان مطلوبه و بالاحتياط يحصل الواقع و مطلوب المولى قطعا، فهو نوع من أنواع الإطاعة التي لا يمكن جعل عدم الإطاعة به مع بقاء المأمور به على مطلوبيته. و على هذا فسند المانع عن الاحتياط لا بد و أن يرجع اما الى عدم حصول الإطاعة به في نظر العقل كما يستفاد من كلام بعضهم من ان الاحتياط

لعب بأمر المولى في نظر العقل أو الى دعوى التقييد في مرادات الشارع بخصوصية غير حاصلة في حال الاحتياط من قبيل القربة التفصيلية، و إلا فلا يعقل المنع عن الإطاعة بالاحتياط بعد تسليم تحقق المطلوب به في نظر العقل بمنع كونه طاعة شرعية أو بمنع كفاية الطاعة الحاصلة به، و لا يعتبر شرط في العمل به إذا تحقق موضوعه و هو ما به يحرز الواقع المشكوك فيه. نعم مع قيام الحجة الشرعية يكون الاحتياط غير واجب لا انه غير مجزي. كما انه لا يرتفع موضوعه إلا مع العلم التفصيلي بالواقع كما انه عند الالتفات الى وقوع الخلاف في جوازه و حرمته كالاحتياط في تكرار العبادة لا بد له من الاجتهاد أو التقليد في جوازه للأمان من العقوبة عليه، و لكن ذلك لا يمنع من حكم العقل بسقوط التكليف به إذا أحرز به الواقع.

نعم قد يكون في تكرار العبادة لا يحرز إسقاط التكليف به لاحتماله اعتبار قصد القربة التفصيلية فيها، و لكن في الحقيقة لا يكون هذا احتياطا لعدم إحراز تحقق الواقع به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 54

[الإيرادات على الاحتياط و هي تبلغ ثلاثة عشر إيرادا.]
[الإيراد الأول على جواز الاحتياط]

و قد يورد أولا على جواز الاحتياط حتى مع التمكن من تحصيل الحجة المعتبرة ان الواجب عليه شي ء واحد، فالإتيان بالعمل مكررا تشريع محرم.

و جوابه ان التشريع هو إدخال ما ليس من الدين أو ما يشك في كونه من الدين في الدين و بالاحتياط لم يصنع ذلك بل إنما أتى بالعمل لاحتمال كونه من الدين لتحصيل الواقع فهو لم يدخل في الدين شيئا بل إنما أراد تحصيل الدين و المحافظة على تحقق ما أراده الشارع منه.

[الإيراد الثاني على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط ثانيا ما اشتهر بين المتقدمين و أصر عليه بعض المتأخرين في العبادات من أن المعتبر في الطاعة و قصد القربة أن يكون العمل بداعي الأمر بأن يكون انبعاثه الفاعل نحو العمل العبادي عن أمر المولى و في الاحتياط يكون انبعاثه عن احتمال الأمر لا عن نفس الأمر، فإن الذي يعلم بأن هنا أسد ينبعث فراره عن الأسد، و اما من احتمل وجود الأسد فيكون فراره عن الخوف من الأسد لا عن نفس الأسد، و لا أقل من الشك في حصول الامتثال بذلك و الشك في الامتثال يوجب الاشتغال لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

و قد أجاب عنه بعضهم بأن حسن الاحتياط لما كان معلوما فيستكشف الأمر الشرعي بالاحتياط لان كل ما حكم به العقل حكم به الشرع و حينئذ فيكون الأمر معلوما و مجزوما به و يكون الانبعاث عن هذا الأمر فيأتي بالظهر و الجمعة امتثالا للأمر بالاحتياط.

و لا يخفى ما فيه لان حسن الاحتياط من باب حسن الطاعة و لا يستكشف منه أمر شرعي و إلا لزم التسلسل في الأوامر الشرعية، مضافا الى لزوم الدور لأن الأمر بالاحتياط في المقام موقوف على

حسنه فيه، و حسنه فيه موقوف على تحققه فيه، و تحققه فيه موقوف على الأمر به، فتوقف الأمر به على الأمر به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 55

و هو دور باطل و بهذا ظهر فساد ما أجاب به بعضهم عن الإيراد المذكور من وجود أمر شرعي بالاحتياط لقوله (ص): «احتط لدينك». لما عرفت ان الأمر به من قبيل الأمر بالإطاعة فيكون للإرشاد مع انه لا يمكن تصحيح الاحتياط بهذا الأمر إلا على وجه محال، لأن الأمر بالاحتياط فيما نحن فيه موقوف على إمكان الاحتياط فيه و إمكان الاحتياط فيه موقوف على الأمر به لتوقف قصد القربة على الأمر به فيما نحن فيه فيتوقف الأمر على نفسه.

كما ظهر فساد ما أجاب به أيضا بعضهم عن الإيراد المذكور بأن اخبار من بلغ باعتبار دلالتها على استحباب كل واحد من الجمعة و الظهر أو القصر و التمام لبلوغ الثواب بها باعتبار العلم الإجمالي بالتكليف بينها فيكون الأمر الاستحبابي بكل واحد منها مجزوما به فيأتي بالعمل بداعيه.

و وجه الفساد ان هذه الاخبار إنما تدل على استحباب إتيان العمل برجاء إدراك الواقع و فيما نحن فيه الواقع يعلم بعدم إدراكه عند الخصم لاعتبار قصد القربة الجزمي فيه و هو غير مقدور لعدم الجزم بالأمر و لا يعقل أن يكون هو (أمر من بلغ) لأن أمر من بلغ موقوف على التمكن من إدراك الواقع فلو كان ادراك الواقع موقوفا على (أمر من بلغ) لزم توقف الشي ء على نفسه.

و قد أجاب عن الإيراد المذكور أيضا المرحوم آغا ضياء في تقريراته و تبعه بعض المعلقين على العروة أن الداعي في صورة الاحتمال هو نفس الأمر لا احتمال الأمر كما في

صورة العلم فإن الداعي هو نفس الأمر لا العلم به.

و لا يخفى ما في هذا الجواب فإنه لا يعقل أن يدعو شي ء إلى أمر ما لم يكن ذلك الشي ء موجودا فان الداعوية هي الاقتضاء و البعث من المقتضي و مع عدم المقتضي لا اقتضاء يعقل و لا بعث يتصور ففي صورة العلم بالأمر يكون الأمر موجودا و متحققا في النفس فيؤثّر الداعوية و الاقتضاء و البعث، و اما في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 56

صورة الاحتمال لما لم يكن موجودا في النفس فلا يعقل أن يؤثر الاقتضاء فيها و إنما الموجود فيها هو احتماله فيكون نفس الاحتمال هو الداعي.

و الحق في الجواب عن الإيراد المذكور أن اعتبار القربة في العبادات ان كان من الشرع فليس في الشرع عين و لا أثر لاعتبار الجزم به و ان كان من جهة العقل فالعقل يستكفي في مقام الإطاعة بالاحتمال لأن العمل المنبعث عن احتمال الأمر يحكم العقل بصلته بالآمر و القرب به من ساحة المولى بل هو أقوى في الإطاعة فإن من يهرب من احتمال القتل يحكم العقل بأنه أجبن ممن يهرب من نفس القتل و هكذا ترتيب الأثر على احتمال الشي ء يكون أبلغ من ترتيبه على نفس ذلك الشي ء بحكم العقل.

و دعوى انه لا أقل من الشك في امتثال التكليف بذلك و هو يقتضي عدم سقوطه مدفوعة بأنه لا يحتاج سقوط الأمر إلى أزيد من إتيان متعلقه إذ لو بقي مع حصول متعلقه لزم تحصيل الحاصل. نعم لو فرض العلم بعدم حصول الغرض من الأمر بإتيان المأمور به يحدث أمرا آخرا لوجود مناطه و مع الشك فالأصل عدم حدوث الأمر الآخر و لا مجال

لاستصحاب بقاء الغرض لإثبات الأمر لأنه أصل مثبت.

[الإيراد الثالث على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط في العبادات ثالثا ان الاحتياط ينافي نية الوجه توصيفا أو غاية و ينافي قصد التمييز فإن العبادة لا بد و أن يأتي بها بوصف كونها واجبة أو مستحبة أو لوجوبها أو استحبابها كما لا بد أن يميزها و يشخصها عن غيرها مما لم يكن مأمورا به و مع الاحتياط لا يتمكن من ذلك إذ يحتمل كون المأتي به غير واجب و الواجب هو ما أتى به أو يأتي به لاحقا.

و جوابه ما تقدم من جواب الإيراد الثاني من عدم الدليل على اعتباره و العقل حاكم بعدم اعتبار أزيد من قصد القربة في العمل مع ان الإطلاق السكوتي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 57

كاف في نفي اعتبار قصد الوجه عند الشارع، و توضيح ذلك ان الأمور التي لا يلتفت إليها أغلب العامة و ان احتمل العقل الدقيق اعتبارها إلا ان العامة لا يلتفتون إليها، فسكوت المولى عن بيانها دليل على عدم اعتبارها فإنه لو كان يريدها لبيّنها كما بيّن كثيرا من الواجبات التي يحكم بها العقل الدقيق لغفلة العامة عنها، فعدم تعرضه لها مع غفلة العامة عنها لا ينقص عن سكوته عن أصل التكاليف لو كانت مرادة له و لها دخل في حصول الغرض.

[الإيراد الرابع على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط في المعاملات رابعا ان مع الشك في ترتب الأثر على الصيغة لا يكاد يتأتى منه قصد الإنشاء في العقود و الإيقاعات إذ كيف يقصد شيئا من شي ء مع عدم إحراز حصوله به.

و جوابه ان الشك لا يمنع من قصد الإنشاء فإن المتكلم ما دام غير لاغ فهو قاصد لمضمونها و هو قصد الإنشاء، اما ترتب الأثر عليها

فهو وراء ذلك بل حتى مع العلم بعدم ترتب الأثر قد يقصد الإنشاء بالصيغة كما في بيعه للمغصوب

[الإيراد الخامس على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط خامسا ما نقل من الإجماع على عدم جواز الاحتياط و بطلان عمل تارك الاجتهاد و التقليد، و لا أقل من ان ذلك منشأ للشك الملزم بأن الاحتياط في ترك الاحتياط.

و جوابه ما تقدم في مبحث معذورية العامي من أن الإجماع المنقول ليس بحجة و الإجماع المحصل غير حاصل لمخالفة جملة من العلماء كصاحب المدارك (ره) و العلامة الطباطبائي (ره) و جدي كاشف الغطاء (ره) مع انه يحتمل ان مدركه ما ذكر من الوجوه أو ما سيجي ء ان شاء اللّه تعالى من الوجوه. و دعوى ان نقل الإجماع مورث للشك في صحة الإطاعة بالاحتياط فاسدة لما عرفت من حكم العقل بصحة الإطاعة به من باب حكمه بصحة اطاعة كل أمر و ليس ذلك بحكم شرعي و إلا لزم التسلسل في أحكام الشرع. نعم لو كان بحكم الشرع كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 58

نقل الإجماع مورثا للشك.

[الإيراد السادس على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط سادسا استمرار السيرة على عدمه مع التمكن من الحجة الشرعية.

و جوابه ان السيرة إجماع عملي، و لو سلمنا وجودها لكان الجواب عنها هو الجواب عن دعوى الإجماع المتقدم.

[الإيراد السابع على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط سابعا ان أدلة وجوب رجوع المجتهد الى الطرق الشرعية و أدلة وجوب رجوع المقلد للمجتهد تقتضي اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق عند التمكن منها، و ذلك يقتضي بطلان الاحتياط مع التمكن منها، و بعبارة أخرى تقتضي ان المطلوب للشارع هو الواقع من هذه الأدلة، كما ان أدلة الطرق الشرعية للمجتهد تقتضي اشتراط كون الواقع مأخوذا منها لا من التقليد عند التمكن منها، و الحاصل ان المكلف به الفعلي هو مؤدى الطرق لا الواقع بما هو واقع بأن يكون التكليف الواقعي مقيدا بقيام الطرق عليه في مرتبة الواقع أو في مرتبة الفعلية كما ينسب ذلك لصاحب الفصول و أخيه صاحب الحاشية.

و جوابه ان أدلة الطرق كما هو الظاهر منها لبيان الطرق الشرعية للواقع لا لبيان أن مؤداها هو الواقع و لا ان الواقع مقيد بقيامها عليه، مع أنه ان كان المراد انعدام الحكم الواقعي بدون قيام الطرق عليه بحيث يكون الحكم بواقعيته مقيدا بقيام الطرق عليه فهو محال للزوم تقدم الشي ء على نفسه لأن الطرق تتعلق بالواقع فهي متأخرة رتبة عنه تأخر العارض عن معروضه فلو أخذت في متعلقها لزم تقدمها على نفسها و هو محال لوجودها قبل نفسها، مضافا الى لزوم عدم اشتراك الجاهل و العالم في الحكم مع ان الإجماع قائم على وجود حكم واقعي مشترك بينهما أصابه من أصابه و أخطأه من أخطأه. و ان كان المراد ان

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 1، ص: 59

الحكم في مرتبة فعليته و توجهه نحو المكلف مقيد بقيام الطرق عليه بمعنى أن الحكم لم يبلغ إلى درجة الفعلية و التوجه نحو المكلفين إلا بقيام الطرق على واقعه فاذا لم يقم طريق على واقعه لم يبلغ درجة الفعلية و التوجه نحو المكلف فلازم ذلك إهمال ما لم يؤدي إليه الطرق لأن التكليف الموجود فيه غير متوجه للجاهل فلا يكون الحكم مشتركا بين الجاهل و العالم و هو خلاف ما قامت عليه ضرورة المذهب من اشتراكهما، مضافا الى احتياج ذلك الى دليلين دليل يجعل الامارة طريقا للواقع و دليل يجعلها قيدا للحكم الشرعي و مأخوذة في موضوعه مع انه لا دليل عندنا إلا دليل جعلها امارة و طريقا كاشفا عن الواقع، و ان كان المراد ان الحكم في مرتبة تنجزه و حكم العقل باستحقاق العقاب على عصيانه مقيد بكونه مؤدى الطرق فهو صحيح و لكن لا ينفع الخصم، إذ على هذا يكون الحكم متوجها نحو العبد على تقدير وجوده في الواقع فاذا لم يطلع عليه و احتاط سقط عنه لأنه قد أتى به. و أما أدلة الطرق الشرعية للمجتهد لا تقتضي الاشتراط الذي ذكره الخصم. و أدلة التقليد لا يصح القياس عليها لأنها ليست بحجة مع التمكن من الرجوع للطرق الشرعية نظير الأصول العملية فإنها لا يعمل بها مع التمكن من الرجوع للطرق الشرعية.

[الإيراد الثامن أول على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط ثامنا ان أدلة جواز الاحتياط مقيدة بعدم التمكن من الطرق الشرعية كالامارات المعتبرة و كالتقليد، فمع التمكن منها لم يكن الاحتياط جائزا نظير أدلة جواز الرجوع للأصول العملية فإنها مقيدة بعدم التمكن من الرجوع للأمارات المعتبرة.

و جوابه ان دليل العقل

على الاحتياط غير مقيد بشي ء فكل ما أوجب إحراز الواقع يحكم العقل بإسقاطه للتكليف من دون تقييد لذلك بشي ء من الأشياء.

نعم من الممكن أن يكون محرما عليه ارتكابه لاضراره بالنفس، لكن ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 60

لا يمنع من سقوط التكليف به إذا أحرز به الواقع.

[الإيراد التاسع على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط تاسعا ما ذكره صاحب الفصول و بنى عليه الشيخ الأنصاري في رسائله ان الاحتياط إذا استلزم تكرار العمل مع التمكن من الواقع يعد عند المتشرعة و العرف عابثا و لاعبا بأمر المولى غير مطيع له فان من تردد في القبلة و عنده خمسة أثواب يعلم بطهارة واحد منها و خمسة أشياء يعلم بصحة السجود على واحد منها فيصلي مائة صلاة مع التمكن من صلاة واحدة فإن ذلك يعد سفيها و لاعبا بأمر المولى و الفرق بين الصلاة الكثيرة و الصلاتين لا يرجع الى محصل و لأن حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد.

و جوابه ان المستشكل قد جعل المحكّم في اللعبية بأمر المولى و العبثية هو حكم المتشرعة و العرف فإن أراد انهم يحكمون بذلك في جميع الموارد فهو باطل لما نرى من كثير من الموارد يحكم بها العقل و العقلاء و المتشرعة بحسن الاحتياط كما في الدماء و الفروج و الأموال و الاحتياط الخفيف المؤنة و عدم كونه عبثا و لعبا بأمر المولى. و إن أراد انهم يحكمون في بعض الموارد كالمثال الذي ذكره فهو صحيح إلا ان كلامنا في نفس الاحتياط من دون طرو عنوان آخر عليه ثانوي ككونه فيه ضرر محرم أو موجبا للنفرة من الدين الإسلامي أو اختلال النظام أو قتل نفس محترمة أو

ألعب أو نحو ذلك، مع ان مجرد العبثية لا تضر بالطاعة بحيث توجب ارتفاعها و خروجها عن كونها طاعة فإن الشي ء قد يكون عبثا إتيانه و لكنه يحصل المقصود منه كاحترام من لا يستحق الاحترام. و اما دعوى ان حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد فهو قاعدة غير مسلمة و إنما ذكرها علماء العربية و هي ترجع للقياس التمثيلي و قد بينا بطلانه في المنطق.

و اما ما أجاب به الآخوند (ره) و تبعه بعض المعلقين على العروة و بعض المعاصرين في تقريراته من أن الاحتياط لو كان عبثا و لعبا فإنما يكون عبثا و لعبا في كيفية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 61

الإطاعة لا في نفس الإطاعة فان الإطاعة تتحقق بواحد من الأفراد و الباقي يكون عبثا و لعبا، و الحاصل ان العبثية و اللعبية تكون فيما عداه، فلا يخفى ما فيه فان العبثية و اللعبية تتحقق بالمجموع الذي صار بمجموعه عمل واحد و الجميع أجزاؤه بحيث لا يستغني عن بعضه في هذه الحال أعني حال تحصيل البراءة اليقينية بالاحتياط فلا يصح التقرب به و لا بواحد من أجزائه، هذا إذا سلمنا ان العبثية و اللعبية بأمر المولى لا توجب النهي و اما إذا كانت توجب النهي فلا إشكال في انه لا يصح الإتيان لا بالمجموع و لا بأجزائه لأنها حال الانضمام منهي عنها و حال الانفراد لم يتحقق الاحتياط. و اما ما أجاب به الآخوند (ره) أيضا من ان الاحتياط قد يكون ناشئا من غرض عقلائي و لا أقل من جهة العناء في الفحص و الاجتهاد فلا يخفى ما فيه فإنه يرجع الى عروض عنوان ثانوي، و نحن

كلامنا في الاحتياط من حيث هو إلا اللهم أن يرجع الى ما أجبنا عنه.

[الإيراد العاشر على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط عاشرا ان سقوط الأمر مبني على حصول غرض المولى و مع احتمال أن يكون غرضه باقيا يجب الإتيان به على وجه يسقط به الغرض، و نحن نحتمل بعد الاحتياط أن يكون الامتثال التفصيلي مسقطا لغرض المولى دون الإجمالي.

و جوابه انه لا يحتاج سقوط الأمر إلى أزيد من إتيان متعلقه، إذ لو بقي مع حصول متعلقه لزم تحصيل الحاصل، نعم لو علم بعدم حصول الغرض من الأمر يحدث أمرا آخرا لوجود مناطه و مع الشك في بقاء الغرض فاستصحاب بقاء الغرض لإثبات الأمر أصل مثبت لأنه لازم عقلي له و حينئذ فتجري أصالة عدم حدوث أمر جديد و يجزي الاحتياط.

[الإيراد الحادي عشر على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط حادي عشر أن الأخبار الدالة على الصوم للرؤية و الإفطار للرؤية تقتضي عدم جواز الاحتياط بإتيان الصوم لاحتمال وجوبه في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 62

اليوم المشكوك أنه من شعبان أو من رمضان و حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد.

و جوابه ان المراد عدم جواز الصوم بعنوان كونه من رمضان لا لاحتمال وجوبه، و لو سلمناه فهذا يقتضي المنع عنه في خصوص هذا المورد و لعله لحدوث مفسدة فيه اللّه أعلم بها.

[الإيراد الثاني عشر أول على جواز الاحتياط]

و يرد على جواز الاحتياط ثاني عشر ان الاخبار الدالة على وجوب التعلم تقتضي وجوب معرفة الواقع اجتهادا أو تقليدا أو يقينا و قد تقدم نقل قسم منها في مبحث عدم معذورية الجاهل و لازم ذلك عدم كفاية الاحتياط.

و جوابه ان الظاهر من تلك الروايات ليس هو الوجوب الشرعي بل للإرشاد الى ما حكم به العقل من لزوم المعرفة لأجل عدم إهمال التكاليف بقرينة قوله تعالى أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ و قوله: «هلا تعلمت» فهي لا تنافي حكم العقل بحسن الاحتياط لعدم إهمال التكاليف معه، على ان المعرفة و لو بنحو التقليد تجتمع مع الاحتياط فالإلزام بها لا يتنافى مع الاحتياط. نعم معرفة التكليف على سبيل اليقين يرتفع معها موضوع الاحتياط.

[الإيراد الثالث عشر على جواز الاحتياط]

و قد يورد على جواز الاحتياط ثالث عشر بما في مقبولة عمر بن حنظلة انظروا الى رجل قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا. إلخ و بما في مشهورة أبي خديجة: انظروا الى رجل يعلم شيئا من قضايانا. إلخ فإنه يفهم منها النهي عن العمل بدون الاجتهاد أو التقليد.

و جوابه انها ظاهرة في النهي عن أخذ الأحكام من غير المجتهد لا في النهي عن امتثالها على نحو اليقين.

و ينبغي هنا التنبيه على أمور:

اشارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 63

جواز العمل بالاحتياط إذا لم يتيقن به مشروط بكونه مجتهدا أو مقلدا

(أحدها) انه لا ريب ان الاحتياط كما عرفت يجوز للمقلد و المجتهد و اما القاطع بالحكم فلا يتحقق منه الاحتياط، ثمَّ انه هل يلزم على العامل بالاحتياط الاجتهاد في جوازه أو التقليد، التحقيق انه لا يلزم ذلك لأن جوازه أمر فطري بديهي فإنه عند إحراز تحققه تقتضيه النفوس بصرف طباعها، نعم لو فرض انه قد حدث لأحد الشك في جوازه و لو من جهة وقوع الخلاف في جوازه فإذا أراد العمل به فلا بد أن يكون مجتهدا بجوازه أو مقلدا إذ ليس جوازه حينئذ يكون من الضروريات عنده و لا من اليقينيات لديه، ثمَّ إذا بعد هذا حكم عقله بجوازه لكونه موجبا لليقين بحصول الواقع و غرض المولى بحيث يأمن من العقاب معه كان مجتهدا في جوازه و لم يحتج الى اجتهاد و لا الى تقليد في جوازه كما انه لو كان عنده من الضروريات أو اليقينيات. و من هذا ظهر لك انه يشترط في جواز الاحتياط تشخيص موارده و ان يعرف العامل بالاحتياط كيفية الاحتياط اما يقينا أو اجتهادا أو تقليدا ليقطع بحصول الواقع بالاحتياط إذ بدونه لم يكن احتياطه احتياطا و لا يأمن به من الوقوع في مخالفة الواقع.

إن قلت: مع الشك في جواز الاحتياط إذا عمل على طبقه بدون أن يحصل عند العمل به اليقين به أو الاجتهاد فيه أو التقليد فيه فإنه يجزي لو انكشف انه أتي بالواقع فأي وجه للزوم ذلك؟

قلنا: إنما يجب ذلك بحكم العقل لأجل المؤمن له من العقاب فاذا عمل بالاحتياط مع شكه في جوازه أو كونه احتياطا صحيحا محصلا للواقع لم يكن له مؤمن من العقاب ما

دام لم ينكشف مطابقته للواقع فالوجوب عقلي لا مولوي شرعي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 64

الاحتياط في جزئية شي ء أو شرطيته

(ثانيها) لا بد من الاحتياط في جزئية شي ء أو شرطيته الإتيان به مع ذلك الشي ء، فمن شك في جزئية القنوت للصلاة اكتفى في الاحتياط الإتيان به مع الصلاة في المحل الذي احتمل اعتباره فيها. و لكن لا بد من عدم احتمال مانعيته و إلا لو احتمل ذلك لوجب عليه لو أراد الاحتياط أن يأتي بصلاتين إحداهما بدون القنوت و الأخرى مع القنوت.

انكشاف الواقع في أثناء الاحتياط

(ثالثها) لا إشكال في عدم صحة ترتب آثار الواقع لو أتي ببعض المحتملات قبل انكشاف الواقع، و اما لو أتي ببعض الاحتمالات و انكشف مطابقتها للواقع اما علما أو اجتهادا أو تقليدا أجزأ ذلك و صح له ترتيب آثار الواقع عليه و لا يلزمه الإتيان بباقي الاحتمالات لحصول الواقع عنده.

و قد يورد على ذلك أن الطرق الظاهرية إنما تكون طرقا في حق المجتهد بعد الأخذ بها و العمل بها، و كذا فتوى المجتهد إنما تكون طريقا لمقلده بعد أخذ المقلد لها و بنائه عليها، و المفروض في المقام انه حين العمل لم يكن مجتهدا و لا مقلدا فلم تحصل مطابقة عمله لأحدهما و بعد اجتهاده أو تقليده قد مضي العمل و خرج عن محل ابتلائه فلا يكونان حجة عليه، و بعبارة أخرى ان هذا العمل لم تقم حجة على الاجتزاء به لأنه قبل العمل و حين العمل لم يكن عنده حجة و بعد العمل خرج العمل عن محل ابتلائه و الفرض ان حجية الطرق مقيدة بالأخذ بها حين العمل.

و جوابه مضافا الى عدم تقييد أدلة حجيتها بالأخذ بها بحسب مداليلها اللفظية انه لا يعقل أن تكون الطرق الشرعية حجيتها مقيدة بذلك للزوم الدور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 65

لأن حجيتها

حينئذ تكون متوقفة على الأخذ بها و الأخذ بها لا يصح إلا إذا كانت حجة فيكون موقوفا على حجيتها، فاذن لا فرق في انكشاف الواقع بين أن يكون بالقطع و بين أن يكون بالطرق الشرعية، و انقضاء العمل و خروجه عن محل الابتلاء لا يوجب عدم ترتب آثاره عليه و لا عدم سقوط التكليف بإعادته أو قضائه. نعم من اعتبر قصد القربة و الوجه على نحو اليقين و ادعى في صورة الاحتياط يمكن قصد ذلك بمجموع العملين بأن ينوي الإتيان بهما لتحصيل الفعل المتصف بالوجه، نظير من يصلي مع الضمائم المستحبة بقصد تحصيل الواجب في ضمنها، فتكون عنده الاستدامة على هذا العمل بهذا القصد مستلزمة لمقارنة المأمور به الواقعي لقصد وجهه فإنه على هذا لو أتى ببعض المحتملات و انكشف له الواقع اجتهادا أو تقليدا لم يكن قد أتى بالعمل بقصد الوجه فعليه أن يأتي بباقي المحتملات و لا يجتزي ببعضها لأن ما تحقق منه لم يقع بقصد الوجه على نحو اليقين.

الاحتياط مع الفتوى و بدونها

(رابعها) الاحتياط إذا كان معه الفتوى من المجتهد الذي أمر به سواء كان مسبوقا بالفتوى أو ملحوقا بها كان استحبابيا لأن المطلوب من العامي العمل بالفتوى و لا يجوز للعامي أن يرجع لغيره إذا كان قد قلده فيها. نعم لو كانت فتوى الغير موافقة للاحتياط جاز الرجوع لغيره من باب الاحتياط لا من باب التقليد و لا من باب انه حكم الواقعة في حقه إذ يكون ذلك تشريعا محرما، بل مع الإفتاء لو أمره بأن لا يترك الاحتياط لا يجب عليه متابعته إلا أن يكون ذلك منه رجوعا، و اما إذا لم يكن الاحتياط معه فتوى و يسمى بالاحتياط المطلق فيجوز للمقلد العمل

به أو الرجوع لغيره من المجتهدين و إن كان المحتاط أعلم منهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 66

و قلنا بوجوب تقليد الأعلم. نعم هناك احتياط بنحو الفتوى كالصلاة إلى الجهات الأربعة عند اشتباه القبلة أو وجوب الاحتياط عند العلم الإجمالي فإنه في هذه الصورة لا يجوز الرجوع لغيره إذا كان المفتي أعلم و قلنا بوجوب تقليد الأعلم بخلاف الاحتياط المطلق الذي لا فتوى معه و يفرق بينهما في التعبير ان الاحتياط المطلق كأن يقول المجتهد (الأحوط هو كذا) بخلاف هذا الاحتياط بنحو الفتوى فإنه يقول المجتهد (صل الى الجهات الأربعة عند الاشتباه في القبلة أو اجتنب الإنائين عند العلم بنجاسة أحدهما) أو نحو ذلك من التعابير التي تدل على ان حكم الواقعة هو الاحتياط لا ان حكمها مجهول لديه و الاحتياط طريق لتحصيله.

(مبحث الاجتهاد)

اشارة

تعريفه، شروطه، تقسيمه، أحكامه

[تعاريف الاجتهاد]

[66 تعريف الاجتهاد عند المتقدمين.]
اشارة

قد عرفت ان القوم قدموا البحث عن الاجتهاد على التقليد لأن التقليد تابع له فان الاجتهاد مأخوذ في موضوعه و لا بد لنا من تعريفه لأنه مأخوذ في موضوع الدليل و هو الإجماع و لبيان ما هو موضع النزاع بين الأصوليين و الأخباريين فلا وجه لما ذكره بعضهم من عدم الحاجة لتعريفه لعدم وجود الاجتهاد في موضوع الأدلة، و كيف كان فالاجتهاد في اللغة بذل الجهد و استفراغ الوسع كما في المحكي عن الصحاح و القاموس و المجمع، فتفسيره بتحمل الجهد كما عن شرح العضدي و المعالم تفسير بلازم المعنى، و (الجهد) بضم الجيم هو المشقة و الوسع و الطاقة كما هو المحكي عن الصحاح و القاموس، (و بالفتح) معناه المشقة فيقال: اجتهد في حمل طاق الرحى، و لا يقال: اجتهد في حمل النواة. و ربما جاء الجهد بالفتح أو الضم بمعنى الاجتهاد. و في الاصطلاح على ما عرفه المتقدمون من الأصوليين كابن الحاجب و العلامة الحلي: «استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 67

الظن بالحكم الشرعي» و عليه فيكون المعنى الاصطلاحي منقولا من الاجتهاد بمعنى بذل الجهد بالضم لأنه يكون من نقل الأعم إلى الأخص الذي هو الغالب في المنقولات بخلافه بمعنى بذل الجهد بالفتح فإنه يكون من نقل اللازم الى الملزوم إذ لازم استفراغ الفقيه وسعه هو بذل المشقة. و الشي ء يحمل على الأعم الأغلب، و المراد باستفراغ الوسع هو بذل الطاقة بمقدار اللازم، و المراد بالظن هو الظن المعتبر الذي يكون حجة و إلا فالظن الغير المعتبر بمنزلة العدم و التقييد به لإخراج الضروريات و اليقينيات، و تقييد الحكم بالشرعي لإخراج

الأحكام الغير الشرعية كالعقلية.

[67 الإيرادات على تعريف الاجتهاد عند المتقدمين.]

و يرد عليه أولا: ان الفقيه هو العالم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و هو لا يتحقق إلا بالاجتهاد فتكون معرفة الفقيه متوقفة على الاجتهاد و قد أخذ الفقيه في تعريف الاجتهاد فلزم الدور.

و جوابه ان الفقيه وجوده مستلزم للاجتهاد لا ان تصوره و إدراكه موقوف على إدراك الاجتهاد، و الذي يلزم منه الدور هو الثاني لا الأول، على ان الفقيه قد يأخذ الحكم من الامام (ع) بدون اجتهاد.

و يرد عليه ثانيا: ان مقتضى هذا التعريف أن يكون الاجتهاد متوقفا على كون الشخص فقيها لأخذه في حقيقته مع ان الفقيه متوقف على الاجتهاد لأن الشخص لا يكون فقيها إلا إذا كان عنده اجتهاد بأن يستنبط الحكم الشرعي عن دليله باجتهاد اما بدون اجتهاد فلا يكون استنباطه صحيحا و لا يسمى معه فقيها فيلزم الدور بحسب الوجود.

و جوابه ان المراد بالفقيه في تعريف الاجتهاد هو من عنده القدرة على الاستنباط بمعرفته علم الأصول و نحوه مما يتوقف عليه الاستنباط من العلوم و لا شك ان الاجتهاد موقوف على هذه الملكة و القدرة لأنها في الحقيقة هي ملكة الاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 68

و القدرة عليه، و من المحال أن يحصل الشي ء من شخص قبل قدرته عليه، و من المعلوم ان هذه القدرة لا يتوقف حصولها على الاجتهاد لأن الاجتهاد من فروعها و مرتب عليها فلا دور بين الاجتهاد و الفقه بهذا المعنى بحسب الوجود، مع انه يمكن أن يقال ان لفظ (الفقيه) في التعريف عنوان اشارة لا انه مأخوذ في موضوع الاجتهاد بمعنى ان المراد ان الاستفراغ الذي يوجد عند الفقيه هو الاجتهاد نظير ما يقال ان النجارة

هي ملكة النجار فإنه لا يقتضي أن تكون الملكة موقوفة على النجارة بحسب الوجود مع انها سابقة عليها بحسب الوجود.

نعم إنما يقتضي الملازمة معها و ان كانت هي أسبق رتبه في الوجود.

و يرد عليه ثالثا: ان لا وجه للتقييد بالظن لأن استفراغ الوسع لتحصيل القطع في الأحكام القطعية أيضا من الفقه و استنباطها من أدلتها يسمى اجتهادا و جوابه أنه لا يسمى في الاصطلاح اجتهادا، و لذا ما قام عليه الإجماع لا يسمى اجتهادا و ان سمي فقه، و لذا عرف الاجتهاد في محكي الذريعة بأنه استنباط الأحكام الشرعية بغير النصوص بل بما طريقه الامارات و الظنون و الى ذلك نظر البهائي (ره) حيث قال: القطعيات ليست فقها إذ لا اجتهاد فيها، ظنا منه ان الفقه منحصر بالاجتهاد، و حيث كان لا اجتهاد فيها فليست بفقه، و أنت إذا تتبعت حدود القوم للاجتهاد يتبين لك ان المعتبر في أصله النازل منزلة فصله هو الظن و ان من لم يأخذ الظن في تعريفه أخذ ما يجري مجراه من الاستنباط أو الترجيح أو نحوهما، و قد صرح في الفصول ان مصطلح القوم على تخصيص الاجتهاد بالظنيات ناسبا ذلك الى الأكثر مع ان جملة من مباحثهم مختصة بذلك كبحثهم عن حجية الاجتهاد و تجزئته مع ان القطعي لا يبحث عن حجيته و المتجزي قطعه حجة في حقه، بل لعله لهذا حكم الأخباريون ببطلان الاجتهاد بقول مطلق، و لو سلمنا انه اجتهاد فالتعريف يشمله لأنه معه قد استفرغ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 69

وسعه لتحصيل الظن، غاية الأمر قد حصل له القطع، و كيف كان فملكة الاجتهاد موجودة عنده بالنسبة لما حصل القطع عليه و اما

الاجتهاد فلم يحصل له و إنما حصل له القطع بالحكم.

و يرد عليه رابعا: انه يشمل تحصيل الظن الغير المعتبر.

و جوابه ان الظاهر من إطلاقهم هو الظن المعتبر، أعني الحاصل من الأدلة المعتبرة بقرينة ان ما يستفرغ الفقيه لتحصيله هو الظن المعتبر و إلا فالظن الغير المعتبر في حكم العدم فلا يستفرغ الفقيه وسعه لتحصيله.

و يرد عليه خامسا: انه يدخل فيه الاجتهاد لتحصيل الأحكام الشرعية الأصولية سواء كانت من أصول الدين كوجوب معرفة المعاد أو من أصول الفقه كوجوب التعبد بالخبر فكان عليهم أن يقيدوا الأحكام بالفرعية ليخرج ذلك حيث انه ليس باجتهاد في اصطلاحهم.

و جوابه ان التقييد بالفقيه يقتضي ذلك لان الفقه مأخوذ فيه الحكم الشرعي الفرعي. لكن على هذا لا حاجة لأخذ (الشرعي) في التعريف إلا للتوضيح.

و يرد عليه سادسا: ان هذا التعريف ان كان تعريفا للاجتهاد الصحيح فهو غير صحيح لاحتياجه الى قيود أخرى ككونه له ملكة قدسية و نحو ذلك و ان كان للأعم فقيد (الفقيه) لا حاجة له لتحققه بدونه.

و جوابه انه تعريف للصحيح كما هو شأن سائر التعاريف و لا يحتاج الى قيد زائد، لأن المراد به استفراغ الفقيه وسعه على الوجه المعتبر بقرينة (مناسبة الحكم للموضوع) و هو لا يكون بدون الملكة و أخذ الفقيه للاحتراز عن تفريغ العامي وسعه لتحصيل الحكم الشرعي، و إن شئت قلت ان الشروط المذكورة للاجتهاد ما كان منها شرطا لجواز العمل به فلا وجه لأخذه في حقيقته و ما كان شرطا لوجوده فهو مأخوذ في التعريف، على أن الملكة القدسية مأخوذة في التعريف بأخذ لفظ الفقيه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 70

و يرد عليه سابعا: ان كثيرا من المسائل ما تحصل

بأدنى نظر لظهور مدركها فلا تحتاج الى تفريغ وسع فان منها ما يرجع فيه لنفس الامام (ع).

و جوابه انه إن كان يحصل اليقين من مدركها فهو كما عرفت ليس باجتهاد و إن كان مدركها يفيد الظن فلا يعقل أن يحصل ذلك بأدنى نظر فإنه لا أقل من البحث عن وجود معارض لذلك المدرك أو مخصص له أو مقيد، نعم الاستفراغ قد يحتاج في بعض الاحكام الى كثرة الفحص و بعضها الى قلته حسبما يقتضيه مدرك الحكم من الظهور و الخفاء. و الرجوع لنفس الامام (ع) لا يسمى اجتهادا و لذا لا يسمى الرواة عن الأئمة (ع) مجتهدين لأن معرفتهم بالأحكام تحصل بمجرد السماع من الامام شفاها من دون اعمال قوة نظرية في تحصيلها، نعم في زمان الغيبة لا يمكن تحصيل المعرفة بأحكامهم (ع) إلا باعمال النظر، و لذلك لا يسمى النبي (ص) و نفس الأئمة (ع) مجتهدين لأنهم يعلمون بالأحكام و علمهم من دون اعمال قوة نظر بل بالوحي و الانكشاف للواقع.

و يرد عليه ثامنا: ان بعض الأدلة طرق تعبدية لا تفيد الظن كأصل البراءة و الاستصحاب.

و جوابه ان المعتبر في الاجتهاد بذل الوسع لتحصيل الظن و لا يلزم من ذلك أن يحصل الظن فهو نظير الفحص عن الشي ء و نظير السعي لتحصيل شي ء فإنه لا يلزم في تحققها حصول ذلك الشي ء و الاجتهاد كذلك فإنه لا يلزم في حصوله أن يحصل الظن، و لا ريب إنما يكون الرجوع الى الأصول بعد بذل الوسع لتحصيل الظن المعتبر بالحكم الشرعي فقد حصل الاجتهاد عند الرجوع إليها.

و يرد عليه تاسعا: ان الفقيه قد يبذل وسعه و لا يحصل شيئا بل يتوقف في المسألة أو يحتاط. و جوابه

ما سبق في جواب الإيراد الثامن.

و يرد عليه عاشرا: ان المجتهد قد يجتهد ليحصل الظن بالموضوعات لا بالحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 71

الشرعي كمعرفة ماهية الصلاة و كمعرفة الظهر و القبلة.

و جوابه ان اجتهاده في الموضوعات إن كان يرجع الى الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي كالاجتهاد في معرفة ماهية الصلاة فإنه يرجع الى معرفة ما يجب عليه من أجزائها و شرائطها فلا إشكال في دخوله في التعريف و ان كان لا يرجع الى ذلك فلا نسلم انه يسمى اجتهادا عند الأصوليين فإن من قامت عنده البينة على أن هذا المال لزيد لا يسمي ذلك اجتهادا عندهم.

و يرد عليه حادي عشر: ان الاجتهاد إنما يطلق على خصوص تحصيل الظن من غير الكتاب و السنة و التعريف المذكور غير مخصوص بذلك كما في خبر معاذ حين بعثه النبي (ص) قاضيا على اليمن فقال (ص): بما تحكم؟ قال: بما في كتاب اللّه تعالى، قال (ص): فان لم تجد؟ قال: فبما في السنة، قال: فان لم تجد؟ قال:

أجتهد برأيي- الخبر.

و جوابه ان الاجتهاد له إطلاقات (الأول) ما كان في الصدر الأول فإنه كان يطلق على تحصيل الحكم الشرعي من غير الأدلة الشرعية كاجتهادات أبي حنيفة و عليه يحمل ما ذكره علماء الرجال من أن بعض أصحابنا صنف كتابا في الرد على الاجتهاد، و عليه يحمل ما عن الذريعة و السرائر من بطلان الاجتهاد عند أصحابنا، و ما ورد عن أئمتنا (ع) من المنع بالعمل بالرأي و الاجتهاد كما كان عمل علماء السنة في قبال الأئمة (ع)، (الثاني) ما عرفته و هو المصطلح في علم الأصول (الثالث) ما هو المعروف في كلام المتشرعة من أصحابنا من

إطلاقه على تحصيل الحجة على الحكم الشرعي الفرعي سواء كانت علمية أو ظنية و عليه فتندرج القطعيات في الاجتهاد و يتساوى الاجتهاد و الفقه بحسب الوجود و عليه يحمل تعريف الشيخ الأنصاري (ره) بأنه اعمال النظر في تحصيل الحكم الشرعي كما يظهر لمن تتبع كلامه، (الرابع) إطلاقه على ما يعم المتعلق بالمسائل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 72

الأصولية عملية أو اعتقادية، و منه قولهم: هل يجوز التقليد في أصول الدين؟

(الخامس) قد يطلق على كل تحري و احتياط حتى في الموضوعات كما يقال:

اجتهد في القبلة، (السادس) إطلاقه على الملكة التي يقتدر أن يستنبط بها الحكم الشرعي الفرعي من الأصل كما ذكره البهائي (ره) حيث عرّف الاجتهاد بذلك و سيجي ء الكلام منا في هذا المعني للاجتهاد عند الكلام في تعريف البهائي (ره) للاجتهاد ان شاء اللّه تعالى.

و يرد عليه ثاني عشر: ان الفقيه قد يستفرغ وسعه للظن بعدم الحكم و جوابه انه على هذا قد تحقق منه استفراغ الوسع للظن بالحكم الشرعي غاية الأمر لم يحصل عنده، على ان المراد بالحكم وجودا أو عدما.

و يرد عليه ثالث عشر: ان الظاهر من هذا التعريف انه يجب على الفقيه قصد تحصيل الظن من أول الأمر و ليس كذلك بل لا بد له أولا من قصد تحصيل العلم و مع تعذر العلم أو تعسره يكفي تحصيل الظن و لا أقل من أن يكون قاصدا لتحصيل الاعتقاد.

و جوابه ان هذا بيان لحقيقة الاجتهاد عند الأصوليين و ليس لبيان واجب الفقيه.

و يرد عليه رابع عشر: ان المراد باستفراغ الوسع ان كان طول العمر فلا تتحقق رتبة الاجتهاد إلا عند الوفاة و إن أريد في وقت التكليف و الحاجة الى

المسألة فإن كانت شرائط الاجتهاد غير موجودة فهو لا يصح اجتهاده و إن كانت موجودة فهي لا بد و أن تكون على سبيل الاجتهاد و الاجتهاد مراتبه متفاوتة فهو يحتمل عدم الكفاية و لا يصح أن يعتمد على ظنه.

و جوابه انا نريد استفراغ الوسع بالمقدار المتعارف الذي تطمئن به النفس و هذا يكون قبل الحاجة الى المسألة و اما عند الحاجة إليها فإن كان تمكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 73

من استفراغ الوسع المذكور فهو و إلا قلد فيها، و اما استجماعه للشرائط فهو أمر وجداني فان آنس من نفسه ذلك اجتهد و إلا فلا.

و يرد عليه خامس عشر: ما في الفصول من صدق التعريف على استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظن بفتوى غيره باعمال القوانين اللفظية في استنباط مرامه، إذ يصدق على فتوى المفتي انه حكم شرعي و لو في الجملة، و لا ريب ان الاستفراغ المذكور لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح و كان الواجب أن يزاد في التعريف عن أدلته التفصيلية.

و جوابه ان المراد من الحكم الشرعي بمناسبة الحكم و الموضوع هو حكم المستفرغ و مقلديه لا حكم غيره و غير مقلديه، إلا اللهم أن يقال بانسداد باب العلم و حجية فتوى المجتهد إذا أفادت الظن بالحكم فحينئذ يكون استفراغ الوسع المذكور من الاجتهاد.

تعريف المتأخرين للاجتهاد
اشارة

هذا غاية الكلام في تعريف المتقدمين من الأصوليين للاجتهاد، و اما المتأخرون فالكثير منهم قد تابعوا المرحوم الشيخ البهائي (ره) في تعريفه ب (الملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي عن الأصل فعلا أو قوة قريبة) و المراد بالملكة بحسب الظاهر أعم من أن تكون عامة كملكة المجتهد المطلق أو خاصة كملكة المجتهد المتجزي

التي صارت له في بعض أبواب الفقه كالصلاة و نحوها دون بعض كالمواريث و نحوها، كما ان المراد بها بحسب الظاهر أعم من الملكة العلمية التي يحصل بها العلم بالحكم أو الظنية التي يحصل بها الظن بالحكم، كما ان المراد بها بحسب الظاهر أعم من الملكة لتحصيل الحكم الظاهري أو الواقعي، و جعل الاجتهاد عبارة عن الملكة يقتضي خروج من كان يستنبط الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 74

الشرعي الفرعي عن أدلته اتفاقا أو تلقينا فإنه يسمى (حالا) لا ملكة فان العوارض الصادرة من الإنسان إذا لم تكن مستندة للغريزة أو الاستعداد الموجود عنده يسمى في الاصطلاح بالحال، و لذا البخيل لو أكرم يسمى كرمه كرما حاليا فكذا في المثال المذكور يسمى اجتهادا حاليا إذا لم يؤخذ في الاجتهاد قيد (الفقيه) و إلا فهو عارض حالي كسائر العوارض لا اجتهاد حالي. و عبر بقوله (يقتدر) دون يقدر لأنه مأخوذ من الاقتدار الذي هو القدرة التامة. و عبر (بالاستنباط) دون الإثبات لأن الاجتهاد يكون في الظنيات و ليس فيها إثبات. و خرج بقوله (عن الأصل) الضروري كالصلاة. و قوله (فعلا أو قوة) قيد للاستنباط لا للملكة و إلا لزم دخول من ليس بمجتهد ممن كان له تهيؤ و استعداد لأن تصير عنده الملكة المذكورة. و المراد بهما ان الاستنباط قد يكون فعليا كمن يعمل فعلا لاستخراج الحكم الشرعي من أدلته و قد يكون بالقوة و هو من لم يستنبط بالفعل لمشغوليته بعمل آخر أو لعدم حضور الأدلة عنده فعلا مع وجود الملكة المذكورة لديه و خرج بقوله (القوة القريبة) من كان عنده ملكة الاستنباط بالقوة البعيدة كبعض الفلاسفة، و قد تخيل استاذنا المشكيني

(ره) تبعا لجمع من الأفاضل ان تعريف البهائي (ره) تعريف للاجتهاد بالملكة، و ان تعريف المتقدمين تعريف للاجتهاد بالفعل حتى سمى بعضهم تعريف البهائي (ره) بالتعريف الملكي للاجتهاد، و التعريف المتقدم بالتعريف الحالي أو الفعلي للاجتهاد. و لا يخفي ما فيه بدليل ان ملكة الشي ء هي الملكة على فعليته فلو كان المراد تعريف الاجتهاد بالملكة لقالوا ملكة يقتدر بها على (الاستفراغ) المذكور في تعريف المتقدمين.

نعم هذه الملكة المذكورة يمكن أن يقال انها مستلزمة للملكة التي يقتدر بها على (الاستفراغ) المذكور في تعريف المتقدمين، كيف و الظاهر من كلمات المتأخرين ان هذا التعريف لبيان المعنى الاصطلاحي في مقابل ما ذكره المتقدمون في بيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 75

معناه الاصطلاحي فيكون عند المتأخرين الاجتهاد بالفعل هو تلك الملكة.

[الإيرادات على تعريفهم للاجتهاد.]

و كيف كان فيرد على هذا التعريف أولا: ان الذي دعا المعرّفين به إلى ذلك هو إشاعة صدق (المجتهد) عند الأصوليين على من عنده ملكة الاجتهاد و إن لم يكن قائما بعملية الاجتهاد، فيقال للمرجع الديني (مجتهد) و إن كان نائما، و لكن التحقيق ان كلامنا في نفس المصدر- أعني الاجتهاد- لأنه هو محل البحث عند الأصوليين و هو لم يعهد إطلاقه بنحو الحقيقة على الملكة أصلا فلا يقال للملكة المذكورة عند المرجع الديني (اجتهاد) لا عند الأصوليين و لا عند غيرهم، و صدق المشتق لا يلزم منه صدق مصدره، لأن المشتق قد يصدق على من تلبس بالمصدر فعلا أو شأنا، ألا ترى ان لفظ النجار يطلق على من صنعته النجارة و إن كان نائما مع عدم صدق النجارة على ما عنده من الملكة، و بهذا ظهر لك ما في الفصول و كفاية الآخوند و

غيرهما من ظهور لفظ الاجتهاد في الملكة المذكورة، و لعل الذي دعاهم إلى ذلك مضافا الى ما ذكرناه هو تقسيمهم الاجتهاد إلى مطلق و متجزي مع انه كما سيجي ء إن شاء اللّه انه تقسيم للاجتهاد بمعنى الملكة.

و يرد عليه ثانيا: بلزوم حصر إطلاق الاجتهاد على الملكة المذكورة دون الاستفراغ المذكور لأنه على رأيهم انها هي معناه و هو خلاف ما ذكره الأكثرون. و خلاف المتبادر من إطلاقه و يرد عليه ثالثا: بزيادة قيد فعلا لأن ذلك مأخوذ في معنى الاستنباط.

و يرد عليه رابعا: ان من كان مراهقا للاجتهاد و عنده قوة قريبة منه، فان تلك القوة يصدق عليها التعريف المذكور مع انها ليست باجتهاد و لا صاحبها يسمى بمجتهد.

(تعريف صاحب الكفاية للاجتهاد)

و قد عرّفه صاحب الكفاية بتعريف المتقدمين السابق بتبديل الظن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 76

بالحجة و يرد عليه (أولا) ما سيجي ء ان شاء اللّه ان هذا المعنى لم يكن محطا للنفي و الإثبات و (ثانيا) شموله لصورة حصول القطع فإنه ليس باجتهاد عندهم و ان كان ذلك لا ينافي وجود ملكة الاجتهاد عنده بالنسبة لما قطع به كما سيجي ء ان شاء اللّه. و (ثالثا) ما ذكره بعض المحشين ان الاجتهاد هو استفراغ الوسع لتحصيل الحكم لا لتحصيل الحجة فتحصيل الحكم من الحجة اجتهاد لا تحصيل الحجة القطعية للحكم- انتهى. و لا يخفى ما في جعله الاجتهاد تحصيلا للحكم من الحجة فإنه يلزم في صورة عدم تحصيله من الحجة أن لا يكون اجتهادا كما لو حصل باستفراغه الجهل المركب بالحكم فإنه لم يحصل الحكم الواقعي و لا الفعلي من الحجة التي هي العلم إلا أن يلتزم بما ذكرناه في الجواب عن الإيراد الثامن

على تعريف الاجتهاد للمتقدمين. و (رابعا) شموله لصورة حصول العلم بالحكم من الطرق الغير المتعارفة، كما لو حصله بالجفر أو الرمل أو الكشف أو استحضار الأرواح فإن العلم حجة عليه و لكن لا يسمى مجتهدا و مما ذكرنا يظهر لك ما في تعريف المرحوم آغا ضياء من أن الاجتهاد هو اعمال القواعد لاستخراج الأحكام. مع انه لا بد أن يكون مراده القواعد الأصولية لاستخراج الأحكام الشرعية الفرعية سواء كانت واقعية أو ظاهرية مع انه لم يقيد بذلك.

و ينبغي التنبيه على أمرين:
الدليل الاجتهادي و الدليل الفقاهتي

(أحدهما) انه قد تعارف في ألسنة الفقهاء خصوصا في العصور المتأخرة أن يسمّوا الدليل على الحكم الظاهري كالأصول الأربعة بدليل فقاهتي باعتبار ان الفقه هو العلم بالأحكام و هذه تفيد العلم بالحكم الظاهري، و أن يسمّوا الدليل الدال على الحكم الواقعي كالكتاب و الامارة المعتبرة و غير ذلك مما يفيد الظن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 77

بالحكم الواقعي بدليل اجتهادي باعتبار أن الاجتهاد لتحصيل الظن بالواقع و هذه تفيد الظن بالحكم الواقعي.

الفرق بين المجتهد و الفقيه و القاضي و المفتي و الحاكم و الزعيم الديني

(ثانيهما) ان الفرق بين هذه العناوين الخمسة ان الشخص باعتبار استفراغ وسعه لتحصيل الظن بالحكم الشرعي يسمى مجتهدا لأن الاجتهاد استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي، و باعتبار علمه بالحكم الشرعي الفرعي الواقعي أو الظاهري عن دليله يسمى فقيها لأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية، و باعتبار قضائه لرفع المنازعات يسمى قاضيا و حاكما لأن القضاء هو الفصل بين الخصومات. و باعتبار إخباره عن حكم الواقعة و فتواه به يسمى مفتي، و باعتبار انه له الولاية على الأنام و موكول له تدبير النظام و يحتل مركز الامام و يتولى شؤون المسلمين في أمور الدنيا و الدين. يسمى إماما و زعيما دينيا و هذا العنوان الأخير لا يتحقق بدون أن تتوفر فيه العناوين المذكورة كما هو واضح بخلاف البقية فإنه قد يتحقق بعضها دون بعض، فلو قلنا بأن الفسق مانع من القضاء فيتحقق المجتهد بدون عنوان القاضي فيما إذا كان المجتهد فاسقا، و كذا قد يتحقق القاضي بدون المجتهد لو قلنا بأن للمجتهد نصب العامي قاضيا، و اعلم ان لكل من هذه العناوين أحكاما فهو باعتبار انه مجتهد له أن يعمل بما أدى اليه نظره و يجوز

للعامي تقليده و لا يجوز له أن يقلد الغير، نعم ربما يجوز أن يستند الى قول مجتهد آخر من باب التأييد لرأيه و الترجيح بالمرجحات الاجتهادية كما سيجئ إن شاء اللّه كما أنه باعتبار أنه قاض يحل الخصومات و يحكم في الموضوعات المشتبهة كالهلال و نحوه و باعتباره أنه إمام و رئيس ديني يتولى شؤون القصر و مال الغائبين و غير ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 78

شروط الاجتهاد

اشارة

و حيث قد انتهى بنا المطاف من تعريف الاجتهاد شرعنا في بيان شروطه جريا على المتعارف عند القوم من ذكر شروط الاجتهاد بعد تعريفه، و مرادهم بها الأمور التي يتوقف على حصولها الاجتهاد سواء كان الاجتهاد المطلق أو المتجزي و لا يصح بدونها. و هي نوعان: نوع شرائط لتحققه، و نوع شرائط لصحته، كما ان منها ما هي شرائط للاجتهاد الملكي، و ما هي شرائط للاجتهاد الحالي و لا بد من إحراز المجتهد لها بالنسبة إلى إفتائه و حكومته، و هل يلزم ذلك بالنسبة إلى رجوع الغير إليه في الأخذ بفتواه؟ بمعنى ان المجتهد إذا كان شاكا في وجود الشرائط فيه و كان الغير عالما بتحققها فيه، فهل يجوز للغير الرجوع إليه أم لا؟ وجهان من وجوب الاقتصار على المتيقن و هو تقليد العالم بوجود شرائط الاجتهاد عنده و من عموم أدلة الرجوع، و يتصور ذلك في الأخذ برأيه فيما إذا لم يكن في مقام الفتوى بأن كان في مقام التدريس أو التحرير أو كان في مقام الترجيح و الاستدلال لا في مقام الفتوى إذ أنه لو كان في مقام الإفتاء فلا يجوز الرجوع إليه، لأنه ذلك قادح في العدالة التي هي من شرائط جواز

الرجوع اليه، ثمَّ انها هل هي شروط لعمل نفسه برأيه؟ التحقيق ان عمل المكلف برأيه تابع لقناعته فيجوز له في العمل بالمسألة أن يأخذ مقدماتها باجتهاد و يأخذ بعض مقدماتها عن تقليد صحيح في نظره فمثلا قلد في حجية الخبر لمن يرى صحة تقليده في ذلك و اجتهد في حجية الظهور فاستنتج الحكم الشرعي فإنه في هذه الصورة يصح العمل برأيه لنفسه لحصول الدليل المعتبر عليه في نظره، و لكن لا يجوز له الفتوى للغير بذلك لأنه ليس مجتهدا بهذه المسألة لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات فيكون مقلدا في هذه المسألة و جاهلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 79

بها، و كيف كان فللاجتهاد شروط ذكرها القوم:

(الشرط الأول- معرفة العربية):
اشارة

بأن يعرف اللغة العربية مادة و المتكفل لذلك علم متن اللغة لأنه يبين معاني الألفاظ العربية، و بأن يعرف اللغة العربية هيئة و تركيبا و المتكفل لذلك علم النحو و الصرف و يدخل في ذلك معرفة المعاني العرفية الثابتة في زمان النبي (ص) و الأئمة (ع) و اصطلاحات الفقهاء. و اما علم المعاني و البيان و البديع فسيجي ء الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى فيما يتوهم اعتباره في الاجتهاد، و الدليل على ذلك ان اللازم على المجتهد تحصيل الاحكام من مداركها، و لا ريب ان من مداركها الكتاب و السنة و هي واردة باللغة العربية كما عليه أن يراجع كلمات الفقهاء لمعرفة الإجماعات و الشهرة و أدلة الخصم و هي أيضا نوعها باللغة العربية فما لم يعرفها الإنسان بموادها و هيئتها لم يكن يفهم الكتاب و لا السنة و لا كلمات الأصحاب.

و ربما أورد على هذا بأن معرفة ما ذكر ليس بشرط مطلقا إذ يمكن أن

يعرف الاحكام بالكشف و الجفر و الرؤيا و الرمل و النجوم و نحو ذلك.

و جوابه أن كلامنا حسب المتعارف و العادة و ما ذكره هو خلاف المتعارف و العادة مضافا إلى أنها لا تفيد إلا الظن و لا دليل على حجية الظن الحاصل منها و ربما أورد أيضا بأنه يمكن استخراج الحكم الشرعي من الكتاب و السنة بالكشف و الرمل و الجفر و نحوه و لا حاجة للعلوم المذكورة.

و جوابه كما تقدم من أن كلامنا على حسب المتعارف، فالعلوم المذكورة شروط بحسب جريان العادة مضافا إلى أن مثل الجفر و نحوه إن أوجب العلم بالدلالة فلا كلام لنا فيه و إن أوجب الظن أو الظهور للفظ في المعنى فلا دليل لنا على حجية هذا الظن و الظهور، و ينبغي هنا التعرض لجهات:

(إحداها): انه يكفي في الأمور المذكورة الذوق السليم

و الطبع المستقيم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 80

لعدم الدليل على لابدية تعلم تلك العلوم و إنما هي مقدمة لمعرفة الكتاب و السنة و كلمات الأصحاب و هي قد تحصل بالجبلة و الفطرة و النشأة العربية كما كان لأصحابنا السابقين، نعم في هذا العصر لما كان حصول ذلك يكاد أن يكون محالا فلا جرم كان معرفة العلوم المذكورة شرطا.

(ثانيها) [حجية قول اللغوي و تحرير محل النزاع فيه.]
اشارة

انه هل يكفي في معرفة تلك العلوم التقليد أم لا بد من الاجتهاد أو كلاهما جائزان أم لا بد له من العلم العادي من التواتر أو الاستقراء أو نحو ذلك. و هذه هي المسألة المعنونة في كتب الأصول بحجية قول اللغوي، فإن محل النزاع فيها هو ثبوت الأوضاع اللغوية بقول علماء اللغة سواء كان لمفردات اللغة أو لتراكيبها مع الغض عن خصوص الكتاب و السنة، فان الكلام في إثبات اللغة من حيث هي و إن لم يكن شرع أصلا كما يشهد لذلك عنوانهم لهذا البحث و عبائرهم و أدلتهم. نعم يندرج فيه البحث عن ألفاظ الكتاب و السنة و التراكيب الموجودة فيها لكونه من جزئيات هذه المسألة، بل بعضهم عمم النزاع لسائر المباحث اللفظية و قواعد اللغة سواء كان الوضع شخصيا أو نوعيا و سواء كان الواضع أهل اللغة أو الشرع أو أهل الاصطلاح. و ليعلم ان محل النزاع إنما هو في صورة عدم العلم بالمعارض لقول اللغوي بالنفي و الإثبات لا ما إذا أمكن الجمع بالحمل على الاشتراك اللفظي أو المعنوي بشاهد خارجي أو داخلي، كما ان محل النزاع أيضا هو صورة سلامته من الاستشهاد بما لا يدل على دعواه و عدم العلم ببنائه في استفادته المعاني الحقيقية على أصل فاسد و

عدم العلم بتعمده للكذب و المسامحة و عدم المبالاة فإن ذلك مما يوجب الوهن في نقله و بناء العقلاء على عدم الأخذ بقوله، كما ان محل النزاع أيضا هو صورة ما إذا استفيد من قوله ان هذا معنى حقيقي للفظ و ذاك معنى مجازي له و إلا لا يعقل ان أحدا يلتزم بكون قول اللغوي هذا اللفظ من معانيه كذا، ان هذا المعنى هو المعنى الحقيقي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 81

للفظ مع فرض ان قول اللغوي لا دلالة له على ذلك فإن حجية قول اللغوي عند الجميع بنحو الكاشفية، و لذا يشكل التمييز بين المعاني الحقيقية و المجازية في بعض الكتب اللغوية التي لم تأخذ على عاتقها التمييز. نعم قد يستفاد من بعض الكتب المعنى الحقيقي للفظ إذا عبر بقوله هذا اللفظ لكذا، و قد يستفاد المعنى المجازي إذا عبر ب (يقال) أو (يطلق) أو (جاء) أو (يجي ء)، و قد يستفاد انه حقيقة بذكره له أول المعاني باعتبار ان المجاز لا يقدم على المعنى الحقيقي، كما ان محل النزاع هو صورة عدم استفادة القطع بالمعنى إذ مع القطع لا إشكال في الحجية.

[الأدلة على حجية قول اللغوي]
اشارة

و كيف كان فقد استدلوا على حجية قول اللغوي و إن لم يفد العلم بأمور:

(الأول) الإجماع العملي و هو المسمى بالسيرة

و هو اتفاق العلماء و سائر العقلاء في جميع الأمصار و الأعصار على الرجوع الى اللغويين في استعلام اللغات و الاستشهاد بأقوالهم في مقام المحاجات من دون توقف و لا إنكار، ألا ترى الى المفسرين و المحدثين و الفقهاء و الأصوليين و الأدباء و غيرهم على كثرتهم و اختلاف فنونهم و علومهم لم يزالوا في وضع اللغات و تعيين معاني الألفاظ يتمسكون بأقوال أهل اللغة و يرجعون الى الكتب المدونة فيها و إن كان مصنفوها من الفسقة و ليسوا بعدول و لا بررة، و قد حكي هذا الإجماع عن جدي كاشف الغطاء و السيد محسن الكاظمي و السيد المرتضى و العلامة و السبزواري و الطباطبائي و غيرهم. و الأئمة (ع) قد أمضوا هذه السيرة فإنها كانت في زمانهم، فان الخليل بن أحمد كان في زمانهم و هو مرجع من مراجع أهل اللغة و قد ألف كتاب العين في اللغة و هكذا كان مثل سيبويه و الكسائي و أضرابهم من علماء اللغة في عصرهم عليهم السلام، و أمير المؤمنين (ع) هو علّم أبا الأسود الدئلي النحو و أمره أن يعلّم الناس، و لعل عصور الأئمة المتأخرة من أعظم عصور ازدهار علوم اللغة العربية، و لا ينكر معروفيتها في زمانهم (ع) و الرجوع الى أربابها في أيامهم إلا مكابر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 82

لا اطلاع له بحقائق التاريخ و مسلماته و لم يحصل الردع منهم (ع)، و هذا أدل دليل على تقريرهم لحجية قول اللغوي و إمضائهم له. و الغريب من بعضهم من أهل العصر في شرحه على

الكفاية منع من ثبوت إمضاء الشارع لهذه السيرة، و ان الثابت هو العدم.

و قد أورد على هذا الاستدلال المرحوم الشيخ الأنصاري و غيره بأن المتيقن من هذا الاتفاق هو الرجوع الى اللغويين مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة و نحو ذلك لا مطلقا، ألا ترى ان أكثر علمائنا على اعتبار العدالة في من يرجع اليه من أهل الرجال و بعضهم على اعتبار التعدد، و الظاهر اتفاقهم على اشتراط التعدد و العدالة في أهل الخبرة في مسألة التقويم و غيرها.

و جوابه انه قد عرفت ان هذه المسألة لا ربط لها بالشرعيات حتى يكون الثبوت فيها من باب الشهادة، و لذا لم يلتفت أحد إلى اعتبار شروط الشهادة فيها و أما مسألة علم الرجال و أهل الخبرة فلا ربط له بمسألتنا هذه حيث ان لهما جهة شرعية بخلاف مسألتنا، و لذا أكثر من ذهب في المسألتين إلى التعدد و العدالة لم يشترط ذلك في مسألتنا، كما انه لا نمنع من باب التقليد الأخذ بقول واحد من علماء الرجال لكن لما كان لا يجوز للمجتهد التقليد في مقدمات الاجتهاد كان لا بد له من قيام الحجة عنده على صحة الراوي.

(الثاني) من أدلتهم ان قول اللغوي من الخبر الواحد

، و قد قامت الأدلة على حجية الخبر الواحد.

و فيه ان أدلة حجية الخبر الواحد إنما دلت على قبوله في الأحكام الشرعية المنقولة عن المعصوم (ع) لا في الموضوعات الخارجية كما قررناه في مباحث الأصول.

(الثالث) من أدلتهم هو عموم البلوى باستعمال اللغات و انسداد باب العلم فيها

غالبا لأنها من الأمور النقلية التي لا مجال للعقل فيها فلا طريق لمعرفتها إلا بالمراجعة لكتب اللغة و الأخذ بقول اللغويين في معرفتها لأنه أقرب طرق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 83

الإيصال لمعرفتها. و ربما يقرر هذا الدليل بالنسبة لحجية قول اللغوي في ألفاظ الكتاب و السنة و كلمات الأصحاب بدعوى انه لا طريق إلى معرفة تلك الألفاظ إلا قول اللغوي مع وجود العلم الإجمالي بالتكاليف في مواردها فلو لم يكن حجة فاما أن نحتاط و هو عسر أو نرجع إلى الأصول العملية فيلزم طرح العلم الإجمالي بالتكاليف المتعلقة بتلك الموضوعات فحينئذ لا محيص عن العمل بقول اللغوي لأنه أقرب الطرق.

و جوابه انا لا نسلم انسداد باب العلم فيها لحصول تظافر النقل للمعاني من أهل اللغة، بل الظاهر كما أفيد عدم الحاجة الى نقله. ضرورة انك لو نظرت من أول الفقه الى آخره لا ترى لفظا يتوقف معرفة معناه على حجية قوله لأنها بين ما هي واضحة المعنى و هو الأكثر و بين ما صار بكثرة النص عليه مقطوعا بمعناه كلفظ الصعيد و الطهور و ما أشبهها و بين ما لم يوقف له على معنى بتمامه فاقتصر على القدر المتيقن منه كلفظ الغني و ما أشبهه، و اما ما عدا متن اللغة فهو واضح المعنى مع انا لا نسلم الحرج في الاحتياط فيما لم نعرف معناه و لا طرح العلم الإجمالي بالرجوع للأصول لقلة ذلك مع ان

قول اللغوي ليس بأقرب الطرق و إنما الظن هو أقرب الطرق فيكون العمل عليه و لو حصل من طيران الغراب.

(الرابع) من أدلتهم انه من أهل الخبرة و أهل المعرفة

، فالرجوع اليه يكون من باب الرجوع الى أهل الخبرة و من باب رجوع الجاهل الى العالم و قد قامت السيرة العملية على صحة الرجوع لأهل الخبرة في كل فن و علم من دون حاجة لتعدد الشهادة، و لا اعتبار العدالة.

و دعوى أن اللغوي لا يكون من أهل الخبرة كما صدر ذلك عن المرحوم الآخوند في كفايته، و استدل لهذه الدعوى بعض أساتذة العصر في تقريراته بأن إخباره عن حس لا عن حدس و إعمال رأى و نظر. و الرجوع لأهل الخبرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 84

يكون في الثاني، و اما الأول فبابه باب الشهادة، غير صحيحة فإن علماء اللغة خصوصا المتقدمين منهم قد جدوا و اجتهدوا في معرفة مداليل الألفاظ و تركيبها، و لاحظوا حتى شواذ اللغة، و أخرجوا تلك القواعد و المعاني للغتهم بسهر الليالي و تعب الأيام باعمال نظرهم و حدسهم إذ هم لم يروا الواضع و لم يسمعوا منه و إنما استنتجوا ذلك بالآثار و العلامات. على أن الاخبار عن حس لا يخرج المخبر عن كونها أهل خبرة، فان الصيدلي الذي يخبر عن الدواء يخبر عن حس مع انه من أهل الخبرة، و هكذا الرجل العارف بالطرق و المنازل أو مواقع العبادة في المساجد كمسجد الكوفة يخبر عن حس مع انه يرجع اليه باعتبار انه من أهل الخبرة.

الأدلة على عدم حجية قول اللغوي
اشارة

و قد استدل من قال بعدم حجية قول اللغوي بأمور:

(الأول) انه لا يؤمن من علماء أهل اللغة تعمد الكذب لتحاسدهم

و تنافرهم من جهة قرب الأمراء، كما تشهد بذلك قصة سيبويه و الكسائي و قصة الأصمعي في معنى الخنفشار ورد صاحب القاموس على الصحاح ورد الجاسوس على القاموس، كما يحتمل في حقهم السهو و التقصير في التتبع و البناء على القياس و قد نقل عن المازني ان ما قيس على كلام العرب فهو منهم. و نقل عن بعضهم زيادة الألفاظ في اللغة. و حكي عن ابن جني ان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فتشاغلت العرب عنه بالجهاد فلما رجعوا عنه راجعوا الشعر و قد هلك أكثر العرب و لا كتاب هناك يرجع اليه. و عن يونس و أبي عمر: ان ما انتهى إلينا ليس مما قالت العرب إلا أقله. و قيل: أجل ما صنف في اللغة كتاب العين مع ان جمهور اللغويين أكثروا من القدح فيه.

و جوابه ان هذا إنما يرفع حصول العلم بقوله لا أن يرفع حجيته الثابتة بالإجماع و برجوع الجاهل الى العالم و لأهل الخبرة. على ان النقل المذكور لا دليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 85

على صحته حتى يعتمد عليه.

(الثاني) من الأمور التي استدلوا بها على عدم حجية قول اللغوي

انه يشترط في حجية ما كان حجة من باب الطريقية عدم العلم الإجمالي بكذب بعض مصاديقه إذ حينئذ يقع التعارض و تسقط أطرافه من الحجية، و نحن نعلم إجمالا في الألفاظ التي ذكروا لها معاني متعددة بعضها من قبيل المجاز و بعضها من قبيل الاشتراك المعنوي و بعضها ليست بمعاني أصلا.

و جوابه ان هذا العلم الإجمالي موجود في سائر الطرق الظنية حتى في الاخبار، فلو كان مضرا بالحجية لكان مضرا في الجميع، فان بناء العقلاء و السيرة قد وقع مع هذا العلم الإجمالي الكبير

فلا بد من عدم منافاته للحجية مضافا لخروج أغلب أطرافه عن محل الابتلاء.

(الثالث) من أدلتهم انه لا يميز بين الحقيقة و المجاز

بل كتبهم مشحونة بالمعاني الحقيقية و المجازية لألفاظ اللغة فكيف يصح الاعتماد عليه في معرفة المعنى للفظ.

و جوابه مضافا الى ان هذا إنما يختص بالرجوع لبعض كتب أهل اللغة و لا يتوجه للغوي الذي يميز بين المعاني الحقيقية و المجازية كما ينقل عن الزمخشري في أساس اللغة انه ميز بين المعنى الحقيقي للفظ و بين المجازي له، و مضافا الى انه يختص بعلم متن اللغة دون علم النحو و الصرف و المعاني و البيان فإنهم لا يذكرون للهيئة المعنى المجازي. و مضافا الى انه لا نسلم ذلك في الأوضاع المتجددة كالاعلام الشخصية و الاصطلاحات العرفية فإنهم لا يذكرون إلا المعاني الحقيقية لها أنه خروج عن محل البحث إذ كلامنا فيما لو نقلوا المعنى الحقيقي لا فيما كان بناؤهم على استقصاء المعاني الحقيقية و المجازية. نعم قد يستفاد من أهل اللغة ممن كان بناؤه على استقصاء المعاني الحقيقية و المجازية من تعبيره بأن اللفظ لكذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 86

انه موضوع له، و من قولهم: يقال لكذا و يطلق على كذا و يجي ء لكذا، انه مجاز فيه، كما انه يستفاد منهم ان المعنى الأول الذي يذكرونه للفظ هو معنى حقيقي، إذ يستبعد أن يذكرون المعنى المجازي مقدما على الحقيقي، كما انه يمكن بمعونة القرائن الخارجية أن يميز المعاني الحقيقية من المجازية التي يذكرونها كما انه قد يستفاد منهم كون المعاني المذكورة في كلماتهم من أفراد حقيقة واحدة باعتبار لزوم الاشتراك اللفظي المرجوح.

(الرابع) من أدلتهم: إن اللغوي مستند في دعواه الى مقدمتين:

إحداهما حسية و هي مشاهدته استعمال اللفظ في المعنى، و الثانية إجراء أصالة الحقيقة كما صنع بعضهم في إثبات كون صيغة افعل حقيقة في الوجوب و الندب و المقدمة الثانية

باطلة لأن أصالة الحقيقة لا تثبت كون الاستعمال على نحو الحقيقة و إنما تثبت ان المراد هو المعنى الحقيقي.

و جوابه ما ذكره استاذنا المشكيني (ره) في ان المعلوم من ديدن أهل اللغة هو الرجوع الى مشاهدة الاستعمال و اجراء علامات الحقيقة و قد وقعت السيرة على الأخذ بقولهم و استنتاجاتهم شأن سائر العلماء في سائر العلوم.

و مجرد احتمال ذلك في أهل اللغة لا يسقط حجية كلامهم فإنه مثل احتمال خطأهم.

(الخامس) من أدلتهم: إن الآيات الناهية عن اتباع الظن

و غير العلم تكون رادعة للسيرة و بناء العقلاء على الأخذ بقول اللغوي.

و جوابه ان التمسك بعموم تلك الآيات و الأخبار يلزمه إسقاط سائر السير القائمة في الموارد الخاصة مع ان التمسك بها يكون على وجه دائر لأن المنع من العمل بالسيرة على الأخذ بقول اللغوي بتلك الآيات مبني على ردعها عن كل سيرة و ردعها عن كل سيرة لازمه الردع عن السيرة على حجية الظهور و الردع عن السيرة على حجية الظهور لازمه عدم حجية ظهور تلك الآيات و الروايات إذ لا دليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 87

حجية ظهورها إلا السيرة و إذا لم تكن حجية لظهورها فلا دلالة لها على المنع من حجية السيرة على حجية قول اللغوي إذ لا دلالة لها حينئذ معتبرة على ذلك.

التحقيق في المقام

(انه لا يجوز للمجتهد أن يأخذ بقول اللغوي و يجوز للعامي ذلك) قد ظهر لك حجية قول اللغوي مع سلامته عن الاستشهاد أو البناء على ما لا يدل على دعواه و عدم العلم بوجود معارض له و عدم العلم بتعمده على الكذب و المسامحة. مع الاستفادة من قوله كون اللفظ موضوعا للمعنى كما قدمنا ذلك ص 81 إلا ان الظاهر ان حجيته من باب التقليد فإنه نظير ما إذا رجع الإنسان للعالم بالجواهر أو الصناعة أو الطبيب و عمل بقوله فإنه لا يكون بذلك مجتهدا في علم الجواهر و الصناعة و الطب و إنما يكون مقلدا لهم، لأن التقليد هو المتابعة للغير و الأخذ بقول الغير، و لذا لا يصح متابعة من أخذ بقولهم ما لم يكن عالما بالفن. و لا الأخذ بقول الفيلسوف في العقيدة مع انه من أهل الخبرة لأنه

تقليد و التقليد لا يجوز في العقائد.

إذا عرفت ذلك فيجوز للعامي أن يرجع لقول اللغوي في معرفة فتوى مقلده و لا يجوز للمجتهد الأخذ بقول اللغوي عند استنتاج الحكم الشرعي لأنه تكون من مقدمات الاستنتاج مقدمة تقليدية و النتيجة تتبع أخس المقدمات كيف و لو صح ذلك لصح للمجتهد أن يقلد الأصولي في مسائله لأنه يكون الرجوع اليه رجوع لأهل الخبرة و لا يتكلف عناية البحث و الجدل و هكذا في باقي العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد، و هكذا لا ينفعه الاجتهاد لتحصيل المعنى اللغوي إذ لم يحصل العلم العادي بذلك، إذ لا دليل على اعتبار الاجتهاد المذكور و لا دليل على حجية الظن الحاصل بواسطته بل لا بد له من حصول العلم العادي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 88

بوضع المادة أو الهيئة للمعنى اما بنقل جماعة من علماء اللغة يحصل له العلم العادي كما يحصل العلم العادي بالمسألة الفقهية من إرسال جماعة لها إرسال مسلمات أو برجوعه للشواهد أو للعرف أو تتبع موارد الاستعمال و استقرائها مع أصالة عدم النقل الى غير ذلك.

و الحاصل انه لا يجوز للمجتهد الاعتماد على قول اللغوي في فتواه لأنه يكون مقلدا. قال الوحيد البهبهاني (ره): ان استناد المجتهد الى قول علماء الرجال و اللغة و أمثالهما ليس تقليدا لأنه لا يستند بمجرد قولهم حتى يكون تقليدا بل يبذل الجهد في ان له معارض أم لا فاذا وجد المعارض يبذل جهده في الترجيح و الجمع و يبذل جهده في معرفة كون الترجيح و الجمع حجه أم لا و بعد معرفة الحجية يبني عليها و إذا لم يجد المعارض يبني على أصل العدم و الظاهر. و كونهما

حجة و كذا كون الاستناد إلى أقوال هؤلاء حجة فاذا علم حجية الكل يعمل فهذا ليس بتقليد له- انتهى. و الذي يسهل الخطب ما عرفته ص 83 سابقا من عدم الحاجة الماسة إلى البحث في اللغة لعدم الاحتياج إليها في سائر الموارد إلا ما قل و ما يحتاج اليه الفقيه قد أشبع فيه الكلام علماء الفقه كلفظ الغني و الصعيد أو الأصولي كصيغة افعل أو مثل الاستثناء المتعقب للجمل بل العلماء رحمهم اللّه حاولوا في كل استنتاج يتوقف على معرفة معنى اللفظ أو على قاعدة نحو أو صرف أو معاني أو بيان ان يتعرضوا لها مفصلا على نحو يحصل العلم العادي بها نفيا أو إثباتا.

(ثالث الجهات) التي يتعرض لها هنا انه يكفى معرفة مقدار الحاجة من العلوم العربية في الاجتهاد

و لا يلزم معرفة جميع مسائل العلوم العربية لأن تعلم العلوم العربية كان لأجل الاجتهاد و من باب المقدمة له فما لم يتوقف عليه الاجتهاد لم يكن مقدمة له فيكون أجنبيا عن الاجتهاد.

(رابع الجهات) التي يتعرض لها هنا انه لا يشترط في معرفة مقدار الحاجة من علوم العربية أن تكون معرفته فعلية و حالية

بل يكفي ان تكون له قوة قريبة على تحصيل معرفته بحيث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 89

متى احتاج الى شي ء من العلوم المذكورة استخرج حكمه و لو بالرجوع الى الكتب المعتبرة، لأن المناط في الاحتياج لا يقتضي أزيد من ذلك، فإنه لو احتاج في آية إلى معرفة لفظ أو تركيب و رجع الى الكتب في معرفته و حصل له ما يتوقف عليه الاجتهاد في المسألة صح اجتهاده. و جزى اللّه تعالى الأصوليين و الفقهاء حيث انهم لم يتركوا شيئا مما يحتاج اليه المجتهد العربي في اللغة إلا و تعرضوا له. نعم الغير العربي يحتاج لمعرفة اللغة العربية و قواعدها ليستطيع معرفة الكتاب و السنة و كلمات الأصحاب.

(الشرط الثاني للاجتهاد) تعلم العلوم العقلية

، كعلم المنطق و علم الكلام لتوقف الاجتهاد عليها لتمييز الدليل الصحيح عن غيره بعلم المنطق و توقف استنباطات بعض الأحكام الشرعية على بعض قواعده كاستنباط طهارة الغسالة فيما لو ثبت: «كل نجس ينجس ملاقيه» على قاعدة عكس النقيض و كرد القول ببقاء الجواز بعد نسخ الوجوب باستحالة بقاء الجنس بعد زوال الفصل و دعوى ان بعض مطالب المنطق كسبية و إلا لما احتاج أحد اليه و هذه المطالب الكسبية عرفت من غير علم المنطق و إلا للزم التسلسل فلا بد انها عرفت بالاستدلال الصحيح من دون توقف على المنطق، فكذلك الأحكام تعرف من غير حاجة الى المنطق، فاسدة، فإن علماء المنطق قالوا ان مطالبة الكسبية تؤخذ من مطالبه البدهية فهي تعرف من المنطق.

و اما علم الكلام فتوقف الاجتهاد عليه من جهة توقف استنباطات بعض الأحكام على بعض قواعد علم الكلام من قبح التكليف بما لا يطاق و أن اللّه لا يفعل القبيح فلا يخاطب

بماله ظاهر و يريد خلافه و ابتناء بعض مسائل الفقه على ابطال الدور و التسلسل و قاعدة اللطف و ترجيح المرجوح على الراجح و الترجيح بلا مرجح و الواحد لا يصدر منه إلا الواحد و غير ذلك مما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 90

مذكور في علم الأصول، و كما سيجي ء في مسألة تجزي الاجتهاد من توقفها على مسألة ان الملكة من العوارض النفسانية الغير القابلة للتجزي، بل الحق ان الاجتهاد يتوقف حتى على الاعتقاد بوجود الصانع و وحدانيته و بالنبوة و بصدق اللّه تعالى و رسوله، بمعنى انهما محفوظان من الكذب عمدا و سهوا، بل يتوقف حتى على الإقرار بإمامة الأئمة (ع) و صدقهم، و ذلك لأن الاجتهاد هو تحصيل الظن بالوظيفة الإلهية، و لا ريب ان معرفة أن هذا وظيفة إلهية متوقف على التصديق بوجوده، و كونها إلزامية متوقف على نفى الشريك الذي يزاحمه في عقاب العاصي. و استفادة الأحكام حيث يكون بعضها من الكتاب لزم معرفة نسبته للّه تعالى و هو موقوف على صدق النبي (ص). كما ان السنة حيث كانت استفادة جل الأحكام منها و أغلبها عن الأئمة (ع) كانت موقوفة على التصديق بإمامتهم و عدم كذبهم (ع)، فاذا لم يصدق بذلك كيف يحصل له الظن بذلك.

و دعوى انه يمكن للكافر استنباط الأحكام من الأدلة بالقواعد المقررة على تقدير صحة هذا الدين، و يقال لو كان هذا الدين حقا فحكمه كذا حتى لو اعتقد بالبطلان فلو آمن و تاب و كان مستفرغا وسعه لصح عمله برأيه و تقليد الغير إياه، فاسدة، إذ لا يمكنه أن يحصل الظن المعتبر بكون هذا حكم اللّه تعالى إلا مما هو حجة عنده،

فان الدليل ما لم تثبت دليلته لم تكن له نتيجة و المفروض عدم تصديق الكافر بتلك الأدلة و إنما ذلك يكون فهما فرضيا لا فهما حقيقيا لحكم شرعي و دعوى انه يمكن عدم الإقرار بالإمامة للأئمة (ع) مع الاعتقاد بصدقهم في إسنادهم الحكم للرسول (ص)، كما ان الكثير من العامة لا سيما الشافعية منهم يعتقد بصدق الأئمة (ع) و ولايتهم دون إمامتهم، فاسدة، إذ يمكن أن يتعارض قولهم (ع) مع قول أحد الخلفاء الثلاثة فعلي مذهب العامة يقدم قول الخلفاء بلا كلام. و على مذهبنا بالعكس.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 91

إن قلت: ان هذا إنما يثبت انه شرط للاجتهاد المطلق الفعلي الحالي دون الاجتهاد الملكي لإمكان حصول القوة بدون الاعتقاد بذلك.

قلنا: الاجتهاد الملكي على تفسيرنا الذي سيجي ء ان شاء اللّه في مسألة تجزي الاجتهاد من انه ملكة يقتدر بها على استفراغ الوسع لتحصيل الفقيه الظن بالحكم الشرعي، فأيضا يكون شرطا له إذ الظن المعتبر بأن هذا حكم إلهي لا يحصل للكافر المنكر للصانع. نعم هو ليس بشرط للاجتهاد الملكي على تفسير القوم من انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي فإن الدهري المنكر للصانع يمكن أن تكون له هذه الملكة التي يقتدر بها أن يستنبط الاحكام في تلك الشريعة كما يمكن أن يكون لعلمائنا ملكة يستنبط بها الحكم في شريعة اليهود أو النصارى أو عند العامة.

ثمَّ لا يخفى ان ما ذكرناه من الجهات الأربعة في الشرط الأول للاجتهاد جار هاهنا، و المختار هناك هو المختار هاهنا.

(الشرط الثالث) معرفة علم الحديث
اشارة

من حيث الاسناد و الإرسال و الصحة و الضعف و غير ذلك مما بين في علم الدراية و معرفة الراوي من حيث انه عادل أو

فاسق ثقة أو مجروح، و نحو ذلك مما يتكفل بيانه علم الرجال. ضرورة ان أخبارنا المدونة في الكتب الأربعة و غيرها ليست بأسرها معتبرة يصح الأخذ بها فيتوقف تمييز ما يعتبر منها عن غيره على ذلك، و كذا يتوقف تمييز ما هو أرجح سندا عند التعارض على ذلك، خصوصا مع العلم الإجمالي بأن كثيرا من الرواة نقل في حقهم انهم كذابون و لا يمكن تمييزهم عن غيرهم إلا بعلم الرجال و لو كان علم الرجال مستغن عنه لكان المتقدمون أشد الناس استغناء عنه الأقدم فالأقدم لمكان القرب من ظهور القرائن مع انا وجدنا صدور التأليف منهم بذلك في عصور الأئمة الأطهار ففي المحكي عن النجاشي: ان أبا محمد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 92

عبد اللّه بن جبلة الكناني صنف كتاب الرجال و قد مات سنة 219 و هو من الشيعة و تلاه من المتقدمين العياشي و الكشي و حمدويه و ابن نوح، بين من كان في زمن ظهور الأئمة (ع) و بين من كان في زمن الغيبة الصغرى.

و توضيح ذلك و تحقيقه ان حجية الاخبار ان كانت من باب حجية الخبر الواحد العدل فنحن نحتاج الى علم الرجال لتمييز الراوي العادل عن غيره و الضابط عن غيره و المؤمن عن غيره و لتمييز المراد بالاسم المشترك عن غيره الذي هو من أصعب مطالب علم الرجال، و لترجيح أحد الخبرين على الآخر عند التعارض بأعدلية الراوي و نحوها.

(إن قلت): ان علم الرجال لا يثبت الصفات للرواة لأنه ليس من باب الشهادة إذ ليس تتوفر فيه شروط الشهادة كما سيجي ء بيان ذلك ان شاء اللّه في الإيراد الأول على الاحتياج الى علم الرجال و

ليس من باب حجية الخبر الواحد إذ هو ليس من الاخبار بالأمور الحسية و إنما علم الرجال يفيد الظن و الظن ليس بحجة.

(قلنا): المطلوب حصول العلم العادي بصفات الراوي من علم الرجال. نعم الرجوع الى علماء الرجال من باب الرجوع الى أهل الخبرة يكون من التقليد إلا انه لا يجوز للمجتهد بالحكم الشرعي أن يعتمد عليه في مقام الفتوى بالحكم الشرعي لمقلديه للزوم التقليد في فتواه لان النتيجة تتبع أخس المقدمات.

هذا إذا كانت حجية الاخبار من باب حجية الخبر العدل، و اما إن كانت من باب حجية الظن المطلق فان العامل بالظن لا بد له من تحصيل أسباب الظن و أكثر أسباب الظن تعرف بمعرفة الرواة، فإن الخبر بملاحظة حال رواته قد يفيد الظن و قد لا يفيده، فخبر العادل الضابط الإمامي يفيد الظن، و خبر الفاسق الكذاب المفتري لا يورث الظن، و هكذا خبر غير الضابط و إن كان إماميا عادلا فإنه نوعا لا يفيد الظن، فاذن لا بد من ملاحظة حال الرواة لتمييز أحد القسمين عن الآخر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 93

و إن كانت حجية الاخبار من باب إفادتها القطع بأن كان الحجة منها خصوص المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع كما هو المنسوب للسيد المرتضى و ابن زهرة و ابن إدريس (ره)، فالقرائن لا تفيد القطع غالبا إلا بملاحظة حال الرواة و رجال السند و كونهم محترزين عن الكذب، سلمنا لكن لا أقل من احتياج المجتهد لعلم الرجال حال التعارض بين الاخبار للزوم الأخذ بالاعدل و الأورع من مخبري الخبرين المتعارضين إلا إذا قيل بتساقطهما و هو خلاف ما قامت عليه الأدلة.

و إن كانت حجية الأخبار من جهة الاطمئنان بالصدور عن

المعصوم و هو يحصل بعمل المشهور بها كما هو الظاهر من البهبهاني (ره) في حاشيته على المدارك فيحتاج الى علم الرجال في الخبرين المتعارضين إذا كان كل منهما مشهورا هذا مضافا الى ان فتوى المشهور إنما تنفع من جهة كونها توجب الوثوق بالصدور و هي إنما توجب ذلك لو علم استناد المشهور الى الخبر، و في كثير من الموارد لا يعلم استنادهم الى الخبر و لا اعراضهم عنه، فلا بد أن يرجع لعلم الرجال لتحصيل الوثوق بالصدور، و هكذا المسألة الغير المعروفة إذا كانت فيها رواية لزم في تحصيل الوثوق بصدور تلك الرواية من مراجعة علم الرجال لعدم عمل المشهور بذلك و لا يصح الطرح. و قد نسب إلى طوائف، المخالفة في الاحتياج لعلم الرجال و إنكارهم الحاجة إليه (منهم) الحشوية القائلون بحجية كل خبر فإنهم لا يحتاجون الى علم الرجال، لأن كل حديث عندهم معتبر، و لكن مع هذا عند التعارض يحتاجون لعلم الرجال في الترجيح بالأعدلية و الأورعية و الأضبطية، إلا اللهم أن يلتزموا عند التعارض بالتساقط أو التخيير أو الترجيح بغير صفات الراوي من الأعدلية و نحوها، فحينئذ لا يحتاجون الى علم الرجال أصلا و يكون الجواب عنهم أن لا وجه لهذا القول مع ما تواتر عن المعصومين (ع) انه قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 94

دس في أخبارهم و كذب عليهم القالة فلا بد من تمييز الرواة الكذابة عن غيرهم و هو لا يحصل إلا بعلم الرجال.

و (منهم) القائلون بعدم حجية الخبر الواحد بدعوى قطعية الأحكام من الكتاب و الإجماع و الأخبار المتواترة أو المقترنة بالقرائن المفيدة للقطع و هو المذهب المنسوب للسيد المرتضى و ابن زهرة و

ابن إدريس، و قد عرفت ص 93 احتياج أهل هذا الرأي إلى علم الرجال.

و (منهم) الأخباريون المدعون لقطعية الصدور في كتب الأخبار المعتبر أصحابها أو خصوص الكتب الأربعة المعروفة الكافي و من لا يحضره الفقيه و الاستبصار و التهذيب للمحمدين الثلاثة بل ادعي غير واحد من علمائهم (ره) كالاستر ابادي و غيره في المحكي عنهم قطعية الأخبار سندا و دلالة و تنزل بعض مؤلفيهم و من يميل إليهم كالفاضل التوني في الوافية و غيره بعدم القطعية من حيث السند و الدلالة و ادعى قطعية الاعتبار و قال لا حاجة لمعرفة علم الرجال فيما لا معارض له و ان كنا محتاجين اليه عند التعارض، و سيجي ء إنشاء اللّه تقرير ذلك مفصلا و تحقيق الحق فيه عند الكلام في جواز العمل بالاجتهاد.

و (منهم) المكتفون بتصحيح الغير للخبر أو توثيقه أو ضعفه بأن تقوم البينة على صحة الخبر أو توثيقه كما لو شهد عالمان من علماء الفقه بأن هذا الخبر صحيح أو ضعيف، و لعل جملة من علمائنا المتأخرين اكتفوا بذلك عن مراجعة علم الرجال إلا انه في الحقيقة ان هذا رجوع الى علم الرجال لأن ذلك منهم بيان لحال رواه الخبر على سبيل الاجمال.

و (منهم) القائلون بحجية الخبر المجبور بالشهرة أو المرجحة له فإنه لا يرجعون الى علم الرجال، حتى إن الخبر لو كان صحيحا و أعرض عنه المشهور لا يعملون به، و لو فرض ان الخبر ضعيف و عمل به المشهور صار حجة كما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 95

ديدن الوحيد البهبهاني (ره) في حاشيته على المدارك في العمل بروايات عمل بها المشهور قائلا: ان ضعفها منجبر بالشهرة، ردا على صاحب المدارك

المسقط للرواية بمحض ضعف سندها بحسب القواعد الرجالية مستندا في ذلك على أصله من حجية الخبر المصحح المزكي بتزكية عدلين، و قد تقدم ص 93 وجه الاحتياج لعلم الرجال على هذا المبني.

ما يورد على الاحتياج لعلم الرجال
اشارة

و لقد أورد على احتياج المجتهد لعلم الرجال من غير نظر للطوائف المذكورة بايرادات:

(الإيراد الأول) هو وقوع الاختلاف في معنى العدالة

و عدد الكبائر النافية للعدالة و كفاية الواحد في مقام التزكية، و نحن لا نعلم من أهل كتب الرجال انهم في مقام التعديل على أي معنى فسروا العدالة و هل اكتفوا بتزكية الواحد فزكوا الراوي و هل ارتكاب بعض الأشياء التي هي من الكبائر عندنا ليست عندهم من الكبائر فإن الكبائر قد وقع الاختلاف في عددها. و الحاصل انهم في مقام التعديل أو الجرح لا نعلم انهم بنوا على الآراء الفاسدة في نظرنا أم الصحيحة، فكيف يصح الاعتماد على قولهم في مقام التزكية، هذا مع ان تعديلهم للراوي أخذوه من كتب غيرهم و شهادة الفرع غير مسموعة على أن غيرهم الذي أخذوا منه ذلك لم يعلم عدالته حتى نعلم صحة اعتمادهم عليه، بل قد اعتمدوا على أناس فاسدي المذهب كابن عقدة، فإنه كان زيديا جاروديا على ما نصوا عليه و كعلي بن الحسن بن فضال فإنه كان فطحيا فاسد المذهب، فان علماء الرجال كثيرا ما يعتمدون على أقوالهم في أحوال الرجال، مع ان لازم فساد مذهبهم عدم الاعتماد عليهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 96

هذا مضافا الى ان تعديلات علماء الرجال للرواة و تضعيفهم لهم مبنية أغلبها على اجتهاداتهم و ترجيحاتهم لأن العدالة لا تعرف إلا بالآثار و لا يجوز للمجتهد أن يبني على اجتهاد غيره.

و الجواب عنه: انا لو سلمنا ان ذلك يمنع من قبول شهادتهم في حين حصول القطع لهم بالعدالة. فنجيب بما ذكره علماء الرجال و على رأسهم المرحوم المامقاني (ره) من ان المقصود من علم الرجال هو التثبت و التبين و حصول الوثوق، و لا

ريب ان البحث عن حال الراوي فيه نوع من التثبت، و التعديل له يوجب الوثوق بقوله، و ليس المقصود من علم الرجال تحصيل الشهادة حتى يعتبر في تزكيتهم للراوي ما يعتبر في الشهادة من كونها أصل و من كونها مشافهة و نحو ذلك و لا يعتبر فيه ما يعتبر في حجية الخبر الواحد. و لكن هذا الجواب إنما ينفع على القول بحجية الخبر من باب الظن و الوثوق، و اما إذا قلنا من باب التعبد بخبر العدل، فعلم الرجال لا يثبت صفات الراوي من كونه عدلا أو ضابطا، إذ لا دليل على حجية الظن الحاصل من قول العالم بالرجال، إذ هو ليس بشهادة كما عرفت، و لا تشمله أدلة حجية الخبر الواحد لأنها مختصة بخبر الواحد في الأحكام دون الموضوعات. و العدالة و الضبط من الموضوعات، و لا يجوز للمجتهد أن يرجع لقول الرجالي من باب رجوع الجاهل الى أهل الخبرة لأنه يلزم أن يكون مقلدا في مقدمات اجتهاده. نعم إنما ينفع الرجوع الى أقوال الرجاليين لو حصل لنا العلم العادي منها.

ثمَّ لا يخفى ان اشكال تفسير العدالة يتم لو كان علماء الرجال يقتصرون على قولهم: فلان ثقة أو عدل أو فاسق. و ليس الأمر كذلك بل هم يذكرون أحوال الشخص و دأبه و سيرته و أقواله و أفعاله و أعماله و ينقلون الأحاديث الواردة في حقه فالناظر في ذلك يستطيع أن يستنبط ما يوافق مذهبه. على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 97

أن المعروف عندنا ان الكبائر ما توعد اللّه تعالى عليه بالعقاب في كتابه المجيد و المحكي عن صاحب الكفاية انه لم يجد قولا آخرا لأصحابنا غير ذلك.

الإيراد الثاني: إنا لم نحرز تقارن زمان رواية الراوي مع زمان عدالته

من الرواة ممن

كان على خلاف المذهب ثمَّ رجع و بالعكس، و الكثير منهم لا نحرز انهم على العدالة من زمان بلوغهم الى زمان وفاتهم، فلعله كانت الرواية منهم زمان عدم عدالتهم و كثير منهم كانوا فاسدي العقيدة كبني الفضال، و كانوا يعتمدون عليهم، و كعلي بن أسباط و الحسين بن يسار فإنهم كانوا من غير الإمامية ثمَّ تابوا و علي بن محمد بن رياح الواقفي. (و جوابه) ان ظاهر حال علماء الرجال إذا وصفوا شخصا بالعدالة أو الفسق أو جهل الحال إنما نظرهم الى زمن روايته لا الى زمن آخر و هو كاف في حصول الوثوق بالرواية. و الفاسدي العقيدة إذا كانوا ممن يوثق بهم صح الاعتماد عليهم، مع ان الشيعة كانوا يتجنبون من رجع عن مذهب التشيع و يسمون الواقفية بالكلاب الممطورة، و الأئمة عليهم السّلام نهوا عن معاشرتهم، و حينئذ إذا روى أحد الشيعة عن أحدهم فلا يرويه عنه إلا على وجه الصحة أما بالسماع منه قبل عدوله أو بعد توبته، و لا ينقل عن كتابه إلا الكتاب الذي ألفه قبل العدول أو بعد التوبة، و قد قبل المحقق (ره) في المعتبر رواية علي بن حمزة الواقفي عن الصادق عليه السّلام معللا ذلك بأن تغيره إنما كان في زمن الكاظم عليه السّلام، و قبل العلامة (ره) حديث إسحاق بن حريز الواقفي عن الصادق عليه السّلام لأن انحرافه لم يكن في زمن تأليفه لكتابة.

الإيراد الثالث: ان ملكة العدالة أمر باطني فلا تثبت بالخبر

و لا الشهادة (و جوابه) إن الأمور الباطنية تعرف بآثارها. مضافا الى ما عرفت في جواب الإيراد الأول من ان الأخذ بأقوال علم الرجال ليس من باب الخبر و لا الشهادة مضافا الى أن القول بكون العدالة ملكة، إنما هو للعلامة (ره)

و من تأخر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 98

عنه دون المتقدمين عليه.

الإيراد الرابع: ان علم الرجال علم محرم

لأنه فيه تجسس على أحوال الناس و هو منهي عنه، و هكذا فيه اغتياب بعض المؤمنين و هو محرّم، فليس بمطلوب في الاجتهاد. (و جوابه) ان الأمر بالتثبت يكون مخصصا لأدلة النهي عن التجسس. و الاغتياب. نظير جواز الجرح و التعديل في مقام المرافعات فإنه مستثنى من حرمة الغيبة، مضافا الى أن الأئمة عليهم السّلام جرحوا بعض الرواة و وثقوا البعض الآخر و هذا أدل دليل على جواز ذلك.

الإيراد الخامس: وقوع الاشتباه في أسماء الرواة و كناهم

و آبائهم و ألقابهم، و الغفلة في الأسانيد بسقوط راوي أو اثنين كما حكي عن الشيخ (ره) ان كثيرا مما رواه عن موسى بن القاسم العجلي قد أخذه من كتابه و هو أيضا يأخذ من كتب جماعة فينقل عنهم من غير ذكر الوسائط اتكالا على ذكرها في أول كتابه فينقل الشيخ (ره) عن أحد الجماعة من غير إشارة للواسطة فيظن الاتصال مع ان الواقع كان هو الإرسال و مع هذا الاحتمال فلا أثر لتوثيق الرواة المذكورين في السند لاحتمال سقوط ما هو ليس بعادل و لا ثقة، و في المحكي ان صاحب منتقى الجمان (ره) قد أوضح ذلك و حققه. (و جوابه) ان هذا الاحتمال ينفيه ظاهر اللفظ فان الظاهر هو النقل عن نفس الشخص من دون واسطة فلا يرفع اليد عن هذا الظاهر إلا بالقرينة اللفظية أو المقالية كما ان احتمال السهو و الغفلة منفي ببناء العقلاء في محاوراتهم على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال.

الإيراد السادس: هو اشتراك أسماء الرواة بين العدل و الممدوح

و غيره فإنه مانع عن العلم بالثقة. (و جوابه) ان هذا أمر قليل و غالبا يحصل التمييز بالمميزات و الطبقات و قرائن الأحوال و مع عدم حصول هذا لا يحصل التوثيق في خصوص ذلك المورد لا انه يسقط بواسطة هذا المورد علم الرجال.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 99

الإيراد السابع: دعوى الإجماع على حجية جميع ما في الكتب الأربعة

و أضرابها من الخصال و العيون و العلل و نحوها ممن كان أصحابها من عدول الإمامية، و عليه فلا حاجة لعلم الرجال. (و جوابه) ان هذا الإجماع غير ثابت لرد قسم من أخبارها و عدم العمل بها و مخالفة قسم منها للإجماع و الكتاب ورد جملة من أصحابنا بعض أخبارها حيث لا يعمل إلا بالصحيح ورد جملة منهم ما لم يعمل به المشهور و غير ذلك. نعم هي معتبرة بمعنى ان ما فيها صحيح النسبة لراوي سند الخبر، و ان رواية مؤلفها عن الراوي لسند الخبر ثابتة و إن نسبة الكتب لمؤلفيها ثابتة و ليس معنى ذلك ان الخبر الذي سنده ضعيف يكون معتبرا.

الإيراد الثامن: ان الاحتياج لعلم الرجال إما لاعتبار صفة في الراوي

من الإسلام و الايمان أو عدالة أو ضابطية أو نحو ذلك كما لو بنينا على حجية خبر العدل الضابط، فهو غير صحيح لما قد عرفت إن قول الرجالي ليس بحجة لا من باب الشهادة كما تقدم في الإيراد الأول، و لا من باب حجية خبر الواحد لأنه إنما يكون حجة في الأحكام دون الموضوعات، و لا ريب ان الاخبار بصفات الراوي من الاخبار بالموضوعات، نعم ربما يكون حجة من باب كونه من أهل الخبرة و لكن لا يجوز للمجتهد أن يعتمد في فتواه عليه لأن الرجوع لأهل الخبرة تقليد، و لا ريب انه لا يجوز أن يكون التقليد من مقدمات الاجتهاد و الفتوى لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات. و اما ان يكون الاحتياج الى علم الرجال من جهة تحصيل الظن و الوثوق بالصدور كما لو بنينا على حجية الخبر الواحد المظنون صدوره أو الموثوق صدوره فهو غير صحيح كما ذكره صاحب مناهج الأصول لأنه إنما يتم لو لم يكن يحصل من

غير علم الرجال الظن أو الوثوق بالصدور. و الأخبار المأخوذة من الكتب المعتبرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 100

لما كانت معلومة الانتساب لمؤلفيها و كان مؤلفوها من أهل الايمان و التقوى و المعرفة بصحة الخبر و سقمه و التمكن من تمييز الخبر الصحيح عن غيره مثل الكتب الأربعة و كتاب الخصال و علل الشرائع و العيون و الاحتجاج كانت الأخبار الموجودة فيها موثوقا صدورها لكون أربابها ممن سهروا الليالي و أفنوا الأيام في تمييز الأخبار الصحيحة عن غيرها فاثبتوا فيها ما صح عندهم بعد ان هذبها المتقدمون على المحمدين الثلاثة في مدة تزيد على الثلاثمائة سنة و ضبطوها خوفا من تطرق النسيان، و قد عرضوا بعض الكتب على الصادق عليه السّلام ككتاب عبد اللّه بن علي الحلبي فاستحسنه، و على العسكري عليه السّلام ككتاب يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان فأثنى عليهما و كانوا عليهم السّلام يوقفون شيعتهم على الكذابين و يأمرونهم بمجانبتهم، و بالجملة من اطلع على اهتمام أصحابنا بالأحاديث يحصل له الظن أو الوثوق بما دونوه مع ملاحظة أن أصحاب هذه الكتب المعتبرة كلهم عدول ضابطون و كانوا في زمان يكثر فيه القرائن بل يمكن تحصيل القطع لهم غالبا لما بأيديهم من الكتب المعروفة على الأئمة عليهم السّلام و يريدون أن تكون كتبهم مرجعا للناس و دستورا يعمل به مع قرب زمانهم من زمان الحجة عليه السّلام فقد كان الكليني (ره) مخالطا للسفراء عشرين سنة و كان متمكنا من استعلام حال الروايات من الحجة عليه السّلام بل من العسكري عليه السّلام كما قيل فحينئذ يحصل للإنسان بملاحظة ما ذكرنا الوثوق بصدور ما في الكتب المعتبرة أزيد من شهادة

علماء الرجال بالعدول. لا سيما إذا ضممنا الى ذلك دعوى الإجماع من الشيخ الطوسي (ره) و غيره على العمل بهذه الأخبار، ففي المحكي عنه: إني وجدت الفرقة مجتمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم و دونوها في أصولهم و في المحكي عن شيخنا الشهيد الثاني (ره) في شرح الدراية: ان الإمامية استقرت على أربعمائة مصنف سموها أصولا فكان عليها اعتمادهم فتداعت الحال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 101

الى ذهاب معظمها و لخصها جماعة في كتب خاصة، و أحسن ما جمع منها الكافي و التهذيب و الاستبصار و من لا يحضره الفقيه. و قال البهائي في المحكي عنه: ان قدماءنا قد جمعوا أربعمائة كتاب تسمى أصولا، ثمَّ تصدى جماعة من المتأخرين لجمع تلك الكتب و ترتيبها تقليلا للانتشار و تسهيلا على طالبي تلك الأخبار فألفوا كتبا مضبوطة مشتملة علي الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة كالكافي و من لا يحضره الفقيه و التهذيب و الاستبصار و مدينة العلم و الخصال و الأمالي و عيون الأخبار و غيرها.

و دعوى عدم حصول الظن و الوثوق بصدور روايات كتب مشايخنا لأن فيها ما يعارض البعض بعضا، أو مخالف للإجماع أو الكتاب أو لم يعمل به أحد و كذا نرى بعض المشايخ لم يعمل بما في كتاب آخر أو يرده. فاسدة لأن ما ذكر لا يمنع من الصدور إذ الدواعي للأئمة عليهم السّلام لصدور الأخبار المنافية كثيرة. على أن لبعض الأحاديث معاني و تأويلات قد لا تصل إليها أفهامنا كما ان عدم العمل قد يكون من جهة الدلالة أو العثور على معارض أرجح في نظره.

و دعوى ان من أحاديث تلك الكتب المعتبرة ما قد صرح مؤلفه بوهنه

و ضعفه فكيف يكون الجميع صحيحا، و قد صرح المحدث البحراني (قده) فيما يزيد على أربعين موردا من كتابه بأن الصدوق لم يلتزم في أثناء الكتاب بما وعد به في أوله من أنه لا يورد في هذا الكتاب إلا ما يحكم بصحته. فان من لاحظ هذا الكتاب يرى كثيرا ما يورد الصدوق خبرا و يفتي بخلافه. فاسدة لأن مرادنا من صحة الجميع هو صحة جميع ما فيها إذا لم يكن دليل من الراوي على ضعفه، و إلا فالأمر فيه واضح بل تصريحهم في بعض المواضع ببعض نواحي ضعف الحديث قرينة على خلو ما لم يصرحوا به عنها، نعم المتقدمون على زمن تأليف تلك الكتب المعتبرة يحتاجون الى علم الرجال لمعرفة حال الرواة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 102

و لكثرة الكذابين في زمانهم.

فتلخص ان من نظر إلى الكتب المعتبرة و زمانها و تورع أصحابها و الإجماعات المتقدمة يحصل له الوثوق بصدور ما فيها من الأخبار أزيد من ملاحظة علم الرجال. فكيف يعقل أن يكون قول الكشي فلان عدل يوجب الوثوق بالصدور، و قول الكليني (ره) بأن الخبر صحيح أو حجة بيني و بين اللّه لا يوجب ذلك. هذا إذا كان احتياج علم الرجال من جهة تحصيل الظن أو الوثوق بالخبر. و أما إذا كان احتياج علم الرجال من جهة الترجيح في مقام التعارض بالأعدلية، و الأوثقية، و الأصدقية فهو أيضا باطل، إذ كما عرفت أن قول الرجالي ليس بحجة شرعية حتى يثبت به ذلك. على انه لم يكن الترجيح بالأعدلية و الأوثقية و غيرهما من صفات الراوي إلا لروايتين إحداهما لا دخل لها بعلاج تعارض الخبرين و إنما هي لتعارض الحاكمين و الأخرى

لا حجية لها كما ذكر ذلك في مبحث التعارض.

و الجواب عن هذا الإيراد أنا نختار حجية خبر العدل، و علم الرجال إنما يفيد القطع العادي بصفات الراوي نظير ما ذكرناه في حجية قول اللغوي.

و أنا نختار حجية خبر الواحد من باب الظن أو الوثوق، و لكن مجرد وجود أمارات الصحة لمؤلفي الكتب المعتبرة لا توجب الظن لنا بصدور ما رووه في كتبهم فإن معرفة صحة الحديث كمعرفة صحة الفتوى من المسائل الاجتهادية، فكما إن فتوى أحد الفقهاء مستندة الى رواية لا يوجب الظن بصدور هذه الرواية مع اعتماد ذلك الفقيه عليها كذلك وجودها في تلك الكتب، كيف و قد رد بعضهم على بعض، فقد رد الشيخ الطوسي (ره) في التهذيب بعض أحاديث الكافي و رماها بالضعف و جهل حال الراوي كما في باب المحتلم الخائف على نفسه من البرد و ناهيك في ذلك طعنه (ره) على اخبار عدد أيام شهر رمضان مع رواية الكليني (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 103

و الصدوق لها، و قد طعن الشيخ المفيد (ره) في رسالته فيها برمي بعض رواتها كمحمد بن سنان و غيره بالضعف و الحاصل ان رد الصدوق (ره) على الكليني ورد الشيخ المفيد (ره) و الطوسي (ره) عليهما مع قرب العهد بينهم مما يدل على عدم حصول الوثوق بمجرد الرواية في كتبهم و لو كان تكفي الصحة عند صاحب الكتاب لما صح طرح شي ء من الأخبار المروية فيه و انك لتجد في كتاب التهذيب من الطرح و التضعيف لروايات الكتب ما شاء اللّه، ففي ج 1 ص 220 من طبع إيران ضعف رواية الكافي في باب زكاة الحنطة و الشعير حيث قال: فان هذين

الخبرين الأصل فيهما سماعة الى أن قال: و هذا الاضطراب في الحديث مما يضعف الاحتجاج به، و فيه أيضا ج 1 ص 268 طبع إيران المنع من الاحتجاج برواية الكافي. و قال الصدوق (ره) في كتاب الفقيه ج 4 ص 151 طبع النجف في باب الرجلين يوصي إليهما فينفرد كل واحد منهما بنصف التركة ما هذا لفظه: و في كتاب محمد بن يعقوب الكليني عن أحمد بن محمد الى أن قال:

و لست افتي بهذا الحديث بل افتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليهما السّلام. نعم لو استند جماعة من الفقهاء إلى الرواية أو نقلها غير واحد من الكتب المعتبرة حصل الوثوق بصدورها. و عليه إذا كانت الرواية في الكتب المعتبرة قد أفتى بها بعضهم و أعرض عنها آخرون لضعف في سندها و عدم حصول وثوق بها كان على الفقيه مراجعة علم الرجال لمعرفة سندها و التأكد منه، على ان قسما من الروايات منقولة من كتب خاصة ليست بأيدينا لم نعلم أن أصحابها كانوا يروون ما يعتقدون صحته أم لا. نعم لنا وثوق بنقل أرباب الكتب المعتبرة عمن روى لهم ذلك لا بصدور الرواية عن المعصوم عليه السّلام، على ان العلم الإجمالي بوجود روايات مكذوبة على الأئمة عليهم السّلام أو وقوع السهو فيها و الاشتباه، بين هذه الروايات في الكتب المعتبرة لا ينحل إلا باعتبار تحصيل الظن بالصدور من غير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 104

جهة رواية الكتب المعتبرة لها إذ من هذه الجهة متساوية في الظن بالصدور فيسقط اعتباره. على انا نقول: ان الوثوق و الظن لا يحصل بمجرد رواية الكتب المعتبرة للخبر لأنا رأيناهم يعتمدون على كثير من المراسيل و

الروايات الضعاف و روايات بعض المخالفين للمذهب و روايات التجسيم و قدم العالم و وقوف الأرض على قرن الثور، فكل رواية لم نطلع على رجالها و نعرفهم انهم محل ثقة لم يحصل لنا الظن بصدورها و لا الوثوق بها. على ان كثيرا من الروايات لم توجد في الكتب المعتبرة بل توجد في كتب أخرى.

و أما الاحتياج الى علم الرجال في مسألة التعارض، فلما أثبتناه فيها من الترجيح بالأعدلية و الأوثقية و نحو ذلك.

(و المقدار المطلوب معرفته من علم الرجال)

هو ما ذكرناه في الجهات الأربعة في الشرط الأول للاجتهاد فإنه جار هاهنا فيكفي معرفة الرجال في الاجتهاد و لو من غير كتب الرجال، و لا يكفي التقليد بتصحيح السند ما لم يحصل العلم العادي بصحته فيما لو بنينا على حجية خبر الراوي الجامع للصفات و ما لم يحصل الوثوق به فيما لو بنينا على حجية خبر الواحد من باب الوثوق بالصدور، و يكفي في معرفة علم الرجال معرفة المقدار المحتاج اليه الفقيه و يكفي في المعرفة هو القدرة القريبة عليها بحيث متى احتاج تمكن من المعرفة و لا يلزم المعرفة الفعلية.

(الشرط الرابع للاجتهاد) معرفة علم الأصول
اشارة

و ذلك لأن الاجتهاد كما عرفت استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي، و من المعلوم ان علم الأصول هو القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي من دليله، فهل يعقل ان يستطيع من يريد ان يستفرغ الوسع لتحصيل الظن ان يستغني عن تلك القواعد، و هل هو إلا كالداخل للحرب بلا سلاح إلا اللهم ان يكون الوحي ينزل عليه و هذا خارج عن محل البحث، كيف و علم الأصول يعرف به الظن المعتبر بالحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 105

الشرعي الذي يجب على المجتهد تحصيله دون غيره من المظنون و يعرف ما هي الوظيفة عند عدم تحصيله، فهل يعقل ان يستغني المجتهد عن هذا العلم الذي يرتكز عليه الاجتهاد. و كفى دليلا على احتياج المجتهد اليه هو ابتناء نوع مسائل الفقه عليه، فإنك لو راجعت الفقه لرأيت أغلب مسائله مبنية على مسألة أو أكثر في علم الأصول.

و قد تمسك إخواننا الأخباريون في منع اعتبار علم الأصول في استنباط الأحكام الشرعية بأمور:
(أحدها) إن العلوم العربية تغني عن علم الأصول

لتكفلها لبيان مقدمات الاستنباط كمباحث الأمر و النهي و نظائرها، و ما يزيد على ذلك من المباحث المذكورة في علم الأصول لا ربط لها بالاستنباط و ليس صرف الوقت فيه إلا تضييعا للعمر الشريف.

و الجواب عنه واضح ضرورة ان أكثر مباحث علم الأصول لا ربط لها بالعلوم العربية مثل مباحث حجية الأدلة نفيا أو إثباتا و احكام تعارضها و تعادلها و المباحث العقلية كمبحث مقدمة الواجب و اقتضاء الأمر للاجزاء و كون القضاء بأمر جديد، و اجتماع الأمر و النهي و جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط و تحرير مجاري الأصول و غير ذلك من المباحث المهمة. مضافا الى عدم تنقيح علماء العربية للمباحث الأصولية المذكورة فيها و عدم التعارض لمواردها الموجودة في الكتاب و السنة

مع شدة حاجة المجتهد إليها.

(ثانيها) انه لو ترك العبد الامتثال للتكاليف معتذرا بجهله لعلم الأصول

ذمه العقلاء و عاقبه المولى، فليس علم الأصول شرطا لوجوب معرفة الاحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و الا لما صح الذم لأن المقدمة الوجوبية ليست بواجبة. و جوابه ان هذا لو دل على عدم وجوب تعلم علم الأصول لدل على عدم وجوب مراجعة النبي و الأئمة (ع) في تعلم الاحكام لأنه لو ترك العبد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 106

الامتثال للتكاليف معتذرا بعدم مراجعته للرسل المبعوثين و الأئمة المعصومين ذمة العقلاء و عاقبه المولى، مضافا الى أن ذلك من قبيل مقدمة الواجب بالنسبة لمعرفة الأحكام الشرعية و إن كان من قبيل مقدمة الوجوب للاجتهاد مضافا الي أن الدعوى إن الاجتهاد لا تحصل طبيعته إلا بمعرفة علم الأصول فيكون وجوب معرفة علم الأصول تابعا لوجوب الاجتهاد أو عدم وجوبه.

(ثالثها) ان هذا العلم مما أحدثه العامة فتسرى منهم إلى أصحابنا الإمامية

في زمن الغيبة و لم يكن يعرفه أصحاب الأئمة (ع) بل كان المعصوم يحدث أصحابه فيفهمون من قوله (ع) حكم اللّه تعالى من غير توقف لاحتمال معارض أو مخصص أو مقيد، و كان هذا ديدنهم الى زمان العماني (ره) و الإسكافي (ره) و بعد ذلك حدث تدوين الأصول بين الشيعة، فلو لا انه من البدع المستحدثة و الطرق المخترعة الممنوع عنها في الشريعة، لما أهمل بيانه أصحاب الأئمة (ع). و جوابه ان في المحكي عن كتاب النجاشي ان هشام بن الحكم و هو من أشهر أصحاب أبي جعفر الصادق (ع) صنف كتاب الألفاظ و مباحثها و هو من أهم مباحث علم الأصول و ان يونس بن عبد الرحمن صنف كتاب مباحث اختلاف الحديث و مسائله و هو مباحث التعادل و التراجيح. و رواه عن موسى الكاظم (ع) كيف و الأئمة (ع) قد سئلوا عن

احكام التعارض و خبر الواحد و تعيين من له أهلية الفتوى و التقليد، و عن أحكام الشبهات و مجاريها و لقنهم الأئمة (ع) أجوبتها و إنما لم يحتج أصحاب الأئمة (ع) الى كثير من مباحث الأصول خصوصا مباحث الألفاظ لقرب العهد و توفر القرائن و هم من أهل اللغة و المحاورة ثمَّ ان المشافة لها مدخلية في فهم الكلام لا تحتاج إلى إعمال قواعد و لو وقع فيها خفاء أمكن السؤال و لا يقع فيها إضمار و لا إرسال و لا تقطيع و لا تصحيف و لا تشكيك في انها حجة أم لا. ثمَّ عدم تدوين العلم لا يدل على عدم وجوده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 107

رأسا فإن المسائل لكل علم قضايا واقعية تظفر بها العقول فتدون و قد كان أغلب مسائل علم الأصول مركوزا في أذهان المتقدمين و كانوا عليها معولين و بها متمسكين و إن لم تكن مدونة و لا مبوبة. و يستفاد أكثر هذه المسائل من الآيات و الروايات، و قد أتعب نفسه بعض علمائنا السيد عبد اللّه بن السيد محمد رضا الحسيني في كتابه المصباح بجميع جملة من الروايات الدالة على المسائل الأصولية فليراجعه من أراد.

(و المقدار المطلوب معرفته من علم الأصول)

هو ما ذكرناه في الجهات الأربعة في الشرط الأول فإنه المقدار المطلوب هنا فما ذكرناه هناك جار هاهنا فيكفي معرفة علم الأصول و لو من غير كتب الأصول كما يذكر في الكتب الفقهية الاستدلالية المطولة، و لا يجوز التقليد فيها بل لا بد من تحصيل الدليل المعتبر عليها لما عرفته غير مرة من ان التقليد في مقدمات الاجتهاد موجب للتقليد في الفتوى لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات كما انه في كل

مسألة من مسائل الفقه يكفي معرفة ما يحتاجه الفقيه من الأصول كما يكفي القدرة القريبة على المعرفة بحيث متى احتاج تمكن من المعرفة و لا يلزم المعرفة الفعلية. نعم لو أراد أن يجتهد في مسألة فقهية و كانت متوقفة على مسألة أصولية وجب عليه أن يحصل المعرفة الفعلية بتلك المسألة الأصولية ثمَّ يستنبط الحكم من مدركه.

(الشرط الخامس للاجتهاد) التمكن من الرجوع للأدلة على الأحكام الشرعية الفرعية

بأن يقدر قدرة قريبة على معرفة الأدلة المتعلقة بالمسألة التي يريد أن يستنبط حكمها فيستطيع أن يعرف أن هناك آية أو رواية أو إجماع أو دليل عقل يدل على حكمها أم لا، حتى لو كان في غير بابها إلا انه للّه الحمد قد تصدى علماؤنا (ره) الى جمع ما في القرآن الشريف من آيات الأحكام البالغة خمسمائة تقريبا في كتب خاصة مبوبة على أبواب الفقه منها كتاب آيات الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 108

للجزائري، و آيات الأحكام للأردبيلي، و للراوندي، و كفقه القرآن و كنز العرفان و زبدة البيان و غيرها مما قد جمعوا فيها آيات الأحكام فسهل على الإنسان معرفة ما يتعلق بالمسألة من الآيات و هكذا تصدى علماؤنا إلى جمع الروايات المتضمنة للأحكام في كتب الحديث المعروفة، و قد دونوها على أبواب سهل بذلك على الإنسان معرفة كل ما يتعلق بالمسألة من الروايات. و أما الإجماع و العقل فيعرفان بالمراجعة للكتب الاستدلالية الفقهية بل يمكن معرفة ذلك كله من مراجعة الكتب الاستدلالية الفقهية المطولة فقد أغنانا، أربابها رحمهم اللّه عن إتعاب النفس في المراجعة لغيرها شكر اللّه مساعيهم الجميلة.

(الشرط السادس للاجتهاد) الملكة القدسية:
اشارة

و قد عبر عنها الكثير من الأصوليين بقوة رد الفروع إلى الأصول بمعنى معرفة ما اندرج في إطلاق الموضوع أو عمومه مما يخفى اندراجه ككون الملفق من المائين النجسين كرا و كون القادر على دفع العدو بالمال مستطيعا للحج و الاغتسال بما يقرب من الدهن غسلا و المسح بالكف و الماء يتقاطر منها مسحا و من يراوح رجليه في الصلاة مستقرا و ابتلاع النخامة أو الحصاة أكلا فيكون مفطرا و المعاطاة بيعا و نحو ذلك لا سيما تمييز موارد الأصول

بعضها عن بعض. و قال عنها آخرون: هي استخراج الجزئيات من الكليات بمعنى تناول الفروع من مداركها خطابا أو إجماعا أو عقلا. و الظاهر من هذا ان مرادهم بها هو: (الملكة التي يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي عن الأصل) التي تقدم تفسير المتأخرين للاجتهاد بها و إلا فرد الجزئيات الحقيقية الخارجية إلى القواعد الفقهية كمعرفة ان هذا الماء المخصوص كرا للحكم بعدم انفعاله و معرفة ان هذه الجهة قبلة للحكم بجواز الصلاة إليها ليس من وظيفة المجتهد. و الذي يظهر من كلام الفاضل الجواد (ره) في شرح الزبدة هو ذلك، أعني ان المراد بالملكة القدسية هو الملكة المذكورة كما هو ظاهر من عبر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 109

عنها بالقوة الاستنباطية و عليه فيكون مرادهم بشرطية هذه الملكة للاجتهاد هو الاجتهاد الفعلي أعني استفراغ الوسع، و لكن المتأمل في كلماتهم (ره) يظهر له أن مرادهم بالملكة القدسية غير ذلك، لأن الكثير منهم ذكرها شرطا للاجتهاد بالمعنى المذكور أعني بمعنى الملكة فيلزم اتحاد الشرط و المشروط سلمنا انها ليست بشرط للاجتهاد بالمعنى المذكور و إنها شرط للاجتهاد الفعلي إلا انه لا وجه لعدها شرطا للاجتهاد الفعلي في مقابل تعلم العلوم المذكورة فإنها إنما تحصل بحصول العلوم المذكورة التي يتوقف على معرفتها الاجتهاد الفعلي.

فالتحقيق أن يقال: ان ملكة الاجتهاد و القوة عليه القريبة تنحل الى قوتين:

(إحداهما) المكتسبة من معرفة العلوم المذكورة.

(و الثانية) عبارة عن قوة الفهم و شدة الإدراك و مزيد فطنة بضم القواعد بعضها الى بعض و تطبيقها على صغرياتها لاستفادة الحكم الشرعي منها فان نوع الأحكام الشرعية تحتاج في استفادتها من أدلتها إلى معرفة تركيب تلك القواعد تركيبا صحيحا ليستطيع أن

يدرك الحكم الشرعي منها، فمثلا آية (أقيموا الصلاة) يحتاج في استفادة وجوب الصلاة للظهر منها إلى القوة و القدرة على معرفة ان هذه صيغة الأمر لأن الأمر من أقام (أقم) و الخطاب للجمع أقيموا، و إن صيغة الأمر تدل على الوجوب إذا لم يكن معها قرينة على الخلاف و ان هذه الآية من صغريات هذه القاعدة، و إن لفظ الصلاة ليس مستعملا في معناه اللغوي و هو الدعاء، و إن لها إطلاق بالنسبة إلى الظهر و ليس للآية ما ينسخها و لا ما يقيدها بغير الظهر، فهذه أبسط المسائل الفقهية كان استفادتها من هذه الآية الكريمة الواضحة يحتاج الى هذا المقدار من الفطنة و الذكاء و الفهم و الجمع، فكيف بباقي الأحكام الفقهية التي ليس عليها الأدلة لواضحة و البراهين الجلية، فلذا كان المجتهد في الفقه لا بد له من قوة في الفهم و شدة في الإدراك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 110

و مزيد من الفطنة يتناول فيها الفروع من الأصول و الجمع عند التعارض حيث يمكن الجمع الدلالي و الترجيح عند عدمه، و رد الجزئيات الى كلياتها لا سيما الخفية كما تقدم أمثلتها و اجراء قواعد الأصول في الخطابات كقواعد الأمر و النهى، و العموم و الخصوص، و الإطلاق و التقييد، و استفادة الاحكام من الملازمات كباب المقدمة و مسألة الضد و المفاهيم و التعريض و التلويح و الكناية و غير ذلك فهذه تحتاج الى مزيد فطنة و حسن ادراك و هي موهبة إلهية، و لذا وصفوها بالقوة القدسية إذ ليست هي حاصلة لكل أحد. و في المحكي عن الشهيد الثاني (ره) ان هذه القوة هي العمدة في هذا الباب و

الا فتحصيل تلك المقدمات قد صار في زماننا في غاية السهولة لكثرة ما حققه العلماء، و أما تلك القوة فبيد اللّه تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمه و مراده. و لكثرة التوسل باللّه و المجاهدة في ذات اللّه مدخل عظيم في تحصيلها فان من جاهدوا في اللّه تعالى يهديهم سبلهم و اللّه مع المحسنين. و لعل ما في الرواية من اعتبار مخالفة الهوى في مرجع التقليد لأجل تحصيل هذه القوة القدسية، و أما توهم ان المراد بالملكة القدسية هي القوة المكتسبة من شدة الممارسة للاستنباط كملكات الطب و النجارة و نحوهما من الحرف و الصنائع و المكتسبة من ممارسة الأعمال، فهو باطل لصحة الاجتهاد لأول مرة، كيف و هذه مرتبة تحصل بعد تحقق الاجتهاد، فلا يعقل أن تكون شرطا له.

و يورد على اعتبار هذه الملكة (أولا) انه لا شك في اختلاف المجتهدين المعتبرين في المسائل الفقهية و لا بد من أن يكون واحد منهم مصيبا و الباقون مخطئين و لا بد في كون المخطئين فاقدين للملكة القدسية في المسائل التي اخطأوا فيها فيلزم أن يكون المجتهد هو المصيب فقط و الباقون ليسوا بمجتهدين لفقدهم للملكة القدسية التي هي شرط الاجتهاد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 111

و الجواب عنه ان المعتبر هو قوة الفهم و ليس المعتبر مطابقة الفهم للواقع فخطأ المجتهد في المسألة لا يوجب سلب الملكة القدسية عنه كما ذكره بعضهم على ان الاختلاف بين المجتهدين غالبا ينشأ من الاختلاف في المبني.

(و يرد ثانيا) ان اعتبارها ينافي القول بوجوب الاجتهاد عينا أو كفاية لأن المكلف إما أن لا تكون له تلك الملكة فلا يجب عليه الاجتهاد لعدم تمكنه منه،

و إما أن تكون له الملكة و هو لا يعلم بحصولها عنده و هي شرط وجوب لا شرط وجود لعدم قدرة المكلف عليها لكونها موهبة من اللّه تعالى، و مع عدم العلم بالشرط لا يجب المشروط لعدم إحراز التمكن منه.

و جوابه- مضافا الى أن الكثير من الناس من يحرزها عنده- إن الشك في القدرة على العمل و التمكن منه لا يعتني به إذ ما من واجب إلا و المكلف لا يعلم قبل الإتيان به بتمكنه منه واقعا لاحتمال طرو العجز في الأثناء أو عدم القدرة عليه. و لذا أصالة عدم القدرة على العمل عند الإتيان به أو عدم العقل غير جارية، و بناء العقلاء على وجوب العمل مع هذه الاحتمالات.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 111

(و يرد ثالثا) ان اعتبار الملكة القدسية تنافي وجوب التقليد على العامي إذ لا طريق له إلى إحرازها في المدعي للاجتهاد.

و جوابه انها نظير العدالة و معرفة العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد فإنها تعرف بالرجوع لأهل الخبرة و شهادتهم على ذلك، و قد تعرف بالاختبار و المخالطة فان العامي قد يحصل له الاطمئنان بقدرة الشخص على ذلك إذا رأى فيه قوة الذكاء في باقي الأمور.

(و يرد رابعا) ان الاحكام الشرعية اما ان تستنبط من قواعد شرعية كقاعدة الحل و الطهارة، و عدم نقض اليقين بالشك فلا تحتاج إلى الملكة المذكورة و لذا كل عامي يتمسك بها في الشبهات الموضوعية و لم تكن لكل واحد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 112

من

العوام تلك الملكة إذ لو كانت موجودة في الجميع لما كانت شرطا يختص بها بعض الناس، و إما أن تستنبط من الاخبار، و لا يحتاج استفادة الأحكام منها الى تلك الملكة بدليل تقرير المعصومين (ع) معاصريهم من العالم و العامي على العمل بأخبارهم (ع) بمجرد السماع لمن فهمها من دون توقف على حصول شرط آخر و هو الملكة القدسية بل و لا على حصول غيرها.

و جوابه أن استفادة الأحكام من القواعد الشرعية في الشبهات الحكمية تحتاج الى مزيد ذكاء و فطنة ليفحص الأدلة و يحرز دلالتها أو عدم دلالتها على المسألة و هكذا استفادة الاحكام من الاخبار في هذا العصر فإنه يحتاج الى مزيد فهم و فطنة و بصيرة لتعارضها و تخصيصها و تقييدها و تخصصها و إعمال الأصول اللفظية فلا يستغني الإنسان عن الملكة، و هذا بخلاف الملقي للعامي من الامام (ع) فإن العامي إذا القى اليه الإمام (ع) الحكم في مسألته يعلم انه هو حكم مسألته لعدم اختلاف الوارد مع المورد من المعصوم فهو نظير إلقاء الفتوى من المجتهد لمقلده.

(و يرد خامسا)- كما ذكره بعضهم- بأن مصنفي الكتب الأربعة مصرحون بجواز العمل بالأحاديث من دون توقف على ملكة أو غيرها سوى فهم الحديث أما تصريحهم فلقول الصدوق (ره) في من لا يحضره الفقيه بأن وضع هذا الكتاب إنما هو لان يرجع اليه و يعمل بما فيه من لم يكن الفقيه عنده و لتصريح صاحب الكافي بأنه كتاب يرجع اليه المسترشد، و يأخذ منه من يريد علم الدين و العمل به، و لتصريح الشيخ الطوسي (ره) أن تهذيبه يصلح أن يكون مذخورا يرجع إليه المبتدي في تفقهه و المنتهي في تذكره و المتوسط في

تبحره.

و جوابه إنما يلزم جواز الرجوع إليها لمن كان يفهم الأحاديث و مستجمعا لشرائط الاستنباط، فلا يلزم من كلامهم (ره) عدم اعتبار شرائط الاجتهاد التي منها الملكة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 113

ما يعتبر في الملكة القدسية

إن تحقق هذه الملكة و جواز الاعتماد عليها يستدعي أمورا تعرض لها الوحيد البهبهاني (ره):

(الأول) أن لا يكون معوج السليقة و الفهم، فان اعوجاج السليقة آفة للحاسة الباطنة كما ان الحاسة الظاهرة ربما تصير مؤوفة كما تكون بالعين آفة تدرك الأشياء بغير ما هي عليه، أو بالذائقة أو غيرهما كذلك. و الاعوجاج ذاتي كما ذكر، و كسبي باعتبار العوارض مثل سبق تقليد أو شبهة أعجبته، و نظيره نظير الذائقة التي تأثرت بالمرارة فكل شي ء تذوقه تجده مرا و قس عليها سائر الحواس.

أقول: و يناسب ذكره شاهدا على ذلك ما روي: أن في زمان الباقر عليه السّلام كان رجل يسرق و يتصدق به محتجا بقوله تعالى مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا، وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلٰا يُجْزىٰ إِلّٰا مِثْلَهٰا. معتقدا أن عشر حسناته بإزاء سيئة سرقاته، و يبقى له تسعة أعشارها و هي تنفعه و كان يكابر مع الامام عليه السّلام و لا ينتهي بقوله و نهيه. و كذا الرجل الذي في زمان الصادق عليه السّلام يوجب غسل دبره بخروج الريح و منشأ خياله ظاهر و قد بلغ اعوجاج السليقة ببعضهم بدعواه طهارة المني لقوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ. و يحكى أن بعض القضاة حكم بدفن رجل حي شهد الشهود بموته في زمن غيبته و ثبت عنده موته و حكم به زاعما انه ميت شرعا و الميت يجب دفنه شرعا.

و طريق معرفة الاعوجاج هو العرض على افهام الفقهاء

و اجتهاداتهم، فان وجد فهمه و اجتهاده وافق طريقة الفقهاء، فليحمد اللّه و يشكره و ان يجد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 114

مخالفتها فليتهم نفسه، كما ان من ذاق شيئا فوجده مرا فقال له أهل الذوق انه ليس بمر يجزم بأن ذائقته مؤوفة مغشوشة.

لكن ربما يلقي الشيطان في قلبه ان موافقة الفقهاء تقليد و نقص فضيلة فلا بد من المخالفة حتى يصير الإنسان مجتهدا فاضلا، و لا يدري أن هذا غرور من الشيطان و إن حاله حينئذ حال ذي الذائقة المؤوفة حين ما قالوا انه ليس هاهنا مرارة فيقول: أنا أراه مرا و لا اقلدكم و تكونون أفضل مني.

(الثاني) أن لا يكون رجلا في قلبه محبة الاعتراض و الميل اليه بحيث متى ما سمعت شيئا يشتهي أن يعترض عليه أما حبا لإظهار الفضيلة أو أنه مرض قلبي و مثل هذا لا يكاد يهتدى و لا يعرف الحق من الباطل، بل ربما رأينا بعض الفضلاء الزاهدين البالغين أعلى درجة الفضل و الزهد فسد عليه بعض أصول دينه فضلا عن الفروع بسبب هذه الخصلة الذميمة. و قد شبه المرحوم البهبهاني هذا البعض بالكلب العقور.

(الثالث) أن لا يكون لجوجا عنودا فانا نرى كثيرا من الناس انهم إذا حكموا بحكم في بادئ نظرهم، أو تكلموا بكلام غفلة أو تقليدا أو لشبهة سبقت إليهم يلحون و يكابرون لإثباتها من قبيل الغريق (يتشبث بكل حشيش) للتتميم و التصحيح، و ليس همهم متابعة الحق بل جعلوا الحق تابعا لقولهم، و هؤلاء أيضا كسابقيهم لا يهتدون بل ربما ينكرون البدهي و يدعون خلافه، فاذا كان هذا حالهم في البدهيات فما ظنك بالنظريات القطعية فضلا عن الظنية فإن الظن قريب من

الشك و الوهم و بأدنى قصور أو تقصير يزول، لا سيما الظنيات التي وقع فيها الاختلال من وجوه متعددة يحتاج رفعها و علاجها إلى شرائط كثيرة.

(الرابع) أن لا يكون في حال قصوره مستبدا برأيه فإنا نرى كثيرا من طلاب العلم في أول أمرهم في نهاية قصور الباع و فقدان الاطلاع و مع ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 115

هم مستبدون برأيهم القاصر فإذا رأوا كلام المجتهدين و لم يفهموا مرامهم لقصورهم و فقدان اطلاعهم يشرعون في الطعن عليهم بأن ما ذكرتم من أين؟

بل كل ما لا يفهمونه ينكرونه و يشنعون عليه و لا يتأملون ان الإنسان في أول أمره قاصر عن كل علم و كذا عن كل صنعة، و انه ما لم يكد و بجد في الطلب و التعب في تحصيل ذلك لم يحصل له فكيف يتوقع درك الأمور المشكلة العظيمة و الوصول إلى مرتبة المجتهدين، و لم يدر ان من طلب شيئا و جدّ وجد، و من قرع بابا ولج ولج.

(الخامس) أن لا يكون له حدة ذهب زائدة بحيث لا يقف و لا يجزم بشي ء مثل أصحاب الجربزة. و اعلم ان الجربزة يراد بها غاية سرعة الذهن و سرعة الانتقال بحيث لا يثبت على ما يرجحه من شدة سرعة خاطره فينتقل ذهنه الى وجه يرجح ضد ما رجحه أولا و لا يقف ذهنه من شدة سرعته على شي ء و الجربزة هو جانب إفراط الجودة كما ان البلادة جانب تفريطها فالجودة واسطة معتدلة و هي من المكملات كالشجاعة، و لا ضير في تجدد الرأي مع تجدد النظر أحيانا.

(السادس) أن لا يكون بليدا قاصر النظر، قليل الإدراك، لا يتفطن للمشكلات و الدقائق و

يقبل كلما يسمع و يميل مع كل قائل بل لا بد فيه من حذاقة و فطنة يعرف الحق من الباطل ورد الفروع إلى الأصول و يدري في كل فرع يوجد و يبتلي به انه من أي أصل يؤخذ و يجري مسائل أصول الفقه في الآيات و الأخبار و غيرهما في مجاريها و مواضيعها بمقداره و كيفيته.

(السابع) أن لا يكون مدة عمره متوغلا في الكلام أو الرياضي أو الأصول أو النحو أو غير ذلك مما هو طريقته غير طريقة الفقه ثمَّ يشرع بعد ذلك في الفقه فإنه يخرب الفقه بسبب انس ذهنه بغير طريقته و ألفه بطريقة غيره كما شاهدنا كثيرا من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 116

الماهرين في العلوم من أصحاب الأذهان الدقيقة السليمة انهم خربوا الفقه من الجهة التي ذكرناها. قال الوحيد البهبهاني (ره): انه قد يحدث من شدة الأنس بها و الاستناد إليها و الاعتماد عليها الغفلة عن قرائن الحديث مثل ما حقق في علم الأصول من عدم حجية مفهوم الوصف فإنه في كثير من الأحاديث يظهر اعتبار المفهوم باعتبار خصوصية المقام فيعترض عليها بأن مفهوم الوصف ليس بحجة مثل ما ورد في صحيحة الفضل في خيار الحيوان فإنه قال: قلت ما الشرط في الحيوان؟ فقال: ثلاثة أيام للمشتري. قلت فما الشرط في غير الحيوان؟

قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، و هذا كالصريح في تخصيصه بالمشتري و مع ذلك يعترض بأن مفهوم الوصف ليس بحجة.

(الثامن) ان لا يأنس بالتوجيه و التأويل في الآية و الحديث الى حد تصير المعاني المأولة من جملة المحتملة المساوية للظاهر المانعة عن الاطمئنان به كما شاهدنا من بعضهم ذلك، و لا يعوّد نفسه بتكثير الاحتمال

في التوجيه فإنه أيضا ربما يفسد الذهن.

(التاسع) أن لا يكون جريئا غاية الجرأة في الفتوى كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرأة فإنهم يقتلون كثيرا بخلاف المحتاطين منهم و قد قيل ان الجري ء في الفتوى ربما يكون من قبيل قاطع الطريق الى اللّه تعالى.

(العاشر) أن لا يكون مفرطا في الاحتياط فإنه أيضا ربما يخرب الفقه كما شاهدنا ذلك في الكثير ممن أفرط في الاحتياط بل كل من أفرط فيه لم نر له فقها لا في مقام العمل لنفسه و لا في مقام الفتوى لغيره. هذا ما استفدناه من المحقق البهبهاني (ره) و تبعه غير واحد على ذلك و لكن التحقيق ان هذه الأمور المذكورة ترجع كلها الى اعتبار اعتدال السليقة، و استقامة الطبيعة، و حسن الفطنة دون بلادة في الذهن، و شذوذ في التفكير، و اعوجاج في الفهم. و لعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 117

ذلك إنما يحصل بالتوجه نحو اللّه تعالى و التوسل بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله الأطهار فإن العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء كما ان دراسة أحد الكتب الفقهية الاستدلالية الموسعة و الحضور على يد أحد الاساتذة المهرة و المذاكرة في المسائل لها أبلغ الأثر في القوة على الاستنباط و الاطمئنان بحصول الملكة القدسية و القدرة الكاملة على الاستنتاج.

ما يتوهم من العلوم أنها من شرائط الاجتهاد

(منها) علم المعاني و البيان كما هو المحكي عن السيد المرتضى (ره) في الذريعة، و عن الشهيد الثاني في آداب العالم و المتعلم، و عن أحمد بن المتوج البحراني في كفاية الطالب، و علم البديع أيضا كما هو المحكي عن الشهيد الثاني، و الشيخ أحمد بن المتوج البحراني فإن أرادوا بعض مباحثها

كبعض مباحث القصر و الإنشاء و الخبر و الحقيقة و المجاز و أقسام الدلالة و نحوها مما ينفع في الاستنباط فهو حق إلا أن الظاهر ان علم الأصول متكفل لبيان جميع ما يتعلق بالاجتهاد من هذه العلوم و بعبارة أخرى ان هذه العلوم الثلاثة يبحث فيها عن الزائد على أصل المراد فإن المعاني يبحث عن الأحوال التي يطابق بها الكلام لمقتضى الحال كأحوال الاسناد و متعلقات الفعل و القصر و الإنشاء و الفصل و الوصل و الإيجاز و الاطناب و المساواة و ما يتعلق من هذه المباحث في الفقه ذكروه في علم الأصول، و أما علم البيان فإنه يبحث عن إيراد المعنى بطرق مختلفة كالحقيقة و المجاز و ما يتعلق من ذلك بالفقه مذكور في علم الأصول، و علم البديع علم يعرف به وجوه محسنات الكلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 118

و ليس في شي ء من مباحثه شي ء يتوقف عليه الفقه كعلم العروض و التجويد و نحوها و إن أرادوا أن بهذه العلوم يرجح أحد المتعارضين على الآخر بالفصاحة و الأفصحية فهو موقوف على صحة الترجيح بالفصيح على غيره، و الأفصح على الفصيح و هو غير صحيح لما قرره غير واحد من أن بناء الأئمة عليهم السّلام لم يكن في محاوراتهم على التكلم بالأفصح بل كانوا يتكلمون مع الناس على قدر عقولهم و إفهامهم مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس من امبر امصيام في امسفر. و قول علي عليه السّلام في جواب السائل: عن طمش طاح فغادر شبلا عن النشب.

و بالجملة من معجزاتهم إنك إذا تأملت في كل حديث من أحاديثهم ظننت بأن كلام السائل و المسؤول كلام

لشخص واحد و هذا من أقصى درجات البلاغة و الفصاحة فكونهم معصومين لا يستلزم عدم صدور غير الفصيح منهم عليهم السّلام فلا يحصل الظن بصدور الفصيح دون غير الفصيح عنهم عليهم السّلام كما لا يحصل بصدور الأفصح دون الفصيح. فلا يمكن ترجيح أحد الحديثين بسبب فصاحة أو أفصحية (نعم مراتب الفصاحة و البلاغة) متعددة أعلاها البالغ حد الاعجاز و هو مختص بالكتاب الكريم و أنزل من ذلك مرتبة ثانية لا تصدر من غير المعصوم كبعض خطب نهج البلاغة و بعض من أدعية الصحيفة العلوية و الصحيفة السجادية، فاذا تعارض الحديث البالغ لهذه المرتبة من البلاغة مع غيره مما لم يبلغ تلك المرتبة نقدم الأول، كما أن غير الفصيح له مراتب بعضها مما يظن بعدم صدوره من المعصوم، فاذا تعارض هذا الحديث الذي هو في أدنى مراتب غير الفصاحة مع الحديث الفصيح أو الأفصح نقدم الأخير للظن بعدم صدور الأول بناء على الترجيح بمطلق ما يوجب ظن الصدور، أما إذا تعارض إحدى المراتب المتوسطة بين أعلى الفصاحة و أدناها مع مرتبة اخرى هي أيضا غير الأعلى و الأدنى المزبورين لا يمكن ترجيح المرتبة الفائقة على المرتبة النازلة مطلقا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 119

(و أنت خبير) بأن أعلى المراتب في الفصاحة قل ما يوجد في الأحكام الفرعية و محله غالبا في الخطب و الأدعية و كذا المرتبة الدانية من غير الفصيح قل ما توجد في الأحاديث فيمكن أن يقال بعدم توقف الاجتهاد على معرفة العلوم الثلاث فلا تكون معرفتها شرطا للاجتهاد لقلة المرتبة الفصيحة الراجحة المفيدة للظن بالصدور في الأحاديث الواردة في الأحكام و قلة المرتبة الغير الفصيحة المرجوحة المفيدة للظن بعدم صدورها.

مضافا الى انه لو وجد شي ء من المرتبتين في الأحاديث يفهمه كل أحد و إن لم يكن عالما بالعلوم الثلاثة. نعم لا شك في مكملية هذه العلوم للمجتهد لا انها شرط للاجتهاد.

(و منها) علم الهيئة و الحساب و الطب و الهندسة لتوقف بعض مسائل الفقه عليها كمسألة الأهلة المتوقفة على معرفة تقارب مطالع البلدان و تباعدها المترتب عليها معرفة كون أول الشهر في بلد غير ما هو في آخر، و معرفة كون الشهر ثمانية و عشرين لبعض الأشخاص، و كذلك معرفة القبلة المتوقفة على معرفة عرض البلاد و طولها، و كذلك معرفة الزوال المتوقفة على معرفة نصف النهار الى غير ذلك من الأمور المذكورة في علم الهيئة التي يتوقف عليها الأحكام الشرعية، و كمعرفة العيوب من القرن و نحوه. و معرفة المرض المبيح للإفطار على علم الطب، و كمعرفة المواريث و الوصايا و الأقارير على علم الحساب. و لا يخفى أن هذه العلوم إنما تنفع في تشخيص الموضوعات الخارجية الصرفة للأحكام الشرعية و هو ليس من شأن الفقيه و إنما يرجع فيها لأهل الخبرة بل لا يجوز تقليد الفقيه فيها و الرجوع اليه فيها كما سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في مبحث التقليد إلا من باب الرجوع الى أهل الخبرة إن كان منهم. فعلى الفقيه أن يفتي بالصلاة إلى القبلة. اما ان القبلة من أي جهة في هذه البلدة فليس من وظيفته و شأنه، و عليه أن يقول السدس للأم، اما ان مقدار السدس ما هو؟

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 120

فليس بيانه من وظيفته و إنما يرجع لأهل الخبرة.

(و منها) علم الفقه على ما ينسب لجدنا كاشف الغطاء (ره) من أن الاجتهاد

يتوقف على العلم بجملة من الأحكام الفقهية يعتد بها بحيث يعد في العرف فقيها لأن الاجتهاد يتوقف على صدق الفقهية لأخذ الفقهية في تعريفه كما تقدم. و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى الجواب عن ذلك في بحث احكام الاجتهاد في الحكم الأول منها.

(و منها علم التفسير) فقد ذهب بعضهم انه لا بد للفقيه من معرفة هذا العلم لحجية القرآن و وجود الآيات الكثيرة فيه المتعلقة بالأحكام الشرعية و عليه فلا يجب إلا معرفة ما يتعلق بالأحكام الشرعية الفرعية منه و لا يجب معرفة الآيات الدالة على البعث و النشور و القصص و أحوال القرون الماضية و الأمثال الكريمة و للّه الحمد قد ضبط الفقهاء تلك الآيات الكريمة المتعلقة بالفروع و أفردوها بالشرح و البيان في مصنفاتهم المشهورة كآيات الأحكام للجزائري (ره)، و للراوندي (ره)، و الأردبيلي (ره) و فقه القرآن، و كنز العرفان، و زبدة البيان و غيرها من الكتب الموضوعة بهذا الشأن. و لكن التحقيق ان الفقهاء قد أغنوا المجتهدين عن ذلك بواسطة ان كتبهم الاستدلالية قد استوفت جميع الآيات و ذكرتها في مواردها فإنه ليس الواجب حفظها على ظهر القلب، و إنما الواجب التمكن من الرجوع إليها في كل مورد من مواردها و قد تكفل بذلك علماؤنا (ره) في كل مسألة من مسائل الفقه. هذه هي الأمور المعتبرة في تحقق الاجتهاد و عنوان المجتهد و جواز عمله برأيه، و أما الأمور المعتبرة في تحقق عنوان المفتي و المقلد (بالفتح) و جواز الرجوع إليه فسيجي ء إن شاء اللّه تعالى الكلام فيها في مبحث التقليد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 121

تقسيم الاجتهاد

التقسيم الأول إلى مطلق و متجزي
اشارة

قد عرفت ان الاجتهاد هو عملية استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل الظن

بالحكم الشرعي و يسمى عند الأصوليين بالاجتهاد الفعلي كما ان الملكة و القدرة عند الفقيه على ذلك تسمى في اصطلاح الأصوليين بالاجتهاد الملكي، و من هنا جعلوا تعريف الشيخ البهائي (ره) للاجتهاد المتقدم ص 73 تعريفا للاجتهاد الملكي. إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قسموا الاجتهاد الى قسمين: مطلق و هو الاجتهاد في جميع المسائل. و متجزي و هو الاجتهاد في بعضها دون بعض و قد اختلف القوم فيما بينهم أن هذا التقسيم للاجتهاد الفعلي أو الملكي، فإن منهم ما يظهر منه كونه للاجتهاد الفعلي، و منهم ما يظهر منه كونه للملكي و هم الأكثر، لكن الحق أن إرجاع التقسيم إلى الفعلي مما لا وجه له لوجوه:

(أحدها) انه لو ارجع الى الاجتهاد الفعلي لزم أن لا يوجد مجتهد مطلق لعدم وجود شخص اجتهد من أول الفقه لآخره في تمام مسائل الفقه لعدم تناهي مسائل كل علم و عدم إحاطة القوة البشرية بها، خصوصا الفقه الذي تجدد له في كل عصر مواضيع لم يعلم بها من ذي قبل فلا بد من استخراج أحكامها من القواعد الفقهية العامة كالقهوة و التتن و الراديو و التلفزيون و نحو ذلك.

و دعوى إنما يتم ذلك لو أريد بإطلاق الفعلية هو إطلاقها بالنسبة الى ما يمكن تصويره من المسائل، أما لو أريد به المسائل المعروفة المدونة حسب المتعارف فان العالم بهذا المقدار يسمي مجتهدا مطلقا بل يصدق بما دون ذلك فيما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 122

إذا كان عالما بقدر يعتد به.

مدفوعة بأن القوم ليس لهم اصطلاح خاص في المطلق. و التقسيم الى المطلق و التجزي ناظر للحقيقة الواقعية لا انه مبني على المسامحات العرفية.

و دعوى انه يمكن العلم

بالمسائل الفقهية بأجمعها على سبيل الاجمال و الاندراج تحت القواعد العامة المعلومة فيمكن وجود المجتهد المطلق بالاجتهاد الفعلي إلا أنه على سبيل الاجمال لا على سبيل التفصيل.

مدفوعة بأن العلم بالمسألة الفقهية على سبيل الاجمال ليس باجتهاد فيها إذ الاجتهاد فيها هو تفريغ الوسع فيها لتحصيل الظن بحكمها. و لذا قلنا: إن من الاجتهاد أخذ الفروع من الأصول.

(و ثانيها) انه يلزم القائل بعدم التجزي أن لا يعمل المجتهد بمجتهداته قبل أن يجتهد اجتهادا فعليا في تمام الفقه و إن كان عنده الاجتهاد الملكي المطلق و هذا لا يلتزم به القائل بعدم التجزي لأن كل مجتهد تكون اجتهاداته الفعلية تدريجية، بل بعد إتمام النظر و الاجتهاد في تمام الفقه أيضا لا يجوز له العمل بمجتهداته لوقوعها في زمان عدم تحقق اجتهاده لعدم كونه مجتهدا ما لم يجتهد في جميع المسائل فلا بد له من اجتهاد ثاني حتى يجوز عمله، و القائل بعدم التجزي لا يلتزم بذلك.

(و ثالثها) إن مثل المحقق و العلامة و الشهيدين و أضرابهم قد ترددوا في بعض مسائل الفقه، مع ان أحدا لم يستشكل في كون اجتهادهم مطلق و ليس ذلك إلا من جهة حصول الاجتهاد الملكي المطلق عندهم، و حصول المانع من اجتهادهم الفعلي في تلك المسائل لتعارض النص أو لفقده أو لغير ذلك.

(رابعها) انه لو كان التقسيم راجعا للفعلي لزم أن يكون عوام المسلمين بأجمعهم مجتهدين بالاجتهاد المتجزي لعلمهم بكثير من الأحكام بالإجماع و الضرورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 123

كوجوب الصلاة و الزكاة و نحو ذلك لكن لو جعلناه راجعا للملكي لم يلزم ذلك لعدم وجود ملكة الاجتهاد عندهم. و لكن لا يخفى ما فيه فان ذلك لا

يسمى اجتهادا لما عرفت ان الاحكام المذكورة لم يكن فيها اجتهاد لأنه قد أخذ في تعريف الاجتهاد استفراغ وسع الفقيه و هذا العامي لم يستفرغ وسعه في تلك الاحكام.

و قد أورد في الفصول على إرجاعه للاجتهاد الملكي بأن المجتهد المطلق قد يحصل له القطع بالحكم فحينئذ لم تحصل له ملكة الظن بالحكم في جميع الاحكام و فيه ما لا يخفى فان ملكة الاجتهاد لا بد و ان يكون متعلقها الاجتهاد و المفروض ان الاجتهاد هو استفراغ الوسع لتحصيل الظن سواء حصل الظن أم لا فحينئذ معنى ملكة الاجتهاد هو كون الشخص أهلا لاستفراغ الوسع بأن كان ذا قوة على إعمال الأدلة و التأمل في مداليلها و استخراج الفرع منها و رفع معارضاتها و علاج تعارضها باعمال القواعد المقررة لذلك حتى يحصل له الظن بالحكم الفرعي الشرعي و إلا فالمحكم هو الأصول، فليس حصول الظن المذكور في تعريف الاجتهاد داخلا في قوام الاجتهاد و انما هو فائدة تترتب عليه و كان أخذه فيه لتحديد المرتبة من القدرة المعتبر وجودها في الاجتهاد بحيث لو حصل الأدنى منها لم يحصل الاجتهاد، فاذا حصل الاستفراغ المذكور و ترتب عليه القطع فقد حصل الاجتهاد.

و قد يورد أيضا على إرجاع التقسيم للاجتهاد الملكي بأن المجتهد قد يتردد في الحكم كتردد المحقق في شرائعه مع انه لا إشكال في انه مجتهد مطلق فكيف يقال ان المطلق من له القدرة على الاجتهاد في تمام الفقه. و جوابه ما عرفته ان الاجتهاد هو نفس استفراغ الوسع و ملكته هي القدرة على ذلك فكونه قادرا على استفراغ الوسع على تحصيل الظن بالحكم المذكور لا ينافي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 124

انه بعد

الاستفراغ لم يحصل له الظن.

[التعرض لكلام المرحوم الآخند صاحب الكفاية في تجزي الاجتهاد.]

و قد عرف صاحب الكفاية قدس سره الاجتهاد المطلق بما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبرة، و الاجتهاد المتجزي بما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام، و الظاهر ان مراده (ره) «بما يقتدر» هو الملكة فإنها هي التي يقتدر بها على ذلك.

و يرد عليه أولا ان المطلق و المتجزي تقسيم للاجتهاد فيجب ان يكون المقسم محفوظا بينهما لأن التقسيم ضم قيود مختلفة لشي ء واحد و هو المقسم، فاذا كان هذا تقسيما للاجتهاد الفعلي كان عليه ان يقول: الاستفراغ في تمام الفقه اجتهاد مطلق و في بعضه اجتهاد متجزي، و إذا كان تقسيما للاجتهاد بالملكة كان عليه ان يقول: ملكة الاستفراغ في تمام الفقه اجتهاد مطلق. و في بعضه اجتهاد متجزي اما الملكة على الاستنباط فهي غير الملكة على الاستفراغ فإن الأولى ملكة الفقه، و الثانية ملكة الاجتهاد، و لعل نظره الشريف الى ان التعريف لفظي كما بني عليه في سائر المقامات و أن كنا قد خالفناه في هذا المبني لأنها لو كانت كذلك لما رد بعضهم على بعض من عدم كون التعريف جامعا أو مانعا فلا بد ان يكون نظرهم للتعريف الحقيقي لا اللفظي.

و يرد عليه ثانيا، إن من كان يحصل له القطع كالمرتضى و ابن إدريس في الأحكام ليس عنده ما يقتدر به على الاستنباط من الأمارة أو الأصل فليس بمجتهد مطلق مع انه قطعا مجتهد مطلق، لكن بخلاف ما إذا قلنا ملكة الاستفراغ فإنه توجد عنده ملكة الاستفراغ لتحصيل الظن و إن كان يحصل باستفراغه القطع.

و يرد عليه ثالثا: إن الاجتهاد إنما اعتبر بالنسبة للأحكام الواقعية، و لذا أخذ في تعريفه الظن

بالحكم فكيف يجعل (ره) القدرة على الحكم الفعلي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 125

هو ميزان إطلاق الاجتهاد بل كان عليه ان يجعل الميزان هو القدرة على الحكم الواقعي.

و يرد عليه رابعا إن من كان عاجزا عن تحصيل الأمارة أو الأصل مع أنه عنده قدرة على الاستفراغ لكنه لو استفراغ لا يستطيع تحصيل الأصل و لا الامارة فهذا يلزم أن يكون متجزيا مع انه مطلق كما يتفق ذلك لفطاحل أهل العلم كما في مسائل الوديعة التي يلجأون فيها الى الصلح، و مسائل النكاح التي يلجأون فيها الى الطلاق.

إمكان التجزي في الاجتهاد
اشارة

هذا و قد وقع النزاع بين العلماء في إمكان التجزي في الاجتهاد بمعنى حصول الملكة الاجتهاد للشخص بالنسبة لبعض مسائل الفقه دون بعض كما هو شأن أغلب العلوم و الصنائع. و بعبارة أخرى: أنه هل يمكن أن تحصل لشخص ملكة اجتهاد في بعض مسائل الفقه دون بعض على النحو الذي يحصل للمجتهد المطلق بحيث يكون قادرا على استخراج قسم من الأحكام من أدلتها كما يكون ذلك للمجتهد المطلق. و قد استدل على إمكانه بأن مدارك مسائل الفقه مختلفة، فبعضها مدركها النقل و بعضها مدركها العقل، و بعضها سهلة المدرك، و بعضها صعبة المدرك، فيمكن للشخص أن يكون قد حصّل مدارك المسائل النقلية كحجية الكتاب و الخبر، و حجية الظهور، و الجمع بين الظواهر كالعام و الخاص، و اعمال قواعد المعارضة. و مقدار الفحص اللازم لنفي المعارض، ورد الفروع إلى الأصول فحينئذ تحصل له ملكة الاجتهاد في المسائل الفقهية النقلية التي لا علاقة لها بالعقل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 126

كاستحباب القنوت في الصلاة أو أحكام الشك في أجزائها و شرائطها و لم

تحصل له مدارك المسائل العقلية كمسألة اجتماع الأمر و النهي، و اقتضاء الأمر للنهي عن ضده و اقتضاء النهي للفساد و أجزاء الأمر الاضطراري و قواعد العلم الإجمالي و نحو ذلك. و كيف لا يكون ذلك ممكنا و كثيرا ما تكون المسألة الفقهية مبتنية على مسألة أصولية كمسألة بطلان الصلاة في المكان المغصوب المبتنية على مسألة عدم جواز اجتماع الأمر و النهي في محل واحد و تقدم جانب النهي فالشخص لو عرف تلك المسألة الأصولية بأدلتها كانت له ملكة الاجتهاد في تلك المسألة الفقهية (و بعبارة أخرى) ان ملكة الاجتهاد هي القوة القريبة من فعلية الاجتهاد، إما القوة البعيدة فهي حاصلة لكل إنسان و لكنها إنما تصير قوة قريبة بواسطة حصول المقدمات التي يتوقف عليها الاجتهاد الفعلي من العلوم و الانس بكلمات الفقهاء و العلم بالمدارك و ملكة تفريع الفروع على الأصول و لا شك ان هذا المعنى قد يحصل بالنسبة إلى قسم خاص من الفقه دون قسم آخر.

حجة القائلين بإمكان التجزي

و قد يستدل على إمكان التجزي بقاعدة الإمكان لأنه قد برهن في الحكمة على ان كل شي ء ممكن ما لم يقم البرهان على امتناعه و لأن الامتناع كالوجوب يحتاج إلى أمر زائد و الممكن هو ما تساوى طرفاه، و الأصل عدم الأمر الزائد.

و فيه ان المنكر للتجزي قد أقام البرهان على امتناعه و أما قوله: (و لأن الامتناع) فجوابه: إن الامتناع من الأمور الذاتية و هي لا تحتاج لأمر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 127

زائد على الذات فإن الشي ء إذا كان ممتنعا كان ممتنعا من الأزل و إلا فلا، و حينئذ فلا معنى لأصالة عدمه مع ان محل الكلام هو الإمكان الوقوعي و

لذا لم يتكلموا بعد إمكان التجزي عن وقوعه، و إنما تكلموا عن حجيته، و الوقوع محتاج لأمر زائد و الأصل عدمه. و قد يستدل بأن الغالب هو الإمكان و الشي ء يلحق بالأعم الأغلب، و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم ان الأشياء الأغلب فيها هو الإمكان الوقوعي مع ان ذلك لا يفيد إلا الظن، و لا دليل على حجيته و قد يستدل عليه بأنه لو لم يمكن التجزي يلزم أن يتوقف إمكان الاجتهاد في بعض المسائل على إمكانه في جميعها مع ان إمكانه في جميعها متوقف على إمكانه في بعضها ضرورة توقف الكل على أجزائه. و جوابه: ان الخصم يدعي حصول الكل دفعة واحدة لا تدريجا و ان القوة الحاصلة له في بعض المسائل هي ليست باجتهاد، فالاجتهاد المطلق ليس اجزاؤه الاجتهادات في بعض المسائل و إنما هي قوى خاصة.

حجج المانعين من تجزي الاجتهاد الملكي
اشارة

قد منع جماعة عن تجزي ملكة الاجتهاد بوجوه:

(أحدها) ان ملكة الاجتهاد أمر واحد بسيط، و البسيط لا يتجزأ

و جوابه: ان مسائل الفقه لو كانت تنتهي إلى سنخ واحد من الأدلة و المدارك فحينئذ لا يمكن التجزي لأن ملكة الاجتهاد في الجميع واحدة فإذا حصلت قوة الاجتهاد في بعضها حصلت في الجميع، لكن مئاخذ المسائل الفقهية و مداركها مختلفة فكانت ملكاتها مختلفة، و من مجموعها تحصل ملكة واحدة بسيطة في جميع المسائل الفقهية تنطوي فيها تلك الملكات المتعددة انطواء الكثرة في الوحدة نظير العلوم الجزئية الحاصلة بالاستقراء التي تنطوي في العلوم الكلية،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 128

و نظير ملكات صناعة التجارة المتعلقة بأنواعها المنطوية في الملكة على جميع أقسام التجارة، فالمتجزئ يحصل له احدى تلك الملكات دون تلك الملكة المطلقة فتلك الملكات عين تلك الملكة وجودا، و لا ينافي ذلك بساطتها نظير انطواء العلم بالجزئيات في العلم بالكليات مع انه عينه. و إن أبيت عن ذلك فنقول: إن التجزي لم يكن في الملكة و إنما هو في متعلقاتها، فتارة تكون الملكة البسيطة متعلقة ببعض المسائل، و أخرى بجميعها كما أن ملكة الصناعات قد تتعلق ببعض أفراد الصناعة و قد تتعلق بجميع أفراد تلك الصناعة، بل يمكن أن يقال ان الملكة على جميع المسائل الفقهية لا يعقل أن تحصل دفعة واحدة بحسب جريان العادة إلا بعد حصول تلك الملكات على سبيل التدريج، و عليه فلا يعقل أن يصير الشخص مجتهدا مطلقا ما لم يكن أولا متجزيا.

(ثانيها) الإيراد المعروف و هو انه لا يمكن لأحد أن تحصل له الملكة في بعض المسائل

لوجود المانع و هو احتمال وجود المعارض أو جهة أخرى مخفية عليه فيما لم يكن عنده ملكة فيه و حينئذ فلا يمكنه أن يجتهد في تلك المسألة. و جوابه: انه منقوض بالمجتهد المطلق لما عرفت من انه لا يكون مجتهدا بالفعل في جميع المسائل فجاز

أن يكون فيما لم يجتهد فيه شي ء له تعلق بالحكم المذكور أو معارض للحكم المذكور. و جوابه بالحل: ان هذا الاحتمال إنما يوجب عليه الفحص بمقدار اللازم كالمجتهد المطلق عند ما يحتمل وجود المعارض و هو ملاحظة مظان الأدلة المعارضة و هو مما يمكن حصوله للمتجزي مع أن مسائل الفقه بعد تحريرها بهذا النحو من التحرير الواسع المبسوط يحصل له القطع أو الاطمئنان بعدم المعارض. هذا كله مع إمكان حصول الملكة له في النقليات فقد يحصل له عام غير قابل للتخصيص، أو مطلق غير قابل للتقييد.

و هكذا يمكن أن تحصل له ملكة في مباحث الإجماع، و لما استفرغ وسعه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 129

في تحصيل حكم شرب التتن تحقق عنده الإجماع و لازم ذلك أن يقطع بعدم المعارض و لا يجب حينئذ عليه الفحص كما انه يمكن أن يكون قد تفحص الكتب الفقهية من البداية إلى النهاية فلم يجد معارض لما حكم به، فان عدم وجود الملكة في بعض المسائل لا يمنع من معرفة وجود دليل يتعلق بما اجتهد فيه أو عدمه نعم إنما يمنع من استنباطها، كما ان التحقيق أن هذا الإيراد إنما يصلح أن يكون إيرادا على هذا المقام لو أريد بملكة المتجزي هي ملكة تحصيل الظن كما هو المنسوب لغير واحد، إذ لا يمكن مع التجويز المذكور أن يحصل له الظن فلا تكون له ملكة على الظن، لا من جهة ما قيل من أن انتفاء المسبب و هو الظن يوجب انتفاء السبب و هو الملكة فإنه طالما ينتفي المسبب مع بقاء السبب لوجود المانع إذ ليس هو علة تامة، و في المقام المانع من حصول الظن هو الاحتمال

المذكور، فالأولى أن يقال انه لا توجد ملكة الظن مع الاحتمال المذكور من جهة ان ملكة الظن هي ما يتمكن بها من الظن و يكون مقدورا لو أعملها بدون مانع أصلا، كما هو الشأن في سائر ملكات العلوم، و مع هذا الاحتمال لا يتمكن من تحصيله فلا تكون له ملكة عليه، و أما لو أريد بها ملكة استفراغ الوسع كما تقدم ذلك منا، فهذا الإيراد لا يناسب هذا المقام لأن عدم مقدورية حصول الظن لا تمنع من مقدورية استفراغ الوسع الذي تعلق به الملكة، و لذا قلنا ان ملكة الاجتهاد توجد حتى مع عدم التمكن من الظن بالحكم.

(ثالثها) إن مقتضي كون المتجزي أحد قسمي المجتهد

هو اعتبار جميع ما اعتبر في تحقق ماهية الاجتهاد فيه من الشرائط المتقدمة من تمكنه من الاستنباط الحاصل بمعرفة علوم اللغة العربية و معرفة ما يبتني عليه صورة الاستدلال من علم الميزان، و معرفة علم الأصول، و الأدلة الشرعية من الإجماع و العقل، و الكتاب، و السنة، و علم الرجال، و كونه ذا قوة قدسية الى غير ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 130

من الشرائط المتقدمة.

و بالجملة يعتبر أن يكون واجدا لجميع ما يعتبر في تحقق ماهية الاجتهاد من غير فرق بينه و بين المطلق، إذ لو لا ذلك لما كان مجتهدا، بل مقلدا، لأن الفاقد لبعضها ليس مجتهدا، لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه لا انه مجتهد متجزي و إذا كانت الشروط واحدة و هي كما تقدم موجبة لحصول الاجتهاد في سائر المسائل الفقهية، و من قبيل العلة التامة لحصول الملكة عليها كان المتجزي الحاصلة عنده تلك الشروط لا محالة مجتهدا مطلقا و ليس بمتجزي لحصول الملكة المطلقة عنده و جوابه: إن ما ذكر من

الشروط إنما هو شرط لحصول الاجتهاد في مطلق المسائل الفقهية، إذ بعض المسائل لا تتوقف على ما ذكر من الشروط فان المسائل الفقهية العقلية لا تتوقف على معرفة العلوم العربية، فيمكن معرفة تلك المسائل بدون حصول شرط الاجتهاد الذي هو معرفة العلوم العربية، و هكذا في المسائل النقلية لا يلزم في حصول شرط الاجتهاد فيها معرفة علم الميزان مضافا الى أن الملكة القدسية قد تحصل في بعض المسائل دون مسائل أخرى.

(رابعها) إن كون العلم علما واحدا مفسرا بالملكة

إذا كان ذا موضوع واحد يؤخذ من دليل واحد فلو كان ذا ملكات متعددة كان علوما متعددة و هو أمر غير معهود. و جوابه: انه لا يعتبر في وحدة العلم أخذه من دليل واحد و إنما المعتبر في وحدته هو وحدة الموضوع أو وحدة الغاية على الاختلاف في أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات أو الغايات، و كونه ذا ملكات لا يوجب كونه علوما متعددة مع وحدة الموضوع لها، أو وحدة الغاية المترتبة عليها كما نشاهد في علم الطب و نحوه من علوم الصنائع.

(خامسها) إن ملكة الاجتهاد ليست إلا مثل ملكة العدالة

، أي قوة التجنب عن المعاصي، فكما أنها شي ء واحد لا تتكثر بتكثر المعاصي، و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 131

تختلف باختلافها شدة و ضعفا، فكذلك ملكة الاجتهاد لا تتكثر بتكثر متعلقاتها فان الملكة على الشي ء لا تتجزأ بتجزء ذلك الشي ء، و إلا خرجت عن كونها ملكة، و لزم كون المتعلقة بكل جزء من أجزاء ذلك الشي ء ملكة غير المتعلقة بالآخر و هو خلاف الفرض من كونها ملكة واحدة فملكة استفراغ الوسع في تحصيل الظن بمعنى قوة ذلك و أهليته بالنسبة إلى سائر موارد الاستفراغ على حد سواء بمعنى أنها هي هي في كل مسألة من الفقه لا أنها غيرها أو جزؤها، نعم غاية الأمر ان هذه الملكة قد تؤثر في بعض المسائل، و قد لا تؤثر لحصول التعارض و نحوه من العوارض لا أنها تكون الملكة منعدمة فيها، و المحكم حينئذ فيه الأصول العملية.

و جوابه ان ملكة العدالة تنطوي فيها عدة ملكات بالنسبة إلى المعاصي انطواء الكثرة في الوحدة نظير العلوم الجزئية المنطوية في العلوم الكلية فلا مانع من حصول ملكة على اجتناب الزنا و الخمر و

اللواط دون الغناء و النظر إلى الأجنبية أما تسمية ذلك عدالة أم لا فهو أمر راجع للغة أو الاصطلاح، ثمَّ أن كثيرا من المجتهدين يتوقف في بعض المسائل لعدم اقتداره و قصور باعه و عدم إتقانه للدليل كما لو كان لا يعرف مسألة النهي عن الضد أو مسألة اجتماع الأمر و النهي و نحو ذلك من المسائل الغامضة فلا يقدر على استنباط فروعها و من كان كذلك فهو متجزي في ملكة الاجتهاد.

(سادسها) إن جواز تجزي الاجتهاد ينافي جعل الفقه عبارة عن العلم بالأحكام

لأن معناه أن الفقه هو العلم بجميع الأحكام الشرعية و لو استغراقا عرفيا. و جوابه: ان هذه مناقشة لفظية في أن التجزي المذكور هل يسمى تجزى في الاجتهاد في الفقه أم لا، على انه لا مانع من التسمية حتى لو التزمنا بذلك و قلنا ان الفقه عبارة عن العلم بجميع المسائل نظير قولنا جلس زيد في الدار مع انه جالس في بعضها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 132

هذا تمام الكلام في إمكان التجزي في الاجتهاد، و أما الكلام في حجية اجتهاده بالنسبة لنفسه و لغيره بمعنى انه يعمل باجتهاده و يجوز للغير تقليده فيما اجتهد فيه فسيجي ء إن شاء اللّه الكلام فيه مفصلا في أحكام الاجتهاد.

التقسيم الثاني إلى (الاجتهاد في الفتوى و الاجتهاد في الحكم)
اشارة

و ثمرة هذا البحث ان المجتهد عند ما يصدر رأيه في المسألة يستطيع أن يعرف أن ما يصدر منه فتوى أو حكم حتى يصدر منه قاصدا ذلك و حتى يجوز نقضه أو العدول إلى الأعلم منه لو كان فتوى دون ما إذا كان حكما و هكذا يصح في مورد التداعي بدون إقامة البينة لو كان فتوى و لا يجوز ذلك منه لو كان حكما كما انه بالنسبة إلى المعصومين عليهم السّلام انه لو كان نقلا للحكم الشرعي و فتوى جاز التعدي من مورده الى غيره، و لو كان حكما لم يجز التعدي من مورده لأنه مختص بمحله.

و أما عند الشك في انه فتوى أو حكم، فبالنسبة إلى المجتهدين الأصل يقتضي كونه فتوى لما سيجي ء إن شاء اللّه من ان الحكم إلزام بحكم اللّه في الواقعة، و الأصل عدم الإلزام كما ان الأصل جواز العمل بخلافه و الحكم بضده و عدم رفعه للخصومة و عدم تحقق شرائط الحكم

الى غير ذلك من الأصول الفقاهتية.

و أما بالنسبة إلى كلام المعصومين عليهم السّلام فعند الشك كما في قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 133

في قضية زوجة أبي سفيان لما جاءته و قالت: زوجي شحيح لا يعطيني من المال ما يكفيني و ولدي. فقال صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لها: خذي لك و لولدك ما يكفيك. فان قوله صلّى اللّه عليه و آله خذي يحتمل أن يكون حكما لعلمه صلّى اللّه عليه و آله بصدقها فلا يتعدى من مورده، و يحتمل أن يكون فتوى و بيانا لحكم اللّه تعالى، و الحاصل إنه عند الشك لا تجرى هذه الأصول الفقاهتية المذكورة لوجود أصل اجتهادي واحد و هو الغلبة، فإن الغالب في كلمات المعصومين عليهم السّلام هو الفتوى و الاخبار بحكم اللّه تعالى حتى أوجب ذلك ظهور كلماتهم عليهم السّلام في ذلك إلا اللهم أن يقال إن الغالب في كلماتهم الصادرة عنهم عليهم السّلام في دعوى الماليات و مقام الخصومات هو الحكم لا الفتوى و الغلبة الأخيرة صنفية مقدمة على الاولي لكونها نوعية. هذا كلام وقع في البين،

[الفرق بين الفتوى و الحكم.]

فلنعد الى محل البحث و هو تقسيم الاجتهاد الى ذلك و هو مبني على بيان الفرق بين الحكم و الفتوى. فنقول: ذكر صاحب الضوابط و غيره. و نسبوه الى اصطلاح الفقهاء ان الفتوى اخبار عن حكم اللّه تعالى و لو بلفظ الإنشاء مثل اجتنب عن الماء القليل الملاقي للنجس أو لا تشرب الخمر إذ لا يتفاوت الحال بينه و بين الاخبار عنه بقوله: الماء القليل الملاقي للنجس نجس و شرب الخمر حرام، و إن الحكم عبارة عن

رفع المجتهد بمقتضى رأيه و اجتهاده في الأحكام الشرعية الخصومة بين الناس فيما يتعلق بأمر معاشهم في الأموال و الاعراض و الأنساب و الحقوق و الجنايات و غيرها بإنشاء كلام كاشف عن ذلك بصيغة أخبار، كقوله: حكمت بكذا أو ألزمت أو أمضيت أو أنفذت أو قضيت أو بصيغة إنشاء. مثل قوله: تصرف في هذه العين للمدعي، أو قوله: خذ مالك منه. أو قوله للمرأة: تزوجي سواء كانت الخصومة فعلية كما لو وقع التنازع بين البالغة البكر الرشيدة و بين أبيها في ولاية العقد فترافعا عند الحاكم فحكم لواحد منهما، أو كانت الخصومة شأنية كما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 134

لو بادرت البنت الباكر المذكورة إلى الحاكم الشرعي و استأذنته في تزويج نفسها فقال الحاكم: لك ذلك قاصدا بذلك إنشاء رفع الخصومة الشأنية الحاصلة بالقوة و التي يتوقع حصولها بينها و بين أبيها. فهذا أمر الحاكم عند ما قصد به رفع هذه الخصومة كان حكما فيكون الفرق بين الفتوى و الحكم بالقصد، فان قصد رفع الخصومة الفعلية أو التقديرية كان حكما، و إن قصد الاخبار عن حكم اللّه كان فتوى.

و يرد على هذا التعريف للحكم (أولا) بما لو أمر الحاكم بإجراء حد الشرب على أحد بواسطة الشهادة عليه بشرب الخمر، و كذا يخرج مثل أمر الحاكم بالصيام أو الإفطار في غد إذا ثبت عنده الهلال. فيقال: إن الحاكم قد حكم بإجراء الحد على فلان، و انه حكم بالهلال الليلة أو بصيام الغد مع انه لا يصدق عليه تعريف الحكم المذكور لعدم الخصومة حتى يقصد رفعها فليس التعريف جامعا لجميع أفراد المعرف.

و قد أجيب عن ذلك بتكلف إدراجهما في الخصومة، فيقال: ان حكمه رافع

للخصومة الفعلية الواقعة بين الشهود و المشهود عليه بشرب الخمر في تصديقهما و تكذيبهما، و يكون حكمه رافعا للخصومة الشأنية إذا حكم الحاكم بعلمه بدون خصومة و هكذا حكمه بالهلال رافع للخصومة بالقوة في انقضاء العدد و حلول أجل الديون المعلقة على أول الشهر و الخيارات الثابتة في الشهر المتقدم. و لا يخفى ما فيه، فان رفع الخصومة لو عمم لمثل الشهود و المشهود عليه لدخل أكثر الفتاوى في الحكم مضافا الى عدم الخصومة في صورة الإقرار على نفسه بشرب الخمر على أن الميزان رفع الخصومة و لم يقصد الحاكم بذلك رفع الخصومة، و إنما المقصود هو ثبوت الحد عليه لا تصديق أحد الطرفين أو تكذيبه.

و يرد عليه (ثانيا) سلمنا وجود الخصومة الشأنية، فإنه يلزم ان الحاكم إذا لم يتفطن لرفع الخصومة فلم يقصد بحكمه رفع الخصومة فلا يكون ما صدر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 135

منه حكما، و عليه فيجوز نقضه مع انه لا يجوز نقض حكم الحاكم في تلك الأمثلة حتى لو علم بعدم قصده لرفع الخصومة. و الحاصل ان المقصود هنا تشخيص معنى الحكم و الفتوى على مصطلح القوم، و الاستقراء يدل على خلاف ما شخص.

و بعضهم عرف الحكم بما يسمي حكما عند الفقهاء من غير تكلف كما ان الغسل ما يسمي غسلا. و لا يخفى ما فيه فإنه لا يبين معناه حتى يعرف المجتهد عنده إصدار رأيه أنه بنحو الحكم أو بنحو الفتوى.

و في قواعد الشهيد قدس سره في القاعدة (120) ان الفرق بين الفتوى و الحكم مع ان كلا منهما اخبار عن حكم اللّه تعالى أن الفتوى مجرد اخبار عن اللّه تعالى بأن حكمه في هذه القضية

كذا و الحكم هو إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية و غيرها مع تقارب المدارك فيها مما تنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش، (فبالإنشاء) يخرج الفتوى لأنها اخبار عن حكم اللّه تعالى (و الإطلاق و الإلزام) نوعان للحكم. و مثّل (ره) للإطلاق بالحكم بإطلاق المسجون لعدم ثبوت الحق عليه و بالحكم بإطلاق الحر من يد مدعي رقيته بدون بينة (و مراده رحمه اللّه بتقارب المدارك) ما لا يبعد عن الطباع المتعارفة حجيته و إن أنكر بعضهم اعتباره كخبر الواحد الذي أنكر حجيته السيد (ره) و يخرج بهذا القيد ما ضعف مدركه جدا كالحكم بالعول و التعصيب فإنه لو حكم به الحاكم وجب نقضه (و بمصالح المعاش) تخرج العبادات فإنه لا مدخل لحكم الحاكم فيها، فلو حكم الحاكم بصحة صلاة زيد لم يلزم صحتها بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك و إلا فهي فاسدة، و كذلك الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيه و مال الميراث لا خمس فيه، فان الحكم به لا يرفع الخلاف بل لحاكم غيره أن يخالفه في ذلك، نعم لو اقترن بالفتوى المذكورة أخذ الحاكم ممن حكم عليه بوجوب الزكاة و الخمس لم يجز نقضه فالحكم بوجوب الزكاة و الخمس المجرد عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 136

اقتران الأخذ للفقراء يكون اخبارا عن حكم اللّه تعالى كالفتوى و أخذه للفقراء و السادات حكم باستحقاقهم فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد. و لو اشتملت الواقعة على أمرين أحدهما من مصالح المعاد و الآخر من مصالح المعاش كما لو حكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر و كان نائبا فإنه لا أثر له في براءة ذمة النائب في

نفس الأمر و لكن يؤثر في عدم رجوعهم عليه بالأجرة ثمَّ ذكر (ره) في مقام آخر الفرق بين الثبوت و الحكم، إن الثبوت هو نهوض الحجة كالبينة و شبهها السالمة عن المطاعن. و الحكم إنشاء كلام هو إلزام أو إطلاق يترتب على هذا الثبوت و بينهما عموم من وجه لوجود الثبوت بدون الحكم في نهوض الحجة قبل إنشاء الحكم، و كثبوت هلال شوال، و طهارة الماء، و ثبوت التحريم بين الزوجين برضاع و نحوه، و يوجد الحكم بدون الثبوت كالحكم على الشي ء بواسطة الاجتهاد و يوجدان معا في نهوض الحجة و الحكم بعدها- انتهى ملخصا و موضحا منا. و الذي يظهر منه (ره) ان الفرق الجوهري بين الفتوى و الحكم، إن حكم المسألة إذا حكي عن اللّه تعالى كان فتوى و إذا حكم به في مورد بنحو الإنشاء من الحاكم سمي حكما نظير المحاكم المدنية فإنه تارة يكون الحكم في القضية بنحو الحكاية للقانون و عند ذا يسمى مادة و قانونا و تارة بنحو الصدور من الحاكم و الإنشاء منه و عند ذا يسمي حكما.

و (الحاصل) ان الصادر من الحاكم الشرعي إن كان هو الوظيفة و القرار في المسألة سمى حكما، و أما إن كان الصادر منه هو الحكاية للوظيفة و للقرار من الشارع يسمى فتوى و كيف كان فيرد عليه.

(أولا) إن قيد (التقارب) لا وجه له لأنه إن أراد تعريف الحكم الصحيح النافذ الذي لا ينقض كان عليه أن يزيد قيودا أخرى ككونه جامعا لشرائط القضاء، و كمطالبة المحكوم له. و ان أراد تعريف مطلق الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 137

أعم من الصحيح و الفاسد، كان عليه ترك القيد المذكور

لعدم تقوم ماهية الحكم به.

(و ثانيا) خروج الحكم على الغائب و للمدعي بلا معارض، و للمقر له على المقر من دون نزاع بينهما و خروج مثل حكم الحاكم بالهلال لمجرد الإفطار أو الصيام إلا اللهم أن يراد بالتنازع أعم من الفعلي و التقديري.

(و ثالثا) ان الحكم قد يكون إنشاء و قد يكون بالفعل و العمل كما هو اعترف به (ره) حيث جعل أخذ الحاكم الزكاة من مال التجارة حكما، و كما إذا أطلق الحاكم المحبوس بيده أو أطلق بيده الحر من يد من يدعي رقيته بلا بينة أو عقد على الباكر بغير إذن أبيها لنفسه أو لغيره، فان ذلك كله حكم عندهم فقصر الشهيد (ره) الحكم بالإنشاء إخراج لها.

(رابعا) ان الحكم قد يكون في الأمور المعاشية و قد يكون في المعادية كالحكم بغرة رمضان و الفطر، و كالحدود و التعزيرات على مخالفة الواجبات الإلهية العبادية، فالتقييد بمصالح المعاش لا وجه له إلا أن يوجه ذلك برجوعه إلى المحافظة على المصالح و دفع المفاسد إلا أنا لو التزمنا بذلك لم تكن فائدة للقيد المذكور لكون الأحكام كلها تابعة للمصالح و المفاسد.

(و خامسا) ان الحكم بصحة صلاة زيد أو فسادها عند استنابته في العبادات لرفع الخصومة بينه و بين من أنابه يسمي حكما دون الحكم بمجرد الصحة و الفساد فإنه لا يسمي حكما. فالمائز هو القصد، فان قصد مجرد الحكم بالصحة و الفساد لم يسمي حكما في الاصطلاح، و إن قصد به رفع الخصومة يسمي حكما و لكن الشهيد (ره) تنبه بعد هذا لذلك بقوله: كما لو حكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر و كان نائبا.

(و سادسا) إن اشتراطه تقارب المدرك يقتضي ان الحاكم إذا كان

أهلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 138

للحكومة، واجدا لشرائط نفوذ الحكم، و كان مدركه ضعيفا و ليس معلوم الفساد بل كان مظنون الفساد أن يجوز نقضه، و لا يسمى حكما. مع انه يسمى حكما.

و الكثير من أصحابنا لا يجوز نقضه إلا إذا علم بفساد مدركه.

و قد يعرف الحكم كما هو الظاهر من صاحب القوانين (ره) و غيره بأنه إلزام خاص أو إطلاق خاص في واقعة خاصة متعلقة بأمر المعاش فيما يقع فيه الخصومة بين العباد مطابقا لحكم اللّه تعالى في نظر المجتهد. و كأن نظره (ره) إلى أن الحكم مورده الواقعة الجزئية لا الكلية، و الإلزام و الإطلاق اللذان هما نوعا الحكم مختصان بتلك الواقعة لا يتعدان لغيرها. بخلاف الفتوى، فان موردها و إن كان خاصا إلا أن حكمها كلي و الحاصل ان الفتوى عبارة عن أن كل ما كان مثل هذه الواقعة فهو محكوم بهذا الحكم بخلاف الحكم.

و يعرف ما فيه مما أوردناه على الشهيد (ره) مضافا إلى أن الفتوى قد تكون بنحو الإنشاء في مورد خاص و حكم مخصوص كما لو أمر المجتهد بإراقة ما في قدح خاص من الماء بملاقاته للنجاسة.

و قد يفسر الحكم بالإلزام الصادر من الحاكم فالإلزام يعم الإطلاق، لأن الإطلاق اما أمر بالإخراج كإطلاق المسجون، أو بالخروج كإطلاق الحر ممن يدعي ملكيته.

و أيضا يعم الإلزام بالإنشاء و الإلزام بالعمل، إذ الإلزام قد يكون بالفعل و العمل كما إذا أطلق الحاكم بيده المحبوس أو الحر ممن يدعي رقيته بلا بينة أو عقد على الباكرة الرشيدة بغير إذن أبيها لنفسه أو لغيره إلى غير ذلك، فان ذلك كله حكم و قد يكون بالقول كما هو واضح.

و أيضا يعم

ما فيه خصومة كما لو ادعى أحد مالا في يد حاضر أو غائب أو صغير، فحكم الحاكم به له و ما لا خصومة فيه كعقده الباكرة من غير سبق تنازع أوامره بذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 139

و أيضا يعم ما إذا كان إلزاما في الشبهة الموضوعية كما هو الغالب بأن تنازعا في مال بيد أحدهما فيدعي الخارج شراءه أو غصبه منه أو كان إلزاما في الشبهة الحكمية كما إذا تنازعا الزوجان المتراضعان بعشر رضعات في صحة الازدواج الواقع بينهما و فساده، فحكم بينهما بأحدهما.

و أيضا يعم ما لو كان مورد الإلزام يضم الأمور الاجتهادية المختلف فيها و غيرها كالحكم على الطريقة المجمع عليها في القضية الشخصية المتنازع فيها بسبب ادعاء كل منهما الاستحقاق شرعا، فيقول الحاكم المدعي يملك ما في يد المنكر بالبينة المقبولة.

و أيضا يعم ما لو كان مورده من الأمور المعاشية أو المعادية كالحكم بيوم الفطر و غرة شهر رمضان للتجنب عن الصوم و التحرز عن الإفطار و نحو ذلك من موارد ثبوت الهلال، و إن كان قد يترتب عليه صلاح المعاش مثل حلول الآجال.

و أيضا يعم ما لو كان مورده حقا آدميا أو حقا إلهيا كالحكم بالزنا أو الشرب للخمر أو غير ذلك من حقوق اللّه، و يشهد لإطلاق الحكم على ذلك هو ما ذكره القوم من الفرق في مسألة حكم الحاكم بعلمه بين حقوق اللّه، فالجواز و بين حقوق الناس، فالمنع و استدلالهم للجواز بقوله تعالى الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا و السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا و التتميم بالإجماع المركب.

و قوله صادر من الحاكم احترازا من حكم ما لا حكومة له شرعا لظهور الحاكم فيمن

له الحكومة الشرعية، و عن حكم الحاكم بحكم لا مدخلية له في الحكومة الشرعية كالالزام في العاديات من أمر عبيده بما يتعلق بصالح معاشه أو معاده أو غير ذلك. و ذلك لظهور الوصف في نظائر المقام في اعتبار الحيثية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 140

و اشعار التعليق به بالعلية، فالمراد إلزام الحاكم من حيث انه حاكم و يخرج بذلك فتواه بشي ء و لو كانت الفتوى بعبارة الإنشاء لأنه ليس فيها إلزام باعتبار انه حاكم، و لا يخفى ما فيه، فان أخذ الحاكم في تعريف الحكم يلزم منه الدور لأن معرفة الحاكم موقوفة على معرفة الحكم. (و التحقيق) أن يقال إن الفتوى و الحكم يختلفان بالذات، فالأولى يقصد منها الأخبار بحكم اللّه تعالى في الواقعة سواء كانت بصيغة الإنشاء أو بصيغة الاخبار، و سواء كانت في واقعة جزئية مخصوصة، أو في واقعة عامة كلية. و الحكم عبارة عن الإلزام ممن له الفتوى لا من اللّه تعالى بل بإجراء القوانين الشرعية و الفتاوى الدينية على واقعة خاصة و إنفاذها فيها لإثبات حق أو استيفاء حق، أو في المصالح العامة كالهلال و الحكم بالجهاد و الدفاع و نحو ذلك مما يرجع لنظم البلاد أو رفع الفساد فالحكم يتضمن الفتوى دون العكس، فالفرق بينهما جوهري و ذاتي من وجوه:

(الأول) إن الفتوى اخبار عن حكم اللّه تعالى. و الحكم فعل صادر من الحاكم اما إنشاء أو عمل.

(الثاني) إن الحكم الشرعي في الفتوى ينسب للّه تعالى. و في الحكم الاصطلاحي للحاكم.

(الثالث) الفتوى هي الملزم بها و المنفذة، و الحكم هو الإلزام بها.

(الرابع) إن الفتوى يجوز نقضها للمجتهد الآخر في صورة ما إذا خالفه في المبني و المستند، و

للمقلد بالرجوع للغير بخلاف الحكم، فإنه ماضي في حقهما ما لم ينكشف الخلاف. فللمجتهد الآخر الأخذ بالحكم و لا يجب عليه الفحص عن صحة مستند الحكم، و كذلك للمقلد الأخذ بالحكم من دون الفحص عن الأعلمية بخلاف الفتوى فإنه لا يجوز للمجتهد الآخر الأخذ بها ما لم يفحص عن مستندها و يكون صحيحا لديه و لا المقلد ما لم تكن من الأعلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 141

أحكام الاجتهاد و المجتهد و وظائفه

(أحدها) (جواز العمل بالاجتهاد و حجيته)
اشارة

و حيث قد انتهى بنا الكلام من معرفة معنى الاجتهاد و شرائطه و اقسامه فلنشرع في أحكامه (أحدها) هو جواز العمل بالظن بالحكم الشرعي الحاصل من الاجتهاد بحيث يكون حجة في حقه و حق مقلديه.

و قد خالف في ذلك فريقان:
(الفريق الأول): العامة في القرون المتأخرة فانسدّ عليهم باب الاجتهاد
اشارة

في الأحكام الشرعية. ففي القرن السابع الهجري أفتى الفقهاء منهم بوجوب اتباع المذاهب الأربعة الحنفي و المالكي و الشافعي و الحنبلي و تحريم ما عداها و صارت هذه المذاهب الأربعة أصول الملكة عندهم، و جرى الخلاف بين المتمسكين بها مجرى الخلاف في النصوص الشرعية، و الأدلة الفقهية حتى انه لم يولّ قاضي و لا تقبل شهادة أحد و لا يقدم للخطابة و الإمامة للجماعة و التدريس ما لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب الأربعة، فكتب لهذه المذاهب الأربعة البقاء من سنة 665 ه في سلطنة الظاهر (ولي پرس) و التغلب على غيرها من المذاهب التي كانت عندهم كمذهب سفيان الثوري بالكوفة. و مالك بالمدينة. و الشافعي بمكة. و الليث بن سعد بمصر. و الأوزاعي بالشام و الأندلس. و الحسن البصري بالبصرة. و ابن جرير الطبري ببغداد. و داود الظاهري في كثير من البلدان الذي عد في القرن الرابع رابع المذاهب بدل الحنبلي. الى غير ذلك من المذاهب و حجتهم في ذلك هو إجماع الأمة على هذه المذاهب الأربعة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 142

ثمَّ ما زال فقهاؤهم إلى يومنا هذا يفتون بوجوب اتباعها، و تحريم ما عداها، و للإنسان أن يجتهد في أحد هذه المذاهب بأن يبني على أصوله و يستنبط من اجتهاداته، و يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه، و يسمى عندهم بالاجتهاد في المذهب كالمزني، و دونه في المرتبة عندهم الاجتهاد في الفتيا و

هو المتبحر في مذهبه، المتمكن من ترجيح قول له على آخر، أطلقهما أو وجه على آخر و قد عدوا من المجتهدين في الفتيا من علمائهم النووي: و قد حكي عن الشيخين و سبقهما إلى القول بمثله الرازي. إن الناس اليوم كالمجمعين على انه لا مجتهد. و نقل ابن حجر عن بعض الأصوليين انه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد، أي مستقل. و هذا السيوطي مع سعة اطلاعه في العلوم ادعى الاجتهاد النسبي لا الاستقلالي فلم يسلم له و قد تجاوزت مؤلفاته الخمسمائة، و قد منع بعضهم حتى من الاجتهاد في المذهب. هذا و لم تبق من العقيدة عندهم إلا عقيدة الأشعري لتقدم السلطان صلاح القائم سنة 564 ه بحمل كافة المسلمين عليها.

[الرد على العامة بغلق باب الاجتهاد.]

و يرد عليهم:

(أولا) بعدم وجود الإجماع لوجود مذاهب إسلامية أخرى كالتشيع و نحوه في تلك العصور! و لو سلم فالإجماع إنما يكون حجة إذا كشف عن دليل قاطع على الحكم، و إلا فهو ليس له موضوعية و لذا استدلوا على حجيته بأن العادة تحكم بأن هذا العدد الكثير من العلماء المحققين لا يجتمعون على القطع بالحكم إلا عن دليل بلغهم في ذلك كما عن امام الحرمين. و المذاهب الأربعة لم تكن موجودة في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يستكشف من الإجماع عليها وجود دليل من الشرع عليها و على نفي ما عداها. و ما حكي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ان أمتي لا تجتمع على ضلالة، و ما هو بمعناه مع ضعفه سندا لا يعلم شموله لما عدا عصره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى للمواضيع المخترعة.

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 143

(و ثانيا) إن المسلمين بأجمعهم حتى أصحاب المذاهب الأربعة كانوا مجمعين على جواز الاجتهاد، فلا وجه لمخالفتهم بالمنع من الاجتهاد.

(و ثالثا) مخالفة ذلك لصريح القرآن لأمره بالتفقه في الدين على سبيل الوجوب الكفائي.

(و رابعا) ان العقل لا يرى صحة ترك الاجتهاد في الكتاب و السنة و الانصراف عنه الى الاجتهاد في كلمات المذاهب الأربعة مع احتمال الخطأ فيها.

(و خامسا) انه طالما يوجد من الموضوعات المستحدثة التي لم تكن من ذي قبل بحسب مرور الزمن و تطوره فلو لم يفتح باب الاجتهاد فيها لزم الاحتياط و فيه من العسر الذي لا تقتضيه سعادة البشر. و لعل لهذا و نحوه عدل أكبار علمائهم و جهابذة رجالهم عن هذا الرأي في مؤتمر الدراسات الإسلامية المنعقد في لاهور سنة 1377 ه و قرروا وجوب فتح باب الاجتهاد في الأحكام الإسلامية.

(و الفريق الثاني): الذي خالف في جواز الاجتهاد هم الأخباريون
اشارة

فحرموا العمل به، و قد زعم أمينهم الأسترآبادي أنه مذهب الأقدمين من الإمامية

[رجوع مخالفة الأخباريين للأصوليين في أمور ستة.]
اشارة

و ترجع مخالفتهم في ذلك إلى أمور ستة:

«الأول» في صحة نفس الاجتهاد من حيث هو اجتهاد فإنهم يقولون ببطلانه و أنه ورد الذم و الطعن عليه من الأئمة عليهم السّلام.

«الثاني» حرمة العمل بالظن الحاصل بالاجتهاد و انه ليس بحجة في الأحكام الشرعية لأن باب العلم بالأحكام الشرعية مفتوح لوجود الأدلة القطعية عليها من دون فرق في أدلتها بين الأخبار المتواترة و بين اخبار الآحاد المودعة في الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المعتبرة لأنها عندهم محفوفة بقرائن تفيد القطع بصدورها و دلالتها ككون الراوي ثقة. و كتعاضد بعضها لبعض. و كنقل العالم الورع للرواية في كتابه الذي ألفه ليكون مرجعا للشيعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 144

و ككونها في أحد الكتب الأربعة لشهادة أصحابها على صحة أحاديثها و ككون الراوي ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح منه أو ممن وثقهم الأئمة عليهم السّلام من غير فرق عندهم في قطعية الأخبار بين الأخبار المتعلقة بعقائد الإسلام أو بفروعه. و يقولون: انه بناء على مذهب العامة المنقطع عنهم الطرق القطعية بالأحكام الشرعية من عدم رجوعهم للأئمة عليهم السّلام لا مناص لهم من العمل بالظن الاجتهادي و لذا عملوا به في زمن حضور الأئمة عليهم السّلام فضلا عن زمن الغيبة.

[صلح الآخند «ره» بين الأصوليين و الأخباريين.]

ثمَّ ان الآخوند صاحب الكفاية (ره) أراد أن يوقع الصلح بين الأصوليين و الأخباريين في هذين الأمرين بتبديله الظن بالحكم في تعريف الاجتهاد بالحجة على الحكم و جعل النزاع في المصاديق لا في صحة الاجتهاد مدعيا انه لا وجه لتأبى الأخبارى عن الاجتهاد بهذا المعنى فإنه لا محيص عنه غاية الأمر أنه ينازع في حجية بعض ما يقول الأصولي باعتباره. و لا يخفي فساد

هذه المصالحة فإن الاجتهاد عند القوم كما عرفت ص 68 في جواب الإيراد الثالث على تعريف الاجتهاد انه مأخوذ فيه الظن لا مطلق الحجة حتى العلم بالحكم. و الاخبارى يمنع من العمل به لدعواه وجود العلم بالأحكام و لا يكتفي في الأحكام الشرعية بمطلق الحجة بل لا بد عنده من العلم بها بل و إن الاجتهاد عنده بقول مطلق مذموم و باطل و مشروعيته تنافي وجوب الاقتصار على العلم في إثبات الأحكام. بل هذا كمن يرجع النزاع في حجية الخبر العدل أو الموثق أو المشهور الى الصلح بينهم بدعوى أن الكل متفقون على حجية الخبر الذي ثبت التعبد به غاية الأمر اختلفوا في مصاديقه. و قد وجدت في كتاب لسان الخواص للقزويني ان من ادعى من المتأخرين مائلا إلى حقية الاجتهاد عارفا بفساد إتباع الظن، إن المجتهد لا يلزمه أن يتبع الظن من حيث هو ظن، بل من حيث موافقته لشي ء من الأدلة على الحكم كظاهر الكتاب أو الأخبار السالمة عن المعارض مثلا فقد سمى غير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 145

الاجتهاد اجتهادا و لا مشاحة في الاصطلاح.

«الثالث» مخالفتهم في توقف الاستنباط للأحكام الشرعية على العلوم التي اعتبرها الأصوليون في الاجتهاد من العلوم الأدبية و المنطق و علم الرجال و الأصول فإنهم لا يقولون بالتوقف عليها.

«الرابع» مخالفتهم في توقف الاجتهاد على الملكة القدسية، فإنهم لا يقولون باعتبارها في الاجتهاد.

«الخامس» مخالفتهم في حجية الأدلة ما عدا الكتاب و السنة، بل ما عدا السنة عند الكثير منهم، فحصر الكثير منهم مستند الأحكام في السنة. و بعضهم أضاف إليها الكتاب، و أنكروا حجية الإجماع و العقل.

«السادس» إن بعضهم اعترف بصحة الاجتهاد و حجية ظن المجتهد

في حقه لكنهم أنكروا حجيته في حق مقلده فحكموا بوجوب الاجتهاد عينا و حرمة التقليد على المكلف، و إن على العامي أن يرجع الى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم الشرعي الفرعي من الكتاب و السنة، فان كان عربيا فهو و إلا يترجم له معانيهما بالمرادف من لغته و مع تعارض الأدلة يبين له طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ، و العام على الخاص، و المطلق على المقيد و مع تعذر الجمع يذكر له أخبار العلاج، و إذا احتاج إلى معرفة الراوي يذكر له حاله، و سيجي ء إن شاء اللّه التعرض لهذا القول في مبحث وجوب الاجتهاد كفائيا. إذا عرفت ذلك فيكون الكلام معهم هنا في المقامين: الأول و الثاني، و أما المقام الثالث و الرابع فقد تقدم منا الكلام عليها عند الكلام فيما يتوقف عليه الاجتهاد، و أما المقام الخامس فالكلام معهم فيه في علم الأصول عند التكلم في حجية ظواهر الكتاب و العقل و الإجماع. و أما المقام السادس فسيجي ء إن شاء اللّه الكلام فيه عند الكلام في التقليد، و حيث تبين لك أن الكلام مع الأخباريين هنا في المقام الأول و الثاني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 146

فنقول إنه لما كان الكلام في أحد المقامين يقتضيه الآخر تكلمنا فيهما معا دون أن نفرد كلا منهما بالبحث

[الأدلة على حجية ظن المجتهد.]
اشارة

و إليك ما استدل به القوم أو يمكن الاستدلال به على جواز الاجتهاد و حجية ظن المجتهد

«أحدها» ما أقامه الأصوليون من الأدلة علي حجية الظنون الخاصة

و من جملتها أخبار الآحاد أو حجية مطلق الظن عند من انسد عنده باب العلم و العلمي فإن ذلك يرجع الى القطع بحجية تلك الظنون و اعتبارها عند الشارع. و لا نعني بظن المجتهد الا ذلك و دعوى كما عن الأخباريين أن عمدة ما عند الأصوليين حجية أخبار الاحاد و هي تفيد العلم بالحكم الشرعي كالأخبار المتواترة لاقترانها بالقرائن المفيدة للقطع بالحكم الشرعي بحسب الدلالة و الصدور لموافقتها لعمومات الكتاب، و عمومات السنة و مطلقاتها، و القواعد الشرعية، و تعاضد بعضها ببعض، و كون المتكلم حكيما و هو في مقام البيان و التفهيم. و كمطابقتها لحكم العقل و إجماع المسلمين أو الشيعة و كون الراوي ثقة و عدلا. أو قام الإجماع على تصحيح ما يصح منه. و شهادة أصحاب الكتب الأربعة المحمدين الثلاثة بصحة ما أوردوه فيها من الأخبار، و توثيق الامام عليه السّلام بعض الرواة و الأمر بالرجوع إليهم.

فاسدة لأن ذلك إنكار للضرورة و الوجدان أما بحسب الدلالة فهي نوعا ظنية لا صريحة لاحتمال التجوز فيها و كانت القرينة حالية أو مقالية لم ينقلها الراوي أو سقطت من قلم الكاتب أو لم يسمعها الراوي أو أخفاها الإمام عليه السّلام أو الراوي للتقية أو احتمال النقل في الألفاظ بأن كانت في صدر الإسلام أو وقت نطق الامام حقيقة في معنى و الآن نقلت لغيره مع احتمال التخصيص أو التقييد أو الإضمار و احتمال التحريف و الزيادة و النقصان كما في رواية الصدوق في الخصال في باب وجوب خمس المال المختلط بالحرام، فإن النسخة المطبوعة منه لم يذكر

فيها الحلال المختلط بالحرام. و هكذا في البحار فإنه نقل الرواية عن الخصال و لم يذكر فيها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 147

الحلال المختلط بالحرام. و لكن في الوسائل قد نقل نفس الرواية و ذكر فيها الغنيمة و الحلال المختلط بالحرام. و هكذا في اخبار تحديد الكر بالأشبار. فإن رواية الحسن بن صالح الثوري رواها جماعة بدون ذكر الطول. و المحكي عن الاستبصار في باب أحكام الآبار وجود التحديد بالطول فيها. و (الحاصل) انه مع توهم أحد هذه الأمور فضلا عن احتماله لم يحصل القطع بالدلالة. و قد يريدون بيان مطلب فيروونه بخلافه سهوا مثلا يريد أن يقول إن خرج الدم من الجانب الأيمن فهو حيض، و إن خرج من الأيسر فهو قرحة، فقال سهوا إن خرج الدم من الجانب الأيسر فهو حيض، و إن خرج من الأيمن فهو قرحة.

و لعل الظاهر إن الاختلاف الذي وقع في الرواية المتضمنة لهذا الحكم كان سببه ذلك و قد يكون النسخ موجبا لعدم وضوح الدلالة كما في حديث «من جدد قبرا أو مثل مثالا» الحديث فإنه بالجيم عند الصفار، و بالحاء الغير المعجمة عند سعد بن عبد اللّه، و بالخاء المعجمة عند المفيد، و بالجيم و الثاء عند البرقي. و قد تختلف القراءة كما في خبر جواز الوضوء من (ماء الورد) فان السيد المرتضى قرأها بفتح الواو فجوز الوضوء بالماء المقطر من الورد المعروف، و غيره قرأها بالكسر. و قال: المراد الماء الذي ترد منه الماشية. و قد ورد عن الصادق عليه السّلام «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا»، فإنه يدل على عدم قطعية الدلالة و روي أيضا: حديث تدريه خير من عشرين خبر

ترويه، إن لكل حق حقيقة و لكل صواب نور. و أما بحسب الصدور فقد قال جدى كاشف الغطاء (ره) ما حاصله: أنه كيف يجوز العقلاء حصول العلم بصدور جميع الروايات الواردة في الكتب الأربعة لواحد من العلماء فضلا عن جميعهم مع أنه مبني على مقدمات يعلم الخلاف في كلها أو جلها منها معرفة المروي عنه انه الإمام عليه السّلام دون غيره و ربما اشتبه الراوي بغير الإمام لكتابة تشبه كتابته أو لوجود مشارك في اسمه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 148

أو لقبه أو كنيته و مع عدم ذلك لا بد من سلامة الروايات عن المعصومين عليهم السّلام في جميع الطبقات من مدة تقرب من ألف و مائتين عام من خلل ينشأ من جهة الكتاب الذي أخذ منه الراوي بزعمه إنه كتاب شخص معتمد و الواقع خلافه، أو إنه سالم من الغلط و الواقع خلافه، أو إن الرواية حفظت من كتاب غير معتبر فنسي روايتها، و زعمها من معتبر أو من جهة الراوي لاشتراك اسمه أو لقبه أو كنيته أو صفته أو نسبه أو مكانه حيث يعبّر بها عنه أو لاشتباهه في إسلامه أو إيمانه أو عدالته أو ضبطه أو نقله، أو لتجدد إسلامه و إيمانه و عدالته. و قد روى عنه قبلها فزعم انه روى بعدها، أو في سند يقطع، أو إرسال أو إضمار أو نحوها، أو لاحتمال روايته عن خوف أو لتجويز النقل بالمعنى و في متن الرواية نقص أو تبديل أو تفسير أو نحو ذلك، فمتى وقع احتمال شي ء من ذلك و لو على طريق الوهم في زمان من الأزمنة، أو في واحد من السلسلة اختل طريق القطع. ثمَّ ان

حصول العلم للاخباريين لا يستلزم حصول العلم لنا- انتهى. نعم لو بلغ الرواة في كل طبقة حد التواتر أو تكون قرائن علمية في جميع الطبقات كان العلم يحصل بصدورها، لكن دون ذلك خرط القتاد. فان الروايات في أغلبها يكون الراوي في كل طبقة واحدا و لا قرينة علمية على صدقه مع كثرة التصحيفات و التحريفات مع ان ما ذكروه من القرائن من وثاقة الراوي و نحوها لا توجب القطع و إنما توجب عدم تعمد الكذب لأنها لا توجب رفع احتمال السهو و الخطأ و النسيان فإن الوثاقة و العدالة في الراوي لا تبلغ درجة العصمة حتى لا يحتمل معها الغفلة أو النسيان أو السهو مع ما صرحت به الأخبار حتى كاد أن يكون ضروريا، من أن المغيرة و أبا الخطاب لعنهما اللّه تعالى دسوا الأخبار الكاذبة في أخبارهم و اشتبه الأمر على الناس، و إن لكل إمام رجل يكذب عليه، و الغريب أن الأخباريين إنما عملوا بهذه الأخبار التي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 149

بأيدينا من حيث انها تفيد القطع لا من حيث قيام القطع على حجيتها و تركوا العمل بالإجماع مع افادته للقطع و لكن نحن عملنا من حيث قيام الأدلة القطعية عليها لا من جهة إفادتها الظن، و عملنا بالإجماع لإفادته القطع: و أما كون المتكلم حكيما فهو إنما يوجب القطع لمن يسمع من المعصوم عليه السّلام و لا يحتمل الاشتباه في سماعه. مع أن كتب الذين سمعوا من المعصوم عليه السّلام لم نعلم بوصولها لأصحاب الكتب الأربعة و غيرها من الكتب المعتبرة بل إنما وصلت إليهم بواسطة النقلة و فيهم: الفطحي، و الواقفي، و وضاع الحديث. و قد اختلفوا

في نقل بعض الروايات. ففي المحكي عن النجاشي إن نوادر ابن أبي عمير مختلفة باختلاف الرواة، و إن محمد بن عذافر له كتاب تختلف الرواة فيه، و إن لمحمد بن الحسن ابن الجهم، و حسن بن صالح الأحول، و حسين بن علوان مثل ذلك. و أما دعوى التعاضد و المطابقة لحكم العقل و الإجماع فهي في الأخبار قليلة جدا. و أما توثيق الامام عليه السّلام لبعض الرواة فهو لو أفاد القطع فإنما يفيده لمن سمع منهم لا لمن كان بينه و بينهم عدة وسائط كزماننا هذا. مع انه لم يتحقق التوثيق إلا في النادر من الرواة، و أما كون بعض الرواة قام الإجماع على تصحيح ما يصح منهم فليس ذلك موجبا للقطع بروايتهم، فهو إنما يوجب اعتبار ما يصح عنهم لا القطع بروايتهم، إذ أن قيام الإجماع على الاعتبار امارة لا يوجب حصول القطع من تلك الامارة بمؤداها، فإنه كقيام الإجماع على اعتبار الشهادة. و أما شهادة أصحاب الكتب الأربعة و غيرهم من أهل الكتب المعتبرة علي صحة ما في كتبهم ليس معناه انها مقطوعة عندهم، فإنهم إنما شهدوا بصحتها لا بقطعيتها عندهم.

و تفسير الصحة بالقطع بالصدور لا دليل عليه إذ لعل المراد بالصحة ما يريده المتأخرون من لفظ الصحة من الاعتماد عليها كما يشهد بذلك ما عن البهائي (ره) في كتاب مشرق الشمسين من أن المتعارف عند القدماء إطلاق الصحيح على كل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 150

حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه و اقترن بما يوجب الوثوق به و الركون اليه.

و يشهد لذلك أيضا قولهم تصحيح ما يصح فان لفظ التصحيح لم يريدوا به القطع و أيضا يشهد لذلك المحكي

عن الصدوق من أنه صرح في صوم كتاب من لا يحضره الفقيه حيث استضعف رواية موسى الهمداني إنه يعتمد على شيخه الحسن بن الوليد في تصحيح الروايات، و كلما لم يصححه فهو متروك. و لا ريب ان مجرد تصحيحه لا يجعل الحديث قطعيا، و قد اعتمد الصدوق (ره) على كتاب نوادر الحكمة لمحمد بن يحيى مع أن المحكي عن القميين الطعن بهذا الكتاب بأن مؤلفه محمد بن أحمد يروي عن الضعاف و المراسيل، مع ان الشيخ (ره) في أول الاستبصار و في العدة صرح بأنه يعتمد على الأحاديث الظنية و يفتي بها و ادعى ان الشيعة كانوا يعتمدون عليها.

(ثانيها) ما دل من الأخبار على الرجوع الى المرجحات

من الأوثقية و الأعدلية و مخالفة العامة و غير ذلك كموافقة الكتاب، فإن إرجاع الإمام عليه السّلام في مقام التعارض الذي هو أعظم أنواع الاجتهاد المبحوث عنه الى هذه الأمور التي لا تفيد العلم بالصدور و الدلالة دليل على حجية ظن المجتهد في هذا المقام و يثبت في غيره بالإجماع المركب علي أن الموجبة الجزئية تنفع في رفع السلب الكلي.

(ثالثها) اطباق الأمة قولا و عملا على جواز الاجتهاد

، و حجية ظن المجتهد المذكور، و كتب الفتاوى من صدر الإسلام مشحونة بالاجتهاد بل على ذلك جميع أرباب الشرائع و الأديان حيث يرجع علماؤهم في أخذ أحكامهم من كتب أنبيائهم، و أخبار أوصيائهم عاملين بالظواهر و العمومات و المطلقات و عند التعارض الى المرجحات بل على هذا سائر علماء القانون في الدول و الحكومات و لم يخالف في ذلك إلا فئة خاصة من الأخباريين، و الظاهر انه مذهب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 151

جديد أحدثه مولاهم الأمين الأسترآبادي زعما انه مذهب الأقدمين من الإمامية فلا تضر مخالفتهم بالإجماع. و دعوى ان العمل بالاجتهاد لم يكن معروفا ليسأل الإمام عليه السّلام عن جوازه فيحكم بالجواز و يشتهر حكمه بين الأصحاب كي يتفقوا عليه و يتحقق الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه السّلام.

فاسدة فإن حجية الإجماع لا تتوقف على صدور نص من المعصوم في المجمع عليه بل يتوقف على كشفه عن موافقة رأي المعصوم على ذلك و لا ريب ان المجتهدين في أيامهم عليه السّلام كانوا موجودين و الاجتهاد معروف عندهم، إلا انه كان خفيف المؤنة بل كان الكثير من أصحاب الأئمة عليهم السّلام عندهم الاجتهاد، و قد أمر الإمام عليه السّلام أبان بالجلوس في المسجد و الإفتاء، و ليس الإفتاء إلا إصدار

الأحكام اجتهادا و إلقائها إلى المستفتي. و قول بعض الأخباريين: إنما أراد نقل الأخبار خلاف الظاهر. ثمَّ هل تجد من نفسك ان الامام عليه السّلام كان يمنع مثل أبان أن يعمل بما اجتهد فيه و يوجب عليه حكاية اللفظ، و يأمره بالجمود عليه و هو عليه السّلام يقول: إن الرجل من أصحابي لا يكون فقيها حتى يلحن له بالخطاب فيعرف ما ذا أريد.

و دعوى حصول العلم بالحكم من الأدلة فلا اجتهاد حتى يدعى الإجماع عليه.

فاسدة بالضرورة و الوجدان كما تقدم ذلك ص 146.

و دعوى ان العلامة الحلي (ره) في النهاية، و شارح المواقف في آخرها، و الشهرستاني في الملل و النحل. و غيرهم في غيرها ذكروا ان علماء الشيعة كانوا من قديم الزمان ينقسمون الى أصوليين و اخباريين، و هذا أدل دليل على وجود الخلاف في ذلك بينهم فكيفي يدعى الإجماع عليه.

فاسدة فإن مرادهم من الاخباري كما هو ظاهر اللفظ، هو ما لا سعة لباعه في التفريعات الفقهية، و لا قوة لنظره في تشييد القواعد الكلية، و لا نظر له في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 152

الأصول الاعتقادية، بل كان قانعا بنقل متون الأخبار مقتصرا في الحكم و الاعتقاد على موارد النصوص و مضامين الآثار، يفتي بمتون الأخبار من غير تعرض لما لا نص فيه. و لعل ذلك لعدم كمال شروط الاجتهاد عنده في نفسه أو لكونه في عصر الأئمة عليهم السّلام و تمكنه من أخذ الأحكام بأسرها بالنص و الصراحة، فلم يقنع بالاجتهاد و هذا لا يقتضي عدم جوازه عنده كمن يعمل بالاحتياط مع تمكنه من الاجتهاد و هو حجة عنده. و مرادهم من الأصولي من هو أهل النظر، و الاستدلال،

و التحقيق، و التدقيق، و التعمق، و التفكر، و تشييد القواعد الكلية، و تأسيس الأصول الشرعية، و التفريع و الاستخراج منها كابن أبي عقيل العماني، و ابن جنيد العاملي، و المفيد، و المرتضى، و شيخ الطائفة و من يحذو حذوهم. فالفرق بين الفريقين ليس إلا بالرتبة و الاستعداد، و لذا اقتصر الأولون على متون الآثار، و ظواهر الاخبار و تعدى الآخرون الى المفاهيم و الفحاوى و المداليل الالتزامية و الاقتضائية.

و دعوى ان ما ذكرته من الإجماع على العمل بالاجتهاد ينافي ما صرح به علماؤنا المتقدمون من بطلان الاجتهاد، ففي المحكي عن ذريعة السيد (ره) قال:

عندنا ان الاجتهاد باطل، و إن الإمامية لا يجوزون العمل بالظن، و لا الرأي و لا القياس، و لا الاجتهاد. و عن عدة الشيخ (ره) ان القياس و الاجتهاد ليسا بدليلين عندنا. و عن سرائر الحلي عند تعارض البينتين قال: القياس و الاستحسان و الاجتهاد باطل عندنا. و في المعتبر للمحقق الحلي: و اعلم انك مخبر في حال فتواك عن رأيك، فما أسعدك إن أخذت بالجزم، و ما أخيبك إن أخذت بالوهم، و قد صنف جماعة من أصحابنا القدماء كتبا في رد الاجتهاد و عدم جواز الأخذ به ككتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد من مصنفات الشيخ الجليل إسماعيل النوبختي. و كتاب الاستفادة في الطعن على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 153

أصحاب الاجتهاد و القياس لمؤلفه عبد اللّه بن عبد الرحمن التبريزي، و كتاب النقض على ابن جنيد في اجتهاد الرأي من مؤلفات الشيخ المفيد. و الفضل و هو من قدماء الإمامية قد بسط الكلام في إبطال الاجتهاد في الإيضاح و هو من أجلة الإمامية. و

قد ترحم عليه أبو محمد مرات.

فاسدة فإن التأمل في ذلك كله يعطي أن مرادهم بالاجتهاد في ألسنتهم هو الاجتهاد بالمعنى الأول المتقدم ص 71 من الأخذ بالظنون العقلية التي لا دليل على اعتبارها كالقياس و الاستحسان في مقابل النصوص الشرعية كما هو كان ديدن العامة في عصر الأئمة عليهم السّلام و هذا نحن نقول ببطلانه و عدم حجيته و الذي نقول به هو الأخذ بالعقول القطعية و ظواهر الكتاب و السنة و ما يستفاد منها بالدلالات المعتبرة كالمطابقة و التضمن و الالتزام و المفاهيم و الاقتضاء و نحو ذلك فان ذلك ليس أخذا بخلاف النصوص الشرعية بل يكون أخذا بها. و كيف يظن بأن السيد المرتضى و غيره ممن ذكره الخصم ينكرون العمل بالاجتهاد بالمعنى الذي هو محل البحث مع أن كتبهم الفقهية و أجوبة مسائلهم الشرعية مشحونة به خصوصا مثل الشيخ (ره)، و المحقق، و ابن إدريس في سرائره (و الحاصل) ان مرادهم بالاجتهاد الممنوع منه هو الأخذ بالظن الذي لم تقم الحجة على اعتباره و الاستحسانات و التخريجات الغير المنتهية إلى القطع بالجعل الشرعي لها و التي اعتمد عليها العامة في مقابل النصوص الشرعية، و أما الأخذ بظواهر الكتاب و الأخبار الثابت حجيتها على سبيل القطع كما هو المراد بالاجتهاد عند أصحابنا ليس إلا الأخذ بالكتاب و السنة الصحيحة.

(رابعها) حكم العقل فإنه لا ريب في بقاء التكاليف.

و لا يمكن الإتيان بها إلا بمعرفتها و لا تتحقق معرفتها إلا بالعلم أو الظن المعتبر. و ليست بديهية فلا بد من الفحص عن الطريق الموصل لها و لا بد من الفحص عن الدليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 154

اعتباره ثمَّ بعد حصول القطع بأنه موصل لها و انه حجة

معتبرة عليها فلا ريب ان استنباط الأحكام من ذلك الموصل لها و الحجة عليها مع عدم حضور الأئمة عليهم السّلام ليس بمقدور لكل أحد لكثرة الشبهات، و تعارض الأخبار، و اختلاف الأقوال، و تفاوت الدلالات، و اختلاط السقيم من الأخبار بالصحيح فلا يقدر على استخراج الأحكام و فروعها إلا المتفطن العارف بأساليب الكلام المميز للصحيح من السقيم و المتقن فيه من غيره. و لذا نرى أكثر الفقهاء مع ما عندهم من المعرفة يحتاطون في مقام الإفتاء فيقولون الأقرب كذا، و الأظهر كذا، و الأحوط كذا و طالما يظهرون التردد، هذا مع وجود نص في المسألة و أما عند فقد النص فلا بد من الرجوع الى الأصل و ليس يعرفه إلا من بذل جهده مع إحاطته بالطرق الشرعية ليعرف خلو المقام منها، و لا نريد من الاجتهاد إلا ذلك. و يعجبني ما ذكره صاحب المناهج في هذا المقام فإنه قال: إذا سمع حديث هكذا إذا أفطرت عمدا في نهار شهر رمضان فأعتق رقبة، أو أطعم ستين مسكينا، أو صم شهرين متتابعين. فاستفادة الحكم الشرعي من هذا الحديث تحتاج أولا إلى معرفة حجية خبر الواحد، و إن هذا الخبر من النوع الذي هو حجة. ثمَّ هل يجوز العمل به قبل الفحص أو بعده؟ ثمَّ هل خطاب المشافهة يثبت به الحكم أم لا؟

ثمَّ على تقدير ثبوته به هل أن (إذا) تفيد العموم؟ و هل الأمر بالإعتاق يفيد الوجوب؟ ثمَّ المراد بالرقبة مطلقا أو خصوص المؤمنة. و المراد بالمسكين ما هو؟ و المراد بالشهرين هلالية أو ستون يوما؟ و ما المراد بالتتابع و الإطعام و قدر الإطعام و شرائط الصوم و مفسداته الى غير ذلك فكيف يمكن لشخص لم

يجتهد في تلك الأمور أن يعمل بهذا الخبر، و هل يكون إلا كحاطب ليل.

(خامسها) أن أغلب الموضوعات التي يتطلب معرفة حكمها الشرعي

لا يحصل القطع بحكمها حتى بعد البحث و التنقيب و بذل الوسع التام و إنما الذي يحصل هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 155

الظن الذي قامت الحجة على اعتباره و هو الظن الاجتهادي، فلو لم يكن حجة مع علمنا بوجود التكليف فيها لزم اما الاحتياط و فيه العسر و الحرج أو اختلال النظام أو إهمال التكاليف و الجميع باطل.

و دعوى أنه بأيدينا من الأدلة الشرعية ما يفيد القطع و هو الإجماع و العقل و الكتاب و السنة المتواترة و المقرونة بالقرائن القطعية و سائر الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة. فقد أجاب عنها صاحب الحاشية بأن الإجماع و العقل لم يقوما إلا في قليل من الأحكام و مع ذلك لا يفيد ان التفصيل غالبا، و أما الكتاب فهو ظني الدلالة و لا يستفاد منه إلا أمور إجمالية غالبا. و أما السنة المتواترة و الخبر المحفوف بالقرائن القطعية، فكذلك من جهة قلة الوجود و إجمالية دلالة الموجود. و أما الأخبار في الكتب المعتبرة فهي ظنية بحسب الصدور و المتن لكثرة الاحتمالات فيها و لو سلمنا قطعيتها فهي لا تفي ببيان جميع الفروع المتجددة بتجدد الظروف و الأحوال فلا بد من التأمل في إدراجها فيما يناسبها من القواعد المقررة في تلك الأخبار و الظن باندراجها في خصوص كل من القواعد لكثرة القواعد و اختلاف الأنظار و عدم إمكان تحصيل اليقين في ذلك.

(سادسها) [ظنية تفريع الفروع على الأصول أو أخذ الجزئيات من الكليات]

ما رواه زرارة و أبو بصير في الصحيح عن الباقر عليه السلام و الصادق عليه السّلام، و رواه البزنطي عن الرضا عليه السّلام، و في جامعه عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام من أن عليهم عليهم السّلام إلقاء الأصول و علينا

التفريع عليها. ضرورة ان تفريع الفروع على الأصول و أخذ الجزئيات من الكليات يكون على سبيل الظن غالبا لأن أدلة العمومات و المطلقات على كل واحد من جزئياتها ظنية لقوة احتمال التخصيص و التقييد و هذا هو الاجتهاد.

و دعوى أن المراد به التفريعات اليقينية لا الظنية. فاسدة لأن الخطاب ظاهر في التفريعات عند العرف و هي أعم من الظنية و اليقينية مضافا الى أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 156

التفريعات اليقينية لا يحتاج أن يأمرنا الإمام عليه السّلام بها فلا بد أن يكون نظره للتفريعات الظنية مضافا الى أن الأدلة الشرعية أغلبها مشتملة على العمومات و المطلقات و أغلبها ظنية الدلالة على أفرادها، بل و هكذا دلالة المنطوقات على المفاهيم أغلبها ظنية.

و ما ورد في جواز الإفتاء للناس كقول أبي جعفر عليه السّلام لأبان ابن تغلب: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك. و ما روى عن الصادق عليه السّلام ان في حديثنا محكما و متشابها، فردوا متشابهه إلى محكمه. و قوله عليه السّلام: خبر تدريه خير من خبر ترويه الى أن قال عليه السّلام: و اللّه لا يعد الرجل من شيعتا فقيها حتى يلحن له فيعرف اللحن.

و إذا كان الأمر كذلك فلا ريب أن الجمع بين الاخبار ورد متشابهها الى محكمها و درك الصحيح من السقيم فيها يحتاج الى بذل الجد و الاجتهاد و صرف الهمة بعد وجود الملكة القدسية لحصول الرشاد و السداد.

[أدلة الأخباريين على حرمة الاجتهاد و عدم حجية ظن المجتهد و الجواب عنها]
اشارة

و قد استدل الأخباريون على حرمة الاجتهاد و الذم عليه و عدم حجية الظن الحاصل منه بوجوه:

(أولها) [منع الأئمة ع عن العمل بالرأي و الاجتهاد]

ما رواه علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال: حدثني جعفر عن أبيه عليهما السّلام من دان اللّه تعالى بالرأي لم يزل دهره في ارتماس و في كتاب المحاسن عنه عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن محمد بن مسلم ان قوما من أصحابنا قد تفقهوا و أصابوا علما و رووا أحاديث فيرد عليهم الشي ء فيقولون برأيهم. فقال عليه السّلام: لا. و هل هلك من مضى إلا بهذا و أشباهه. الى غير ذلك مما ورد عن الأئمة عليه السّلام من المنع عن العمل بالرأي و الاجتهاد. و جوابه (أولا) خلو المذكور من الاخبار عن الاجتهاد، و إنما كان المذكور فيها العمل بالرأي و باطل عندنا كالعمل بالاستحسان، (و ثانيا) لو سلمنا وجود الاجتهاد فيها فالمراد منه هو استنباط الحكم الشرعي من غير الأدلة الشرعية كما لو استنبط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 157

حكما شرعيا بالقياس أو الاستحسان أو الرأي أو المصالح المرسلة في مقابل الأئمة عليهم السّلام و يدل على ذلك ما رواه ابن مسكان عن حبيب قال: قال لنا أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إن الناس سلكوا سبل شتى فمنهم من أخذ بهواه، و منهم من أخذ برأيه و إنكم أخذتم بما له أصل يعني بالكتاب و السنة. و قوله عليه السّلام: إياكم و أصحاب الرأي فإنهم أغنتهم عن السنن أن يحفظوها. و قوله عليه السّلام: في أصحاب الرأي استغنوا بجهلهم و تدابيرهم من علم اللّه تعالى و اكتفوا بذلك دون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم و القوّام بأمره، و قالوا لا شي ء إلا ما أدركته عقولنا. فان هذه الأحاديث تدل على الأخذ بما له أصل ليس أخذا بالرأي و لا عملا بالظن بل هو أخذ بالكتاب و السنة. و الحاصل إن العمل بظواهر الكتاب و السنة ليس إلا أخذا بالكتاب و السنة كما هو الشأن في كل من يأخذ بكتاب أو بقول فإن أخذه له هو العمل بظاهره. نعم الاستحسانات و القياسات و التخريجات الغير المنتهية للعلم يكون طرحا للكتاب و السنة. و بعبارة أخرى انه يوجد نوعان من الاجتهاد أحدهما أخذ الأحكام الشرعية من غير الأدلة الشرعية كالقياس و نحوه، و الثاني اجتهاد في أخذ الحكم من الأدلة الشرعية و المنظور في التحريم هو الأول و هو الذي أجمع علماء الإمامية على بطلانه و يحمل عليه تصريح الشيخ المفيد في المجالس و الشيخ في العدة، و المرتضى في الذريعة، و الشافي و ابن قبة و غيرهم لأنه هو الذي كان في قبال الأدلة الشرعية دون الثاني فإنه عمل بالأدلة الشرعية و لذا تراهم في رده يقولون: إنه اجتهاد في مقابل النص و يقرنونه بالقياس و قد يعبرون عنه بالرأي

ثانيها [المنع عن أخذ الأحكام من غير المعصومين ع]

ما ذكروه من أنه وردت أخبار كثيرة دالة على وجوب الاقتصار في أخذ الأحكام عن المعصومين عليهم السّلام و المنع عن الأخذ من غيرهم، و لا ريب ان أخذ الأحكام من الاجتهاد، و أخذ العامي من المجتهد أخذ من غير حجج اللّه تعالى. و جوابه كما ذكره النراقي (ره) أنه لا ينافي توقف أخذ الأحكام من كلامهم عليهم السّلام على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 158

العلم بالمقدمات التي يتمكن بها من الاستنباط من حديث

آل محمد عليه السّلام. و حديثهم صعب مستصعب لا يحتمله كل أحد، و فيه عام و خاص، و مطلق و مقيد، و محكم و متشابه و تقية. فهذه الاخبار لا تدل على أن أخذ الأحكام من اخبارهم عليهم السّلام لا يتوقف على شي ء، نعم تصلح هذه الأخبار للرد على اجتهاد العامة لأخذهم الأحكام من مقدمات عقلية و قياسية و استحسانية من غير توسط الكتاب و السنة، و أما اجتهادنا فغير خارج عن أخذ الأحكام عن الكتاب و السنة غاية الأمر قد استنبطها الماهرون المجتهدون من ظواهر الكتاب و السنة بصريح الدلالة أو فحواها أو بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام أو الإيماء أو الإشارة أو المفهوم أو المنطوق أو بالأولوية أو النص على العلة أو الملازمة العقلية.

(ثالثها) وجود الآيات الناهية عن العمل بالظن

منها قوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. و منها قوله تعالى إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ*.

و منها إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً*. و غيرها من الآيات و الروايات التي نستفيد منها القطع بالمنع عن العمل بالظن. و جوابه ان هذه مخصصة بالأدلة القطعية التي قامت على حجية الظن في الأحكام الشرعية حتى دليل الانسداد فإنه أخص نظير تخصيصها بالأدلة التي قامت على حجية البينة و اليد و سوق المسلمين.

رابعها أن العمل بالظن قبيح عقلا

لمخالفته للواقع غالبا فلا يعقل جعل الشارع له حجة للملازمة بين العقل و الشرع. و جوابه انه إن كان المراد به انه قبيح مع عدم جعل حجيته فهو مسلم، و إن كان المراد انه قبيح مع جعله حجة فهذا خلاف الوجدان لحكم العقل بحسن العمل بالحجة المجعولة من قبل المشرع للحكم فان بناء العقلاء و حكم العقل بجواز العمل بما يجعله المولي طريقا للواقع و إن كان المراد عدم إمكان جعله حجة كما نسب ذلك الى ابن قبة. فقد بين الأصوليون بطلانه في مباحث حجية الظن على انه مخالف لما ذهب اليه الخصم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 159

من جعل الظن حجة في الموضوعات كقيم المتلفات، و أرش الجنايات، و إضرار الصوم بالمريض، و عدد الركعات، و تعيين جهة القبلة. و دعوى انه لو لا جعل الظن في المذكورات للزم الحرج بخلاف ما نحن فيه.

فاسدة فإن الحرج أيضا لازم علينا لو لم يجعل الظن في الأحكام حجة علينا لعدم حصول العلم لنا من الاخبار و الكتاب و إن فرض حصوله منها للخصم. مضافا الى ان الحرج لا يرفع محالية الجعل و يقلبها إلى إمكان الجعل و فعليته.

خامسها [عدم الدليل على حجية الظن]

ان العلم حجة باتفاق الفريقين و الظن لم يقم دليل على حجيته و جوابه إن أدلة حجية الظنون قد تعرض لها في علم الأصول مفصلا. و كون العلم حجة عند الفريقين لا يوجب عدم حجية غيره و إنما الذي يوجب عدم حجية الغير هو عدم قيام الدليل عليها. و نحن إنما نقول بحجية ظن المجتهد الذي قام الدليل على اعتباره.

سادسها عن الرضا عليه السّلام ان لكلامنا حقيقة و عليه نور

فما لا حقيقة له و لا نور عليه فذلك للشيطان. و قد حكي تواتر ذلك عن المعصومين عليهم السّلام و المراد بالنور هو العلم لما اشتهر ان العلم نور يقذفه اللّه تعالى في قلب من يشاء.

و جوابه كما في كتاب جدي كاشف الغطاء (ره) انه لو كان المراد كما فهمه الخصم فلما ذا كان أصحاب الأئمة عليهم السّلام يعرضون الروايات على الكتاب و السنة فان النور لا يخفى على احد، إلا اللهم ان يكون النور يظهر للاخباريين دون غيرهم و عليه فلا بد لغيرهم من الرجوع للظن إذ لا طريق لهم للتكاليف سوى الظن و لعل المراد ان لبعض كلماتهم دلالة على انها لهم كآيات الكتاب الشريف الدالة على انها منه.

سابعها [نقد الأخبار و تهذيبها بعد عرضها على الأئمة ع]

ان الروايات قد عرض الكثير منها على الأئمة عليهم السّلام، و كذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 160

الكتب ككتاب عبد اللّه الحلبي الذي عرض على الصادق عليه السّلام، و ككتابي يونس ابن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان المعروضين على العسكري عليه السّلام و الأصحاب قد نقدوا الاخبار و هذبوها، فلو كان الظن حجة لما صنعوا ذلك و لعملوا بكل خبر لأنه يفيد الظن فلا بد ان يكون عملهم هذا لتمييز ما يفيد العلم من الاخبار عن غيره. و جوابه ان هذا العرض و النقد و التهذيب لتمييزها هو مفيد للظن المعتبر عن غيره و خوفا من الخطأ فيها لا لتمييز ما يفيد العلم عن غيره كما هو الحال في هذا الزمان.

ثامنها [منافاة أبدية الحل الحرمة لقابلية الحكم الاجتهادي للتغيير]

انه قد تواتر «ان حلال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلال ليوم القيامة، و حرامه حرام ليوم القيامة». و لو جعلنا الظن حجة لم يكن الأمر كذلك لتبدل الظن و تغييره فقد يظن المجتهد بحرمة شي ء ثمَّ يتبدل ظنه بحليته و قد يعكس الحال فلم يكن الحلال حلالا إلى الأبد، و لا الحرام حراما إلى الأبد. و من هنا يتولد عندنا شكل أول على بطلان العمل بالظن الاجتهادي و هو ان كل حكم اجتهادي قابل للتغيير و كل قابل للتغيير مناف للشريعة إسلامية الأبدية، فكل حكم اجتهادي مناف للشريعة الإسلامية الأبدية. و جوابه بالنقض عليهم إذا عملوا بالعام الدال على الإباحة ثمَّ وجدوا بعد ذلك المخصص له أو فهموا من الخير شيئا ثمَّ عدلوا عن ذلك لفهمهم خلافه، (بالحل) بأن المراد به الأحكام الواقعية، فإنها هي حلال محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حرامه

الذي لا يتغير بتغيير الزمن خلافا للقائلين بالتصويب. و اما الأحكام الظاهرية فلا مناص من اختلافها بحسب اختلاف الآراء و الأحوال و العلم و الجهل، كما إذا وجد المسلم شيئا في سوق المسلمين فحكم بحليته ثمَّ بعد ذلك ظهر حرمته أو أخذ لما من يد مسلم فحكم بأنه حلال ثمَّ ظهر حرمته أو أجرى أصالة الطهارة في شي ء ثمَّ بان نجاسته.

(تاسعها) [عدم صحة ابتناء الشريعة الإسلامية السهلة على استنباطات صعبة]

أن الشريعة الإسلامية قد ثبت أنها سهلة سمحة فكيف تكون مبتنية على استنباطات صعبة مضطربة. و جوابه كما ذكره جدى كاشف الغطاء (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 161

إن سهولة الشريعة لا تجوز طلب العلم و القطع بها كما يرومه الخصم لعسر ذلك من جهة قدم العهد بالأئمة الأحد عشر عليهم السّلام و حصول الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر روحي له الفداء، بل حتى في أيام الأئمة السابقين بعد أمير المؤمنين عليه السّلام لأنهم في حكم الغائبين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ثمَّ أى حرج و ضيق في ترتيب الأحكام على الظنون بل الحرج و العسر يكون بالإلزام بتحصيل العلم بالأحكام الشرعية لاختلاف الروايات و ضعف القرائن و غير ذلك ما يوجب عدم إمكان القطع بالأحكام.

(عاشرها) إن جواز الأخذ بالظن يؤدى الى تسهيل العذر لليهود و النصارى

و نحوهم بدعواهم حصول الظن لهم بملتهم. و جوابه إنا لو جوزنا العمل بالظن في الأصول أمكن الإيراد المذكور لكن نحن نقول به في الفروع و إنا نقول بالتعذيب على التقصير في تحصيل العلم بأصول الدين.

(الحادي عشر منها) انه يلزم من جواز العمل بالظن اثارة الفتن

، و اقامة الحروب، و سفك الدماء، و قتل النفوس كما هو المشاهد. قال ابن ابى الحديد في مقام الاعتذار عن الحروب و الفتن الواقعة بين الصحابة، ان السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام اللّه تعالى. و جوابه إنا لا نرى في اجتهاد المجتهدين مع كثرته عندنا ما يترتب عليه ذلك الى زماننا هذا فكيف يدعي انه من المشاهد له ذلك. و لعل نظر المستدل إلى العامة في حربهم أهل الردة و أخذهم فدك و قتلهم بعض الصحابة، و قتل الحسين عليه السّلام، و لكن هؤلاء إنما عملوا حبا للرئاسة و الملك، و لو سلمنا انه عمل بالاجتهاد و حاشا ذلك، فهو اجتهاد باطل لأنه لم يكن مستندا لدليل و لا لتبصر و تأمل و تفحص في الحكم الشرعي فلا يكون قدحا في الاجتهاد الصحيح كما ان الأعمال القبيحة الصادرة عن العلم الباطل لا تكون قدحا في العلم الصحيح كيف و الاجتهاد المذكور كان منهم في مقابل النص و القطع، و نحن كلامنا في الاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 162

في معرفة النص و الدليل الصحيح.

(الثاني عشر منها) إن الظن الاجتهادي يختلف باختلاف الآراء

و الأذهان و الأحوال و مداركه غير منضبطة، و كثيرا ما يقع فيه التعارض و اضطراب الأنفس فإنه قد رجع كثير من فحول العلماء عما افتى به فهو لا يصلح أن يجعله اللّه تعالى مناطا لأحكامه المشتركة بين الأمة إلى يوم القيامة. و جوابه ان العلم أيضا كذلك، فإنه يختلف باختلاف الآراء و الأذهان و مداركه غير منضبطة على ان المدارك للظن الاجتهادي عندنا منضبطة و هي الأدلة الأربعة الكتاب و السنة و الإجماع و العقل، ثمَّ بعد قيام الحجة على العمل به من المشرع الأعظم

أي محذور في ذلك خصوصا مع عدم تمكننا من العلم بالواقع فتكون شبهة في مقابل البداهة.

(الثالث عشر منها) إن الظن الحاصل بالاجتهاد مبني على حصول الملكة

القدسية التي اعتبروها في معنى الفقيه و المجتهد، و أيضا اعتبروا في الاجتهاد بذل الوسع بقدر مخصوص، و لا يخفى على اللبيب أن الملكة المذكورة و القدر المشار اليه من بذل الوسع أمر ان مخفيان غير منضبطين فلا يصلحان أن يكونا مناطا للأحكام. و جوابه كما ذكره المرحوم السيد نور الدين إنها تعرف بآثار التصرف و تكرار مواردها و صحة لوازمها الموجبة لشهادة أهل العلم و هي قريبة من ملكة العدالة. قال جدي كاشف الغطاء (ره): و لا خفاء فيها لدلالة الآثار عليها و إلا لم يميز الكريم من البخيل، و لا الشجاع من الجبان، و لا الذكي من البليد. و الحاصل انه إن أريد الخفاء على المجتهد فممنوع، و إن أريد الخفاء على المقلدين فلا مانع لأن المقلد لا يجب عليه إلا معرفة أن هذا مجتهد و لو بنحو الإجمال بالبينة و نحوها.

(الرابع عشر منها) إنه لو جاز العمل بالظن الاجتهادي

في حين انه يستلزم جواز الخطأ لم تجب عصمة الامام عليه السّلام لأن وجوبها مبني على انه يجب على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 163

اللّه تعالى إيصال العبد إلى الأحكام الواقعية.

و بعبارة أخرى إن اعتبار العصمة في الإمام عليه السّلام لأجل تحصيل الواقع و الأمن من الوقوع في خلافه لينقطع به العذر للأنام و هو يقتضي عدم جواز الأخذ بالظنون الاجتهادية لعدم تحصيل الواقع بها و لا يأمن من مخالفتها للواقع، و إن شئت قلت: ان دليل العصمة القبح من الحكيم أن يوجب على كافة الخلق الرجوع إلى من يجوز عليه الخطأ، و تجويز الشارع الرجوع إلى الظن معناه تجويز الحكيم الرجوع إلى ما فيه الخطأ، و هذا الإيراد أورده رئيس المشككين الفخر الرازي على الإمامية، و ذكره

صاحب الفوائد المدنية و جوابه إن بالعلم أيضا يقع الخطأ فالإشكال مشترك الورود، و بالحل ان الامام له مقام يقتضي العصمة دون المجتهد فإنه ليس له هذا المقام إذ الإمام يخبر عن اللّه تعالى و رسوله من دون واسطة، فلا بد من العصمة ليعلم بعدم خطئه و اشتباهه و إلا لاحتاج إلى إمام آخر يرشده و هلم جرا، فيلزم التسلسل بخلاف المجتهد، فإنه يأخذ من الأدلة المعتبرة عنده علما أو ظنا و هي ممكنة المخالفة للواقع حتى القطعي منها.

(الخامس عشر منها) [منافاة اقتضاء قاعدة اللطف بتحصيل العلم بالحكم الشرعي مع التكليف بالظن]

إن قاعدة اللطف و هي الوجوب على اللّه تعالى أن يصنع ما يقرب العبد للطاعة و يبعده عن المعصية تقتضي أن يفتح اللّه تعالى باب العلم بالأحكام الشرعية كما تقتضي بعث الأنبياء و نصب الأوصياء، فلا بد على اللّه تعالى أن يدل على الأحكام الواقعية و أن يحفظ الأدلة عليها من حدوث ما يوجب دلالتها على خلاف الواقع كالخطإ، و النسيان، و الضياع، و الدس فيها فبواسطة قاعدة اللطف يحصل لنا العلم بالأحكام الشرعية من الأدلة، أو يقال ان التكليف بتحصيل العلم بالحكم الشرعي لطف، و التكليف بالظن خلافه فيجب على اللّه تعالى الأمر بتحصيل العلم. و جوابه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 164

(أولا) بالنقض بأن الأخباريين نفسهم قد يختلفون في الأحكام الشرعية كالصدوق (ره) فإنه جوّز القنوت بالفارسية، كما في المحكي عن الفقيه مستدلا عليه بكل شي ء مطلق حتى يرد فيه نهي، و بصحيح ابن مهزيار قال: سألته عن الرجل يتكلم في صلاة الفريضة بكل شي ء يناجي به ربه؟ قال عليه السّلام: نعم و خالفه في ذلك جملة من الأخباريين و منهم صاحب الحدائق مدعيا أن معنى الحديث هو جواز الدعاء بكل

شي ء من المطالب لا باعتبار اللغات المختلفة إلى غير ذلك من الاختلافات بينهم يجدها من يرجع لكتبهم. فلو كانت الأدلة محفوظة من حدوث ما يوجب دلالتها على خلاف الواقع لما وقع بينهم هذا الاختلاف في الأحكام الشرعية.

(و ثانيا) بالحل بأن قاعدة اللطف إنما تقتضي أن يكون ما يرجع أمره إلى اللّه تعالى من الدلالة على الواقع ان يصنعه، من إرسال الرسل و نصب الأوصياء و إظهار المعاجز الموجبة للعلم بصدق مقالتهم و عصمتهم عن الخطأ و الخطيئة و ليس عليه أن يرفع ما يحدثه العباد من الموانع لعدم اطلاعهم على الواقع من قتلهم الأئمة عليهم السّلام و عدم رجوعهم إليهم، و الافتراء عليهم، و الدس في أحاديثهم، و أخطائهم و سهوهم في نقلها.

و بعبارة أخرى إن قاعدة اللطف إنما تقتضي على اللّه تعالى أن يفعل بعض الأمور التي تقرب العبد للطاعة لا مطلقا و إلا لوجب على اللّه تعالى ان يجعل في العباد الإرادة لامتثال التكاليف و صرفهم عن المعاصي و إنما يجب عليه من تلك الأمور خصوص ما يرجع أمره اليه، و لا يتمكن العباد عليه، أما الأمور التي تقرب العبد للطاعة و البعد عن المعصية التي يتمكن العباد منها فلا يجب على اللّه تعالى فعلها كجبر العباد تكوينا على الرجوع إلى الرسل و الأئمة عليهم السّلام، و سلب قدرة العباد على قتلهم عليهم السّلام، و تشريدهم عليهم السّلام، و اخراس العباد عن الكذب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 165

عليهم عليهم السّلام، و جعل العصمة في العباد عن الخطأ في نقل الأدلة على التكاليف فان هذه الأمور لا تقتضيها قاعدة اللطف كما يشهد بذلك الوجدان و البرهان، فان على اللّه تعالى

الإحسان و ما عليه لو أوقعنا أنفسنا في الحرمان و قد أوضحنا ذلك في كتب الكلام.

و دعوى ان إيجاب تحصيل العلم من اللطف. فاسدة لأن إيجاب تحصيل العلم بالأحكام في هذا العصر يوجب تضييع أغلب الأحكام لعدم تيسر العلم بها.

(السابع عشر منها) إن المجتهدين قد يعملون بالقياس

و نحوه و يتركون العمل بكثير من أخبار الأئمة عليهم السّلام و جوابه إن هذا افتراء عليهم و قد منعوا أشد المنع من العمل بالظن الغير المعتبر فكيف يعملون بالقياس الذي قام الدليل القطعي من الأئمة (ع) على المنع منه أشد المنع.

(الثامن عشر منها) إن مذهب الأخباريين أوفق بالاحتياط

لأنه أخذ، بالعلم و اليقين. و جوابه إنهم إن أرادوا أن الأخذ بالقطع أرجح من الأخذ بالظن الغير المعتبر مع التمكن من العلم، فهو مما لا نزاع فيه و إن أرادوا أن ذلك أرجح مع عدم التمكن من العلم بحيث ان الإنسان في هذه الصورة لا يأخذ بالظن أيضا فهو باطل لأنه مستلزم لأحد أمرين اما تكليف ما لا يطاق و هو التكليف بتحصيل العلم، و اما ارتفاع التكاليف عنه، و إن أرادوا أن ذلك أرجح مع الظن المعتبر فهو غير مسلم، فان المشرع إذا كان بنفسه اكتفى بالظن عن العلم فأي رجحان إلزامي للعلم على الظن المذكور، على أن الأوفق بالاحتياط هو حكم من لا يأخذ بالرواية إلا بعد الفحص عن المعارض و المقيد و البحث عن السند و الترجيح بالمرجحات لا من يعمل بالرواية من دون فحص عن المعارض و الموافقة للعامة و عمل المشهور بها و نحو ذلك كما قال جدي كاشف الغطاء (ره):

إن الآخذين بالاحتياط هم المتأملون المتدبرون فيما يصلهم من الاخبار و لا يعولون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 166

عليها إلا بعد أن ينقدوها نقد الدرهم و الدينار و لا يسمعون كل ناطق و هم المجتهدون الذين أشغلوا أنفسهم في الليل و النهار و صرفوا الأعمار في معرفة الصحيح من الأخبار و عرضها على كتاب اللّه و سنة النبي المختار و لم يقلدوا في نقدها

المحمدين الثلاثة محمد بن يعقوب الكليني (ره)، و محمد بن علي بن بابويه القمي (ره)، و محمد بن الحسن الطوسي (ره) و نحوهم.

(التاسع عشر منها) [لا وجه للعمل بالظن لوضوح ان ما من واقعة إلا و قد جاء فيها حكم كتابا أو سنة]

ما روي حتى كاد أن يكون متواترا عنهم عليهم السّلام انه ليس شي ء من أحكام اللّه إلا و قد جاء به كتاب أو سنة، في الكافي عن عمر ابن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سمعته يقول: إن اللّه تعالى لم يدع شيئا تحتاج اليه الناس إلا و قد جاء فيه كتاب و سنة. و كفى قول اللّه تعالى «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ». و عليه فلا وجه للعمل بالظن الاجتهادي لأن محل الاجتهاد ما لم يكن دلالة قطعية على الحكم، و قد دلت هذه الروايات على أن لكل واقعة تحتاج إليها الأمة دلالات من أهل العصمة و بعد ذلك فأي حاجة إلى بذل الجهد في استنباط الأحكام و تحصيل المقدمات. و جوابه نعم و لكن نحن بأعمالنا و سوء تصرفاتنا ضيعنا ذلك. و قد ورد عن أبي الحسن: إن اللّه لم يقبض نبيه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى أكمل له دينه و إنه مخفي عند أهل بيته. و عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا و له أصل في كتاب أو سنة و لكن لا تبلغه عقول الرجال، هذا مضافا إلى عدم المنافاة بين وجود الأحكام في الكتاب و السنة و بين اختصاص فهمها بشخص معين و هو من اجتهد فيها، ألا ترى إن اللّه تعالى يقول لٰا رَطْبٍ وَ لٰا يٰابِسٍ إِلّٰا فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ مع انه لا يفهم ذلك إلا الراسخون في العلم.

(العشرون منها) إن الاجتهاد موافق للعامة و مخالف لطريقة الأئمة

الخاصة، و قد تواتر أن الرشد في خلافهم. و جوابه ان الاجتهاد بمعنى التعويل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 167

على القياسات و الاستحسانات

و الاعتبارات فهو مما ندين اللّه تعالى ببطلانه اما الاجتهاد بمعنى أخذ الأحكام عن أدلتها المعتبرة على النهج الصحيح فهو ما يريده الأئمة و أمرونا به كما عرفت من انهم عليهم السّلام قالوا: علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع عليها، كيف و الاجتهاد بالبحث عن المعارض أو المخصص أو الناسخ أو الموافق للكتاب أو للعامة و عن حقيقة اللفظ و معانيه لازم للأخذ بكلامهم عليهم السّلام

(الواحد و العشرون منها) [عمل أصحاب النبي ص وفقا لما يفهمونه من الخطابات الشرعية بلا فحص و لا مقدمات]

إن الطريقة المستمرة بين أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام إنهم إذا سمعوا آية أو رواية يعملون بها من غير تأمل أو فحص و لا قراءة علوم أخر، و هكذا كان الأمر إلى زمان الصادق عليه السّلام فكان بعض أصحابه يجمعون بعض الأخبار المتعلقة ببعض الأحكام يسمونه بالأصل فكان الجامع و من عنده يعملون به من دون فحص أو تحصيل مقدمات. كيف و خطابات الشارع مثل الخطابات العرفية فإن العرف إذا خاطبهم أحد يعمل بمقتضى ما فهمه من الخطاب من دون توقف علي فحص أو مقدمات و اجتهاد. و جوابه انه بالنسبة إلى أصحابهم تكون خطابات شفاهية لا تحتاج إلى إثبات حجية صدورها و وضوح دلالتها و لو وقع في دلالتها شك أمكن السؤال، فلذا لا يحتاجون في معرفة الأحكام منها إلى مقدمات و لا إلى فحص بخلاف ما نحن فيه فإنه لبعد الزمن بيننا و بينهم و كثرة القالة عليهم و وقوع التقطيع و التصحيف في كلماتهم و كثرة المخصص و المعارض لخطاباتهم مع اختلاف العرف بيننا و بينهم، و خفاء القرائن الحالية و المقالية علينا في كلماتهم كل ذلك يوجب الفحص و تحصيل المقدمات لمعرفة المراد من كلامهم عليهم

السّلام و قد تقدم في الدليل الخامس على حجية الاجتهاد ضرب المثل لك في الاحتياج إلى المقدمات راجع ص 154.

(الثاني و العشرون منها) إنه لو كان أخذ الأحكام موقوفا على السعي و الاجتهاد و المقدمات

لبينها الأئمة عليهم السّلام بل الأخبار الدالة على وجوب العمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 168

بأحاديثهم من غير اشتراط شي ء يدل على عدمه. و جوابه ان الأخذ لما كان لا يحصل إلا بذلك فهو مقدمة وجود له نظير مقدمات الواجبات، فكما ان المعصومين (ع) اعتمدوا على العقل في لزوم الإتيان بمقدمات الواجبات الوجودية فكذا ما نحن فيه. هذا مضافا إلى أن الأخذ في زمانهم (ع) لم يحتاج إلى تلك المقدمات الموجودة في زماننا حتى يذكرونها في زمانهم فأوكلوا مقدمات الاجتهاد في كل زمان إلى عقولهم لأنها لا تخطأ في ذلك.

و يلحق بهذا المقام مطلبان:
المطلب الأول جواز العمل بالاجتهاد في نفس مسألة جواز الاجتهاد

ثمَّ إن مسألة جواز العمل بالظن الاجتهادي لا يصح العمل بالظن الاجتهادي فيها و الا لزم الدور بل لا بد من تحصيل اليقين بجواز العمل بالظن الاجتهادي و مع عدم التمكن من تحصيل اليقين بذلك و الشك فالقاعدة تقتضي عدم جوازه لأنه الشك في الحجية كما تقرر في محله موجب لعدم جواز العمل بالمشكوك نعم يجوز له تقليد الغير في ذلك إن كان عاميا في تلك المسألة و كان التقليد حجة عنده في ذلك و إن كان هذا الفرض بعيدا جدا لكن على تقدير تقليده فيها لا يجوز للغير الرجوع له في مستنبطاته حيث أنها ترجع إلى التقليد أيضا لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات، هذا و لكن التحقيق أن المجتهد المطلق لما كانت ظنونه تنتهي إلى العلم بحجيتها و القطع بذلك و إلا لما صح له العمل بها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 169

فهو عالم و قاطع بجواز عمله بظنونه فلا يحتاج إلى الاجتهاد في حجيتها أو إلى تقليد الغير في حجيتها، نعم بناء على انسداد باب العلم و

العلمي عليه. و قلنا بأن نتيجة دليل الانسداد مهملة ربما يقال باحتياجه لإثبات حجية ظنونه بالنسبة اليه إلا انه قد يقال انه على تقدير الإهمال، فالقدر المتقن دخول ظنونه في النتيجة. و كيف كان فلا بد له من تحصيل اليقين بجواز عمله بالاجتهاد و قد تقدم الكلام في لزوم التقليد أو الاجتهاد في مسألة الاحتياط ص 63 فراجعه ينفعك هنا.

المطلب الثاني ان مسألة جواز الاجتهاد و التقليد أصولية أم لا

اختلف القوم فيما بينهم في كون مسألة جواز الاجتهاد و التقليد من المسائل الفقهية أو الأصولية أو الكلامية، و الثمرة في ذلك إنها لو كانت من الفقهية عمل فيها بمطلق الظن بناء على حجية مطلق الظن فيه كما هو مذهب الانسداديين، و إن كانت من الأصول عمل فيها بالظنون الخاصة دون المطلقة و ان كانت كلامية لا يعمل فيها بالظن حتى الظن الخاص إذا عرفت ذلك فنقول:

قيل انها من المسائل الفقهية لأن مرجعها إلى الجواز و عدم الجواز، و لأنها يبحث فيها عن أحوال فعل المكلفين، و قيل أنها من المسائل الأصولية لأن بناء العلماء على ذكرها في علم الأصول، و قيل أنها من الكلامية لأن مسائلها تشبه مسألة حجية قول الامام و تجري مجرى وجوب اطاعته إذ لا مناص من وجوب معرفة ان الحجة بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 170

غيبته عليه السّلام من هو و لا دخل لها في الفقه لأنه إنما يبحث عن الأحكام الفرعية المتعلقة بكيفية العمل بلا واسطة و لا في أصول الفقه فإنه الباحث عن عوارض الأدلة، و ليس ذلك منها (و الحاصل) إن الرجوع للعالم بأحكام الشرع من مسائل أصول الدين التي تثبت بالعقل أو النقل مثل المعاد و وجود الامام، فكما لا بد للمكلف

من الاعتقاد بوجود الامام لا بد له من الاعتقاد بوجوب متابعة العالم بعد غيبته عليه السّلام، اما بالعقل أو النقل. أما العقل فلأن كل من يدخل في الدين يعلم بأن عليه أحكاما كثيرة على سبيل الاجمال و إن التكليف بها لم ينقطع و لا بد في أخذها من الرجوع للعلماء بها. و أما النقل فمن جهة ما ورد من الأمر بالسؤال من أهل الذكر و الرجوع لأصحابهم (ع).

و يمكن أن يقال عليه ان كلا من الاجتهاد و التقليد و رجوع العامي للعالم لا دخل له بالاعتقاد بل كالرجوع لأهل الخبرة و وجوب الاعتقاد بوجوب الاجتهاد أو التقليد ليس إلا من قبيل وجوب الاعتقاد بوجوب الصلاة وجوب تبعي مأخوذ من وجوب العمل بالاجتهاد أو التقليد و ليس وجوب الاعتقاد بذلك من حيث هو مطلوب كالاعتقاد بالإمام عليه السّلام و لا يعاقب المكلف على عدمه زائدا على عقابه على عدم امتثال التكاليف. و ليس معرفة الحجة بعد الغيبة كمعرفة الإمام عليه السّلام، لأن وجوب معرفة الإمام وجوب أصلي ثابت بالعقل و النقل فيعاقب على مخالفته بخلاف معرفة الحجة بعد الغيبة ليس مكلف به الإنسان و لم يدل عليه دليل، و لذا لو امكنه الاحتياط و احتاط في تكاليفه لم تجب عليه المعرفة.

و لكن لا يخفى ان هذا يتم لو قلنا بوجوب معرفة المرجع الديني في زمن الغيبة و لكن كلامنا في وجوب الرجوع اليه نظير الكلام في مسألة وجوب الرجوع للإمام عليه السّلام فإنها مما ترجع للمبدء و المعاد فتكون من علم الكلام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 171

(الثاني من الأحكام) جواز الفتوى له بل وجوبها عليه

من احكام المجتهد انه يجوز له الفتوى بما ادى اليه رأيه و ذلك لقول الباقر عليه

السّلام لأبان بن تغلب: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس. بل الأدلة الدالة على جواز تقليد العامي للمجتهد تدل بالاقتضاء على جواز الفتوى له.

مضافا الى السيرة العملية. بل يجب عليه الإفتاء عند السؤال منه عن حكم الواقعة التي هي محل ابتلاء السائل و يحتاج لمعرفة حكمها كسؤاله عن الواجبات و المحرمات عليه أو عما يدفع الضرر الحاصل به عن نفسه كما إذا سئل عن خيار الغبن بعد البيع بما فيه غبن دون ما إذا سئل عن المستحب قال النراقي (ره): كلما يجب فيه على المستفتي السؤال يجب على المفتي الجواب، فان وجب على الأول السؤال عن ذلك عينا يجب عليه الجواب كذلك و ما يجب عليه السؤال عن أحد الفقيهين يجب عليه الجواب كفاية. و كذا ما يتضرر المستفتي بجهله يجب عليه الجواب إما عينا أو كفاية و لا يجب في غير ذلك قال (ره): و دليل الكل الإجماع و الكتاب لقوله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ». و المروي في الصافي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنه قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار. و رواه في إحقاق الحق أيضا هكذا من علم علما و كتمه ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من النار. و ما رواه في الكافي بإسناده عن ابي عبد اللّه (ع) إنه قال: قرأت في كتاب على (ع) إن اللّه لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال. و الأخيرة مخصوصة بالواجبات لأنها التي أخذ العهد

على الجهال بطلبها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 172

و اما ما تقدمها و إن كانت عامة إلا ان صدق الكتمان في الآية الشريفة على سكوت الفقيه عن رأيه في مستحب أو مباح أو معاملة غير معلوم لا سيما بعد انتشار الجميع في كتب الأحاديث و الفقه من العربية و الفارسية، فإن المنهي عنه الكتمان المطلق دون الكتمان عن شخص خاص. و الروايتان اللاحقتان ضعيفتان غير معلوم انجبارهما بعمومهما، و مع ذلك روي في الكافي بإسناده عن ابي الحسن موسى (ع) قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل قال: ما هذا؟ فقيل: علامة، قال: و ما العلامة؟ قال: اعلم الناس بأنساب العرب و وقائعها و أيام الجاهلية و الاشعار العربية. قال: فقال: النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذاك علم لا يضر من جهله، و لا ينفع من علمه. ثمَّ قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنما العلم ثلاثة آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنة قائمة. و فسرت (الآية المحكمة) بأصول العقائد التي براهينها الآيات المحكمات. و (الفريضة العادلة) بفضائل الأخلاق و عدالتها كناية عن توسطها. و (السنة القائمة) بتشريع الأحكام و مسائل الحلال و الحرام. و روى أيضا بإسناده عن ابي عبد اللّه (ع) يقول:

وجدت العلم كله في أربع (أولها) ان تعرف ربك. (و الثاني) ان تعرف ما صنع بك. (و الثالث) ان تعرف ما أراد منك. (و الرابع) ان تعرف ما يخرجك عن دينك، و المراد من الأول واضح، و من الثاني علم النفس الإنسانية و صفاتها و ما يعود اليه من النشأة الآخرة و

ما يوجب شكر المنعم، و من الثالث الفضائل النفسانية و الأوامر الشرعية، و من الرابع الرذائل و النواهي و يخرج من هاتين الروايتين كثير مما يعمه الروايتان المرسلتان المتقدمتان بل يمكن ان يقال بعدم خلو معاني الثلاثة المذكورة في الرواية الأولى عن إجمال و لأجله يدخل الإجمال في العمومات أيضا فلا تكون العمومات المذكورة صالحة للاستدلال بها إذ معه يحصل الاجمال فيها فتأمل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 173

(الثالث من الأحكام) حرمة تقليد المجتهد لغيره و جواز تقليد الغير له
اشارة

الكلام يقع (أولا) في المجتهد المطلق، (و ثانيا) في المتجزي. أما المجتهد المطلق و هو من كان له ملكة الاجتهاد في تمام الفقه فله صور أربعة:

(الأولى) ان يستنبط جميع مسائل الفقه و هذا لا إشكال في جواز عمله باجتهاده و حرمة رجوعه للغير لأن الأدلة الدالة على الرجوع للغير إنما هي ظاهرة أو منصرفة لمن لم يتمكن من معرفة الحكم الشرعي أو كان في معرفته له حرج عليه و هذا حسب الفرض عالم به كما انه يجوز رجوع العامي له كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مبحث التقليد إلا ان هذه الصورة قد عرفت عدم تحققها.

(الثانية) أن يستنبط معظم الأحكام الفقهية مع تمكنه من استنباط باقي الأحكام الشرعية، فهذا أيضا يجوز له العمل باجتهاده، و يحرم عليه ان يقلد الغير في الأحكام التي لم يستنبطها لأن أدلة التقليد و جواز الرجوع إلى الغير القدر المتيقن منها هو رجوع الجاهل الغير القادر على الاستنباط أو من كان عليه حرج في استنباطها و هذا حسب الفرض قادر على ذلك، و لا حرج عليه.

إن قلت: كيف كان العوام يرجعون لأصحاب الأئمة (ع) مع تمكنهم من الرجوع للأئمة عليهم السّلام و تحصيل الحكم الشرعي منهم (ع).

قلنا: لم يرجعوا

لهم في الفتوى و إنما يرجعون لهم في الرواية إلا مع عدم تمكنهم من الاجتهاد أو تعسره عليهم و اما جواز رجوع العامي له فسيجي ء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 174

إنشاء اللّه تعالى معرفة ذلك من الكلام في الصورة الرابعة الآتية.

(و الثالثة) ان تكون عنده الملكة التامة و لكنه لم يستنبط حتى الآن كما في صورة أوائل حدوثها و هذه الصورة يعلم الحال فيها من جواز رجوعه إلى الغير أم لا من الصورة التي بعدها.

(الرابعة) ان تكون عنده الملكة التامة و قد استنبط بعض الأحكام الشرعية و لكنه لم يتمكن من استنباط بعض الأحكام الشرعية الأخرى لتعارض النص أو فقدانه أو مخالفته للمشهور فيها فهل يجوز له ان يقلد الغير في تلك الموارد التي لم يتمكن من استنباط الحكم الشرعي لأنه جاهل بالحكم الشرعي فيها و الغير عالم به فيها أو يرجع إلى الأصول العملية أو إلى الظن الانسدادي إذا كانت مقدماته تامة عنده التحقيق انه لا يجوز له الرجوع للغير لعدم إحرازه أعلمية الغير منه في معرفة مدرك الحكم أزيد منه، بل يحتمل أن الغير مساو له أو أدنى منه في معرفة المدرك و إنه اشتبه في استنباط هذا الحكم فلم يحرز أعلميته بالمدرك منه بخلاف العامي فإنه يحرز أعلمية المجتهد منه و لو فرض إحرازه ذلك فهو ليس بجاهل بالمدرك حتى يرجع للغير بل هو عالم بالمدرك و لكنه لم يستفد الحكم منه. نعم لو احتمل وجود مدرك عنده غير ما أطلع عليه و هو متمكن من تحصيله و لا عشر عليه، و لم يكن متفحصا بمقدار اللازم لزمه أن يرجع للغير في معرفة ما عنده من المدرك نظير ما

لو احتمل وجود المدرك في بعض الكتب التي لا عسر في مراجعتها.

و الحاصل ان البالغ ملكة الاجتهاد لا يجوز له التقليد في المسائل التي اجتهد فيها إجماعا محكيا عن الشيخ الأنصاري و غيره و السيرة على ذلك من غير فرق ظاهرا بين من استنبط الحكم الواقعي و بين من توقف بالمسألة لتعارض النص أو لعدم النص، فان وظيفته الرجوع إلى الأصول دون التقليد لعدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 175

جريان أدلة التقليد في حقه لظهورها في الجاهل الغير المتمكن من مراجعة الأدلة لا من راجع و لم يجد دليلا أو اعتقد بخطإ من يدعي الدليل هذا بالنسبة إلى عمل نفسه، و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مبحث التقليد في مسألة من لا يجوز له التقليد الكلام في ذلك أيضا.

و أما بالنسبة إلى تقليد الغير له في تلك المسائل فقد منع جدي كاشف الغطاء (ره) في المحكي عنه عن اعتبار ظنه بالنسبة لنفسه و لغيره إذا علم ببعض الأحكام القليلة و إن كانت عنده ملكة مطلقة و منع، الآخوند (ره) في كفايته من جواز تقليده في المسائل التي رجع فيها لمطلق الظن من باب الانسداد أو للأصول العملية عند الانفتاح،

[وجه منع صاحب الكفاية تقليد المجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي.]
اشارة

أما وجه منع الآخوند (ره) في صورة الانسداد فلأمرين:

(أحدهما) ان رجوعه اليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم الذي عرف حلالهم و حرامهم بل هو رجوع إلى الجاهل لعدم وصوله إلى حكم من الأحكام و إنما كان معذورا فيما يعمل بأنه بحسب حكم العقل. و أدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع الجاهل إلى العالم العارف بالأحكام، و لا يخفى أن هذا الوجه الأول مبني على الحكومة أي على تقرير مقدمات الانسداد

بنحو تفيد حكم العقل بلزوم العمل بالظن لا بنحو يستكشف منها حجية الظن عند الشارع لأنه عليها لم يكن المنسد عنده باب العلم عالما بالحكم الفعلي الفرعي الشرعي لا الواقعي و لا الظاهري، و هكذا لم يكن عالما بالحكم الأصولي الشرعي لأن عمله بالظن عنده اما من جهة انه حجة عقلية كالقطع حال الانفتاح أو من جهة لزوم الامتثال الظني عليه من باب الاحتياط. و كيف كان فهو ليس بعالم بحكم شرعي لا أصولي و لا فرعي حتى يقلده الجاهل فيه.

(و ثانيهما) انه على تقدير انسداد باب العلم و العلمي، فمقتضى مقدمات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 176

الانسداد على تقرير الحكومة أو على تقرير الكشف هو اختصاص الحكم الشرعي بالمجتهد لأنه يرجع إلى الحكم بجواز العمل بالظن، و جواز العمل بالظن إنما يثبت للذي جرت في حقه مقدمات الانسداد من العلم الإجمالي بالتكاليف و غيرها نظير من اختص حجية قطعة به من جهة حصوله من الطرق الغير المتعارفة كالرمل و الحساب و الجفر فتكون الأحكام المستفادة من الظن الانسدادي مختصة بالمجتهد لوجود موضوعها و هو الظن الانسدادي بمقدماته عنده دون غيره من العوام، و أدلة التقليد إنما تثبت رجوع الجاهل إلى العالم في الأحكام المشتركة لا الأحكام المختصة. فان المقلد الحاضر لا يرجع إلى المجتهد المسافر في وجوب قصر الصلاة.

[وجه منع صاحب الكفاية تقليد المجتهد العامل بالأصول العقلية.]
اشارة

و أما في صورة الانفتاح و عمل المجتهد بالأصول العملية العقلية، فأيضا لا يجوز تقليده في الأحكام المستفادة منها لأن جواز العمل بها مختص بالمجتهد ضرورة أن موضوعها و هو الشك البدوي كما في البراءة أو الشك مع العلم بالحالة السابقة كما في الاستصحاب أو العلم الإجمالي بالتكليف كما في الاحتياط أو

دوران الأمر بين المحذورين كما في التخير لا يوجد في العامي حتى يجوز له العمل بها كما تقدم من عدم جواز رجوع العامي للمجتهد بالظن الانسدادي.

و أيضا إن موارد الأصول العملية العقلية لا يعلم المجتهد فيها لا بالحكم الفرعي الشرعي و لا بالحكم الأصولي الشرعي فكيف يرجع اليه الجاهل لمعرفة ذلك كما قررناه في الوجه الأول على عدم جواز رجوع العامي للمجتهد بالظن الانسدادي، و حاصل هذين الوجهين ان المجتهد المذكور ليس بعالم بالحكم الشرعي و لو سلمنا انه عالم، فالحكم مختص بالمجتهد المذكور ليس بعالم بالحكم الشرعي و لو سلمنا انه عالم، فالحكم مختص بالمجتهد لوجود موضوعه عنده دون العامي.

[الجواب عن الوجوه التي اعتمد عليها الآخند «ره» في منع تقليد المجتهد الانسدادى و العامل بالأصول العقلية.]
[أولا الجواب النقضي]

و لكن التحقيق خلاف ذلك و جواز رجوع العامي للمجتهد المذكور لأنه لو تمَّ ما ذكره لزم عدم الرجوع إلى المجتهد العامل بالأمارات الظنية كالخبر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 177

الواحد و نحوه، لأن الأحكام الموجودة عنده ترجع لجواز العمل بالأمارة و جواز العمل بالأمارة مختص بالمجتهد دون العامي لعين ما ذكره الخصم في الظن الانسدادي لوضوح أن موضوع جواز العمل بالأمارة موجود عند المجتهد دون العامي فإن موضوع جواز العمل بها لمن عرف حجية الظهور و عدم المعارض و صحة السند نظير ما ذكره الخصم في الظن المطلق الانسدادي من عدم وجود موضوع جواز العمل به عند العامي.

و أيضا إن العامل بالأمارة بناء على مسلك الخصم من أن جعل الحجية عبارة عن جعل الطريقة المحضة لم يثبت بها حكم شرعي أصلا لا الواقعي و لا الظاهري، و إنما الامارة تنجز الواقع عليه لو صادفت الواقع و تكون عذرا لو خالفت فلم يكن المجتهد يعلم بالحكم الشرعي من الأمارة أصلا.

إن قلت:

إن المجتهد يعلم بالحكم الأصولي الشرعي و هو قيام الامارة على هذا المورد و عدم قيامها، فالعامي يقلده في ذلك، ففي مورد قيام الامارة يؤخذ به، و في مورد عدمها يرجع العامي إلى ما يحكم به عقله كما أفاده الآخوند (ره) في كفايته.

قلنا: الحكم الأصولي لا يجوز التقليد فيه كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مباحث التقليد في مسألة (ما لا يجوز التقليد فيه). و لو سلمنا جوازه فقيام الامارة على مورد خاص أمر يحكم به العقل و ليس بحكم فرعي شرعي كما هو واضح، و لا بحكم أصولي شرعي لأن الحكم الأصولي الشرعي هو نفس حجية الامارة لا قيامها على مورد خاص و تطبيقها على موضوع معين، فلو جاز رجوع العامي للمجتهد في قيام الامارة على مورد خاص و هو أمر عقلي لكان يجوز له أن يرجع إلى المجتهد في الأصول العقلية كالبراءة العقلية، هذا مضافا إلى انه لم يعهد في أحد من العلماء حوالة مقلديه إلى ما يحكم به عقله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 178

إن قلت. إن الأمارات حجة على الكل، و المجتهد يكون له خصوصية الظفر بها، فلا قصور من هذه الحيثية لأدلة التقليد في شمولها لمثله بخلاف الظن فإنه حجة على من تحقق له الظن و هو المجتهد.

قلنا: الظن كالامارة في ظفر المجتهد به دون العامي، و أيضا الظن في نظر المجتهد حجة على الكل كالامارات.

و هكذا يرد على الخصم صورة عمل المجتهد بالأصول النقلية فإنه ظاهر كلام الخصم جواز تقليده في الأحكام المستفادة منها مع ان حالها حال الأصول العقلية في كون موضوعها مختص بالمجتهد بعين ما ذكره (أعلى اللّه مقامه) في اختصاص موضوع الأصول العقلية بالمجتهد.

و

هكذا يرد على الخصم إن اختصاص الحجية بالمجتهد لو كان موجبا لاختصاص الحكم لكان في صورة القطع بالحكم لا يجوز تقليده لأن القطع مختصة حجيته بالقاطع لكونه قائما به لا بالعامي. هذا هو الجواب النقضي على الوجهين المذكورين الذين تمسك الخصم (ره) بهما على المنع من التقليد.

[ثانيا الجواب الحلي]

و اما الجواب الحلي عنهما فقد أجاب استاذنا المشكيني (ره) عن الوجه الأول و هو عدم علمية المجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي أو الذي رجع للأصول العقلية في مواردها بما حاصله بتوضيح منا بأنه لو كان المدرك لحجية التقليد هو الإجماع فالإشكال مسلم لأن القدر المتيقن منه هو المجتهد المنفتح عليه باب العلم أو العلمي و الذي لم يكن مستنده الأصول العملية العقلية. و اما إن كان المدرك هو العقل، فالعقل يرى ان الميزان هو الخبروية في المرجع، و لا شك ان المجتهد المذكور يكون من أهل الخبرة بالأحكام الشرعية. و إن كان المدرك هو النقل، فموضوع أدلته هو الرجوع للعالم أو لأهل الذكر أو للفقيه و هذه العناوين لا إشكال في صدقها على المجتهد المذكور.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 179

و لا يخفى ما فيه فان المجتهد في الموارد التي انسد عليه باب العلم و العلمي أو رجع فيها إلى الأصول العقلية لم يكن يراه العقلاء و لا العقل انه من أهل الخبرة في تلك المسائل في معرفة الحكم الشرعي و إنما هو من أهل الخبرة بمعرفة الحكم العقلي في موردها كما ان عنوان العالم و أهل الذكر لا تصدق على المجتهد المذكور لكونه ليس بعالم بالأحكام الشرعية و لا من أهل الذكر فيها فكان عليه (ره) ان يثبت جواز رجوع العامي للمجتهد

حتى في الوظائف العقلية باعتبار ان المجتهد عالم بها و العامي جاهل بها. و أجاب عن الإشكال الثاني و هو اختصاص الموضوع للظن الانسدادي و الموضوع للأصول العقلية بالمجتهد.

بما حاصله ان ثبوت الموضوع لحكم في مورد و عدم ثبوته في مورد آخر يتصور على أنحاء ثلاثة:

(الأول) ان يكون عدم تحققه بما هو هو كما في حرمة دخول المسجد للحائض.

(الثاني) أن يكون لعدم الالتفات منه اليه لكن مع كون الواجد و الفاقد في مرتبة واحدة كالمجتهدين الذين يرى أحدهما الانسداد و الآخر الانفتاح و لا إشكال في عدم ثبوت الحكم لغير موضوعه.

(الثالث) الصورة مع كون الواجد بدلا تنزيليا عن الفاقد كما في المجتهد بالنسبة إلى مقلديه فحينئذ يثبت الحكم للفاقد له و بهذا الاعتبار يصح للمجتهد الذي من أهل الانفتاح الفتوى على طبق الامارات مع ان حجيتها فعلا موقوفة على العلم بحجيتها إنشاء و هو غير حاصل في المقلد. و لا يخفى ما فيه فانا لو سلمنا دعوى نيابة المجتهد عن المقلد فهي إنما تسلم في غير ما كان موضوعه مختصا به فان المجتهد لو علم بالحكم من الرمل و الجفر لا يصح ان يقلده غيره فيه و المقلد إنما يرجع للمجتهد في موارد الأمارات المعتبرة شرعا لا من جهة النيابة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 180

بل من جهة الأدلة الدالة على رجوع الجاهل إلى العالم، و المجتهد عالم بموارد قيام الحجة الشرعية فيكون رجوعه اليه من باب رجوع الجاهل للعالم. و دعوى ان أدلة الإفتاء و التقليد تدل على نيابة المجتهد عن العامي. لا تنفع مدعيها لأنها إن سلمت فلا تقتضي نيابته في موضوع مختص به و إنما تدل على رجوع العامي

للمجتهد في معرفة الوظيفة فقط من دون نظر للنيابة نظير رجوع المريض للطبيب و قد أجاب المرحوم الأصفهاني في حاشيته على الكفاية عن الإشكال الأول و هو عدم علمية المنسد عليه باب العلم و العلمي أو الذي رجع للأصول العقلية.

بما حاصله ان المراد بالمعرفة و العلم بأحكامهم عليهم السّلام التي هي موضوع أدلة التقليد هو قيام الحجة على أحكامهم عليه السّلام شرعا أو عرفا أو عقلا عند المجتهد بدليل انهم عليهم السّلام أطلقوا المعرفة على مجرد الاستعلام من الظواهر في قولهم عليهم السّلام يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه تعالى و قوله عليه السّلام: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا إذ ليس المعرفة من الكتاب و المعرفة لمعاني الكلام إلا من ظواهره مع أن حجية الظواهر من باب بناء العرف و ليست بجعل حكم مماثل حتى تتحقق المعرفة الحقيقية بالحكم الشرعي بل بمعنى تنجز الواقع بها و صحة المؤاخذة على مخالفتها لو صادفت الواقع. و الحاصل إن المراد بقوله عليه السّلام في مقبولة عمر بن حنظلة، و عرف أحكامنا بعد قوله روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا هو المعرفة بالأحكام باعتبار قيام الحجة عليها عنده المنجزة لها لو صادفت، و هكذا المراد من قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ*. فإن السؤال إنما يوجب العلم باعتبار قيام الحجة القاطعة للعذر على السائل سواء كانت حجة من قبلهم عليهم السّلام أو من قبل العرف أو من العقلاء، و ليس المراد العلم بموارد قيام الحجة كما توهمه الخصم لأن ظاهر المقبولة و شبهها معرفة الأحكام لا معرفة موارد قيام الحجة عليها. و لا يخفى ما فيه فإنه بعد تسليم أن المقبولة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 181

تدل على حجية الفتوى و تسليم ان المعرفة فيها مع إضافتها لنفس الاحكام و سبقها بتلك الفقرات هي عين المعرفة الموجودة في تلك الروايات، انه يمكن للخصم أن يدعي إن ما ذكره (ره) انه إنما يقتضي معرفة الحجة الشرعية على الحكم لا معرفة نفس الحكم الشرعي إذ ليس كل أحد يعرف معاني كلامهم و يحصل القطع منه و إنما الذي يعرفه الفقيه و يحصل القطع به هو قيام الحجة على أن معنى كلامهم هو ذلك و هو إنما يكون بالظاهر، و لا ريب ان الظاهر من كلام اللّه و كلام المعصومين حجة شرعية أمضاها الشارع. و المقبولة ظاهرة في ذلك أيضا حيث رتب المعرفة على رواية الحديث و هي أيضا حجية شرعية، و الآية الظاهر منها هو الذكر للحجة الشرعية لا أهل الذكر و لو من غير الحجة الشرعية، و الحاصل ان ظاهر الآيات و الروايات هو أن المراد بالعلم و المعرفة للحكم هو العلم و المعرفة بقيام حجة شرعية عليه لا العلم و المعرفة لنفس الحكم، فيرجع هذا الجواب لكلام الخصم من عدم علم المجتهد بالحكم عند قيام الحجة العقلية عنده و انما يعلم لو قامت عنده الحجة الشرعية هذا مضافا إلى أن هذا لا يتم فيمن يعمل بالاحتياط فإنه لا يصدق عليه انه عالم بالحكم الشرعي بقيام الحجة عليه لعدم قيام الحجة عنده لا بالحكم الواقعي و لا الظاهري لأن الحاكم بالاحتياط هو العقل، و هكذا على تقدير القول بالظن الانسدادي من باب الحكومة من جهة الاحتياط.

و أجاب (ره) عن الإشكال الثاني بما أجاب به المشكيني (ره) و قد عرفت ما فيه. و الحق في

الجواب عن الإشكال الأول ان الجهال إنما يرجعون إلى العلماء لفراغ ذمتهم و رفع العقاب عنهم و حصول الثواب لهم و عدم الخروج عن ربقة الإسلام و هذا لا يقتضي أزيد من علم المجتهد بوظيفة الجاهل الموجبة لذلك أعني لتخلصه من العقاب و نيله للثواب و الفوز بالسعادة و ليس غرض العامي متعلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 182

بنفس معرفة الاحكام الشرعية بخصوصها، و لذا قد يعملون بالاحتياط و لا اشكال أن المجتهد المنسد عليه باب العلم بحسب نظره يعلم بالوظيفة التي تبرء ذمة العامي بها و يخلص بها من العقاب و يفوز بالثواب، و إنها هي ما قام الظن عليه مطلقا أو من طرق خاصة. و هكذا المجتهد الذي يرجع للأصول العملية، و لا ريب أن أدلة التقليد إنما تدل على ذلك لا على خصوص الرجوع لمعرفة الحكم الشرعي لأن دليله أما العقل أو بناء العقلاء و هو واضح، فإن السيرة على هذا ألا ترى إلى العامي الذي يرجع إلى الطبيب مع علمه بأن الطبيب يعمل بظنه و حدسه الذي قد لا يصيب الواقع إنما يرجع إليه في معرفة الوظيفة التي يلزم الطبيب بها المريض الموجبة لشفائه و برئه بحسب نظره. نعم لو رجع العامي للمجتهد لمعرفة الحكم الشرعي وجب على المجتهد أن لا يفتي له إلا بما قطع بأنه الحكم الشرعي، و لا يجوز له أن يفتي له حتى بما قام الخبر المعتبر عليه بناء على الطريقية، و هكذا لو رجع إليه لمعرفة الحكم الواقعي الشرعي لا يجوز له أن يفتي له إلا بما قطع انه حكم شرعي واقعي لا ظاهري شرعي فإنه لو أفتي له حينئذ بالوظيفة مع عدم

علمه بالحكم الشرعي يكون كمن قلد الطبيب في مرضه فأفتى له بما يصلح مزاجه، نعم لو قلد الطبيب بما يصلح مزاجه صح له أن يفتي له بما يصلح مزاجه و لكن العوام إنما يريدون معرفة ما ينجيهم من العقاب و ينالون به الثواب في نظر المجتهد، و لذا تراهم يفتون لهم بالوظائف التي يرون أنها تحصّل لهم ذلك في كل مورد، فقد يفتون لهم بالاحتياط في العبادات، و قد يفتون لهم بالمصالحة في المعاملات و بالطلاق في العقد على المرأة الغير المعينة، و قد يفتون لهم بعدم الحكم و الوظيفة و قد يفتون لهم بحكم التقية و ليس غرض العوام معرفة نفس الأحكام الشرعية بحصوصها إذ لا فائدة لهم بذلك، و أما أدلة التقليد النقلية فهي مؤكدة و مقررة للأدلة الغير النقلية لا أنها لتأسيس حكم جديد و إن شئت قلت: ان المستفاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 183

من جميع أدلة التقليد هو الرجوع إلى العالم بأعمال كيفية النظر لتحصيل الوظيفة المؤمنة للعامي من العقاب في نظر ذلك العالم فما حصله بأعمال نظره للغير يصح للغير أن يعمل به.

نعم قد يشكل برجوع العامي للمجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي إذا كان ظانا بالحكم الشرعي لكون العامي المذكور لا يجري في حقه مقدمات دليل الانسداد لأن باب العلمي منفتح له بواسطة التقليد للغير فهو غير منسد عليه باب العامي. و جوابه إن مقدمات دليل الانسداد بالنسبة إلى العامي لو قلنا بجريانها في حقه فهي تثبت حجية قول كل مجتهد بالنسبة إليه في بيان الوظيفة التي يراها ذلك المجتهد في حق العامي فتمكنه من الرجوع لغير ذلك المجتهد لا يقتضي انفتاح باب العامي

له في مقابل رجوعه لذلك المجتهد بل يكون الكل بالنسبة إليه في مرتبة واحدة و إن شئت قلت انفتاح باب العلم لمرجعه لا يوجب انفتاح باب العلم بالنسبة اليه.

و أما الجواب عن الإشكال الثاني فلأن ما ذكر لا يراه المجتهد دخيلا في موضوع الحكم و الوظيفة و إلا لما رأى ذلك الحكم حكما للعامي و لا تلك الوظيفة وظيفة للعامي، و سره إن ما ذكره كان دخيلا في موضوع الطريق لمعرفة الوظيفة لا في موضوع نفس الوظيفة. فإن القصر و التمام موضوعان لنفس الوظيفة، و أما الشك و اليقين السابق موضوعان للدليل على الوظيفة.

و إن شئت قلت: إن العامي عليه أن يرجع للمجتهد في الوظيفة التي علم المجتهد أنها وظيفة للعامي و تخلصه من العقاب. و المجتهد لما كان يرى و لو بواسطة الاستصحاب و بواسطة فحصه و خبرته العلمية ان الوظيفة للعامي التي تخلصه من العقاب هي هذه الوظيفة بالنسبة لهذا المورد جاز للعامي العمل بها أو يرجع للاحتياط و هذا نظير الوحي فإنه و إن كان مختصا بالموحى له لكن مدلوله لما كان حكما للغير كان الغير يرجع للموحي له.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 184

و الحاصل انهم كانوا عليهم أن يعالجوا المقلد فيه، إنه إن كان الحكم الشرعي فقطعا لا يجوز تقليد المجتهد المذكور، و أما إن كان الوظيفة فهو لا اشكال فيها لا من جهة العلم بها و لا من جهة موضوعها لا أن يعالجوا أدلة التقليد من حيث العلم بالحكم الشرعي و معناه. و لذا لو كانت الطرق التي قامت عند المجتهد تفيد العلم لكن يجزم العامي بفسادها كالقياس لم يجز له الرجوع اليه.

[وجه ما نسب لجدنا كاشف الغطاء «ره» من منع تقليد العامي لمن اجتهد ببعض الأحكام دون بعض و ان كان عنده ملكة تامة من أول الفقه لآخره.]

و أما وجه ما

نسب لجدي كاشف الغطاء (ره) من منع تقليد العامي لمن اجتهد ببعض الأحكام دون بعض، و إن كان عنده ملكة تامة من أول الفقه لآخره ما لم يكن مستنبطا لقدر معتد به من الأحكام بحيث يعد فقيها و عارفا بحلال أهل بيت العصمة و حرامهم، و انه من أهل الذكر بل المحكي عنه (ره) إنه منع من حجية ظنه حتى بالنسبة لعمل نفسه. فيمكن أن يكون هو ما دل على أن الناس صنفان فقيه و غير فقيه، و الثاني وظيفته الرجوع إلى الأول و لأن الاجتهاد مأخوذ فيه عنوان الفقيه كما تقدم. و التفقه مأخوذ في آية النفر و هي قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ الآية. و هكذا مأخوذ في رواية الاحتجاج عن العسكري عليه السّلام في قوله: «من كان من الفقهاء حافظا» الخبر. و هكذا مأخوذ عنوان الفقيه في معاقد الإجماعات المحكية على جواز تقليد العامي لغيره. و لأن المذكور في مقبولة ابن حنظلة، و رواية أبي خديجة اعتبار المعرفة بأحكامهم عليهم السّلام و لا ريب في إفادة الجمع المضاف العموم و أقله العرفي، و لا ريب في عدم صدق الفقيه و المعرفة بأحكامهم بمجرد عموم الملكة من أول الفقه لآخره ما لم يكن عارفا بمقدار يعتقد به من الأحكام الشرعية. و هكذا عنوان راوي الحديث و عنوان الناظر في الحلال و الحرام، بل المروي في الكشي عن محمد بن سعد الكشي و محمد بن أبي عوف البخاري عن محمد بن أحمد بن حماد الروزي رفعه إلى الصادق عليه السّلام إنه قال: اعرفوا منازل شيعتنا بقدر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 185

ما يحسنون من رواياتهم عنا فانا لا

نعد الفقيه منهم فقيها حتى يكون محدثا.

إن قلت: ان ما ذكر إنما يقتضي عدم حجية ظنه بالنسبة إلى الغير و ذلك لا يستلزم عدم حجية ظنه بالنسبة إلى نفسه. قلنا: لو كان ظنه معتبرا لكان بالنسبة إلى الجميع من دون فرق و إن لم يكن معتبرا فأيضا بالنسبة إلى الجميع فالتفصيل بين حجية ظنه خروج عن الطريقة. بل زاد بعضهم بأن ملكة الاجتهاد لا تحصل إلا بالممارسة المستلزمة للفعلية المذكورة، أعني العلم بجملة من الأحكام الشرعية يعتد بها بحيث يصدق عليه انه فقيه، و هكذا علمه بحصول ملكة الاجتهاد عنده لا يحصل إلا بالممارسة المذكورة.

و (جوابه) أولا: ان الأدلة المذكورة ليس لها مفهوم يقتضي الحصر بذلك فهي لا تعارض أدلة التقليد الدالة عليه مما لم يؤخذ فيه تلك العناوين خصوصا دليل الفطرة و العقل.

و (ثانيا) ان الأدلة المذكورة إنما تقتضي عدم حجيته بالنسبة إلى الغير فقط لا إلى نفسه. و الملازمة بين عدم حجية ظنه بالنسبة إلى نفسه و غيره لا دليل عليها بل الدليل قد قام على عدمها، فان المجتهد الفاسق ظنه حجة بالنسبة لنفسه دون غيره و هكذا المفضول مع وجود الأفضل عند المشهور.

و (ثالثا) ان عنوان الفقيه يصدق بمجرد وجود الملكة كما هو شأن سائر العناوين لسائر العلوم الصناعية كالنجارة و نحوها.

و (رابعا) أنه بقرينة مناسبة الحكم للموضوع انه يعتبر أن يكون المفتي فقيها فيما يرجع اليه فيه. و لا ريب انه حين الرجوع اليه لا بد و أن يعرف المسألة التي رجع الهى فيها و ذلك لعدم مدخلية معرفة غيرها كما لا فائدة فيما لو عرف غيرها و لم يعرف ما يرجع فيه اليه و يرشدك إلى ذلك رواية أبي خديجة

المحكية عن الكافي و التهذيب عن الصادق (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 186

الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه حكما فإني قد جعلته قاضيا تحاكموا اليه و من هنا يظهر ان المراد بالعارف بأحكامهم (ع) في المقبولة هو معرفة ما يرجع اليه فيه من الأحكام لا معرفة أحكام كثيرة.

و (خامسا) ان مستنبطاته إذا لم تكن حجة عليه ما لم يصدق عليه انه عارف بأحكامهم و انه فقيه لزم عليه أن يقلد الغير فيها و حينئذ لا ينفعه إذا استنبط البقية لأن كثرة معلوماته لا توجب صدق ذلك عليه لكون الاولي منها ليست بحجة و البقية التي حصلت بعدها أيضا لا تكون حجة لعدم صدق العنوان بها في حد ذاتها فيكون مجموع ما حصل عنده ليس بحجة و تكون معلوماته نظير معلومات العامي المقلد، فلا بد من القول بحجية أول مستنبطاته.

و (سادسا) ان الأدلة الدالة على حجية الظن تشمل ظنون هذا الشخص و إن لم يسمى فقيها أو عارفا بأحكامهم (ع). و اما ما ذكره بعضهم من توقف حصول ملكة الاجتهاد على العلم بجملة معتد بها من الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية فهو دور، لأن العلم بتلك الجملة إن كان لا بنحو الاستنباط فهو ليس من الفقه، و إن كان بنحو الاستنباط فهو موقوف على الملكة فلا يعقل توقف الملكة عليه و تقدم ص 110 و سيجي ء ان شاء اللّه في الشرط الخامس للمستفتي ما ينفعك في المقام.

و من الغريب ان بعض أساتذة العصر اعتبر استنباط الحكم بالفعل، و استدل على ذلك بأغلب الأدلة السابقة الذكر مع انه لا ينكر

أحد اعتبار ذلك إذ كيف يرجع العامي للمجتهد في شي ء لم يكن المجتهد يستحضره فضلا عن أنه لم يستنبطه، و إنما محل الكلام هو ما ذكرناه و هو لزوم أن يستنبط فعلا معظم الأحكام غير الذي يرجع اليه فيها. هذا و لكني حتى الآن لم أطلع على صحة هذه النسبة لجدي المرحوم كاشف الغطاء. (و الحاصل) ان المجتهد المطلق قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 187

منع من جواز تقليده في هذا المقام في صور ثلاثة: أحدها صورة عمله بالظن الانسدادي، و ثانيها رجوعه للأصول العملية العقلية، و ثالثها إذا لم يكن عارفا بمقدار من الأحكام الشرعية بحيث يصدق عليه انه فقيه و انه ممن عرف حلالنا.

و قد عرفت جواز تقليده مطلقا كما يجوز عمله بظنونه المعتبرة عنده مطلقا.

اعتبار اجتهاد المتجزي

هذا كله في المجتهد المطلق و اما المتجزي فالكلام في اعتبار اجتهاده بالنسبة لنفسه تارة و اخرى بالنسبة لغيره، اما الكلام في الجهة الاولي و هي اعتبار اجتهاده بالنسبة لنفسه بمعنى انه على فرض وقوع التجزي فهل يجب عليه فيما له ملكة الاجتهاد فيه أن يبذل وسعه و يعمل بما اجتهد فيه و مع عدمه يرجع للأصول العملية أن يجب عليه أن يقلد الغير في ذلك أو يجب عليه الاحتياط في ذلك أو يكون مخيرا في ذلك بين الاجتهاد و التقليد و الاحتياط. إن قلت: ان الكلام و النزاع لا وجه له في ذلك لأن المتجزي اما أن يحصل له القطع بالحكم الشرعي فلا إشكال في اعتباره أو يحصل له الظن المنتهي إلى العلم فكذلك أيضا أو الغير المنتهي للعلم فهو راجع إلى الشك و لا إشكال في عدم اعتباره.

قلنا: ان البحث و الكلام

في حجية مستنبطاته المستندة إلى الأصول العملية عند الشك و الظن الغير المعتبر و مستنبطاته المستندة إلى الظن المعتبر من جهة تجزيه و إن التجزي مانع من اعتبارها بمعنى ان الظنون الخاصة أو الظنون المعتبرة من باب الانسداد هي معتبرة بالنسبة إلى المتجزي كما هي معتبرة بالنسبة إلى المجتهد المطلق أم لا بل يمكن أن ينجر النزاع حتى إلى مستنبطاته المستندة إلى القطع بناء على إمكان المنع من اعتبار القطع كما إذا حصل من غير الأسباب العادية كقطع القطاع و ينبغي التنبيه على أمرين قبل الدخول في بيان ما هو الحق في المقام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 188

وجوب تحصيل العلم في مسألة جواز التجزي

(أحدها) ان النزاع في هذا المقام هل يمكن أن يرجع فيه إلى التقليد بأن يقلد شخصا يقول بحجية اجتهاد المتجزي و فتواه كما يقلد الإنسان المجتهد في البقاء على تقليد الميت أو في تقليد شخص حي في احتياطاته أو لا بد له من الاجتهاد في ذلك بأن يجتهد في ان ظنه حجة عليه و ان التجزي لا يمنع من اعتبار الظن بالنسبة اليه أو هو مخير بين الاجتهاد في ذلك أو التقليد.

و التحقيق كما سيجي ء ان شاء اللّه في جواب الإيراد الثالث على اعتبار اجتهاد المتجزي انه لا وجه للرجوع إلى الاجتهاد في هذه المسألة بل لا بد له من تحصيل اليقين بها و إلا فرجوعه للاجتهاد فيها من قبيل الرجوع للخبر الواحد في حجية خبر الواحد و الرجوع إلى الظن في عدم حجية الظن فإنه لا يكون إلا على وجه دائر إلا إذا كان الاجتهاد فيها متيقن حجيته و اما التقليد فيها فهو غير جائز مع التمكن من العلم كما سيجي ء ان شاء

اللّه، و من هنا ظهر لك انه لم يكن في البين قدر متيقن. كما يظهر من بعضهم (من ان الاجتهاد في هذه المسألة قدر متيقن) و كيف كان فعليه تحصيل العلم بها أو الاجتهاد فيها المتيقن حجيته فاذا عجز عن العلم بها تعين عليه التقليد فيها إلا انه إذا قلد فيها و أفتى له مجتهده بحجية ظنه عمل بظنه و لكن لا يجوز له أن يفتي للغير بذلك و لا يجوز للغير أن يرجع له لأن يكون في الحقيقة مقلدا للغير فإن النتيجة تتبع أخس المقدمات.

و كيف كان فلا بد من حصول القطع بها أو بصحة اجتهاده من الأدلة التي تقام على صحته و لا يكفي حصول الظن منها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 189

التجزي في أصول الفقه

(ثانيها) ان التجزي كما يتصور في الأحكام الفرعية كذلك يتصور في الأصولية، و المعروف عنهم دعوى الوفاق على جواز التجزي في المسائل الأصولية بأن يجتهد ببعض دون بعض، و ان الاختلاف إنما وقع بينهم في الفروع.

و قد يورد عليهم أن لازم جواز التجزي في الأصول جوازه في الفروع لأن معناه جواز إعمال المسائل الأصولية التي اجتهد فيها و حجيتها بالنسبة إلى الفروع الفقهية المرتبة عليها فيكون متجزي بالنسبة لهذه الفروع الفقهية دون غيرها مما ترتب على المسائل الأصولية التي لم يجتهد فيها كما ان نفي جواز التجزي في الفروع يستدعي نفيه في الأصول إذ لو كان اجتهاده في بعض الأصول حجة للزم اعتبار استخراجه للفروع المترتبة عليها في حقه و حق مقلديه. و جوابه: انا لا نسلم وقوع الوفاق بل حالها حال الفروع الفقهية، و لو سلمناه فالظاهر وقوع الوفاق على جواز التجزي في المسائل الأصولية التي لا

يستلزم التجزي فيها التجزي في الفروع كمسألة جواز تقليد الميت و وجوب تقليد الأعلم و لزوم تجديد النظر للمجتهد و نحو ذلك مما لا يستلزم الاجتهاد فيها تجزء في الفروع، هذا مع إمكان أن يقال ان الاجتهاد في بعض مسائل الأصول و حجيتها لا يستلزم استخراج الفروع منها فان الاجتهاد في الحجية لشي ء لا يوجب إعمالها في الفروع الفقهية لاحتمال أن التجزي في الفقه مانع من اعمالها.

اعتبار اجتهاد المتجزي في الفروع
اشارة

هذا كله كلام وقع في البين فلنعد الى ما نحن فيه فنقول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 190

ان الحق هو اعتبار اجتهاد المتجزي بالنسبة لنفسه بحيث يجب عليه أن يبذل وسعه في تحصيل الظن المعتبر في المسائل التي له ملكة فيها، و إذا لم يحصل له العلم و لا الظن المذكور وجب عليه الرجوع إلى الأصول العملية،

[الأدلة على اعتبار اجتهاد المتجزي في الفروع.]
اشارة

و الدليل على ذلك

(أولا) هو ان المتجزي ينتهي أمره إلى القطع بحجية ما عنده

من المآخذ و المدارك للأحكام الشرعية التي عنده ملكة الاجتهاد عليها، فلو كان عنده ملكة الاجتهاد في النقليات مثلا فلا بد أن تكون حجية الخبر مقطوعة عنده أو منتهية إلى القطع بها و هكذا حجية الظهور و هكذا حجية أحد المتعارضين و هكذا اعتبار الأصل العملي و حينئذ فيرجع عمله إلى القطع الذي هو حجة بنفسه نظير المجتهد المطلق في كون عمله بظنونه ينتهي إلى القطع باعتبارها و يكون المسوغ للمجتهد المطلق في عمله بالنسبة إلى تلك الموارد هو بعينه موجود للمتجزي في اجتهاده فيها. (و بعبارة اخرى) ان المتجزي اما ان يقطع بالحكم الشرعي الفرعي فلا إشكال في صحة عمله بقطعه لحكم عقله بذلك، و اما إذا حصل له الظن المعتبر بالحكم الشرعي فلا بد له من العمل به لانتهاء ظنه إلى القطع باعتباره فيجب عليه العمل به و إلا خالف قطعه، و اما إذا لم يحصل له الظن المعتبر فان كان مجتهدا في الأصول العملية بأن كانت معتبرة عنده فلا بد أن ينتهي اعتبارها إلى قطعه بجعلها في مثل تلك الموارد فيلزمه أن يرجع إليها و يعمل بها و إلا قلد الغير في المسألة لعدم اجتهاده فيها لفقدانه ملكة الاجتهاد فيها.

إن قلت: الكلام في اعتبار المآخذ و المدارك بالنسبة إلى المتجزي بمعنى ان حجيتها مختصة بالمجتهد المطلق أو تعم المتجزى. قلنا: أدلة اعتبارها تفيد القطع بالنسبة إلى كل من يعرف العمل بها و ليس مأخوذ فيها المجتهد أو العامي أو المتجزي و إنما اعتبر المجتهد في اعتبارها لعدم قدرة العامي على الاستفادة منها و عدم معرفة حجيتها و تشخيص شرائطها و مواردها. و الفرض ان المتجزي قادر على

ذلك و عارف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 191

بحجيتها و لذا لا تراهم يقيدون أصالة الظهور بغير المتجزى و لا حجية الخبر بغير المتجزى. و الحاصل ان اعتبار هذه الأمور ترجع للقطع باعتبارها بالنسبة إليه فالذي يلاحظ أدلة حجية الخبر يراها تفيد القطع بحجيته بالنسبة اليه، و هكذا أصالة الظهور و هكذا الاستصحاب، و لو سلمنا ان النزاع في ذلك فلا بد للمتجزي من تحصيله القطع باعتبار تلك المدارك و المآخذ بالنسبة اليه و إلا فليس عنده ملكة الاجتهاد أو لا يجوز له العمل بها و لا شك انه كل من رجع إلى أدلة اعتبار تلك المدارك ينتهي أمرها إلى القطع.

و يستدل ثانيا على اعتبار اجتهاد المتجزى بظواهر عدة من الاخبار
اشارة

(منها) رواية ابي خديجة المشهورة المحكي روايتها عن المحدثين الثلاثة (ره) بأسانيدهم عن ابى خديجة سالم بن مكرم الجمال قال: قال لي أبو عبد اللّه (ع): إياكم ان يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه. و هذه الرواية واضحة الدلالة على كفاية العلم ببعض الاحكام في مرجعية الغير للعالم بها. إن قلت: انها تدل على خصوص القضاء. قلنا: ان القضاء قد يكون في مورد النزاع في الشبهة الحكمية و اخرى في الشبهة الموضوعية ألا ترى ان النزاع قد يكون من جهة عدم معرفة الحكم الشرعي كوجوب النفقة للمتمتع بها و قد يكون من جهة الموضوع الخارجي كالملكية فإرجاع الإمام (ع) إلى العالم ببعض الأحكام من دون تقيد بأحد الصورتين يقتضي جواز الرجوع إليه في كليهما، و لا ريب ان الرجوع في الأحكام الشرعية للغير عبارة عن التقليد له و إذا ثبت جواز رجوع الغير

إليه في الأحكام الشرعية ثبت جواز عمله بها بطريق أولى.

[المناقشة في رواية ابي خديجة.]

و قد أورد على الاستدلال بهذه الرواية بوجوه:

(أحدها) ضعف سندها بمعلى بن محمد و في المحكي عن النجاشي انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 192

مضطرب الحديث و المذهب و بابي خديجة فإنه و ان وثقه داود مكررا إلا ان الظاهر اشتباهه بظن انه سالم بن مكرم الذي وثقه النجاشي كذلك، و الحال انه مشترك بين سالم بن مكرم المذكور و سالم بن سلمة و هو ضعيف مع ان الشهرة الفتوائية على خلاف مضمونها لأن المشهور اعتبار الاجتهاد المطلق في القاضي فتسقط عن الاعتبار حتى لو كانت معتبرة في نفسها، و جوابه ان ضعف سندها منجر بالشهرة العظيمة لروايتها حتى ان الأصحاب سموها بمشهورة ابي خديجة مع ما حكي عن المسالك من الاتفاق على العمل بمضمونها مضافا إلى المحكي عن المحمدين الثلاثة من شهادتهم بصحة ما أوردوه في كتبهم مع ذكرهم لهذه الرواية فيها و قد سماها في الجواهر بالمقبولة مضافا إلى أنه رواها في من لا يحضره الفقيه عن احمد بن عائد عن ابي خديجة و الرواة الواقعين في سلسلة رواية الصدوق عن أحمد المذكور كلهم من الثقات الأجلاء عند الطائفة غير الحسن ابن الوشاء و هو لدى التحقيق أيضا كان من وجوه هذه الطائفة و ممدوح فيها كما هو المحكي عن النجاشي.

(ثانيها) ان مسألة تجزي الاجتهاد مسألة أصولية و لا ينفع في المسألة الأصولية إلا القطع و الرواية لا يستفاد منها إلا الظن. و جوابه ان التزام القطع في المسألة الأصولية لا دليل عليه.

(ثالثها) ان المذكور في الرواية هو الرجوع إلى العلم لقوله (ع) فيها إلى رجل يعلم شيئا من قضايانا»

و لا إشكال في رجوع المتجزى إلى علمه و إنما الإشكال في رجوع المتجزى إلى ظنه الاجتهادي. و جوابه: انك قد عرفت ان المراد بالعلم و المعرفة في كلماتهم (ع) هو قيام الحجة كما تقدم ص 181 و يرشدك إلى ذلك ان الأصحاب استدلوا في كتاب القضاء بهذه الرواية و مقبولة ابن حنظلة على جواز القضاء و الإفتاء في زمن الغيبة فلو كان المراد بالعلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 193

و المعرفة فيهما المعنى الحقيقي فلا يصح الاستدلال بهما لأن القضاء و الإفتاء أغلبه من باب الظن و قيام الحجة.

و (رابعها) ان العلم ببعض الأحكام لا ينافي وجود الملكة في جميع أبواب الفقه، فالرواية لا تدل على جواز عمل المتجزى باجتهاده و إنما تدل على جواز عمل المجتهد المطلق الذي له الملكة التامة إذا علم ببعض الأحكام الشرعية. و جوابه ان الرواية مطلقة تشمل صورة العلم بالبعض مع وجود الملكة في الجميع، و صورة العلم بالبعض مع وجود الملكة بالنسبة إلى ذلك البعض فتقيدها بالصورة الاولى لا وجه له. و بعبارة اخرى ان هذه الرواية تدل على ان الملكة في الجميع ليست بشرط في القضاء و إنما الميزان هو العلم بالبعض كما هو المطلوب. بل يمكن أن يقال ان مناسبة الحكم للموضوع تقتضي ظهور هذه الرواية في كفاية معرفة شي ء من الأحكام التي تخص المستفتي أو المترافعين. إن قلت: ان ظاهر مقبولة ابن حنظلة ان معرفة جميع الاحكام شرط في القضاء و رواية أبي خديجة مطلقة و المطلق يحمل على المقيد. قلنا: ان المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان بينهما منافاة في الحكم و مقبولة ابن حنظلة إنما تدل على ان

من حصل له معرفة جميع الأحكام فله القضاء بين الناس، و رواية أبي خديجة تدل على ان من حصل له معرفة البعض فله القضاء فلا منافاة بينهما لما تقرر في محله من ان السبب الشرعي يجوز تعدده لمسبب واحد. مع انه سيجي ء إنشاء اللّه ان المقبولة ظاهرة في إرادة الجنس و (خامسها) ان الرواية المذكورة إنما تدل على جواز التحاكم إلى المتجزي و المطلوب الأعم من ذلك. و جوابه ما عرفته ص 191.

و (سادسها) ان الخصم يدعي ان العلم ببعض الأحكام لا ينفك عن الملكة المطلقة لامتناع التجزي في ملكة الاجتهاد عنده. و جوابه ما عرفته من فساد هذا المبنى في رد من قال بعدم تجزي الاجتهاد بمعنى الملكة و قد تقدم تفصيل ذلك فراجعه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 194

و (سابعها) ان (من) في قوله (ع): «من قضايانا» بيانية للشي ء لا تبعيضه فيكون المعنى يعلم شيئا عبارة عن قضايانا لا شيئا آخر غيرها و حينئذ فتكون الرواية دالة على اعتبار العلم بالأحكام الشرعية لأن إضافة الجمع تفيد العموم و لا تدل على اعتبار التجزي. و جوابه ان هذا خلاف الظاهر و سوق الكلام فان المفرد إذا وقعت بعده (من) مضافة للجمع تفيد التبعيض كما لو قيل همني أمر من مطالب زيد. على ان كونها بيانية إنما يقتضي كون ما بعدها جنس لما قبلها كما سيجي ء إنشاء اللّه.

(ثامنها) ما جزم به بعض أساتذة أهل العصر من ان كلمة شي ء و ان كانت ظاهرة في القلة في غير المقام إلا انها كناية عن الكثرة في المقام باعتبار انه لوحظت قلته بالنسبة لعلوم الأئمة (ع) فلا بد أن يكون كثيرا في نفسه و إلا

لا يعد شيئا من علومهم (ع) فان علومهم بمنزلة بحر محيط و شي ء منه لا يكون إلا كثيرا في نفسه كما هو المتعارف فإنه إذا قيل فلان عنده شي ء من الثروة يراد منه ما يكون كثيرا في نفسه و قليل بالنسبة إلى مجموع الأموال و الثروة الموجودة في الدنيا. و جوابه ان نظير هذا الاستعمال وقع في القرآن الشريف و لم يكن فيه كناية عن الكثرة فإن قوله تعالى وَ لٰا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ لا يفهم منه ان المراد لا يحيطون بالكثير من العلم في نفسه. و دعوى ان علومهم (ع) بمنزلة البحر المحيط و شي ء منه لا يكون إلا كثيرا. غريبة فإن القطرة من البحر يصدق عليها أنها شي ء من البحر و الاستشهاد بشي ء من الثروة. أغرب فإن لفظ الشي ء إذا أطلق إنما يراد به القليل من أحد مصاديق ما بعده من المجرور (بمن) فاذا قيل شي ء من الحديد. لا بد من صدق الحديد على ذلك الشي ء و لذا عد المنطقيون (لا شي ء) من سور السالبة الكلية فإذا قيل فلان عنده شي ء من الثروة لا بد من صدق الثروة على ذلك الشي ء و إلا لما صح أن يقال ذلك. و لا ريب ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 195

ما يصدق عليه الثروة لا بد و أن يكون كثيرا في نفسه. و عليه فالمراد بشي ء في الرواية هو المقدار القليل الذي يصدق عليه انه من قضاياهم و هو المتبادر منه.

(تاسعها) ان معرفة شي ء من الأحكام عن دليله و لو آية أو رواية كانت ثابتة لأكثر أهل تلك الأزمان و لم يكن من عرف هذا القدر الذي هو أقل مراتب التجزي بعزيز

الوجود حتى يجعله الامام قاضيا على أصحابه و يأمرهم بالتحاكم اليه، ألا ترى ان عبد العزيز بن المهتدي مع كونه وكيلا للإمام الرضا (ع) و من خواصه و خير قمي بشهادة الفضل بن شاذان كان متجزيا في اجتهاده قطعا لأنه قد سأل الإمام الرضا (ع) عمن يأخذ معالم دينه إذا لم يلقاه فأمره بأخذها من (يونس) فإنه يستفاد من ذلك ان المرجع في الفتوى لا بد و أن يكون مجتهدا مطلقا حتى يرجع إليه المتجزي، و لا خفاء في أشدية القضاء من الفتوى و جوابه: ان معرفة ما يخص القضاء من الأدلة و تطبيقه على القضية المتنازع فيها ليس بحاصل لأكثر الناس كما تخيله المشكل سلمنا لكن أي مانع من نصب قضاة كثيرين لتسهيل أمر الشيعة من جهة تفرقهم في البلدان و صعوبة وصولهم للإمام و شدة التقية، و اما إرجاع عبد العزيز إلى يونس فإنما أرجعه في الأمور التي لم يعرفها، نعم لو أرجعه في الأمور التي عرفها إلى يونس أمكن استفادة عدم اعتبار اجتهاد المنجزي.

(عاشرها) ما ذكره بعض المعاصرين ان الظاهر من السياق أن الامام (ع) كان في مقام نصب القاضي نصبا عاما، و الظاهر انه لا يناسب منصب القضاء العلم بحكم واحد و بقضية واحدة لعدم اقتضاء مناسبة الحكم و الموضوع. و لا المنصب و لا يناسبه ما ورد «ان مجلس القضاء لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي» ضرورة ان العالم بحكم واحد من الاحكام لا يليق بهذا المنصب مضافا إلى ان الجمود على لفظة (شي ء) يقتضي العلم بشي ء أي شي ء كان و قضية أي قضية كانت فالمناسب أن تكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 196

من بيانية و

يكفي احتمال إرادة البيانية منها في صيرورة هذا الخبر مجملا فتكون مقبولة ابن حنظلة مبينة له و رافعة لإجماله لأنها صريحة في إرادة العموم فلا مجال لجعلها معارضة له. و جوابه: ان دعواه عدم مناسبة منصب القضاء للعلم بحكم واحد و قضية واحدة، لا يخفى ما فيها فإن المتجزي عند القضاء فيما اجتهد فيه لا بد و أن يكون عارفا بأحكام متعددة من حكم المسألة و شؤون القضاء و شرائطه و من هو المدعي و من هو المنكر فلا يعقل أن يكون عالما بحكم واحد، على ان العقلاء غالبا يحكمون العارف بخصوص مورد النزاع في شؤونهم و ان لم يعرف شيئا آخرا فكيف يدعي الخصم عدم مناسبة القضاء للعلم بحكم واحد لمسألة واحدة على ان مقتضى كثرة ابتلاء الناس بهذا الموضوع يقتضي التوسع في الجعل كما سبق في جواب الإيراد التاسع، و إما ما ورد من ان «مجلس القضاء لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي» فالمراد به بيان لزوم العدالة و معرفة ما يتعلق بحكم المسألة المتنازع فيها، و اما دعواه ان لفظة (من) تكون بيانية ففيها ان ذلك لو نلتزم به في كل مورد وقعت بعد مبهم كقولهم (خاتم من حديد) فهو لا يبطل المدعي لأنا إنما استفدنا القلة من لفظ (شي ء) لا من جهة (من) فإن الشي ء ظاهر في الفرد و الجزئي مما بعد (من) فالرواية ظاهرة في القلة و لكنها من نوع قضاياهم (ع) فكون من بيانية لا تقتضي أن يكون متعلق المعرفة عموم قضاياهم بل إنما تقتضي أن يكون متعلق المعرفة من نوع قضاياهم، و اما دعواه ان المقبولة ظاهرة في العموم فيمكن المناقشة فيها بأن قرينة السياق تدل على

ارادة الجنس فيها لأن الفقرات المذكورة فيها من قوله (ع): «روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا» ظاهرة في في الجنس لأنها من المفرد المضاف، و الحاصل ان سياق المقبولة يدل على إرادة الجنس لا العموم.

(الحادي عشر منها) ان الرواية غير معمول بها. و جوابه: انا لا نسلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 197

ذلك و قد عمل بها الأردبيلي (ره) و غيره و قد حكي عن المسالك الاتفاق على العمل بمضمونها.

و (من الاخبار التي يستدل بها) على اعتبار اجتهاد المتجزي مكاتبة إسحاق بن يعقوب إلى الحجة (ع) و فيها «و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه حديثنا فإنهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه» فان ظاهرها يشمل المتجزي الصادق عليه انه راوي لحديثهم و يتم في الباقي بعدم القول بالفصل.

و (من الاخبار التي يستدل بها أيضا) المحكي عن الكشي من مكاتبة ابن ماجيلويه و أخيه إلى أبي الحسن الثالث (ع) حيث سألاه عمن يأخذا معالم دينهما فكتب (ع): فاعتمدوا على كل مسن في حبنا و كل كثير القدم في أمرنا فإنهم كافوكما. فان ظاهرها يشمل المتجزي المسن في حبهم (ع) و كثير القدم في أمرهم (ع) و يتم في الباقي بعدم القول بالفصل.

(و من الاخبار التي يستدل بها أيضا) المحكي عن تفسير العسكري (ع) (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) فإنها تشمل المتجزي الذي يصدق عليه ذلك و يتم في الباقي بعدم القول بالفصل.

(و يستدل ثالثا) على اعتبار اجتهاد المتجزي بالسيرة

و تقريرها ان معاصري النبي (ص) و الأئمة الأطهار (ع) كانوا يأخذون بأقوالهم و أخبارهم و الجمع بينها بحمل العام و المطلق على المخصص و

المقيد و ترجيح الأقوى و الأخذ بالناسخ من غير فرق بين أعلمهم و عالمهم و مطلقهم اجتهادا و متجزيهم و لم ينكر عليهم ذلك و كان الرواة يلقون الروايات إلى عامة الناس و الناس يأخذون بها و أكثرهم بل كلهم لم يتصفوا بالاجتهاد المطلق و قد ذكر بعضهم ان من راجع كتب الرجال علم بأن بعضهم عنده أصل واحد أو أصول متعددة تختص ببعض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 198

أبواب الفقه كالطهارة و الصلاة و الصوم فقط مع انهم كانوا بانين على العمل بها من غير استنكار لذلك منهم فكان ذلك إجماعا منهم كاشفا عن تقرير الأئمة (ع) لهم و نحن مشاركون لتلك العصور بأدلة الاشتراك فيجري فينا ذلك كما جرى فيهم. و قد أورد على هذا الاستدلال (أولا) بالنقض فإنه لو تمَّ ذلك لاقتضى جواز الأخذ بمن ظفر برواية من دون بحث عن المعارض لها و لا يخفى ما فيه فان العصور السالفة إنما يعملون بما عندهم لإطمئنانهم بعدم المعارض و فيها نحن فيه إذا كان العائر بالرواية يفهم معناها و يطمأن بعدم المعارض أيضا نلتزم بجواز عمله بها على حد العصور السابقة و العمل بقول الامام (ع) لمن سمعه منه من جهة اطمئنانه بأنه هو حكم اللّه تعالى في حقه و عدم المعارض له.

و أورد على الاستدلال المذكور (ثانيا) بالحل بالفرق بين عصور الأئمة (ع) و ما قاربها و بين عصورنا فان الاجتهاد في زماننا يحتاج لمعرفة الراوي و حجية قول اللغوي و أعمال أصالة عدم النقل و تمييز الأخبار الواردة على سبيل التقية بخلاف المتجزي في زمانهم (ع) فإن الأخبار التي عنده أو سمعها من الامام مقطوعة الصدور عنده

واضحة الدلالة لديه مطمئن بعدم المعارض لها عارف بلزوم عمله بها حتى لو كانت تقية لوجود التقية في زمانهم و إذا أشكل عليهم شيئا استوضحوه من الأئمة (ع) و ليس هذا من التجزي في الاجتهاد في شي ء كيف و لا خلاف في جواز العمل بما يأخذه المكلف عن الامام (ع) بالمشافهة و ان كان حكما واحدا فلو كان ذلك من التجزي لما كان التجزي محل خلاف بيننا (و فيه) ان هذا لو سلمناه فهو إنما يثبت اجتهاده بالنسبة إلى النقليات في الأبواب التي عنده فيها الاخبار دون الاجتهاد في العقليات و هذا هو التجزي و التفاوت في سهولة الاجتهاد لهم لا توجب كون ذلك ليس باجتهاد أو انه اجتهاد مطلق و ليس بمتجزي فان الاجتهاد قد يكون في مقطوع الصدور باعتبار ان دلالته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 199

غير قطعية فإن القرآن الكريم باعتبار عدم صراحة دلالته يحتاج الى الاجتهاد في استخراج الحكم الشرعي منه و هكذا من سمع مشافهة من الامام فإنه قد يحتاج إلى فهم المراد إلى الاجتهاد. و دعوى ان الاتفاق على جواز العمل بما سمع من الامام و لو حكما واحدا يقتضي عدم كونه من الاجتهاد في شي ء و إلا لما وقع الخلاف في التجزي. مدفوعة بأنهم لم يلتفتوا إلى ان هذا قد يكون فيه اجتهاد في الدلالة باستخراج الفروع مما سمعه من الامام (ع).

(و يستدل رابعا) على اعتبار [اجتهاد المتجزي بأنه عالم

بالإضافة إلى ما استنبطه من الحكم فلا تشمله أدلة جواز التقليد فإنها إنما تدل على جواز رجوع الجاهل إلى العالم لا رجوع العالم إلي مثله. و فيه ما لا يخفى فان الخصم ينكر علميته و يدعي ان تجزيه مانع من حجية ظنونه بل

و قطعه كما تقدم ص 187 فكان المهم بيان كونه عالما بالحكم.

حجج المانعين من اعتبار تجزي الاجتهاد الفعلي

يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي أولا: ان المتجزي ناقص عن المطلق لاطلاع المطلق على ما لم يطلع عليه المتجزي و إذا كان ناقصا لم يكن اجتهاده معتبرا. و جوابه: ان تفاوت المراتب في الاجتهاد لا وجوب عدم الحجية فإن العالم مع وجود الأعلم يكون اجتهاده معتبر.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي ثانيا: انه لا دليل على اعتبار اجتهاد المجتهد إلا الإجماع و الضرورة و القدر المتيقن منهما هو المجتهد المطلق لتحقق الخلاف في اعتبار اجتهاد المتجزي. و جوابه ما قد عرفته من أدلة الاجتهاد ص 146 فان فيها ما عدى الإجماع و الضرورة دال على اعتبار اجتهاد المتجزي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 200

فان عمدتها هو انتهاء اجتهادي إلى القطع باعتبار ما عنده من المآخذ و المدارك للأحكام الشرعية و المتجزى كذلك.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزى ثالثا: الدور المعروف و هو حصول علم المتجزى بكون اجتهاده معتبرا موقوف على حصول علمه بأن اجتهاد المتجزي معتبر إذ لو لا ذلك لما أحرز صحة اجتهاده فيكون توقفه من قبيل توقف الخاص على وجود العام فإنه من المحال أن ينفك الخاص بحسب الوجود الخارجي عن وجود العام و إلا لزم عدم عمومية العام، و لا ريب ان حصول علمه بصحة اجتهاد المتجزى موقوف على علمه بصحة اجتهاده لأنه لو لم يحرز صحة اجتهاده لم يحصل عنده العلم بصحة اجتهاد المتجزي فيلزم الدور. و إن شئت أن تقرر ذلك بنحو التسلسل فنقول ان حكمه بصحة اجتهاده الذي هو اجتهاد متجزي موقوف على الاجتهاد في هذا الحكم و الاجتهاد في نفس هذا الحكم موقوف

على حكمه بصحة هذا الاجتهاد و حكمه بصحة هذا الاجتهاد موقوف على الاجتهاد فيه و الاجتهاد فيه موقوف على حكمه بصحة هذا الاجتهاد أعني بصحة اجتهاده في صحة هذا الاجتهاد الثاني و هلم جرا فيلزم من ذلك التسلسل في الحكم (و دعوى) ان صحة اجتهاده في صحة اجتهاد المتجزي مسألة أصولية و المسائل الأصولية حكي البهائي (ره) الإجماع على جواز التجزي فيها، و عليه يجوز الاجتهاد فيها فلا دور، (فاسدة) لعدم ثبوت هذا الإجماع و على تقديره لم يكن كاشفا، و دعوى أن المتجزي يرجع في ذلك للمجتهد المطلق بأن يقلد المجتهد المطلق في صحة اجتهاده الذي هو متجزي، فاسدة أيضا لأن هذا إلحاق له بالمجتهد المطلق ثانيا و المقصود جعله مستقلا غير مقلد لشخص.

و يمكن الجواب عن هذا الإيراد (أولا) بالنقض بالمجتهد المطلق فان حكمه بصحة اجتهاده في الفقه موقوف على حكمه بصحة اجتهاده بالاجتهاد المطلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 201

(و ثانيا) بالحل بأن الباحث في مسألة اعتبار اجتهاد المتجزي أما المجتهد المطلق أو المتجزي و الأول لا دخل له بحكاية الدور و التسلسل كما هو واضح، و الثاني أما أن يحصل له القطع بذلك أم لا؟ و على الأول لا اشكال فيه إذ ليس وراء القطع شي ء، و على الثاني فحكمه بصحة اجتهاده في ذلك موقوف على حكمه بصحة ما عنده من الأدلة و المآخذ و المدارك للأحكام الشرعية المنتهي إلى القطع لا على صحة اجتهاده في ذلك. نعم لو لم يتمكن من الاجتهاد بصحة اجتهاد المتجزي بأن كانت عنده من المسائل التي لا يقدر على تحصيل العلم فيها فلا مناص من الرجوع للمجتهد المطلق لأجل أن يعرف حكمه

من العمل بمستنبطاته أو تقليد الغير فإن أفتي له بجواز التجزي فله الاجتهاد في سائر المسائل التي له ملكة الاستنباط فيها و إن أفتي له بالمنع تعين عليه التقليد لعدم قيام الحجة عنده على مستنبطاته فلا فرق حينئذ بينه و بين العامي المراهق للاجتهاد. و أما لو فرض انه تردد أمره و لم يجزم بصحة التقليد للغير و احتمل انه ليس بحجة في حقه مع وجود الأدلة عنده فالمتعين عليه حينئذ الاحتياط كالمجتهد المطلق في زمان الفحص و الاستفراغ فيحتاط في خصوص ما خالف اجتهاده اجتهاد مجتهده ما لم يوجب العسر و الحرج عليه.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي رابعا استصحاب وجوب التقليد عليه أو استصحاب صحة تقليده للغير أو يستصحب ما كان عليه سابقا في المسألة الفرعية كوجوب غسل الجمعة مثلا نظير ما يقال في استصحاب البقاء على تقليد الميت فكذا ما نحن فيه يستصحب البقاء على تقليد الغير و نظير استصحاب المراهق للاجتهاد إذا شك في اجتهاد نفسه فإنه يستصحب البقاء على تقليد الغير و (دعوى) ان هذا الاستصحاب لا يتم فيمن بلغ درجة التكليف و هو متجزي إذ لم يكن حالته السابقة وجوب التقليد فاسدة بأنه يتم فيمن بلغ كذلك بالقول بعدم الفصل. و جوابه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 202

بالنقض بمن كان مجتهدا مطلقا ثمَّ تسافل أمره حتى صار متجزيا فإنه مقتضى الاستصحاب عدم جواز تقليده للغير و يتم في الباقي بالقول بعدم الفصل. مع ان القول بعدم الفصل إنما يجري في الأحكام الواقعية لا الأحكام الظاهرية كما حقق في محله. مع إمكان أن يقال إن ثبوت وجوب التقليد في حقه إنما كان لكونه عاميا و هو الآن

يشك في كونه عاميا و من شرط الاستصحاب بقاء موضوع المستصحب عند العرف. مع ان الاستصحاب لا مجال له لما عرفت من أن المتجزي غير شاك لكون مستنبطاته تنتهي إلى مئاخذ و مدارك و أدلة مقطوعة الاعتبار كالمجتهد المطلق. مع ان أدلة التقليد عمدتها حكم العقل و الإجماع و النقل، أما العقل فهو يحكم من جهة أقربية التقليد للواقع و المتجزي لا يرى ذلك، و إنما يرى أن ظنه بعد بذل وسعه أقرب للواقع و يخطأ المجتهد الذي يخالفه في الرأي و الإجماع إنما هو في العامي لاختلافهم في جواز تقليد المتجزي لغيره. و النقل لا عموم فيه للمتجزي و القدر المتيقن منه هو عنوان العامي و هو مشكوك تحققه في المتجزي مضافا إلى أنه إرشاد لما حكم به العقل. مع أن المتجزي لا يسعه التمسك بهذا الاستصحاب لأن تمسكه بالاستصحاب مبني على جواز عمله باجتهاده و جواز عمله باجتهاده يمنعه من الأخذ باستصحاب جواز تقليده للغير.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزي خامسا إن الأدلة قد دلت على حرمة العمل بغير العلم خرج عنها اجتهاد المجتهد المطلق و التقليد لقيام الإجماع و الضرورة على ذلك فبقي غيرهما كاجتهاد المتجزي و نحوه تحت أدلة حرمة العمل بغير العلم و جوابه ما عرفته من الأدلة التي أقمناها على اعتبار اجتهاد المتجزى فإنها مخصصة للأدلة الدالة على حرمة العمل بغير العلم.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزى سادسا إن الأدلة قد دلت على عدم اعتبار الظن ما لم يقم دليل قاطع على اعتباره أو انتهائه إلى اليقين و حيث لم يقم دليل قاطع على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 203

اعتبار ظن المجتهد المتجزى لم يصح له

أن يعمل بظنه فيكون جاهلا بتكليفه فيما حصل له ظن بالحكم من المسائل التي اجتهد فيها فيجب الرجوع لغيره لما دل على رجوع الجاهل لغيره. و جوابه ما قدمناه من الأدلة القاطعة على اعتبار ظن المتجزى فلا يكون جاهلا بوظيفته بل و لا وظيفته مقلده.

و يرد على اعتبار اجتهاد المتجزى سابعا إن قوله عليه السّلام في مقبولة عمر بن حنظلة المروية عن الصادق عليه السّلام في رجلين متنازعين (ينظر ان إلي من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حاكما فان قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد) هو ظاهر في اعتبار معرفة عموم الأحكام كما تقدم تقريب ذلك في ص 184 من أن الجمع و هو (احكام) حيث أضيف فهو يفيد العموم و في المقام و إن كان لا يمكن إرادة العموم الاستغراقي فلا بد من حمله على الاستغراق العرفي و المتجزى ليس كذلك، و قد أجيب عنه بإرادة الجنس بقرينة رواية أبي خديجة المتقدمة ص 191 و بقرينة الفقرات المذكورة في نفس الرواية المتقدمة عليها و هي قوله:

(روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا) فإنها من المفرد المضاف و هو ظاهر في الجنس، فسياق الرواية يدل على إرادة الجنس. و لو سلم دلالتها على الاستغراق فهي إنما تدل على اعتبار اجتهاد المجتهد المطلق. و أما اجتهاد المتجزى فهي ساكنة عنه لا تدل على إثباته و لا على نفيه، فلا تنفع الخصم و قد تقدم ص 185 ما ينفعك هنا.

و يرد على اعتبار اجتهاده ثامنا أن آية (فاسئلوا أهل الذكر) تدل على الرجوع إلى

العالم بجملة من الأحكام الشرعية حتى يصدق عليه أهل الذكر.

و جوابه مضافا إلى ما تقدم من ان مناسبة الحكم للموضوع تقتضي أن المراد بها أهل الذكر في المسؤول عنه و مضافا إلى انا نفرض المتجزي كان عالما بجملة من الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 204

الشرعية الكثيرة مضافا إلى ذلك كله نقول: انا لو سلمنا دلالتها على اعتبار اجتهاد المجتهد المطلق لكنها ساكتة عن اعتبار اجتهاد المتجزي لا انها مانعة عنه.

و يرد عليه تاسعا ان ما عن العسكري من قوله: (من كان من الفقهاء) و الفقيه لا يصدق إلا على من علم بجملة معتد بها من الأحكام. و جوابه كالجواب عن الإيراد الثامن و التاسع مضافا لما تقدم ص 184 و ص 185 مما ينفعك في المقام.

للعامي جواز تقليد المتجزي

هذا كله في جواز عمل المجتهد المتجزي باجتهاده بالنسبة لنفسه، و أما الكلام بالنسبة للغير بمعنى انه يجوز للعامي أن يرجع إلى المتجزي فيعمل بمستنبطاته الشرعية بمعنى يقلده فيما اجتهد فيه و تكون فتواه حجة عليه و إن كان يجب على العامي فيما عدا المسائل التي اجتهد المتجزي فيها أن يقلد غير المتجزي أو يحتاط لأن المتجزي عامي بالنسبة إليها فلا يجوز الرجوع اليه فيها و الدليل على ذلك هو عموم أدلة التقليد النقلية و جواز الرجوع إلى العالم و مشهورة أبي خديجة المتقدمة ص 191 و الروايات المتقدمة ص 197 نعم لو رجع المتجزي للمجتهد المطلق و قلده في جواز العمل بمستنبطاته فلا يجوز الرجوع إليه لأنه على هذا يكون مقلدا لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات، هذا كله مع عدم وجود المجتهد المطلق واضح، و أما مع وجوده فقد يقال: إن الأصل يقتضي الرجوع

إلى المجتهد المطلق لدوران الأمر بين التعيين و التخيير و لكن لا يخفى إن مقتضى عموم أدلة التقليد و جواز رجوع العالم و مشهورة أبي خديجة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 205

و الروايات المذكورة هو جواز رجوع العامي للمتجزي حتى مع وجود المجتهد المطلق، فلا مجال للأصل مع الأدلة اللفظية على ذلك مع إن المتجزي قد يكون أعلم من المطلق لما سيأتي من أن المدار في الأعلمية هو القوة لا كثرة الاستنباط نعم العامي الذي لا يتمكن من الرجوع للأدلة اللفظية إذا تردد في جواز الرجوع للمتجزي و دار أمره بين الرجوع للمجتهد المطلق و بين الرجوع للمتجزي و كانا متساويين من جميع الجهات في الفضل و العدالة، إلا أنه يحتمل تعين الرجوع للمطلق لمزيته بالإطلاق وجب عليه أن يرجع للمطلق لدوران الأمر عنده بين التعيين و التخيير، أما لو لم يحتمل التعيين أو كان في المتجزى أمر يحتمل معه تعيين الرجوع اليه كما لو كان المتجزى أعلم أو أعدل كان مخيرا. و قد تقدمت حج المانعين من اعتبار اجتهاد المتجزى ص 199 و هي قابلة للورود و الجواب على هذا المقام إن لم يكن كلها فلا أقل أغلبها فراجعها و قد أورد على جواز تقليده أيضا.

أولا: إن أدلة التقليد لا إطلاق فيها و عدم إحراز بناء العقلاء على الرجوع لمثله. و جوابه إن أدلة التقليد يوجد فيها العموم كما سيجي ء شطر منها في مبحث التقليد و السيرة العملية و بناء العقلاء على ذلك كما في سائر المهن و الصنائع على انا في غني عن ذلك لدلالة مشهورة أبي خديجة على ذلك. و قد تقدم تقرير السيرة على ذلك ص 197.

و قد

أورد ثانيا: على جواز تقليده بعض أساتذة العصر بما حاصله ان السيرة العقلائية و إن كانت تقتضي جواز الرجوع إلى المتجزى، فان العقلاء لا يفرقون في الرجوع إلى أهل الخبرة بين من يكون له خبرة في غير الأمر المرجوع اليه فيه أم لا، فان الطبيب الحاذق في مرض العين يرجع في معالجة مرض العين سواء كان له خبرة بباقي الأمراض أم لا و لكن مجرد قيام السيرة لا يفيد ما لم تقع مورد إمضاء من الشارع و أدلة الإمضاء إنما هو العارف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 206

بالأحكام و الفقيه و أهل الذكر، و الظاهر عدم صدق هذه العناوين إلا على العالم بجملة من الأحكام الشرعية المعتد بها فلا تشمل المتجزى. و جوابه أولا: إن السيرة دليل ما لم يردع الشارع عنها فان مجرد سكوته عنها يكون إمضاء لها، فعدم شمول أدلة الإمضاء ليس موجبا للمنع منها و عدم الإمضاء لها. و قد عرفت ص 185، إن الأدلة الدالة على الرجوع لصاحب تلك العناوين لا تمنع من الرجوع لغيره و إنما هي ساكتة عن ذلك.

و ثانيا: إن المتجزي قد يكون عالما بجملة من الأحكام النقلية بحيث يصدق عليه تلك العناوين و يتم في الباقي بالقول بعدم الفصل.

و ثالثا: قد عرفت دلالة مشهورة أبي خديجة على جواز الرجوع إلى المتجزي و دفع ما ذكره المورد و غيره عنها ص 191.

(الرابع- من أحكام المجتهد و الاجتهاد). أنه يقلد عند عدم التمكن من المعرفة

إن المجتهد إذا لم يتمكن من الاستنباط لمانع من ضيق الوقت أو فقد شرط أو عدم تيسر الأدلة لديه فهل يجب عليه الاحتياط أو يجوز له تقليد الغير.

الظاهر جواز التقليد له لشمول أدلة التقليد له في هذه الحالة بل ادعى صاحب المستند (ره)

الإجماع و الدليل العقلي على ذلك و إن كان لم يذكر الدليل العقلي و لعله يريد به الدليل العقلي على جواز التقليد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 207

(الخامس- من أحكام المجتهد و الاجتهاد) تخطئة المجتهد و تصويبه
اشارة

قد وقع النزاع بين الإمامية و بين غيرهم في تخطئة المجتهد في اجتهاده و تصويبه و حاصله ان المجتهدين المختلفين في الرأي هل كلهم يصيبون أم المصيب واحد و الباقون مخطئون. و عرف هذا المبحث بمبحث التخطئة و التصويب. و المعروف عن الإمامية القول بالتخطئة و إن المصيب واحد فيما لو كانت آرائهم مختلفة يعلم إجمالا بإصابة واحد منها و إلا فيحتمل خطأ الجميع و تحرير محل البحث على نحو يتضح به حقيقة الحال هو أن يقال: أن الكلام إما أن يقع في الموضوعات الصرفة ككون هذا المائع خمرا و كون هذه الجهة قبلة و كون ماء الورد مطلقا أو مضافا أو الليلة طلوع الهلال أو في العقائد الإلهية كالتوحيد و العدل و النبوة و الإمامة و المعاد الجسماني و المعراج الجسماني و جواز رؤية اللّه تعالى و خلق القرآن و غيرها من العقائد الواجبة و غير الواجبة. أو يقع الكلام في الأحكام الفرعية و الأخير إما ان يكون مما يستقل بحكمها العقل كحرمة الظلم و العدوان و وجوب رد الوديعة و أداء الدين و حسن الإحسان، و اما ان لا يستقل العقل بحكمها فاما ان تقوم الضرورة عليه كوجوب الصلاة و الزكاة أولا تقوم عليه الضرورة سواء قام عليه دليل قطعي أم لا، فالبحث في المقام يقع في مواضع خمسة و إنما خصصنا الدليل بالضرورة دون القطعي لينطبق على جميع الأقوال و لأن الدليل القطعي الذي هو ليس بضرورى يختلف فيها آراء المجتهدين فقد

يرى مجتهد ان دليل المسألة قطعي و قد يراه انه ظني كالاخباريين الذين يرون الأخبار تفيد القطع و لا يرى غيرهم ذلك. فلا وجه لما صدر من صاحب القوانين من أخذ الدليل القطعي في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 208

المقام هو المقسّم. مضافا إلى ما في ذلك من التنافي بين كلامه (ره) حيث انه (ره) بعد ما خصص النزاع في الفرعيات فيما لم يكن دليل قطعي ذكر ان القائلين بالتخطئة من العامة منهم من يقول بوجود دليل قطعي على الحكم الشرعي، و من المعلوم ان هذا ينافي تخصيص النزاع بما لا دليل قطعي عليه هذا هو المتحصل من كلمات القوم في تحرير محل النزاع. و لكن هذا يتنافى مع أخذهم عنوان المجتهد في موضع النزاع بعد تعريفهم الاجتهاد باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي الفرعي فإن مقتضى ذلك هو خروج البحث عن العقائد و الأحكام الضرورية و الموضوعات الصرفة عن البحث لعدم تحقق الاجتهاد فيها بل خروج القطعيات و هي ما كان دليل قطعي فيها يظفر به كل احد قد طلب الدليل لا ما حصل به القطع أحيانا فإنه من الاجتهاديات إلا (اللهم) ان يكون القوم قد أرادوا بالمجتهد مطلق الطالب للمعرفة خلافا لاصطلاحهم، أو انهم عمموا البحث ليتضح مورد النزاع في المقام كما انه لا وجه لما صدر من الآخند (ره) و تبعه بعض أساتذة العصر من نفي النزاع في العقليات و إن القول بالتخطئة فيها متفق عليه و ذلك لما سيجي ء من وجود النزاع فيها خصوصا في العقلية الشرعية الفرعية الغير الضرورية لجريان الاجتهاد فيها و سيجئ ان شاء اللّه تعالى التعرض لخلاف عبد اللّه بن الحسن العنبري البصري في

العقائد و إن المجتهدين فيها مصيبون و إن كانوا مختلفي الرأي. كما لا وجه لجعلهما محل النزاع الشرعيات بإطلاقها فإن ما قام عليه الضرورة من الشرعيات ليس محلا للنزاع على غرار العقليات الضرورية فكان الأولى لهم ان يجعلوا محل الاتفاق هي الضروريات و يجعلون في مقابلها محل الخلاف الشرعيات الغير الضرورية كما أنهما أهملا التعرض للموضوعات الصرفة. و كيف كان فينبغي التكلم في التخطئة و التصويب في مواضع خمسة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 209

الموضع الأول في الموضوعات الصرفة

إذا عرفت ذلك فنقول ان الموضع الأول من المواضع الخمسة هو الموضوعات الصرفة فإنه يظهر دخولها في موضوع النزاع من المحكي عن الشهيد الثاني (ره) في تمهيد القواعد و الشيخ البهائي (ره) و الفاضل القمي (ره) حيث جعلوا من فروع مسئلة التصويب و التخطئة ما لو ظهر للمجتهد في القبلة خطأه فعلى القول بالتصويب لا قضاء عليه لأنه أتى بالصلاة الواقعية مع الشرط الواقعي و على القول بالتخطئة يجب عليه القضاء لأن عمل المجتهد انما كان بمؤدى ظنه الذي هو حكمه الظاهري. و بدلية الحكم الظاهري. عن الحكم الواقعي الذي هو مكلف به و المقصود بالذات مشروطة بعدم العلم بالمخالفة للحكم الواقعي و بعد انكشاف المخالفة يجب التدارك و الإتيان بالمأمور به الواقعي، و لكن لا يخفى ما فيه لأنه مضاف إلى ان عنوان كلامهم في الأحكام الفرعية أنه لا مجال لتحرير النزاع في الموضوعات الصرفة فإنه لازم التصويب فيها لزوم تبعية الأمور الخارجية لرأي المجتهد فيها فتكون القبلة في الواقع تابعة لرأي المجتهد فتتحول بتبدل رأيه مع انه يلزم اجتماع النقيضين في المجتهدين المختلفين في القبلة إذ لازمه أن تكون الكعبة في جهتين مختلفتين في آن واحد

فلا يعقل أن يذهب عاقل إلى دعوى التصويب فيها لوضوح الحال فيها و جلائه فيها فإن الأمور البدهية الضرورية لا تكون محلا للبحث بين العلماء بخلاف التصويب في الأحكام الشرعية فإن بطلانه ليس من الوضوح بهذه المثابة، و لعل الشهيد (ره) و البهائي (ره) نظرهم إلى ان الحكم الشرعي المتولد تخيله من الاشتباه في القبلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 210

يكون مطابقا للواقع بمعنى يكون في الواقع هو المطلوب و ليس المطلوب الصلاة لجهة القبلة و يكون هذا تصويبا في الاحكام لا تصويبا في الموضوعات و كيف كان فيمكن ان يستدل للتصويب في الموضوعات الصرفة بأمرين.

أحدهما: كما ذكره بعضهم من ان الألفاظ موضوعة للصور الذهنية فتتعدد الموضوعات باختلاف أذهان المجتهدين فيها فيلزم التصويب في الموضوعات الصرفة لأن الكعبة إذا كانت موضوعة للأمر الذهني كانت تتعدد بتعدد أذهان المجتهدين فيها فتكون في ذهن زيد غيرها في ذهن عمرو و يكون المصلي قد صلي للقبلة المطلوبة للشارع واقعا. و فيه ما لا يخفى فإنه مضاف إلى التزام نوع العلماء بالوضع للأمور الخارجية أو النفس الأمرية دون الذهنية. ان التحقيق في القول بوضع الألفاظ للصور الذهنية هو وضعها للصور المطابقة للواقع و أما غير المطابقة فهي ليست بصورة ذهنية للشي ء فالجهة انما تكون صورة ذهنية لجهة الكعبة إذا كانت مطابقة لواقع جهة الكعبة و إلا فهي صورة لضد جهة الكعبة.

ثانيهما: ما تخيله بعضهم من الأجزاء فإنا نرى كثيرا من الموارد التي كان الاشتباه فيها في الموضوع ثمَّ ظهر الخلاف قد حكم الفقهاء فيها بالاجزاء فلو لا اصابة الواقع باجتهاد المكلف لما حكم الفقهاء بالأجزاء لأنه على التخطئة يكون المطلوب هو الواقع و هو لم يأتي

به فلا بد ان حكمهم بالاجزاء هو من جهة الإصابة للواقع، و لا يخفى ما فيه فان التصويب غير الاجزاء لأن التصويب هو مطابقة الواقع و الاجزاء هو الاكتفاء بغير الواقع عن الواقع مثل ما لو الشارع اكتفى بالصلاة لمظنون القبلة عن الصلاة للقبلة الواقعية. و لذا الاجزاء يكون في البدل عن الواقع و التصويب إنما يكون بالمطابقة للواقع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 211

الموضع الثاني في العقائد الدينية
اشارة

الموضع الثاني من الكلام في التخطئة و التصويب هو العقائد الإلهية سواء كانت واجبة كالتوحيد و النبوة و الإمامة و المعاد و العصمة أو غير واجبة ككون صفات اللّه تعالى عين ذاته أم لا و أحوال الصراط و نحو ذلك بل بعضهم عمم الكلام لمطلق العقليات سواء تعلقت بالشرعية أم لا. و كيف كان فجمهور المسلمين على ان المجتهدين المختلفين في الرأي في العقائد ليسوا كلهم مصيبين بمعنى عدم مطابقة آرائهم جميعا للواقع بل هم مخطئون ما عدى واحدا منهم فإنه مصيب إذا كان موافقا للواقع. و إلا فيمكن أن يكون الجميع مخطئين و خالف في ذلك عبد اللّه بن الحسن العنبري البصري فذهب إلى أن الجميع مصيبون.

و الحق مع جمهور المسلمين و لعله لا يوجد مخالف في هذه المسئلة إلا عبد اللّه المذكور لوضوح لزوم اجتماع النقيضين في عالم التكوين و الخارج عند اختلاف المجتهدين فيها كما ذكرناه في الموضوعات، و يمكن أن يتصور النزاع فيها بمعنى المطلوب الواقعي فيكون المجتهد الذي توصل إلى أن المعاد جسماني المطلوب منه واقعا الاعتقاد بذلك و المجتهد الذي توصل لكون المعاد روحاني المطلوب منه الاعتقاد بذلك لا انه في الواقع يكون المعاد جسماني و روحاني فيكون التصويب في حكم الاعتقاد

لا في نفس الاعتقاد و لعل عبد اللّه بن الحسن البصري نظره إلى ذلك نظير ما ذكرناه في الموضوعات، و كيف كان فلا يعقل و يتصور التصويب في نفس الاعتقاد و إلا لزم اجتماع المتنافيات و المتناقضات في عالم التكوين فلو قلنا بالتصويب فيها لزم أن يكون اللّه واحدا بواسطة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 212

مجتهد الإسلام و ثلاثة بواسطة مجتهد النصارى و يكون العالم في الواقع حادثا بواسطة مجتهد المتكلمين و قديما بواسطة مجتهدى الفلاسفة (و العياذ باللّه).

المخطئ في العقائد الواجبة هل هو آثم أم لا؟ و هل يوجد القاصر فيها أم لا؟
اشارة

و يلحق بهذا الموضع مطلبان أحدهما أن المخطئ في العقائد الواجبة الاعتقاد بواقعها هل هو آثم يستحق العقاب أم ليس بآثم و لا يعاقب و ان كان يرتب في الدنيا عليه أحكام الكفر من النجاسة و نحوها و أما العقائد الغير الواجبة كأصالة الماهية أو الوجود و تفاصيل لحشر و النشر فلا إشكال في عدم أثم المخطئ فيها لعدم وجوب الاعتقاد بواقعها، و كيف كان فقد نسب القول بالتأثيم الشيخ (ره) و جميع المتكلمين من علمائنا و الشيخ المفيد و السيد المرتضى و نسب القول بعدم التأثيم للجاحظ.

و الحق هو التفصيل و هو ان المخطئ في العقائد الواجبة آثم ان كان عن تقصير لأنه لو لم يستحق الإثم لزم أن لا يكون مكلفا و هو خلاف الفرض و اما ان كان عن قصور فلا اثم عليه إذ القاصر عن معرفة الواقع معذور بحكم العقل بقبح عقابه على عدم معرفته للواقع فلا يستحق العقاب على اعتقاده بغير الواقع أو تشكيكه بالواقع و الظاهر ان هذا لا اشكال فيه على ما هو مذهب الحق من مذهب العدلية من قبح عقاب الجاهل القاصر و انما الإشكال

عندهم في هذا المقام في الصغرى و هو أنه هل يمكن أن يوجد في العقائد الواجبة القاصر الغير المتمكن من معرفة الواقع سواء كان لقصر عقله أو لكثرة الشبه عنده أو لعدم تمكنه من تحصيل الاستدلال أو نحو ذلك أم لا يمكن ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 213

يوجد ذلك بحيث يكون كل مخطئ فيها مقصرا فيكون آثما يستحق العقاب فذهب إلى الأول الكثير من المتأخرين و ذهب الى الثاني جملة من العلماء المحققين و الأصل هو الإمكان عند الشك في وجود القاصر لما تقرر في محله من أن الأصل هو الإمكان عند الشك في إمكان شي ء أو امتناعه للغلبة و بناء العقلاء و لذا يكتفون في إثبات الإمكان بإبطال أدلة الامتناع.

[الأدلة على عدم وجود القاصر في العقائد الدينية.]
اشارة

و كيف كان فقد استدل على عدم وجود القاصر في العقائد الدينية.

أولا: بالإجماع على تقصير المخطئ في العقائد الواجبة

المنقول عن العامة و الخاصة كالشيخ و الشهيد الثاني و ابن الحاجب على ما يستفاد من كلامهم.

و فيه ان الإجماع غير محقق و على تقدير تحققه فالمسئلة كلامية عقلية و لا دليل على حجية الإجماع في المسائل العقلية: بل المسئلة حسية فإن كثيرا من الكفار قاصرون كالأولاد و النساء أوائل البلوغ في العصور المظلمة.

و ثانيا: الآية الشريفة

و هي قوله تعالى فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ، و المروي في الصحيح عن زرارة في كتاب التوحيد عن أبي جعفر عليه السّلام انه قال عليه السّلام فطرهم على المعرفة، و المروي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كل مولود يولد على الفطرة فإن ذلك يدل على قابلية كل أحد من البالغين العاقلين للمعرفة و ذلك ينفي وجود القاصر فيهم. و جوابه ان ذلك: انما يدل على القابلية و لكن لا ينافي ذلك ان يوجد فيهم بعض الموانع عن المعرفة توجب قصورهم عنها.

و ثالثا: الآية الشريفة و هي قوله تعالى وَ الَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا فإنها ظاهرة في وعد اللّه تعالى للمجتهد في العقائد بالهداية للحق و اصابة الواقع و من المحال الكذب في وعده فلا بد أن يكون المخطئ فيها قد قصر في الاجتهاد و إلا لزم أخلاف الوعد من اللّه تعالى و إذا ثبت تقصيره ثبت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 214

استحقاقه للإثم. و أجيب عنه بالنقض بالفروع فإنها أيضا سبيل الى اللّه تعالى مع ان المجتهدين فيها مختلفون كما ذكره صاحب المناهج. و بالحل ان الظاهر من الآية المجاهدة مع الكفار أو المجاهدة مع الشيطان لأن المجاهدة من المفاعلة و هي من الهيئات الظاهرة في

الوقوع بين الطرفين و المدافعة بينهما كالمجاهدة مع الكفار أو الشيطان و معنى (فينا) في حقنا بخلاف الجد و الاجتهاد في الاحكام و العقائد فإنه ليس فيه طرفان يقع بينهما المدافعة و المجاهدة. و يحتمل أن يكون المراد بها المجاهدة مع النفس المسمى بالموت الإرادي بالعبادة و قطع العلائق بالدنيا و الرياضات الصعبة الشرعية و تصفية الباطن و تهذيب الأخلاق مع الابتهال و التضرع له تعالى فإنها توصل إلى الحق تعالى إذا تحققت بشرائطها المقررة من صاحب الشريعة مع موهبة من اللّه تعالى. فان قلت: فعلى هذا يكون كل مخطئ آثما لتمكنه من الوصول إلى الحق بهذه المجاهدة.

قلنا: لسنا مكلفين بذلك قطعا و انما نحن مكلفون بالمعرفة بالطرق المتعارفة من الأدلة و البراهين كيف و لو كلفنا بها للزم اختلال النظام. سلمنا لكن الآية إنما دلت على ان الاجتهاد موصل للحق لكن لا تدل على أن الاجتهاد الموصل للحق يتمكن منه كل أحد في كل زمان لما نراه من اختلاف نفوس الناس و استعدادهم بحيث بعضهم غير قابل للاجتهاد و التربية أصلا و بعبارة أخرى تدل الآية على الملازمة بين الجهاد و الهداية لكنها لا تقتضي إمكان الجهاد لكل أحد كما هو شأن القضايا الشرطية.

و ثالثا: عموم ما دل على تعذيب الكفار

مثل قوله تعالى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمٰاتِ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ و قوله تعالى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على تعذيب جميع الكفار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 215

فلو كان في الكفار قاصر امتنع تعذيبهم جميعا لكونه غير مكلف فتعذيبه تعذيب لغير المكلف و هو ظلم

حاشا صدوره من اللّه تعالى. و فيه ما لا يخفى فان العالم يخصص بحكم العقل و هذه الآيات يخصص عمومها بغير القاصر منهم بحكم العقل بقبح عقاب القاصر بعد أن نرى الكثير منهم قاصرا لا يصلح تكليفه بالعقائد كالصبيان أوائل بلوغهم و نسائهم القاصرات العقول التي هي في مجاهل العالم ممن لا يحتملون صحة دين عندهم غير ما في عقولهم، و غير ذلك من المعاذير التي يحكم العقل بقبح العقاب معها، و يرشد الى ذلك قوله عليه السّلام: ما غلب اللّه عليه فهو أولى بالعذر، و الأخبار الدالة على ان اللّه لا يعذب إلا بعد البيان.

و دعوى العلم بخروج بعض الكفار كالنساء و الأولاد أوائل بلوغهم من عموم الآيات و انما نشك في خروج بعض المخطئين من مجتهدى الكفار لكونهم قاصرين فيكون شك في زيادة التخصيص و الأصل عدمها فيثبت عدم تخصيص الآيات بالنسبة للمجتهدين منهم و لازمه كون كل مجتهد مخطئ منهم آثما و مقصرا. فاسدة فإن التخصيص ليس بتخصيص أفراد حتى إذا شك في كثرة الخروج و قلته يكون الأصل قلة الخروج بل التخصيص هنا نوعي أو صنفي و هو القاصر و المجتهد القاصر منه. و لو سلمنا ذلك فالعقل يحكم بخروجه منها لقبح عقاب غير المتمكن من الاعتقاد بالواقع.

و رابعا: انفتاح باب العلم في العقائد الدينية

لكون أدلتها واضحة جلية كما يظهر من صاحب الفصول. و فيه انه لا نسلم ذلك خصوصا فيما بعد عصر الأئمة عليهم السّلام خصوصا بعد ما كثرت الشبهات في كتب الاستدلال و طغت عوامل الإلحاد على المعنويات هذا بالنسبة للمجتهد فيها و أما ما كان في أوائل بلوغهم من الأولاد و النساء أو كان في أقصى أنحاء العالم في العصور المظلمة و هو لم

يسمع بالإسلام فإن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 216

هؤلاء لم يحتمل غير دينه حقا فكيف يكون باب العلم منفتحا بالنسبة اليه.

و خامسا: قوله تعالى وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلّٰا لِيَعْبُدُونِ

بتقريب ان المفسرين متفقون على ان المراد بالعبادة المعرفة فتدل الآية على ان المعرفة غاية لخلق كل احد منهم و لا تختلف الغاية عن المغيى للعالم بالغيب، فلو وجد القاصر لزم التخلف لعدم تحقق المعرفة منه، و الحديث القدسي كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي اعرف. فلو كان بعض المكلفين قاصرا و عاجزا عن المعرفة لزم كون خلقه له عبثا و لغوا. و أجيب بأن ذلك غاية لخلق النوع لا لكل فرد بدليل ان الصبيان و المجانين لو ماتوا على هذه الحالة لم تتحقق فيهم الغاية و منه يظهر الجواب عن الحديث القدسي.

و سادسا: ان اللّه تعالى كلف العباد بوجوب العلم بالعقائد الواجبة

كقوله تعالى: في سورة محمد فَاعْلَمْ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللّٰهُ و قوله تعالى في البقرة وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، و قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ، و قوله تعالى في سورة الفتح وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَعِيراً الى غير ذلك من الآيات الشريفة الآمرة بوجوب العلم بالعقائد الدينية و لا يصح هذا التكليف منه تعالى إلا بعد ان نصب الأدلة لكل أحد يطلب المعرفة بتلك العقائد و إلا لكان تكليفا بما لا يطاق و هو قبيح على اللّه تعالى فمن لم يجد تلك الأدلة لا بد و أن يكون مقصرا. و الحاصل انه لا اشكال ان اللّه تعالى كلفنا بتلك العقائد و أوجب علمنا بها و لازم ذلك أن يكون قد جعل أدلة عليها و إلا كان تكليفه بها تكليفا بما لا يطاق فيثبت ان كل من طلب تلك العقائد وجد تلك الأدلة عليها و يثبت بعكس النقيض ان كل من لم يجدها لم يطلبها فيكون مقصرا آثما

و هو المطلوب. و أجيب عنه بأن التكليف بالعلم إنما هو للمتمكن منه على حد سائر التكاليف الشرعية فلا يلزم نصب الأدلة على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 217

العقائد بحيث كل أحد طلبها وجدها نظير سائر التكاليف فإنه لا يلزم على اللّه تعالى أن يجعل لكل أحد القدرة عليها و انما هي للمتمكن منها و حاصل هذا الجواب انما هو منع الكلية القائلة كل من طلب العقائد وجد الدليل على واقعها.

و سابعا: انه أطبق القوم على وجوب اللطف على اللّه تعالى

و لا شك ان نصب الامارة القطعية على المعارف الإلهية من اللطف إذ أن معرفتها من أقوى أسباب القرب الى اللّه تعالى و البعد عن معصيته و لو لا وجوب اللطف لما أمكن إثبات وجوب إرسال الرسل و نصب الأوصياء. و جوابه ان مقتضى اللطف ان ينصب اللّه الأدلة على العقائد و التكاليف حتى الفرعية و يرفع الموانع التي من قبله تعالى لكل من كلفه بذلك كنقصان العقل أو عدم وصول الدعوة أو الغفلة عن مراد اللّه تعالى و لذا الشخص المتصف بتلك الموانع لم يكن اللّه تعالى بمكلف له لا بالعقائد و لا بالفروع كما دلت الأدلة على ذلك. و اما الموانع من قبل المكلفين فلا يجب على اللّه تعالى رفعها لأن قاعدة اللطف كما قرر في محله لا تقتضي أزيد من فعل أو ترك الأمور العائدة إليه تعالى نعم ان كانت من جانب غير الطالب للمعرفة كإلقاء شبهة في ذهنه لا يمكنه رفعها أو الحيلولة دون إمامه أو لحبسه كان الطالب معذورا في عدم معرفته للواقع و ان كانت من جانب الطالب بان كان مقصرا لم يعذره اللّه تعالى و لا فرق في ذلك بين الأصول و الفروع.

و ثامنا: الإجماع على قتل الكفار بأصول الدين

و أسرهم و تسريهم و الحكم بنجاستهم و بيعهم و الجزية عليهم من غير فحص عنهم و فرق بينهم. و لو كان يوجد فيهم القاصر لما كان وجه لقتله و أسره لعدم تمكنه من معرفة الواقع و لوجب الفحص عن القاصر و المقصر في ترتيب الأحكام لحكم العقل بقبح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 218

عقوبة القاصر. و ما أجاب به صاحب القوانين من ان هذه أحكام دنيوية و ضعيفة و ليست الأحكام

الدنيوية مربوطة بالتقصير و العصيان كالكلب و الخنزير يحكم بنجاستهما مع أنهما أبعد عن التقصير من الكافر، و كالحيوانات، المأكولة اللحم كالغنم و نحوه يحكم بقتلها مع أنها أبعد عن التقصير من الكافر، فاسد فان جواز القتل و ان كان من الأحكام الدنيوية إلا انه عقاب دنيوي لا يصح ترتبه إلا على الإنسان العاصي لأنه ظلم، و لا فرق في قبح الظلم بين أن يكون في الدنيا أو في الآخرة كما هو مقتضي العقل و النقل.

و أما الحكم بنجاسة الكلب و الخنزير و قتل الحيوانات فلا وجه للقياس به حيث ان عالمهم غير عالمنا.

و يمكن الجواب عنه أن الجهاد انما يجوز إذا كان بدعوة من سلطان حق و مع وجود سلطان الحق كالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكون الكفار مقصرا لإمكانه الرجوع الى معرفة العقيدة الواجبة منه فعدم رجوعه مقتضي لتقصيره.

و التاريخ يشهد أن النبي صلّي اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يرد طالب الحق و لا يقتله، على انه يمكن أن يقال ان هذه الأحكام الدنيوية مرتبة على إظهار الكفر و عدم الاعتراف بالإسلام أو المساعدة للكفار فان ذلك أمر اختياري للكافر يمكنه تركه نظير عقابه على ترك الواجبات و فعل المحرمات في الآخرة لأنه أمر اختياري له و ليس ذلك عقاب على عدم اعتقاده الناشئ عن القصور، هذا كله مع ان قتلهم قد يكون على وفق المصلحة و الحكمة لحفظ بيضة الإسلام و شوكته و تقليل سواد الكفر و تحقيره كقتل المسلمين لو تترس الكفار بهم.

(المطلب الثاني) [المخطئ في العقائد الواجبة هل يرتب عليه آثار الكفر الدنيوية من النجاسة و نحوها.]

ان المخطئ مطلقا أو خصوص القاصر إذا كان ليس بآثم فهل يحكم بكفره و يرتب عليه آثار الكفر الدنيوية من النجاسة و

نحوها و يعلم ذلك من تحقيق معنى الكفر و قد تعرض لذلك القوم في مبحث النجاسات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 219

من كتاب الطهارة فظهر ان الكلام في هذا الموضع في ثلاثة مقامات في التخطئة و التصويب و الإثم و عدمه و الكفر و عدمه.

الموضع الثالث في الأحكام الفرعية العقلية

الموضع الثالث من الكلام في التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعية الفرعية التي يستقل بها العقل سواء كانت عقلية محضة كقبح الظلم و العدوان و حسن العدل و الإحسان و نظم اليتيم و إنقاذ الغريق و إطفاء الحريق و وجوب رد الوديعة و أداء الدين أو لم تكن محضة و هي التي تكون احدى مقدماتها النقل كوجوب مقدمة الواجب و النهي عن الضد. و الظاهر وقوع الكلام في التخطئة و التصويب بالنسبة إليها فيما عدى الضروري منها، فإنه يعلم الحال فيه عند الكلام في الموضوع الرابع في الضروريات فان الظاهر من كلمات القوم القائلين بالتصويب ان العقليات الغير الضرورية كوجوب المقدمة و النهي عن الضد و كحرمة الكذب الغير الضار و رد الوديعة للظالم أو المحارب يكون المجتهدون فيها مصيبين بأجمعهم عند اختلافهم فيها و لذا التزموا بالتصويب في مثل القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة مع انها كلها عقلية و لم يستثنوا من حريم النزاع إلا ما قام عليه الإجماع أو النص الجلي الغير المعارض الذي هو عبارة عن الضروريات فلا وجه لما في (الكفاية) و غيرها من دعوى الاتفاق على التخطئة في العقليات و توضيح الحال ان العقليات مطلقا ان كانت من العقائد فحكمها قد عرفته سابقا في الموضع الثاني: فما قيل هناك جاري هنا حرفا بحرف و ان كانت من الأحكام الفرعية الضرورية فالكلام

فيها يعرف من الكلام في الموضع الرابع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 220

الذي سيجي ء إنشاء اللّه. و ان كانت من الأحكام الفرعية الغير الضرورية كوجوب المقدمة و حرمة الكذب الغير الضار فيعرف من الكلام في الموضع الخامس الذي يتكلم فيه في الأحكام الشرعية الغير الضرورية هذا هو حقيقة الحال في هذا الموضع. و لكن بعض أساتذة العصر و المحقق السيد إبراهيم القزويني (ره) و سبقهم صاحب الفصول استدلوا على امتناع التصويب في الأحكام العقلية بلزوم اجتماع النقيضين. و لا يخفى ما فيه لأن الأحكام الفرعية العقلية الغير الضرورية يكون تعدد الحكم فيها على طبق آراء المجتهدين نظير تعدده في الأحكام الفرعية الغير الضرورية و حاله حالها فكما لم يستدلوا هناك باجتماع النقيضين فكذلك هنا و انما يلزم تعدد التشريع فقط في المقامين فإنهما من وادي واحد و باب واحدة فإن اجتماع النقيضين الذي جعلوه محذورا للتصويب في الموضوعات و العقائد هو اجتماعهما في نفس الأمور الخارجية التكوينية من دون نظر الى الحكم الشرعي و فيما نحن فيه أعني الأحكام الشرعية العقلية الفرعية لا يلزم إلا اجتماع الحكمين في واقعة واحدة من دون أن يجتمع أمران متنافيان في الأمور الخارجية تكوينا فاذا جوزنا ذلك في الأحكام الشرعية النقلية لا محالة جاز في العقلية المذكورة. و يمكن أن يستدل على عدم جريان النزاع في العقليات الفرعية ان الحكم الفرعي الشرعي تابع لحكم العقل. و العقل لا يتبع في حكمه آراء المجتهدين فلا يعقل تصور التصويب فيها. و يمكن الجواب عنه ان المراد بالعقليات هي الأحكام التي قام عليها دليل العقل و ليست ما حكم به العقل لأن الأشاعرة القائلين بالتصويب ينكرون حكم العقل فلا

بد أن نأخذ الموضوع ما هو المتسالم بين الطرفين، و من المعلوم ان ما قام عليه الدليل العقلي هو الحكم الشرعي و هو يكون تابعا لآراء المجتهدين عند الخصم لا حكم العقل حتى يقال ان العقل لا يتبع في حكمه آراء المجتهدين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 221

الموضع الرابع في الأحكام الفرعية الضرورية
اشارة

الموضع الرابع من الكلام في التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعية الفرعية الضرورية عبادة كانت كوجوب الصلاة و الصوم أو معاملة كحلية البيع و حرمة شرب الخمر. وضعية كانت كصحة النكاح و الطلاق و جزئية الركوع و شرطية الطهارة للصلاة أو تكليفية كوجب الزكاة و الحج. و الظاهر وقوع الاتفاق من الفريقين على عدم تصويب المجتهدين المختلفين فيها و ان المصيب واحد و ان الباقين مخطئون فيها و لعل الوجه في ذلك هو ان اللّه تعالى قد أوضح حكمه فيها و لم يجعله منوطا بنظر المجتهد فكل أحد يعرفه بدون الاجتهاد بخلاف غير الضروري فإنه قد يتخيل انه إذا لم يكن اللّه قد أظهره فلا بد أن يجعله دائر مدار رأي من اجتهد فيه و حصله و سيجي ء تحقيق ذلك ان شاء اللّه تعالى.

كفر المخطئ في الضروريات

ثمَّ ان المخطئ في الضروري المنكر له هل انه كافر من حيث انه منكر للضروري أو انه كافر من حيث استلزام إنكاره للضروري إنكار أصل من أصول الإسلام أو استلزامه لتكذيب النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل يمكن أن يكون قاصرا أو لا بد أن يكون مقصرا و هل انه يكون كافرا مطلقا بحيث يجرى عليه جميع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 222

أحكام الكفر في الدنيا مطلقا أو في خصوص ما إذا كان إنكاره عن تقصير بحيث لو كان عن قصور أو عن شبهة فهو ليس بكافر. ثمَّ على تقدير عدم كفره لو كان إنكاره عن شبهة أو قصور فهل يجب الفحص عن إنكاره انه كان لشبهة في ترتيب آثار الكفر عليه أم لا. ادعي غير واحد ترتيب آثار الكفر عليه و لا يجب

الفحص و قد تمسك بعضهم بدعوى الإجماع و بان غالب المنكرين لهذه الضروريات مقصرون قطعا و الظن يلحق الشي ء بالأعم الأغلب، و ان الظن الحاصل من هذه الغلبة حجة قطعا. و للزوم الهرج و المرج لو لم يرتب عليه ذلك بمجرد الاحتمال. و لتكفيرهم الخوارج و النواصب و الغلاة لإنكارهم ما هو ضروري و هو خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام إذ النزاع في الخلافة في الأسبقية لا في أصلها و هذه المباحث قد تعرض لها الفقهاء في كتاب الطهارة في مبحث النجاسات فمن أراد معرفة ذلك فليراجعها.

الموضع الخامس في الأحكام الفرعية غير الضرورية
اشارة

الموضع الخامس من الكلام في التخطئة و التصويب في الأحكام الشرعية الفرعية الغير الضرورية عبادية كانت أو غيرها وضعية كانت أو تكليفية. فقد اختلفوا القوم في هذا المقام في تصويب جميع المجتهدين المتخالفين في الواقعة الواحدة و عدم تصويبهم فالقائلون بتصويب المجتهدين في فتاواهم و مطابقتها للواقع في الواقعة الواحدة هم أكثر الأشاعرة منهم أبو الحسن الأشعري و القاضي أبو بكر الباقلاني و بعض المعتزلة منهم أبو الهذيل العلاف و أبو هاشم و اتباعهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 223

[الوجوه الخمسة في تصوير التصويب.]

و يتصور كلامهم بوجوه خمسة.

أحدها: و هو المعروف بل نقل ان المصوبة ليس لهم قول بغيره و هو انه لا حكم له تعالى في الواقع قبل الاجتهاد بل حكمه الواقعي تابع لرأي المجتهد و حادث بحدوثه فهم في الحقيقة يقولون لا شي ء هناك قبل الاجتهاد حتى يكلف المجتهد بالوصول اليه بل هو مكلف بالاجتهاد في مناسبات الحكم أي في الأمور التي يناسبها كون الحكم كذا و هي الأدلة النقلية و غيرها فينجعل المظنون حكما للمجتهد و مقلده.

و ثانيها: ان اللّه تعالى جعل أحكاما متعددة في الواقع للواقعة الواحدة ثمَّ يقهر و يجبر المجتهدين في تلك الواقعة على تأدية اجتهادهم إليها فتكون مطابقة آراء المجتهدين للواقع قهرية.

ثالثها: نفس الوجه الثاني إلا ان اللّه تعالى لم يجبر المجتهد على المطابقة و إنما كانت المطابقة و الموافقة لتلك الأحكام المجعولة من باب الاتفاق و المصادفة أعني من باب القضايا الاتفاقية.

رابعها: ان اللّه تعالى لما علم ان آراء المجتهدين في كل مسألة فقهية قبل اجتهادهم فيها فجعل أحكاما للواقعة على طبق الآراء قبل حدوث الآراء فبعد حدوثها طابقتها.

خامسها: أن يكون في الواقعة حكم شرعي واحد إلا

انه بعد ان صار رأى المجتهد بخلافه يزول ذلك الحكم الواقعي و يتغير التكليف و يصير مأمورا بمقتضى ظنه لإحداث الاجتهاد عنوانا هو كون المظنون ذا مصلحة فائقة على مصلحة الواقع فيكون الاجتهاد مغيرا لحكم الواقع و منوعا للواقع و هذا هو الذي يحكي ظهوره من (يه) في تعريف الفقه في جواب ابن قبة و لا وجه لعد هذا القول في أقوال المخطئة ضرورة ان الحكم الذي أدى له اجتهاد المجتهد في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 224

عرض الحكم الواقعي و يكون للشي ء حكمان باعتبار وصف الظن و عدمه كما للصلاة حكمان باعتبار السفر و عدمه بل ينبغي ان يجعل من الحكم الواقعي الثانوي و أما القائلون بالتخطئة فيقولون بأن للّه تعالى في كل واقعة حكم واحد واقعي فالمصيب عندهم من كانت فتواه على طبقه و الباقي مخطئون غير آثمين إذا لم يكونوا مقصرين و هو الذي عليه علماء الإمامية و وافقهم أكثر المخالفين كالحاجي و العضدي و ابي بكر الأصم و بشر المريسي و في المحكي عن النهاية ان القول بالتخطئة منسوب إلى الشافعي و أبي حنيفة و عن الفاضل الجواد نسبة القول بالتخطئة للأربعة.

[اختلاف المخطئة.]

و قد اختلف القائلون بالتخطئة في انه هل نصب اللّه تعالى لحكمه الواقعي دليلا أم لم ينصب عليه دليل بل هو كالشي ء المدفون في مكان لا علامة عليه و انما يعثر عليه اتفاقا و قد حكي عن العلامة (ره) نسبة هذا القول الثاني في النهاية إلى جماعة من الفقهاء و المتكلمين.

و أما القائلون بأن له دليلا فاختلفوا فبعضهم ادعى انه ظني و بعضهم ادعى انه قطعي ثمَّ اختلف القائلون بأنه ظني فبعضهم قال ان المجتهد لم

يكلف بإصابة ذلك الدليل الظني لخفائه و غموضه و يعذر المخطئ و يؤجر على اجتهاده و انما هو مكلف بإصابة الواقع قدر جهده و قد حكي عن العلامة (ره) في النهاية نسبة هذا القول للفقهاء كافة و الى الشافعي و أبي حنيفة. و الباقون منهم قالوا بأنه مأمور بطلبه ابتداء فإن أخطأ و غلب على ظنه شي ء آخر تغير التكليف و صار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه و لا اثم عليه. و قد عرفت منا ان هذا يرجع للقول بالتصويب كما بيناه في الوجه الخامس من وجوه التصويب. و أما القائلون بأن عليه دليلا قطعيا متفقون على ان المجتهد مأمور بطلب ذلك الدليل القطعي إلا انهم اختلفوا في موضعين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 225

الأول ان المخطئ هل يستحق الإثم فذهب بشر المريسي إلى انه يستحق الإثم و نفاه الباقون كما في المحكي عن النهاية لكن المحكي عن العضدي نسبة استحقاق الإثم اليه و الى ابي بكر الأصم.

الثاني هل ينقض قضاء القاضي فيه أم لا فذهب أبو بكر الأصم إلى انه ينقض و الباقون إلى انه لا ينقض و لا يخفي عليك ان هذه الاختلافات المذكورة انما هي من المخطئة العامة.

و اما علمائنا قدس اللّه أسرارهم فالظاهر انهم يقولون بأن في كل واقعة حكما معينا مودوع عند أهل العصمة عليه السّلام قد يكون عليه دليل ظني و قد يكون عليه دليل قطعي و المجتهد ان أدركه فقد أصابه و إلا فقد أخطأ و انه غير آثم في خطأه بعد بذل وسعه و عدم الظفر به و لو كان الدليل قاطعا إذ لا إشكال في ان بعض الأحكام الواقعية لا دليل عليها و انه يرجع

فيها إلى الأصول العملية لكن يظهر الخلاف في ذلك من المحكي عن النهاية حيث قال ان للّه تعالى في كل واقعة حكما معينا و ان عليه دليلا ظاهرا لا قطعيا و ان المخطئ فيه معذور و ان قضاء القاضي لا ينقض به انتهى. و لعل المراد بالدليل ما يعم الأصول العملية كما ان نفيه قطعية الدليل لعله من جهة إرادة الضروري منه و إلا فالأدلة القطعية على الأحكام الشرعية أكثر من ان تحصى و هكذا يظهر الخلاف من المحكي عن العدة للشيخ (ره) حيث قال و الذي أذهب اليه و هو مذهب جمع من شيوخنا المتكلمين المتقدمين و المتأخرين و هو الذي اختاره المرتضى (ره) و اليه كان يذهب شيخنا أبو عبد اللّه ان الحق في واحد و ان عليه دليلا من خالفه كان مخطئا فاسقا فجعل المخطئ و من لم يصب الحكم الواقعي فاسقا و قد حمل القوم حكمه (ره) بفسق المخطئ على إرادة صورة التقصير في الاجتهاد و عدم استفراغ المجتهد الوسع بقدر الواجب. أو يحمل على إرادة صورة العمل بمثل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 226

القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و غيرها من الظنون التي يقطع بعدم اعتبارها و ردوا هذا التوجيه بأن المجتهد في كل من الصورتين معاقب فاسق سواء أصاب الواقع أم أخطأ فلا وجه في تخصيصه (ره) الحكم بالفسق في كل من الصورتين بالمخطئ فان المصيب أيضا معاقب و لا نحب ان نطيل الكلام في صحة هذين التوجيهين أو سقمهما أو صحة ردهم عليهما أم لا إذ لا يشك في أحد لا سيما مثل الشيخ (ره) في انه يذهب الى ان المجتهد الغير المقصر إذا

أخطأ ليس بفاسق و لا معاقب لحكم العقل بقبح عقاب القاصر لعدم قدرته على تحصيل الواقع كما انه من المحتمل ان يكون مراد الشيخ (ره) بعبارته المتقدمة ان من خالف الدليل يكون مخطئا فاسقا على ان يكون مرجع الضمير في قوله (خالفه) هو الدليل و لا ريب ان من خالف الطريق الذي جعله الشارع دليلا لتحصيل الحق و أفتى من دون دليلا يكون مخطئا لعدم عمله بالدليل على الحكم و فاسقا لأنه أفتى من دون علم و بصيرة بالواقع فهو مخطئ و فاسق حتى لو أصاب الواقع بل حتى لو تمسك بدليل لم يعتبره الشارع أو نهاه عن سلوكه كالقياس و نحوه فهو مخطئ لعدم سلوكه ما أمره الشارع بسلوكه و فاسق لكونه خالف أمر الشارع بسلوكه ما لم يعتبره الشارع، و منشأ إشكال القوم على عبارة الشيخ هو توهم عود الضمير في (خالفه) إلى الحق فأوردوا عليه من ان مخالف الحق لا يكون فاسقا إلا إذا كان مقصرا.

تحرير محل النزاع في المقام و تشخيصه
اشارة

ثمَّ قبل الخوض في تحرير أدلة الطرفين في المقام لا بد من تحرير محل النزاع و تشخيصه فنقول

ان القوم أخرجوا عن محل النزاع أمور ثلاثة:
أحدها: مدلولات الخطاب

و ذلك لان النزاع هنا ليس في مدلولات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 227

الخطابات الشرعية و وحدتها بان يقال ان النزاع في المراد من اللفظ المنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو حكم واحد أو أحكام متعددة على ان يكون مذهب المصوبة هو ان مثل مدلول (حرم عليكم الخمر) هو الأحكام المتعددة بتعدد آراء المجتهدين و يكون مذهب المخطئة ان مدلوله حكم واحد واقعي فإن هذا لا يتصور من جاهل فضلا عن عالم عاقل فان الجميع متفقون على ان المراد من الخطابات المنزلة على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حكم واحد لا متعدد حتى لو قلنا بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد لأن الخطابات ليست من الألفاظ المشتركة و لو وجد فيها الألفاظ المشتركة فإن عليها قرينة على تعين المراد و لذا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم بحكم الواقعة المنزل عليه. و الحاصل ان الكل متفقون على ان الحكم المراد من اللفظ واحد و ارادة غيره خطأ فالكل متفقون في هذا المقام اعني مقام الخطاب على التخطئة و انما نزاعهم في تعدد الحكم المجعول للّه تعالى بالذات المقصود بالأصالة في الواقعة الواحدة فالمصوبة يقولون انه متعدد بتعدد آراء المجتهدين و واحد منها هو المراد من ذلك الخطاب و الزائد عليه أيضا مقصود بالأصالة مجعول بالذات للّه تعالى اراده من الأسباب التي صارت موجبة لظنون المجتهدين بها. و المخطئة يقولون بان الحكم المقصود بالأصالة و المجعول بالذات هو واحد و من

هنا ظهر لك فساد ما استدل به بعض أساتذة العصر العصر على بطلان التصويب من ان نفس إطلاقات أدلة الأحكام تدل على بطلان التصويب فان مقتضي إطلاق ما يدل على وجوب شي ء أو حرمته ثبوته في حق من قامت عنده الامارة على الخلاف أيضا و قد سبقه الى ذلك أستاذه العلامة آقا ضياء العراقي (ره) و وجه الفساد ان الخصم ينكر إطلاقها و أنها انما تقتضي ثبوت الحكم عند خصوص من قامت عنده لا ثبوته في حق الجاهل ثمَّ كيف يتصور ان مقام الإثبات ينافي مقام الثبوت فكان عليه أولا أن يبطل ما أقامه الخصم من الأدلة العقلية و النقلية على التصويب فاذا فرض عدم ما يفيد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 228

القطع به يرجع إذ ذاك الى التمسك بالإطلاق. هذا مع ان الإطلاق بالنسبة إلى العلم و الجهل غير صحيح لأن الدليل لا يمكن تقيده بالعلم أو الجهل و الإطلاق إنما يتصور في مقام يمكن فيه التقيد. على انه لو كانت الإطلاقات تقتضي التخطئة لكانت إطلاق أدلة الأصول كالاستصحاب تقتضي التخطئة فمثلا من قال بأن دليل الاستصحاب يقتضي ثبوته في مطلق الشك في المقتضي و الرافع و الآخر قال في خصوص الشك في الرافع و كان المورد مورد الشك في المقتضى بحيث كل من الطرفين شاك في المقتضى فيقتضي أن يكون إطلاق دليل الاستصحاب يوجب تخطئة من أجرى البراءة العقلية في الشك في المقتضى مع ان المعاصر المذكور يعترف بعدم التخطئة في مثل ذلك كما ذكره.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 228

خروج الأحكام الظاهرية
اشارة

(ثاني الموارد) التي أخرجها القوم عن محل النزاع هو الأحكام الظاهرية فإنه لا نزاع بينهم أيضا في تعدد الأحكام الظاهرية بتعدد آراء المجتهدين فلو كان في الواقعة الواحدة أقوال خمسة كان الحكم الظاهري فيها خمسة لإجماع الكل على لزوم العمل بالأحكام الظاهرية لمن ثبت عنده و ان ظن المجتهد حجة عليها فلو كان فيها خطأ لما أجمعوا على لزوم العمل بها و لو كان النزاع في هذه الاحكام لكان لازم الكل التصويب هكذا ذكره القوم. و الاولى أن يقال ان في عالم الظاهر لا يوجد حكم غير ما أدى اليه نظر المجتهد حتى يتصور مخالفته و عدم اصابته فلذا لا نزاع بينهم في عالم الظاهر و الكل متفقون ان كل مجتهد مصيب لحكمه الظاهري و إلا لم يكن حكما ظاهريا و المفروض القطع بكونه حكما ظاهريا بالنسبة له و لمقلديه إذا لم يكن مقصرا مضافا الى انه لو قلنا ان ما أدى اليه اجتهاده يحتمل ان يحتمل غيره لزم عدم حجية رأيه مع أن فرض الكلام حجية رأي المجتهد و انما النزاع كما عرفت في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 229

الحكم الأصلي المجعول من اللّه تعالى بالذات في الواقعة الواحدة مع قطع النظر عن الخطابات و الأدلة و ان شئت قلت ان النزاع في الأحكام الظاهرية العملية في الواقعة الواحدة هل هي كلها مقصودة بالذات و مجعولة بالأصالة كما عليه المصوبة لأنها كلها تكون أحكاما واقعية عندهم كما هي أحكام ظاهرية أم ان المقصود بالذات منها حكم واحد هو يكون واقعيا و ظاهريا لمن أصابه و الباقي أحكاما ظاهرية فقط.

المراد بالحكم الظاهري الذي لا خطأ فيه

و المراد بالحكم الظاهري الذي لا نزاع بينهم في ان المجتهد الغير

المقصر مصيب فيه بالنسبة للظاهر و عالم التنجز و البعث هو الحكم الذي أدى اجتهاده اليه من أمارة شرعية أو أصل عملي أو دليل قطعي لأنه هو حكمه في الظاهر الذي يلزمه العمل به و المشي على مقتضاه بحسب الظاهر و يستحيل على الشارع ان يعاقبه على غيره لاستحالة التكليف بما لا يطاق فيسمى بالحكم الظاهري لأنه ليس مكلفا تكليفا فعليا منجزا بغيره، و هذا الحكم الظاهري قد يكون واقعه حكما واقعيا أوليا كما لو أدى نظره الى حرمة الخمر و قد يكون واقعه حكما واقعيا ثانويا كما لو أدى نظره الى وجوب التيمم و قد يكون حكما ظاهريا أصوليا كما لو أدى نظره الى الاستصحاب في مورد الاستصحاب كما ان هذا الحكم الظاهري عند المخطئة قد يخالف الحكم الواقعي الاولي كما هو واضح و قد يخالف الحكم الثانوي كما لو ادى نظره الى وجوب الوضوء في مورد التيمم و قد يكون مخالفا للحكم الظاهر الأصولي كما لو ادى نظره الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 230

البراءة في مورد الاستصحاب و بهذا ظهر لك ان المراد بالحكم الظاهري هنا غير الحكم الظاهري في باب الأصول العملية للمخالفة بينهما كما ظهر لك فساد ما يتراءى من بعض المعاصرين حفظه اللّه في تقريراته من اختلاط الأمر عليه حيث اشتبه عليه الحال في الحكم الظاهري في باب الأصول بالحكم الظاهري في باب التصويب فإنه بعد ما جزم بعدم تصور الخطأ في الأحكام الظاهرية تبعا للقوم و انه لا بد من التصويب فيها أورد على نفسه بأن الأحكام الظاهرية كالأحكام الواقعية لا تكون آراء المجتهدين فيها مصيبة فإنه لو بنى أحد في مورد التخيير على البراءة

و بني الآخر على التخيير كان المصيب فيهما واحد و الآخر مخطئ في الحكم الظاهري و هكذا لو بنى احد على البراءة عند الشك في المقتضي و الآخر بني على الاستصحاب كان أحدهما مخطئ لا محالة في الحكم الظاهري. و أجاب عن الاشكال بما يرجع الى ان الاحكام الظاهرية يقع فيها الخطأ كالحكم المجعول على ذوات الافعال قد يصل اليه المجتهد و قد لا يصل و ليس المراد بالتصويب فيها انه لا يمكن وقوع الخطأ فيها من المجتهد بل المراد ان اختلاف المجتهدين في الأحكام الظاهرية انما هو من جهة الاختلاف في موضوعاتها و لا يتصور فيه الخطأ من هذه الجهة فمن اعتقد ان أدلة البراءة الشرعية لا تشمل موارد دوران الأمر بين المحذورين لاعتقاده تقديم الشارع جانب الحرمة على الوجوب لا تكون أدلة البراءة شاملة له لعدم موضوعها و هو الشك في الحكم و من لا يعتقد بذلك فلا محالة يكون شاكا في الحكم الواقعي و معه يرجع الى البراءة و بذلك يظهر الحال في المثال الثاني و بقية الموارد فان من بني على حجية الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي لم تكن أدلة البراءة معذرة له في العمل لعدم تحقق موضوع البراءة في حقه، و أما من بني على عدم حجيته في تلك الموارد فيرجع للبراءة لأنه شاك في الحكم و لم تقم حجة عنده حسب الفرض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 231

انتهى ملخصا. و أنت خبير بأن أصل الإشكال غير وارد لأن الحكم الظاهري الذي هو مؤدى رأي المجتهد لم يكن خطأ فيه بالنسبة إلى عالم الظاهر لأنه هو الذي يثبت و يلزم به في عالم الظاهر و يعاقب

على مخالفته على تقدير ثبوته في الواقع نعم انما يتصور الخطأ فيه بالنسبة إلى الواقع إذا خالف الواقع ففي الأمثلة المذكورة الحكم الظاهري بالنسبة إلى عالم الظاهر لا خطأ فيه و انما يتصور الخطأ فيه بالنسبة إلى الواقع و قد عرفت ان واقع الحكم الظاهري المذكور قد يكون أصلا عمليا كمن أفتى بالبراءة في الشك في الرافع مع ان الواقع هو الاستصحاب فالخصم تخيل ان الأصل العملي هو الحكم الظاهري المقصود في باب التصويب فأورد الإشكال عليه بأن الحكم الظاهري قد يخالف الأصل العملي الثابت واقعا في هذا المورد و ما درى أن الحكم الظاهري الذي أثبت التصويب فيه كما يقتضيه الاعتبار و نطقت به كلمات القوم هو ما أدى اليه رأي المجتهد سواء كان أصلا عمليا أو غيره و إذا خالف رأي المجتهد الأصل العملي المجعول واقعا يكون عندهم من مخالفة الحكم الظاهري لواقعة في هذا الباب لا من مخالفة الحكم الظاهري للحكم الظاهري و التصويب الذي اتفق عليه القوم في الحكم الظاهري هو بالنسبة إلى عالم الظاهر لاستحالة ان يلزم العبد بغيره بالنسبة إلى الظاهر لا بالنسبة لواقعة و من هنا ظهر لك فساد ما ذكره في جوابه من انه ليس المراد بالتصويب في الأحكام الظاهرية انه لا يمكن الخطأ انتهى حيث قد عرفت ان المراد منه هو ذلك و انه لا يمكن الخطأ فيها بالنسبة لعالم الظاهر و عالم التنجز و مخالفتها للأصل العملي في بعض المواطن انما هي من من قبيل المخالفة للواقع لا المخالفة للظاهر فإن الأصل العملي المجعول واقعا لهذا المورد يكون واقعا للحكم الظاهري لا انه حكم ظاهري في مرتبة الحكم الظاهري الذي أدى اليه نظر المجتهد.

ثمَّ انا

لو سلمنا ما ذكره في الجواب فما يصنع في صورة ما إذا أدى رأي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 232

المجتهد للبراءة عند الشك في المقتضى و في الواقع هو مجرى الاستصحاب فإنه يكون الموضوع للاستصحاب و هو الشك في المقتضي موجودا عند المجتهد مع اجراه المجتهد للبراءة فكيف يدعي انه لا يتصور الخطأ من جهة اختلاف الموضوع نعم لو عكس الحال بأن أدى نظر المجتهد في الشك في المقتضى الى الاستصحاب لم يكن موضوع البراءة موجودا و هكذا الكلام في المثال الآخر و هو صورة دوران الأمر بين المحذورين فإنه لو أدى رأي المجتهد الى البراءة و في الواقع يقدم جانب الحرمة فإن الموضوع لتقديم جانب الحرمة موجود مع حكم المجتهد فيه بالبراءة فأذن على مبناه يكون الخطأ في الحكم الظاهري مع عدم اختلاف الموضوع نعم لو عكس الحال بأن أدى رأي المجتهد لتقديم جانب الحرمة كان موضوع البراءة غير موجود. هذا و يمكن أن يقال ان مخالفة الحكم الظاهري للحكم الظاهري الواقعي إنما تتصور إذا قلنا بأن الأحكام الظاهرية ثابتة في موارد الأصول من حيث هي و لو قبل شك المجتهد و قبل تفحصه و مراجعته ففي المورد الذي يكون له حالة سابقة و ليس على خلافها دليل يكون الاستصحاب هو الثابت المشترك بين المجتهد و المقلد (و الحاصل) أنه يكون للاحكام الظاهرية نوع ثبوت واقعي و لا يعتبر الشك الفعلي في أصل ثبوتها و تحققها بل انما يكون الشك الفعلي معتبر في فعليتها و تنجزها و على هذا فتكون مثل الأحكام الواقعية ثابتة في حد نفسها و المجتهد يبحث عنها فمرة يصيب و مرة يخطئ، و اما إذا قلنا بأن

الأحكام الظاهرية سواء كانت مؤديات الأصول أول الطرق المخالفة للواقع ليس لها وجود واقعي و انما تحدث حيث العلم أو الظن أو الشك الفعليين و ان شركتها بين المجتهد و المقلد ليست مثل الأحكام الواقعية بل انها تثبت أولا للمجتهد ثمَّ يشترك معه المقلد لأن المدار فيها الشك الفعلي و هو مختص بالمجتهد بعد الفحص فليس في الواقع حكم ظاهري مشترك بحيث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 233

يكون الواجب على المجتهد الاجتهاد في تحصيله و على المقلد تقليده فيه بل إنما يكون كل منهما مكلفا بالواقع الأصلي، ألا ترى ان مؤديات القطع و الأدلة الظنية مع المخالفة للواقع مع جميعها لشرائط الحجية قبل حصولها يكون التكليف متعلقا بالواقع فقط و تحصيل المعرفة واجب لتحصيل الواقع لا لأجل تحصيل تلك المؤديات إذ شرط حدوثها حصول تلك الامارات المخالفة للواقع أو القطع المخالف للواقع و لا وجود لها قبل ذلك حتى يجب تحصيلها و إنما بعد حدوث تلك الأمور يحدث التكليف و تحصل الشركة و يجي ء وجوب التقليد، و عليه فلا يتصور بالنسبة إليها الإصابة و الخطأ و لكن قد تقدم ما يظهر لك حقيقة الحال.

الموضوعات الصرفة

(ثالث الموارد) التي أخرجها القوم من محل النزاع الموضوعات الصرفة فإنها ليست من محل النزاع في شي ء و ان المختلفين فيها ليسوا بمصيبين فيها و إلا لزم اختلاف الأمور التكوينية باختلاف آراء المجتهدين فيها، و قد تقدم منا الكلام في ذلك ص 209. إذا عرفت ذلك فنقول: ان الحق مع المخطئة و لا بد قبل الخوض في أدلة الطرفين من تحرير الأصل في المقام.

الأصل في التخطئة و التصويب
اشارة

فنقول: ذهب جماعة من الأصحاب منهم العلامة (ره) في النهاية إلى أن الأصل في المسألة مع قطع النظر عن الأدلة هو عدم التصويب، و قد قرروا هذا الأصل بوجوه:

[التقرير الأول الأصل] أصالة عدم تعدد الأحكام الواقعية

كما ذهب الى ذلك سلطان العلماء و المحقق القمي (ره) و أورد عليه بعضهم انه لا ريب في تعدد الأحكام بتعدد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 234

آراء المجتهدين و إنما الشك في ان تلك الأحكام المتعددة كما هي ظاهرية هل هي أحكام واقعية أيضا أم لا، فوجود التعدد في الأحكام قطعي و إنما الشك في وصفها بالواقعية و عدمه. و الأصل المذكور لا يرفع الشك المذكور لأنه وصف ذاتي يوجد بوجود الحكم. إن قلت: ان المصوبة يقولون بإنشاء أحكام متعددة من اللّه تعالى بعد الاجتهاد أو قبله أو لأجل تعدد الاعتقاد أو لا، فهم يقولون بتعدد جعل الشارع للواقعة و المخطئة يقولون بوحدة الجعل فالأصل مع المخطئة.

قلنا: انه لا إشكال في ان الحكم الذي أدى اليه رأي المجتهد مجعول من الشارع و لكنه هل بجعل ظاهري بمعنى لزوم العمل به و عدم العذر عند المخالفة للواقع أم بجعل واقعي فقط، فتعدد الجعل لازم على كل حال. نعم في القطعيات و الظنيات بناء على الحكومة في باب الانسداد حيث لا جعل من الشارع في الظاهر فالأصل مع المخطئة و لكن الأصل الذي يقرر للمسألة يجب أن يكون عاما لسائر مواردها، و بهذا ظهر لك انه لا وجه للتمسك بأصالة عدم الجعل لا زيد من حكم واحد. و من هنا يتجه أن يقال ان الأصل يكون مع المصوبة حيث ان المخطئة يقولون بجعل حكم واقعي زائد على جعل الأحكام الظاهرية، و اما المصوبة فهم لا

يقولون إلا بجعل الأحكام الواقعية فقط و ليس عندهم إلا جعل ما أدى اليه آراء المجتهدين فقط و المخطئة يكون عندهم جعل ما أدى اليه آراء المجتهدين و زائد عليه جعل الحكم في الواقع. نعم الأصل مع المخطئة في الطرق الغير المجعولة كالقطع و نحوه كما تقدم، و سيجي ء ان شاء اللّه في جواب التقرير الثالث لهذا الأصل ما ينفعك في المقام من ان هذا إنما يتم بناء على جعل أحكام ظاهرية من الشارع على طبق مؤدى الامارات، و اما بناء على جعل الحجية للأمارات فقط أو عدم الجعل لها و إيكال الامتثال الى العرف، فأصالة عدم جعل الزائد على الواحد و أصالة عدد التعدد جارية في المقام و يكون الأصل مع المخطئة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 235

(ثاني التقريرين) للأصل المذكور هو أصالة عدم اصابة المجتهد للحكم الواقعي

فإنه قبل الاجتهاد لم يكن مصيبا للحكم الواقعي قطعا و بعد اجتهاده نشك في إصابته للواقع أم لا، و الأصل عدم اصابته.

و يرد عليه أولا: انا نعلم بالإجمال اصابة واحد منهم فيكون أصالة عدم الإصابة في كل واحد متعارضة فتسقط من البين. و يمكن الجواب عنه ان الأصل المذكور كل مجتهد يجريه فيما عدى رأيه نظير أصالة الطهارة في واجدي المني في الثوب المشترك. نعم شخص آخر لا يصح له أن يجريه في آراء المجتهدين في صورة ما إذا كان يعلم بإصابة أحدهم للواقع و إلا لو احتمل عدم اصابة الجميع صح له إجرائه. نعم يمكن أن يقال ان المطلوب في الأصل الجاري في المسألة أن يجري في سائر الموارد لا في بعضها، و هذا لو تمَّ إنما يجرى في بعضها.

و يرد عليه ثانيا: ان الإصابة للحكم قطعا تحققت و لكن لا نعلم انها

للظاهرى الواقعي أم للظاهرى فقط، و هذا نظير من يعلم بدخول حيوان للدار لكنه يشك في انه إنسان أم غيره فيستصحب عدم الإنسانية، فإنه لا يصح ذلك إلا بناء على صحة استصحاب العدم الأزلي الذي هو مفاد ليس التامة.

(ثالث التقريرات) للأصل المذكور هو أن يقال ان الاحكام الظاهرية ليست بأحكام حقيقية

بل هي أحكام في أنظار المجتهدين من باب لزوم العمل بالمعتقد و هو حكم سار في جميع الاحكام المعتقد بها، فالمخطئة يقولون بأن الحكم المتعلق بالشي ء مع قطع النظر عن وجوب العمل بالمعتقد واحد لا يختلف باختلاف الآراء و لا يتعدد بتعددها، و المصوبة يقولون بتعدد الحكم المتعلق بذلك الشي ء في الواقع، و لا ريب ان الأصل عدم التعدد فمثلا ان المخطئة يقولون بأن للخمر حكما واقعيا و هو واحد و حكما ظاهريا و هو لزوم العمل بالمعتقد عندنا، و المصوبة يقولون للخمر أحكاما واقعية متعددة، فالشك إنما هو في تعدد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 236

الأحكام و اتحادها لا في ظاهريتها و واقعيتها لأن الأحكام الظاهرية ليست بأحكام، و لا يخفى ان هذا لا يتم بناء على جعل أحكاما ظاهرية شرعية على طبق مؤدى الطرق و الأمارات فإنها أحكام شرعية مجعولة متعلقة بنفس الشي ء على طبق آراء المجتهدين. نعم بناء على عدم ذلك سواء بنينا على جعل الشارع وجوب متابعة الامارات بأن يكون المجعول نفس الحجية و الطريقية فقط أو قلنا ان الشارع لم يجعل شيئا أصلا بل أحال ذلك الى المتداول عند العرف في مقام الامتثال كالقطع فإنه يكون أصالة عدم تعدد الأحكام الشرعية و أصالة عدم جعل الزائد على الواحد جارية في المقام و يثبت بها مذهب المخطئة لأن المصوبة تكون الأحكام الشرعية الفرعية متعددة عندهم بخلاف المخطئة على هذا

المبني فإنه يكون الحكم الفرعي الشرعي عندهم واحد و ما عداه ليس بمجعول أصلا و إنما المجعول هو الحجية و الطريقية و هي ليست بحكم شرعي فرعي أو ليست بمجعولة كما في القطع و الظن بناء على الحكومة من باب الانسداد. و المصوبة لا ينكرون جعل الحجية في بعض الامارات.

أدلة المخطئة
اشارة

إذا عرفت ذلك فالحق مع المخطئة و بطلان التصويب، و الذي استدل به المخطئة أمور:

(الأول) ان العلم لا يمكن أخذه في متعلقه

كأن يجعل العلم بالشي ء موجبا لتحقق ذلك الشي ء كالعلم بالوجوب موجبا لتحقق الوجوب و العلم بالحرمة موجبا لتحقق الحرمة و العلم بالقبح موجبا لتحقق القبح أو العلم بالحسن موجبا لتحقق الحسن للزوم الدور لأنه لو كان الأمر كذلك لكان تحقق الشي ء في نفسه موقوفا على العلم به و العلم به موقوف على تحققه في حد نفسه و إلا لتعلق العلم بغيره و صار جهلا مركبا ففي المثال المذكور يكون تحقق الوجوب في نفسه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 237

موقوفا على العلم به لفرض توقفه على العلم به و العلم به موقوف على تحققه في نفسه إذ لو لا تحققه في نفسه لكان العلم بغيره فصار الوجوب موقوفا على نفسه و هكذا يقرر بالنسبة إلى الظن فيقال ان تحقق الوجوب موقوف على الظن به و الظن به موقوف على تحققه في حد ذاته و إلا فكيف يمكن الظن به و إنما يصير ظنا بغيره فصار إمكان تحققه موقوفا على إمكان تحققه، و قد (يقرر الدور بوجه آخر) و هو ان العلم أو الظن أو الدليل موقوف على متعلقه، فلو كان متعلقه موقوفا عليه لزم توقف العلم على نفسه بل لا نحتاج الى ذلك كله و نقول ان سمة العلم و الظن و الوهم و غيرها من الكيفيات النفسانية بالنسبة لمتعلقاتها سمة العارض لمعروضه و متأخرة عن متعلقاتها في مرتبة تعلقها بها و إلا لما تعلقت بها بذاتها فلو كانت متعلقاتها موقوفة عليها لزم تقدم الشي ء على نفسه رتبة، و هكذا الأدلة بالنسبة لمتعلقاتها فإنها إنما تكون أدلة على

متعلقاتها بعد فرض إمكان وجود متعلقاتها في حد ذاتها و إلا لكانت في مرتبة تعلقها متعلقة بغيرها فلو كانت متعلقاتها موقوفة عليها لزم تقدم الشي ء على نفسه. و قد (يقرر الدور بوجه ثالث) و هو ان الاجتهاد في الواقعة و التفحص عن حكمها و طلبه موقوف على وجود الحكم و إلا كان تفحصا و طلبا لأمر معدوم و طلب المعدوم محال فلو كان وجود الحكم لتلك الواقعة موقوفا على الاجتهاد فيها و التفحص عن حكمها لزم توقف الاجتهاد على نفسه، و لا يخفى ما في هذا التقرير فان طلب المعدوم ليس محال بل المحل طلب الموجود كيف و الإنسان يطلب بدوائه الصحة و بأكله الشبع، فهذا التقرير إذا لم يرجع الى ما ذكرناه واضح الفساد. و كيف كان فتقرير الدور بالوجوه المذكورة لا يرد على المصوبة إلا على تقدير أن يذهبوا الى الاحتمال الأول، اما لو ذهبوا الى ما عداه من احتمالات التصويب المتقدمة ص 223 فلا يرد عليهم ذلك، و قد تكلمنا في هذا الدور و لزوم تقدم الشي ء على نفسه في مواضع كثيرة و حققنا ذلك فراجعها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 238

(الدليل الثاني) للمخطئة ما ذكره القدماء و هو انه لو أصاب كل مجتهد لزم الجمع بين المتنافيين

و هو قطع المجتهد بالحكم ما دام ظانا بالحكم لان المجتهد بعد قيام الظن عنده على الحكم يقطع به لإصابته الواقع فيكون بعد الاجتهاد ظانا بالحكم قاطعا به فإنه ما لم يحصل له الظن الاجتهادي بالحكم لم يقطع بالحكم و إنما يقطع به عند حصول الظن به و الظن و القطع متنافيان لا يتواردان على محل واحد، على انه يلزم القطع و عدم القطع بالحكم و هو جمع بين المتناقضين و لا يرد ذلك على المخطئة لأن مورد

القطع الحكم الظاهري و مورد الظن الحكم الواقعي و هما متغايران، و بعبارة اخرى انه عند المخطئة يكون الظن تعلق بأن هذا حكم اللّه تعالى الواقعي و القطع تعلق بوجوب اتباع هذا الظن كما ذكر ذلك جملة من المحققين.

و يمكن الجواب عنه بأن المجتهد عند حصول الظن له من الاجتهاد بالحكم ينقلب ظنه الى القطع فحدوث الظن موجب لانقلابه الى القطع فلا يجتمعان أصلا.

و دعوى ان القطع تابع للظن و متفرع عليه فلا يعقل وجود القطع بدون الظن فاسدة فإنه متفرع عليه حدوثا لا بقاءا. و قد أجاب عن أصل الدليل صاحب الفصول بقوله و يمكن دفعه بعد المنع عن عموم وروده لاختصاصه بالقاطع بالتصويب المتذكر له حال الاجتهاد بأن المعتبر في الاجتهاد على هذا التقدير ليس فعلية الظن بل ما كان ظنا مع الإغماض عن أدلة التصويب، انتهى. و لا يخفى ما فيه فان ما يستلزم المحال لا يقع و لو كان استلزامه له بنحو الموجبة الجزئية. و قد يقرر هذا الدليل بوجه آخر بأن يقال ان الامارة أماريتها على الحكم ظنية مع انه يحصل القطع باماريتها عليه على التصويب للقطع بالحكم بواسطتها، و قد أجابوا عنه بما حاصله: ان الخصم إنما يقول بالتصويب في المسائل الفرعية و كون الدليل دليلا إنما يكون من الأحكام الشرعية الوضعية الأصولية فليس الظن به موجبا للقطع به. و الاولى أن يقال: ان أمارية الامارة قطعية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 239

حتى عند المخطئة و لكن استفادة الحكم منها ظنية فهي موجبة للظن بالحكم، لكن عند المصوبة يحصل القطع بالحكم منها و لا مانع من انقلاب الظن الى القطع بعد الالتفات الى حصول سببه.

(الدليل الثالث) للمخطئة: ان الاحكام تابعة للحسن و القبح العقليين

سواء

قلنا ان الحسن و القبح بالذات أم هما بالوصف اللازم أم بالوجوه و الاعتبارات أم قلنا بأن الموارد مختلفة فقد تكون بالذات و قد تكون بالوصف اللازم و قد تكون بالوجوه و الاعتبارات فإنه على كل تقدير يكون للّه تعالى في كل واقعة حكم واحد معين لأن الشي ء اما أن يكون حسنا فيتعلق به الأمر و اما أن يكون قبيحا فيتعلق به النهي و ان لم يكن أحدهما أكثر من الآخر تعلق به الإباحة، فلو فرض ان شرب الخمر قبيح واقعا اما لذاته أو لإسكاره أو بالوجوه و الاعتبارات فيكون قبحه موجبا لتعلق نهي الشارع به في الواقع و يصير حراما واقعا و لا يكون واجبا لعدم حسنه بدون القبح و لا مباحا لعدم تساوي حسنه و قبحه.

ان قلت ان الحسن و القبح بالوجوه و الاعتبارات مع مدخلية العلم و الجهل و يكون العلم و الجهل من الوجوه المغيرة و المبدلة للحسن و القبح بأن يكون العلم بحسن الشي ء موجبا لحسنه و العلم بقبحه موجبا لقبحه و العلم بعدم حسنه و قبحه موجبا لعدمها، فاذا علم أحد المجتهدين قبح شرب الخمر يصير قبيحا و حراما في حقه، و إذا علم المجتهد الآخر بحسن شرب الخمر يصير حسنا و واجبا في حقه، و إذا علم الثالث بعدم كونه حسنا أو قبيحا فيصير مما لا حسن فيه و لا قبح فيكون مباحا في حقه فيكون لشرب الخمر باعتبار العلم و الجهل أحكاما متعددة في الواقع لاختلاف الحسن و القبح باعتبار العلم و الجهل. قلنا قد عرفت بطلان أخذ العلم و توابعه في قوام متعلقه ص 236 فلا يعقل أن يكون العلم و الجهل مغيرين للحسن و القبح،

نعم هذا الدليل لا يرد على من قال بعدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 240

تبعية الأحكام للحسن و القبح. و الحاصل ان أقوال مسألة تبعية الأحكام للحسن و القبح على ثلاثة:

أحدها: قول الأشاعرة بعدم التبعية و هذا القول لا يلازم القول بالتخطئة و لا التصويب.

ثانيها: ما يلازم القول بالتخطئة و هو القول بالتبعية مع عدم مدخلية العلم و الجهل.

ثالثها: ما يلازم التصويب و هو القول بالتبعية مع مدخلية العلم و الجهل.

(الدليل الرابع للمخطئة) [عدم إرادة الله تعالى من خطاباته إلا حكما واحدا]

انه اتفق الجميع على ان الخطابات بالتكاليف التي وجهها اللّه تعالى لرسوله الكريم لم يرد تعالى منها إلا حكما واحدا كما تقدم ص 227 فلو كان في الواقع أحكاما متعددة مقصودة بالذات مجعولة بالأصالة على حد سواء كان ارادة واحد منها من الخطاب دون غيره ترجيحا بلا مرجح و هو قبيح من الحكيم فلا بد ان يكون المراد من الخطاب هو الحكم الواقعي و ما عداه حكم ظاهري. ان قلت: انها جميعها مرادة من الخطاب و يكون استعماله فيها من قبيل استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد أو من قبيل استعمال اللفظ في الحقيقة و المجاز فمتى ظن المجتهد حكما كان مرادا للّه تعالى من الخطاب في حقه فاذا ظن مجتهد آخر حكما آخرا فهو أيضا في حقه مراد له تعالى من الخطاب و هكذا.

قلنا: ان الاستعمال في أكثر من معنى واحد كما قرر في محله ممنوع، مضافا الى ان المصوبة يلتزمون بأن المراد من الخطاب هو حكم واحد، و لذا الرسول الأعظم لم يفهم منه إلا حكما واحدا، و تعليل بعضهم بأنه لو كان المراد من الخطابات الإلهية أحكاما متعددة عند المصوبة للزم أن لا يتمسكوا بظاهر الكتاب ابدا

لإجماله لعدم ظن المجتهد بحكم من اللفظ لعلمه بأن مراد اللّه تعالى من الخطاب متعدد، فاسد لأن ما انعقد عليه ظهور اللفظ في حد ذاته في نظر المجتهد فهو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 241

حكم اللّه تعالى في حقه إذ لهم أن يلتزموا بأن إرادة الاحكام من الخطاب ليس على سبيل منع الجمع فالأولى التعليل بما ذكرناه من انه بعد ما ثبت ان المصوبة ملتزمون بإرادة حكم واحد من الخطابات المنزلة على الرسول (ص)، فارادة ذلك الحكم فقط منها إذا لم يكن هو الواقعي وحده ترجيح بلا مرجح، و لكن لا يخفى ما فيه فإنه من المصوبة الأشاعرة و ليس عندهم قبح الترجيح بلا مرجح مضافا الى انه يحتمل أن يكون هناك مرجح لإرادة أحدها ككونه أفضل نظير أفضل أفراد الواجب التخييري الذي يراد من الخطاب و يحتمل شي ء آخر و لكنا لم نطلع عليه إذ ليس يلزم على اللّه تعالى أن يطلعنا على المرجح لإرادته.

(الدليل الخامس للمخطئة) [وجوب فحص الخطابات الشرعية على المجتهدين و استنباط مراد الشارع منها]

ان الكل حتى المصوبة متفقون على وجوب الفحص من الخطابات الشرعية على المجتهدين و اتفقوا على استنباط مراد الشارع من أعمال القواعد اللفظية و غيرها في الخطابات الشرعية و هذا كاشف عن انحصار الحكم الشرعي الواقعي في المراد من الخطاب إذ لو كان غيره حكما واقعيا لما وجب الفحص عن المراد من اللفظ فقط إذ كما يحتمل أن يكون الحكم الواقعي هو المراد من الخطاب يحتمل أن يكون الحكم الواقعي للمجتهد غيره فلا معنى لتعين الفحص عندهم عن أحدها و الاعراض عن باقي الأدلة إلا إذا فقد الخطاب و لا يخفى ما فيه فإنه للخصم أن لا يسلم انحصار الفحص بالأدلة اللفظية بل فحصهم يكون عن

مطلق الدليل لفظيا أو لبيا. و لو سلم ذلك فله أن يقول ان الفحص عن الأدلة اللفظية من جهة أنهم يرون عدم حجية غيرها مع وجودها فاذا وجدوها و اختلفوا في المراد منها كان رأي كل منهم في المراد منها موجبا لإنشاء حكم من الشارع على طبقه في الواقع، ففحصهم إنما كان عن المراد من اللفظ لا عن المراد الثابت في الواقع إنشائه.

الدليل السادس للمخطئة ان هو ان لازم التصويب

تعدد مداليل الأدلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 242

اللفظية حسب تعدد ظنون المجتهدين، و فيه مضافا الى عدم تماميته في الأدلة اللبية أنه لا يلزم ذلك إذ أنهم متفقون على ارادة واحد منها و الباقي ليس بمراد و إنما ظن المجتهد ارادته أوجب إنشاء الشارع حكما واقعيا على طبقه.

(الدليل السابع للمخطئة) [الإجماع نقلا و تحصيلا على ثبوت التخطئة]

الإجماع المحصل و المنقول نقلا مستفيضا البالغ نقله حد التواتر على ثبوت التخطئة، و قد استدل بهذا عدة من أصحابنا و لكن لا يخفى ما فيه لأن هذا لا يمكن أن يلزم به المصوبة لأن الإجماع إنما هو عند المخطئة

(الدليل الثامن للمخطئة) ظاهر الآيات الثلاثة في سورة المائدة

و هي وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ و في الثانية هُمُ الْفٰاسِقُونَ و في الثالثة «هُمُ الْكٰافِرُونَ» و وجه الاستدلال بها هو دلالتها على ان الحكم المطلوب للّه تعالى هو ما أنزله و الحكم الذي أنزله هو عبارة عما خاطب به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد عرفت ص 240 ان خطاب اللّه تعالى للرسول يشتمل على تكليف واحد لا متعدد هذا غاية ما يمكن في تقريب الاستدلال بهذه الآيات. و لكن لا يخفى ما فيه فان المراد بما أنزل لو كان خصوص الأحكام التي بلغ اللّه تعالى بها النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للزم أن يكون كل مجتهد في نظر الآخر حتى عند المخطئة فاسق و ظالم و كافر لأنه بحسب نظره انه خلاف ما أنزل اللّه تعالى مع انه خلاف ما تقتضيه ضرورة المذهب فلا بد أن يكون المراد بما أنزل اللّه تعالى هو الحكم الذي تقتضيه أصول الدين و قواعده و قوانينه التي أمر الشارع باتباعها و انزل على النبي العمل بها لا جميع الاحكام التي بلغ الرسول بها و لا شك ان الاحكام التي أنزلها اللّه تعالى بهذا المعنى متعددة بتعدد آراء المجتهدين، فالمخطئة بنائهم على ان ما عدى الواحد منهم مخطئ و حكمه حكم ظاهري و المصوبة بنائهم على ان الجميع مصيبون و كما هي أحكام ظاهرية

تكون أحكاما واقعية، قال صاحب الفصول (ره): انه تعالى حيث انزل مدارك المجتهد كان حكمه بحسب تلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 243

المدارك حكما بما انزل اللّه تعالى إذ لا يعتبر نزول الحكم من حيث الخصوصية بل يكفي نزوله و لو بعنوان عام و لا يقدح وقوع الخطأ فيها باعتبار الإيصال إلى الواقع كما لا يقدح وقوع الخطأ في الشهادة و نحوها مع انه تعالى قد انزل وجوب الحكم بمقتضاها. و بالجملة أنزل اللّه تعالى أحكاما واقعية و ظاهرية فالحاكم بأحدها حاكم بما انزل اللّه تعالى، سلمنا لكن عموم الآية معارض بما دل على حجية مدارك المجتهد فيجب تخصيص الآيات بما عداها ا ه.

(الدليل التاسع للمخطئة) النص النبوي المشهور

الذي تلقاه الخاصة و العامة بالقبول و هو قوله (ص): إذا اجتهد الحاكم فإن أصاب فله أجران و ان أخطأ فله أجر واحد. فإنه صريح في ان من المجتهدين من يصيب و منهم من يخطئ. و دعوى ان المراد الإصابة للحكم المنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالخطإ هو عدم اصابة الحكم المنزل لا عدم اصابة الواقع فلا يكون هذا الحديث ردا على المصوبة لاعترافهم بأن الحكم المنزل واحد. قد أجابوا عنها بأنه الحكم الغير المنزل لو كان مقصودا بالذات و واقعيا كالحكم المنزل لكانت اصابة كل منهما على حد سواء، فترجيح اصابة المنزل على غيره دليل على انه هو الواقعي دون غيره و إلا لزم الترجيح بلا مرجح، و لكن لا يخفى ما فيه فإنه مضافا الى ما عرفت من ان الأشاعرة القائلين بالتصويب يلتزمون بجواز الترجيح بلا مرجح أنه لعل اختصاصه بزيادة الأجر لأفضليته أو لوجه آخر هو الذي دعى إلى

اختصاصه بالنزول على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون غيره من باقي الاحكام، و الاولي ان يقال:

ان التعبير بالخطإ ظاهر بل نص في ان المجتهدين يخالفوا بآرائهم الواقع و إلا فمجرد المخالفة للحكم المنزل مع المطابقة للواقع لا تصحح نسبة الخطأ للحاكم، و دعوى ان هذا الحديث يطرح لمخالفته لقاعدة العدل لأن المراد بالمخطئ فيه غير المقصر في الاجتهاد و إلا لكان آثما، و عليه فيكون التفاوت بين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 244

المصيب و المخطئ بالإصابة و هي ليست باختيارية فإعطاء المصيب اجرين و المخطئ اجرا واحدا مع تساويهما بالأفعال الاختيارية مناف لقاعدة العدل، فاسدة فإن الإصابة لما كانت مقدماتها باختياره كانت واقعة باختياره و لو سلمنا فزيادة الثواب تفضل من اللّه تعالى فله ان يخص بها أحدا دون الآخر كما ورد جملة من الاخبار في ان من سن سنة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها فان عمل الغير اختياره ليس تحت اختاره مع جعل اللّه الثواب له عليه. نعم يمكن أن يناقش الاستدلال بهذا الخبر بأنه لا يدل على وجود الخطأ للمجتهدين في الأحكام فإنه قد أخذ في موضوعه الحاكم، و الحاكم قد يجتهد في الموضوعات مثل كون هذا ملك لزيد أو ان هذا سارق أو في طلوع الهلال أو الوقف، و قد عرفت ان الاجتهاد في الموضوعات يقع فيه الخطأ بالاتفاق فلعل الخبر ناظر لذلك. إن قلت: ان الخبر مطلق يشمل اجتهاد الحاكم في الموضوعات و الأحكام الشرعية فيدل بإطلاقه على وقوع الخطأ في الأحكام الشرعية من المجتهدين. قلنا: لا وجه لذلك لأن التقسيم إذا وجد أحد أقسامه في بعض أفراد المقسم و القسم

الآخر في البعض الآخر صح التقسيم مع إطلاق المقسم، فاذا قلنا: الحيوان ناطق و غير ناطق، لا يلزم منه أن يكون الصاهل منه أيضا ينقسم الى ناطق و غير ناطق، فهكذا ما نحن فيه إذا قلنا: ان الحاكم أو المجتهد مصيب و مخطئ، فمعناه ان بعض أفراده مصيب و البعض الآخر مخطئ و ليس يلزم منه ان المجتهد في الأحكام يكون على قسمين مخطئ و مصيب، و المجتهد في الموضوعات مخطئ و مصيب، بل المراد ان بعض أفراده مخطئ و البعض الآخر مصيب فمن قال بالإصابة في الأحكام جعل ذلك البعض المصيب هو المجتهد في الأحكام مطلقا، و من قال بالخطإ جعل المصيب هو خصوص ما وافق حكمه الحكم الواقعي المنزل على الرسول الأعظم، فالحديث قابل للانطباق على كلا المذهبين. و ان شئت قلت: هذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 245

نظير قولنا: كل إنسان يجب عليه أن يختن ولده، فان معناه من كان عنده ولد يجب عليه ان يختنه، و ما نحن فيه هكذا فان معنى الخبر ان المجتهد في مورد الإصابة و الخطأ ان أصاب استحق الأجرين و إن أخطأ استحق أجرا واحدا، و المصوبة يقولون ان مورد الإصابة و الخطأ هو الموضوعات فقط، و المخطئة يقولون هو الموضوعات و الاحكام.

(الدليل العاشر للمخطئة) [ما من واقعة إلا و لله فيها حكم]

النصوص الدالة على ان له تعالى في كل واقعة حكما حتى أرش الخدش و لا يبعد تواترها، و قد قرب القوم وجه الدلالة فيها ان قوله (حكما) ان تنوينه للتنكير الدال على الوحدة لا التمكن فيكون المعنى ان كل واقعة فيها حكم واحد. و دعوى أن المصوبة يقولون أيضا بأن كل واقعة فيها حكم واحد و لكن الحكم يتعدد بتعدد

الوقائع بآراء المجتهدين فان الواقعة الواحدة بالنسبة لآراء المجتهدين تتكثر فان شرب الخمر الذي أدى رأي المجتهد الى حرمته واقعة، و الذي أدى رأي المجتهد الى حليته واقعة اخرى، و الذي أدى رأي المجتهد الى كراهته واقعة ثالثة. و إن شئت قلت: ان الواقعة الواحدة تتعدد بتعدد العلم و الجهل و حينئذ فالرواية تنطبق على مذهبهم، فاسدة، لأن الظاهر من تلك النصوص إرادة الواقعة من حيث هي مع قطع النظر من آراء المجتهدين و من العلم و الجهل لا سيما بقرينة التمثيل بأرش الخدش، هذا غاية ما يقرب به هذا الدليل، و لا يخفى ما فيه فان التنوين في (الحكم) هو تنوين التمكن. و تنوين التنكير إنما يدخل على الإعلام المختومة بويه كسيبويه قياسا، و على اسم الفعل و اسم الصوت سماعا. سلمنا انه للتنكير فان التنكير لا يدل على الوحدة فإنه لو قال (في الدار رجل) لا يستلزم ان يكون واحدا بل يجوز ان يكون متعددا سلمنا انه يدل على الواحد فان الظاهر من تلك النصوص انه لا بد في كل الواقعة من الحكم الواحد من باب أقل الموجود و هو لا ينافي تعدد الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 246

في بعض الوقائع و هذا النحو من الاستعمال في لغة العرب أكثر من أن يحصى بل لا يتبادر غيره كما يقال لا بد لكل إنسان من شذوذ ما عدى المعصوم، و فيما نحن فيه المصوبة يقولون بلا بدية الحكم الواحد في الوقائع غاية الأمر تارة يكون منفردا كما في الوقائع التي قام الضرورة و الإجماع على حكمها، و تارة يكون متعددا كما في الوقائع التي اختلفت فيها آراء المجتهدين فتكون هذه

الروايات غير مخالفة لهم لأنهم أيضا ليتزمون بأن له في كل واقعة حكما. نعم تكون هذه النصوص ردا على المصوبة الذين يقولون بأن الواقعة قبل آراء المجتهدين خالية عن الحكم و حكم اللّه تعالى يجعل بعد رأي المجتهد فإنه يلزم عليهم في الوقائع التي لم يفتي بها المجتهدون أو قبل افتائهم فيها أن لا يكون فيها حكم شرعي مع ان تلك الروايات صريحة في وجود الحكم الشرعي.

(الدليل الحادي عشر للمخطئة) [ذم أمير المؤمنين (ع) القضاة في اختلاف الفتيا]

الحديث المنقول عن نهج البلاغة و الاحتجاج من انه روي عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: ترد على أحدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها برأيه ثمَّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثمَّ تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا و إلههم واحد و نبيهم واحد و كتابهم واحد أ فأمرهم اللّه سبحانه بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم فعصوه أم أنزل اللّه سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له فلهم ان يقولوا و عليه ان يرضي أم أنزل اللّه سبحانه دينا تاما فعصى الرسول عن تبليغه و أدائه و اللّه سبحانه يقول (مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ و فيه تبيان كل شي ء) الحديث. و هو صريح في بطلان التصويب حيث و بخ (ع) الامام على تصويبه للقضاة. و لا يخفى ما فيه فإنه يدل على توبيخه المجتهدين لاختلافهم في القضية الواحدة و لا بد من حمله على المجتهدين بالاجتهاد بالرأي و القياس و الاستحسان و المصالح المرسلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 247

أو عن غير مستند أو عن تقصير و إلا فالمجتهدون المختلفون بالاجتهاد الصحيح لا يستحقون التوبيخ بل يستحقون الأجر و

الثواب لما تقدم من ان للمخطئ أجرا واحدا، فأمير المؤمنين (ع) يوبخ المصوب لهم من جهة عدم صحة اجتهادهم فان الحكم لا يتعدد بتعدد آرائهم فهذا الحديث لا ينافي قول المصوبة.

(الدليل الثاني عشر للمخطئة) ان صحة التصويب تقتضي فساده

و ما هو كذلك فهو باطل. بيان اللزوم ان من المجتهدين ما ادى اجتهادهم الى فساد التصويب فأما ان يكونوا مصيبين في اجتهادهم فيلزم ان يكون التصويب فاسدا و هو المطلوب، و اما ان يكونوا مخطئين في اجتهادهم فيلزم خطأ المجتهدين في اجتهادهم في هذه المسألة و إذا جاز خطأهم في هذه المسألة فيجوز في باقي المسائل لأن حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد و إن شئت قلت ان التصويب إذا كان صحيحا فاجتهاد المذكورين يكون مصيبا و لازم اصابته للواقع هو فساد التصويب. و قد أجيب عنه (أولا) بأن محل النزاع إنما هو الأحكام الشرعية الفرعية و ما عداها محل اتفاق في وقوع الخطأ فيها و لا ريب ان مسألة التخطئة و التصويب ليست من مسائل الاحكام الفرعية بل من المسائل الأصولية و العقلية و (ثانيا) انه على التصويب رأي كل مجتهد واقع له لا لكل مجتهد فاذا اجتهد بحلية الخمر كانت حلية الخمر واقعا لرأيه فقط دون رأي المجتهد الذي اجتهد بحرمته ففيها نحن فيه القائلون بالتصويب يلتزمون بأن التخطئة متحققة واقعا بالنسبة للقائلين بها فقط و ليست بمتحققة واقعا بالنسبة لهم و قد أورد على هذا الجواب الثاني بأنه لا يتصور ان تكون التخطئة و التصويب واقعا لأحد دون الآخر إذ ليس ذلك من قبيل الاحكام بل من الأمور العقلية الواقعية كقدم العالم و حدوثه فلا يكون قديما بالنسبة لأحد و حادثا بالنسبة لآخر. و (ثالثا) ان للخصم

ان يلتزم بخروج هذه المسألة عن القاعدة لقيام الدليل عنده على ثبوت التخطئة فيها و لا دليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 248

قاعدة حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد بعد قيام الدليل عنده على التصويب و خروج هذه المسألة عن ذلك.

(الدليل الثالث عشر للمخطئة) [سيرة الصحابة]

ان الصحابة قد شاع فيما بينهم إطلاق الخطأ في الاجتهاد، فمن ذلك ما روي قول أبو بكر إني افتى في الكلالة برأى فان كان صوابا فمن اللّه و ان يكون خطأ فمني. و من ذلك قول أمير المؤمنين (ع) في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت (اي القت ما في بطنها) فقال له عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان إنما أنت مؤدب لا ترى عليك شيئا فقال أمير المؤمنين (ع) ان كانا قد اجتهدا فقد أخطئا و ان لم يجتهدا فقد غشاك و عليك الدية، و قال عمر لكاتبه اكتب هذا ما أراه فإن يك صوابا فمن اللّه و ان يك خطأ فمن عمر. و قد أجيب عنه ان للخصم ان يقول انما يخطئون في الاجتهاد لمن لا يستكمل شرائط الاجتهاد أو لتقصيره و لا؟؟؟؟ يخطئون من استكمل الشروط و لم يقصر. و قد أوردوا على هذا الجواب ان اجتهاد مثل هؤلاء الجماعة عند المصوبة كامل و لا تقصير فيه. و لا يخفى ان يمكن للمصوبة ان يجيبوا عن أصل الدليل بأن هذا الدليل انما يثبت ان بعض الصحابة مخطئة و لا يثبت انهم متفقون على التخطئة فلعل الباقين على التصويب.

(الدليل الرابع عشر للمخطئة) [استلزام مسلك التصويب الجمع بين المتناقضين و هو محال]

ما ذكره القدماء من ان المجتهدين المختلفين بالرأي ان كانا هما أو أحدهما بلا دليل فواضح يكون أحدهما مخطئا غير مطابق رايه للواقع و ان كانا بدليلين فاما ان يتساويا و اما ان يترجح احد الدليل على الآخر عند أحدهما فإن تساويا كان الحكم هو التوقف أو التخيير و لا وجه لاختلافهما في الرأي و ان ترجح عند كل واحد منهما الدليل فمن ترجح عنده الدليل يعتقد ان الحكم قوما طابق دليله و

ان الآخر مخطئ فيكون رايه مركبا من شيئين من كون الحكم هو ما ادى اليه الدليل الراجح في نظره و خطأ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 249

الدليل الآخر فلو قلنا بالإصابة كان في الواقع ان الحكم هو ما ادى اليه نظره و ان الدليل الآخر خطأ. و المجتهد الآخر يرى بعكسه فيكون رايه أيضا مركبا من أمرين: ان الدليل الذي عنده ليس بخطإ و الحكم هو ما طابقه و ان دليل ذلك المجتهد هو الخطأ فيكون بناء على التصويب كل من الدليلين خطأ و ليس بخطإ في الواقع. و نفس الأمر و هو جمع بين المتناقضين حيث يكون دليل كل منهما خطأ و غير خطأ في متن الواقع، هذا غاية ما أمكنني في توجيه هذا الدليل.

و لكن يمكن الجواب عنه بأن القائل بالتصويب إنما يقول به في الأحكام الشرعية لا في خطإ الدليل و صحته سلمنا لكن لا نسلم ان ترجيح أحد الدليلين عنده مستلزم لخطأ الآخر إذ بناء على التصويب يكون الرجحان موجبا للأخذ به دون المرجوح لا ان المرجوح منه يكون خطأ في الواقع كيفما كان حتى لو أخذ به أحد المجتهدين بتخيل رجحانه و لذا هو لا يخطئ المجتهد الآخر.

(الدليل الخامس عشر للمخطئة) [انتفاء فائدة المناظرة بناء على مسلك التصويب]

ذكره العضدي ان الأمة أجمعوا على شرع المناظرة و لا يتصور لها فائدة إلا تبين الصواب من الخطأ و تصويب الجميع ينفي ذلك.

و أجاب عنه: انا لا نسلم ان ليس له فائدة إلا ذلك فان من فوائده ترجيح أحد الأمارتين على الأخرى في نظرهما ليرجعا إليها أو تساويهما حتى يتساقطا و يرجع لدليل آخر و منها التمرين و حصول ملكة الوقوف على المآخذ ورد الشبه.

(الدليل السادس عشر للمخطئة) [انتفاء غرض المجتهد بناء على منهج التصويب]

أن المجتهد طالب فله مطلوب فاذا لم يكن حكما موجودا فأي شي ء يطلبه، و بعبارة أخرى ان مطلب (أي) بعد مطلب (هل) فما لم يعلم وجود حكم فكيف يطلب تعيينه؟ بل فيما نحن فيه نعتقد بعدم وجود المطلوب قبل الطلب و جوابه ان المطلوب يجب أن يكون معدوما و الا لزم طلب الحاصل و نحن نطلب بأكلها الشبع و هو ليس بموجود، فالمصوبة يطلبون أصل الحكم و المخطئة يطلبون تعيينه و كل منهما لم يكن موجودا قبل الطلب و مطلب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 250

أي انما يكون بعد مطلب هل معناه انه يحرز وجود الماهية في حد ذاتها ثمَّ يطلب تمييزها و هو أجنبي عن المقام الذي يطلب فيه وجود الماهية، و قد تقدم الكلام في ذلك في الدليل الأول للمخطئة.

(الدليل السابع عشر للمخطئة) ان تصويب الكل مستلزم للمحال

في بعض المقامات و ما يستلزم المحال و لو بنحو الموجبة الجزئية يكون محالا و ذلك في الفروع التي تستلزم اجتماع حكمين متضادين في مورد واحد مثل ما إذا كان الزوج مجتهدا و يرى جواز نكاح البكر من دون إذن أبيها و قد عقد عليها بدون إذن أبيها ثمَّ مجتهد آخر يرى بطلان العقد على البكر من دون إذن أبيها فيرى ان عقد ذلك المجتهد باطل فيعقد عليها بإذن أبيها فيلزم بناء على التصويب حل نكاحها واقعا لكلا المجتهدين و هو خلاف ما تقتضيه ضرورة المذهب و نحو ذلك في البيع و نحوه، و أجيب عنه بأن هذا الاشكال وارد على كلا المذهبين فإنه بناء على التخطئة يعلم إجمالا بفساد أحد العقدين، و تحقيق ذلك سيجي ء إنشاء اللّه، و ان العقد الثاني فاسد إن كانت المرأة مقلدة للمجتهد الأول و

الأول فاسد ان كانت مقلدة للثاني و ان كانت المرأة مجتهدة و قلنا بإمضاء المعاملات السابقة فهي حتى لو عدلت عن اجتهادها الأول لا يجوز لها فسخ النكاح منه.

أدلة المصوبة
اشارة

استدل المصوبة على التصويب في الاجتهاد بأدلة:

(الأول منها) ان المجتهد يجب عليه أن يعمل بما أدى اليه اجتهاده

و ظنه بالإجماع فلو جوزنا عليه الخطأ ففي صورة الخطأ اما أن يبقي الحكم الواقعي في حقه و حق مقلديه فيلزم التكليف بالواقع و هو محال لعدم تمكنه من تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 251

الواقع و أيضا يلزم اجتماع الضدين في موضوع واحد لثبوت الحكم الواقعي و الظاهري في حقه، و قد تقرر في محله ثبوت التضاد بين الأحكام الشرعية أو لا يبقى الحكم الواقعي عند الخطأ فيلزم أن يكون العمل بالحكم الخطئي واجبا و بالواقعي حراما، و يلزم أيضا لنسخ لزوال الحكم الواقعي عن محله و يلزم أيضا أن تكون مخالفة حكم اللّه تعالى واجبة بالعمل بحكم آخر و يلزم تفويت المصلحة و الإلقاء بالمفسدة. و أجابوا المخطئة و تبعهم صاحب الفصول عن ذلك (أولا) بالنقض بما لو أخطأ في الأحكام الشرعية التي قام الدليل القاطع عليها و لم يقف عليه بعد الفحص و التتبع فإنه يجب على المجتهد مخالفة الواقع مع الاتفاق على انه مخطئ فما يذكرونه في الجواب المصوبة هنا يكون جوابا لهم عن دليلهم المذكور. و لا يخفي ما فيه فان الذي يظهر من كلماتهم من ان المراد بالدليل القاطع هو الدليل الذي يقف عليه كل مجتهد غير مقصر في الفحص لأنه الذي ينقطع به العذر و تتم به الحجة لكل أحد دون مطلق القاطع و لذا نحن فسرناه بالضرورة و فسره آخرون بالإجماع و النص الواضح الجلي فاذا أخطأ فيه المجتهد فاما أن يكون عن تقصير و عليه يكون مكلفا بالواقع فقط دون الظاهر إذ لا تكليف بما أدى اليه رأيه عن تقصير و اما أن يكون الدليل ليس

بقاطع إذ لو كان قاطعا لما اشتبه فيه المجتهد الغير المقصر لما عرفت ان القاطع من يقطع عذر كل أحد في مخالفة الواقع و أجابوا (ثانيا) بالحل و تبعهم على ذلك صاحب الفصول (ره) فقد قال في الجواب الحلي للدليل المذكور ان حسن متابعة الصواب أو قبح مخالفته أو قبح متابعة الخطأ أو حسن مخالفته ليس من لواحق الصواب و الخطأ الذاتية بل تختلف بالوجوه و الاعتبار كالعلم و الجهل فقد يقبح الحسن في حق من اعتقد قبحه و يحسن القبيح في حق من اعتقد حسنه فيصح في المقام أن يحسن العمل بالخطإ عند الجهل بكونه خطأ و يقبح العمل بالصواب عند الجهل بكونه صوابا فيصح الحكم في الأول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 252

بوجوب العمل و في الثاني بحرمته ا ه. و لا يخفى ما فيه فان هذا مبني على ان الحسن و القبح بالوجوه و الاعتبارات مع مدخلية العلم و الجهل و يكون العلم و الجهل من الوجوه المغيرة و المبدلة للحسن و القبح، و قد عرفت فساد ذلك ص 236 و ان لازم ذلك هو التصويب. فالتحقيق في الجواب أن يقال ان الحكم الواقعي عند الخطأ باق في حق المجتهد و حق مقلده لا يزول و لا يلزم شي ء من المحاذير المذكورة كما قررناه في مبحث اجتماع الحكم الظاهري و الواقعي.

(الدليل الثاني للمصوبة) انه لو كان له تعالى في الواقعة حكم معين و لم يتبدل بآراء المجتهدين

لكان المجتهد المخطئ الذي أدى رأيه إلى خلافه فاسقا كافرا ظالما لقوله تعالى (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ)* الآيات الثلاثة. و أجيب (أولا) بالنقض بخطإ المجتهد في صورة قيام الدليل القاطع كما تقدم ص 251 و جوابه كما تقدم هناك، و (ثانيا) بالحل كما ذكرناه ص

242.

(الدليل الثالث للمصوبة) قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.

فإنه لو كان بعضهم مخطئا في اجتهاده لما حصل الاهتداء به إذ العمل بغير حكم اللّه تعالى ضلال. و أجيب انه بعد تسليم صحة الرواية و ارادة مطلق المجتهدين من الأصحاب إن الاهتداء عبارة عن الأخذ بالوظائف الدينية سواء كانت ظاهرية أو واقعية، و لا ريب ان من جملة تلك الوظائف المقررة الظنون التي هي حجة شرعية كالتقليد للمجتهد العادل فالأخذ بمقتضاها اهتداء لا ضلال

(الدليل الرابع للمصوبة) قوله تعالى لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا

و الحكم الواقعي عند خطأ المجتهد الفاحص لم يكن قد آتاه اللّه تعالى له فليس مكلفا به. و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رفع عن أمتي ما لا يعلمون و الحكم الواقعي ليس بمعلوم فهو مرفوع عنهم. و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. لا تكليف إلا بعد البيان. و الحكم الواقعي لا بيان عليه عند فحص المجتهد و عدم اصابته له فهو ليس مكلف به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 253

و الجواب مضافا الى ان أدلة التخطئة تكون مخصصة لهذه الأدلة بالحكم الظاهري، ان الظاهر من هذه الأدلة انها واردة في مقام الامتنان و لا منة في رفع الحكم الواقعي و إنما المنة في رفع الحكم في مرتبة الظاهر.

(الدليل الخامس للمصوبة) [لغوية التكليف على تقدير الخطأ في جعل الحكم الواقعي]

ان التكليف الواقعي أمر جعلي و فعل اختياري فلا يصدر من الحكيم المتعالي إلا إذا ترتبت عليه الفائدة، و فائدة التكليف إنما هي الحث على الفعل أو على الترك أو الاختبار و لا يتصور شي ء من ذلك في جعل الحكم الواقعي على تقدير الخطأ فلا فائدة في الجعل على هذا التقدير.

و جوابه ان فائدته هو تنجزه عند علمه به أو عند العالم به أو الذي قامت الأمارة أو الأصل عنده عليه شأن سائر القوانين المنشأة و هذا كاف في صحة وجود التكليف في الواقع، و ربما يقال انه قد حقق في محله ان المخطئ و الناسي و الساهي لا يمكن توجه الخطاب إليهم برفع التكليف عنهم بالخصوص، و قد حققنا هذا المقال في شرح الرسائل للشيخ الأنصاري (ره).

(الدليل السادس للمصوبة) ان التكليف عند العدلية مشروط بالقدرة على الامتثال

و في صورة الخطأ لا قدرة على امتثال التكليف الواقعي فيكون منفيا لما قرر في محله من انتفاء التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط. و جوابه انا لا نسلم شرطية ذلك و لو سلمناها فإنما هو شرط لمرتبة تنجزه و التكليف الواقعي مرتفع في مرتبة تنجزه عند الخطأ.

(الدليل السابع للمصوبة) ان العلم شرط للتكليف و هو منتفي

، و قد تقرر في محله انتفاء التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط. و جوابه ان العلم شرط لتنجيز التكليف، و نحن لا ننكر ارتفاع التكليف المجهول في مرتبة تنجزه عند الخطأ.

(الدليل الثامن للمصوبة) ما رووه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه قال:

(ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللّٰه حسن) و هو مضافا الى ضعف الرواية ان الحسن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 254

غير الحكم الشرعي، فكون الشي ء إذا رآه العقلاء حسنا و يكون صوره عند اللّٰه حسنا لا يوجب أن يغير حكمه الواقعي، فهذا الحديث من باب (من؟؟؟ ثواب عمل) و (ان الاعمال بالنيات).

ثمرات القول بالتخطئة أو التصويب
اشارة

قد حكي ان الشهيد الثاني (ره) ذكر في تمهيد القواعد-؟؟؟ التخطئة و التصويب ثمرات و تبعه في بعضها البهائي (ره)،

(الثمرة الاولى) ان المجتهد في القبلة إذا ظهر خطأه

هل يجب عليه القضاء أم لا؟ فان قلنا بالإصابة فلا يجب عليه القضاء لأنه أتى بالواقع، و ان قلنا بالتخطئة وجبت الإعادة إلا ان يأتي دليل من الشارع على عدم الإعادة، و قد أورد على هذه الثمرة (أولا) بأنها مبنية على التصويب في الموضوعات و القوم قد اتفقوا على التخطئة فيها و قد عرفت توضيح المقال و تحقيق الحال في الموضع الأول ص 209. و أورد عليها (ثانيا) انه على القول بالتخطئة لا تجب لإعادة أيضا بناء على الاجزاء. و جوابه ان المشهور إنما ذهبوا الى الاجزاء، في مجعولات الشرعية التي هي بدل الواقع دون الإبدال العقلية. و ان شئت قلت ان القول بالاجزاء في العقليات ينافي القول بالتخطئة إذ الحسن و القبح عنده إنما يتعلق بالواقع و هو واحد عندهم. و الحسن مقطوع الانتفاء في المثال المذكور فلا اجزاء (ثالثا) انا نلتزم بالثمرة على القول بعدم الاجزاء و هو كافي.

(الثمرة الثانية) [توقف صحة صلاة المأموم أو بطلانها على التخطئة أو التصويب عند اختلافه مع الإمام في شي ء منها]

ان اختلاف الامام و المأموم في شي ء برى أحدهما لزومه في الصلاة و الآخر يرى وجوبه كقول آمين مثلا و هكذا كل اختلاف للمأموم و الامام اجتهادا أو تقليدا في شي ء اعتبر في الصلاة عند المأموم دون الامام كمن صلي خلف من لا يرى وجوب السورة أو التسليم أو نحو ذات و لم يأتي بها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 255

الإمام في حين ان المأموم يرى وجوبها في الصلاة فعلى التصويب تصح صلاة المأموم لأنه صلى خلف من كانت صلاته صحيحة عند ذلك المأموم للقول بالتصويب بخلاف ما إذا قلنا بالتخطئة فيكون قد صلى خلف من صلاته باطلة عنده و مقتضى القاعدة عدم الصحة ما لم يقم دليل على الصحة من

إجماع أو غيره و بهذا التقريب يرتفع ما أشكل على هذه الثمرة. ثمَّ لا يخفى ان هذه المسألة سيالة في كل مورد قائم بين مكلفين يختلفان فيه اجتهادا أو تقليدا أو في أحدهما. في أنه أحدهما يبني على مذهب الآخر أم لا؟ مثل جواز اجارة من يرى الغسل بماء الورد لكنس المسجد و قد اغتسل به لمن يرى خلاف ذلك و جواز التصرف فيما اشتراه بالمعاطاة لمن يرى فساد المعاطاة و جواز أكل ذبيحة من يرى فرى الودج كافي في ذكاتها و قد ذبحها كذلك لمن يرى عدم كفاية ذلك و صحة الاستنابة في العبادة التي يرى النائب فسادها و نحو ذلك من الفروع فإنه على التصويب لا إشكال في الصحة، و اما على التخطئة فمقتضى القاعدة البطلان.

نعم لو جعل المعيار في الصحة هو الصحة في نظر الفاعل و القائم بالعمل لم يبتني ذلك على مسألة التخطئة و التصويب و اما لو جعل على الصحة واقعا أو في نظر الطرف الآخر ابتني ذلك على مسألة التخطئة و التصويب و تحقيق الحال و توضيحه يجي ء ان شاء اللّٰه تعالى منا في تحرير المسألة الخامسة و الخمسين أسأله تعالى بجاه من لذنا بجواره أمير المؤمنين (ع) و الأئمة ان يوقفنا لانجاز هذا الكتاب بأحسن وجه و يعم به النفع.

(الثمرة الثالثة) هو جواز إنفاذ حكم الحاكم المخالف له في الرأي و عدمه

فعلي التصويب يجوز للحاكم إنفاذ حكم الحاكم الآخر و ان خالفه في الرأي لأن الحكم الذي حكم به الحاكم يكون حكم اللّٰه تعالى واقعا، و اما على التخطئة فمقتضى القاعدة ان لا يجوز إنفاذه لأنه ليس بحكم اللّٰه تعالى عنده و بهذا التقريب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 256

يظهر لك فساد ما أورد على هذه

الثمرة من قيام الإجماع على وجوب الإنفاذ إذا لم يعلم فساد حكم الحاكم و اما إذا علم بالفساد لزم عليه الحكم بالخلاف و عدم الإنفاذ و وجه فساد هذا الإيراد إن الكلام في المقام مع قطع النظر عند دليل الإنفاذ و عدمه.

(السادس من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب الاجتهاد كفائيا

اشارة

لا إشكال في أصل وجوب الاجتهاد في المسائل الفرعية ضرورة بقاء التكاليف و لزوم الإتيان بها و لا يمكن ذلك إلا بمعرفة أحكام اللّٰه تعالى من الطرق الصحيحة و استنباطها منها و ليس ذلك بأمر سهل التناول لكل وارد لتلاطم أمواج الشبهات حيث ان الاخبار متدافعة و الأقوال متعارضة اختلط السقيم بالصحيح و عند فقدها لا بد من الرجوع الى الأصول العملية و إذا كان كذلك فالجمع و التوفيق و طرح السقيم و معرفة التقية و المراد يحتاج الى بذل الجهد بعد قوة قدسية لاستنباط الحكم من طرقه المعتبرة، و لكن الكلام في وجوبه بنحو العينية أو الكفائية فقد اختلف العلماء في ان الاجتهاد في المسائل الفرعية واجب كفائي أو عيني على أقوال:

(الأول) انه واجب كفائي و يكون قيام من به الكفاية موجبا لسقوط الوجوب عن غيره و هو المشهور بين المسلمين من الخاصة و العامة.

(القول الثاني) و هو المنسوب الى فقهاء حلب و بعض قدماء الأصحاب و ابن زهرة في المحكي عن الغنية انه واجب عيني على كل مكلف من الرجال و النساء الاجتهاد في المسائل الفرعية و لكن لا بالطريق المتعارف بين المجتهدين من بذل تمام الطاقة البشرية في تحصيل الأحكام الشرعية بل اكتفوا بمعرفة الإجماع عند الحاجة الى الوقائع الحاصل من مناقشة العلماء. أو النصوص المقطوعة دلالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 257

و سندا و مع فقد

ذلك فيرجع لأصالة الإباحة في المنافع و لأصالة الحرمة في المضار و قد أورد عليهم القوم بأن ذلك مستلزم للخروج عن الدين لقلة الإجماع و النصوص المقطوعة سندا و دلالة مضافا الى لزوم العسر و الحرج.

القول الثالث و هو المنسوب الى معتزلة بغداد و ذهب اليه بعض الأخباريين انه يجب على الكل الاجتهاد و لكن بالنسبة إلى البعض يجب بالطريق المتعارف بين المجتهدين و بالنسبة إلى الباقين يجب أن يرجع الى المجتهد العادل و المجتهد يذكر له أدلة المسألة فإن فهمها العامي و إلا ترجمها المجتهد بالمرادف من لغته و إذا كانت أدلة المسألة متعارضة ذكر له المتعارضين و نبهه على طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ و العام على الخاص أو نحو ذلك من الجمع الدلالي و مع تعذر الجمع المذكور يذكر هل أخبار باب التعارض و لو احتاج الى معرفة ما يتعلق بالمسألة من كل علم ذكره للعامي فلو كان أحد المتعارضين أرجح من حيث الرواة ذكر له صفات رواه ذلك الخبر فان ترجح الخبر عند العامي و إلا فيذكر المجتهد له الوظيفة عند عدم الترجيح، و قد تقدم الكلام فيه ص 145 في الاختلاف السادس بين الأصوليين و الأخباريين، و أورد عليه بأن العامي إذا كان لا يجوز له التقليد في الفروع فكيف يجوز له التقليد في الأصول في حجية الخبر و التعارض و الأصول اللفظية مضافا الى عدم استعداد أغلب العوام لذلك مضافا الى انه ليس له دليل على حجية هذا الظن لعدم معرفته لعلم الأصول بخلاف المجتهد، و سيجي ء ان شاء اللّٰه في مبحث التقليد ما ينفع في المقام لأن جواز التقليد يستلزم كون وجوب الاجتهاد كفائيا.

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 258

تأسيس الأصل في وجوب الاجتهاد

و لا بد لنا قبل الخوض في تحقيق الحق في مسألة كفائية وجوب الاجتهاد أو عينيته من بيان مقتضى الأصل في كل واجب إذا شك في كون وجوبه كفائيا أو عينيا فنقول: ان الدليل الدال على وجوبه ان كان هو اللفظ يحكم بكون وجوبه عينا لا للأصل العملي بل للأصل اللفظي و هو الظهور لأن الظاهر من اللفظ هو الوجوب العيني و اما إذا كان الدليل على الوجوب هو اللب كالإجماع أو اللفظ المجمل فالأصل العملي يقتضي العينية لأن ما به الاجتماع بين العينية و الكفائية شيئان: (أحدهما) تعلق التكليف بالجميع و (ثانيهما) استحقاق العقاب للجميع لو لم يأت به أحد و يفترقان بشي ء واحد و هو سقوط الكفائي عن بعض بفعل بعض فاذا شك في الواجب كونه كفائيا أو عينيا يكون شكا في سقوط ذمة من لم يأتي به بإتيان ما عداه له و الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني و لا حاجة لاستصحاب بقاء التكليف في حقهم. و دعوى ان المجانين إذا عقلوا و الصبيان إذا بلغوا و وجدوا ان البعض قد أدى هذا التكليف المشكوك كفائيته فحينئذ يكون شكهم في أصل توجه التكليف إليهم فيستصحب عدمه، مدفوعة انهم بعد بلوغهم و عقلهم قطعا خوطبوا بكلي. هذا التكليف لكن لا يدرون على نحو يسقط بفعل الغير أم لا. هذا كله مع انه في خصوص المقام أعني الاجتهاد أصل آخر يقتضي العينية و هو الشك في حجية التقليد و ان التقليد مبرئ للذمة أم لا، و لا ريب في ان الشك في حجية شي ء يقتضي عدم حجيته.

لكن هذا الأصل لا يثبت وجوب الاجتهاد عينا إلا إذا قام الدليل على انحصار

الطريق بالاجتهاد و التقليد دون الاحتياط و القطع بالأحكام. هذا تمام الكلام بالنسبة الى الأصل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 259

تحقيق الحق في المقام

و اما تحقيق المقام فنقول: ان مقتضى الأصل و ان كان هو الوجوب العيني للاجتهاد لكن الدليل قد قام على وجوب الاجتهاد كفائيا، و هو (أولا) السيرة المفيدة للقطع حيث ان المسلمين خلفا عن سلف لم يلتزموا بالاجتهاد و كانوا عوامهم يقلدون العلماء و لم يردع عن ذلك الأئمة الأطهار. ان قلت: ان عمومات النهي عن العمل بالظن هو الرادع. قلنا: انها لا تكفي في الردع عن ذلك ما لم يكن نص عليه كالقياس لأن شمولها للمقام بالعموم أو الإطلاق و هو أيضا ظن فتكون عمومات النهي تمنع من العمل بنفسها في هذه المسألة.

و (ثانيا) قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ. فان هذه الآية الشريفة تدل على وجوب الاجتهاد لا على سائر الافراد من كل فرقة بل على بعضها و بقرينة مناسبة الحكم للموضوع يقتضي وجوبه على المقدار الذي به الكفاية.

و (ثالثا) لزوم العسر و الحرج الشديد بل التكليف بما لا يطاق بل اختلال نظام العالم و صعوبة العيش على بني آدم.

و (رابعا) آية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* على ما هو التحقيق ان المراد بها مطلق أهل العلم مضافا الى ما سيجي ء ان شاء اللّٰه من الأدلة على جواز التقليد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 260

(السابع من أحكام الاجتهاد و المجتهد) لزوم وجود المجتهدين بمقدار الكفاية

لا بد أن يوجد من المجتهدين قدر ما تقوم به الكفاية للفتوى و باقي الشؤون و الوظائف التي تخص المجتهد، اما الفتوى فالظاهر كفاية الواحد أو الاثنين و لكن الأمور التي تتوقف على المجتهد كالمرافعة و نحوها بناء على لزوم المجتهد فيها فباعتبار شدة احتياج الناس لها فلا بد

لكل بلد بعيدة عن الأخرى من مجتهد للزوم العسر و الحرج عليهم بالانتقال من بلد الى آخر تبعد عنهم، و على هذا فمع قلة المجتهدين و عدم كفايتهم فلا بد أن يكون القادرون عليه كلهم مقصرين و آثمين

(الثامن من احكام الاجتهاد و المجتهد) فيما يترتب على وجوب الفتوى على المجتهد

اشارة

انه لا إشكال في جواز الفتوى للمجتهد فان جواز التقليد يلزمه جواز الإفتاء لمن يصح تقليده بل يجوز الإفتاء لمن يرى نفسه جامعا للشرائط، للأدلة الأربعة: الكتاب و السنة و الإجماع و العقل، و لكن الكلام هل يجب ذلك في زمان الغيبة إذ زمان الحضور لا ثمرة لنا في الكلام فيه و قد ذهب جل الفقهاء الى وجوب الإفتاء إذا أمن المجتهد الضرر و لم يخاف على نفسه أو على أحد من المؤمنين فإن خاف على احد منهم لم يجز له التعرض كما هو المحكي عن التحرير و التذكرة و المنتهى و الدروس، و في المسالك ان وجوب الإفتاء كفائيا إذا لم يخف على نفسه أو على احد من المؤمنين و إلا لم يجز التعرض اليه بحال و قد ادعى الاتفاق صاحب المفاتيح على وجوب الفتوى و كونه كفائيا، و يدل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 261

ذلك توقف النوع الإنساني الديني عليه، و لأدلة الأمر بالمعروف و النهي عن عن المنكر. و لقوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* الآية، و لقوله تعالى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ الآية و قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ الآية.

[الفروع المترتبة على هذا الحكم الثامن.]

(الأول) لو امتنع الغير عن الإفتاء وجب على الباقين لأن الواجب الكفائي لا يسقط إلا بقيام الغير به (الثاني) لو انحصر الإفتاء بواحد و امتنع و قلنا ان الامتناع كبيرة أو صغيرة قد أصر عليها فسق المجتهد و خرج عن أهلية الفتوى و يكون العامي إذ ذاك بمنزلة الفاقد للمجتهد الحي إلا ان المجتهد مع ذلك لا يسقط عنه الوجوب لأنه قادر على تحصيل الشرط بالتوبة كما ان الصلاة لا تسقط عن

المحدث بامتناعه عن الطهارة (الثالث) انه بمجرد رجوع العامي للمجتهد لا يكون وجوب الإفتاء عينا عليه إلا إذا امتنع الغير من الفتوى به أو كان المقلد العامي لا يرى صلاحية غيره للفتوى فإنه عند ذاك يجب عليه عينا أن يفتي له لأنه هو الحجة عليه دون غيره، ثمَّ انه هل يصدق العامي إذا أخبر عن نفسه بأنه لم ير مجتهدا غير هذا الذي يرجع إليه أم لا؟ الظاهر تصديقه لانسداد باب العلم فيه و لقبول خبر ما لا يعلم إلا من قبله بناء على حجية قوله فلو أخبر عن نفسه بذلك قبل قوله بناء على ذلك و لو ظن بكذبه، (الرابع) إذا كان العامي غير محتاج للتقليد في المسألة كما لو تمكن من العمل بالاحتياط أو كانت المسألة في أمر مستحب أو مكروه فهل يجب على المجتهد إذا رجع إليه العامي أن يفتي له أو يختص وجوب الإفتاء فقط بصورة الإلزاميات ظاهر عبارة القوم هو الوجوب مطلقا و من إطلاق قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* و قوله تعالى:

الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ و في المفاتيح إمكان دلالة ما ذكر على الوجوب و أصالة البراءة عنه و ان احتمال عدم الوجوب قوى للغاية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 262

(الخامس) إذا سأل المقلد ما لا يحتاج اليه كما لو سأل عن الزكاة و هو ليس عنده مال زكوي فهل يجب الجواب و لو كفاية مقتضى إطلاقات تلك الأدلة الوجوب و ان كان ذهب صاحب المفاتيح الى عدم الوجوب و لعل الظاهر هو ذلك لعدم مخاطبة السائل بالحكم المسؤول عنه و عدم تنجزه عليه فغير واجب عليه معرفته، و ظاهر الأدلة

إنما يقتضي وجوب البيان لم يجب عليه المعرفة إلا أن يدعي انصراف الأدلة لغير ذلك، و هكذا الكلام إذا علم ان غرض السائل مجرد الاطلاع على مذهب المجتهد أو نحو ذلك و ليس غرضه العمل بالفتوى و بناء على عدم وجوب الإفتاء فلو شك المجتهد في ان غرض السائل هو العمل بالفتوى أو غير ذلك أو انها محل ابتلائه أم لا فالظاهر الوجوب، إذ الظاهر من السؤال هو كونه للعمل و انه محل ابتلائه و هل يصدق السائل في دعوى الغرض أو لا يصدق الظاهر تصديقه في مثل هذه الأمور لانسداد باب العلم فيها و لقبول قول ما لا يعلم إلا من قبله بناء على حجية قوله.

(السادس) من الفروع انه هل الواجب الإفتاء على المجتهد مطلقا بحيث إذا كانت عنده ملكة الاجتهاد وجب عليه تحصيل جميع مقدمات الفتوى فيكون وجوبه كالصلاة بالنسبة لمقدماتها من الطهارة. بمعنى انه يجب عليه الاجتهاد الفعلي فيما لم يعمل استنباطه فيه من الأحكام أو ان الإفتاء واجب مشروط كالحج بالنسبة للاستطاعة فلا يجب الإفتاء و تحصيل مقدماته فيما لم يستنبط الحكم الشرعي ظاهر الأدلة التي أقيمت على وجوب الإفتاء هو الأول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 263

(التاسع من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب اعلام المجتهد عن نفسه

بصلاحيته للفتوى و المرجعية في التقليد قال استاذنا المرحوم آقا ضياء: ان المجتهد مهما يرى شخصه مرجعا للتقليد بأن رأى انحصار الأمر به لاعتقاده أعلميته من أقرانه بضميمة وجوب تقليد الأعلم أو انحصار الاجتهاد بشخصه فلا اشكال ظاهرا في وجوب إظهار فتواه و ترغيب الناس بتقليده لما دل على وجوب إرشاد الجاهل في الأحكام الكلية المستفادة من أمثال آية النفر و السؤال و الكتمان، و يومي اليه ظاهر كلماتهم في وجوب

اعلام المجتهد مقلديه إذا رجع عن اجتهاده. و لقد صنف بعض الأعاظم رسالة في وجوب إرشاد الجاهل في الأحكام الكلية و من صغرياتها مسألتنا و اما مع علمه بعدم انحصار المرجعية في حقه فلا يجب لعدم مساعدة أدلة وجوب الإرشاد لمثل هذه الصورة و فتواه لا تتعين حجيتها في حق غيره إلا في ظرف اختيار المقلد له و ليس عليه تحصيل هذا الشرط كي تكون فتواه حجة في حق غيره لينتهي الى وجوب إرشاد الجاهل، و اما إذا شك في وجود جامع للشرائط غيره أو رأى اعتماد الناس على بعض و شك في صلاحيته فالأقرب عدم وجوب الاعلام لعدم إحراز شرط وجوب الاعلام و إذا صلح للإفتاء جماعة فهل يجب على الجميع الاعلام عن أنفسهم أو يكفي اعلام بعضهم عن نفسه الظاهر هو الأخير ان حصل ما به الكفاية و إلا وجب الاعلام بمقدارها و هل يستحب للجميع الإعلام أو لا، ذهب الى الاستحباب صاحب المفاتيح.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 264

(العاشر من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب تجديد النظر على المجتهد

اختلف الأصوليون في وجوب تجديد النظر على المجتهد عند تجدد الواقعة التي اجتهد في حكمها سابقا إذا احتمل أنه يتبدل رأيه فيها إذا جدد نظره اما مع عدم هذا الاحتمال و القطع بعدم تبدل رأيه فلا معنى لأن يجدد نظره لأنه يكون أمرا عبثا عنده و القطع حجة عليه، و في المسألة أقوال:

(أحدها) انه يجب عليه تجديد النظر في المسألة فإن وافق ما اختاره في السابق فهو و إلا يجب ان يعمل بما اجتهد به ثانيا سواء كان ذاكرا لدليل المسألة أم ناسيا و سواء زادت قوته الاستنباطية أم نقصت عن قوته السابقة أم ساوتها، و ينسب هذا القول للشهرستاني.

(ثانيها) انه

لا يجب التجديد مطلقا ما لم يتغير رأيه بل يكفيه الاجتهاد الأول في الوقائع المتجددة من غير حاجة الى اجتهاد آخر و يفتي على طبق اجتهاده الأول و ان نسي الدليل و زادت قوته و هذا القول هو المنسوب لمشهور الأصوليين من أصحابنا و العامة.

(ثالثها) التفصيل بين ما إذا كان ذاكرا لدليل المسألة فلا يجب عليه تجديد النظر و بين ما إذا لم يكن ذاكرا لدليل المسألة فيجب عليه تجديد النظر و هو المحكي عن المحقق و السيد العميدي و الرازي و الآمدي و النووي و قال العلامة في قواعده انه تفصيل حسن يقرب من قواعدهم الفقهية.

(رابعها) التفصيل بين ما إذا زادت قوته الاستنباطية فيجب تجديد النظر و بين عدمها فلا يجب التجديد، و قد حكي نفي البعد عنه عن الزبدة و ميل الفاضل الجواد له في شرحها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 265

(خامسها) التفصيل بين ما إذا علم بفساد الدليل أو تردد في صحة الدليل تفصيلا بأن التفت الى دليل الاجتهاد و تردد في صحته تفصيلا لا انه نسي الدليل و تردد في صحته و بين صورة ما إذا لم يتردد في الدليل تفصيلا ففي الأول يجب الاجتهاد ثانيا، و في الثانية لا يجب و هو مذهب صاحب الضوابط.

و التحقيق ان المجتهد إذا لم يعتقد بطلان دليله الأول فلا يجب عليه تجديد النظر سواء تردد في صحة الدليل تفصيلا بأن التفت الى الدليل تفصيلا و تردد في صحته أو إجمالا بأن نسي الدليل و تردد في صحته و حجيته و سواء احتمل بتجديد نظره يتجدد له الرأي أم لا و سواء نسي الدليل أو كان ذاكرا له و سواء زادت قوته أم

لم تزدد، و ذلك لأن الاجتهاد ليس إلا رجوع للأدلة مع ضم بعض الأصول كأصالة عدم المعارض و المخصص مع الفحص المعتبر فيها و هذه الأدلة مع تلك الأصول و الفحص المذكور حجة على الحكم للواقعة في الزمان الأول و غيره من الأزمنة لأن أدلة حجيتها كمالها عموم أفرادي له إطلاق زماني فإن ما دل على حجية الخبر كما يدل على حجية خبر زرارة و يونس و غيرهم كذلك يدل على حجية خبر زرارة في كل زمان و آن فلا بد في رفع اليد عنها من رافع و ليس لنا رافع عنها، إلا احتمال الاطلاع على ما لم يطلع عليه سابقا، و هذا الاحتمال ملغى لقيام الدليل على عدم اعتباره لأن أصالة عدم المعارض و عدم المخصص و عدم المقيد مع الفحص بالمقدار المعتد به تدل على إلغائه و هي حجة على نفيه. نعم لو علم بفساد دليله الأول سقط دليله عن الحجية فلا يجوز ان يعتمد عليه، و من هنا لو ظفر بما يصلح للمعارضة و نحو ذلك كالتخصيص سقطت أصالة عدم المعارض أو المخصص عن الحجية ففسد اجتهاده الأول و وجب عليه تجديد النظر في خصوص هذه الناحية اعني ناحية ما ظفر به، مضافا الى استصحاب الحكم الفرعي الثابت في الواقعة الاولى و استصحاب الحكم التكليفي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 266

في المسألة الأصولية و هو بقاء جواز العمل بما أدى اليه اجتهاده و استصحاب الحكم الوضعي أعني صحة العمل بالاجتهاد السابق بناء على صحة الاستصحاب في الأحكام الوضعية و استصحاب عدم وجوب تجديد النظر فان هذه الاستصحابات تقتضي الحكم بعدم لزوم تجديد النظر، و اما استصحاب صحة الاجتهاد أو

حجيته فهو فاسد لأنه يكون الشك في الاجتهاد شك سار فلا يبقى يقين سابق بصحة الاجتهاد، و هكذا ربما يقال في صحة العمل إلا اللهم إذا كان شكه من جهة طرو ما يحتمل معه فساد اجتهاده فيصح الاستصحاب. و قد يناقش في الاستصحاب أولا، ان هذا لا يتم فيمن كان اجتهاده لا يجوز له العمل به كالكافر إذا كان مجتهدا ثمَّ استبصر فإنه في زمان كفره لم يصح له العمل باجتهاده و كان حراما فيستصحب عدم جواز العمل و لازمه وجوب تجديد النظر، و جوابه انه لا دليل على حرمة عمل الكافر باجتهاده لو كان جامعا لشروط الصحة بل يجب عليه العمل به و لو سلمنا صحة الاستصحاب فنخرج هذه الصورة من حكم المقام، و قد يناقش فيه ثانيا ان عند ظهور فساد المدرك يجرى استصحاب الحكم الفرعي لأنه لم يقطع بعدمه و انما قطع بفساد مدركه مع انه لا يجوز البناء عليه كما اعترفتم به، و جوابه عند ظهور فساد المدرك لم يبق يقين سابق بالحكم و انما يحتمل وجوده إذ اليقين السابق كان بواسطة مدركه و قد زال فلم يبق يقين سابقا به و لهذا نحن لم نجوز استصحابه في هذه الصورة، و قد نوقش في الاستصحاب.

ثالثا: بأن مقتضى العمومات الناهية عن العمل بالظن هو المنع مطلقا خرج منه الظن الحاصل بالاجتهاد الأول في الواقعة الأولى قطعا و بقي الباقي داخلا تحت عموم المنع و منه الظن الحاصل بالاجتهاد الأول بالنسبة للواقعة الثانية و لم يعلم خروجه من تحت عمومات المنع من الظن و الاستصحاب لا يعارض العموم و جوابه أن أدلة حجية الاستصحاب تكون مخصصة لأدلة عموم المنع من الظن

النور الساطع

في الفقه النافع، ج 1، ص: 267

و هي مقدمة عليها فلا تشمل المقام لما قد تقرر في محله ان حكم الخاص يستصحب و يقدم على عموم العام فان العالم إذا خرج فرد منه و لو في زمان يجري الاستصحاب في ذلك الفرد في باقي الأزمنة اللاحقة بل يمكن ان يقال لا يصح التمسك بالعموم في تلك الأزمنة اللاحقة إذ دخوله تحت العام مرة ثانية خلاف الأصل ففيما نحن فيه حيث فرض حجية ظن المجتهد في الواقعة في الزمن الأول كان ذلك موجبا لخروج الظن فيها عن العمومات الناهية في الواقعة فيجري الاستصحاب بدون معارضة للعمومات لعدم شمولها له بالنسبة لباقي الأزمنة اللاحقة إذ دخوله مرة ثانية تحتها تنفيه أصالة عدم الدخول. و قد ذكرنا في محله ما هو الحق من ان الفرد من العام باعتبار حالاته و أزمنة وجوده يكون فردا واحدا أو إفرادا متعددة باعتبار حالاته و أزمنة وجوده و احتجوا للقول الأول و هو وجوب تجديد النظر: بأن احتمال تجدد الرأي بتجدد النظر يوجب زوال الظن الاجتهادي في الواقعة في الزمان الثاني فيجب أن يجدد النظر ثانيا لدفع هذا الاحتمال و أجيب (أولا) بالنقض بقيام هذا الاحتمال في الواقعة في الزمان الأول فلو كان هذا الاحتمال مؤثرا لوجب تجديد النظر بالنسبة للزمان الأول الى أن يحصل القطع و هو خلاف الضرورة و إجماع العلماء. (و ثانيا) بالمنع من زوال الظن و الحجية بذلك الاحتمال.

(حجة القول الثالث) عموم أدلة النهي عن العمل بالظن لغير صورة تذكر الدليل مع انه إذا لم يذكر الدليل ليكون حكمه في المسألة بلا دليل و هو باطل، و أجيب عنها بما مر من كفاية إحراز حجية ظن اجتهاده في

الواقعة في الزمن الأول و ان الحكم في الواقعة في الأزمنة اللاحقة مستند اليه أو الى الاستصحاب و هما نعم الدليل.

(حجة القول الرابع) ان مزيد القوة قاضي بقوة احتمال اطلاعه على ما لم يطلع عليه أولا فليبقى له الظن بصحة ما حكم به أولا مع ان صاحب القوة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 268

القوية أقرب اصابة للواقع من غيره فيكون ظنه الثاني هو الحجة في حقه دون الأول فلو قدم الأول كان كما يقدم المفضول على الفاضل. و جوابه ان زيادة القوة ليست بموجبه لخروج الاجتهاد في الزمن الأول عن الحجية، و قد عرفت ان حجيته في الزمان الأول تقتضي حجيته في باقي الأزمنة للاستصحاب و للأدلة الاجتهاد الأول.

(حجة القول الخامس) هو الإجماع و الشهرة العظيمة على لزوم تجديد النظر مع الالتفات الى الدليل و العلم بفساده أو التردد فيه. و جوابها انه مسلم مع العلم بالفساد و لكن مع التردد غير مسلم. مع ما عرفت من الخلاف ثمَّ أي فرق بين صورة نسيان الدليل و التردد فيه و بين الالتفات اليه و التردد فيه فان التردد لو كان مانعا لكان مانعا في الجميع لا في بعض دون بعض.

(الحادي عشر من احكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب تجديد النظر في الاجتهاد في الموضوعات

ما تقدم كان لبيان حال الاجتهاد في الحكم الشرعي، و اما الاجتهاد في الموضوعات كما لو اجتهد في طلب القبلة للصلاة أو طلب الماء للتيمم أو تزكية الشاهد بالشهود فهل يجب عليه ان يجدد نظره و يجتهد مرة ثانية إذا ابتلى بالواقعة مرة أخرى كأن في الأمثلة المتقدمة وجبت عليه الصلاة في ذلك المكان مرة ثانية أو احتاج للطهارة مرة ثانية أو استمع للشاهد مرة ثانية. و الحق انه لا يحتاج الى الاجتهاد

مرة ثانية لما قدمناه من الأدلة على عدم وجوب تجديد الاجتهاد في الاحكام إلا اللهم إذا قام دليل خاص على لزوم تجديد الاجتهاد في المورد فلا بد من ملاحظة الأدلة في موارد الموضوعات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 269

(الثاني عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) جواز تجديد النظر للمجتهد

انه قد علمت ان وظيفة المجتهد عند عدم علمه بفساد اجتهاده هو العمل على طبقه و لو تردد في صحته و لكن له أن يجدد نظره لا انه واجب عليه إذ لا دليل على حرمة تجديد النظر للمجتهد فأصالة الحل تقتضي ذلك.

(الثالث عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) وظيفة المجتهد عند العلم بفساد اجتهاده

وظيفة المجتهد عند علمه بفساد اجتهاده هو تجديد النظر و يعمل بما أدى اليه نظره مرة ثانية سواء كان بواسطة الأمارة أو بواسطة الأصل العملي ان كان له قوة على التجديد و إلا احتاط أو قلد في المسألة هذا في سعة الوقت و أما ان كان الوقت ضيقا و لا يسعه تجديد النظر فهو مخير أيضا بين الاحتياط و التقليد اما الاحتياط فواضح لحصول العلم بالفراغ اليقيني به، و أما جواز التقليد فلأنه جاهل غير متمكن في حال الحاجة الى العمل من الاجتهاد فتجري أدلة رجوع الجاهل الى العالم في حقه إلا إذا قلنا بأن القدرة على الاستنباط مانعة من التقليد و حينئذ يتعين عليه الاحتياط، و أما تفرقة بعضهم بين صورة ما إذا كان مجتهدا قبل هذا الاجتهاد الذي أعتقد بفساده و بين صورة ما إذا لم يكن مجتهدا إلا بهذا الاجتهاد الذي علم بفساده ففي الصورة الأولى يعمل باجتهاده الأول و في الثانية يرجع للاحتياط أو التقليد. ففاسدة لأن الاجتهاد الأول قد بطل بالاجتهاد الثاني فكيف يرجع اليه إلا إذا كان مطابقا للاحتياط و يكون الرجوع اليه من باب الاحتياط و كيف كان فهو لا يجوز له أن يعمل باجتهاده الأول لفساده في نظره.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 270

(الرابع عشر و من أحكام المجتهد و الاجتهاد) يجب على المجتهد اعلام مقلديه (عند تبدل رأيه)

يجب على المجتهد إذا تبدل رأيه اعلام مقلديه بل إذا أخطأ في بيان فتواه يجب الاعلام بل كل شخص إذا نقل الفتوى ثمَّ ظهر له الخطأ و ان الفتوى ليست كذلك وجب عليه اعلام من تعلم منه بمقدار الإمكان إذ الاعلام زائد على قدر الإمكان لا يعقل وجوبه بل بمقدار لا يلزم منه العسر و الحرج المنفيان في الشريعة كما انه

لا ريب انه يجب الاعلام إذا رجع المقلد للمجتهد أو استفسر عن رأيه و فتواه لوجوب إظهار المجتهد رأيه عند الاستفسار عنه ما لم تكن تقية بالإجماع و لآية الكتمان (و الحاصل) ان محل الكلام في وجوب الاعلام مع عدم الاستفسار و عدم لزوم الحرج و قد اختلف القوم في ذلك فبعضهم ذهب الى وجوبه مطلقا كما هو المحكي عن كتب العلامة و ذهب بعضهم الى عدم وجوبه و هو المحكي عن ظاهر المحقق و العميدي و اليه ذهب المحقق القمي (ره) و فصل بعضهم كالسيد كاظم (ره) في العروة بين ما إذا كانت الفتوى السابقة موافقة للاحتياط فلا يجب الاعلام و بين ما إذا كانت مخالفة للاحتياط فالأحوط عنده بل الأقوى الاعلام و وافقه على هذا التفصيل الكثير من المعلقين على العروة. احتجوا للقول بوجوب الاعلام بوجوه.

(أحدها) ان المقلد انما عمل في المسألة برأي المجتهد و المفروض رجوعه عنه فلو استمر لبقي عاملا بالحكم من غير دليل و لا فتوى، و أجيب عنه كما في حاشية المعالم للشيخ محمد تقي بأن المفروض كونه أخذ الحكم من فتوى المجتهد بانيا على الاستمرار اما للاستصحاب أو لفتوى المجتهد بالاستمرار أو الحكم عقله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 271

بالاستمرار. و عليه فلا يكون أخذه بالحكم خاليا عن مستنده و لذا يحكم بصحة أعماله انتهى و لو سلمنا انه عامل من دون دليل و لا فتوى فما الدليل على وجوب إعلامه إذا كان معذورا في عمله غير معاقب عليه من اللّه تعالى و لذا لا يجب على المجتهد الذي يعلم بخطإ المجتهد الآخر و فساد دليله ان يعلمه مع انه في نظره عامل بالحكم من

غير دليل لكنه لما كان معذورا و غير معاقب لم يجب على المجتهد اعلامه بذلك.

(ثاني ما استدل به): ان إيقاع المقلد فيما يخالف الواقع علما أو ظنا انما كان من جهة المجتهد بواسطة فتواه السابقة فلا بد من تنبيهه و إرجاعه عن ذلك لأنه بتركه التنبيه يكون قد سبب وقوعه في خلاف الواقع في الأحكام الشرعية و هو لا إشكال في حرمته واقعا، و بعبارة اخرى ان التسبيب لما كان محرما واقعا و لكن حين صدوره كان معذورا للجهل فبعد المعرفة يجب الاعلام لرفع استمرار هذا التسبيب نظير من أظهر خلاف الواقع تقية فإنه بعد التقية يجب عليه إظهار الواقع لأن الاستمرار يكون مستندا اليه و هو محرم عليه و انما يتحقق تركه بإعلامه لمقلديه (و دعوى) ان حكم المقلد حكم ظاهري تكليفي الى ان يعلم عدول المجتهد عنه فلا يكون مجرد عدول المجتهد موجبا لرجوع المقلد و لا سببا لإيقاعه في خلاف الواقع في حقه لأنه يكون ذلك الحكم الظاهري هو حكمه التكليفي الثابت في حقه الى وقت العلم بالعدول و هو حتى الآن لم يعلم بالعدول (فاسدة) فإن المطلوب بحسب الواقع هو أمر واحد و الطريق اليه فتوى المجتهد فيكون مؤدى دليل المجتهد حكما ظاهريا في حقه و حق مقلديه، و أما بعد عدوله فلم يكن حكما ظاهريا في حقهما لعدم الدليل عليه لان الدليل عليه كان رأي المجتهد و قد زال هذا الرأي عنه فمن حين عدول المجتهد يصبح الحكم ليس حكما ظاهريا للمقلد فعدم اعلامه يوجب وقوعه في خلاف الواقع في حقه سلمنا انه حكم ظاهري في حق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 272

المقلد لكن الحكم الظاهري لما

كان خلاف الواقع في نظر المجتهد فقد كان المجتهد هو الموقع له في خلاف الواقع فالمقلد و ان كان معذورا لكن المجتهد غير معذور فيه و دعوى ان التسبيب للإيقاع بخلاف الواقع في الأحكام الشرعية و ان كان حراما واقعا إلا انه في المقام لم يستند استمرار التسبيب للمجتهد.

بل انما استند الى استصحاب المقلد للفتوى السابقة لا الى قوله فعلا بالاستمرار و إذا لم يستند إليه فأي دليل على وجوب رفعه بالإعلام. فاسدة لأن استصحاب الفتوى السابقة و الرأي السابق يكون الاستناد فيه الى الفتوى و الرأي المستصحب و هو رأي المجتهد فاستمرار الوقوع في خلاف الواقع يكون مستندا له فهو محرم عليه و لا يمكن ترك هذا المحرم إلا بإعلامه لمقلديه. و دعوى عدم تسليم حرمة التسبيب الى الحرام و عليه فلا يكون تسبيب الفتوى للوقوع في خلاف الواقع استمرارا حراما. فاسدة فإنه لا إشكال في الأحكام الشرعية يكون حراما و ان قلنا بعدم حرمته في باقي المحرمات لاهتمام الشارع بالأحكام الشرعية و عدم رضائه باندراسها و عدم جواز تغيرها و تبديلها. و عليه فلا فرق في ذلك بين أن تكون الفتوى السابقة موافقة للاحتياط أم لا، سواء كانت تختلف مع الثانية في الأحكام الغير الإلزامية كالإباحة و الاستحباب و الكراهة أو تختلف الثانية مع الاولى في الأحكام الإلزامية بأن كانت الثانية إلزامية كالوجوب و الحرمة فإنه في الجميع يكون الاستمرار في الاعتقاد بخلاف الواقع في الأحكام الشرعية مستندا لفتوى المجتهد فمع انكشاف الخلاف يكون المجتهد غير معذور في اعتقاد مقلده خلاف الواقع لاستناده لقوله. نعم اعلام ذلك لغير مقلديه غير واجب عليه لعدم استناد اعتقادهم بخلاف الواقع الى فتواه فحاصل هذا الدليل مبني

على حرمة الإيقاع في خلاف الواقع في الأحكام الشرعية و لو بنحو الاستمرار و ان هذه الحرمة ترتفع بالإعلام لأنه مع الاعلام يزول استمرار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 273

الإيقاع في خلاف الواقع.

(ثالث ما استدل به لوجوب الاعلام) ان الإبقاء على الخطأ كإيقاعه في القبح، و فيه ان لا دليل على ذلك خصوصا و ان الباقي على الخطأ كان معذورا شرعا إلا أن يرجع لما ذكرناه.

(رابع ما استدل به على وجوب الاعلام) قوله تعالى وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ في آية النفر. و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ. و ان ترك إعلامهم إغراء لهم بالجهل. و فيه انه لو تمَّ ذلك فهي لا تخص المجتهد مع انه لا يلتزم به المستدل و التحقيق انها ظاهرة في لزوم إرشاد الجاهل الغير المعذور و اما المعذور فالأدلة قامت على عدم وجوب إرشاده و لذا لا يجب إرشاد المجتهد للمجتهد الآخر و المجتهد للمقلدين للآخر.

(خامس ما استدل به على ذلك) ان العقل يستقل بقبح تفويت المصالح الواقعية على الغير أو إيقاعه في مفاسدها و هو من افراد الظلم القبيح، و جوابه ان ذلك انما يستقل بقبحه مع التعمد اما مع حسن النية فلا يكون ظلما إلا إذا قلنا بأن بقائه على ذلك يستند اليه و هو من افراد الظلم القبيح فيجب عليه رفع بقائه بإعلامه كما تقدم في الوجه الثاني.

(سادس ما استدل به على ذلك) وجوب تبليغ الاحكام و وجوب إرشاد الجاهل و انه يجب على الحاضر اعلام الغائب كما في رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ان اللّه أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال، و

فيه انه انما يجب إذا لم يكن عنده دليل يعذر به و إلا لوجب على كل مجتهد ان يرشد من خالفه بالفتوى و ما نحن فيه المقلد عنده دليل يعذر فيه.

(سابع ما استدل به على ذلك) ان النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف يقتضي اعلام المجتهد مقلده لأنه يعمل منكرا فيجب ردعه، و تنبيهه على الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 274

الثانية لأنه معروف. و فيه انه ليس المقلد. بعامل للمنكر ما دام لم يعلم بتبدل رأي المجتهد لأنه يعمل عن دليل يعذر فيه و هو الاستصحاب فهو عامل بالمعروف.

(ثامن ما استدل به) قوله تعالى وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ و سكوت المجتهد اعانة على مخالفة المقلد للواقع و هي اثم. و فيه ان المقلد الجاهل بالرجوع لا اثم عليه في مخالفة الواقع لأنه معذور فلا يكون سكوت المجتهد اعانة على الإثم.

(تاسع ما استدل به) ما دل على ان من أفتى الناس بغير علم لحقه وزر من عمل بفتواه و هذا المجتهد قد أفتى الناس بغير علم فإنه تخيل انه علم و لكن ظهر له انه جهل. و فيه انه ظاهر في صورة تعمد ذلك إلا أن يرجع الاستدلال به الى الوجه الثاني المتقدم. و اما ما استدل به للقول بعدم وجوب الإعلام فأمور.

(أحدها) أصل البراءة و فيه انه بعد قيام الدليل على وجوب الاعلام.

لا مجال لجريانه.

(ثانيها) السيرة على ترك الاعلام و فيه عدم ثبوتها.

(ثالثها) العسر و الحرج. و فيه ما عرفته من أن وجوب الاعلام انما هو بنحو لا يلزم منه العسر و الحرج. ثمَّ لا يخفي ان ما ذكرناه كله بالنسبة الى غير ما علم من الشارع انه لا يريد

وقوعه في الخارج نظير هتك الاعراض و تلف الأنفس و بعض مراتب الأموال فإنه في مثل ذلك يجب على كل أحد تسبيب عدم وقوعه في الخارج. كما انه لا يخفى ان القول بعدم وجوب الاعلام لا ينافي الحكم بضمان الخاطي في النقل ان كان متعلقه من الأموال أو غيرها مما يستعقب ضمانا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 275

(الخامس عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب الاعلام عند تبدل الرأي في الموضوعات الخارجية

اشارة

إذا تبدل رأي المجتهد في الموضوعات الخارجية كما لو قال ان القبلة من هنا ثمَّ ظهر له انها من جهة أخرى أو قال ان هذا المائع خلا فتبدل رأيه إلى انه خمر بل هذا جار حتى في غير المجتهد فهل يجب الإعلام أم لا الظاهر انه يجب الإعلام لأنه إغراء بالجهل و هو قبيح نعم لا يجب الاعلام ابتداء كما لو رأى في ثوبه نجاسة لكن لو أخبره بأن في الثوب ليس نجاسة ثمَّ تبدل رأيه كان يجب عليه الإعلام لأنه أغراه بالجهل الذي هو من أفراد الظلم القبيح عقلا من دون فرق بين الموضوعات الواقعية كالخمر و نحوه أو العلمية كعدالة المجتهد و القبلة

و يلحق بهذين الحكمين التنبيه على أمور.
وظيفة المقلد عند العلم برجوع المجتهد عن رأيه

(أحدها) انه لا يخفى ان وظيفة المقلد مع عدم اطلاعه على رجوع المجتهد عن رأيه هو البقاء و عدم جواز الرجوع عنه للاستصحاب و السيرة و اما إذا اطلع على رجوع المجتهد عن فتواه السابقة الذي قلده فيها فيحرم عليه العمل بها و وجب الرجوع عنها من غير فرق بين رجوع المجتهد من الدليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 276

القطعي الى الظني أو بالعكس أو عن كل دليل الى مثله أو عن الدليل الدال على الحكم الواقعي إلى الدال على الحكم الظاهري أو بالعكس أو الى مثله ففي جميع هذه الصور يجب على المقلد العدول عن فتوى المجتهد إذا اطلع على عدول المجتهد عنها و يتخير بين تقليده في فتواه الثانية و بين الرجوع الى غيره ممن يصح الرجوع اليه فهنا دعويان.

(إحداهما) عدم جواز العمل للمقلد بالفتوى السابقة و قد نقل عليها الإجماع غير واحد. مضافا لبناء العقلاء فإن بنائهم فيما يقلدون الغير فيه العدول عند

عدول المجتهد عن رأيه فيه. مضافا الى أن مع عدول المجتهد لم يصبح الرأي الذي عدل عنه رأيا له حتى يقلده فيه فعلا لانكشاف خطأه لديه فيكون الرجوع إليه في رأيه السابق ليس برجوع له في رأيه. و أدلة جواز التقليد انما تثبت جواز الرجوع للمجتهد في رأيه فظهر بهذا عدم جواز الرجوع لرأيه السابق سواء تبدل برأى آخر عنده أو توقف و تردد فيه فإنه لا يجوز للعامي الرجوع إليه في رأيه السابق لأنه ليس برأى له لانكشاف خطأه عنده بحسب الدليل و ان لم ينكشف خطأه واقعا، ان قلت: ان مقتضي الاستصحاب لزوم بقاء المقلد على الرأي السابق و عدم جواز العدول عنه، قلنا: لا مجال للاستصحاب للأدلة التي أقمناها على وجوب الرجوع مضافا الى إمكان القول بعدم اليقين السابق و ان يقينه السابق قد زال لفساد الدليل فيكون من الشك الساري.

(ثاني الدعويين) ان للعامي المقلد التخيير في الرجوع لمجتهده في فتواه الثانية و رأيه الثاني أو الرجوع لغيره حتى لو كان موافقا لفتوى مجتهده الأولى إذ لا دليل على وجوب تقليده في رأيه الثاني فالأصل البراءة منه، و أدلة حرمة العدول الى الغير انما تدل على حرمة العدول في غير صورة تبدل رأى المجتهد،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 277

و ان شئت قلت: ان المقلد قبل تقليده كان مخيرا بين الرجوع لهذا المجتهد و لغيره و بعد فساد تقليده له صار تقليده له في رأيه الثاني تقليدا له ابتدائيا و هو في التقليد الابتدائي مخير بينه و بين غيره قطعا. و أما ما استدل به بعضهم من استصحاب التخير بينه و بين غيره باعتبار أن قبل تقليده كان مخيرا فيستصحب

فهو باطل لانتقاض الحالة السابقة بحرمة تقليد غيره عند ما قلده في رأيه الأول، و قد استدلوا على وجوب الرجوع للمجتهد في رأيه الثاني (أولا) أن تقليد مجتهده في رأيه الثاني هو القدر المتيقن لأن الأمر يدور بين التعيين و التخيير إذ من قال بالتخيير فهو يقول بصحة تقليد مجتهده في رأيه الثاني و من قال بالتعيين فإنما يقول بوجوب الرجوع لمجتهده في رأيه الثاني. و فيه ان هذا حكم المقلد إذا كان ليس عنده طريق لمعرفة الصحيح من القولين من وجوب تقليد المجتهد الأول و من التخير بينه و بين الثاني و له أن يقلد شخصا يصح أن يرجع إليه في نفس هذه المسألة أعني مسألة تعيين البقاء على تقليد الأول أو التخيير أما حكم المسألة في حد ذاتها فهو ما ذكرناه للأدلة التي أقمناها على صحة القول بالتخير هذا مضافا لما في هذا الأصل من المناقشة التي ستجي ء ان شاء اللّه في الاستدلال به على تقليد الأعلم و تقليد الحي فراجعها فان فيها كثير الفائدة.

(ثانيا) ان اختيار المقلد قول هذا المجتهد قد أحدث أمرين و أوجب تكليفين أحدهما وجوب العمل بمقتضى هذا القول و الثاني حرمة تقليد الغير:

و رجوع هذا المجتهد عن هذا القول أوجب رفع التكليف الأول و هو وجوب العمل بذلك القول لما تقدم من الإجماع و غيره و أما رافعيته للتكليف الثاني و هو حرمة تقليد الغير فغير معلوم فيستصحب حرمة تقليده للغير. و جوابه ان حرمة تقليد الغير انما كان موضوعها تقليد هذا المجتهد في رأيه الأول و فتواه الاولى و قد ارتفع موضوعها فترتفع هي أيضا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 278

وظيفة المقلد إذا علم برجوع مجتهده عن احدى فتاويه بنحو الاجمال

(ثانيها) ان ما تقدم

صورة ما إذا علم المقلد برجوع مجتهده عن فتوى معلومة له بالتفصيل كأن يعلم برجوعه عن طهارة الغسالة مثلا و اما صورة ما إذا علم المقلد إجمالا برجوع مجتهده عن بعض فتاويه التي قلده فيها فيجب البقاء على جميع ما قلده إذا كانت الشبهة غير محصورة أو كانت من اشتباه القليل في محصور كثير بناء على عدم تنجيز العلم الإجمالي في ذلك و تجرى الاستصحابات المذكورة في جميع فتاويه، و أما لو كانت الشبهة من قبيل الكثير في الكثير كأن قلده في مائة مسألة و علم إجمالا برجوعه في ثلاثين أو كانت من قبيل الاشتباه بالقليل كأن قلده في عشرة و علم إجمالا برجوعه عن ثلاثة فإن تمكن من الرجوع للمجتهد لمعرفة الحال وجب عليه ذلك من باب المقدمة لأنه يجب عليه البقاء على ما لم يعدل عنه و الحرمة فيما عدل عنه و لا يمكنه ذلك إلا بالرجوع الى المجتهد و ان لم يتمكن فقد يقال بالتخيير بين الرجوع للغير في تلك المسائل و بين البقاء على تقليده فيها لدوران الأمر في العمل بكل فتوى منها بين محذورين و هو وجوب العمل بها لاحتمال انها فتوى مجتهده التي لم يعدل عنها و حرمة العمل بها لاحتمال انها الفتوى التي عدل عنها فيكون مخيرا بين العمل بها و بين عدمه و الرجوع لغيره و ان كان أدنى منه و لكن التحقيق انه يجب عليه الرجوع الى الغير لسقوطها عن الحجية لأن الامارات و الطرق متى احتمل عدم حجيتها سقطت عن الاعتبار ثمَّ هذا كله فيما إذا حصل العلم الإجمالي بعد التقليد، و أما لو حصل للعامي العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 279

الإجمالي برجوع المجتهد عن بعض فتاويه في رسالته قبل التقليد فلا يجوز له تقليده للعلم الإجمالي بحرمة تقليده بما في رسالته فلا يجوز الرجوع له في فتاويه المشتملة عليها تلك الرسالة ما لم يعلم تفصيلا بما عدل عنه و ما لم يعدل عنه. و مما تقدم ظهر لك حكم ما لو سهى المجتهد عن رأيه فأفتى بغيره أو سها المقلد فأخذ بغير الفتوى أو اشتبه الناقل فظهر كذبه أو اشتبه المقلد في فهم الرسالة الى غير ذلك فان الحكم في ذلك كله حكم رجوع المجتهد عن رأيه لعين ما تقدم بل بالأولوية القطعية ضرورة كون السهو عذرا عقليا و ليس بطريق شرعي.

الاعمال الصادرة على طبق الرأي المتبدل
اشارة

(ثالثها) انه قد عرفت ان المجتهد بعد رجوعه عن المسألة و تبدل رأيه فيها يجب عليه في الأعمال اللاحقة المستقبلة العمل بمقتضى اجتهاده الثاني و كذا عرفت ان الحق ان مقلده لا يجوز له أن يعمل في الأعمال اللاحقة بالاجتهاد الأول لمجتهده و انه مخير بين العمل برأيه الثاني أو الرجوع لغيره، و أما الأعمال الصادرة من المجتهد بل و من مقلده على طبق الفتوى السابقة فهل يحكم بصحتها أو فسادها فقد ذهب المحقق الايرواني (ره) الى أن هذه المسألة من صغريات مسألة الأجزاء. و يظهر من المرحوم الأصفهاني في حاشيته على الكفاية العكس أعني ان مسألة الأجزاء من صغريات هذه المسألة لأن هذه المسألة تعم التكليفيات و الوضعيات و المعاملات و غيرها و مسألة الاجزاء تخص الواجبات. و لكن الحق مع استاذنا المشكيني (ره) من كون بين المسألتين عموم من وجه لجريان مسألة الأجزاء في إتيان الأمر الواقعي و إتيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 280

الأمر الاضطراري دون مسألتنا

و جريان مسألتنا دون مسألة الأجزاء في المعاملات كما انه يظهر من بعضهم ان مسألة الأجزاء مختصة بانكشاف الخلاف بالقطع و مسألتنا و هي مسألة تبدل رأي المجتهد مختصة بانكشاف الخلاف بطريق معتبر. و كيف كان فالتحقيق في المقام يقع في مقامين الأول في الأعمال التي صدرت عن المجتهد أو عن مقلده مع ضم حكم الحاكم إليها و الثاني في الأعمال التي لم يلحقها حكم الحاكم فنقول ان الأعمال التي صدرت عن المجتهد أو عن مقلده مع ضم حكم الحاكم إليها هي صحيحة و يرتب عليها آثارها و لو كان قد عدل الى غيره أو مات مجتهده و قلد غيره أو كان مقلدا ثمَّ صار مجتهدا و بنى على خلاف فتوى مقلده لأن عدم ترتب آثارها عليها يكون ردا لحكم الحاكم و هو حرام بل ظاهر المقبولة ان حكم الحاكم له الحكومة على سائر الطرق و الامارات نعم سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث قضاء المجتهد الموارد التي ينتقض بها حكم الحاكم و أنه إذا انتقض حكم الحاكم فسد ما ترتب عليه أو يترتب عليه من الآثار السابقة أو اللاحقة و ان الموارد التي ينقض بها حكم الحاكم يكون الحكم فيها من أصله باطلا لا أن النقض يكون من قبيل النسخ نعم سيجي ء إنشاء اللّه ان الحكم ان تضمن فتوى فلا يجوز إبطال الأعمال الواقعة على طبقه حتى لو تبدل رأي نفس الحاكم و انما لا يجوز العمل على طبقه بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة و ان لم يتضمن فتوى فيجوز ذلك هذا كله في الأعمال الصادرة عن المجتهد أو عن مقلده مع ضم حكم الحاكم إليها. و اما الأعمال و التروك التي صدرت عن المجتهد أو

مقلده بمجرد مطابقة الفتوى و لم يلحقها حكم الحاكم ثمَّ تبدل رأى المجتهد فتلك الاعمال و التروك تارة لا يترتب على مطابقتها للواقع و عدم مطابقتها اثر فعلا أى عند الفتوى الثانية كما في صورة ما لو أفتى المجتهد بعدم وجوب اطاعة والده في المستحبات فكان يذهب للزيارة من دون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 281

رضاء والده أو أفتى بحرمة العصير العنبي ثمَّ عدل المجتهد عن فتواه فإن الأعمال الماضية لا يترتب عليها أثر في الأزمنة اللاحقة ففي هذه الصورة لا يجوز للمجتهد و لا لمقلده العمل بالفتوى السابقة كما تقدم و اما الأعمال الماضية فحيث لا يترتب اثر على فسادها و لم تكن صادرة عنه عن تعمد فلا يترتب عليها أي أثر في فعلها بل لا يعقل في مثل ذلك انتقاض الفتوى بالنسبة إليها لعدم إمكان التدارك و تارة يترتب على مطابقتها للواقع اثر فعلا و على تقدير عدم مطابقتها عدم الأثر أو الإعادة لها أو القضاء لها فيما كان له قضاء أو اعادة كما في صورة ما لو افتى المجتهد بالوضوء بماء الورد فتوضأ به ثمَّ تبدل رأى المجتهد قبل ان يحدث فأفتى بعدم صحة الوضوء بالماء المضاف مطلقا حتى ماء الورد فإنه على تقدير مطابقة الوضوء بماء الورد للواقع تجوز الصلاة به و سائر الآثار المرتبة على الطهارة و على تقدير عدم المطابقة لا تجوز الصلاة به و لا سائر الآثار المرتبة على الطهارة و هكذا لو قلد من قال بالصوم الى استتار القرص ثمَّ عدل الى ذهاب الحمرة و هكذا لو قلد مجتهدا في كفاية فرى ودج واحد في حلية المذبوح فصنع كذلك ثمَّ قبل اكله عدل المجتهد

الى لزوم فرى و دجين و هكذا لو قلد مجتهدا في صحة العقد بالفارسية فعقد على زوجته بالفارسية ثمَّ قبل موت زوجته عدل المجتهد عن هذه الفتوى و اعتبر العقد بالعربية و نحو ذلك كما لو عمل برأي المجتهد في صحة البيع بالمعاطاة و التزويج بالمرتضعة معه عشرة رضعات و بنى المسجد بالحجارة المصنوعة من الطين النجس تقليدا لمن يقول بأن صيرورة الطين حجارة يكون من نوع الاستحالة المطهرة أو ان النار من المطهرات و نحو ذلك من المسائل الخلافية ثمَّ تبدل رأي ذلك المجتهد الى الفساد فلا اشكال كما عرفت سابقا عدم جواز العمل بالفتوى فيما يستقبل من مواردها مرة ثانية فلا يصلح فيما ذكرناه من الأمثلة الوضوء بماء الورد مرة ثانية و لا العقد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 282

بالفارسية مرة ثانية و هكذا الكلام في باقي الأمثلة المتقدمة و انما الكلام في أن آثار تلك الأعمال الصادرة على طبق الفتوى الأولى تترتب عليها بعد تبدل رأى المجتهد الى فسادها فيصلي بذلك الوضوء و لا يقضي الصوم المذكور و يؤكل ذلك الحيوان المفري ودج واحد منه و ينكح زوجته المعقودة بالعقد الفارسي و لا يجدد عقدها و يرتب ملكية المبيع بالمعاطاة و يبقى على زوجته المرتضعة عشرا الى غير ذلك بحيث يكون تبدل رأي المجتهد بمنزلة النسخ في ارتفاع الحكم المنسوخ عن موارده المتأخرة و بقاء آثار موارده المتقدمة ان كان لها آثار أو انه لا يرتب عليها بعد تبدل رأى المجتهد فلا يصلي بذلك الوضوء و يعيد الصوم المذكور و لا يؤكل ذلك الحيوان و لا ينكح تلك الزوجة و يرجع المبيع بالمعاطاة و تحرم عليه زوجته المرتضعة عشرا

بل يعيد تلك الأعمال أو يقضيها ان كان لها اعادة أو قضاء كما لو صلى بلا سورة تقليدا لمجتهده ثمَّ تبدل رأيه إلى فسادها فإنه يترتب على فسادها إعادتها في الوقت و قضائها خارج الوقت و هكذا لو صلي بالوضوء بماء الورد ثمَّ انه لا إشكال بالنسبة للمقلد فإنه يرجع في ذلك لمقلده في حكمه من ترتيب الآثار و عدمها و القضاء أو الإعادة أو عدمها و انما الكلام في المجتهد إذا عدل أو ما يفتي به لمقلده إذا رجع إليه في معرفة حكمه في هذه المسألة أو المقلد إذا اجتهد و ظهر له الخلاف (و بعبارة أخرى) الكلام في نفس الحكم الشرعي للمسألة. و كيف كان فقد يقال بالأول بمعنى ان الآثار لتلك الأعمال الصادرة على طبق الفتوى الأولي تترتب عليها و لا اعادة و لا قضاء لتلك الأعمال سواء كان تبدل رأي المجتهد من حكم قطعي إلى دليل قطعي أو من ظني الى ظني أو من قطعي الى ظني أو بالعكس.

و استدلوا على ذلك بأدلة.
الأول: لزوم هتك الشريعة

و تقريره انا لو لم نبني على صحتها و لا نرتب الآثار عليها لزم هتك الشريعة و اللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله بيان الملازمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 283

ان الشارع لو حكم بشي ء بعد بذل المكلف جهده و استفراغ وسعه و أتى بذلك الشي ء على طبق ما أدى اليه رأيه ثمَّ حكم بالإعادة و عدم ترتيب الآثار عليه لارتفع وثوق العقلاء بالشرع بل هم يذمون الشرع و يهتكون حرمته و يطعنون عليه بأنه كان عليه اقامة حكم كلي لا يستلزم الرجوع و الإتيان بالعمل مرة ثانية. و يمكن المناقشة في انه أي لزوم في ذلك فإنه نظير الاحتياط

لتحصيل الواقع و أي ذنب للشرع حتى يحصل هتكه إذا كان شخص قد تصدى لبيان أحكامه فأخطأ فيها و هل هناك هتك للقانون المدني لو أخطأ بعض دراسة في معرفة بعض موارده بنحو الشذوذ و القلة و لو سلمنا لزوم الهتك للشريعة فإنما يلزم في بعض الموارد لبعض الأشخاص في بعض الأحوال لا مطلقا ففي مورد لزوم الهتك نبي على الصحة و نرتب الآثار و إلا فلا. و الحاصل انه لا يلزم الهتك لندرة ذلك كما في حكم الحاكم فإنه قد يرد في بعض الموارد و لا يلزم الهتك لندرة تلك المواضع.

الدليل الثاني: ان نصب الشارع المجتهد للفتوى

و أمره بأخذ الأحكام منه و العمل بقوله يقتضي عدم إعادة الأعمال السابقة أو قضائها و عدم انتقاض آثارها بتبدل رأي المجتهد إذ لو لا ذلك لم يبق وثوق بقوله و لا اعتماد على رأيه و لم يعتني أحد بالمجتهد و لا المجتهد بنفسه لاحتمال تبدل رأيه، و جوابه ان نصبه لأغلبية مطابقة قوله و احتمال المخالفة لا يضر بذلك كما في الحاكم فان نصبه لأغلبية مطابقة قوله مع انه قد ينقض حكمه.

الدليل الثالث: الإجماع العملي و السيرة

المستمرة من المجتهدين و المقلدين و عمل السلف و الخلف على ترتب الآثار و عدم الإعادة و القضاء عند تبدل الرأي فإنه لم نر أحدا بعد تبدل رأيه أعاد أعماله و لم نر أحدا توقف عن ما اشتراه أهل بلد من الأملاك و البيوت و الحيوانات بعد موت مجتهدهم و الرجوع الى مجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 284

غيره أو بعد تبدل رأيه و الرجوع لرأي غيره بل الواجب لو كانت الآثار لا تترتب عندهم هو الفحص لاحتمال تبدل رأي المجتهد و تغيره إذ لا معاملة إلا و فيها خلاف من جهات شتى. و الحمل على الصحة لا يفيد لأن البناء على اجتهاد من تقدم صحيح و احتمال الموافقة غالبا لا يثمر مضافا الى نقل الإجماع من الكثيرين على ذلك، فقد حكى المامقاني (ره) في تقريراته للسيد حسين الترك عن صاحب الهداية الإجماع على العمل بالأمارة الأولي و عدم العمل بالأمارة الثانية. إن قلت:

قد حكى عن العلامة الحلي (ره) انه أعاد عباداته بأجمعها سبع مرات لأنه اجتهد في تمام الفقه سبع مرات و صنف في كل مرة كتابا التحرير و القواعد و التذكرة و المنتهى و الإرشاد و التبصرة،

قلنا: لم نعلم صحة هذه الحكاية و على تسليمها فلم يعلم انها كانت تلك الاعادات على سبيل الوجوب منه بل يحتمل انها كانت على سبيل الاحتياط، و جوابه انا لا نسلم الإجماع المذكور فإنه لو تبدل الرأي و وقت العمل موجود و لا عسر في إعادته يعاد العمل نعم قد كثر نقل الإجماع على عدم لزوم الفضاء مضافا الى عدم كشفه عن رأى المعصوم عليه السّلام اما في زمان الأئمة عليهم السّلام لم يعلم وقوع تبدل الرأي و أما بعده و ان علم وقوع تبدل الرأي إلا أن الإجماع لعله كان من جهة الأدلة المتقدمة أو غيرها مما سيجي ء فلا يكون كاشفا عن رأي المعصوم عليه السّلام هذا مضافا الى ان نقل الإجماع على ذلك معارض بنقل الإجماع عن العلامة و السيد عميد الدين على العمل بالأمارة الثانية و هو مقدم على الإجماع الذي نقله صاحب الهداية لسبقهما عليه. و لكن الإنصاف ان الاختلاف في الفتوى كان موجودا من عصر الأئمة عليهم السّلام لكثرة اختلاف الروايات بل ان العام قد يصدر من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الخاص من العسكري عليه السّلام و هكذا الحقيقة أو المطلق قد يصدران من المعصوم المتقدم و المجاز و المقيد من المعصوم المتأخر و لم يأمروا بالإعادة و هكذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 285

في الاخبار المتعارضة فلو كان تبدل الرأي موجبا للإعادة لكان له أثر في الاخبار و ردع لترتيب الآثار خصوصا مع كثرة ابتلاء الناس بذلك بل و لو لم يكن في عصرهم (ع) اختلاف وجب عليهم البيان من جهة علمهم (ع) بحصول المجتهدين في الأزمنة الآتية و اختلافهم في

الأحكام الشرعية ثمَّ انهم (ع) قد بينوا أحكام الخدش فكيف يسكتوا عن هذه المسألة المهمة بل في الاخبار حد الاستفاضة عن الأئمة (ع) انه قد يحكم الامام حكما بخلاف ابنه أو جده علي (ع) و لم يأمرهم الامام بالإعادة أو القضاء و قد نقل المحقق الشيخ عبد النبي العراقي عن جدنا كاشف الغطاء انه لو كان الأمر كذلك لكان يذكر في المنابر و المساجد و المدارس و المحافل و الخطابات فعدم وجود ذلك يعرف منهم ان بنائهم في الفقه على الاجزاء.

الدليل الرابع: ان الأدلة الشرعية التي دلت على لزوم الاجتهاد

عند عدم التمكن من تحصيل العلم و وجوب العمل بمؤدى الاجتهاد و كذا الأدلة الشرعية التي دلت على جواز التقليد مثل قوله (ع) خذوا معالم دينكم عن زرارة أو يونس الظاهر من الأدلة اللفظية منها ان الاعمال التي تقع على طبق الاجتهاد و التقليد بدليات جعلية عن الواقع و لا شك ان البدل الجعلي نظير البدل الاضطراري يقتضي الصحة و ترتيب الآثار الواقع عليه فان تلك الأدلة ظاهرة في الكفاية عن الواقع في مقام الإطاعة و ترتيب الأثر و لا أقل من ظهور جعل حجيتها في ترتيب آثار الواقع عليها و عدم إيجاب الإعادة و القضاء فان العرف يفهم الاجزاء من جعل الشارع لشي ء حكما و يفهم حكومة أدلته على أدلة الأحكام الواقعية حتى قيل انه يرفع به الإطلاق الذاتي للحكم الواقعي و يحمل على الإنشاء المحض فان المتبادر منها ان المكلف بعد إتيانه بالحكم الظاهري قد أدى وظيفته لا انه عمل عملا يكون لغوا و يكون الحكم الواقعي باقيا في ذمته و الحاصل ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 286

ظاهر أدلة الاعتبار للأمارات و الأصول هو قناعة الشارع بما أتى

به عن الواقع و لا فرق في ذلك بين أن نقول بالسببية أو الطريقية في حجية الامارات و لعل هذا مراد (جدنا كاشف الغطاء) مما نسبه إليه المامقاني في تقريراته للسيد حسين الترك من أن الواقعة لا تتحمل اجتهادين و (دعوى) أن تكليفه بالعمل بظنه لا يراد منه الأخذ به إلا من حيث كشفه عن الواقع لا من حيث ذاته و لو مع المخالفة للواقع فقبل الانكشاف محكوم في الشرع بأنه الواقع فيكون مجزيا و بعد الانكشاف لا يمكن الحكم بأداء الواجب و حينئذ يجب عليه الإعادة أو القضاء فيما يجب فيه القضاء (مدفوعة) بأن الأمر و ان كان كذلك لكن العرف يفهم الاكتفاء به عن الواقع كالاكتفاء بالتيمم، (و دعوى) ان إيجاب العمل على طبقها لأجل التحفظ على الواقع و كشفه بها و هذا يناقض الاكتفاء بمؤداها عند انكشاف المخالفة للواقع. (فاسدة) فإن أغلب الأحكام الشرعية تكون المصالح المرتبة عليها نوعية و غالبية فاذا تخلفت عنها فليس يلزم عدم الاكتفاء بها بل لو فرض اعتبارها كذلك مع لزوم تخلفه عنها في بعض الأحيان فلازمه الاكتفاء بمؤداها عند المخالفة إذ لو كان الاكتفاء بها بنحو التقييد بعدم المخالفة للواقع لزم العمل بها في صورة إحراز مطابقتها للواقع و هو يلازم عدم الاستفادة بجعل حجيتها. بل يلزم من وجودها عند المستدل عدمها، و لكن لا يخفي ان هذا الدليل انما يتم فيما لو تبدل الرأي بقيام حجة مقام حجة كما لو قام عند المجتهد الأصل الجامع لشرائط الحجية على وجوب الجمعة ثمَّ تبدل رأيه بأن ظفر بخبر واحد معتبر على وجوب الظهر و عدم كفاية الجمعة و هكذا لو قام خبر جامع للشرائط عنده ثمَّ علم

بخلافه و هكذا لو كان مقلدا لشخص ثمَّ عدل عنه لأنه مات أو صار من هو أعلم منه أو جن أو نحو ذلك. و أما لو تبدل رأيه من جهة ظهور فساد الحجة على الرأي الأول كما لو ظهر له ضعف الرواية أو اعتمد على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 287

القياس و ظهر له عدم حجيته أو تخيل الدلالة و ظهر عدمها فإنه في هذه الصور لم يكن الشارع قد جعل شيئا حتى يستفاد من جعله البدلية بل ظهر عدم الجعل إلا اللهم إذا قلنا بحجية اجتهاد المجتهد من باب التعبد به بخصوصه لا من جهة استناده إلى الحجة الشرعية كما هو مفاد الدليل الرابع الذي أقمناه على حجية ما أدى اليه رأي المجتهد و عليه فاذا أدى رأي المجتهد إلى شي ء كان حجة و معتبرا عند الشارع و لو كان عن اشتباه أو قطع، أو نقول ان الحجية لا تتحقق إلا بالوصول الى المكلف. فالدليل الذي اعتمد عليه المجتهد في الزمان الأول لعدم العثور على ما كان مقدما عليه يكون متصفا بالحجية حقيقة فإذا ظفر بالعام و لم يظفر بالخاص مع الفحص كان العام حجة حقيقة و الخاص ليس بحجة حقيقة في هذه الحال إلى أن يظفر به فيكون حجة من حين الظفر به إذ لا معنى لكون الشي ء طريقا و حجة فعلية مع عدم الوصول إليه لأن الطريقية انما تكون لمحرزيته للواقع و محرزيته تتوقف على وصوله للمكلف فامارية الامارة موقوفة على العلم بها و ان لم يكن إنشاء حجيتها موقوفا على العلم بها و إلا لزم الدور لكن واجديتها لصفة الطريقية و المحرزية و كونها طريقا فعلا يتوقف على

العلم بها إذ لا معنى لطريقية طريق لم يعلم به المكلف أو نقول أن العام شرط حجيته عدم الظفر بمخصصه بالفحص بمقدار اللازم و هكذا الخبر يكون شرط حجيته عدم الظفر بالمعارض بالمقدار اللازم فاذا ظفر بعد ذلك بهما كان أمد حجيتهما قد انتهى فيكون الحكم الظاهري ثابت الى حين الظفر بهما و بعد الظفر بهما يتبدل الحكم الظاهري بالحكم الظاهري على طبق المخصص و المعارض (و قد أجيب) عن هذا الدليل ان أدلة الأحكام الظاهرية انما تقتضي ترتيب آثار الواقع في زمن الشك و الجهل بالواقع ما لم ينكشف الخلاف دون أن ينقلب الواقع بها و ليست بحاكمة على دليله و لا مخصصة و لا مقيدة لأن الحكم الظاهري متأخر عن الواقعي بمرتبتين لتأخر الحكم الظاهري عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 288

الشك لأنه موضوعه و تأخر الشك عن متعلقه و هو الحكم الواقعي و لازم عدم حكومتها و عدم تقيدها و عدم تخصيصها لدليل الحكم الواقعي ان يكون الحكم الواقعي محفوظا في جميع المراتب بإطلاقه الذاتي و لازم ذلك هو ترتيب الآثار على المؤدي الظاهري ما لم ينكشف الواقع فاذا انكشف الواقع اتي به إذ الفرض بقائه على ما هو عليه. و فيه انه بعد ظهور أدلة الأحكام الظاهرية في الاكتفاء بها تكون رافعة لإطلاق أدلة الأحكام الواقعية للظاهر و حملها على الإنشائية و الحكم بسقوط التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر و (دعوى) ان الظاهر ان حصل به الملاك فيجب الأمر به في عرض الواقع و ان لم يحصل الملاك فبانكشاف الخلاف ينكشف عدم حصول الملاك الملزم و فوته من المكلف فيجب الإعادة أو القضاء (فاسدة) يظهر جوابها مما ذكرناه

في وجه جعل الحكم الظاهري من انه لم يف بملاك الواقع و لكن ظاهر الدليل الاكتفاء به عن الواقع أما لعدم إمكان تحصيل الواقع معه أو لمصلحة رفع العسر و الحرج عن العبد أو نحو ذلك.

(الدليل الخامس) لزوم العسر و الحرج

المنفيين في الشريعة السهلة السمحة و لزوم الهرج و المرج ضرورة انه ربما يتبدل رأي المجتهد عدة مرات في مسألة واحدة، فلو كان في كل مرة تنتقض الآثار لزم الهرج و المرج و لزم على كل أحد قضاء عباداته المبنية على رأي المجتهد لتبدله أو تغيره ورد ما اشتراه و استرداد ما باعه و تنجس الناس فيما بنى على طهارته، و قد نسبه المامقاني في تقريراته للسيد حسين الترك لجدنا كاشف الغطاء (ره)، و جوابه ان تبدل الرأي نادر و لو وقع فحكم الحاكم بعد التنازع هو الفاصل فلا هرج مضافا الى أن ذلك انما يلزم في بعض الوقائع لبعض الأشخاص في بعض الأحوال ففي مورد اللزوم يمنع منه و إلا فلا فإن الأدلة النافية للحرج و الهرج ظاهره في نفي الشخصي منهما لا النوعي ان قلت: انها ظاهرة في نفي الحرج

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 289

النوعي بواسطة ما نراه من الأحكام المنفية من جهة لزوم الحرج في نوعها كما هو المعروف في نجاسة الحديد فإنها منفية للزوم الحرج النوعي في ذلك فان نوع أفراد الحديد لو حكم بنجاسته لكان فيه حرج. و هكذا جواز الشفعة من جهة لزوم الحرج النوعي في عدمه فمن هذا نستفيد ان كل حكم لزم في نوعه الحرج يكون منفيا حتى عن الشخص الذي لا حرج عليه فيه. قلنا لا وجه لذلك لكون أغلب الأحكام الشرعية يلزم في نوعها الحرج

و لذا أدلة نفي الحرج حملت نفي الحرج الشخصي. و ما ذكر من الأمثلة لا نسلم فيه ذلك و لذا لو ورد في الشرع حكم منفي من جهة الحرج حمل على حكمة التشريع لا علته و لو سلمنا أنها لنفي الحرج النوعي فكثرة التخصيص موجبة لوهنها فلا يصلح التمسك بعمومها إلا في مورد يقوى عمومها كما لو تمسك به جل الأصحاب أو الإمام عليه السّلام في ذلك المورد.

(الدليل السادس) انه كما ان الأمر الاضطراري يجزي عن الواقع كذلك الأمر الظاهري

إذ كل منهما مشتمل على المصلحة المجزية عن الواقع.

و جوابه انه عند الاضطرار لا تكليف بالواقع و حينئذ فبعد ارتفاع الاضطرار يشك في حدوث التكليف بالواقع فيستصحب عدمه و اما في الأمر الظاهري فعند الجهل لا يرتفع التكليف بالواقع فاذا ارتفع الجهل و شك في سقوط التكليف الواقعي يستصحب بقائه فالشك بعد ارتفاع الاضطرار شك في حدوث التكليف بخلاف الشك بعد ارتفاع الجهل فإنه شك في بقاء التكليف و في المسقط له.

(الدليل السابع) ما حكي عن صاحب الفصول من ان الواقعة لا تتحمل اجتهادين

و قد حكى المامقاني (ره) في تقريراته عن سيد حسين الترك نسبتها لجدنا كاشف الغطاء (ره) و قد اختلف العلماء في توجيه ذلك و تفسيره حتى حكى بعضهم ان الشيخ الأنصاري (ره) أرسل السيد علي الشوشتري لكربلاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 290

لصاحب الفصول للاستيضاح عن هذه العبارة فلم يجبه بما هو المحصل.

(الدليل الثامن) ان الاعمال الماضية ليست بمورد للفتوى الثانية

لأنها ليست بموجودة و لا قابلة للوجود لكونها قد مضت بمضي وقتها و إذا لم تكن موردا لها فلا تدل على فسادها و لا تقتضي عدم ترتب آثارها عليها. و الحاصل ان الأعمال الماضية حين صدورها كانت صحيحة مستتبعة لآثارها ما لم يطرأ عليها الفساد و بعد تبدل الرأي لا يصح الحكم عليها بالفساد لعدم طروه عليها اما في السابق فواضح و اما في اللاحق فلعدم إمكان وجودها بنفسها و شخصها فمحال توجه التكليف إليها و أيضا لم يحدث في اللاحق إلا الفتوى بأنها لو وقعت في المستقبل لم يرتب عليها الأثر و هذا لا يوجب ارتفاع آثارها المرتبة عليها في الزمن السابق فاذا نكح باكرة بسبب الفتوى بجوازه فلا يبطل نكاحها بتغير الرأي بل يرتب على هذا النكاح آثاره من حلية البضع و وجوب الاتفاق و التمكين و غير ذلك. و هذه الآثار للنكاح الجائز بالفتوى لم يقم الدليل على نفيها و ان قام الدليل و هو الفتوى الثانية على نفيها عن مثله في الزمان اللاحق و ذلك لأن الحجة اللاحقة انما تؤثر في الأعمال المستقبلة دون الماضية حيث لا دليل على حجيتها إلا بالنسبة إلى الوقائع المتجددة بعد قيامها فإنها إنما تنجز حين قيامها و هي انما يتحقق قيامها بالنسبة للأعمال الآتية بخلاف الأعمال الماضية فإنه لم

يتحقق قيامها عليها حتى تكون منجزة بالنسبة إليها حيث لا يعقل منجزية أمر متأخر لأمر متقدم و إلا لزم تأثير المتأخر بالمتقدم فالحجية مقصورة على الوقائع المتجددة. و يظهر من صاحب الحاشية (ره) ذلك حيث قال انه لا دليل على حجية الظن الثاني إلا بالنسبة الى ما بعد حصوله و أما بالنظر الى الفعل الواقع قبل حصوله فلا انتهى.

و جوابه أولا انه بعد اضمحلال الاجتهاد الأول لم يبق دليل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 291

صحتها و ترتيب الأثر عليها فهي لم يطرء عليها الفساد و انما زال ما يدل على صحتها.

و ثانيا: ان الاجتهاد الثاني يقتضي ان المطلوب الواقعي هو ما طابق الفتوى الثانية من دون اعتبار سبق أو لحوق و لازمه فساد ما طابق الاجتهاد الأول لعدم القول بالتصويب.

و ثالثا: ان الاجتهاد الثاني انما ينجز فعلا الواقع و لسانه كون هذا الشي ء هو الواقع من دون اختصاص بزمان دون زمان فهو منجز لمضمونه و حجة عليه مطلقا و ان كان حصول هذا التنجيز حين قيامه و لازم تنجيز الواقع هو الإعادة أو القضاء و ليس في ذلك ترتيب الآثار على ما مضي و بعبارة أخرى ان لازم ثبوت الواقع فعلا هو الإتيان به في الوقت و قضائه بعد خروجه و عدم ترتيب الأثر على غيره فالامارة على وجوب الظهر في يوم الجمعة تقتضي وجوبه مطلقا من دون اختصاص بالمستقبل أو الماضي فهي حجة على مضمونها و منجزة له من حين قيامها و لازم ذلك اعادته و قضائه إذا لم يكن قد أتى به و بعد كتابتي لهذه الاسطر اطلعت على ما قاله الأستاذ الأصفهاني (ره) و حاصله ان دعوى ان

الامارة حجة على مضمونه بالنسبة للوقائع المتجددة دون الماضية ان كان من جهة قصور مضمونه فهو خلف و ان كان لعدم معقولية تنجيز أمر متأخر لحكم متقدم فهو غير لازم هنا لأنا لا ندعي تنجيز المضمون و هو الصلاة قبل قيام الخبر بل نقول انها تنجز فعلا مضمون الخبر و هو الصلاة في الماضي و الحاضر و المستقبل و أثره وجوب إعادتها أو قضائها. و عليه فلا وجه لقصر الحجية على الوقائع المتجددة. و كيف لا تؤثر الفتوى في السابق مع انه يمكن أن يقال ان السيرة قامت على تأثيرها ألا ترى ان المجتهدين إذا استفتوا في الوقائع قبل اجتهادهم فيها يؤخرون الجواب ثمَّ بعد النظر في المسألة و اجتهادهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 292

فيها يفتون في الحادثة السابقة بما أدى رأيهم فيها كيف و في الأعمال السابقة إذا كانت بغير اجتهاد أو تقليد ثمَّ قامت الامارة عليها أثرت الامارة فيها بحسب مؤداها صحة و فسادا فيجب إعادتها أو قضائها أو عدم ترتب الأثر عليها لو دلت على فسادها كما انه يرتب عليها الأثر و لا يجب إعادتها أو قضائها لو دلت على صحتها.

(الدليل التاسع) انه يحتمل ان يكون ما اتى به مشتملا على المصلحة الواقعية

في هذه الحال أو أن المصلحة لا يمكن تداركها معه فلا وجه للإعادة و لا القضاء لأصل البراءة منهما و لا يصح أن يتمسك بإطلاق دليل الواقع و لا إطلاق دليل القضاء لحكم العقل بعدم وجوب الإعادة و القضاء مع تدارك مصلحة الواقع أو عدم التمكن من تحصيلها. و عليه فيكون التمسك بدليل الواقع أو دليل القضاء من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيكون المرجع هو أصل البراءة منهما. و جوابه ان التمسك بهما و ان

كان من باب التمسك بالإطلاق في الشبهة المصداقية إلا أنه يصلح في هذا المقام لكون المقيد لبي إذ الحاكم بالتقييد في صورة تدارك المصلحة هو العقل.

(الدليل العاشر) ما يظهر من صاحب القوانين من الاستصحاب

بتقريب انا نقطع في السابق بترتب هذه الآثار على تلك الاعمال و انها تستتبع لها و بعد تجدد الرأي نشك في أن استتباع الآثار لها قد زال فيستصحب بقائه، و هكذا نستصحب في الأمثلة المذكورة بقاء الطهارة و بقاء الزوجية بل نستصحب الحكم الثابت قبل تبدل الرأي سواء كان حكما تكليفيا أو غيره أو يقال في تقرير الاستصحاب ان عند الرأي الأول لا تكليف بالواقع فعليا و بعد انكشاف الواقع نستصحب عدم التكليف به فعلا أي نستصحب عدم فعلية التكليف فيترتب عليه الأثر و هو عدم الإتيان به كما في استصحاب عدم التكليف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 293

في كون الأثر هو عدم الإتيان به أو يستصحب حجية الامارة السابقة. و فيه ما لا يخفى فان الظن الثاني يوجب عدم ثبوت مدلول الظن الأول من أصله لا من حيث قيامه فليس عندنا يقين سابق حتى يستصحب فالمقام من قبيل الشك الساري لا انه يقين سابق و شك لا حق. و اما الاستصحاب الثاني أعني استصحاب عدم التكليف بالواقع فعلا فهو فاسد فإنه بناء على الطريقية أو السببية بمعنى المصلحة في السلوك فالواقع فعلي بالنسبة إلينا غاية الأمر انه غير منجز فلم يحرز عدم فعلية التكليف بالواقع حتى يستصحب العدم و لو سلمنا عدم فعليته و انه شأني كما هو على القول بالسببية الذي هو عبارة عن القول بإنشاء حكم فعلي على طبق المؤدى فالاستصحاب التعليقي ثابت و هو انه وجوب الواقع لو انكشف الخلاف فانا على

يقين في ذلك فنستصحبه الى ما بعد انكشاف الخلاف فيجب الواقع إلا أن يقال ان الاستصحاب المنجز لعدم التكليف الفعلي مقدم عليه. نعم لو ثبتت البدلية المطلقة عن الواقع لم يكن مجال للاستصحاب لليقين بالاجزاء و اما استصحاب حجية الامارة السابقة و فهو لا وجه له لقيام حجة ثانية أبطلت الأولي و لذا عدل بها عن الاولي. هذا و قد يجعل الجاري في المقام هو استصحاب بقاء التكليف الواقعي السابق الى زمان كشف الخلاف و اثر ذلك هو فعليته و تنجزه عند انكشاف الخلاف فان التكليف الواقعي ينشأ بداعي البعث عند وصوله فاذا وصل بالاستصحاب صار باعثا للعبد فلا يتوهم ان التكليف الواقعي لا أثر له فلا يستصحب و (دعوى) جريان استصحاب عدم الفعلية للتكليف الواقعي (فاسدة) لأنه باستصحاب التكليف الواقعي قد كان التكليف و أصلا إلينا فتكون فعليته بعد الانكشاف مقطوعا بها لا انها مشكوك فيها كما في صورة الجهل المحض بالتكليف. و لا يخفي ما فيه فان الشك في الفعلية و التنجز تارة يكون من جهة الشك في الوصول و تارة من جهة الشك في اكتفاء الشارع بما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 294

أتي به عن الواقع فاستصحاب التكليف الواقعي في الصورة الأولى يرتب عليه أثر الفعلية و التنجز. و اما في الصورة الثانية فلا يرتب عليه ذلك لأن الشك في الفعلية ليس من جهة الوصول و فيما نحن فيه انما نشك في الفعلية بعد انكشاف الواقع من جهة احتمال اكتفاء الشارع بما أتي به و اجتزائه بفعل المأمور به الظاهري كما اكتفي بالبدل الاضطراري عن الواقع.

(الدليل الحادي عشر) [عدم ظهور الخطأ بمخالفة الاجتهاد الثاني للأول]

و هو المحكي عن المحقق الثاني الشيخ على في بحث القبلة من شرح

القواعد بأن الخطأ و هو عدم مطابقة الواقع لم يظهر بمخالفة الاجتهاد الثاني للأول لإمكان كون الخطأ هو الثاني و وجوب العمل بالثاني انما هو وجوب تعبدي لا يقتضي صحته في نفس الأمر و يقرب منه ما ذكره بعضهم بتقريب منا ان قول المجتهد سبب لحصول الحكم الظاهري و التقليد انما يتعلق بالحكم الظاهري دون سبب الحكم. و لا يخفي ان العلم بانعدام السبب لا يستلزم العلم بانعدام المسبب إلا في صورة العلم بكون الباقي محتاجا في بقائه إلى علة الحدوث و ليس فيما نحن فيه كذلك لأنا لا نعلم ان علة الحدوث هي علة البقاء فظهر ان الحكم الظاهري لم يعلم ارتفاعه بتبدل رأى المجتهد و يقرب منه ما في العناوين ان الظن السابق كان طريقا اليه و قد عمل به و لم ينكشف كونه على خلاف الواقع حتى يعلم صدق الفوت الذي هو موضوع القضاء لأن الظن الثاني أيضا يحتمل الخلاف فيحتمل في حال الظن الثاني كون الظن الأول مطابقا للواقع فلا يقطع بالفوت. و الشارع أناط القضاء بالفوت النفسي الأمري و طريقه العلم و ليس الظن بالفوت حجة في ذلك نعم لو حصل تبدل الرأي بالقطع فحينئذ يحصل العلم بالفوت فيجب القضاء، ان قلت ان ظن المجتهد الثاني بعد قيام الدليل على حجيته يكون بمنزلة القطع بالفوت شرعا فيكون نظير تبدل الرأي بالقطع، قلت: نعم و لكن بالنسبة إلى لزوم العمل به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 295

لا في جميع ما له تعلق بالعلم و طريق معرفة الفوت الواقعي هو العلم. و كون الظن الثاني بمنزلة العلم لا يوجب القطع بالفوت الواقعي إذ الظن معتبر بالنسبة الى ما بعده

و لا ربط له بما قبله و لعل الى هذا يشير ما ينسب لجدنا (كاشف الغطاء) من ان العمل بالظن الثاني في الواقعة الماضية ترجيح بلا مرجح. و فيه ما لا يخفي فان العدول انما يكون بواسطة كون الظن الثاني حجة و لازمه كون المطلوب الواقعي هو ما طابق مؤداه دون ما طابق مؤدى الثاني لعدم القول بالتصويب فيكون الفوت ثابتا شرعا لأن الامارة حجة في لوازمها و الحجة قد قامت عليه و ذلك كافي في ترتب القضاء عليه و لا يعتبر حصول العلم به. (و بعبارة أخرى) ان الحجة قد قامت على أن الواقع هو الثاني دون الأول فلا بد من ترتيب الآثار عليه. و الحاصل ان الاجتهاد الأول قد بطل بالاجتهاد الثاني لأنه قد انكشف به فساده و لذا عدل به عن الأول.

(الدليل الثاني عشر) ان الفتوى كالحكم فكما ان الحكم لا ينقض الحكم السابق عليه فكذلك الفتوى

، و فيه ان هذا قياس باطل في الشريعة، مع ان الفارق موجود لقيام الأدلة على عدم النقض من الإجماع و الروايات هذا على مسلك القوم و اما على ما بنينا عليه كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى من جواز نقض الحكم من نفس الحاكم فلا فرق بين الفتوى الثانية من نفس المفتي و الحكم الثاني من نفس الحاكم في جواز النقض.

(الدليل الثالث عشر) انه لا ترجيح للاجتهاد الثاني على الاجتهاد الأول

بعد ما كان كل منهما مستندا الى الطرق الشرعية الظنية و جوابه ان الاجتهاد الأول قد زال بالاجتهاد الثاني لظهور فساد ما اعتمد عليه فيه فلا أثر للحجة السابقة و لذا قد عدل عنها.

(الدليل الرابع عشر) ان التقليد و ان تعلق في الظاهر بالقول الأول للمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 296

إلا انه لدى الحقيقة يرجع الى اتباع مستند القول و المستند لا يزول بتبدل رأى المجتهد و لا بوفاته ولدا اعترض الأخباريون على المجتهدين في مسألة تقليد الميت حيث قال المجتهدون ان (قول الميت يفني بفناء صاحبه) فرد عليهم الأخباريون بأن قول المجتهد حجة إذا كان من دليل شرعي فيجوز تقليده حيا و ميتا لأن المستند لا يموت و إلا فليس بالحجة لا حيا و لا ميتا. و جوابه ان المستند انما يكون مستندا للعامي باعتبار انه مستند لمجتهده و بعد عدم كونه مستندا لمجتهده زال صحة استناد العامي له.

(الدليل الخامس عشر) ان تعلق الأمر بالقضاء تابع لتعلق الأمر بالأداء

على نحو التنجيز و وجوب القضاء على النائم و المغمي عليه و نحوهما لدليل خاص. و لا ريب ان الأمر بالأداء لم يتحقق فيما نحن فيه اما بعد الوقت فواضح لخروج الوقت و اما في الوقت فلعدم طريق اليه يعرفه بل قام الطريق على خلافه فلم يكن التكليف بالأداء إلا شأنيا مضافا الى ان القضاء بأمر جديد و مأخوذ في موضوعه الفوت و الفوت أمر وجودي لأنه عبارة عن ذهاب شي ء من المكلف مع ترقب حصوله منه لكونه فرضا فعليا أو ذا ملاك لزومي فهو عنوان وجودي يقابل وجود المأمور به تقابل العدم و الملكة فلا ينتزع من عدم الفعل المحض في الوقت لأن المفاهيم الثبوتية يستحيل انتزاعها من العدم و العدمي فلا ينفع استصحاب عدم الفعل المحض في الوقت لأنه لا يلازم الفوت فضلا عن انه ليس عينه فيكون الأصل مثبتا بالنسبة إليه فالأصل الجاري هو أصالة عدم الفوت. و لا يخفي ما فيه فإنه إن تمَّ فهو انما يتم في العبادات عند انقضاء وقتها دون

المعاملات التي ليست مقيدة بالوقت، مضافا الى ما تقدم من ان الميزان هو تحقق الفوت و بالحجة الثانية يكون الفوت للواجب قد تحقق و ليس بلازم ان يكون الأمر بالأداء منجزا و إلا لاختص القضاء بالمقصر و سقط عن القاصر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 297

(السادس عشر) ان كل أحد متعبد بظنه و المطلوب هو ما قام عليه ظنه

فإذا أمر الشارع بصلاة الجمعة فالمطلوب منه الإتيان بما ظن أنه صلاة الجمعة فاذا أتي بالمظنون فقد أتي بالمأمور به و الإتيان بالمأمور به يقتضي الأجزاء، و يقرب منه ما يقال من أن متعلقات التكاليف هي الأمور المعلومة و لو بالطرق المعتبرة فمعنى (صلي) افعل ما علمت أنه صلاة و المفروض انه قد اتي بما هو معلوم لديه أنه صلاة و لا تكرار في الأمر فلا يجب عليه الإعادة، و لا يخفي ما فيه فان مقتضي ذلك هو التصويب في الموضوعات و هو خلاف ما اتفقت عليه كلمة المسلمين، كيف و المطلوب هو الواقع فإن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية كما تقدم ص 21.

(السابع عشر) ما دل على ان المخالف و الكافر أعماله ماضية إذا استبصر

إلا ما استثني ففي رواية زرارة و بكير و الفضيل و محمد بن مسلم و بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام انهما قالا ليس عليه إعادة شي ء من ذلك غير الزكاة و ما دل على (ان لكل قوم نكاح) مع انه باستبصاره ينكشف له فساد ما عمله و لا يعقل أن يكون المؤمن أسوء حالا منهم إذ لا يعقل أن يكون المعذور أسوء حالا من غير المعذور. (و دعوى) انه انما يجزيه من الأعمال ما كان واقعا عندهم و في مذهبهم لا مثل هذه الأعمال التي انكشف انها على خلاف الواقع (فاسدة) لأنها انما كانت صحيحة بحسب معتقده ثمَّ انكشف فسادها و فيما نحن فيه أيضا كانت صحيحة بحسب معتقده و ما أدى اليه نظره ثمَّ انكشف فسادها فاذا كان فاسد العقيدة عمله صحيح فبالطريق الاولي ما نحن فيه ممن هو صحيح العقيدة، ان قلت انه قد التزمت بنقض حكم الحاكم مع تبدل رأيه و

الحكم أقوى من الفتوى. قلت: هذا قياس فان هذه أمور تعبدية على ان أقوائيته لا تستدعي ذلك على انه يمكن ان نقول ان كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 298

الحكم يرجع الى الفتوى فلا ينقض للدليل المذكور و ان كان لا يرجع فاذا جمع شرائط النقض جاز نقضه و إلا فلا.

(الثامن عشر) انه من الفتوى ما يستلزم الدوام كالفتوى في العقود

و الإيقاعات فاذا أفتي المفتي بجواز عقد الباكر بدون إذن أبيها فالعقد يقتضي الدوام أما دائما كما في الدائم أو الى أمد معين كما في المنقطع و قطع هذا الاستمرار يحتاج الى ما جعله الشارع قاطعا له كالطلاق و الارتداد أو انقضاء المدة أو هبتها أو حصول الرضاع اللاحق و نحو ذلك و لم يثبت ان تجدد الرأي من القواطع و اما الفتوى التي لا تستدعي الدوام كالفتوى بالنجاسة فبالإجماع المركب يثبت فيها المطلوب و جوابه ان الفتوى في الأمور الاستمرارية انما تقتضي الاستمرار إذا كانت صحيحة اما لو انكشف خطأها فلا الأبناء على التصويب أو القول بالسببية فالقواطع الشرعية لا حاجة لها. و الحاصل انه عند انكشاف خطأها هي تزول بنفسها من دون حاجة لرافع لها و قاطع إياها.

(التاسع عشر) [اقتضاء الأدلة الظاهرية الإجزاء و إن انكشف الخلاف]

ما أشار إليه بعضهم من ان الأدلة الظاهرية لو قامت على بيان ما هو معتبر في متعلقات الأحكام الواقعية شرطا أو جزء ثمَّ انكشف الخلاف اقتضت الاجزاء و لا تجب الإعادة و لا القضاء إذ تكون الأدلة الظاهرية حاكمة على أدلة الواقع و موسعة لما اعتبر في الواقع شرطا أو جزءا تارة و مضيقة له أخرى فقوله: (كل شي ء طاهر) مبين إن مشكوك الطهارة طاهر و يوسع الطهارة المعتبرة في الصلاة و انها أعم من الطهارة الواقعية أو الظاهرية فتكون الصلاة في مشكوك الطهارة صحيحة و الآتي بها ممتثل للأمر الواقعي و واجدة للشرط الواقعي فإذا انكشف الخلاف لم تجب الإعادة بل ليس هناك كشف للخلاف لأن ضم غير الواقع الى الواقع لم ينكشف خلافه و هكذا أصل البراءة عن الاجزاء و الشرائط لحكومة أدلة الرفع على أدلة الاجزاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 299

و الشرائط و الموانع فان مقتضي أدلة الرفع هو مرفوعية المشكوك ظاهرا و جواز ترتيب آثار الواقع عليه و من الآثار إتيان العبادة فيكون ذلك رخصة من الشارع في ترك المشكوك و اكتفاء منه بإتيانها بباقي الاجزاء و موجبا لامتثال أمر العبادة بالإتيان بما عدى المشكوك. و قد حكي الاتفاق و تسالم الفقهاء على ثبوت الاجزاء في ذلك الى زمن الشيخ الأنصاري (ره) و انما وقع الخلاف فيه من زمنه حتى ادعي بعضهم استحالة الإجزاء، نعم الامارات بناء على الكشف فهي لا تقتضي الاجزاء لأنه إذا انكشف الخلاف ينكشف عدم الواقع مع عدم جعل بدل عنه. و قد أورد عليه استاذنا كا (ره) بتوضيح منا انه ان كان الدليل الظاهري الحاكم بطهارة المشكوك ناظرا الى غير الحكم الصلاتي فواضح إذ لا ربط له به و ان كان يعلم الحكم الصلاتي و ناظرا له فالمراد بحكومته ان كان كشفه عن إرادة الأعم من الطهور واقعي و الظاهري من الطهور الواقع في دليل الشرط للحكم الصلاتي فلازمه عموم دليل الشرط للشرط الواقعي و الظاهري و هو باطل لاستلزامه تنزيل حكم و هو شرطية الطهارة الظاهرية منزلة حكم آخر و هو شرطية الطهارة الواقعية في ظرف جعل شرطية الطهارة الواقعية للصلاة مع انه مرتب عليه و متفرع عليه لأن الحكم الظاهري متفرع عن الواقعي لأن جعل الحكم الواقعي متقدم عليه بمراتب أولا بأن يجعل الطهارة الواقعية شرطا ثمَّ يجعل الطهارة في الظاهر ثمَّ يجعل الطهارة الظاهرية شرطا كالواقعية فكيف يجعلان بجعل واحد و ان كان المراد بحكومته ان المجعول بقاعدة الطهارة هو نفس الطهارة في مرحلة الظاهر فيرتب عليها آثار الواقع و من جملتها الصلاة بها

فهذا ليس من الحكومة في شي ء مع انه لا يوجب الاجزاء و الاكتفاء بها عند انكشاف الواقع لعدم إتيان الصلاة مع شرطها المعتبر فيها في الواقع كما هو الشأن في كل حكم ظاهري بالنسبة للواقع كما في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 300

الامارات، و (دعوى) ان الحكم الظاهري بالطهارة يكون حكما حقيقيا لا عذريا و لا طريقيا و انما هو حكم تنزيلي و ذلك يقتضي ترتب آثار الواقع عليه فتكون الصلاة معه صلاة مع الشرط الواقعي لأن الطهارة مجعولة حقيقة فلا يضر انكشاف الخلاف بخلاف ما إذا قامت الامارة على الطهارة فإن معنى تصديقها البناء على وجودها واقعا فاذا انكشف عدمها انكشف وقوع الصلاة بلا شرطها لعدم جعل الطهارة حقيقة به و انما جعل لحفظ الواقع و تحصيله و قد ظهر عدم حصوله (فاسدة) فإن هذه الطهارة المجعولة غير الطهارة الواقعية و المأخوذ شرطا هو الواقعية لا المجعولة حقيقة فإذا انكشف الخلاف ظهر ان الصلاة كانت بدون شرطها و هو الطهارة الواقعية. نعم لو دل دليل آخر غير الدليل المتكفل للحكم الظاهري بالطهارة على ان الطهارة الظاهرية شرط واقعي للصلاة كما ورد في الصلاة مع جهل النجاسة لم يكن فيه محذور. و جوابه ما قد عرفت ان ظاهر الأدلة هو الاكتفاء بما قام على الجزء و الشرط مع انه لو لا الاكتفاء به لما كان وجه لجعله لأنه ان كان جعله للمعذورية فبمجرد الجهل قد حصلت المعذورية و ان كان جعله لتنجز الواقع فالواقع منجز بالعلم بأصل التكليف و ان كان للتسهيل فليس من التسهيل الجعل في الظاهر. ثمَّ الإعادة بعدها فمقتضى القاعدة هو الاكتفاء إلا أن يقوم دليل على الخلاف.

(العشرون) [اقتضاء جعل الأمارات و الأصول بنحو السببية كون مؤداها حكما فعليا مشتملا على مصلحة ملزمة]

ان

التحقيق ان جعل الامارات و الأصول بنحو السببية لا الطريقية و مقتضي ذلك هو ان قيامها موجب لحدوث مصلحة ملزمة فيما قامت عليه توجب حكما فعليا على طبقه فلا محالة يكون الحكم الواقعي إنشائيا صرفا فلا يجب الإعادة و لا القضاء عند انكشاف الخلاف لاستصحاب عدم الفعلية و ان شئت قلت: انه على هذا يكون مؤدى الامارة حكما حقيقيا ينتهي أمده بقيام حجة أخرى لا أنه ينكشف خلافه، و بعبارة أخرى انه بعد العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 301

بكون مؤدى الامارة حكما فعليا مشتملا على المصلحة الملزمة فبعد إتيان المؤدى إذا انكشف الخلاف يشك في حدوث حكم فعلي آخر فالأصل عدمه و مجرد العلم بالحكم الإنشائي لا يوجب فعليته مع احتمال عدمها و جوابه انا لو سلمنا ذلك فعند انكشاف الخلاف يظهر ان تلك الامارة لم تكن مجعولة و ذلك الأصل لم يكن مجعولا حتى يكون قيامه مسببا لحدوث مصلحة و لو سلمنا ذلك و التزمنا بوقوعه كما التزمنا به في التقليد عند وفاة المقلد فنقول لا نسلم ذلك إلا إذا قلنا ان دليل الامارة يدل على البدلية المطلقة حتى عند انكشاف الخلاف أو قلنا بان دليل الحكم الواقعي لا إطلاق له بالنسبة الى حال الإتيان بالمأمور به الظاهري و هذا لا فرق فيه بين القول بالطريقية و بين القول بالسببية فلا وجه لتخصيص الكلام بالسببية ثمَّ ان السببية انما تنفع لو كانت المصلحة الحادثة بمقدار مصلحة الواقع أو لا يمكن تدارك ما تبقى من المصلحة معها و إلا لو كانت أقل و أمكن التدارك لما تبقى من المصلحة الملزمة وجب الإعادة و حيث انا نشك في ذلك و لم نحرزه

فالأصل هو الاشتغال لاشتغال الذمة بتحصيل مصلحة الواقع و نشك في حصولها بذلك فلا بد من الإتيان بالواقع اعادة أو قضاء لاحتمال حصولها بذلك. و لكن يمكن أن يقال انه بناء على السببية يحصل مقدار من المصلحة و يشك في وجوب الزائد عليها و الأصل البراءة منه فلا يجب تحصيل ذلك الزائد بإتيان الواقع.

(الحادي و العشرون) السكوت في مقام البيان

فان سكوت المولي و عدم تعرضه للإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف بعد إتيان ما أمر به ظاهرا يقتضي الاجزاء و عدم إتيان الواقع المنكشف و يسمى هذا بالإطلاق السكوتي و قد أجيب عنه انه يكفي في التنبيه على وجوب الإعادة عند خطأ الحجة نفس أدلة الأحكام الشاملة بفعليتها للعالم و الجاهل و فيه ان ذلك غير كافي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 302

لأن إطلاقها حتى لصورة إتيان البدل غير مسلم نعم لها إطلاق ذاتي بالنسبة للجاهل قبل إتيانه البدل فان الدليل على الواقع لا يشمل صورة إتيان البدل لكونه بمرتبة متأخرة عنه و لا أقل من الشك في ذلك فيكون الإطلاق السكوتي هو المحكم مع ان دليل الواقع قد لا يكون فيه إطلاق.

حجة المانعين من صحة الأعمال السابقة
اشارة

احتج المانعون من صحة الأعمال السابقة و هم الذين يقولون بوجوب إعادتها في الوقت و قضائها فيما له القضاء و عدم ترتيب الآثار على المعاملات فيما لو عدل المجتهد عن رأيه السابق و استدلوا على ذلك.

(أولا) ما يظهر من ابن إدريس (ره) في محكي سرائره انه إذا تبدل رأي المجتهد و ظهر خطأه و الوقت باقي

فالفعل يجب عليه اعادته لكون الأمر قد توجه اليه لدخوله في موضوعه و عدم الدليل على التقييد بغير من اتي به بنحو الفساد، و الحاصل ان حكم الأمر باقي في ذمته و ما فعله غير مأمور به لا يسقط عنه الفرض فيجب ان يفعل ثانيا ما دام الوقت باقيا لقدرته عليه قال الأستاذ كما (ره) و يدل عليه الأدلة على الأحكام الواقعية المقتضية للامتثال من غير تقييد فالمدعي لسقوطها يحتاج الى دليل، ان قلت انا نستصحب عدم بلوغها إلى المرتبة الفعلية فإنه قبل ظهور دليل الواقع لم يكن الواقع فعليا للجهل به و بعد ظهوره نشك في ان الواقع صار فعليا أو باقيا على عدم فعليته فنستصحب عدم فعليته فلا يجب امتثاله. قلنا لا نسلم عدم فعلية الواقع حين الجهل و انما هو ليس بمنجز من جهة الجهل به و مع ارتفاع الجهل يكون قد تنجز لزوال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 303

المانع من تنجزه مع انا انما نشك في أن ما أتينا به سابقا مسقط له أم لا فالشك في المسقط للتكليف الواقعي لا في فعليته و من الواضح ان الأصل عدم المسقط له مع ان قاعدة الاشتغال تقتضي الإتيان بهذا الواقع في صورة التبدل في الرأي في الأجزاء و الشرائط لأن العلم قد حصل بالتكليف بالصلاة مع الطهارة و لم يدرى بأنه يسقط بالصلاة بالطهارة الظاهرية أو لم يسقط فالفراغ اليقيني من هذا التكليف

المعلوم انما يحصل بإتيان الصلاة مع الطهارة الواقعية فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين وجوب الكلي و العام و بين وجوب الجزئي و الخاص و مقتضي القاعدة الاشتغال و لزوم الإتيان بالخاص هذا بالنسبة إلى الإعادة. و اما بالنسبة إلى القضاء اما بناء على كونه بالأمر الأول فظاهر و هكذا بناء على ان موضوعه عبارة عن عدم الإتيان لأنه يحرز باستصحاب عدم الإتيان و هكذا لو كان الفوت أمرا وجوديا لأن استصحاب عدم الإتيان يثبته بناء على خفاء الواسطة أو حجية الأصل المثبت سلمنا لكنه بناء على كونه بالأمر الجديد فلصدق الفوت لو كان المراد به فوت المصلحة فإن المصلحة الواقعية قد فاتت منه و اما لو كان المراد به فوت الفريضة فالأمر أسهل لكون فريضة الوقت الواقعية قد فاتت منه، هذا كله بالنسبة للأمر الظاهري و اما الأمر الخيالي الحادث بالجهل أو الغفلة أو النسيان فهو لا يوجب الأجزاء و يجب على المجتهد عند انكشاف الحال الإعادة أو القضاء بمقتضى القاعدة حيث لم يصدر من الشارع شيئا يحتمل بدليته عن الواقع ان قلت: انه يحتمل اشتماله على تمام مصلحة الواقع أو على المقدار اللازم منها أو لا يمكن تدارك مصلحة الواقع معه فلا يلزم الإتيان بالواقع و يكتفي بما أتى به قلنا لما لم يوجد كاشف لنا على ان ما اتى به كذلك فمقتضى الاشتغال اليقيني بالتكليف الواقعي و الشك في الفراغ منه هو الإتيان به لا بشي ء يحتمل بدليته عن الواقع ثمَّ ان ما ذكر من عدم الإجزاء فإنما بمقتضى القاعدة الأولية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 304

و لا ينافيه ثبوت الدليل على الاجزاء في بعض الموارد بالإجماع أو

السيرة أو غيرهما كما في نسيان الاجزاء الغير الركنية و الجاهل بحكم القصر و الإتمام و الجهر و الإخفات فإن ذلك لا ينافي كون مقتضى القاعدة الأولية فيها العدم هذا حاصل الدليل الأول لهم على وجوب الإعادة و القضاء عند تبدل رأي المجتهد و هو يرجع الى التمسك بإطلاق دليل الحكم الواقعي بالنسبة الى حال الإتيان بالمأمور به الظاهري عند تبدل الرأي أو التمسك بالأصل و جوابه ان جعل الإعادة من جهة الأدلة الواقعية لا وجه له لأن الدليل على الواقع لا يمكن أن يكون له إطلاق بالنسبة الى ما جعل في الظاهر للاختلاف معه في المرتبة كما تقدم في جواب الحجة التاسع عشر للقائلين بالاجزاء فلا يكون له تقييد و إذا لم يكن له ذلك فليس له نظر لما جعل في الظاهر حتى ينفي إجزائه عن الواقع مع أن دليل الحكم الظاهري للرأي الأول يستفاد منه البدلية المطلقة فيكون حاكما على دليل الواقع نظير البدل الاضطراري كالتيمم، و أما قاعدة الاشتغال و استصحاب الفعلية للتكاليف الواقعية فإنما تنفع لو لم يقم دليل على الاجزاء و البدلية و الأدلة السابقة قد قامت على ذلك و اما الأمر الخيالي فقد ظهر الجواب عنه في الحجة السابعة عشر للقائلين بالاجزاء و أما القضاء فلعدم إحراز صدق الفوت إذ لعل المراد به هو فوت الوظيفة الظاهرية و هذا لم يفته ذلك فالأصل عدم الفوت.

(الحجة الثانية للمانعين) ان سقوط الأمر بالواقع بمجرد امتثال الأمر الظاهري

ان كان مع بقاء الغرض الذي أوجب الأمر بالواقع فلا يعقل إذ يلزم انفكاك العلة عن معلولها و ان كان لعدم القابلية لتحصيل الغرض فهذا لا دليل عليه فيكون موجبا لاحتمال السقوط و لا ريب ان احتمال السقوط بعد العلم بالثبوت موجب للاشتغال. و

جوابها انه قد تقدم الدليل على عدم وجوب استيفاء الغرض الواقعي و الاكتفاء بما أتى به، على أن الاشتغال انما يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 305

فيما لو علم بتنجز التكليف و شك في سقوطه و فيما نحن فيه لم نعلم بتنجز التكليف بالواقع.

(الحجة الثالثة للمانعين) ان القوم التزموا في الموضوعات الخارجية إذا تبدل الرأي فيها بنقض الآثار

فلو قامت أصالة الطهارة على طهارة أرض ثمَّ قامت عنده البينة على نجاستها التزموا بالعمل بالأمارة الثانية فإذا حكموا بالموضوعات بذلك فيقتضي أن يحكموا بالأحكام كذلك عند تبدل رأيه لعدم الفرق بينهما. و لاقتضى ذلك صحة الوضوء و الصلاة عند تبين كون المائع الذي توضأ به خمرا أو بولا بعد قيام الامارة على كونه ماء طاهرا و هو كما ترى لا يلتزم به ذو مسكة. (و جوابها) انه ان كان المراد ان القوم التزموا بالنسبة لما مضى من الآثار فهو غير مسلم و ان كان المراد بالنسبة لما يتجدد من الوقائع فهو صحيح و لا يضرنا. و سيجي ء إنشاء اللّه في جواب الحجة الرابعة ما ينفعك هنا.

(الحجة الرابعة للمانعين) انه لو كان بتبدل الرأي لا تعاد الاعمال الماضية

و يكتفي الشارع بها فلا بد من ترتيب جميع آثار الواقع عليها و ذلك يلزم منه فقها جديدا لأنه عليه إذا جرى أصل الطهارة في شي ء يجب أن يرتب عليه جميع آثار الواقع فلا يحكم بنجاسة ملاقيه واقعا و لو بعد انكشاف الخلاف و أيضا يلزم صحة الوضوء و الغسل فيما إذا كان بماء نجس واقعا طاهر ظاهرا و لو بعد ما انكشفت نجاسته و هذا لا يلتزم به فقيه. و الحاصل انه لو كان الثابت أحكام الطهارة الواقعية للطهارة الظاهرية فلا بد من الالتزام بترتيب جميع آثار الطهارة الواقعية عليها و كذا الالتزام بترتيب جميع آثار الملكية و الزوجية الواقعية على الملكية و الزوجية الثابتة بالدليل، (و جوابها) انا انما نقول بترتيب الآثار المجعولة وضعية كانت أو تكليفية دون أن تتبدل الموضوعات الخارجية ففي الماء المذكور بحسب مقتضى القاعدة هو صحة الصلاة و اما الماء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 306

و ملاقيه فهما نجسان

لأن النجاسة أمر خارجي قد حصل العلم به و هكذا نلتزم بترتيب جميع الاثار لذلك العقد الذي وقع بالفارسية للبيع أو الزوجية لأنها أمر مجعول نعم في صورة ما لو عقد على رضيعته باستصحاب عدم الرضاعة ثمَّ ظهر له انهار ضيعته حرم عليه المقاربة لكون ذلك موضوعا خارجيا و هو لم يتبدل بالاستصحاب و هكذا لو بنى على أن الرضعات العشر غير محرمة ثمَّ ظهر أنها محرمة ففي ما يأتي من الازمان يمتنع عنها لأنه موضوع خارجي بالعلم به تترتب عليه الآثار المستقبلة و اما الآثار الشرعية الماضية فهي نافذة.

(الحجة الخامسة للمانعين) و هي التي قد تستفاد من كلام المرحوم النائيني (ره) من ان القول بالاجزاء يلازم القول بالتصويب

حيث انه لا يمكن القول بالاجزاء إلا بعد الالتزام بحدوث مصلحة في متعلق الامارة عند قيام الامارة عليه و إنشاء حكم على طبق الامارة على خلاف الحكم الواقعي المجعول الاولي بحيث يوجب تقييد الأحكام الأولية أو صرفها إلى مؤديات الامارات و هذا كما ترى مخالفا لمسلك الإمامية المخطئة إذ مسلكهم ان ليس هناك أحكام إلا الأحكام الواقعية المجعولة الأولية من غير تقييدها بالعلم أو الظن أو الشك و لا بقيام امارة على الوفاق أو الخلاف و ليس هناك تقييد أو صرف إلى مؤديات الطرق و الامارات فليس شأن الطرق إلا التنجيز عند الموافقة و العذر عند المخالفة و ان المجعول فيها ليس إلا الطريقية و الحجية و الوسطية في الإثبات من دون أن توجب حدوث مصلحة أو مفسدة في المتعلق بل المتعلق باقي على حاله قبل قيام الامارة كما هو الحال عند قيام العلم غاية الأمر ان العلم طريق عقلي و الطريقية ذاتية له. و الامارات طرق شرعية مجعولة بجعل الشارع فكما ان الطريق العقلي لا يوجب الاجزاء فكذلك الطريق الشرعي، (و توهم) أن السببية

التي ذهب إليها بعض الإمامية في الطرق و الامارات تلازم القول بالاجزاء (فاسد)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 307

فان مرادهم بالسببية هو اقتضاء جعل الأمارة للمصلحة السلوكية و هو الوجه الثالث من الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ (قده) للتصويب في أول حجية الظن حيث ذكر للتصويب وجوها ثلاثة:

(الأول) التصويب الأشعري و هو أن لا يكون في الواقع حكم إلا مؤدى الامارات و الأصول.

(الثاني) التصويب المعتزلي و هو أن يكون في الواقع حكم يشترك فيه العالم و الجاهل إلا انه بواسطة قيام الأمارة أو الأصل على خلافه تحدث مصلحة غالبة على مصلحة الواقع تقتضي جعل حكم فعلي في الواقع على طبق مؤدى الأمارة أو الأصل.

(الثالث) التصويب الإمامي و هو عند قيام الأمارة أو الأصل تحدث مصلحة سلوكية و ليس مراد الإمامية بالسببية هو الوجه الثاني للتصويب بأن يكون قيام الامارة سببا لحدوث مصلحة في المتعلق يقع التزاحم بينها و بين المصلحة الواقعية و تكون غالبة على المصلحة الواقعية فينشأ حكم فعلي على طبقها بحيث يكون هناك انشائان لحكمين أحدهما متعلق بالواقع الاولي و الثاني متعلق بمؤدى الطريق و الأصل و يكون في الحقيقة حكما واقعيا ثانويا فان هذا لا يقول به الإمامية و انما هو قول المعتزلة في التصويب كما عرفت (و دعوى) انه على هذا لم يبق حكما ظاهريا عند الإمامية (فاسدة) فإن المراد من الحكم الظاهري عندهم هو عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق أو الأصول و ليس هناك حكمان و يكون الشارع قد أنشأ انشائين و جعلين بل ليس إلا الحكم الأزلي الواقعي و الحكم الظاهري عبارة عن إحرازه بالطرق و الأصول و تسميته ظاهريا لمكان احتمال مخالفة الطريق أو الأصل

للواقع سواء كان الأصل من الأصول المحرزة أو من غيرها فظهر انه ليس على السببية إلا المصلحة السلوكية و لا ريب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 308

أن المصلحة السلوكية لا تقتضي الاجزاء عند انكشاف الخلاف فإن المصلحة السلوكية على القول بها انما هي لتدارك فوت مصلحة الواقع و هذا مع انكشاف الخلاف و إمكان تحصيل المصلحة الواقعية لا يتحقق لأن تدارك الواقع انما يكون بالمقدار الذي يستند فوته لسلوك الامارة مع كونها قائمة عنده فلو فرض انه قامت الإمارة في أول الوقت على وجوب الجمعة فصلاها ثمَّ بعد انقضاء فضيلة الوقت تبين مخالفة الامارة للواقع و ان الواجب هو الظهر فالذي فات من المكلف هو فضيلة أول الوقت ليس إلا و اما فضيلة الوقت و نفس الصلاة لم تفت لإمكان تحصيلها و هكذا الكلام لو انكشف الخلاف بعد الوقت فإنه بالنسبة للقضاء لم يفت فالمصلحة السلوكية تدور مدار البناء على مقدار الأخذ بالأمارة و مقدار فوت الواقع (فتلخص) ان حال ما قام عليه الطرق و الأصول حال ما قام عليه العلم من حيث عدم إيجاب شي ء من المصلحة أو المفسدة في المتعلق فيكون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء عند تبدلها كما هو مقتضى القاعدة عدم الاجزاء عند تبدل العلم، (و جوابها) ما ظهر مما سبق من أن ظاهر جعل الامارة و الطريق و الأصل هو الاكتفاء بإتيان مؤداها عن الواقع و تنزيله منزلة الواقع فهو بخلاف العلم الذي لم يجعله الشارع و مع هذا الظهور لا يؤثر القطع بعدم حصول المصلحة الواقعية إذ لعل الشارع اكتفى بذلك لعدم تمكن العبد من تحصيلها أو تسهيلا عليه و اما مسألة التصويب فقد تقدم منا الكلام

فيها مفصلا و انه لدى الحقيقة لا يوجد قول بالتصويب إلا بالوجه الأول، و اما ما ذكره في السببية فسيجي ء إنشاء اللّه تعالى ان هذا يرجع الى إنكار السببية و القول بالطريقية فإن القول بالطريقية يستلزم المصلحة في سلوكها و لو للتسهيل على العباد لما تقرر من مسلك العدلية من أن أفعال اللّه تعالى تابعة للمصالح و المفاسد و ان جعله للاحكام تابع للمصالح و المفاسد و انما القول بالسببية الذي ذهب اليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 309

بعض الإمامية و بيناه في الأصول هو إنشاء تكليف فعلي على طبق مؤدى الأمارة أو الأصل بسبب وجود مصلحة في المؤدى تقتضي ذلك إلا أن موضوعه الجهل بالواقع. اما كون هذا الرأي صحيحا أم فاسدا فهو مطلب آخر فان الكلام في الاجزاء انما يكون على تقدير صحته.

(الحجة السادسة للمانعين) و هي المستفادة من كلام المرحوم آقا ضياء
اشارة

(قدس سره) و هي و ان كانت تظهر مما سبق إلا انها في الأسلوب و الإيضاح أحسن و حاصلها ان الكلام تارة يجري في الامارات و أخرى في الأصول و على كلا التقديرين فاما أن يكون ذلك مع انكشاف الخلاف يقينا أو بحجة معتبرة

فالكلام يقع في مسائل.
(الأولى) في الأمارات مع انكشاف الخلاف يقينا

و هي اما أن تجري في نفس الحكم كما لو قامت الامارة على صلاة الجمعة ثمَّ انكشف يقينا وجوب الظهر ففي هذه الصورة لا وجه للاجزاء بناء على الطريقية لأن المكلف به هو العمل الواقعي و المطلوب بالتكليف الواقعي هو حصول مصلحته الواقعية و على تقدير خطأ الامارة و الإتيان بمؤداها لا يكون المكلف ممتثلا للتكليف الفعلي المتوجه اليه، إن قلت طريقية الامارة على القول بالطريقية و ان لم تستلزم حدوث مصلحة في مؤداها إلا أن جعل الامارة طريقا الى الواقع بنفسه يستلزم وجود مصلحة فيه يحتمل العقل كونها وافية بمصلحة الواقع فاذا كان دليل جعل الامارة بلسان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيكون له ظهور بكون مصلحة الجعل وافية بمصلحة الواقع فيستلزم الاجزاء. نعم إذا كان بلسان تتميم الكشف أو وجوب العمل على طبق المؤدى فلا ظهور له في ذلك لأن لزوم كون الجعل ذا مصلحة لا يستلزم كون تلك المصلحة وافية بمصلحة الواقع، قلت: ان مصلحة جعل الامارة طريقا حسبما يظهر من دليله ليست إلا التسهيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 310

على المكلفين في الوصول إلى الأحكام الشرعية و لا ريب أن مصلحة التسهيل مباينة لمصالح الأحكام الواقعية و معه لا يتصور وفاء تلك بهذه و لو سلمنا ان جعل الامارة بلسان تنزيل المؤدى بمنزلة الواقع فلا يستلزم وفاء مصلحة الجعل بمصلحة الواقع (نعم لو كان

الشارع يقول) اني قد نزلت مؤدى الأمارة منزلة الواقع لكان تنزيله هذا مستلزما لوفاء المؤدى بمصلحة الواقع فإنه يكون التنزيل صادرا من الشارع نفسه لا انه آمر بالتنزيل لأنه حينئذ يكون حكما واقعيا في حال الشك. ان قلت لو سلم عدم إمكان استفادة الاجزاء بملاك الوفاء لأمكن استفادته بملاك التفويت كما في التيمم بتقريب ان جعل الشارع الامارة طريقا الى الواقع مع علمه بخطئها فيه أحيانا، و عدم وفاء مصلحة جعلها بمصلحة الواقع يكشف ذلك عن ترخيصه بتفويت الواقع الذي يستلزمه سلوكها كما ان عدم أمره بالإعادة بعد انكشاف الخطأ يكشف عن عدم إمكان التدارك للواقع الفائت و هذا يقتضي الإجزاء بملاك عدم الاستيفاء. قلت اما كشف ما ذكرت عن الترخيص بتفويت الواقع فهو مسلم و لكنه ما دام الجهل بالخلاف باقيا و اما عدم أمره بالإعادة بعد انكشاف الخلاف فلاستغنائه عن الأمر بالإعادة بإطلاق دليل الحكم الواقعي. هذا حال الامارة على الطريقية التي تجري في الحكم.

و اما الأمارة التي تستعمل في استكشاف موضوع الحكم بناء على الطريقية فهي (تارة) يكون مؤداها حكما شرعيا قد اعتبره الشارع موضوعا لحكم من الأحكام التكليفية كطهارة الماء و حلية الأكل في الحيوان و (اخرى) يكون مؤداها نفس الأمر الخارجي الواقعي الذي لا تناله يد الجعل الشرعي كالماء و التراب و الغنم و على كل حال فلا يكون التعبد بمؤداها إلا تعبدا بنفس الحكم الشرعي أما القسم الأول فواضح و اما الثاني فحيث انه لا تناله يد الجعل الشرعي فلا محالة تكون التعبدية به عبارة أخرى عن التعبد بحكمه الذي تناله يد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 311

الجعل الشرعي كما هو واضح، و العلة التي تقدمت

في عدم الاجزاء في الأمارات التي مؤداها أحكام شرعية جارية هنا حرفا بحرف، ان قلت ان الأمارات التي تجري في الموضوعات تقتضي الإجزاء لأنها توجب توسعة، الاجزاء و الشرائط قلت ان مفاد دليل حجية الامارة اما ان يكون جعل الحكم في مرتبة الظاهر فلا وجه للاجزاء لأن الظاهر من أدلة الشروط و الاجزاء هو كون الشرط هو الواقع الحقيقي لا الظاهري فاذا أتى بالعمل مع الشرط الظاهري لم يكن قد أتى به مع شرطه المجعول له و هو الشرط الواقعي، و اما ان يكون مفاد دليل حجية الأمارة هو تتميم كشفها فلا شبهة في عدم الاجزاء مع انكشاف الخلاف ضرورة ان حال الامارة على ذلك حال القطع الحقيقي فكما ان العمل على طبق القطع لا يوجب الاجزاء مع انكشاف الخلاف فكذلك ما كان بمنزلته و سر ذلك ان مفاد الامارة هو ان الشرط الواقعي حاصل فاذا انكشف الخلاف ظهر انه لم يحصل الشرط الواقعي فلا موجب للاجزاء، و أما ان يكون مفاد دليل حجية الامارة الأمر بتنزيل المؤدى منزلة الواقع، أو الإلزام بترتيب آثار الواقع على مؤدى الامارة تعبدا حال الشك أو الإلزام بالجري على طبق مؤداها ففي كل ذلك لا تقتضي الاجزاء لعدم الدلالة على ان العمل على طبق المؤدى فيه مصلحة تفي بمصلحة الواقع على تقدير الخطأ مضافا الى ان الظاهر من دليل التنزيل ان لا مصلحة فيه غير التسهيل، نعم بناء على التنزيل المذكور ص 310 بأن يقول الشارع قد نزلت مؤدى الأمارة منزلة الواقع يثبت الاجزاء و ان انكشف الخلاف لأن التنزيل و ان لم يكن بلسان أن المؤدى هو الواقع إلا ان تنزيله يقتضي ترتيب آثار الواقع على المؤدى عملا

و يوجب الاجزاء، هذا كله بناء على الطريقية. و اما على السببية فأيضا التحقيق عدم الاجزاء مطلقا سواء كان مؤدى الامارة حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي و ذلك لأن السببية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 312

تطلق على ثلاثة معاني:

(أحدها) ان يكون مؤدى الأمارة هو الحكم الواقعي و ان الواقع يدور مداره و لا ريب في الاجزاء بناء على السببية بهذا المعنى إلا انه لا ريب في فسادها بهذا المعنى عقلا و نقلا.

و (ثانيها) انه بقيام الامارة تحدث في المؤدى مصلحة تجبر ما فات من مصلحة الواقع مثل مصلحة أو الوقت في الصلاة بوضوء قامت الامارة على طهارة مائة مع انكشاف الخلاف في الوقت أو مصلحة تمام الوقت في المثال المزبور مع انكشاف الخلاف بعد خروج الوقت و لا ريب في عدم الاجزاء على هذا المعنى من السببية.

و (ثالثها) انه بقيام الامارة تحدث في المؤدى مصلحة غالبة على مصلحة الواقع الموجبة لعدم فعلية الواقع. مثلا إذا قامت الامارة على طهارة ماء نجس بعينه فتوضأ به و صلى فإنه بقيام الامارة على طهارته تحدث في الوضوء به مصلحة غالبة على مصلحة الوضوء بماء ظاهر و هذا المعنى من السببية و ان كان خلاف ظاهر أدلة اعتبار الأمارات لأن الظاهر من أدلتها هو اعتبارها بنحو الطريقية إلا انه لا يتوجه عليه اشكال عقلا و لم يقم إجماع على بطلانه و الظاهر ان محل النزاع في الاجزاء على السببية هو هذا المعنى الثالث و كيف كان فإن غاية ما يتوهم سندا للاجزاء هو ان قيام الامارة يوجب مصلحة في مؤداها و بإطلاق دليل اعتبارها و حجيتها يثبت كون تلك المصلحة وافية بمصلحة الواقع أو بمقدار

منها بنحو لا يمكن مع استيفائه استيفاء الواقع و عليه لا محالة يتحقق الاجزاء و لكن فيه ان الاجزاء اما ان يكون بملاك الوفاء فهو غير معقول إذ هو لا يتصور إلا باحداث مصلحة في المؤدى مسانخة مع مصلحة الواقع و لازم المسانخة انقلاب الإرادة الواقعية إلى إرادة أخرى متوجهة إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 313

مؤدى الامارة و هذا أحد أنحاء التصويب الباطل عقلا و اما ان يكون الاجزاء بملاك التفويت و الاستيفاء و هو غير ثابت بل الثابت غيره لأن غاية ما يمكن ان يستدل به على ذلك هو الإطلاق و هو اما كلامي أو مقامي و الكلامي لا يتصور هنا لأنه انما يتحقق بعدم تقييد الكلام بذكر عدل للتخيير أو بالجمع بين العمل على طبق الامارة و العمل على طبق الواقع كما لو قال في الأول أعمل على طبق الأمارة أو على طبق الواقع و كما لو قال في الثاني أعمل على طبق الامارة و الواقع معا و هذا التقييد غير معقول لعدم إمكان الأخذ به في حال الجهل بالواقع و إذا كان هذا التقييد غير معقول فإطلاقه اللحاظي من ناحية ذلك القيد غير تام. و الإطلاق المقامي في المقام و ان كان متصورا و كافيا في إثبات المدعي لأنه يمكن للمولى إذا كان في مقام البيان ان يقول اعمل على طبق الامارة و إذا انكشف، لك الخلاف فاعمل على طبق الواقع فاذا سكت و هو في مقام البيان عن ذكر الحكم بعد انكشاف الخلاف كشف سكوته عن اجزاء العمل على طبق الامارة إلا ان هذا النحو من الإطلاق غير ثابت لكفاية إطلاقات الأحكام الواقعية بيانا لحكم العمل على

طبق الواقع بعد انكشاف الخلاف.

(المسألة الثانية في الأصول) مع انكشاف الخلاف يقينا

و لا يخفى أن الأصول على ثلاثة أقسام:

(الأول) الأصول المحرزة كالاستصحاب و قاعدتي التجاوز و الفراغ.

(الثاني) الأصول الغير المحرزة التي يرى البعض انها وظيفة عملية مهدها الشارع للمكلف ليرجع إليها عند الشك و يرى آخرون انها أحكام ظاهرية جعلها الشارع للشاك كقاعدة الطهارة و قاعدة الحل على المشهور و كإيجاب الاحتياط شرعا و هذان القسمان من الأصول يسميان بالأصول الوجودية.

(الثالث) الأصول العدمية كقاعدة الرفع و نحوها و هذه الأصول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 314

سواء كان متعلقها حكما شرعيا أو موضوعا لحكم شرعي فالتحقيق عدم الاجزاء بعد انكشاف الواقع اما في الأصول المحرزة فلأن متعلق الأصل ان كان حكما فهو على فرض الطريقية فالاجزاء كما تقدم في الأمارات مبني على وفاء مصلحة الجعل بمصلحة الواقع و على فرض السببية فالاجزاء مبني على وفاء المصلحة الحادثة في متعلق الأصل بمصلحة الواقع، و ان كان متعلق الأصل موضوعا لحكم شرعي فالأصل المحرز ان قلنا ان مفاد دليله هو تنزيل الشك منزلة اليقين فواضح عدم الاجزاء لأنه يكون حاله حال اليقين فلا يزيد عليه فكما عند انكشاف الخلاف في اليقين لا يجزى ما اتي به كذلك الحال في الشك المنزل منزلته و ان قلنا ان مفاد دليله هو الأمر بترتيب آثار الواقع في حال الشك فأيضا عدم الاجزاء واضح فان ذلك لا يستلزم تحقق الواقع و لا تحقق ما يفي بمصلحة الواقع بل يكون ذلك من قبيل الأوامر الطريقية التي يقصد بها المحافظة على الواقع حال الشك و بعد انكشاف الخلاف يكون التكليف الواقعي داعيا الى متعلقه لعدم ما يوجب سقوطه، نعم لو كان المجعول في الأصول المحرزة حكما واقعيا

في حال الشك كما لو كان التنزيل صادرا من الشارع نفسه لا أنه آمر بالتنزيل كان للاجزاء وجه كما تقدم إلا أن ذلك خلاف ظاهر دليل الأصل، و اما ان كان الأصل غير محرز أعني به القسم الثاني من الأصول، فإن قلنا بلزوم الاقتصار على ظاهر أدلة الشروط و الاجزاء فلا يجوز العمل على طبق الأصل حال الشك سواء قلنا بأن الأصل وظيفة عملية مجعولة للشاك في حال الشك أو قلنا بأنه حكم واقعي حال الشك لأن الأصل على هذا غير محرز للواقع بكلا تفسيريه و غير ناظر للواقع حتى حال الشك حتى يؤخذ به في حال الشك بخلاف الأصول المحرزة إذ يحرز بها الواقع و تكون ناظرة اليه و ان كان قد عرفت عدم الاجزاء فيها أيضا نعم ان قلنا بأن المستفاد من ضم دليل الأصل إلى أدلة الشروط و الاجزاء هو كون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 315

الشرط و الجزء أعم من الواقع و متعلق الأصل لحكومة دليل الأصل على أدلة الاجزاء و الشرائط فللاجزاء وجه وجيه لأن دليل المحكوم قد تكفل بإثبات ان الحلية مثلا شرط في صحة الصلاة. و الدليل الحاكم تكفل بإثبات ان الشي ء المشكوك حليته حلال فينتج من الجمع بين هذين الدليلين ان الشي ء المشكوك حليته من أفراد الشرط، و لكن لا يخفى ان المجعول في الأصول الغير المحرز كقاعدة الطهارة و الحل هو الأمر بترتيب آثار الواقع في ظرف الشك لا جعل نفس الطهارة و الحلية فيكون مقتضي قاعدة الطهارة، هو جواز الدخول في الصلاة و نحوها من الأعمال المشروطة بالطهارة لا جعل الطهارة و لازم ذلك عدم الاجزاء بعد انكشاف الخلاف. و اما الأصول

العدمية أعني بها القسم الثالث فعدم الاجزاء معها من جهة ان نفي التكليف بالجزء أو الشرط بها أو رفع المانع بها لا يوجب ان يثبت بها ان الباقي هو المكلف به لأن أدلتها لا إطلاق لها من هذه الجهة و لذا لا يتمسك الفقهاء في باب الأقل و الأكثر بإطلاق أدلة الأقل لنفي التكليف بالأكثر، و عليه فلا محيص من إثبات وجوب الباقي بتلك الأصول بأمرين.

(أحدهما) أن تكون الأصول المزبورة ناظرة إلى تزيل عدم المشكوك فيه منزلة العدم في ترتيب آثار العدم عليه لا حلية الترك في مرحلة الظاهر إذ عليه لا يسوغ الاكتفاء بالباقي لمكان الارتباطية بين الاجزاء و الشرائط و قد قررنا ان نفي التكليف بالجزء أو الشرط بدليل ثانوي كالحرج و الاضطرار يكون على نحوين:

(الأول) نفيه بلا نظر الى نفيه في الواقع و عليه فلا يجوز الاكتفاء بالباقي لمكان إرتباطية المصلحة.

(الثاني) أن يكون نفيه ناظرا الى نفيه في الواقع و مقتضى ذلك جواز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 316

الاكتفاء بالواقع.

(ثانيهما) أن يكون وجوب الباقي من الآثار الشرعية لنفي المشكوك فيه ليرتب على نفيه وجوب الباقي و لكن يمكن منع كلا الأمرين.

(أما الأول) فلأن الظاهر من دليل اعتبار تلك الأصول العدمية انها وظيفة شرعت في ظرف الجهل و لا تكون ناظرة إلى نفي التكليف في مرحلة الواقع.

(و أما الثاني) فلأن أصل وجوب الأكثر و ان كان مجعولا شرعيا و لكن تحديده بالأقل لازم عقلي لنفي جزئية المشكوك أو شرطيته فترتب وجوب الأقل على نفي المشكوك من الأصل المثبت إلا أن يتشبث بخفاء الواسطة أو بوجه آخر و هو الذي بني عليه أستاذ الاساتذة في حديث الرفع، ثمَّ انه بعد تمام

الأمرين المذكورين و جواز الاكتفاء بالباقي ببركة القاعدة تصل النوبة إلى مسألة الاجزاء و عدمه بعد انكشاف الخلاف و قد عرفت مما سبق ان الظاهر من أدلة الأصول العدمية هو التنزيل تعبدا و ترتيب الأثر في مرحلة الظاهر لا ارادة ترتيب أثر الواقع واقعا و لا أقل من الشك فالنتيجة عدم الأجزاء هذا كله لو انكشف الخلاف يقينا و علما.

(المسألة الثالثة) فيما لو أخذ المكلف بأمارة أو أصل ثمَّ انكشف الخلاف

بظن معتبر و الكلام تارة في مقتضى القواعد الأولية و أخرى في مقتضي الأدلة الثانوية، أما على الأول فالتحقيق عدم الاجزاء، بيان ذلك ان الاختلاف اما ان يكون من جهة اختلاف الرأي في الظهور اللفظي أو من جهة العثور على مخصص، أو من جهة العثور على معارض أقوى و في جميع ذلك لا يجزي ما أتى به على طبق الرأي الأول لأنه ينكشف للمكلف عدم تمام الحجة الأولي و انه كان يتخيل وجودها على الرأي الأول فيرى المكلف انه يلزمه عقلا تدارك الواقع الذي وصل إليه بالحجة الثانية كما في صورة انتقاض القطع بالقطع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 317

و عليه فلا وجه للقول بالاجزاء في الأعمال السابقة إلا توهم تدارك مصلحة الواقع بمصلحة جعل الطريق أو المؤدى و قد عرفت فساد هذا الوهم و لو سلمنا ذلك فبتبدل الرأي ينكشف عدم تحقق الطريق المجعول على الرأي الأول فلم يكن في البين ما يوهم التدارك ليقال بالاجزاء هذا مقتضي الأدلة الأولية، و أما مقتضي الأدلة الثانوية فالظاهر تحقق الإجماع على عدم وجوب الإعادة و القضاء في الصلاة و قد ادعي بعضهم الإجماع على الاجزاء مطلقا و لكن عهدة هذه الدعوى على مدعيها كما انه قد يتمسك لعدم وجوب الإعادة أو القضاء في

الصلاة بحديث (لا تعاد) بتقريب ان الحديث يشمل الخلل الواقع في الصلاة جهلا بالموضوع أو الحكم أو نسيانا لهما سواء كان الجهل بسيطا أو مركبا و لكن هذا الحديث غير ناظر لصورة الجهل البسيط فيما يحتمل قبل الدخول ان الشي ء الذي يتركه جزء أو شرط إذ لو كان ناظرا إليه في هذه الحال لزم ترخيصه بتركه فيكون حينئذ مخصصا لأدلة الاجزاء و الشرائط في مقام الجعل و هذا خلاف ظاهر الحديث إلا اللهم ان يفرق بين صورة ما إذا كان لا حجة له على العمل الذي جاء به ناقصا و بين ما إذا كان مع الحجة على حكم العمل الذي عمله فيمكن أن يقال بشمول حديث (لا تعاد) للصورة الثانية لأنه قد دخل في العمل بحجة سوغت له مخالفة احتمال وجوب غير ما قامت عليه الامارة و يكون قيام الحجة بعد ذلك عليه من قبيل الالتفات بعد النسيان.

(المسألة الرابعة) لا ينبغي الإشكال في عدم الاجزاء فيما لو عمل ناقصا

لعذر عقلي كالقطع بعدم وجوبه أو نسيانه أو استند الى البراءة العقلية في الترك لعدم ما يوجب توهم الأجزاء إلا إذا كان المنسي من أجزاء الصلاة لحديث (لا تعاد)، و يقرب من هذه الحجة باختلاف يسير ما ذكره المرحوم الأصفهاني (ره) ما حاصله ان مؤدى الاجتهاد السابق إذا كان قد قامت عليه الأمارة الشرعية كالخبر فان قلنا بحجة الامارات من باب الطريقية فيجب نقض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 318

الآثار السابقة لأن حجيتها على هذا الوجه اما ان لا تتضمن إنشاء طلبيا كما إذا كان المجعول هو المنجزية للواقع و الكاشفية له و اما ان تتضمن إنشاء طلبيا كما إذا كان المجعول وجوب العمل على طبقها و هذا الإنشاء اما ان يكون بداعي تنجز

الواقع فهو كالأول لا شأن له إلا تنجيز الواقع عند المصادفة و اما ان يكون بداعي جعل الداعي بعنوان الإيصال للواقع فلا محالة يكون مقصورا هذا الإنشاء على صورة مصادفة الواقع فعلى أى تقدير لا حكم حقيقي في صورة المخالفة حتى توجد موافقة تكليف فعلي ظاهري. و اما ان قلنا بالسببية و الموضوعية فمقتضاها اشتمال الفعل بعنوانه الثانوي أعني بعنوان أنه مؤدى الامارة على المصلحة المغايرة لمصلحة الواقع موجبة لإنشاء حكم فعلي على طبق المؤدى و هذه المصلحة اما تكون مسانخة لمصلحة الواقع و بدلا عنه فلا محالة تقتضي الاجزاء و صحة الأعمال السابقة. و اما ان تكون مغايرة لمصلحة الواقع فهي لا تقتضي الاجزاء إذ لا موجب لسقوط الحكم الواقعي لعدم امتثاله و لا إتيان ملاكه أو ما يقوم مقامه و حيث ان الأمر بناء على السببية لم يكن إنشائه بداعي تنجيز الواقع و انما كان بداع جعل الداعي لمؤدي الامارة و انه بما هو هو مطلوب لا بما هو معرف للواقع لم تكن فيه دلالة على ان الحكم المنشأ منبعث عن مصلحة هي بدل عن مصلحة الواقع و انما يقتضي أنها مصلحة مغايرة لمصلحة الواقع فقط و (دعوى) لزوم كون المصلحة بدلا عن مصلحة الواقع لئلا تفوت مصلحة الواقع من دون تدارك لها (مدفوعة) بأنها مشتركة الورود على الطريقية و السببية مضافا الى ما تقرر في محله من عدم لزوم كون المؤدى ذا مصلحة فضلا عن كونها بدلا عن الواقع إذ ربما يكون إيكال العبد الى الطرق القطعية موجبا لفوات الواقعيات عليه أكثر من العمل بالأمارات و موجبا لوقوعه في مفسدة أعظم من فوات مصلحة الواقع أحيانا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 319

مضافا الى ان تفويت مصلحة بإيصال مصلحة أخرى مساوية لها أو أقوى لا قبح فيه و ان لم تكن مسانخة و (دعوى) انه لا بد ان تكون المصلحة بدلا عن مصلحة الواقع و مسانخة لها إذ لو لم تكن كذلك للزم الأمر بتحصيلهما معا تعيينا إذا أمكن اجتماعهما فيأمر بتحصيل الواقع بتحصيل الطرق العلمية أو الاحتياط لئلا تفوت مصلحة الواقع و يأمر بتحصيل مؤدى الامارة لئلا تفوت مصلحة المؤدى و ذلك خلاف الإجماع بل ضرورة الدين إذ لم يذهب أحد الى ذلك و اما إذا لم يمكن اجتماعهما أمر بتحصيلهما على سبيل التخيير و هذا خلاف ظاهر الأمر بالواقع فإنه ظاهر في التعيين و خلاف ظاهر الأمر الطريقي فإنه ظاهر في التعيين أيضا فلا بد ان تكون المصلحتان متسانختين و إحداهما بدل الأخرى فيتعين الاجزاء (فاسدة) لأن المصلحتين قابلتان للاجتماع إلا ان المصلحة الواقعية لا يجب تحصيلها الى حد بحيث يجب عليه ان يحصلها بالطرق القطعية بل وجوب تحصيلها عليه لو وصل لها عادة و مع عدم الوصول العادي إليها و قيام الامارة لا يجب تحصيلها و انما يجب تحصيل مؤدى الامارة كما انه مع الوصول الى الواقع لا موقع للتعبد بمؤدى الامارة فالمصلحتان تعينيتان في ذاتهما من دون فرق في ذلك بين أن يكون الواقع و المؤدى من قبيل المتباينين كالظهر و الجمعة أو الأقل و الأكثر (نعم) بناء على السببية فرق بين الواجبات و بين العقود و الإيقاعات فإن مصالح الواجبات استيفائية فيمكن بقاء مصلحة الواجب الواقعي على حالها فلا بد من استيفائها بعد كشف الخلاف بخلاف مصالح جعل العقود و الإيقاعات فإنها غير استيفائه و غير قابلة للتدارك فبناء على

السببية تكون المصلحة في جعل الملكية بالعقد الفارسي فيكون العقد الفارسي سببا حقيقة للملكية بواسطة المصلحة القائمة في المؤدى لفرض حجية الامارة على نحو السببية. و عليه فيكون العقد الفارسي القائم عليه الامارة كالعقد العربي في سببيته للملكية و ليس له كشف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 320

الخلاف و انما عند قيام الحجة من العلم أو العلمي بأن العقد الفارسي ليس بصحيح يكون قد انتهى أمد سببيته للملكية نظير النسخ و لكن هذا انما يتم بناء على السببية لا بناء على الطريقية إذ على الطريقية لا يكون هناك جعلا للملكية بالعقد الفارسي و حيث ان الحق في باب التعبد بالخبر الذي هو العمدة في باب الامارات هو الطريقية فالحق لزوم النقض للآثار السابقة بالاجتهاد الثاني إلا ما قام الدليل عليه هذا حال الامارات و اما (حال الأصول) فالاستصحاب بناء على كون مفاد دليله منجزية اليقين السابق أو معذريته في اللاحق كما هو ظاهره فحاله حال الامارة على الطريقية المحضة التي لا تقتضي إنشاء طلبيا أصلا و بناء على كون مفاد دليله جعل الحكم على طبق مؤداه بعنوان الإيصال للحكم الواقعي في اللاحق فحاله أيضا حال جعل الحكم على طبق مؤدى الامارة بعنوان الإيصال إلى الواقع فلا يقتضي الاجزاء كما تقدم في جعل الامارة على الطريقية من أنه يكون هذا الإنشاء مقصورا على صورة مصادفة الواقع فعلي أي تقدير مع كشف الخلاف لا حكم حقيقي حتى يوجد مجال لتوهم الاجزاء و اما بناء على أن مفاد دليله جعل الحكم على طبق مؤداه على أي تقدير حتى على تقدير مخالفة الواقع فهو و ان كان يقتضي انبعاث هذا الحكم عن مصلحة في المؤدى إلا

أن حاله حال الامارات بناء على السببية في عدم اقتضائه لكون المصلحة مسانخة لمصلحة الواقع أو بدل عنه حتى تجزى عن الواقع، و منه تعرف حال البراءة الشرعية فانا و ان قلنا مقتضاها نفي الحكم حقيقة فعلا و يجعل فيها عدم الوجوب و عدم الجزئية و الشرطية دون جعل المعذورية إلا ان فعلية الأمر بما عداه لا تقتضي إلا كون الأمر بالباقي ناشئا عن مصلحة إذ لا يعقل الأمر حقيقة إلا كذلك لكنه لا تتعين تلك المصلحة ان تكون بدلا عن الواقع حتى يتعين الاجزاء و (دعوى) ان عدم الجزئية تارة بعدم جعل منشأ انتزاعها، و مقتضاه تعلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 321

الأمر بالباقي فلا يكشف عن مصلحة بدلية فيه و أخرى بجعل منشأ انتزاع عدم الجزئية. و مقتضاه جعل عدم وجوب المجموع المركب من المشكوك و من الباقي لا مجرد المعذورية و يكشف عن عدم المصلحة الملزمة في المجموع المركب و ذلك يقتضي الاجزاء مع ان تعلق الأمر الفعلي بما عدى المشكوك محقق و لا أمر به إلا بعنوان نفس المركب فلا محالة يكشف عن المصلحة البدلية لأنه يكشف عن الغرض المرتب على الصلاة بما هي صلاة و منه تعرف الفرق بين ما يدل من الأصل و الامارة على نفي الجزئية و الشرطية و بين ما يدل على ثبوتهما فإن منشأ انتزاعهما ثبوتا هو الأمر الفعلي بالمركب من المشكوك بعنوان آخر فلا يكشف إلا عن مصلحة فيه لا عن المصلحة المرتبة على الصلاة بما هي (فاسدة) لأن كشف جعل عدم الوجوب للمركب عن عدم المصلحة الملزمة انما هو يكشف عن عدم كون المصلحة في المركب بحد لا بد من إتيانها

و لو بتحصيل الطرق العلمية لا عن عدم المصلحة الملزمة في المركب رأسا و إلا لزم الخلف من تعلق الأمر الواقعي بها. و اما كشف الأمر بالباقي فعلا عن ترتب الغرض من الصلاة عليه فغايته ترتب مرتبة من الغرض لا بتمامه و إلا لزم مساواة الأكثر و الأقل في المصلحة و محصلية غرض واحد فلا بد في دعوى الاجزاء من دليل على مصلحة بدلية أو عدم إمكان استيفاء الباقي من المصلحة. و الجواب عن ذلك كله يظهر مما سبق من ظهور الأدلة في الاكتفاء بما أتي به و السيرة بل و الإجماع على ذلك فانا لم نر أحدا أمر مقلديه عند تبدل رأيه بإعادة أعمالهم أو قضائها أو عدم ترتيب الأثر عليها و قد تقدم ذلك مفصلا كما ان النقاش في بعض كلماتهم تظهر في كتبنا في الأصول و اللّه العالم.

(الحجة السابعة للمانعين) [عدم كون العمل بالقول الأول للمجتهد عند تبدله اتباعا له و تقليدا]

ان التقليد بأي معنى فسر من الأخذ بقول الغير من غير دليل أو قبوله كذلك أو العمل به أو ما يقرب من هذه المعاني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 322

يكون من الأمور التي تتعلق برأى الغير و التابعية له. و لا يخفى ان هذا العنوان منتف في المقام عند تبدل الرأي ففي حال التبدل لم يكن العمل بقوله الأول فيه اتباع له فلا يكون تقليدا و جوابه انه يكون اتباعا له في ذلك الزمان نظير البقاء على تقليد الميت.

(الحجة الثامنة) التي تظهر من كلمات استاذنا كا (قدس اللّه سره) ان عدم صحة الأعمال السابقة مقتضى الجمع بين أمور:

(منها) كون الامارات طرقا الى الواقعيات من دون أن يكون لها موضوعية و نحو مصلحة توجب قلبها.

و (منها) انا كما نقول بالتخطئة في الأحكام نقول بالتخطئة في الموضوعات و (منها) ان مقتضى القاعدة ان يكون الموضوع للآثار هو السبب الواقعي دون الاعتقادي بالنسبة إلى المباشر يعني ما يترتب عليه النقل و الانتقال و الحلية و الحرمة هو السبب الصحيح في الواقع دون الاعتقاد. نعم الطريق الى الصحيح الواقعي هو اعتقاد المجتهد بالنسبة اليه و الى مقلديه دون اعتقاد غيرهم و ان كان قد يكون السبب هو الصحيح بحسب اعتقاد الغير لا الصحيح في الواقع كما في صحة صلاة الإمام بالنسبة إلى صلاة المأموم عند بعض إلا ان القاعدة تقتضي ما ذكرنا.

و (منها) ان الامارة الثانية القائمة عند المجتهد حجة بالنسبة إلى الوقائع السابقة و انها لا تختص حجيتها بواقعة دون أخرى، نعم لا معنى لحجيتها بالنسبة الى ما لم يكن له اثر حال قيام الامارة.

و (منها) عدم المعارضة بين الامارات السابقة و اللاحقة بعد فساد السابقة و تبين الخطأ فيها بل لعل لدليل اللاحقة نحو حكومة بالنسبة إلى السابقة فلا يتوهم التعارض بينهما

فضلا عن تقديم السابقة على اللاحقة، مضافا الى ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 323

المعارضة لا تنفع في الأجزاء، ثمَّ بعد الجمع بين هذه الأمور لا ينبغي التأمل في اقتضاء القاعدة عدم الأجزاء في سائر الموارد. و يمكن التمسك في باب الصلاة بقاعدة الفراغ و أصالة الصحة بل و يجرى ذلك في مطلق العبادات بل و غيرها من المعاملات حتى بالنسبة إلى الصادر من الغير أيضا لعموم أدلة البناء على الصحة لكنه و ان كان غير بعيد بناء على ظاهر إطلاقاتها إلا ان قصر حجيتها في خصوص الشبهات الموضوعية دون الحكمية و ظهورها و لو انصرافا أو نظرا إلى الحكمة المشار إليها في بعض الاخبار في مورد لم تكن صورة العمل محفوظة بل و في سوقها سوق إلغاء احتمال السهو و النسيان يبعد الاعتماد على هذا الإطلاق و لذا لم يحضرني من تمسك بها نعم في خصوص الصلاة إذا لم يوجب الاختلاف زيادة ركن أو نقصه يمكن التمسك بلا تعاد و لا وجه للتعدي إلى غيرها، و مع ذلك فالمسألة في نهاية الإشكال إلا ان يثبت الدليل على أن العمل الواقع صحيحا باجتهاد أو تقليد صحيح يرتب عليه آثار الصحة و لو بعد بطلان الطريق فيكون حال طريقه بعد اختلاف رأيه حال العمل الصادر من مجتهد بالنسبة لمجتهد آخر فإن الأخر يرتب آثار الصحة على موضوع صدر باجتهاد مجتهد غيره و ان كان مخالفا له في الرأي ألا ترى أنه يجوز له التصرف بالبيع و الشراء منه فيما اشتراه بالعقد الفارسي و تحرم عليه امرأة زوجها به. كذلك يكون حال نفسه بالنسبة إلى زمان الاجتهادين و الانصاف انه ليس ببعيد. و الجواب

عن ذلك قد عرفته مما تقدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 324

(السادس عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) فيما يخص وظيفة المجتهد (بالنسبة لإعمال غيره المخالف له في الرأي)

أن المجتهد بالنسبة لإعمال غيره بل و المقلد كذلك يتصور على صور أربعة:

(إحداها) أن يكون شاكا في مخالفة الغير له في حكم عمله. و في هذه الصورة يحمل عمله على الصحة لما تقدم ص 36 من ثبوت هذا الأصل و صحته. فإذا رأى شخصا قد بني مسجدا و شك في أنه بناء بالآجر المعمول من الطين النجس أو عقد على امرأة و شك في انه عقد عليها بالفارسية الذي هو في نظره فاسد حتى يصح له أخذها بنى على الصحة و حرم عليه أخذها.

(ثانيها) ان يعلم بمخالفته له اجتهادا أو تقليدا كما إذا كان المجتهد يفتي بجواز العقد بالفارسية أو جواز البيع بالمعاطاة و قد عقد هو أو أحد مقلديه بالفارسية أو باعوا بالمعاطاة فهل يجب على المجتهد الآخر المخالف له في الرأي أو مقلديه ترتيب آثار النقل و الانتقال على ذلك البيع بالمعاطاة و ترتيب آثار الزوجية على ذلك العقد بالفارسية أو عدم جوازه لاعتقاده الفساد مقتضى القاعدة عدم الجواز فلا يرتب آثار الزوجية و لا آثار الملكية لأنه يكون ما أتى به في نظر الغير خلاف الواقع. إلا ان الظاهر ان ما كان منها موضوعا للأثر إذا كان صحيحا عند فاعله فلا إشكال في وجوب الترتيب عليه كما يقال ان الطلاق الصحيح عند فاعله يرتب عليه أثر المفارقة و عدم الزوجية حتى ممن يرى فساده عنده و كما يقال في الائتمام بصلاة الجماعة بالنسبة للمأموم الذي خالفه الامام فيما يعتبر في الصلاة فإنه قيل يصح ائتمامه به لأن المعتبر في إمام الجماعة ان تكون صلاته صحيحة في نظره و

لا يلزم ان تكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 325

صحيحة في نظر المأموم. و اما ما كان منها ليس كذلك فالظاهر هو وجوب الترتيب أيضا لقيام الإجماع و لما ذكرناه في الدليل السابع عشر ص 297 من انه لا إشكال في ان يرتب آثار تلك العقود الفاسدة في المذاهب الأخرى مع انهم مكلفون بالواقع فبالطريق الأولى ان يرتب ذلك على آراء أهل المذهب الصحيح المخالفة للواقع.

و قد استدل هل أولا: بأن مؤدى الدليل قد أخذه الشارع ما دام ثابتا في حق من قام عنده و لم ينكشف له خلافه موضوعا لترتيب الآثار عليه ممن له تعلق بتلك الواقعة و لو كان رأيه مخالفا لمن قام عنده ذلك الدليل. و هذا ليس بعزيز في الشريعة بل له نظائر كثيرة كما في تقسيم الحاكم الدار الذي تداعيا فيها متداعيان مع ثبوت يدهما معا أو خروجها كذلك و تعارض بينتهما أو عجزهما عن البينة حيث يجوز للحاكم و غيره ترتيب آثار ملكيتهما و الشراء منهما معا مع العلم بعدم ملك أحدهما للنصف، و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم ذلك بل هو عين الدعوى، ان قلت ان الأدلة على اعتبار الظن مطلقة تقتضي أن يرتب آثار الواقع على مؤداها سواء كان من قام عنده الظن أو من لم يقم عنده الظن، قلنا لو سلمنا ذلك فهو لا ينفعنا في المقام لأن المجتهد الآخر لا يرى ان هذا الظن مما قام الدليل على اعتباره حتى يرتب عليه الآثار.

و قد يستدل له ثانيا ان حجية الامارة لما كانت بنحو السببية فتقتضي ثبوت الحكم في حق من قامت عنده و لازمه ترتيب الآثار عليها، و فيه مضافا

الى عدم تسليم هذا المبنى. ان من يقول بالسببية انما يقول بكون الامارة سببا لحدوث المصلحة في مؤداها بالنسبة لخصوص من قامت عنده دون غيره جبرا لما فاته من مصلحة الواقع و لو سلمنا ذلك فلا نسلم أن المصلحة الحادثة بسبب قيام الامارة وافية بمصلحة الواقع الفائت فلا وجه لمن انكشف عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 326

الواقع ان يرتب الأثر على غير الواقع الثابت بالأمارة عند الغير.

و قد يستدل له ثالثا: بأن الأصل هو حمل فعل المسلم على الصحة فإن المراد هو ترتيب آثار الصحيح عند الحامل و إلا فأي فائدة للحمل على الصحة عند الفاعل مع عدم ترتيب الآثار للصحة عند الحامل مع انا نراهم عند الاختلاف في الرأي اجتهادا أو تقليدا يحملون على الصحة من دون ملاحظة للاختلاف في الرأي ألا ترى ان العقود و الإيقاعات قد وقع فيها الخلاف بكثرة و مع ذلك فبناء العلماء و العوام على ترتيب آثار الصحة عليها من دون تفحص عن ذلك فلا بد ان يكون ذلك من جهة ما ذكرناه من ثبوت الصحة بالنسبة للحامل في الواقعة التي قد وقعت من المخالف له في الرأي و ان كان نفس الحامل لا يجوز له ان تصدر منه تلك الواقعة بهذا النحو لترتيب الأثر عليها، و فيه ان الحمل على الصحة انما هو في صورة الشك لا في صورة العلم بالمخالفة و لعل الشارع في تلك الصورة أمر بالحمل على الصحة من باب التخفيف على العباد أو لشي ء آخر فلا وجه لاستفادة ترتب الصحة في صورة العلم بالمخالفة (و يتفرع على ذلك) انه لو أخذ حق الامام عليه السّلام و الغير يرى انه يجب

إلقائه بالبحر فهل يجوز للغير معاملة الملك له و مثله إذا ذبح شخص ذبيحة بتقليد مجتهد فهل يجوز لمن خالفه الأكل منها أم لا و مثله ما لو بني المسجد من آجر معمول من الطين النجس اجتهادا أو تقليدا لمن يرى ان استحالته الى الآجر مطهرة له فهل يجب على الغير الذي لا يرى هذا الرأي قلع الحجارة و تخريب المسجد و عدم مسه برطوبة و عدم السجود عليه ممن يرى جواز السجود على الآجر و نظير ذلك من بنى على طهارة الغسالة اجتهادا أو تقليدا أو كفاية المرة في التطهير و خالفه الآخر اجتهادا أو تقليدا فبني على نجاسة الغسالة و عدم كفاية المرة فهل يجب على المخالف له بالرأي اجتنابه و هكذا لو عقد الابن على المرأة بالفارسية اجتهادا و تقليدا ثمَّ طلقها قبل الدخول بها و كان الأب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 327

يرى عدم صحة العقد بالفارسية اجتهادا أو تقليدا فبناء على ترتيب آثار الصحة لا يجوز للأب التزويج بها و بناء على العدم جاز التزويج بها و نحو ذلك و هذه الفروع و أمثالها ان كان الاختلاف فيها في المجعولات الشرعية فالحق كما ذكرناه من ترتيب آثار الصحة و ان كان الاختلاف فيها في الأمور الخارجية فلا وجه له لعدم وفاء الأدلة المذكورة بذلك و منه يعلم ان الطهارة و النجاسة ان كانت من المجعولات الشرعية بنى على الصحة و إلا فلا وجه له.

(ثالث الصور) ان يعلم مخالفته له و لكنه لا يدري ان عمله عن جهل أو تقليد أو اجتهاد أو عن غفلة كما لو رأى الذي يذهب الى فساد البيع بالمعاطاة ان زيدا قد اشترى

بالمعاطاة و لكنه قد شك في ان زيد اشترى بالمعاطاة عن جهل أو تقليد لمن يقول بصحتها أو اجتهاد بصحتها، و التحقيق انه إذا قلنا بالصحة في الصورة الثانية نبني على الصحة و نرتب آثار الصحة على ذلك لثبوت أصالة الحمل على الصحة و الالتفات للوظيفة فان العقلاء بانين على ذلك.

(رابع الصور) ان يعلم بمخالفته له و لكنه يعلم بأنه جاهل أو غافل و ليس بمجتهد و لا مقلد في عمله هذا كما لو عقد على زوجته بالفارسية جهلا أو غفلة و في هذه الصورة لا يجوز لمن يرى بطلان العقد بالفارسية ترتيب آثار الصحة على ذلك و ان كان عمل ذلك الجاهل مطابقا لأحد الأقوال في المسألة حيث ان مقتضى القاعدة هو عدم ترتيب الآثار لفساد المعاملة في نظره و ما تقدم من الدليل الدال على ترتيب الآثار على عمل المخالف هو الاعمال الصادرة منه عن وجه صحيح عنده لا مطلق الاعمال و هذا ليس عمله بصحيح عنده.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 328

(السابع عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) فيما يخص وظيفة المجتهد في الأمور (التي يقوم بها عن الغير المخالف له في الرأي)

ان الذي يقوم بعمل عن الغير اما ان يكون وكيلا عنه كما لو وكله في إجراء عقد أو إيقاع أو إعطاء زكاة أو خمس أو كفارة أو نحو ذلك فيجب ان يعمل بمقتضى رأى الموكل اجتهادا بل أو تقليدا لا بمقتضى رأيه اجتهادا أو تقليدا لأن وظيفة الوكيل إتيان ما كان فعليا من الواقع بالنسبة إلى موكله. و الفعلي. من الواقع بالنسبة إليه هو ما كان مؤدى لطريقة فإن الغرض من التوكيل للموكل هو ترتيب الآثار بحسب التكاليف المتوجهة إليه كبيع الدار و تزويج المرأة و أداء الزكاة و لا شك ان ذلك مرتب على ما كان من

الواقع فعليا بالنسبة اليه و ليس ذلك إلا ما أدت اليه حجته لا حجة الوكيل و الحاصل ان الوكيل بمنزلة الآلة الموصلة و لذا يصح إسناد المعاملة إلى الموكل و يكون هو المخاطب بترتيب آثارها و لان تصرف الوكيل انما هو بالاذن لا بالملك و الولاية فيلزم اقتصار المأذون على ما اذن فيه و من المعلوم انما اذن له فيما كان يراه مطلوبا منه فتكون وظيفة الوكيل إتيان ما هو مطلوب من موكله و المطلوب من موكله هو مؤديات الطرق و الأمارات الواصلة إليه دون الواصلة إلى الوكيل عنه (ان قلت) ان الواقع بالنسبة إليهما واحد و تكليف الوكيل هو إتيان الواقع بدل الموكل و طريق إحراز ذلك هو ما أدت الطرق و الأمارات الواصلة إليه فيجب ان يراعي ما هو طريق بالنسبة اليه و لو كان العمل للغير (قلنا) الوكيل انما هو وكيل عن الموكل في تحصيل الواقع بالنسبة للموكل لأنه المكلف بالعمل به ممن يريد شراء دار له و تزويج امرأة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 329

أو دفع زكاة يريد تحصيل ذلك على وجه جائز له فاذا وكل وكيلا في ذلك فهو انما وكله و أنا به عنه في هذا العمل بهذه الكيفية لا في عمل آخر أو كيفية أخرى فإنه لم يوكله في ذلك فيكون إتيانه بالعمل مخالفا لموكله إتيانا بغير ما هو وكيل فيه، نعم إذا جعل العهدة إليه بحيث يخرج عنها بمجرد إيصال المال اليه نظير إقباضه المجتهد بما هو ولي المستحق فيخرج من عليه الحق بمجرد إيصال المال اليه عن العهدة لكن هذا الفرض خارج عما نحن فيه فان كلامنا فيمن يؤدي ما يؤدي بعنوان الوكالة

لا بعنوان الولاية على مستحقه (ان قلت) أن الوكيل لا يتمشى منه قصد القربة في العبادات كالوكيل في إعطاء الزكاة أو الخمس أو الكفارة إذ لا يتمكن من قصد القربة بعمل قام الدليل عليه عنده بعدم كونه عباديا، (قلنا) تمشي القربة منه من هذه الجهة ليس بأشكل من تقربه بأمر الموكل مع ان بعضهم كأستاذنا كا (ره) كان يمنع من وجوب قصدها على الوكيل فلا يجب على الوكيل في أداء الزكاة و الخمس قصد القربة:

هذا مع علم الوكيل بالمخالفة للموكل. و اما مع شكه في المخالفة فالظاهر عدم وجوب الفحص و جواز إتيان العمل على طبق رأيه للسيرة القائمة على ذلك، (نعم) لو كان الموكل وكل الوكيل على العمل على طبق رأي الوكيل أو فوض الأمر لاختياره اتى بالعمل على طبق رأيه لا رأي الموكل، و اما ان يكون وصيا عن الميت فيمكن ان يقال كما هو رأي استاذنا كا (ره) و ابن عمنا الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ره) بوجوب رعاية رأيه اجتهادا أو تقليدا لا رعاية رأى الميت لأن الميت لا يقصد بوصايته له إلا رفع الوزر و العقاب عنه و تحصيل الثواب له فإنه لا ريب ان من يوصي باستئجار من يصلي عنه ليس غرضه من ذلك، إلا رفع ما توجه عليه من استحقاق العقاب و من المعلوم أن العقاب المتوجه اليه ليس إلا على الواقع الفائت عنه لا على مخالفة الطريق و الوصي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 330

يرى ان الواقع هو ما قامت الحجة عنده عليه لا ما قامت الحجة عند الميت عليه.

و لذا نحن نلتزم حتى في الوكالة في انه لو وكله على تحصيل الثواب له

و رفع العقاب عنه كان على الوكيل ان يأتي بالأعمال على طبق رأيه لا على طبق رأى الموكل ان قلت ان الوصية استنابة في التصرف بعد الموت و الميت انما يستنبط في العمل الذي يراه مفرغا لذمته و الذي يراه مفرغا لذمته هو ما طابق رأيه لا رأى الوصي، مضافا لما ذكره بعض المتأخرين من دعوى انصراف الوصية عرفا الى ما يراه الميت مفرغا لذمته كالوكالة. قلنا قد عرفت انه انما يستنيبه في فراغ ذمته من استحقاق العقاب و تحصيل الثواب و لا نسلم انصراف الوصية الى ذلك بل انما تنصرف الى ما ذكرناه من انها ارفع استحقاق العقاب و تحصيل الثواب (ثمَّ) انه لو أوصى الميت بالعمل على ما يوافق اجتهاده أو تقليده دون اجتهاد الوصي أو تقليده فهل على الوصي العمل إذا خالف رأيه و هل يجوز للأخير النيابة عن الميت في عمل يراه باطلا ذهب استاذنا كا (ره) الى ان خلافه للميت ان كان بالدليل الظني جاز ذلك و لا يجوز لو كان خلافه له بالدليل القطعي:

هذا كله مع معرفة الخلاف و مع الشك في ذلك فالظاهر عدم وجوب الفحص و صحة عمل الوصي برأيه للسيرة على ذلك، و اما ان يكون متبرعا عن الغير فهو يعمل بما يراه صحيحا عنده لا عند الغير لأنه إنما يتبرع لنيل الثواب للغير أو دفع العقاب عنه و هما انما يكونان مرتبين على الواقع و الواقع في نظر المتبرع هو ما قامت الحجة عنده عليه لا ما قامت الحجة عند الغير عليه و (الحاصل) انه انما يتبرع عنه فيما هو صحيح و مفيد عنده لا فيما هو باطل لديه و اما ان يكون وليا على

الغير كالولي على الغائب أو على الميت بقضاء العبادة عنه فالمتبع أيضا رأيه لا رأى الغير لأن الواجب هو إبراء ذمته و هو انما يكون مرتبا على تحصيل الواقع منه و الواقع انما يحصل منه بإتيان ما قامت الحجة عليه عنده فإنه هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 331

الواقع عنده. و اما ان يكون أجيرا عن الغير فهو يتبع رأى مؤجرة لأن المؤجر يجب عليه ان يأتي بما أوجر عليه فلو آجره على الحج عنه أو الزيارة عنه أتى بما هو رأي المؤجر و هكذا الوصي أو المتبرع أو الولي لو آجره عن الميت فإنه يأتي بالعمل على طبق رأى المؤجر لا رأى من استأجر عنه و هو الميت و ذلك لأن المؤجر يجب عليه أن يعمل بما آجره عليه و المؤجر ان كان آجره بما هو وصي فقد عرفت ان المتبع هو رأيه و ان كان هو المتبرع فالمتبع كما عرفت أيضا رأيه و ان كان الولي فالمتبع أيضا رأيه نعم لو كان المؤجر هو الوكيل فالمتبع هو رأى الموكل.

(الثامن عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) فيما يخص الأمور المتقومة بالطرفين (فيما إذا أراد فعلها مع الغير المخالف له في الرأي)

اشارة

إذا كان العمل متقوما بطرفين و كان أحدهما يخالف الآخر في الرأي اجتهادا بل أو تقليدا

[و فيه مقامان]
اشارة

فالكلام يتصور في مقامين أحدهما في المعاملات و الآخر في العبادات

[المقام الأول في المعاملات]

(اما الكلام في المعاملات) فنقول:

المتعاملان إذا اختلفا في شروط المعاملة كما إذا كان البائع يرى صحة المعاطاة مثلا اجتهادا أو تقليدا و المشتري يرى بطلانها اجتهادا أو تقليدا فذهب بعضهم كالسيد (ره) في عروته الى بطلان البيع حتى بالنسبة للبائع و ذهب جملة من الأصحاب إلى صحته بالنسبة لمن يراه صحيحا و بطلانه بالنسبة لمن يراه باطلا ففي المثال المذكور يكون صحيحا بالنسبة إلى البائع و باطلا بالنسبة للمشتري نظير سائر الموضوعات الخارجية التي يختلف فيها اجتهادا و تقليدا كماء الغسالة فإنه بالنسبة لمن يقول بطهارته طاهر و بالنسبة لمن يقول بنجاسته نجس و هكذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 332

الكثير من الموضوعات المختلف فيها و قد نقل هذا القول جدي الهادي (ره) عن الشيخ الأنصاري (ره) في تعليقته على بغية الطالب و بعضهم ذهب الى الصحة بالنسبة للجميع، و بعضهم احتمل التفصيل في المقام بين صورة ما إذا كان العقد فاسدا على مذهبهما أو مجمعا على فساده لعدم القائل بصحة هذا العقد كما لو اعتبر أحدهما العربية دون إلحان و الآخر اعتبر عدم الالحان دون العربية فأتى الأول بالعربي الملحن و الثاني بغير العربي الغير الملحن فان العقد يكون فاسدا على كلا المذهبين اما الأول فلعدم العربية في القبول و اما الثاني فللالحان في الإيجاب ففي هذه الصورة يحكم بفساد العقد بالنسبة للجميع و هكذا في صورة ما إذا كان العقد لم يقل بصحته أحد كما لو فرضنا انه لم يقل أحد بصحة العقد الفارسي الذي يقدم فيه القبول على الإيجاب و كان أحدهما يذهب الى جواز تقديم القبول

و الآخر الى جواز العقد بالفارسية فالذي يذهب الى جواز التقديم للقبول قدم القبول و الذي يذهب الى جواز الفارسية نطق بالفارسية في الإيجاب فصار العقد مقدما بالقبول مع وقوع الإيجاب بالفارسية و هو لم يقل أحد بصحة مثله، و إن ما عدى ذلك فهو صحيح. (اما القول الأول) الذي ذهب اليه السيد (ره) من بطلان العقد بالنسبة لكل منهما.

(فقد أستدل له أولا) بأن العقد متقوم بالطرفين فاللازم ان يكون صحيحا من الطرفين فلا يجوز لأحدهما الأكل إلا بعد صحته من الطرفين فمع اعتقاد أحدهما بطلانه و لو ببطلان أحد جزئية لا يجوز له ترتيب الأثر و انما يتم ما ذكره الخصم من الصحة بالنسبة للبائع لو كان المؤثر في حق البائع لجواز الأكل الإيجاب الصحيح و بالنسبة للمشتري القبول الصحيح و ليس كذلك إذ المؤثر المجموع و هو فعل كل واحد منهما و (بالجملة) البيع فعل واحد تشريكي و لا بد من كونه صحيحا في مذهب كل منهما ليمكن ترتيب الأثر عليه، و لا يخفى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 333

ما فيه فانا نقول بانا نسلم بأنه يلزم ان يكون صحيحا من الطرفين و هو في نظر البائع كذلك فإنه في نظره صحيح من الطرفين نعم في نظر المشترى ليس كذلك فللبائع أن يرتب آثار الصحة و قوله انما يتم ما ذكره الخصم من الصحة بالنسبة إلخ. لا يخفى ما فيه فان المؤثر لجواز الأكل في حق البائع هو صحة العقد من الطرفين في رأيه اجتهادا أو تقليدا و ان كان الطرف الآخر لا يراه صحيحا في مذهبه و قوله و بالجملة إلخ. لا يخفي ما فيه فان كون البيع فعلا

تشريكيا لا يلزم منه ان يكون صحيحا على مذهب كل من الطرفين و انما يلزم ان يكون صحيح الإيجاب و القبول فلو كان صحيحهما عند كلا الطرفين رتب كل منهما آثار الصحة و لو كان صحيحهما عند أحدهما رتب ذلك الصحة.

(و قد يستدل له ثانيا) بما حاصله ان العقد مركب من الإيجاب و القبول بنظر الشارع فهو عند الشارع أمر واحد مركب منهما قد رتب عليه الأثر و هو النقل و الانتقال و جواز الأكل فعند بطلان أحد جزئية لا محالة يبطل الكل لأن الكل متقوم باجزائه فينتفي بانتفاء أحد أجزائه فاللازم ان يكون صحيحا من الطرفين حتى يتحقق الكل، و لا يخفى ما فيه فانا نسلم ذلك و لكنا نقول ان البائع يرى ان الكل الذي رتب عليه الشارع قد تحقق و انه كان صحيحا من الطرفين في رأيه. نعم الطرف الآخر لا يرى ذلك.

(و قد يستدل له ثالثا) بما حاصله ان العقد ان كان في الواقع صحيحا وجب ترتيب الأثر عليه من الطرفين و يكون صحيحا من الطرفين و ان كان في الواقع فاسدا حرم ترتيب الأثر عليه من الطرفين و يكون فاسدا من كل منهما فلا يعقل ان يكون فاسدا بالنسبة لأحدهما و صحيحا بالنسبة إلى الآخر، و جوابه قد عرفته مما سبق من انه بالنسبة إلى الحكم الواقعي كذلك و لكن في الظاهر يجوز ذلك فان ذلك غير عزيز في الموضوعات الخارجية فالماء قد يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 334

طاهرا بالنسبة إلى شخص بواسطة قاعدة الطهارة و نجس بالنسبة لآخر بواسطة الاستصحاب و عليه فمن يرى العقد صحيحا تصرف فيما انتقل اليه و من رآه فاسدا امتنع

عن ذلك و مع التنازع يرجع للقضاء.

(و أما القول الثاني) و هو الصحة بالنسبة لمن يراه صحيحا و الفساد بالنسبة لمن يراه فاسدا فقد ذهب اليه المرحوم الشيخ الأنصاري كما يظهر ذلك من جدي الهادي في تعليقته على المكاسب حيث نقل عن تعليقة المرحوم الأنصاري على بغية الطالب انه قال ان المعاملة المذكورة صحيحة بالنسبة إلى المقلد في صحتها فاسدة بالنسبة إلى الآخر و لا تبعيض في العقد بل هو من تعدد الحكم الظاهري بالنسبة إلى مكلفين مختلفين في التقليد و نظيره شائع انتهى كما انه قد ذهب اليه جل المتأخرين و يمكن أن يستدل له بأن الأدلة الدالة على وجوب ترتيب الأثر في العقود اللازمة أو جواز ترتيبه في العقود الجائزة تكون في نظر من يراه صحيحا من أحد الطرفين شاملة لهذا العقد فيكون بحسب الأدلة المال المنتقل اليه ملكا له و يجوز له التصرف فيه و المال المنتقل عنه يحرم عليه التصرف به لخروجه عن ملكه، و اما الطرف الثاني فهو يرى ان تلك الأدلة غير شاملة لهذا العقد فهو غير صحيح و ان المال لم ينتقل اليه و انه يحرم تصرفه فيه و مع التنازع يرجع لحاكم الشرع فيعمل بحكمه و رأيه و ان كان مخالفا لرأي أحدهما:

و قد أورد على هذا القول: أولا: بأنه يلزم منه ان تكون المعاملة الواحد صحيحة بالنسبة الى أحد طرفيها فاسدة بالنسبة إلى الطرف الآخر مع انها في الواقع اما فاسدة أو صحيحة فلا يعقل التفكيك بين الطرفين في الصحة و الفساد و قد أجاب عنه الشيخ الأنصاري (ره) في ما هو المحكي عن تعليقته على بغية الطالب بما حاصله انه تفكيك في الحكم الظاهري دون

الواقعي فهي في الواقع كما ذكره الخصم لكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 335

في الحكم الظاهري تكون صحيحة بالنسبة لأحد الجانبين ظاهرا لقيام الأدلة على صحتها عنده و فاسدة بالنسبة للجانب الآخر ظاهرا لعدم قيام الأدلة على صحتها عنده و هذا يوجد بكثرة في الموضوعات الخارجية التي هي محل اختلاف بين العلماء.

و أورد على هذا القول ثانيا: بأن مع الاختلاف في الرأي بين المتعاملين لا يتحقق الإنشاء من الآخر فاذا كان المشتري يرى بطلان العقد بالفارسية و البائع قد أوقعه بالفارسية فكيف يعقل ان ينشأ المشتري القبول لهذا الإيجاب الباطل الغير المؤثر في النقل في نظره و عقيدته فتكون المعاملة فاسدة لعدم تحقق إنشاء القبول. و هكذا لو قدم القبول من يرى جواز تقديمه فلا يعقل أن ينشأ الإيجاب بعده من يرى فساد ذلك و عدم تأثيره و جوابه ان العلم بالفساد لا ينافي الإنشاء فإن الربا يعلم بفساده مع انه يتحقق الإنشاء و هكذا بيع الخمر و نحو ذلك، سلمنا لكن نفرض ان البائع يرى اشتراط العربية فإنشاء بالعربية و المشتري لا يرى ذلك فإنشاء بالفارسية فالعقد يكون صحيحا في نظر المشتري لتحقق الإنشاء الجدي من كليهما مع ان البائع لا يراه صحيحا لوقوع أحد جزئي العقد بغير العربية.

و قد يورد عليه ثالثا: انه بناء على السببية يكون الإيجاب الفارسي ممن اعتقد صحته من الأدلة سببا ظاهريا مؤثرا حقيقة في النقل و الانتقال في مرحلة الظاهر بحسب جعل الشارع و يكون قيام الامارة على ذلك في حكم الإيجاب الصحيح واقعا فان مبنى السببية في الأمارات هو ذلك. و حينئذ فيصح للقابل أن يكتفي بذلك و يصدر منه القبول و ان كان

في نظره ليس بصحيح لأنه بناء على السببية يكون الشارع قد جعل الإيجاب مؤثرا جعلا حقيقيا غاية الأمر انه كان جعلا ظاهريا فيكون قيام الامارة بمنزلة وجود ملاك فيه يقتضي كونه مؤثرا نظير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 336

تأثير الإيجاب الصحيح فالقابل حينئذ يراه سببا مؤثرا صحيحا غاية الأمر أنه بحسب الظاهر بواسطة جعل الشارع له مؤثرا نظير جعل الشارع لحكم الحاكم مؤثرا حتى لمن خالفه في الفتوى فللقابل ان يكتفي به و يصدر منه القبول نظير ما يكتفي بالإيجاب الصحيح عنده فيكون اعتقاد أحد الطرفين بصحة ما يصدر منه بواسطة قيام الامارة يؤثر في صحة العقد من كل منهما. و عليه فيكون العقد صحيحا عند الطرفين و يرتب عليه الأثر من كل منهما و من كل احد غيرهما لأنه عقد صحيح عند كل منهما.

نعم لو لم نقل بالسببية و قلنا ان قيام الامارة لا يوجب إلا العذر و عدم استحقاق العقاب عند المخالفة فليس للطرف الثاني الاكتفاء به لأن قيام الامارة لا يوجب إلا معذوريته في ترتيب اثر الواقع و لا يوجب جعل المؤثرية للنقل و الانتقال فلا يصح من الطرف الآخر أن يكتفي به لعدم معذوريته لقيام الدليل عنده على فساده. و لا يخفى ما فيه فانا لو قلنا بالسببيّة في الامارات و الأصول فإنما نقول بها بالنسبة الى من قامت عنده فالشارع انما يجعل المؤثرية بالنسبة الى من قامت عنده الامارة و لم يجعلها حتى بالنسبة لمن لم تقم عنده الامارة إلا إذا دل الدليل على ان موضوع تكاليف الآخرين هو تكليفه.

و يرد عليه رابعا: ان الصحة في نظر الفاعل تكفي في المعاملات و العبادات كما يكفي في صحة

الجماعة الصحة في نظر الإمام فإذا كان الموجب يرى إيجابه صحيحا كفى ذلك في صحة العقد و صح للطرف الآخر ان يرتب عليه القبول و ان كان في نظره ان الإيجاب فاسد و ذلك للسيرة العملية فإنه مع كثرة الاختلاف في المعاملات لا تجد المسلمين في مقام المعاملة يتفحصون عن مخالفة الطرف الآخر لهم في الرأي و يبني كل منهم على صحتها مع سكوت الأئمة عليهم السّلام عن ردعهم، و جوابه انا لا نسلم تحقق السيرة على ذلك كيف و المعاملات المتداولة نوعها معلوم صحته عند الطرفين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 337

و في مقام الشك يحتاطون.

و اما القول الثالث فقد ظهر دليله و جوابه من الإيراد الثالث و الرابع على القول الثاني.

و اما القول الرابع فدليله هو ان في الصورة الأولى يعلم كل من الطرفين بالفساد و في الصورة الثانية يكون الإجماع قائما على فساد العقد. و جوابه انه في الصورة الأولى مسلم إلا إذا قلنا بالسببية كما ذهب اليه الخصم في الإيراد الثالث على القول الثاني كان العقد صحيحا لأنه قد صدر من كل منهما ما هو صحيح في نظره فيكون العقد صحيحا من الجانبين.

و اما الصورة الثانية فلما ذكره جماعة من ان الاتفاق على الفساد الناشئ من اجتماع عناوين على شي ء واحد كل أفتي بعنوان غير العنوان الذي أفتى به صاحبه و بتصادق تلك العناوين على ذلك الشي ء صار ذلك الشي ء موردا للاتفاق فان هذا الاتفاق لا يعتد به عندهم لتخطئة كل من المفتين صاحبه في الفتوى نظير اتفاق من يعتبر الفقاهة مثلا في الإمام دون العدالة و من يعتبر العدالة دون الفقاهة و من يعتبر الهاشمية دون العدالة

و الفقاهة فإنهم يتفقون في فساد امامة الفاقد لهذه العناوين الثلاثة هذا كله في المعاملات الواقعة بين الطرفين المختلفين في الرأي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 338

[المقام الثاني] (العبادة الواقعة) بين المختلفين في الرأي

(أما الكلام في العبادات الواقعة بين الطرفين المختلفين في الرأي) كما لو ائتم أحد المجتهدين بالآخر الذي يرى صلاته باطلة أو مقلد أحدهما بالآخر كما لو تستر الامام بالسنجاب و نحوه مما يرى المأموم عدم جوازه و كما لو غسل أحد المجتهدين يد الآخر للوضوء بما يصح عنده دون ذلك الآخر أو يممه كذلك بناء على جواز ذلك أو دفع له مال الزكاة أو الخمس لأنه في نظره يجوز له الدفع له و المدفوع له لا يرى صحة ذلك أو اشترك معه في ذبح الهدى فذبحه بنحو لا يرى الآخر صحته بأن فرى ودجا واحدا منه الى غير ذلك من الأمثلة و مقتضى القاعدة عدم الصحة من الطرف الذي لم تصح عنده لما تقدم في المعاملات و لكن في الصلاة جماعة قد تكلم القوم في صور ثلاثة:

(الأولى) صورة ما إذا علم المأموم بفساد صلاة الإمام بعد انتهاء الصلاة فالظاهر الصحة بل ظاهر كثير الإجماع على الصحة لو تبين كفر إمام الجماعة بعد انتهاء الصلاة و فيه الحجة على الصحة لو تبين غيره من الموانع مضافا الى الاخبار الصحاح الدالة على صحة صلاة من أمهم شخص ثمَّ تبين بعد ذلك انه يهودي أو نصراني أو على غير طهر أو الى غير القبلة و لا يصغي لما يعارضها من ضعاف الأخبار أو الدلالة.

(الثانية) صورة ما لو تبين للمأموم ذلك في أثناء الصلاة فالمنسوب للمشهور جواز الانفراد عنه دون الاستئناف لأن كل ما دل على صحة صلاة

النور الساطع

في الفقه النافع، ج 1، ص: 339

المأموم إذا تبين له ذلك بعد الفراغ يدل على صحة ما أوقعه مع الامام من اجزاء الصلاة لأن ما لا يمنع من صحة الكل أولى بأن لا يمنع من صحة الجزء فيتمها منفردا و لصحيح جميل عن الصادق عليه السّلام في رجل أم قوما فذكر انه على غير وضوء فانصرف و قدم رجلا و لم يدر المقدم ما صلى الامام قبله قال (ع) يذكره من خلفه. و رواية زرارة عن أحدهما عليه السّلام في رجل صلي بقوم ركعتين فأخبرهم انه لم يكن على وضوء قال عليه السّلام يتم القوم صلاتهم فإنه ليس على الامام ضمان.

(الصورة الثالثة) ان تكون صلاة الإمام في نظر المأموم فاسدة قبل الشروع في الصلاة فالمحكي عن الجواهر نفي البعد عن جواز ائتمام المجتهد أو مقلده بالمخالف له في الفروع مع استعماله محل الخلاف في الصلاة كما لو تستر الامام بسنجاب و نحوه مما يرى المأموم عدم جوازه، و قد يفصل بين ما لو ثبت خطأ الإمام بدليل علمي و بين ما لو كان بدليل ظني فلا يجوز في الأول للقطع بطلان صلاته دون الثاني فإنه يحتمل صحة صلاته في الواقع فيحملها على الصحيح لأصالة الصحة في فعل الغير. و كون ظن المأموم حجة انما هو فيما يتعلق بعمل نفسه لا بعمل الغير لعدم الدليل عليه فبالنسبة إلى عمل الغير يعمل على حسب ما تقتضيه أصالة الصحة، و قد يفصل بين ما إذا بني على ان الحكم الظاهري هو تكليف واقعي ثانوي كتكليف فاقد الماء بالطهارة الترابية أو تكليف عذري طريقي لمجرد التسهيل فعلى الأول يصح الائتمام به لأنه يكون الامام قد أتى بالصلاة المطلوبة منه

واقعا فيصح الائتمام به كما يصح الائتمام بالمتيمم و على الثاني لا يصح ذلك لأنه يكون في نظر المأموم ما أتى به ليس بصلاة في الواقع و الاقتداء لم يشرع إلا بالمصلي و هو ليس بمصلي في الواقع في نظر المأموم و (دعوى) ان المأموم إنما يرى صلاة الإمام باطلة بواسطة الامارة و الامارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 340

انما هي حجة بالنسبة لعمل نفسه لا عمل غيره فهي لا تدل على فساد صلاة الإمام (باطلة) فإن الامارات حجة لمن قامت عنده على العمل سواء كان صادرا منه أو من غيره و (التحقيق) ان يقال ان الميزان ان تكون صلاة الإمام عند المأموم صحيحة واقعا و لو بأصالة الصحة فمثلا إذا كان المأموم قد رأى الامام انه قد ترك شرطا أو جزء في نظر ذلك المأموم انه شرط علمي لا يضر بالصلاة لو ترك سهوا كما لو جهر الامام سهوا في موضع الإخفات أو بالعكس أو كان المأموم يرى ان التكليف الظاهري تكليف واقعي ثانوي فإنه حينئذ يكون المأموم يرى ان الامام يأتي بالصلاة الواقعية في حقه فتكون الصلاة صحيحة و إلا فهي باطلة لأنه يرى نفسه قد اقتدى به في عمل ليس هو بصلاة عنده إلا أن يقوم دليل على المنع في مورد خاص كائتمام القائم بالقاعد و نحوه ان قلت: ان الصلاة واحدة مشتركة بين الامام و المأموم و يكون المأموم بمنزلة من أخل بواجب في الصلاة عمدا لا لعذر كما عن الإيضاح قلنا:

لا نسلم ذلك بل هما صلاتان لا اشتراك بينهما إلا فيما يتحمله الامام من القراءة فاذا كان إخلال الإمام عائدا لمحل الاشتراك لعذر لا يوجد في المأموم

بطل الائتمام و إلا فلا.

(التاسع عشر من أحكام المجتهد و الاجتهاد) الولاية العامة له

اشارة

الولاية بالكسر هي الامارة و السلطنة و هي تارة تكون على جهة خاصة و هي السلطنة على التصرف بالشي ء بنحو خاص كالمتولي على التصرف بمال القصير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 341

بنحو الإيجار و الاستيجار فقط و تسمى هذه بالولاية الخاصة و تارة تكون على جهة العموم و هو السلطنة على التصرف بالشي ء بأنحاء التصرفات المشروعة كما لو جعل له الولاية على التصرف بمال القصير بما فيه المصلحة للمولّى عليه من البيع و الإجارة و الصلح و نحو ذلك و تسمى هذه بالولاية العامة و لا يهمنا اطالة البحث في ذلك و انما المهم انه وقع النزاع بين الفقهاء في أن الولاية المجعولة للفقيه الجامع لشرائط المرجعية هي الولاية الخاصة في موارد مخصوصة كالرجوع إليه في الفتيا و قطع الخصومات و كل مورد قام الدليل على ولاية الفقيه فيه بحيث لو شك في مورد انه له الولاية فالأصل عدمها أو ان المجعول للفقيه الولاية العامة بمعنى ان المجعول له هو الولاية العامة المجعولة للإمام بحيث تكون الولاية ثابتة له في كل مورد إلا إذا قام الدليل على عدمها و لا نحتاج في ثبوتها للفقيه في موارد الشك في ثبوتها الى دليل خاص فيكون الأصل هو ثبوتها في كل مورد شك في ثبوتها فيه إلا إذا كانت الشبهة مصداقية كما سيجي ء إنشاء اللّه، و الحق هو الثاني و ان الفقيه الجامع للشرائط قد جعل اللّه له من الولاية ما جعله للإمام عليه السّلام فيثبت للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة المقدار الثابت للإمام عليه السّلام من السلطة الدينية و السلطنة الزمنية و الولاية العامة لأمور الناس و الرئاسة

المطلقة و الزعامة الشاملة فيما يخص تدبير شؤون المسلمين العامة الداخلية و الخارجية الدينية و الدنيوية و ما يرجع لمصالحهم و ما يتوقف عليه نظم البلاد و انتظام العباد و رفع الفساد بالنحو الذي هو ثابت للإمام ففي الموارد التي يكون للإمام الإذن فيها يكون للفقيه الاذن فيها و في الموارد التي يكون للإمام التصرف فيها يكون للفقيه ذلك، و (الحاصل) انه قد جعل اللّه تعالى للفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة الكبرى كلما جعله تعالى للإمام عليه السّلام بما هو امام يرجع إليه في شؤون تدبير الملة دينا و دنيا لا بما هو مبلغ لأحكام اللّه تعالى فإنه بالصفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 342

الثانية لا بد من إظهار المعجزة لصدقه. و العصمة لعدم خطأه. و ازالة حب الدنيا عن نفسه لرفع التهمة عنه في التبليغ. و لا بما يرجع لتعظيمه و احترامه و محض إكرامه و انما جعل اللّه تعالى للفقيه كلما جعله للإمام عليه السّلام من حيث رئاسته على كافة الأنام و سلطنته على سائر العباد و إدارته لأمور الملة و إمامته لقيادة الأمة لتنفيذ القوانين الدينية و تدبير الشؤون الحيوية و الفقهاء (ره) عبروا عن هذه الحيثية للإمام عليه السّلام بالولاية. و هي التي من آثارها الإفتاء و القضاء و قبض ما يعود لمصالح المسلمين كأموال الخراج و المقاسمة و الأوقاف العامة و النذور و الجزية و الصدقات و مجهول المالك و اللقطة قبل التعريف، و قبض ما يعود للإمام (ع) من الأموال كحق الامام و الأنفال و أرث من لا وارث له.

و الولي للوصايا مع فقد الوصي و للأوقاف مع فقد المتولي، و حفظ أموال الغائبين و

اليتامى و المجانين و السفهاء و التصرف بما فيه المصلحة لهم حفظا أو إجارة أو بيعا أو نحو ذلك: و جعل بيت المال و نصب الولاة على الأمصار و الوكلاء و النواب و العمال المعبر عنهم في لسان الفقهاء بالأمناء. و تجنيد الجنود و الشرطة للجهاد و لحفظ الثغور و منع التعديات و حماية الدين و اقامة الحدود على المعاصي و التعزيرات على المخالفات. و اعاشتهم و تقدير أرزاقهم و تعيين رواتبهم و نصب القضاة لرفع الخصومات، و حمل الناس على مصالحهم الدينية و الدنيوية كمنع الغش و التدليس في المعايش و المكاييل و الموازين و كمنع المضايقات في الطرقات و منع أهل الوسائط من تحميلها أكثر من قابليتها و الحكم على المباني المتداعية بهدمها أو ازالة ما يتوقع من ظررها على السابلة و ضرب السكة و امامة الصلاة و إجبار الممتنع عن أداء الحقوق الخالقية و المخلوقية و قيامه مقامه في أدائها. و إجبار المحتكر و الراهن على الأداء و البيع. و إجبار الشريك على القسمة و إجبار الممتنع عن حضور مجلس الترافع و الخصومة و تسير الحج و تعيين يوم طلوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 343

الأهلة و الجهاد في سبيل اللّه و إصلاح الجسور. و فتح الطرق و حفر الترع و صنع المستشفيات و سياسة الرعية و إعطاء الراية و العلم و اللواء. و تقسيم الغنيمة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و قد أعطى جدي كاشف الغطاء (ره) الأذان للسلطان (فتح علي شاه) في أخذ ما يتوقف عليه تدبير المملكة من الحقوق الشرعية و الأخذ من الأموال للدفع عن بلاد الإسلام كما أمر بوجوب طاعته و عدم

مخالفته في الجهاد لأعداء الرحمن و قد جعله نائبا عنه في إدارة شؤون مملكة إيران و أوجب على الشعب الايراني إطاعته في جهاده الاعداء و أذن له الأخذ من الزكاة و الخراج في تدبير جنوده و عساكره و ان لم تفي أخذ من أموالهم بقدر ما يدفع به العدو عن أعراضهم و دمائهم

و الدليل على ثبوت الولاية للمجتهد الجامع للشرائط أمور:
(الأول) العقل:

حيث ان العقل الحاكم بوجوب نصب اللّه الامام لحفظ البلاد و انتظام أمر العباد من حيث الأمور الدينية و الدنيوية يحكم بوجوب نصب من يقوم مقامه عند غيبته و عدم تمكن وصول الملة اليه و عدم تيسر مراجعة الناس في شؤونهم لديه ليكون مرجعا للعباد و رافعا للظلم و الفساد إذ لو لا النصب لاختل نظام العباد و استولي الظلم و الفساد كما يحكم بوجوب نصب من ينوب عنه (ع) في البلاد النائية و الأمصار البعيدة التي يتعسر أو يتعذر مراجعتها في كل شؤونها له في زمن حضوره و ظهوره، و كما ان العقل حاكم بوجوب ان يكون الإمام أفضل الرعية معرفة بالأمور الدينية و ابصرهم بتدبير شؤونهم الدنيوية مع تلبس بتقوى و ايمان يمنعانه عن الخروج عن حدوده الدينية و يستكشف من كون الشخص الذي هو أفضل زمانه في ذلك أنه منصوب للإمامة عليهم، كذلك يحكم العقل بوجوب أن يكون الشخص النائب مناب الامام و الساد مسده و القائم مقامه عند غيبتة أفضل الرعية معرفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 344

بالأمور الدينية و أبصرهم تدبيرا بالشؤون الدنيوية مع تقوى و ايمان يمنعانه عن الخروج عن الحدود الدينية و يستكشف من كون الشخص الذي هو أفضل الرعية في ذلك أنه المنصوب و النائب عن الامام (ع) عند غيبته

و انقطاعه عن الناس. و الحاصل انه لا ريب في ولايته في تدبير الشؤون الكلية الداخلية و الخارجية الدينية و الدنيوية التي تكون وظيفة من له الرئاسة و الزعامة العامة و اما الأمور الجزئية الخاصة المتعلقة بالأشخاص و لا تعلق لها بذلك كبيع دار و تزويج امرأة و غير ذلك من التصرفات فلا يدل العقل على ولايته على التصرف فيها. نعم لو كانت تتعلق بها المصلحة العامة كما لو فرض أن المصلحة العامة اقتضت أخذ دار زيد لجعلها مركزا للدفاع عن المسلمين كان له الولاية على ذلك. ان قلت ان الدليل المذكور يثبت ان الفقيه الجامع للشرائط منصوب من اللّه تعالى مع أن من قال بنصبه قال بنصبه من قبل الامام (ع) مضافا الى ان الوارد عن الامام (ع) انهم حجتي عليكم. قلنا ان الامام لا يجعل شيئا بدون جعل اللّه تعالى له و انما نسب نصبه الى الامام (ع) باعتبار نيابته عنه و ان الامام هو الواسطة في جعله كما ان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الواسطة في جعل الامام (ع). فكون الامام خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نائبا عنه و وصيه لا ينافي ان هذه الخلافة و النيابة و الوصاية تكون من اللّه تعالى للإمام. و نظير ذلك جعل الإمام للإمام بعده، ان قلت ان ذلك لا يصح من الفقيه لما دل من الآيات و الروايات على نفوذ تصرف البالغين في نفوسهم و أموالهم و ثبوت السلطنة لهم و أما ما دل على أولوية الإمام بالمؤمنين من أنفسهم فمن جهة الرأفة بهم و الرحمة عليهم، قلنا ان الدليل العقلي مخصص لتلك الأدلة و

إلا لزم الهرج و المرج لعدم من يقوم بأمور المسلمين على وجه به ينتظم معاشهم و معادهم، و الامام الغائب لا يمكن الرجوع له في ذلك فيتعين الرجوع الى الفقيه للإجماع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 345

بل ضرورة المذهب على عدم الرجوع لغير الفقيه و لأن غير الفقيه غير عالم بالأمور الدينية و المسائل الشرعية التي تتجدد موضوعاتها بتطور الزمن. مضافا الى أن هناك أمورا يريد الشارع إيجادها في الخارج و لا يمكن حصولها إلا بمراجعة الرئيس فلو لم ينصب لنا رئيسا لزم نقض الغرض لفرض مطلوبية تلك الأمور منا، و يرشد لهذا الدليل ما عن العلل بسنده عن أبي الفضل بن شاذان عن مولانا أبي الحسن الرضا (ع) في حديث قال فيه فان قال فلم وجب عليهم معرفة الرسل و الإقرار بهم و الإذعان لهم بالطاعة قيل له لأنه لما لم يكن في خلقهم و قولهم ما يكملون به مصالحهم و كان الصانع متعاليا عن أن يرى و كان ضعفهم و عجزهم عن إدراكه ظاهرا لم يكن بدا بينه و بينهم معصوم يؤدي إليهم أمره و نهيه و أدبه و يوقفهم على ما يكون فيه إحراز منافعهم و دفع مضارهم إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به و ما يحتاجون اليه من منافعهم و مضارهم فلو لم يجب عليهم معرفته و طاعته لم يكن في مجي ء الرسول منفعة و لا سد حاجة و لكان إثباته عبثا بغير منفعة و لا صلاح و ليس هذا من صفة الحكيم الذي أتقن كل شي ء فان قال فلم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم فقل لعلل كثيرة منها ان الخلق لما وقفوا على محدود

و أمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي و الدخول فيما حضر عليهم لأنه ان لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذته و منفعته لفساد غيره فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الاحكام و منها انا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملة من الملل عاشوا و بقوا إلا بقيم و رئيس لما لا بد لهم من أمر الدين و الدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم ان يترك الخلق مما يعلم انه لا بد لهم و لا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم و يقسمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمتنع ظالمهم من مظلومهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 346

و منها أنه لو لم يجعل لهم اماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة و ذهب الدين و غيرت السنة و الاحكام و الزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شبهوا ذلك على المسلمين لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتت أنحائهم فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفسدوا على نحو ما بينا و غيرت الشرائع و السنن و الأحكام و الايمان و كان في ذلك فساد الخلق أجمعين، و قد أشار الى ذلك أيضا أمير المؤمنين عليه السّلام فيما روي عنه انه لا بد من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن و يتمتع فيها الكافر و يقاتل بها

العدو و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به و يستراح من فاجر، فإنه إذا ثبت لابدية ذلك فلا بد أن يجعله اللّه تعالى و جعله انما يكون للبر لا للفاجر و للفقيه المستجمع لشرائط الزعامة الدينية و الدنيوية دون غيره لحسن خبرته بالدين و لعدم تعديه على حقوق الآخرين، و يرشد أيضا لذلك ما روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ما زالت الأرض إلا و للّه فيها الحجة يعرف الحلال و الحرام و يدعوا الى سبيل اللّه، و المروي عن إكمال الدين عنه عليه السّلام انه قال انه تبارك و تعالى لم يدع الأرض إلا و فيها عالم يعلم الزيادة و النقصان و لو لا ذلك لالتبست على المؤمنين أمورهم، و الحجة و العالم في هذين الروايتين لا يحملان على الإمام الغائب (ع) لأنه في وقت غيبته لا تعرف الناس مسائلهم و لا يدعوهم إلى أحكامهم و لا يبين لهم أمورهم.

الثاني الذي استدل به على الولاية العامة للمجتهد الكتاب

و الذي استدل به منه آيتان: (إحداهما) و قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فإنها بمقتضى عموم الخطاب فيها لكل زمان حتى زماننا ان يكون في زماننا وليا للأمر و ليس في زماننا هذا غير الفقيه الجامع للشرائط يصلح ان يكون وليا للأمر لأنه الذي له الأهلية لأن ترجع الناس إليه في أمورهم المعادية و المعاشية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 347

لا سيما الأمور المتجددة الحادثة و لعدم القائل بغيره. و أما دعوى ان الحجة عليه السّلام هو ولي الأمر في هذا الوقت فهي مسلمة و لكن لا يمكن الرجوع اليه و إطاعته في الأمور الحادثة المتجددة، هذا

مضافا، الى أن ما في التوقيع الشريف الذي سيجي ء إنشاء اللّه تعالى من قوله عليه السّلام: (و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا) يدل على ان الفقهاء ولاة الأمر في هذا العصر فاذا ضممنا ذلك الى الآية الشريفة بأخذ الصغرى من التوقيع و الكبرى من الآية ظهر لك وجوب اطاعة الفقهاء في هذا العصر و هو ملازم لولايتهم بل لدى الحقيقة انا لا نقصد من البحث عن الولاية لهم إلا إثبات وجوب إطاعتهم. و (ان شئت قلت) ان التوقيع الشريف يثبت وجوب الرجوع للفقهاء في هذا العصر و الآية الكريمة تثبت وجوب الإطاعة لولاة الأمر فلا بد ان يكون الفقهاء ولاة الأمر و إلا لما وجب الرجوع إليهم. هذا و لكن التوقيع لو كان ثابتا أغنانا عن ذلك كله و سيجي ء إنشاء اللّه التعرض له في الاخبار الدالة على الولاية و (كيف كان) فالاستدلال بهذه الآية الشريفة مبني على ان تفسير أولي الأمر بالمعصومين عليهم السّلام في الروايات من باب بيان المصداق في عصر تفسيرها نظير ما قلناه في تفسير أهل الذكر في قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)* بالأئمة عليهم السّلام.

و (ثانيهما) قوله تعالى الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ بتقريب منا: و هو انه لا يعقل ان يكون كل مؤمن وليا على كل مؤمن و إلا لكان كل واحد من المؤمنين وليا و مولّى عليه. على ان ذلك يذهب الاستفادة من جعل الولاية فلا بد من ارادة ولاية المؤمن الذي يصلح للمرجعية و الزعامة عليهم و ليس عندنا غير الفقيه العادل الجامع للشرائط. و يمكن المناقشة.

أولا: بأن ظاهر التعبير هو الولاية بمعنى الحب التي مقتضاها الرأفة و الرحمة كما هو ظاهر النسبة

للعموم إذ لو كان أراد الرئاسة لكان التعبير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 348

بغير هذا النحو.

و ثانيا: بأن المراد بها الولاية في الأمور الحسبية: و فيه انه لو كان المراد بها ذلك لقيدها بالأمور الحسبية فحذف المتعلق يدل على ارادة المطلق.

و ثالثا: ان ظاهرها الولاية من جهة الايمان بقرينة أخذ الايمان في العنوان و لا ريب ان الولاية من جهة الايمان لا تقتضي إلا الرأفة بينهم و الإحسان. و المقصود لنا هو إثبات الولاية من جهة الحكومة و الزعامة و الآية لا تثبت ذلك. و فيه ان المقصود هو إثبات الولاية من أي جهة كانت سواء كانت من جهة الايمان أو من جهة الفقاهة أو غير ذلك و إذا كانت الآية الشريفة تثبت الولاية المطلقة من دون تقييدها بشي ء كان من آثارها الحكومة و الرأفة و الإحسان.

الثالث: الذي استدل به على الولاية العامة الإجماع

بقسميه المنقول و المحصل أما المنقول فقد نقل الكثير الإجماع على ثبوت الولاية العامة للفقيه الجامع لشرائط المرجعية كالشيخ ملا كتاب (ره) و في البلغة ان حكاية الإجماع على ذلك فوق حد الإحصاء و هكذا في العوائد حيث ذكر انه نص عليه كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات و عن المحقق الكركي انه قال اتفق أصحابنا على ان الفقيه العادل الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى عليهم السّلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل و ربما استثنى بعض الأصحاب القتل و الحدود و لعل مقصوده ببعض الأصحاب ابني زهرة و إدريس على ما يحكى عنهم. و اما المحصل فيمكن استفادته من من فتاوى الفقهاء بثبوت الولاية للفقيه في عدة مواضع معللين

ذلك بثبوت عموم الولاية له كما في وجوب دفع ما بقي من الزكاة في يد ابن السبيل بعد وصوله الى بلده الى الفقيه و في وجوب دفع الزكاة ابتدأ أو بعد الطلب اليه. و تخيره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 349

في أخذ خمس أرض الذمي أو منفعتها. و ولايته على مال الامام و ميراث من لا وارث له. و في توقف إخراج الودعي الحقوق على اذنه. و ولايته في إجراء الحدود و في أداء دين الممتنع من ماله، و توقف حلف الغريم على اذنه.

و في القبض في الوقف على الجهات العامة. و في نظارته لذلك، و توقف التقاص من مال الغائب على اذنه، و من الحاضر في وجه، و في بيع الوقف حيث يجوز و لا ولي له، و في قبض الثمن إذا امتنع البائع و قبضه عن كل ممتنع عن قبض حقه، و في الدين المأيوس عن صاحبه. و بيع الرهن المتسارع اليه الفساد بإذنه و تولية اجارة الرهن لو امتنعا و تعيين عدل يقبض الرهن لو لم يرضيا، و تعيينه ما يباع به الرهن مع تعدد النقد، و في باب الحجر على المفلس، أو السفيه في قول، و ولايته على الذي حدث جنونه أو سفهه بعد بلوغه مع وجود أبيه أو جده أو الوصي عنهما على المشهور، و في قبض وديعة الغائب لو احتيج إلى الأخذ، و في إجبار الوصيين على الاجتماع أو الاستبدال بهما، و في ضم المعين إلى الوصي العاجز، و في عزل الخائن على القول بعدم انعزاله بنفسه و في إقامة الوصي فيمن لا وصي له، أو مات وصيه أو كان و انعزل. و في تزويج المجنون

و السفيهة البالغة، و في فرض المهر لمفوضة البضع و ضرب أجل العنين، و بعث الحكمين من أهل الزوجين و إجبار الممتنع على أداء النفقة و في طلاق زوجة المفقود و في إجبار المظاهر على أحد الأمرين و في إجبار المولى كذلك و احتياج إنفاق الملتقط على اللقيط على اذنه و نحو ذلك من المقامات الأخر الكثيرة التي لا تخفى على من تتبع الفقه فإنهم يقولون بثبوت ولاية الفقيه في هذه الأمور و ليس لكلها أو جلها دليل بخصوصه بل من جهة عموم ولاية الفقيه و هو كاشف قطعي عن الاتفاق على ثبوت الولاية العامة للفقيه نظير استكشاف بعضهم الإجماع على حرمة بيع النجس من التمسك بحرمة بيع النجس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 350

في حرمة بيع النجاسة التي لا دليل على حرمة بيعها و لعل نيابة الفقيه عن الامام عليه السّلام أمر مرتكز في أذهان الإمامية و لذا تجد عوامهم يصفون الفقيه الذي هو المرجع الديني لهم بالنيابة. و هو يكشف عن وجود حجة شرعية على ذلك قال المرحوم ملا كتاب و ان وقع التشكيك في بعض الأحوال فهو تشكيك في ثبوت ولاية الإمام عليه لا في شمول نيابة الفقيه عن الامام بعد ثبوتها له و لكن لا يخفى ما فيه لمخالفة كثير من الفقهاء في تلك الموارد كما يظهر لمن راجع كتب الفقه الاستدلالية في تلك المواضع مضافا الى ذهاب الكثير من علمائنا إلى المناقشة في ثبوت الولاية العامة للفقيه. إلا انه لدى الحقيقة تجد هؤلاء المناقشين في ثبوتها تطفح على عبارتهم الاعتراف بها في موارد أخرى فمثلا في مقام وجوب دفع الزكاة للمجتهد في زمن الغيبة نجد الكثير منهم

يبني ذلك على ثبوت الولاية العامة له في زمن الغيبة ثمَّ يجي ء في كتاب البيع أو التحجير أو الفحص عن الغائب يثبتها له و لعل بحسب الاستقراء يحصل للإنسان الجزم بالفتوى بها حتى من المنكرين لها في مطاوي كلماتهم.

الرابع: الذي استدل به على الولاية العامة للمجتهد الأخبار الكثيرة
اشارة

القاضية بالعموم

و هي على طوائف.
الطائفة الأولى: ما دل على ان العلماء ورثة الأنبياء

و الكلام يقع تارة في سندها و أخرى في دلالتها.

(أما الأول) فهو لا اشكال فيه لكثرتها و شهرة روايتها الموجبة للوثوق بها بل و صحة سند بعضها كصحيحة أبي البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انه قال العلماء ورثة الأنبياء.

(و اما الثاني) فلأنه لا إشكال في عدم إرادة الإرث بمعناه الحقيقي إذ لا نسب موجب لانتقال المال من الأنبياء إلى العلماء فلا بد أن يكون المراد المعنى المجازي و أقرب المجازات هو انتقال ما هو ثابت لهم من المقامات و المنازل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 351

للعلماء إلا ما أخرجه الدليل و لا ريب انه كان للأنبياء الولاية و السلطة على الرعية مطلقا فينبغي ثبوت ذلك للعلماء و هو المدعي، و يرشدك الى ذلك انه في مرسلة حماد الطويلة عن العبد الصالح عليه السّلام انه ذكر فيها ان نصف الخمس لولي الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وارثه. مع ان وارثه هو سيدة النساء فاطمة عليها السّلام و زوجاته و ولي الأمر هو الامام المرتضى فلا بد أن يكون المراد بوارثه هو الوارث لمقامه و ولايته لشؤون المسلمين و لذا عبر فيها بالوالي. و قد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة.

أولا: ان المراد بالعلماء هم الأوصياء لأن إضافة الإرث إلى الأنبياء تقتضي أن يكون المورّث بلا واسطة هو النبي و الذي يرث النبي بلا واسطة هو الوصي لا العالم فان العالم يرث من الوصي و الوصي من النبي فالعالم ليس بوارث للنبي فلا بد من حمل لفظ العلماء على الأوصياء فإن لكل نبي وصي و بعبارة أخرى ان الأمر هنا يدور بين المجاز

بأن نحمل الإرث مجازا على الأعم من الإرث بلا واسطة أو مع الواسطة و نبقي العلماء على عمومها و بين ان نخصص العلماء بالأوصياء و قد تقرر في محله تقديم التخصيص على المجاز. و قد أكد هذا الاشكال صاحب البلغة و لم يجب عنه و جوابه ان الظاهر من الخبر العموم و الأوصياء داخلون في عموم العلماء فتكون نسبة الوارثية للمجموع فلا يلزم مجاز و لا تخصيص بل ان بعضها يأبى حملها على الأئمة لاشتمال بعضها على أمور لا تناسب جلالة شأنهم مثل قوله عليه السّلام ما لم يدخلوا في الدنيا و نحوه. هذا مع ان في بعضها التعبير (بالفقهاء) و يأبى عن الحمل على الأوصياء أيضا كما في الحديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه قال لولده محمد تفقه في الدين فان الفقهاء ورثة الأنبياء. فإن مورده محمد و هو ليس بوصي مضافا الى ان تخصيصه بالأوصياء لعله من التخصيص المستهجن لكثرة الخارج و قلة الداخل إلا ان يحمل على العهد و هو خلاف الظاهر. مضافا الى ان المجازية لازمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 352

في التوريث إذ ليس المراد به الإرث الحقيقي الذي هو انتقال المال فلا بد من حمله على المجاز المذكور و هو يشمل التوريث مع الواسطة.

و أورد على الاستدلال بها ثانيا: بأن المراد بالإرث العلم لأن المتبادر من كون العالم يرث النبي هو الإرث في العلم خصوصا بمناسبة الحكم للموضوع و أخذ عنوان العالم في مورد البيان. و لا بحث لنا في ذلك إذ ليس العلم إلا عند العلماء دون غيرهم ان قلت: ان هذا لا يحتاج الى بيان بهذه الكثرة من الاخبار لبداهة هذا الأمر، قلنا

الغرض منه بيان شرف العلم و انه من صفات الأنبياء، و يرشدك الى ان المراد منها التوريث في العلم ما ورد في ذيل بعض تلك الاخبار كما في رواية الصدوق في أماليه و في مقدمة المعالم ان الأنبياء لا يورثون دينارا و لا درهما و انما يورثون علما و في بعضها كما في رواية مكاسب الشيخ الأنصاري (ره) لا يورثون دينارا و لا درهما و لكن ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشي ء منها أخذ بحظ وافر، و في رواية الكراجكي عن أمير المؤمنين عليه السّلام ان العلم ميراث الأنبياء. و جوابه ان الإرث مطلق فتقيده بالعلم لا وجه له. و مناسبة الحكم للموضوع تقتضي ثبوت الإرث في جميع المقامات و المنازل و أخذ العلم في العنوان انما يقتضي كونه سببا لثبوت تلك المنازل و المقامات المعروفة للعلماء، و تقييد بعض أخبار الإرث بالعلم لا يوجب تقيد باقيها، على انها ظاهرة في التقية فإن الأنبياء يورثون الأموال كما احتجت بذلك سيدة النساء فاطمة عليها السّلام إلا ان يحمل ذلك فيها على أن الأنبياء ليس بشأنهم ذلك أو بمعنى انهم لم يقصدوا و لم يسعوا الى توريث المال و انما يقصدوا و يهتموا لتوريث العلم كما هو ظاهر مادة (ورث) فلا ينافي ذلك توريثهم المال. و اما رواية الكراجكي فهو انما تدل على ان العلم يورّثه الأنبياء و هو لا يقتضي عدم توريثهم غير العلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 353

و أورد على الاستدلال بها ثالثا ان الظاهر ان المراد بها ان علماء أمة كل نبي ورثة ذلك النبي فيكون علماء هذه الأمة ورثة نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مقتضى

كونهم ورّاثه أن يكون كل منهم أخذ بحصة من الميراث كما هو شأن الورثة المتعددين لمورّث واحد فتكون الولاية منقسمة عليهم لا انها ثابتة بأجمعها لكل واحد منهم مع ان المقصود هو الثاني فلا بد أن يكون المراد بالعلماء الأوصياء لأن لكل نبي وصي واحد. و جوابه ان ذلك في إرث المال لا في إرث الأمور المعنوية فإن القسمة فيها غير حقيقية. فالمتبع هو ظاهر لفظ الحديث. و ظاهره ان كل واحد من العلماء يرث ما كان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المنازل و المقامات المجعولة له.

و يرد على الاستدلال بها رابعا هو تفسير العلماء في بعض الأخبار بالأئمة الأطهار عليهم السّلام كما في رواية يونس عن الصادق عليه السّلام الناس على ثلاثة عالم و متعلم و غثاء فنحن العلماء و شيعتنا المتعلمون و سائر الناس غثاء. و جوابه انه تفسير بحسب المصداق في ذلك العصر فإنه في عصرهم ليس غيرهم أكمل في العلمية.

و إن شئت فقل إن المراد بمثل تلك الأخبار هو بيان الفرد الكامل و إلا فلا إشكال في كون غيرهم أيضا علماء. بل الظاهر من تلك الأخبار هو بيان من يقوم مقام النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عصرهم و انهم هم لا غيرهم لأنهم أكمل في العلمية و المؤهلية للنيابة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يرد عليها خامسا كما ذكره المرحوم الايرواني من أن القضية فيها ليست مسوقة في مقام البيان بل هي مهملة و المتيقن ما ذكرناه أي ان المراد بها توريث العلم و لعله أخذه من المرحوم مير فتاح صاحب العناوين حيث ذكر أن مساق هذه الأخبار و غيرها

في مقام فضل العلماء و ليس في مقام إثبات الولاية لهم على الناس.

و جوابه انه لا إشكال انها في مقام بيان عظمة شأن العلماء و مقتضى ذلك هو كون القضية المذكورة فيها و هي (العلماء ورثة الأنبياء) في مقام البيان لذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 354

و مقتضاه الإرث لسائر مقاماتهم و منازلهم إلا ما قام الدليل على عدمه.

و يرد عليها سادسا ان التعبير (بالعلماء) هو اعتبار العلم في ذلك. و مدار المجتهدين على الظنون فلا وجه لادراجهم في هذه الأخبار. و جوابه ان ظنونهم لما كانت منتهية للعلم صاروا مندرجين تحت عنوان العلماء مضافا الى شيوع إطلاق العلماء على الأعم ممن عندهم اليقين و الظن المعتبر على أن هناك قرينة على ذلك و هو ان العلماء بنحو اليقين لا يوجدون إلا في زمان الحضور فلو كان المراد بهم ذلك لم يبق لها مورد في مثل زماننا هذا مع انها مسوقة لبيان حكم هذا الزمان إذ لا حاجة إليهم يعتد بها في زمن الحضور فتأمل فإنه يمكن أن يقال ان الحاجة كانت ماسة لهم أيضا في زمن الحضور لعدم تيسر وصول الشيعة للأئمة عليهم السّلام و أخذ الأحكام منهم و لذا كثرت الرواة عنهم عليهم السّلام.

(الطائفة الثانية) ما ورد (من أن العلماء أمناء)

و في بعضها الفقهاء أمناء الرسل و بعض آخر المؤمنون الفقهاء حصون الإسلام. و تقريب الاستدلال بها ان الأمين هو الذي يعتمد عليه في حفظ مال الغير و لا إشكال انه لا يراد به هذا المعنى هنا فلا بد أن يراد به بقرينة الحال و المقال الاعتماد عليه في حفظ ما كان على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حفظه و مسؤولا عنه من

الأحكام الشرعية و الأمور العائدة للرعية و ادارة شؤونهم و مصالحهم و رفع الفساد عنهم. و هذا لازمه رجوع أمر الرعية اليه و جعل الولاية العامة له. و هكذا معنى حصون الإسلام. و قد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة بما ذكره صاحب العناوين و صاحب البلغة بما حاصله ان متعلق الامانة هو خصوص الدين و أحكام شريعة سيد المرسلين بمعنى ان ما جاء به الرسل من الاحكام فهو محفوظ و مؤمن عند الفقهاء فيرجع لهم فيه لان هذا المعنى هو المنصرف له من تلك المطلقات كما يعطي تصريح بعضها بالأمناء على الحلال و الحرام و كذلك كونهم حصون الإسلام معناه كونهم حفظة أحكام الإسلام من الضياع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 355

و جوابه ان إطلاق الامانة و إطلاق الحصن من دون ذكر متعلقه يقتضي العموم لكل ما على الرسل حفظه و تحصينه من التلف كحفظ النظام و ادارة الشؤون و المصالح التي تتعلق بالنفوس و الاعراض و الأموال (و دعوى) ان إطلاقات هذه الاخبار مهملة من هذه الجهة و غير مسوقة لبيانها (فاسدة) لأنها دعوى بلا برهان و الأصل يقتضي كونها في مقام البيان و تقييد بعضها بالحلال و الحرام لا يقتضي تقييد جميعها و بهذا ظهر لك ما في كلام المرحوم المحقق الايرواني (ره) حيث قال: الامانة تكون في الودائع و الوديعة المستودعة عند العلماء هي الأحكام فتختص الرواية بمقام الفتوى دون إعطاء سائر مناصب الرسل، ا ه. و وجه الظهور ان هذا إنما يتصور في الأمانة بمعناها الحقيقي لا في الأمانة بمعناها المجازي فإنه يصح نسبتها لكل أمر يوكل أمره للغير من الأحكام و حفظ النظام و ادارة شؤون المسلمين و

الإسلام. و قد أورد عليها أيضا بأن المراد بها الأئمة عليهم السّلام.

و جوابه ان هذا ينافي ما في بعضها كرواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا. قيل:

يا رسول اللّه: و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم.

(الطائفة الثالثة) ما دل على أن العلماء خلفاء رسول اللّه (ص)

كمرسلة الفقيه عن أمير المؤمنين (ع) عن رسول اللّه (ص) انه قال: اللهم ارحم خلفائي قيل: و من خلفائك يا رسول اللّه؟ قال: الذين يأتون من بعدي و يروون حديثي و سنتي. و وجه الاستدلال بهذه الطائفة واضح فإن إطلاق الخليفة عرفا حتى في زمن الصحابة على من يكون له التصرف في شؤون الرعية ما لولي الأمر من التصرف و السلطنة و الولاية عليهم تنزيلا للخلف بمنزلة السلف كيف لا و الخليفة للشخص بقول مطلق من يقوم مقامه في كل ما كان له من الصلاحيات و الأهليات و الولايات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 356

فالمنزلة الثابتة له تثبت لمن استخلفه عنه و يرشدك الى ذلك تفريع قوله تعالى:

فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ على قوله تعالى يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فإن مقتضي هذا التفريع ان يكون جعل الخلافة ليس لخصوص تبليغ الاحكام.

و يورد على هذه الطائفة بأكثر الإيرادات المتوجه على الاستدلال بالطائفة الاولي و الثانية و الجواب الجواب نعم احتمال أن يكون المراد بهم الأوصياء لا يجي ء في الرواية المتقدمة لأنها كما في قضاء الوسائل ظاهرة في ورودها في ابان بن تغلب: نعم في رواية مخاطبة أمير المؤمنين عليه السّلام لكميل قال: أولئك خلفائي يحتمل فيها ذلك. و يورد أيضا

على الاستدلال بهذه الطائفة أن ذلك يقتضي ثبوت كلما كان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعلماء و ليس كذلك فيلزم التخصيص بالأكثر و جوابه ان الظاهر انه خليفة عليهم فيما يحتاجونه فيه لا في غيره من الأشياء و لو سلمنا فمقتضى استخلاف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم هو جعلهم بمكانه و منزلته و هو يستدعي ثبوت كلما جعل له الشارع من الأحكام من عظيمه و احترامه و إطاعة أوامره و نواهيه و زعامته للعلماء فالآثار الشرعية تثبت للخليفة إلا ما دل الدليل على عدمه فلا يلزم التخصيص بالأكثر. و يورد أيضا على الاستدلال بهذه الطائفة بضعف السند. و جوابه ان ضعف سندها منجبر بالاشتهار و نقل الإجماع على مضمونها كما تقدم في الاستدلال بالإجماع و موافقتها لعموم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قاعدة نفي الضرر و نفي العسر و الحرج و قاعدة الإحسان و كل معروف صدقه و غير ذلك مما يشرف بصاحبه الجزم بعموم الولاية.

الطائفة الرابعة ما ورد في أن الفقهاء قادة

فقد روى عن المفيد بسنده الى محمد بن على عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام انه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: المتقون سادة و الفقهاء قادة و الجلوس إليهم عبادة و وجه الاستدلال بها ظاهر و يؤيده ما في رواية أخرى الأنبياء قادة و الفقهاء سادة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 357

الطائفة الخامسة ما ورد كما في جامع الأخبار ان العلماء كسائر أنبياء قبلي

و في آخر أنهم كسائر أنبياء بني إسرائيل و في خبر ثالث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل كما هو المحكي عن مفتاح الفلاح للشيخ البهائي و عن تقريرات الأنصاري (ره) في مسألة تقليد الميت. و في رابع ان فضل العلماء على الناس كفضل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أدناهم. و في الفقه الرضوي انه قال منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل. و وجه الاستدلال بها ان النبي لا ريب في ثبوت الولاية العامة له و مقتضى التشبيه مع عدم ذكر وجه الشبه هو ثبوت ما للمشبه به للمشبه خصوصا الرواية الأخيرة إذ التعبير فيها بالمنزلة. فهذه الروايات تقتضي ثبوت كل ما للنبي للعالم إلا ما أخرجه الدليل. و يرد على الاستدلال بها ما أورد به على الاستدلال بالطائفة الاولى و جوابه نفس الجواب. نعم قد يقال هنا انه لم يعلم ثبوت الولاية العامة لأنبياء بني إسرائيل و انما ثبت تبليغهم للأحكام الشرعية فلا ينفع التشبيه مع هذا الاحتمال. و لا يخفى ما فيه فإنه لا إشكال في ان بعضهم كان له ذلك.

ثمَّ ان النبوة الحقيقية تقتضي الولاية إذ الولاية لا تكون إلا لأفضل الرعية

و النبي هو أفضل الرعية. و قد يقال ان الظاهر المستفاد من النظر في مجموع تلك الأدلة هو قيام الرواة و العلماء و الفقهاء و الحكام مقام النبي و الوصي صلوات اللّه عليهم في الأمور الثابتة لهم صلوات اللّه عليهم من حيث النبوة و الرسالة لا في مطلق الأمور الثابتة لهم و لو من حيثية أخرى راجعة إلى خصائصهم، توضيح ذلك ان تعليق الحكم بالوصف يشعر خصوصا في المقام المحفوف بقرائن عقلية و نقلية شتى بالعلية فتشبيه العالم بالنبي أو تشبيه الراوي بحجة اللّه لا يفيد إلا التنزيل و التشبيه في خصوص جهة النبوة التي هي وساطة بين اللّه و عباده أو جهة الإمامة التي هي وساطة بين النبي و الرعية فكل ما هو ثابت للنبي من حيث كونه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 358

واسطة بين اللّه و خلقه و هي حيثية تبليغ الأحكام فهو ثابت لمن ناب منابه و قام مقامه و أما الأمور الثابتة له من حيثية أخرى غير حيثية الرسالة كخصائص النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأمور الشرعية و العادية فالتشبيه و التنزيل المزبوران لا يعطيان المشاركة فيها أيضا لأنها خارجة عن الحيثية المشار إليها بل الداخل فيها ليس إلا جهة بيان الأحكام و تبليغ الحلال و الحرام حتى انه لو لا أدلة القضاء و حكم العقل بوجوب اقامته لكان إثبات شرعيته بتلك الأدلة دونه خرط القتاد و لا يخفى ما فيه فان حيثية النبوة تقتضي الولاية العامة إلا إذا قام الدليل على عدم الثبوت بل التحقيق أن الوالي لما كان يجب بحكم العقل أن يكون أفضل الرعية و النبي يلزم فيه أن يكون أفضل

الرعية فالنبوة تقتضي الولاية بل هي أظهر آثارهم ثمَّ ان مجرد أخذ العنوان في مقام التشبيه لا يقتضي أن يكون وجه الشبه هو ذلك العنوان و إلا لزم في مقام ذكر وجه الشبه بخلاف العنوان أن يكون منافاة في الكلام أو فيه تجوز بل مقتضي التشبيه مع عدم ذكر وجه الشبه هو ثبوت جميع ما للمشبه به للمشبه إلا ما أخرجه الدليل أو ثبوت أظهر صفات المشبه به للمشبه.

الطائفة السادسة ما ورد من أن العالم ولي من لا ولي له

و نحوه كالنبوي المشهور على الألسن و تداولته بعض الكتب من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. السلطان ولي من لا ولي له، وجه الاستدلال بهذه الطائفة هو ان مقتضى جعل الولاية للعالم و السلطان على كل من لا ولي له أن يكون له الولاية على المسلمين في زمن الغيبة لأنه لا ولي لهم فعلا يدير شؤونهم و يرجعون له في مهمات أمورهم و بعبارة اخرى ان هذه الطائفة تدل على أن كل ما له صلاحية لأن يكون له ولي فالفقيه وليه إذ لا يعقل أن يكون المراد بالذي لا ولي له مطلق من لا ولي له و إلا لزم أن يكون العاقل الرشيد أيضا العالم وليه لأنه لا ولي له فلا بد أن يكون المراد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 359

بالذي لا ولي له هو خصوص من كان له قابلية الولاية و شأنية نصب الولي له و لا شك ان المسلمين في زمن الغيبة لهم القابلية لأن يكون ولي لهم يدبر شؤونهم و يدبر أمورهم. و قد أورد الاستدلال بهذه الطائفة بعدة إيرادات قد تقدم ذكرها في الإيرادات على الطوائف التي قبلها و قد أجبنا عنها هناك و قد أورد

عليها أيضا بتقريب منا من أن السلطان ليس المراد به سلطان الجور لقيام الإجماع و ضرورة المذهب على عدم ولاية الجائر و إنما المراد به السلطان العادل و هو الامام عليه السّلام و حينئذ فلا يثبت به الولاية للفقيه إلا بأدلة عموم النيابة للفقيه عن الامام عليه السّلام و حينئذ فلا نحتاج لهذه الرواية. و لا يخفى ما فيه إذ أن إرادة نفس الامام عليه السّلام خلاف ظاهر إطلاقه فإن ظاهره هو من كان له سلطنة و الفقيه في زمن الغيبة له سلطنة بالضرورة على المجانين و السفهاء و نحوهم فيصدق عليه لفظ السلطان كيف لا و قد استفاد أكثر الفقهاء ولاية الفقيه في مسألة المرأة المفقود زوجها من الرواية المشتملة على لفظ السلطان بل لا يتصور في زمن الغيبة السلطنة لغيره. و قد أورد أيضا بضعف السند. و جوابه مضافا الى الشهرة في روايتها هو عمل المشهور بمضمونها. و قد أورد أيضا بأن الظاهر من قوله لا ولي له بقرينة اللام الدالة على الانتفاع أن الولاية المثبتة بهذه الطائفة للفقيه هي الولاية على ما ينفعهم دون الولاية عليهم بما يضرهم كالولاية على الممتنع و الصغير و المجنون باستيفاء حقوق الناس من أموالهم و كذا الولاية على السفيه و المفلس بالمنع من التصرف و ذلك لأن الولاية المنفية هي الولاية له لا الولاية عليه فلا بد أن تكون المثبتة هي الولاية له لا الولاية عليه بقرينة المقابلة إذ المقابلة تقتضي أن يكون المراد بالولي المثبت هو الولي المنفي. و لا يخفى ما فيه فان هذه الطائفة إنما تقتضي ثبوت الولاية المطلقة حيث لم تقيد بشي ء و لم يكن في البين مقابلة تقتضي الخروج عن هذا

الظهور. مضافا الى أنا لا نسلم أن اللام في لا ولي له هو لام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 360

الانتفاع بل هي لام الصلة نظير قولهم الشر جاء لزيد و الخطر قرب له و نحو ذلك و لعل ظهور اللام في ذلك إلا إذا قوبلت بعلي كما لو قال السلطان ولي من لا ولي له لا عليه.

الطائفة السابعة [حكومة العلماء على الملوك]

ما ورد كما في كنز الكراجكي عن الصادق عليه السّلام انه قال إن العلماء حكام على الملوك كما ان الملوك حكام على الناس و وجه الاستدلال ان الظاهر من الحكام في الرواية هو السلطنة عليهم و التحكم في أمرهم و مقتضى كونهم لهم السلطة على الملوك أن يكون لهم السلطة على الناس بالأولوية.

الطائفة الثامنة ما دل على أن العالم حجة الامام على الناس

كقوله عليه السّلام في التوقيع المشهور عن الحجة عليه السّلام فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه. قال في الجواهر و في بعض النسخ فإنهم خليفتي عليكم و عليه فيكون التوقيع من قبيل الطائفة الثالثة إلا أن المشهور هو النسخة الاولي و قد وصفه المرحوم الشيخ محمد طه نجف بأنه مقطوع به أو كالمقطوع. و وجه الاستدلال ان الحجة يجب اتباعها فيكون العالم واجب الاتباع و هذا يقتضي أن يكون له الولاية و حذف المتعلق يقتضي العموم لكل ما كان للإمام عليه السّلام الولاية عليه و قد أورد على الاستدلال به بأن الحجة معناها ما يحتج به على الناس حتى لا يبقى عذر لهم في التقصير في امتثال التكاليف بدعوى عدم العلم بها و الاطلاع عليها و أين ذلك من الولاية.

و لكن الإنصاف ان إطلاق الحجة على الشخص ظاهر فيما ذكرناه لا فيما ذكره المورد (نعم) لو أطلقت الحجة على القول كان ظاهرها ما ذكره.

الطائفة التاسعة ما ورد من أن العلماء كافلون لأيتام آل محمد ص

. و وجه الاستدلال انه مقتضى الكفالة لهم هو التولي لشؤونهم و إن المراد بأيتام آل محمد هم المسلمون باعتبار أبوه الأئمة عليهم السّلام لهم لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا على أنا و أنت أبوا هذه الأمة و يشهد لذلك المروي عن الاحتجاج عن مولانا الكاظم عليه السّلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 361

انه قال: فقيه واحد ينتقذ يتيما من أيتامنا المنقطعة عن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد. و قد أورد بأن المراد هو الكفالة في تعليمهم الأحكام الشرعية الموجب لتربيتهم الروحية بعد انقطاعهم عن الأب الروحي. و فيه ان إطلاق الكفالة يقتضي ما ذكرناه نعم

رواية الاحتجاج ظاهرة في الكفالة في تعليمهم الأحكام الشرعية.

الطائفة العاشرة ما دل على ان من عرف أحكامهم فهو حاكم

و قاضي كمقبولة ابن حنظلة و مشهورة ابي خديجة و وجه الاستدلال بهما ان ظاهرهما إعطاء منصب القضاء الذي تعطيه سلاطين العصر لقضاتهم و لا ريب ان سلاطين ذلك العصر كانوا يعطون لقضاتهم علاوة على ولاية فصل الخصومات الولاية على القصر و الأوقاف و نصب القيم على مال اليتيم و الحكم في الهلال الى غير ذلك. (و دعوى) ان مورد هذه الروايات هو التخاصم و التنازع فيقتضي ان يكون جعل الحاكم و القاضي إنما هو لخصوص رفع الخصومة دون غيرها (مدفوعة) بأنها إنما كانت في مقام جعل الحاكم و القاضي في مقابل قضاتهم و قضية المقابلة تقتضي أن يكون ثابتا له ما كان ثابتا لقاضيهم من الشؤون و الوظائف كيف لا و هو عليه السّلام في مقام ردع الشيعة عن الذهاب لقضاتهم فلا بد أن يكون منصب القاضي لسد حاجاتهم المتعلقة بقضاة الجور. و بعبارة أخرى ان ذلك أوجب تلازما عرفيا فتكون أدلة جعل القاضي و الحاكم تدل على ثبوت تلك الولايات بالدلالة الالتزامية العرفية نظير دلالة حاتم على الكرم و يتم الكلام في باقي الولايات بعدم القول بالفصل. و (دعوى) انها انما تقتضي إعطاء المنصب في أيام الحضور و لا دلالة لها على إعطائه في زمان الغيبة و يجوز الامام عليه السّلام إنما أعطاه لانجباره بحضوره، و ليس الاذن في ذلك من الأحكام العامة للمكلفين ليثبت للمعدومين بمثل قوله عليه السّلام. (حلال محمد حلال الى يوم القيامة) و غيره من أدلة الاشتراك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 362

في التكليف (فاسدة) فإنها ظاهرة في عموم الاذن لكل من اتصف بتلك الصفات من دون

تقييد بزمان خاص نظير قولهم ما كان لنا فهو لشيعتنا و قد فهم الفقهاء ذلك و لذا استدلوا بها على ثبوت منصب القضاء للفقيه في زمن الغيبة.

الطائفة الحادية عشرة: ما دل على أن مجاري الأمور و الاحكام على أيدي العلماء

باللّه الامناء على الحلال و الحرام كما ورد في الخبر عن سيد الشهداء عليه السّلام في كتاب تحف العقول و رواه عنه صاحب كتاب الوافي في كتاب الأمر بالمعروف و كما في التوقيع الشريف عن الحجة عليه السّلام المروي في إكمال الدين و في الاحتجاج للطبرسي الوارد في جواب مسائل إسحاق بن يعقوب، و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا و وجه الاستدلال بهذه الطائفة ان مقتضي جعل جريان أمور المسلمين على يد الفقيه و رجوعهم في حوادثهم اليه هو ثبوت الولاية العامة له عليهم. و أورد على الاستدلال بها المرحوم آقا ضياء العراقي في كتاب البيع بأن مثل هذا العنوان مختص بالأئمة عليهم السّلام و لا أقل من كونهم قدرا متيقنا في مقام التخاطب المانع من إطلاقه.

و لا يخفى ما فيه فان العنوان (العلماء. و الرواة) كل منهما جمع محلي باللام يفيد العموم بالوضع لا بالإطلاق فلا وجه للأخذ بالقدر المتيقن في مقام التخاطب.

هذا مع انا لا نسلم انه هو القدر المتيقن بل لعل قرائن الأحوال تقتضي ان المراد بها الفقهاء لا الأئمة لمعلومية أن الأئمة عليهم السّلام يرجع لهم في الحوادث و بيدهم مجاري الأمور (ان قلت) ان المراد بالأمور و بالحوادث هي الأحكام الشرعية (قلنا) ان مقتضى عطف الأحكام على الأمور أن يكون المراد بها غير الاحكام لأن العطف يقتضي المغايرة. و التأسيس أولى من التأكد. و عطف التفسير شاذ نادر مضافا الى ان اضافة المجاري إلى الأمور يشعر بتجددها و حدوثها وقتا

بعد وقت. و الأحكام الشرعية لا تتصف بذلك و بهذا تعرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 363

ان الحوادث لا يكون المراد بها الأحكام الشرعية بل المراد بالحوادث مطلق الأمور التي لا بد من الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرئيس المتعين لحفظ النظام، قال بعض المحققين (ره) ان الرجوع في المسائل الشرعية إلى العلماء من البدهيات في الإسلام من السلف الى الخلف مما لا يمكن ان يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب حتى يكتبه في عداد المسائل التي أشكلت عليه (ان قلت) ان المراد بالحوادث الواقعة هو الأمور التي لا بد من وقوعها فتختص الرواية بالأمور الحسبية فإنها كما سيجي ء إنشاء اللّه هي الأمور التي يريد الشارع وقوعها في الخارج كما احتمل ذلك المرحوم آقا ضياء العراقي (قلنا) هذه الأمور لا توصف بالوقوع و انما توصف بالمطلوب أو نحو ذلك (ان قلت) انه لا بد من تنزيلها على الأمور المعهودة الجارية بين المسلمين إذ لو لم تحمل على ذلك لزم كثرة التخصيص البالغة حد الاستهجان في ارتكابها (توضح) ذلك ان كثرة التخصيص إذا بلغت حد الاستهجان يتعين معها حمل العام على المعهود و لذا حكموا في كلمة (الناس) في قوله تعالى الَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ النّٰاسُ إِنَّ النّٰاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الآية بأن المراد في الأول (نعيم بن مسعود) و في الثاني (أبو سفيان و أصحابه) على طريق العهد دون التخصيص حذرا من استهجان تخصيص الأكثر.

بل كثرة التخصيص و ان لم تبلغ حد الاستهجان توجب و هن العمل بالعام فلا يعمل بالعام إلا بعد الاطمئنان بعمومه لذلك المورد، و لذا قلنا في لا ضرر و أشباهها و ك (لا حرج) و

أمثالها و آيات القصاص انه لا يعمل بعمومها لكثرة ما خرج من تحتها إلا بعد مشاهدة عمل جملة من الأساطين بها (قلنا) لا يلزم في ذلك كثرة التخصيص المستهجن فان الظاهر منها أن الأمور و الحوادث التي يرجع فيها الرعية للرئيس بقرينة المقام و الحال لمعلومية أن مثل شرب الماء و أكل الخبز و نحوها من الأمور لا يسأل عنها السائل و لا هي مورد التوهم و انما المنصرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 364

من ذلك هو الأمور التي يرجع فيه للرئيس فلا يلزم التخصيص المستهجن على أنه من قال بالولاية العامة بالمعنى الأعم بنحو يشمل المقام الثاني و الثالث للإمام اللذين سيجي ء بيانهما لا يلزم عليه التخصيص بالأكثر و تكون هذه الرواية له لا عليه (ان قلت) ان الظاهر ان مجاري جمع مجرى اسم مكان لا مصدر ميمي يعني محل جريان الأمور و الأحكام و عليه فيكون المراد بها المصالح و المفاسد الجارية منها الأحكام جريان الماء من النبع و من المعلوم انها بيدهم بمعنى انها لا يعرفها غيرهم (قلنا) ان الظاهر من قوله عليه السّلام بأيديهم أو على أيديهم هو كون أمرها يرجع لهم لا المعرفة مختصة بهم و إلا لقال مجاري الأمور أعرف بها فيكون المعنى ان الموارد التي تجري فيها الأمور و الأحكام بأيديهم و تحت سلطنتهم ان شاءوا أوجدوها و ان شاءوا أزالوها و هذا كناية عن الولاية التامة (ان قلت) ان الظاهر منها الأئمة عليه السّلام لأن في رواية التحف بعد ما وبخ العصابة المشهورة بالعلم بعدم التزامها بالأمر بالمعروف و غصبهم لمنزلة غيرهم قال عليه السّلام ان مجاري الأمور و الاحكام على أيدي العلماء باللّه

الامناء على حلاله و حرامه. و هذا يقتضي ان المراد بهم خصوص الأئمة عليهم السّلام لأنهم هم الذين غصبوا حقهم (قلنا) الكلمة عامة. و الغصب يكون في كل وقت للعالم العادل الذي يستحق المنصب فلا دلالة في الرواية على ارادة خصوص الأئمة (ع) من هذا اللفظ في هذه الفقرة نعم يكون الأئمة (ع) من مصاديقها في عصرهم عليهم السّلام. على ان هذه التدقيقات في ألفاظ الاخبار لا وجه لها فإنها إنما وردت لإفهام بسيطة فينبغي أن يؤخذ بمفاهيمها العرفية (و من الغريب) من المحقق الايرواني (ره) حيث فسر مجاري الأمور بالأحكام حيث قال هذه العبارة تدل على ان المجرى بيد العلماء و المجرى الذي يمكن فرض كونه بيدهم هو الاحكام و القوانين الشرعية التي ينبغي أن يصدر المكلفون في حركاتهم و سكناتهم عنها و لا يتخلفون عنها ا ه. و وجه الغرابة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 365

أولا: ان الاحكام الشرعية ليست أمرها بيد العلماء و انما أمرها بيد المشرع لها و هو اللّه تعالى.

و ثانيا: عطف الاحكام على الأمور في الحديث المذكور حيث ان الرواية (مجاري الأمور و الاحكام بيد العلماء) يمنع من ذلك لأن العطف ظاهر في المغايرة (ان قلت) ان قوله عليه السّلام في التوقيع الشريف (و اما الحوادث الواقعة) إنما يستفاد منه العموم حيث لا عهد و لم نعلم أن المسئول عنه أي شي ء هو فلعله كان أمرا خاصا و حوادث مخصوصة فتكون اللام اشارة لها و للعهد بها و الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل فيه الاستدلال (قلنا) تقدم العهد لا يرفع دلالته الوضعية على العموم لا سيما إذا كان الكلام مما يصح الابتداء به و يصلح لضرب القاعدة

ألا ترى انه لو قال القائل (انه كان عندي اليوم جماعة من العلماء و العلماء يجب إكرامهم) فهل يصح رفع اليد عن عموم العلماء بجعله للعهد و لذا اشتهر أن خصوصية المورد لا توجب تخصيص الوارد. و لو سلمنا ذلك فمقتضى اقتصار الراوي على ذلك و عدم نقله للسؤال يدل على ارادة العموم و ألا يكون قد أخل بالنقل (ان قلت) أن تعليل الرجوع في الحوادث الواقعة لرواة الحديث بأنهم حجته عليه السّلام عليهم في التوقيع الشريف يقتضي الرجوع إليهم في خصوص تبليغ الأحكام الشرعية فقط لأن الحجية انما تكون في التبليغ لأمر. و هو انما يكون في المقام تبليغ الأحكام الشرعية و لا يشمل التصرفات الشخصية في النفوس و الأموال أو التصدي للمصالح العامة من الحكومة و فصل الخصومة فإن ذلك كله أجنبي عن مفهوم الحجية. فالتوقيع الشريف أجنبي عن المدعي كما ذكره المحقق الايرواني (ره) بتقريب منا (قلنا) نعم الحجية كما ذكرت و لكن تعليل الحكم بها لا يقتضي تخصيص عموم الحكم فإنه أي منافاة بين وجوب الرجوع للرواة في سائر الحوادث و كون العلة في ذلك هو كونهم حجة في تبليغ الاحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 366

فإنه من الممكن أن يكون صحة تبليغهم للاحكام جعلت لهم أهلية الرجوع إليهم في سائر الحوادث بل لعل الحقيقة الواقعية في المعصومين هو ذلك فإن أهليتهم لتبليغ الاحكام على الوجه الأكمل اقتضت جعل الولاية لهم لمعرفتهم بأحكام التصرفات و الاعمال و إذا كان الأمر كذلك فليس التعليل موجبا لانثلام عموم العام، (ان قلت) ان رواية مجاري الأمور و الاحكام بيد العلماء باللّه هي منقولة عن تحف العقول و سياقها يدل على انها

مخصوصة بالأئمة (ع) و الظاهر كذلك فان المذكور فيها هم العلماء باللّه لا العلماء بأحكام اللّه و لعل المراد بها بيان مقام الأئمة (ع) و ان الأمور بحسب التكوين بيدهم نظير ما في الزيارة من قوله بكم ينزل الغيث فهي دليل على الولاية التكوينية لا الولاية الظاهرية التي هي من المناصب المجعولة (قلنا) ليس في سياقها ما يقتضي ذلك كيف و قد ذكر في الرواية لفظ الأئمة قبل هذه العبارة فقال (ع): (فاستخففتم بحق الأئمة) فلو كان مراده الأئمة (ع) لذكرهم بهذه العبارة و لما عبر عنهم بالعلماء و اما تقييد العلماء (باللّه) فهو أيضا لا يقتضي إرادة الأئمة (ع) لان الفقهاء أيضا لهم علم باللّه تعالى قال اللّه عز و جل إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ و هذا التخصيص لا بد أن يكون من جهة زيادة معرفتهم باللّه تعالى مضافا الى أن الرواية في أغلب فقراتها لفظ الجلالة كقوله (ع): قبل تلك الفقرة (القيام بحق اللّه) و في قوله (ع): (عاديتموها في ذات اللّه أنتم تتمنون على اللّه) و قوله: (لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على اللّه تعالى) و قوله:

(لأنكم بلغتم من كرامة اللّه) و قوله (ع): (و من يعرف باللّه) و قوله:

(و أنتم في عباد اللّه) و قوله (ع): (عهود اللّه) و قوله: (و ذمة رسول اللّه) فهذه الفقرات كلها قبل تلك الفقرة فكان السياق يقتضي إتيان لفظ (اللّه) مع العلماء (ان قلت). ان هذه الأدلة وردت في تشخيص من يكون بيده مجاري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 367

الأمور من المصالح العامة التي دل العقل و النقل على وجوب إجرائها كمباشرة القضاء و محافظة مال القصر و حفظ بيضة

الإسلام و نحوها مما ثبت وجوب إجرائها ما دامت الشريعة باقية لا في تشخيص الأمور الجارية فلو شك في أمر أنه مشروع جار في المسلمين أم لا فلا بد في إثباته من التماس دليل آخر. و اما ما دل على قيام الفقيه مقام الإمام في مجاري الأمور فهو يرجع الى إيكال النظر في الأمور العامة اليه على معنى وقوعها في الخارج على حسب ما يراه فيتبع نظره فيما يتعلق بتجهيز الموتى و محافظة النفوس و الأموال الضائعة و لا يجوز لأحد معارضته بل لا ينفذ لو عارضه لأنه يباشر كل ما يباشر الامام عليه السّلام. قلنا: لا يخفى ما فيه فان الجمع المحلى باللام يفيد العموم الاستغراقي لكل أمر يرجع فيه العرف لرئيسهم و كل أمر يراه الفقيه فيه مصلحة لهم سواء كان من الأمور الجارية بين المسلمين أو التي تحدث بتطور الزمن و اختلاف الأحوال و هذا هو معنى الولاية العامة. فظهر ان المجتهد العادل خليفة الإمام عليه السّلام في زمن الغيبة و له الولاية العامة كولاية الإمام إلا ما خرج بالدليل.

هذه جملة من الأخبار التي ظفرنا بها في هذا المقام و لا أظن أحدا يشك بعد اطلاعه عليها في ثبوت الولاية العامة للفقيه على نحو ما كانت ثابتة للنبي و الامام إلا ما أخرجه الدليل. بل في العوائد ان أكثر النصوص الواردة في حق الأوصياء المعصومين (ع) المستدل بها في مقام إثبات الولاية و الإمامة ليست متضمنة لأكثر من ذلك لا سيما بعد انضمام ما ورد في حقهم انهم خير الخلق بعد الأئمة (ع) و أفضل الناس بعد النبيين. و إذا أردت توضيح ذلك فانظر إلى انه لو كان سلطانا في ناحية و

أراد السفر لناحية اخرى و قال في حق شخص بعض ما ذكر فضلا عن جميعه فقال فلان خليفتي و بمنزلتي و أميني و الكافل لرعيتي و الحاكم من جانبي و حجتي عليكم و المرجع في جميع الحوادث لكم و على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 368

يده مجاري أموركم و أحكامكم فهل يبقي لأحد شك في أنه له فعل كل ما للسلطان فعله في أمور الرعية في تلك الناحية إلا ما استثناه. و لا يضر ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب و انضمام بعضها لبعض في إفادة المطلوب و ورود أكثرها في الكتب المعتبرة. و (قد استدل أيضا على الولاية العامة للفقيه) بقاعدة الإحسان و عموم أدلة الحسبة و المعاونة على البر و التقوى. و لا يخفى ما فيه فإنها لا تقتضي الولاية العامة فإن قاعدة الإحسان و إنما تقتضي عدم الضمان و لو سلمنا دلالتها على جواز العمل الاحساني فهي لا تقتضي الانحصار بالمجتهد بل لكل مسلم ذلك مضافا الى ان الغرض إثبات الولاية التي مقتضاها الحكومة و المرجعية و الزعامة لا إثبات مطلوبية الإحسان، و من هنا يعلم الجواب عن أدلة الحسبة و المعاونة على البر التي أقيمت على الولاية العامة

[تنبيهات الولاية]
اشارة

و ينبغي التنبيه على أمور:

[التنبيه الأول] تقسيم الولاية

(أحدها) انه قد عرفت فيما تقدم ان الولاية بالكسر بمعنى الامارة و السلطة و لها عند الفقهاء عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة فتنقسم عندهم إلى اختيارية و هي التي تثبت باختيار الولي و ارادته كالوكيل و كالوصي و إجبارية و هي الثابتة للولي بدون اختياره كالولاية للأب و الجد على الصغير. و ولاية الفقيه من القسم الثاني لا الأول فإنها تثبت له بدون اختياره فإنه لو تمكن من اعمالها فلم يعملها كان آثما كالأب و الجد (ان قلت) انها باختياره حيث كانت مقدماتها و هو صيرورته فقيها باختياره (قلنا) المناط هو كون قبولها باختياره و إلا فولاية الأب أيضا باختياره لأن من مقدماتها الزواج و هو باختياره. (نعم) قد يكون القبول لها واجبا عليه بطوارى و عوارض كما لو كان بنذر أو عهد أو نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 369

و قد (تقسيم الولاية) إلى الولاية بالمعنى الأخص و الى الولاية بالمعنى الأعم فإذا أطلقت الولاية و أريد بها السلطنة على مال الغير أو نفسه قيدت بالمعنى الأخص و قد أنهاها بعضهم إلى عشرة و هي ولاية الأب و الجد و الوصي لأحدهما و الموالي بالنسبة لمماليكهم و حاكم الشرعي و عدول المؤمنين و الوكيل ممن تصح منه الوكالة، و وكيل الوكيل مع كون الوكيل مأذونا في التوكيل و وصي الوصي مع كون الوصي مأذونا في التوصية و المقاص للمال بشرائط التقاص، و إذا أطلقت و أريد بها ما يقتضي الإطاعة قيدت بالمعنى الأعم فتعم المذكورات و ولاية الزوج على زوجته و الأم و الضيف و صاحب المنزل و نحو ذلك للزوم إطاعتهم في بعض الأمور و قد

تطلق على مطلق القدرة على نفاذ التصرف فتعم المذكورات و نعم المتصدق بمجهول المالك و مالك الصدقة في الزكاة بالنسبة إلى العزل و الدفع الى المستحق و تبديل عين الزكاة بالقيمة و متولي الأوقاف.

(و قد تقسيم الولاية) إلى الولاية الخاصة و الولاية العامة و قد يكون العموم و الخصوص الملحوظ لهم باعتبار الجهة فإن كانت عامة سميت عامة كولاية الفقيه على جميع أمور المسلمين عند بعضهم و ان كانت الجهة خاصة كولاية عدول المؤمنين أو الفقيه على خصوص بعض الأمور سميت خاصة و قد يكون العموم و الخصوص عندهم بلحاظ المولى عليه فتسمى عامة لو كان المولى عليه أفراد الناس كولاية عدول المؤمنين و ان كانت الجهة خاصة، و تسمى خاصة لو كان المولى عليه فردا خاصا كولاية المولى على عبده و ان كان من جميع الجهات المشروعة، و لا يهمنا تحقيق ذلك كله لعدم ترتب ثمرة مهمة عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 370

[التنبيه الثاني] محل النزاع في الولاية

(الثاني) ان للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام مقامات ثلاثة المقام الأول جهة إفاضاته بوجوده الشريف على العالم فيستفيد به العالم أزيد من استفادته بالشمس و هذا المقام هو المشار إليه في الاخبار و الأدعية و الزيارات كما في زيارة الجامعة الكبيرة و بكم ينزل الغيث و بكم يمسك السماء أن تقع على الأرض و بكم ينفس الغم و بكم يكشف الضر و لعل لهذا المعنى يشير ما روى عنهم عليهم السّلام ان الأرض كلها لنا لا سيما إذا قلنا ان الشي ء الواحد لا يكون مملوكا لمالكين فيكون المراد انها تحت قدرتهم و بقبضتهم نظير ملك اللّه تعالى لها و لعله اليه

يشير أيضا قول أمير المؤمنين عليه السّلام في كتابه إلى معاوية (نحن صنائع اللّه و الخلق صنائعنا) و يمكن أن يكون اليه يشير أيضا ما في الزيارة الرجبية من قوله عليه السّلام فبكم يجبر المهيض و يشفي المريض و ما تزداد الأرحام و ما تغيض و بهذا المقام عندهم علم الغيب و تظهر على أيديهم المعجزات و هذا المقام يرجع لعالم التكوينيات و الولاية عليها تكون تكوينا نظير ولاية ربان السفينة عليها.

المقام الثاني: الولاية و الأولوية بالمؤمنين من أنفسهم فكما أن للمؤمنين السلطنة على نفوسهم فللنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام سلطنة على أنفس المؤمنين أقوى من سلطنة نفس المؤمنين على أنفسهم و هذا المقام هو المشار اليه بقوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ و قوله تعالى وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ و قوله تعالى:

إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ بناء على ان الإضافة تقتضي الولاية على النفس، و في رواية أيوب بن عطية أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. و في الحديث المتواتر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 371

بين الفريقين الخاصة و العامة في يوم (غدير خم) الست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، و لحكم العقل بناء على أنهم عليهم السلام أولياء النعم كما هو مقتضى المقام الأول و ذلك لحكم العقل بوجوب شكر المنعم و شكره انما يكون بإطاعته و تنفيذ ارادته بحيث تكون له الولاية عليه و هذا المقام يرجع الى عالم ولايتهم على النفوس و وجوب إطاعتهم لهم (ع) في جميع إراداتهم

(ع) و أوامرهم (ع) حتى العرفية و ان لم تكن فيها مصلحة للمأمور به و انما كانت لمصلحة الإمام فقط أو لمصلحة غيره بحيث يكون له عليه السّلام أنحاء التصرف في نفوس الرعية و أموالهم حسبما تتعلق ارادته و تقتضيه طلباته، كما ينفذ تصرف الإنسان في نفسه و ماله بحسب ارادته و طلباته في غير معصية موجبة لعدم نفوذه بحيث للإمام أن يزوج البالغة الرشيدة بدون اذنها و يبيع مال الغير بدون اذنه و ان أراد أن يحمله على كتفه لحمله إلا ما خالف الأوامر الشرعية الوجوبية أو النواهي الشرعية التحريمية المطلوبة من كل أحد (و حاشاه أن يريدها) فتكون هذه الولاية نظير ولاية المولي على عبده و قد أنكر بعضهم كصاحب البلغة ثبوت هذا المقام لهم (ع) مدعيا عدم نهوض الأدلة عليه و مقتضى الأصل عدمه مؤيدا ذلك بما هو المعهود من سيرتهم في الناس على حد سيرة بعضهم مع بعض من الاستيذان من البالغة الرشيدة في تزويجها و عدم التصرف في مال الصغير مع وجود وليه الإجباري الى غير ذلك من الموارد التي يقطع الإنسان بمساواتهم عليهم السّلام في معاملاتهم مع الناس لمعاملة الناس بعضهم مع بعض، و لا يخفى ما فيه لظهور الأدلة المتقدمة في ذلك. و أما السيرة التي ذكرها فهي لا تنفي ذلك بل انما تدل على عدم أعمال ولايتهم المذكورة كما أنهم عليهم السّلام لم يعملوا ولايتهم التي يقتضيها المقام الثالث الذي سيجي ء إنشاء اللّه تعالى بعد أسطر بيانه. و أما (دعوى) منافاة ما دل على الولاية بهذا المعنى لما دل على سلطنة الناس على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 372

نفوسهم و أموالهم فهي (ممنوعة) لأن

أدلة الولاية بهذا المعنى حاكمة على الأدلة المذكورة فهي تثبت الولاية لهم بنحو أقوى من ولاية الناس على نفوسهم. و أما (دعوى) استبشاع أن تكون لهم (ع) التمتع بزوجة الغير و بجاريته و نحو ذلك (ففاسدة) لما عرفت من ان لهم الولاية فيما ليس بمحرم أو واجب ففي هذا المقام لهم (ع) الولاية على طلاق الزوجة لأنه ليس بمحرم على الزوج أن يطلق لكونه باختياره و لهم الولاية على بيع الجارية، مضافا الى أن التمتع بالزوجة و نحوه (انما هو من آثار ولاية الزوج عليها في هذا الشأن و الذي قلنا بثبوته لهم (ع) هو الولاية لهم فيما كان للغير الولاية له عليه بحيث يرجع لاختياره أن يفعله و ان يدفعه للغير و في حال الزوجية ليس للزوج اختيار في دفع التمتع بالزوجة للغير. (و من هنا ظهر) ان ما ليس ان يعطيه الإنسان لغيره أو كان من الأمور التي لا اختيار له فيها كالإرث من مورثه ليس لهم (ع) الولاية على ذلك الشخص في إعطائه ذلك الشي ء لهم عليهم السلام لأنه نفس الشخص ليس له الولاية على ذلك فهو نظير العبد الذي لا يقدر أن يعطي الشي ء لمولاه.

و بعد كتابتي لهذه الكلمات رأيت كلاما للمحقق مرزا على الايرواني (ره) يعجبني نقل محصله من أن معنى قوله تعالى النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ان سلطنة النبي على المؤمنين أشد مما لهم من السلطنة على أنفسهم و ولايته عليهم أقوى من ولايتهم على أنفسهم. و لا ريب ان سلطان المؤمنين على أنفسهم انما هو في قودها الى مصالحها بما جعله اللّه تعالى من الطرق و الأسباب كالصيغ الخاصة التي تختص بكل من العقود و الإيقاعات، لا

مطلقا و بلا سبب أو بأي سبب شاء فيكون مفاد الآية ثبوت نفس هذه السلطنة بعينها للنبي (ص) غاية الأمر بنحو آكد بحيث لا يزاحم سلطنتهم سلطنته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لعل في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 373

وجه الأولوية هو كونه أبصر بمصالح المؤمنين و مضارهم فيقودهم الى مصالحهم و يجنبهم عن مضارهم بأحسن من أنفسهم. فالآية تدل على ثبوت الولاية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يرجع الى المؤمنين من التصرفات بالطرق المقررة الشرعية لكل نوع من التصرفات فليس له أن ينكح أو يطلق أو يبيع بدون تلك الصيغ المقررة للنكاح و الطلاق و البيع فإن الآية ليست في مقام التشريع لتلك الاحكام بل في مقام تشريع الولاية و من الجهات الأخرى مهملة و الأدلة الدالة على تشريع تلك الأحكام مبينة لها فتكون ولايته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد الأخذ بالآية و أدلة تلك الأحكام ثابتة فيما للشخص على نفسه الولاية لا أزيد من ذلك فليس للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ زوجة المؤمن و التصرف في أموالهم إلا إذ رأى مصلحتهم في ذلك فيطلق حينئذ زوجة من رأى مصلحته في إطلاق ثمَّ إذا رأى مصلحة المطلقة في أن ينكحها أنكحها بالطرق المقررة، ثمَّ أن لفظ (الاولى) كما يطلق على الرئيس كذلك يطلق على الرعية قال اللّه (ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) و قال عليه السّلام: (أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤا به) و المعنى في المقامين واحد و الاختلاف في مصاديقه فأولوية السلطان بالرعية أولويته بالقيام بمصالحهم و أولوية علماء الرعية بالسلطان أولويتهم بتحمل ما

يرد منه و إعانتهم في إجراء قوانينه و قد استدل المرحوم الشيخ محمد حسين قدس سره على وجوب إطاعتهم (ع) حتى في أوامرهم الشخصية العرفية الراجعة مصلحتها لهم (ع) بما حاصله ان إطاعتهم (ع) في الأوامر الشرعية اطاعة بالذات للّه تعالى و اطاعة بالعرض لهم (ع) و اما إطاعتهم (ع) في أوامرهم العرفية تكون اطاعة لهم (ع) بالذات و اطاعة له تعالى بالعرض من حيث ان الإطاعة لهم في أوامرهم العرفية كانت من جهة نسبتهم للّه تعالى بواسطة النبوة أو الإمامة و هذه الإطاعة هي المدلول عليها بقوله (ع) من أطاعكم فقد أطاع اللّه تعالى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 374

إذا عرفت ذلك فنقول ان ما ورد في باب إطاعتهم (ع) أولى بالشمول لمثل هذه الإطاعة من اطاعة أوامرهم الشرعية لأن اطاعة أوامرهم الشرعية اطاعة للّه تعالى و لزومها بديهي لا يحتاج إلى المبالغة في الإلزام بها بخلاف إطاعتهم في أوامرهم العرفية.

المقام الثالث: الولاية على تدبير شؤون المسلمين و السلطة و السلطنة على كل ما يتوقف عليه حفظ نظام العباد و رفع الظلم و دفع الفساد و هذا المقام يرجع لولايتهم على الأمور العامة فهي نظير ولاية الرئيس على رعيته.

و لا يخفى ان المقام الأول لا إشكال في عدم ثبوته للفقيه الجامع للشرائط فان الوجدان يكذبه و الأدلة لا تقتضيه.

و أما المقام الثاني: فالدليل العقلي المتقدم لا يقتضي ثبوته للفقيه.

و هكذا الإجماع لم يقم على ثبوته له، و أما الأدلة النقلية فيمكن دعوى دلالة بعض الأخبار عليه كقوله عليه السّلام: (مجاري الأمور بيد العلماء) و كقوله عليه السّلام.

(ان العلماء كسائر الأنبياء) و نحوها مما تقدم، و كل من قال بثبوت هذا المقام

الثاني للفقيه قال بثبوت المقام الثالث له للأولوية و لأن كلما دل على ثبوت المقام الثاني للفقيه يدل على ثبوت المقام الثالث له دون العكس فان الكثير من علمائنا من قال ثبوت المقام الثالث للفقيه دون المقام الثاني و لذا ينبغي أن نسمي الولاية في المقام الثاني بالولاية العامة بالمعنى الأعم و الولاية في المقام الثالث بالولاية العامة بالمعنى الأخص أما تسميتها بالعامة فلأن الكثير من علمائنا من عبر عن هذه الولاية في المقام الثالث بالولاية العامة و الكلية في مقابل من أنكرها و ادعى بأن الثابت للفقيه هو الولاية في موارد خاصة مما قام الدليل عليها بالخصوص كالقضاء و نحوه و انما قيدناها بالمعنى الأخص لأنها أضيق دائرة من الولاية في المقام الثاني، و لعل المرحوم الشيخ المحقق الشيخ محسن خنفر (ره) كان

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 375

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 375

يذهب إلى الولاية العامة بالمعنى الأعم فقد نقل لي بعض الأفاضل الثقات انه وقع النزاع في الولاية العامة بين المرحوم المحقق صاحب الجواهر و بين المرحوم المحقق الشيخ محسن خنفر المذكور في ثبوت الولاية العامة للمجتهد و قد أخذ الشيخ محسن خنفر يقيم الأدلة عليها فالتفت الشيخ محمد حسن (ره) و قال ان كان الأمر كما يزعم الشيخ محسن فزوجته طالق فأجابه المرحوم الشيخ محسن الإشكال في الصغرى. و هذا النزاع لا يتم إلا على تقدير أن يكون موضوعه هو الولاية العامة بالمعنى الأعم، و إلا فالظاهر من صاحب الجواهر

«أعلا اللّه مقامه» في عدة مواضع من كتابه انه يقول بالولاية العامة بالمعنى الأخص أعني بالنسبة للمقام الثالث.

[التنبيه الثالث] ولاية الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة بنحو النيابة عن الإمام أم بنحو الجعل له

(الثالث) ان الفقهاء اختلفوا في أن تفويض الفقيه لأمور الرعية و ولايته على تدبير شؤونهم و سلطنته على حفظ نظامهم في زمان الغيبة هل هو على وجه الوكالة و النيابة عن الامام عليه السّلام أو هو من باب إعطاء الولاية له و النصب له واليا كما في إعطاء الولاية على القصر في الوصية فإنها إحداث ولاية لا نيابة و لذا يبقى التصرف للوصي مع خروج الموصي عن أهلية التصرف لموته أو هو من باب الحكم الشرعي بمعنى ان من جملة الأحكام الشرعية الكلية ان الفقيه الجامع للشرائط له ولاية على المسلمين كما ان الأب له ولاية على ابنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 376

الصغير و تظهر الثمرة بين هذه الأقوال في موت الإمام فإنه على الثالث لا ينعزل الفقيه لأنه حكم اللّه ثابت له و لا يرتفع عن موضوعه. و على الأول ينعزل لأن الوكيل ينعزل بموت الموكل. و على الثاني قيل لا ينعزل لأنه من قبيل إعطاء السلطنة له فهي لا تزول بمجرد موت المعطي و قيل ينعزل لأن هذه السلطنة كانت من فروع سلطنة المعطي و من أشعتها التي تنطفي بانطفائها فبموته تزول سلطنته فيزول ما تفرع عليها، و لكن الحق انها لا تزول بزوال سلطنة المعطي نظير إعطاء السلطنة و الولاية على الأوقاف أو إعطاء المتوفى السلطة و الولاية للوصي على القصير، فإن إعطاء السلطة و الولاية ليس إلا جعل سيطرة و سلطنة للشخص المتولي و ليس لها في بقائها تعلق بالمعطي نظير إعطائه سائر الأشياء و الأعيان فإنه الظاهر من

أدلتها (ان قلت) ان قوله عليه السّلام قد جعلته حاكما يستفاد منه عكس ذلك حيث أسند الامام الصادق عليه السّلام الجعل لنفسه و هكذا قوله عليه السّلام (فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) فإنه أضاف صاحب الزمان عليه السّلام الحجة لنفسه فيعلم ان كلا منهما (ع) قد ولي الرواة في زمانه بحسب ولايته في زمانه على أهل ذلك الزمان (قلنا) قد أجاب عن ذلك المامقاني (ره) بما حاصله ان هذا لا ينافي الظهور فيما ذكرناه لصحة ذلك من الإمامين المذكورين (ع) من باب الإمضاء لما عرفت ان للإمام (ع) العزل لما نصبه الامام السابق نعم للمعطي أو للإمام الذي بعده عزله لان له الولاية على ولايته، و لكن لا يخفى ان هذا البحث لا يثمر لنا شيئا في عصر الغيبة لأنه حتى لو كانت ولايته بنحو الوكالة عن الامام عليه السّلام فهي باقية لأنه انما يكون وكيلا عن الإمام الحجة عجل اللّه فرجه و سهل مخرجه و هو حي الى أن يظهر فيملأ الأرض قسطا و عدلا بعد ما تملأ ظلما و جورا نعم هذا يثمر في عصر الغيبة في الولي عن الفقيه إذا شك في أنه وكيل عنه أو متولي عنه كما لو أمر شخصا بمباشرة وقف و لم يعلم الكيفية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 377

و (كيف كان) فدليل العقل المتقدم لإثبات الولاية يقتضي القول الثالث و هكذا الكتاب الشريف و هكذا ظاهر الطائفة الخامسة و العاشرة كما ان ظاهر الطائفة الأولى هو القول الثاني إذ الوكيل لا يكون بعد الموت بخلاف الوارث و هكذا الثالثة كما أن ظاهر الطائفة التاسعة هو القول الأول و هكذا السابعة و هكذا

الثانية و لكن الجميع يجب حملها على القول الثالث لأن الطائفة الاولى من الاخبار صريحة في نفي الأول لأن الوكيل لا يعبر عنه بالوارث كما ان باقي الأخبار أظهر في الثالث فمقتضى الجمع هو القول الثالث مضافا الى اقتضاء حكم العقل له لدلالته على لزوم نصب اللّه تعالى للفقيه. مضافا الى ان الظاهر من كل خبر كونه بيانا للحكم الشرعي لا إذنا في واقعة خاصة أو جعلا له في مورد مخصوص و لذا حملوا مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (من أحيا أرضا ميتة فهي له) على انه حكم لا أذن في الاحياء و غير ذلك من الاخبار.

[التنبيه الرابع] شرائط الفقيه الذي له الولاية العامة

(الرابع): ان الفقيه الذي ثبتت له الولاية العامة يشترط فيه كلما يعتبر في مرجع التقليد لأنه كما عرفت ان العقل يحكم بأنه مدير للأمور الدينية في الرعية و يكون مرجعا لهم فيها فلا بد أن يكون يصلح للتقليد كما انه لا بد و ان يكون أعلم أهل زمانه و أفضلهم و أبصرهم بتدبير الأمور و ادارة الشؤون و ان لم نشترط ذلك في مرجع التقليد و إلا لم يصلح أن يكون يتولى شؤون الرعية الدينية و الدنيوية و لم نستكشف جعل الولاية من اللّه تعالى له كما انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 378

يشترط فيه ان يكون مجتهدا مطلقا لا متجزيا لأن القضايا التي يبتلى بها و يتولى شأنها طالما تكون مجمعا لعدة أحكام لا بد له من معرفتها مثلا الخمر لا بد له من معرفة حكمها من النجاسة و حرمة الشرب و صحة البيع و مقدار الحد عليه و جواز تزويج شاربها و إعطائه الزكاة و الخمس الى غير ذلك

كما انه يشترط فيه الحياة و ان لم نشترط ذلك في مرجع التقليد إذ تدبير الشؤون لا تصلح من الميت مع تطور الأمور و تجدد الحوادث و لعل أغلب الشروط التي سنذكرها إنشاء اللّه في المفتي الذي هو مرجع التقليد يلزم ثبوتها له و ان ناقشنا في لزومها للمفتي و سيجي ء إنشاء اللّه منا التنبيه على ما يلزم منها في الزعيم الديني عند التعرض لها إنشاء اللّه، فالويل ثمَّ الويل لمن يدعي ذلك و ينصب نفسه له و هو ليس فيه الصلاحية لذلك و غير متوفرة فيه تلك الشروط.

[التنبيه الخامس] الشك في موارد الولاية

(الخامس) بعد ما ثبت نيابة الفقيه عن الامام عليه السّلام و ان الولاية الثابتة للإمام عليه السّلام ثابتة له في زمن الغيبة (فتارة) يعلم بأن العمل الفلاني يرجع لولاية الإمام عليه السّلام و انه من آثار ولايته و ان فعله لا يكون بدون إذنه و نظره كالجهاد و اقامة الحدود و حفظ الثغور و سائر الأعمال و الافعال و التصرفات التي هي من وظائف ولاة الأمر و سلاطين العصر (و تارة) يعلم بعدم رجوعه إليها و ان آحاد الناس يستقلون بفعله بلا مراجعة رئيس كالعبادات الخاصة و المعاملات الشخصية و (تارة) يشك في العمل في انه مما يرجع للولاية و من آثارها حتى يكون يرجع أمره للفقيه في زمن الغيبة أم لا بأن يحتمل انه من الأمور المختصة بشخص الامام كصلاة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 379

الجمعة عند بعضهم أو من الأمور المختصة بالغير كصرف الكفارة على مستحقها.

(أما الصورة الأولى) فلا إشكال في ثبوت الولاية عليه للفقيه في زمن الغيبة إلا أن يقوم دليل خاص على عدم جواز قيامه به كما قيل ذلك

في الجهاد و اقامة الحدود أو على قيامه به بنحو خاص كطلاقه لامرأة المفقود بشرط مضي أربع سنين على فقده و عدم الإنفاق عليها.

(و أما الصورة الثانية) فلا إشكال في عدم الولاية للفقيه عليه إلا إذا قلنا بثبوت المقام الثاني من الولاية له المسمى بالولاية العامة بالمعنى الأعم فإنه قد تقدم انه لو قلنا بذلك كان له الولاية حتى على تطليق الزوجة من زوجها.

(و أما الصورة الثالثة) فإن قام الدليل على ثبوت الولاية له على ذلك أو عدمها فهو المتبع و الا فقد يقال: ان الأصل عدم ثبوت الولاية له عليه لأنها سلطنة حادثة و الأصل عدمها. و لأنها تقتضي أحكاما و الأصل عدمها، و قد يقال ان الدليل الاجتهادي في الموارد الخالصة يقتضي عدمها مثل لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه. و الناس مسلطون على أموالهم و الطلاق بيد من أخذ بالساق الى غير ذلك من الأدلة الواردة في الموارد المخصوصة، و لكن التحقيق أن يقال ان الدليل الاجتهادي على الولاية لما كان عاما لعموم قوله عليه السّلام: مجاري الأمور بيد العلماء و قوله عليه السّلام، و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا الى غير ذلك مما تقدم في مبحث أدلة الولاية المنجبر ضعفها بما تقدم من الإجماعات المنقولة و الروايات المتضافرة و هي حاكمة على الأدلة الاجتهادية في الموارد الخاصة مثل (لا يحل مال امرء) و نحوه فالمورد المشكوك ثبوت الولاية فيه ان قام الدليل على تخصيصه من عموم الولاية فهو المتبع و إذا لم يقم دليل على ذلك فالمتبع عمومات الولاية. و أما ان كانت الشبهة مصداقية فإن كان المخصص لبيا جاز التمسك بعمومات الولاية و إلا

النور

الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 380

فالأصل عدم الولاية هذا فيما لو شك في أصل ثبوت الولاية على العمل و أما لو شك المجتهد في أن هذا العمل الذي ثبتت له الولاية عليه و وجب التصدي منه اليه هل تكون مباشرته له بنفسه أو يكون الغير مباشرا له بإذنه أو مخيرا بينهما فإن الأعمال التي ثبتت ولاية المجتهد عليها و تصديه إليها.

(تارة) تكون المباشرة لها راجعة فقط للمجتهد بمعنى أن تكون الاعمال راجعة لإرادته و لنظره من دون مدخلية للغير فيها سواء كان يباشرها بنفسه أو بالتوكيل عليها أو إعطاء المنصب و تولية الغير عليها كنصب الولاة على الأمصار و اقامة الحدود و التعزيرات و كالجهاد عن بيضة الإسلام (و تارة) تكون مباشرة الغير لها بأذنه بمعنى يكون لنظر الغير مدخلية في تحققها مع اذن الفقيه كبيع المحتكر للطعام عند حاجة الناس فإنه يكون بأمر الحاكم لا بمباشرته فان المباشر للبيع هو صاحب المال الذي هو المحتكر. و كالتقاص من الجاني فيما لو قلنا بتوقفه على اذن الحاكم و (تارة) يكون له ان يباشرها بنفسه و له أن يأذن للغير بمباشرتها كصرف الزكاة على المستحقين فإنه قد يكون بمباشرته و قد يكون بأذنه لصاحب المال بصرفها. فعليه يكون الشك في ذلك (تارة) في عمل المجتهد نفسه كما لو شك المجتهد في أن الفحص عن الغائب يكون بمباشرته بنفسه بأنه هو يكتب إلى الأقطار و يسأل عنه أو يكون الغير هو المباشر للفحص دون الامام و لكنه بإذن الإمام فأصالة عدم وجوب مباشرة الحاكم الشرعي للعمل معارضة بأصالة عدم وجوب الاذن و الأمر للغير بالمباشرة فإن الحاكم الشرعي يعلم إجمالا بوجوب تصديه لذلك و لكن

يشك في وجوب المباشرة عليه أو الاذن للغير بالمباشرة و مقتضى ذلك هو الأخذ بالقدر المتيقن فيما لو علم بان أحد الطرفين مجزى قطعا و إلا احتاط بالجمع إذا أمكن الإتيان بهما معا و إلا فيتخير بينهما و لكن ظاهر الدليل الاجتهادي و هو قوله عليه السّلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 381

مجاري الأمور بيد العلماء هو رجوع الأمر إلى اختيار المجتهد، و ليس في هذا تمسك بالعام في الشبهة المصداقية لأن الفرض عمومه له و انما لم يعلم كيفية تصدي المجتهد له و هذا لا فرق فيه بين العبادات و بين المعاملات.

أما مثال الأول كما لو شك المجتهد في صلاة الجمعة بعد فرض ثبوت ولايته على إقامتها في انه يقيمها بنفسه أو يأذن للغير بإقامتها.

و أما الثاني كما لو شك المجتهد في أن السفيه يتولى العقد بنفسه على الزوجة بإذنه أو نفس المجتهد يتولى عقده و الفرض عدم الدليل على ذلك نعم لو شك المجتهد في توجه التكليف له أو لعامة الناس على سبيل الكفاية فالحق وجوب إتيانه عليه للعلم باشتغال ذمته به و شكه في سقوطه عنه بفعل الغير كما انه لو رجع العامي له في ذلك أفتى له بعدم وجوبه عليه لأصل البراءة في حق غيره من الناس (ان قلت) انه لا وجه لما ذكرته من وجوب التكليف على الفقيه عند الشك المذكور أعني الشك بين تعيين الفعل عليه أو وجوبه الكفائي على عامة الناس لأصالة عدم خصوصية الفقيه بمعنى عدم قصد الشارع له بخصوصه فان القصد له بخصوصه أمر حادث و الأصل عدمه كما يظهر ذلك من المرحوم مرزا فتاح في عناوينه (قلنا) هذا معارض بأصالة عدم قصد

التعميم فان التعميم يحتاج الى قصد حتى لو كان على سبيل البدل فيتساقطان على ان أصالة عدم قصد الخصوصية إذا كانت أصل لفظي بأن كان المراد بها أصالة عدم التخصيص التي هي عبارة عن أصالة العموم فهو غير صحيح لان الفرض هو الشك في ذلك و عدم دليل لفظي حتى يرجع للأصول اللفظية و إذا كانت أصل عملي بأن كان المراد بها استصحاب عدم انقداح ذلك في نفس المولى فهو و ان كان أثره عدم التكليف بذلك إلا أنه انما يثبت العدم الأزلي الذي هو مفاد ليس التامة و لا يثبت العدم الوصفي الذي هو مفاد ليس الناقصة إذ ليس له حالة سابقة حيث لم يعلم سابقا بان التكليف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 382

المذكور قد جعله الشارع و لم يقصد معه الخصوصية، هذا كله في عمل المجتهد بالنسبة لنفسه و (تارة) يكون الشك في عمل العامي فعليه أن يرجع لمقلده في معرفة حكمه و اما حكمه الذي ينبغي ان يفتي به مقلده فنقول ان العامي إذا شك في وجوب العمل عليه و احتمل انه من وظائف الفقيه المختصة به جرى في حقه أصل البراءة منه. و اما إذا علم بأنه ليس بمختص بالفقيه و لكن احتمل أن إذنه شرط لوجوبه عليه أي أن المكلف احتمل ان العمل انما يجب عليه إذا أذن الفقيه به كالدفاع عن المسلمين فأيضا جرى في حقه أصل البراءة منه و لا يجب عليه تحصيل الاذن و لا الفحص عنه و اما إذا علم بأن العمل ليس بمختص بالفقيه و علم بأن إذن الفقيه ليس بشرط لوجوبه و انما احتمل أن اذن الفقيه شرط لوجود الواجب و

صحته فان كان من قبيل العبادة فإن كان شكه في كفايتها عن الغير مع إحرازه عدم وجوبها عليه كالمتبرع في القضاء عن الميت مع وجود الولي لم يكن عليه شي ء في فعل صلاته لأنها حتى لو لم تكن صحيحة أو لم يأتي بها لم يجب عليه شي ء و ان كان شكه في اعتبار الاذن من المجتهد في صحتها منه مع علمه بوجوبها عليه اما كفاية أو عينا فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر الارتباطيين و الأصل عدم وجوب الأكثر فلا يجب أخذ الاذن من المجتهد في فعلها، و أما ان كان من قبيل المعاملات كأن شك في صحة المعاملة منه على مال اليتيم التي يحفظ بها ماله بدون اذن الفقيه وجب عليه أخذ الإذن منه لأن الأصل يقتضي الفساد بدون الاذن منه لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة و لا يجب عليه أخذ خصوص أذن مقلده بل له الأخذ لإذن كل فقيه إلا إذا احتمل اعتبار خصوص اذن مقلده، و ربما يتمسك بمثل قوله عليه السّلام عون الضعيف صدقة و كل معروف صدقة فان عمومها و إطلاقها يقتضي صحة مثل تلك المعاملات التي فيها حفظ مال اليتيم بدون اذن الفقيه لصدق العون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 383

و المعروف عليها بدون أذن الفقيه، و الحاصل ان المعاملة المذكورة اما ان تكون واجبة أو مستحبة لأنها حسب الفرض يحفظ بها مال اليتيم فتكون من المعروف و الإحسان و البر التي ندب لها الشارع و ذلك يقتضي صحتها و قد ناقش في ذلك المرحوم الايرواني (ره) بما حاصله ان التمسك بدليل كل معروف صدقة و أمثاله مما أخذ في موضوعه

مشروعية الفعل لا وجه له لأنه إرشاد محض و ذلك لأن موضوعها المعروف، و العون، و الإحسان، و المراد بها هو ما كان معروفا مشروعا عند الشارع و ما كان عونا مشروعا عند الشارع و ما كان إحسانا مشروعا عند الشارع فتكون هذه المواضيع كناية عما رغب الشارع اليه و حث عليه و لا ريب انه إذا علم هذا و ان الفعل مطلوب للشارع لم تكن حاجة الى التمسك بدليل كل معروف صدقة و كفى في ذلك ما دل على مشروعية ذلك الفعل، و إذا لم يعلم ذلك لم ينفعنا دليل كل معروف صدقة و نحوه لعدم إحراز موضوع المعروف فكيف يمكن أن يتمسك به لإثبات ما علق عليه من الحكم فلا بد أن تكون الأدلة الدالة على أن كل معروف صدقة للإرشاد إلى مطلوبية ذلك نظير ما إذا قال افعلوا الواجبات و اتركوا المحرمات فلا يصح التمسك بها في المقام لنفي عدم اعتبار الاذن من الفقيه لعدم إحراز مشروعية العمل بدون أذنه (و لا يخفى ما فيه) فان الظاهر من الكلام هو الحمل على التأسيس لا التأكيد و الظاهر ان المراد بالمعروف و الإحسان و العون هو مفاهيمها العرفية و هو ما يراه الإنسان معروفا و إحسانا و عونا نعم العقل يخصصها بكونها مشروعة عند الشارع في ثبوت تلك الاحكام لها إذ لا يعقل أن يريد الشارع معروفا قد حرمه كسقي الخمر أو التصدق بمال الغصب فاذا عرفت ذلك فنقول ان ما كان معروفا عند الإنسان و لكن شك في مشروعيته عند الشارع صح التمسك بعموم كل معروف لأن العام يصح التمسك به في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا.

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 384

كما فيما نحن فيه فان المخصص لها هو حكم العقل بعدم صحة إتيان ما هو ليس بمشروع عند الشارع و هو يحتمل عدم المشروعية للعمل بدون اذن الفقيه فيصح التمسك بعموم كل معروف و ان كانت الشبهة مصداقية لكون المخصص لبي، و يؤيد ذلك و يؤكده تمسك الفقهاء بعموم كل معروف صدقه في موارد عديدة فلو لم يفهموا ذلك منه لما تمسكوا به، و ناقش بعضهم في التمسك بها بان عنوان المعروف و الإحسان و العون نحتمل دخول اذن الفقيه في تحققه بمعنى ان المورد لو كان معتبرا فيه اذن الفقيه لم يكن فعله بدون أذنه يصدق عليه انه معروف أو إحسان أو عون بل هو منكر و ظلم و تقصير في حق الغير و هو المجتهد ففي المقام الذي يحتمل فيه اعتبار أذن المجتهد يحتمل عدم صدق هذه العناوين عليه فكيف يصح التمسك بعمومها فلم يحرز تحققها و الى هذا يشير كلام المحقق الأصفهاني (ره) حيث ذهب الى ان المعروف و الإحسان و نحوهما عنوان للواجبات و المستحبات فلا بد في استفادتها ضيقا وسعة من ملاحظة نفس دليل ذلك الواجب و المستحب فان كان لدليله إطلاق كان الفقيه و غيره على حد سواء و ان قام دليل على تقيده بالفقيه فان كان الدليل مطلقا سقط الواجب أو المستحب عند تعذر الفقيه لتعذر الشرط المطلق و ان كان مقيدا بصورة التمكن من من الفقيه أخذ بإطلاقه عند تعذر الفقيه و ان كان دليل الواجب أو المستحب مهملا لم يكن مجال للتمسك به لإثبات مطلوبيته من احاد المكلفين عند تعذر الفقيه كما لا مجال للتمسك بدليل المعروف حيث انه لم يحرز انه يصدر

معروفا من كل أحد (و لا يخفي ما فيه) فإنك قد عرفت ان هذه العناوين عرفية و ان الاحكام المرتبة عليها ناظرة لما يراه العرف معروفا مع قطع النظر عن الشرع. و عليه فاعتبار الشارع لإذن الفقيه في المورد لا يكون موجبا لأخذه في موضوع المعروف و إنما يكون مقيدا له بالاذن نظير سائر المقيدات و المخصصات فاذا شك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 385

في مورد اعتبار أذن الفقيه في صحته و فعله و كان من المعروف عند العرف في نظر الشاك صح التمسك بتلك العمومات في جواز فعله و صحته و الأصل عدم التقييد و التخصيص بأذن الفقيه و (الحاصل) أن الشاك في اعتبار أذن الفقيه يحرز صدق هذه العناوين فلا مانع من التمسك بعمومها و لا نسلم انها عناوين للواجبات و المستحبات لما عرفت من أن المراد بها المفاهيم العرفية كما هو الشأن في سائر عناوين الموضوعات المأخوذة في أدلة الأحكام و انما نقيدها بالواجبات و المستحبات الشرعية بحكم العقل حيث أن العقل يقول ان الشارع لا يريد إلا الواجب و المستحب فاذا شك في مورد انه واجب أو مستحب صح التمسك بالعمومات المذكورة لأنه و ان كان تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية إلا انه لما كان المخصص لبيا صح ذلك، و يمكن أن يناقش أيضا في التمسك بها بأنه لا إشكال في حكم العقل بتقيدها بمشروعيتها عند الشارع كما تقدم، و أصالة عدم الانتقال بالمعاملة تقتضي عدم المشروعية لهذا المعروف الذي كان بهذه المعاملة فيكون هذا الأصل منقحا للموضوع فهو حاكم أو وارد عليها (نعم) في مورد لا يجري الأصل المقتضي لعدم المشروعية لا يجي ء هذا الكلام، و يمكن

أن يناقش في التمسك بها أيضا بأن أدلة ولاية الفقيه تمنع من تصرف الغير إلا بإذنه لثبوت ولايته عليها فيكون تصرف غيره فيها بدون أذنه ليس بإحسان و ليس بعون لأن الإحسان و العون انما يطلبان شرعا و عقلا إذا لم يزاحمهما حق ذي حق بان يعارضا سلطنة شخص آخر و إلا فلا شبهة في قبحهما و من هنا لا يجوز المداخلة و التصرف بنحو الإحسان لا في مال البالغ الرشيد لمنافاته لسلطنته على نفسه و لا في مال اليتيم مع وجود وليه لمنافاته لسلطنة وليه و (الحاصل) ان عون الضعيف و حسن الإحسان و الإعانة على البر و التقوى مقيدة عقلا و نقلا بعدم مزاحمة حق الغير، و بأدلة الولاية للفقيه يثبت حق للحاكم في الأمور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 386

الحسبية فيرتفع بها قيد الموضوع في أدلة عون الضعيف و حسن الإحسان و الإعانة و هو عدم مزاحمة حق الغير و ينقلب الى نقيضه و هو مزاحمة حق الحاكم الشرعي ففي كل مورد يصدق فيه عنوان العون و المعروف يعتبر فيه اذن الفقيه لعموم أدلة ولاية الفقيه لكل عون و معروف، و قد أورد على هذا الدليل المحقق مرزا فتاح بما حاصله ان أدلة ولاية الفقيه و ان كانت حاكمة على أدلة الحسبية المذكورة إلا أن أدلة ولاية الفقيه محكومة لدليل نفي السبيل على المحسنين فيقال ان التصرف في مال اليتيم بالحفظ و الإصلاح مثلا إحسان و منع الحاكم له و إرجاعه إلى نفسه من السبيل عليه فينفي بدليل نفي السبيل على المحسنين نظير حكومته على دليل اليد فان من وضع يده على الامانة و تلفت منه لا بتفريط يكون

مقتضى دليل اليد هو الضمان لها لكن بدليل نفي السبيل ينفي الضمان عنه فكذا فيما نحن فيه يرفع اليد عن عموم أو إطلاق أدلة الولاية في مورد قصد الإحسان و يحكم بعدم ثبوت الولاية فيه للفقيه بالمعنى المذكور. و لا ينتقض ما ذكرنا بعدم جواز التصرف في أمور العاقل الرشيد بقصد الإصلاح و إيصال النفع مع كونه إحسانا و وجه عدم الانتقاض ما ذكرناه من عدم كونه إحسانا مع مزاحمة حق ذي الحق و فيما نحن فيه أعني التصرف في أمور العاقل قد قام الإجماع و الضرورة على اختيار الناس العقلاء البالغين الرشد في أمورهم و أحقيتهم بها من غيرهم فيكون تصرف الأجنبي فيها و لو بقصد الإحسان هتكا لحرمتهم و تضيعا لحقهم فلا يعد إحسانا بل يكون ظلما و اما مع عدم أهليتهم للتصرف فتصرف الغير فيها إحسان محض لا يشوبه شي ء من الجهات القبيحة إلا توهم كونه تضييعا لحق الحاكم و هو مبني على ثبوت الولاية له عليها و لا شي ء يثبتها إلا أدلة الولاية و هي محكومة بآية نفي السبيل على المحسنين فلا ولاية له بذلك المعني فيجوز لكل أحد التصدي للأمور الحسبية بدون اشتراطه بإذن الفقيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 387

و قد يورد على ما ذكرنا من حكومة دليل نفي السبيل بأنه من العمومات الموهونة لكثرة ورود التخصيص عليها فلا يجوز التمسك بها و فيه منع الصغرى انتهى ملخصا، و لا يخفي ما فيه فاته.

أولا: منقوض بعدم جواز التصرف من الغير في أموال القصر بنحو الإحسان عند وجود الولي عليه مع انه لا وجه له عندهم إلا مزاحمة حق ذي الحق فلو كان دليل نفي السبيل حاكم

على دليل الولاية لكانت له حكومة على أدلة ولاية الولي هنا لأن لسان أدلة ولاية الولي و أدلة ولاية الفقيه واحد.

و ثانيا: ان دليل نفي السبيل على المحسنين انما يثبت نفي السبيل على المحسن الذي لا يزاحم إحسانه حق الغير بحكم العقل و لذا اعترف بعدم جواز التصرف في أمور العاقل بنحو الإحسان فإنه لا وجه له إلا المزاحمة لحق العاقل في أموره فإذا كانت أدلة نفي السبيل على المحسنين مقيدة بعدم المزاحمة لحق ذي الحق فتكون أدلة ولاية الفقيه حاكمة أو واردة عليها لأنها تثبت الحق للفقيه في الأمور الحسبية فتكون أدلة نفي السبيل غير شاملة لها لعدم وجود القيد و هو عدم المزاحمة لحق ذي الحق نعم في صورة تعذر الوصول للفقيه صح تصدي الغير لها و لذا نجد القوم نوعا يتمسكون بهذه المطلقات و العمومات في الأمور الحسبية عند تعذر الوصول الى المجتهد، و قد يناقش أيضا في التمسك بها و لعله يقرب مما سبق بان مثل قوله (عون الضعيف صدقة) مسوق لبيان مطلوبية الأمور الحسبية بجميع أفرادها من دون نظر الى التقييد بالتصدي لها بنوع خاص من المكلفين كالفقيه أو غيره، و لكن أدلة ولاية الفقيه مقيدة لمطلوبيتها من الفقيه فيكون الأصل ثبوت ولايته عليها إلا ما أخرجه الدليل و هو المحكي عن ظاهر كلام صاحب الجواهر (ره) و لكن المحكي عن الأكثر ان أدلة ولاية الفقيه قضايا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 388

مهملة في قوة الجزئية فهي و ان أفادت أمرا زائدا و هو اعتبار التصدي للأمور المذكورة من صنف خاص و هو الفقيه إلا أن ذلك ليس على وجه الكلية و انما هو في الجملة فلا

تفيد حينئذ إلا ولايته على الأمور المذكورة في الجملة و حينئذ فيكون الأصل جواز التصرف في الأمور المذكورة لكل أحد إلا ما ثبت إناطته بالفقيه تمسكا بالعام عند تخصيصه بالمجمل المنفصل و عليه فلا يعتبر في مورد الشك في ثبوت ولايته الرجوع اليه و لا يخفى ما فيه لما قدمناه من عموم أدلة ولاية الفقيه فهي مقيدة لكل عون و معروف بإذن الفقيه.

[التنبيه السادس] هل يشترط في تصرف الفقيه فيما له الولاية عليه المصلحة أو عدم المفسدة

(السادس) انه قد عرفت ان أدلة الولاية ان كان يستفاد منها الولاية العامة بالمعنى الأعم الذي يشمل المقام الثاني و الثالث فلا إشكال في عدم اعتبار المصلحة في تصرفاته و ان كان الفقيه الذي يبلغ هذه المرتبة من الولاية تأبى نفسه أن يفعل ما ليس فيه المصلحة (ان قلت) ان مقتضاها أن يكون الفقيه أولى بالمؤمن من نفسه و أولويته كذلك تقتضي مراعاة مصلحة المتولي عليه كما انه يراعي المتولي عليه مصلحة نفسه في تصرفاته (قلنا) لو سلمنا ذلك فإنما يقتضي ذلك مرعاة الوالي لمصلحة نفسه لا لمصلحة المتولي عليه و أما ان قلنا ان أدلة الولاية لا يستفاد منها ذلك و انما يستفاد منها الولاية الأمة بالمعنى الأخص الذي يخص المقام الثالث فان الظاهر بقرينة العقل هو اعتبار المصلحة العامة في تصرفاته إلا انها بحسب نظره لا بحسب نظر غيره. و هو مصدق فيما يراه و إلا لزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 389

فساد الجعل و عدم الاستفادة منه. نعم ذهب جمع الى اعتبار المصلحة في تصرفات الفقيه بحسب ولايته الشرعية بل قد ادعي عليه الإجماع و لعل مستندهم في ذلك الى أن جعل الولاية باعتبار المحافظة على المصلحة، و لكن التحقيق ما قدمناه نعم قد يقوم الدليل

الخاص على ذلك كما في مال اليتيم لقوله تعالى:

وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ*.

[التنبيه السابع] في تعارض ولاية الفقيه مع الفقيه الآخر

(السابع) ان ظاهر الأدلة ان منصب الولاية مجعول لجميع الفقهاء الذين لهم أهلية إشغاله و صلاحية القيام بمهامه و لكن لو أشغله واحد منهم لم يجز للغير مزاحمته و معارضته في ذلك شأن سائر الواجبات الكفائية إذا قام بها من به الكفاية ليس لغيره مزاحمته فيها بل يحرم المزاحمة فيما نحن فيه لمن احتل هذا المنصب و مخالفته في التصدي لمقتضاياته و آثاره فان وضع انزعامة الدينية و تولي شؤون الرعية يقتضي عدم المزاحمة و المخالفة لمن قبض على ناصيتها و لأن مزاحمته و معارضته فيما يقوم به من الأمور يلزم منها اختلال النظام و حصول النزاع و الخصام الموجب للفساد الذي لا يرضى به الشارع قطعا و الذي قد شرعت الولاية لرفعه (و بعبارة أخرى) ان العقل حاكم بأنه يجب أن يكون المتصدي للقيام بمهام هذا المنصب من قبل الشارع شخصا واحدا إذ لو كان أكثر من واحد لحدث التشاجر فيما بينهم في التصرف في الشؤون العامة و المصالح المشتركة لاختلاف آرائهم و تباين أنظارهم و نزعاتهم بل هذا هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 390

الظاهر من رواية العلل المتقدمة ص 345 و غيرها بل ان الصادر منه ان كان حكما لم يجز معارضته فيه لما عرفت من عدم جواز نقض حكم الحاكم و ان كان عملا فهو أيضا قد يكون من قبيل الحكم كما عرفت في مبحث الفرق بين الفتوى و الحكم. و أما مجرد الفتوى فيجوز مخالفته فيها، على أن المزاحمة له في مقتضيات هذا المنصب تكون تعديا و تجاوزا على ماله

الحق الثابت له بهذا المنصب من الشارع بل يمكن أن يقال ان الولاية على كل عمل مجعولة على سبيل البدل لكل واحد من الفقهاء فاذا قام بها أحد لم يكن للآخر ولاية على ذلك الشي ء حتى يصح ان يقوم به و يزاحم الأول الذي قد قام به و لو تلبس ببعض مقدماته فاذا قام بالولاية على جميع الشؤون فلا يجوز للفقيه الآخر مزاحمته في جميعها، و إذا قام ببعضها لعدم تمكنه من القيام بالباقي لم يجز له مزاحمته في ذلك البعض الذي قام به و انما يجوز له القيام بالبعض الذي لم يقم به الأول بل يمكن ان يقال ان أدلة الولاية هي تقرير للولايات و السلطات الموجودة في سائر الملل و النحل كما يشير الى ذلك خبر العلل المتقدم ص 345 و لا ريب في ان الجعل فيها لواحد فإن الرئيس لكل قوم كما هو المتعارف في ذلك الوقت بل المتولي لكل شأن كما هو المتداول عند الأمم يكون واحدا و يمنع أشد المنع من مزاحمته بل يمكن أن يقال بأن ظاهر أدلة الولاية هي انها ثابتة للفقيه عين ما هو ثابت للإمام و كما ان الامام لا يزاحمه في ولايته و لا في التصرفات التي يقوم بها من جهة ولايته أحد أصلا حتى لو فرض انه امام مثله لأنه يلزم من ذلك معصية الامام الأول بالمخالفة له فكذلك الفقيه لأن الثابت له من الولاية هو الثابت للإمام حتى لو قلنا انها بنحو النيابة عنه عليه السّلام، و من الغريب تجويز مزاحمة الإمام لإمام آخر من بعض المحققين، هذا مضافا الى ان دليل الولاية إذا كان هو الإجماع فالقدر المتيقن منه هو الولاية للفقيه

مع عدم مزاحمته لفقيه آخر قد قام بمنصب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 391

الولاية. و اما إذا كان دليل الولاية العقل فكذلك لأن العقل انما يحكم بضرورة الولي حذرا من وقوع الفساد و اختلال النظام و مع تجويز المزاحمة حتى في مقدمات العمل يكون الحذر المذكور موجودا لاحتمال ان المولى عليهم يكون الأمر تابعا لشهواتهم و تلاعبهم. بل لعل السيرة قائمة على عدم مزاحمة الفقهاء العدول الامناء بعضهم لبعض بل يستنكرون ذلك لو وقع من أحدهم اشتباها (إن قلت) ان الروايات التي أقيمت على ثبوت الولاية للفقيه تدل على أن عموم الفقهاء لهم هذا المنصب و هو الولاية لا انه لواحد منهم دون غيره (قلنا) انا نقول بثبوتها لكل من الفقهاء الجامعين للشرائط و لكن ندعي انه لو قام واحد منهم بمهامها و أشغلها لم يجز للغير مزاحمته فهي نظير الواجب الكفائي في أنه واجب على الجميع لكن لو قام به أحد سقط عن الباقين بل قد يحرم عليهم إتيانه مرة أخرى كما في الحدود و التعزيرات لو قلنا بوجوبها الكفائي (ان قلت) انه كيف تدعي عدم صلاحية القيام بمنصب الولاية لأكثر من واحد مع أن الحسن و الحسين عليهم السّلام كانا إمامين قاما أو قعدا (قلنا) انا نتكلم في عدم صلاحية القيام بالمنصب المذكور لأكثر من واحد لغير المعصومين من الخطأ لاختلاف آرائهم و تباين طباعهم و تعدد و جهات نظرهم إذ إن ذلك موجب لحصول الشقاق و الانشقاق فيما بينهم مما يؤدي الى اختلال النظام في الرعية بخلاف المعصومين عن الخطأ فان نظرهم للواقع واحد و وجهة نظرهم للمصلحة متحدة بل هم نفس واحدة في جسمين فلا يعقل ان يحصل

الانشقاق بينهم و لا يختل النظام بتوليتهم مجتمعين و لذا ليس هناك مانع من مساندة الفقهاء الجامعين لشرائط هذا المنصب بعضهم لبعض كما ينقل انه في عصر المرحوم بحر العلوم «قدس سره» كان المرحوم كاشف الغطاء أو كل له مهمة المرجعية في التقليد و حل الخصومات و التولي للشؤون الاصلاحية و المرحوم بحر العلوم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 392

للتدريس و تفقيه الناس الأحكام الشرعية و المرحوم الشيخ حسين نجف للصلاة جماعة بالناس (ان قلت) ان السيرة على خلاف ذلك فانا نرى الفقهاء الأبرار كل منهم يعمل بمقتضى الولاية من دون مراجعة أحد منهم للآخر (قلنا) لعل ذلك لعدم ثبوت الولاية العامة في نظرهم للفقيه أو انهم لا يرون بذلك المزاحمة له في المنصب أو لعلهم يرون بان ولاة الجور تمنعه من العمل بهذا العمل الذي هو من مقتضيات الولاية و هم يتمكنون من الإتيان به أو لغير ذلك نعم لو كان مبسوط اليد لما جاز ذلك لأن نفس التصدي يكون مزاحمة له في المنصب إلا بإذنه (ان قلت) ان الكثير منهم قد أفتى بجواز المزاحمة للآخر لو كان الآخر قد تلبس ببعض مقدمات العمل بدعوى أن المزاحمة إنما تمنع منها باعتبار انها ترجع لمزاحمة الإمام عليه السّلام لأن الفقيه نائب عن الامام عليه السّلام إلا أنه لما كانت نيابته عن الإمام انما هو في نفس العمل لا في مقدماته جازت مزاحمته فيها دون العمل و دعوى ان نظر الفقيه كنظر الامام عليه السّلام و أمره كأمره فلا تجوز مزاحمته حتى في المقدمات لا تنفع مدعيها لأن اعتبار نظره من باب الطريقية للواقع فاذا اطلع الفقيه الثاني على خطأه جاز له مزاحمته

(قلنا) قد ذكرنا ان نفس التصدي تكون مزاحمة منه على منصب الولاية فإنه بعد ان كان منصب الولاية ثابت له و قد قام بما هو مقتضاه و تلبس به فمزاحمته و لو في مقدمات العمل تكون مزاحمة له في المنصب المجعول له من اللّه تعالى و تجاوزا على الحق الذي يكون له و الذي دل الدليل على عدم رضاء الشارع على المزاحمة فيه إلا بإذن القائم به و المتلبس به (ان قلت) ان الاحكام العقلية يقتصر فيها على مناطاتها و فيها نحن فيه مناط حكم العقل بعدم المزاحمة هو لزوم الفساد ففي مقام لا يلزم الفساد تجوز المزاحمة (قلنا) العقل يستكشف حكم الشرع بعدم جعله لجواز المزاحمة لأن جوازها موجب لفتح باب الفساد حيث مجال الاحتمال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 393

و التجوز لعدم الفساد في المزاحمة مفتوح. و الواقع لم ينكشف عنه الغطاء و عليه فلا محالة يستكشف العقل عدم جعل الشارع لجواز هذا الأمر، مضافا لما عرفت من أن جعل المنصب له يقتضي عدم المزاحمة له في مقتضياته لأن المزاحمة تكون تعديا على ماله من الحق المجعول له من الشارع.

[التنبيه الثامن] تزاحم ولاية الحاكم الشرعي مع ولاية غيره

(الثامن) لا ريب في انه قد دل الكتاب و الإجماع و السنة على ولاية جملة من المكلفين كولاية الجد و الأب على الصغير في المال و النكاح و على المجنون المتصل جنونه بالصغر أو مطلقا على قول و هكذا على السفيه المتصل سفهه بصغره أو مطلقا على قول و ولاية الوصي على الأطفال مع فقد الوليين الإجباريين و ولاية المولى على عبده و ان كان أبوه و جده موجودين و ولاية الأولى بالميراث في أحكام الميت و تحقيق ذلك و

تنقيحه يطلب من كتب الفقه و لكن محل البحث هنا في أنه هل للحاكم الشرعي ولاية أيضا على المذكورات كما للأب و الجد ولاية على الصغير و إذا تعارضا أيهما يقدم أم ليس له ذلك و انه انما يكون ولي من لا ولي له معين من الشرع فاذا فقد كان هو الولي كما انه إذا فقد كان عدول المؤمنين. ظاهر كلمات الفقهاء كالمرحوم صاحب أنوار الفقاهة و المرحوم صاحب كتاب العناوين انه ليس له ولاية على ذلك. و لكن التحقيق أن يقال انه ان قلنا بثبوت الولاية العامة له بالمعنى الأعم كانت له الولاية على ذلك لأنه على هذا يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم و يقدم مع التعارض، و اما ان قلنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 394

بثبوت الولاية العامة له بالمعنى الأخص فلا ولاية له على ذلك كما لا ولاية له على القضايا الجزئية إلا إذا كانت لها علاقة بحفظ شؤون المسلمين العامة. و لعله يؤيد تقديم ولاية الحاكم الشرعي على ولاية غيره ما روي عن الصادق عليه السّلام من انه إذا حضر الإمام الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها و ما عن الدعائم عن أمير المؤمنين عليه السّلام إذا حضر السلطان و في نسخة الإمام الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها من و لبها (ان قلت) كيف قدم الحسين عليه السّلام سعيد بن العاص في الصلاة على الحسن عليه السّلام قائلا له لو لا السنة لما قدمتك (قلنا) غير مسلم عندنا وقوع ذلك و لو سلمناه فيحتمل أنه للتقية و ان الحسين عليه السّلام نوى الانفراد في صلاته:

كيف و المعصوم لا يصلي عليه إلا المعصوم (ان قلت) في خبر السكوني عن الصادق

عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إذا حضر سلطان من سلاطين اللّه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها ان قدمه الولي و إلا فهو غاصب (قلنا) هو مع ضعفه سندا. من المحتمل ان الضمير في قوله فهو عائد للولي أي ان قدمه الولي فذاك المطلوب و إلا فالولي غاصب للسلطان لعدم إعطائه ما هو حقه و ببالي ان هذا المعنى احتمله صاحب كشف اللثام. كما انه احتمل في الذكرى ان المراد بالسلطان غير سلطان الأصل كما يشعر به التنكير المشعر بالكثرة و يكون هذا الكلام من الصادق عليه السّلام تعريضا بالولاة و الخلفاء الذين يتقدمون بسلطانهم و قوتهم على الصلاة على الجنائز و غيرها. و لكن اضافة السلطاني الى اللّه تعالى ينافي ذلك فان الظاهر ان المراد بهم الولاة الشرعيين الصحيحين (ان قلت) لعل المراد بالإمام و السلطان في الخبرين المتقدمين هو إمام الأصل و حينئذ فلا يثبت ذلك للفقهاء في عصر الغيبة (قلنا) مضافا الى أن أدلة النيابة تثبت كلما ثبت لإمام الأصل إلا ما أخرجه الدليل كما تقدم، ان الفقهاء يفهمون من هذه الألفاظ هو مطلق المتولي لشؤون المسلمين كما في أخبار الفقيد الذي تتربص زوجته اربع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 395

سنين فإنهم فهموا منها مطلق الفقهاء الصالحين للمرجعية الجامعين لشروطها.

هذا و المحكى عن الكاتب في أحد قوليه و عن الكافي ان امام المسلمين أولى بالصلاة على الميت من وليه.

[التنبيه التاسع] جواز نصب المجتهد لغيره فيما له الولاية عليه
اشارة

(التاسع) انه يجوز للمجتهد أن ينصب الغير على ما كان له الولاية عليه إلا ما قام الدليل على عدم جوازه. و يسمى ذلك الغير المنصوب من قبل المجتهد عند الفقهاء بالأمين لأن الأمين عندهم هو المنصوب من قبل

ولي الأمر عموما أو خصوصا في أمر من الأمور. و في المحكي عن شرح القواعد لجدنا كاشف الغطاء (ره) انه لو نصب الفقيه المنصوب من الامام بالإذن العام سلطانا أو حاكما لأهل الإسلام لم يكن من حكام الجور. و المشهور عنه (ره) انه نصب (فتح علي شاه) سلطانا على إيران و أعطاه الإجازة في تولية هذا المنصب.

و الدليل على جواز ذلك للمجتهد.

(أولا) ان الأصل فيما شك في جواز التوكيل فيه هو جوازه كما قرره الفقهاء في كتاب الوكالة و التحقيق في صحة هذا الأصل يطلب من كتاب الوكالة.

و (ثانيا) عموم أدلة الولاية له و النيابة عن الامام عليه السّلام فإنها تثبت بعمومها و إطلاقها ان كل ما للإمام عليه السّلام يثبت للمجتهد كما تقدم في مبحث الولاية و لا ريب في ثبوت ذلك للإمام عليه السّلام فيثبت للمجتهد الحال محله.

و (ثالثا) عموم أو إطلاق مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (كل معروف صدقة، و عون الضعيف صدقة) لأن رفع القصور عن الصغير بجعل أمين له و والي عليه يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 396

من المعروف و العون له و هكذا جعل الوالي على الوقف يكون عونا للموقوف عليهم فتأمل.

و (رابعا) ما دل على استخلاف القاضي قيما على ما هو تحت ولايته فاذا جاز ذلك في زمن الحضور كما ربما يكون من مسلماتهم جاز في زمن الغيبة أيضا و إذا جاز للقاضي فقد جاز للمجتهد بل الظاهر من قوله عليه السّلام (جعلته حاكما) هو ثبوت الولاية له على النصب للغير للملازمة العرفية بين جعله حاكما و بين جعل الولاية له على نصب الغير كما هو المتعارف في الدول الغير

الشرعية.

فيدل ذلك على المطلوب بالدلالة الالتزامية العرفية نظير دلالة (حاتم) على الكرم.

و (الحاصل) انه قد تقدم ان الظاهر من الأدلة في مبحث الولاية انه يثبت للفقيه كلما ثبت للإمام عليه السّلام إلا ما أخرجه الدليل حتى لو شك في ثبوت شي ء للفقيه مع ثبوته للإمام عليه السّلام فتجري أصالة عدم التخصيص أو التقيد و نثبت جوازه للفقيه (نعم) لو شك في ثبوته لنفس الامام عليه السّلام و لم تكن عمومات ولايته عليه السّلام تشمله كان الأصل عدم ثبوت الولاية للفقيه عليه. و قد أورد على دعوى إمكان جعل الفقيه لغيره الولاية أو القيمومة أو الجباية و أشباهها بان ذلك مبني على الالتزام بجعل الأحكام الوضعية و لعل الكثير من علمائنا لا يلتزم به بل ربما بعضهم يرى جعلها محالا. و لا يخفى ما فيه فان مثل هذه الأمور التي لها منشأ انتزاع عرفي قابلة للجعل بجعل منشأ انتزاعها فإنها لا تنقص عن جعل القضاء و الولاية التي لا إشكال في جعل الامام عليه السّلام لهما و لو لم تكن قابلة للجعل لما جعلها الامام عليه السّلام.

و أورد ثانيا: بان النصب من المجتهد انما يصح لو كانت الولاية ثابتة له في مقابل الامام عليه السّلام و اما إذا كانت ثابتة له بما هو نائب عنه عليه السّلام فلا يصح جعلها لغيره إذ ليس لذاته موضوعية في الأثر المذكور فلا وجه لاستقلاله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 397

بالنصب و الجعل و فيه ما لا يخفى فإنه أي مانع من كون النائب عن الامام عليه السّلام و الحال محله في تنظيم شؤون الرعية أن يجعل الامام له صلاحية النصب و التعين في المناصب الشرعية بل

مقتضى نيابته عن الامام عليه السّلام هو ذلك. كيف و الأدلة تقتضي صحة ذلك من المجتهد و انه نائب عنه في كل ما يصح صدوره عن الامام عليه السّلام هذا كله مع التنزل عما ذكرناه في مبحث الولاية من ان أدلتها تدل على ان المجتهد الجامع للشرائط ثابتة له الولاية من الشارع لا بعنوان النيابة عن الامام عليه السّلام.

أقسام جعل المجتهد لغيره

ثمَّ ان الجعل من المجتهد لغيره (تارة) يكون بنحو الاذن منه في التصرف و (تارة) بنحو الوكالة و النيابة عنه و (تارة) يكون بنحو إعطائه المنصب و جعل الولاية له كجعله قيما أو واليا على البلد أو متوليا للوقف أو جابيا للزكاة و نحو ذلك (ان قلت) أي فرق بين جعل المجتهد الوكالة و النيابة و الاذن و بين جعله لنفس المنصب كجعل الغير متوليا، و بعبارة أخرى أي فرق بين جعل المجتهد للغير وكيلا عنه في تولي شؤون القصر و بين جعله للغير قيما عليهم (قلنا) ان المجتهد قد يتصرف في مال اليتيم و الوقف بعنوان انه لا ولي له و انه هو ولي من لا ولي له فيكون تصرفه مع بقاء التحفظ على العنوان الذي جوز له التصرف فيه و هو عنوان كون المال أو الشخص لا ولي له و قد يتصرف فيه بنحو يخرجه عن هذا العنوان فيجعل له واليا و قيما و يخرج بذلك عن كونه لا ولي له و لا ريب ان تصرفه بكل واحد من النحوين يغاير الآخر فجمل القيمومة و الولاية على اليتيم من قبيل الثاني و إعطاء الاذن و الوكالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 398

و النيابة من قبيل الأول لو لم يكن مسبوقا بجعل

نفسه قيما و متوليا و إلا كان منشأه التصرف على النحو الثاني.

و (الحاصل) ان مقتضى الأدلة جواز ذلك كله للمجتهد لا سيما المتصدي لأمور الرئاسة الدينية و الزعامة الإلهية إلا إذا كان الغير غير صالح لجعل ذلك الشي ء له فلا يجوز للمجتهد جعل ذلك له كالفاسق الذي قامت الأدلة على عدم صلاحيته لتولية الوقف و كالعامي الذي لا يصلح للقضاء هذا و ربما (يقال) انه لا يجوز للزعيم الديني أن ينصب شخصا للقضاء أصلا لأن ذلك الشخص ان كان مجتهدا فهو له القضاء و ان كان غير مجتهد فلا يجوز نصبه (قلنا) ان للزعيم الديني ذلك فإنه لو تمكن من له الأهلية للزعامة الدينية لم يجز لأحد مزاحمته في الزعامة و لا في القضاء كما تقدم في تنبيهات الولاية و لكن له أن يعين مجتهدا للقضاء لسد حاجة الناس في رفع المخاصمات و حسما لمادة المنازعات في اختيار القاضي و يمنع من الرجوع لغيره خوفا من الاختلاف في الحكم نعم لو لم يعين أو لم يكن فقيها له تلك الزعامة جاز لكل مجتهد القيام بالقضاء.

[التنبيه العاشر] جواز عزل المجتهد للمنصوب

(العاشر) لا إشكال انه يجوز للمجتهد الذي له الولاية عزل المنصوب من قبله أو قبل غيره إذا ظهر منه ما يوجب عزله كما انه يجوز العزل للمصلحة أو لوجود من هو أتم منه نظرا بلا خلاف يعرف و انما وقع الكلام في جواز العزل تشهيا و اقتراحا و حبا للغير أو بغضا له فجملة ذهبوا الى الجواز كما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 399

المحكي عن التحرير و الكشف و المفتاح و الجواهر لأنه مقتضى ولايته على المسلمين العامة و ذهب صاحب الشرائع و الإرشاد الى عدم

جواز ذلك لأن ولاية المنصوب قد استقرت فلا تزول تشهيا مضافا الى ان عزله عبث و فيه عرضة للقدح في المعزول و هو ليس يستحق القدح. و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم استقرار الولاية بحيث لا تزول بعزل من له الولاية العامة و ليس العزل فيه عبث لعله لحب في نفس المولى و رغبة تقتضي ذلك و ليس كلما يوجب أن يكون الإنسان عرضة للقدح لا يجوز فعله و إلا لما جاز أغلب الأفعال على انا لا نسلم ذلك إذ يمكن رفعها لو كان العزل موجبا لها بأن يصرح الولي العام بأن عزله ليس لما يقدح فيه.

[التنبيه الحادي عشر] تصرفات المجتهد بعد موته أو بعد فقدانه لأهلية المرجعية
اشارة

(الحادي عشر) لا إشكال في عدم جواز الترافع الى المجتهد الميت أو من فقد الأهلية كأن صار فاسقا أو عاميا فلا يجوز رفع الخصومة بحسب رأيه بالرجوع إلى الحاكي عن فتواه أو كتابه للإجماع و ظاهر الأخبار على اعتبار الحياة في القاضي و لعدم قابليته لأن يصدر الحكم منه و هو غير الفتوى كما أن الأدلة الدالة على اعتبار باقي الشروط فيه تقتضي عدم صحة قضاءه عند فقده لها و أما الأحكام الصادرة عنه في الخصومات و المرافعات و الأمور الحسبية في زمان حياته و زمان أهليته فهل تبطل بعد مماته أم لا فنقول ان (منها) ما يكون أحكاما لرفع الخصومات ككون هذا ملكا لزيد و هذه المرأة محرمة على هذا الشخص و كون هذا المال وقفا و نحو ذلك فهذه لا إشكال في عدم بطلانها بموته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 400

أو فقدان أهليته لأنها يكون ردا لحكمه و الراد عليه راد على اللّه تعالى و (منها) ما يكون من قبيل المعاملات

الصادر منه بعنوان ولايته كبيعه أموال القصر و الغائبين و المجانين و إجارته لها أو للأوقاف العامة فأيضا تكون نافذة و لا تبطل بموته للأدلة الدالة على لزومها كأوفوا بالعقود و نحو ذلك فهو كسائر المتعاملين بها لا ينقص عنهم و (منها) ما يكون بنحو الاذن في التصرف و الوكالة و النيابة عنه كما لو أذن له بقتل الكافر أو التصرف في مجهول المالك أو حق الامام عليه السّلام أو وكله بحفظ مال القاصرين أو أنابه عنه في تولية الوقف فلا إشكال في بطلان ذلك بموته لأنه لا يزيد عن سائر الوكلاء و المأذونين و النائبين في بطلان وكالتهم و إذنهم و نيابتهم بموت الموكل و الآذن و المنوب عنه لتقومها بالاذن و الرضا و طيب النفس المتقومة بالحياة بل و لو لم نقل بتقومها بالحياة فهي أيضا تبطل لانتقال الأمور التي قد أذن فيها أو وكل فيها أو أناب فيها الى من بعده فلا بد للمتصرف فيها أن يرجع لمن انتقل أمرها إليه. مضافا للإجماع الذي ذكره في الجواهر على بطلان الوكالة بالموت ففيما نحن فيه تبطل نيابته و وكالته و أذنه من المجتهد بالموت فلا أثر لما كان تأثيره عنه بأحد هذه العناوين و هكذا لو جن المجتهد أو سقط عن أهلية التصرف بالفسق و نحوه لأنه يرجع ما بيده لغيره فلا بد من أخذ الاذن من ذلك الغير الذي رجعت تلك الأمور له (نعم) المجتهد بالإغماء أو النوم أو الغفلة لما كان لا يخرج عن أهلية التصرف بالإجماع و السيرة كانت الوكالة و النيابة و المأذونية لا تبطل بها، و قد يستدل بإطلاق أدلة الوكالة و هو مبني على تسليمه، و (منها)

ما يكون بنحو إعطاء المنصب كإعطاء القيمومة على القصر و الولاية على الأوقاف و الجباية و القضاء بين الناس بناء على جواز جعل المجتهد لشخص قاضيا و نحو ذلك من المناصب الشرعية و الظاهر انها لا تبطل بموته و لا بخروجه عن الأهلية و لكن للمجتهد الحي أن يعزله عنها و قد حكي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 401

الإجماع عن الشيخ و جامع المقاصد و عن الإيضاح الإجماع على عدم انعزال الأولياء القوّام المجعولين من قبل المجتهدين خلافا لما يظهر من صاحب البلغة حيث ذهب الى بطلان ذلك بموت المجتهد و بعضهم فصل في المقام بين ما إذا كان نصب المجتهد للقيم و نحوه من جانب الامام عليه السّلام فيكون المجتهد واسطة في الجعل عن الامام و حينئذ فلا ينعزل بموت المجتهد في عصر الغيبة لكون الجاعل له حيا لم يمت و بين صورة ما إذا نصبه المجتهد من قبل نفسه باعتبار ان له حق النصب فينعزل بموته. و الحق هو القول الأول و هو عدم البطلان بموت المجتهد أو بخروجه عن الأهلية، و يمكن أن يستدل له (أولا) بالإجماع المنقول عن الشيخ و الإيضاح و جامع المقاصد و لعل الإجماع المحصل قبل صاحب البلغة ثابت.

و (ثانيا) بأن الولاية التي كانت للإمام عليه السّلام قد ثبت جعلها للمجتهد في عصر الغيبة الجامع للشروط و انه يقوم مقامه في جميع ما هو ثابت له عليه السّلام فكما ان الامام لا ينعزل المنصوب قيما أو واليا من قبله بالإجماع بموته كذلك الذي نصبه المجتهد لأنه نائب مناب الإمام في جعل هذه الوظائف، نعم إنما ينعزل إذا عزله الولي لا ان موت الولي موجب لعزله

و (ثالثا) باستصحاب بقاء تلك المناصب و الوظائف بعد موت المجتهد و باستصحاب صحة تصرفات القيم و الولي بعد موت المجتهد الناصب لهما. و قد أورد على الاستصحاب المذكور: بأنه معارض باستصحاب عدم الصحة في العقود و المعاملات الواقعة من القيم و الولي بعد موت المجتهد و عدم ترتب الأثر على تصرفاتهما بعد موت المجتهد و لا يخفى ما فيه فان الاستصحاب الأول مقدم على الثاني لأنه من قبيل الشك السببي و المسببي فإن الشك في ترتب الأثر على المعاملات ناشئ من الشك في بقاء القيمومة و الولاية. مضافا إلى أنه لا وجه للاستصحاب الثاني المذكور لأن اليقين السابق هو صحة المعاملات الصادرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 402

من الولي و القيم و نشك في بقائها بعد طرو موت المجتهد، إلا اللهم أن يقال: ان هذا استصحاب تعليقي فاسد عندنا. مضافا إلى استصحاب عدم صحة القيمومة و الولاية من المجتهد الحي الآخر و عدم صحة التصرف منه فان هذا المجتهد الحي الآخر لم يكن يصح منه ذلك في زمن حياة المجتهد الأول فنستصحب عدم الصحة منه إلى ما بعد موت المجتهد الأول. و لا يخفى ما فيه فان أدلة الولاية العامة تقتضي صحة تصرفه عندما صار وليا عاما في العزل و النصب و الإمضاء لتصرفات المجتهد السابق

حجة القول الثاني

و استدل للقول الثاني و هو الانعزال بموت المجتهد أولا: بأن نصب المجتهد القيم و الولي و نحو ذلك من الوظائف كالجباية للأموال إنما هو عبارة عن جعله نائبا و وكيلا عنه في ذلك و مقتضاه انعزاله بموته أو بخروجه عن الأهلية للإجماع على انعزال الوكيل بموت الموكل. (و جوابه) ان ذلك من قبيل

إعطاء المنصب و الولاية على التصرف فجعل الولي و القيم من حاكم الشرع كجعل حاكم الشرع وليا و قيما من اللّه تعالى و ليس من قبيل النيابة عن المجتهد، و لذا لسان الجعل يختلف عن لسان النيابة ففي صورة النيابة يقول المجتهد جعلتك نائبا عني في حفظ أموال القاصرين و الإدارة لشؤون الوقف و في صورة إعطاء المنصب يقول جعلتك قيما و جعلتك متوليا و قاضيا و جابيا. و دعوى انه ليس لحاكم الشرع ذلك و إنما له أن يجعل نائبا عنه في ذلك. (قلنا) هذا خروج عن محل البحث فان محل البحث هو بعد فرض جواز الجعل منه و قد أثبتنا ذلك في تنبيهات الولاية العامة و انه يجوز له أن يجعل المنصب لغيره.

و (ثانيا) بأن إعطاء المنصب يكون متفرعا على ولاية المجتهد و من شؤون نيابته عن الامام عليه السّلام و بموت المجتهد تزول ولايته و نيابته عن الامام فيزول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 403

ما يتفرع عليها. (و جوابه) ان إعطاء المنصب حدوثه متفرع على ذلك و ليس بقائه متفرع عليه بل هو أول الكلام.

حجة القول الثالث

و استدل للقول الثالث أعنى القول بالتفصيل بين صورة إعطاء المنصب من قبل نفس المجتهد فينعزل بموته و بين صورة إعطائه من قبل الامام عليه السّلام فلا ينعزل بموته بأنه في الصورة الاولى يكون من شؤون و توابع و فروع ولاية المجتهد و بموته تسقط ولايته فيسقط توابعها و ما يتفرع عليها بخلاف الصورة الثانية فإن المجتهد واسطة في الجعل عنهم (ع) و ليس له استقلال فيه و ليس لذاته موضوعية في الأثر المذكور فموته لا يوجب الانعزال لأن موكله في الحقيقة هو الامام

عليه السّلام و هو لم يمت و إنما الذي مات هو الواسطة بينهما قالوا و لو شك في أن جعل المجتهد لصاحب المنصب من قبيل الأول أو الثاني لم يجري الاستصحاب لأنه من قبيل تردد المستصحب بين الفرد الطويل المعلوم البقاء و الفرد القصير المعلوم الزوال و لا أثر للكلي المردد بينهما حتى يستصحب و أما استصحاب جواز التصرف فهو استصحاب تعليقي معارض باستصحاب عدم ترتب الآثار على ما يصدر منه، و لا يخفى ما فيه لا مكان المناقشة (أولا) بأن الوكيل لا يجوز له توكيل الغير إلا بإذن الموكل كما قرر في كتاب الوكالة و فيما نحن فيه و إن ثبت جواز توكيل المجتهد لشخص من قبل نفسه إلا ان جواز توكيله من قبل الامام عليه السّلام غير ثابت و على مدعيه الدليل و كذلك ولايته عن الامام لا تستلزم جواز أن يوكل شخصا عن الامام عليه السّلام.

و (ثانيا) بأن على كلا الصورتين لا ينعزل اما في الصورة الثانية فلموافقة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 404

الخصم لنا في ذلك، و اما في الأولى فلما عرفت ان صلاحية النصب له لا يوجب التبعية وجودا و عدما له ألا ترى ان الجد أو الأب يجعل لشخص القيمومة على أولاده مع انه لا ينعزل بموتهما و الواقف يجعل تولية الوقف لشخص مع انه لا ينعزل بموته (و بعبارة أخرى) ان جعل ذلك المنصب بيده لا يستلزم أن يزول بموته أو فقدان أهليته.

[الشك في نوع جعل الفقيه للشخص انه بنحو الاذن و نحوه أو بنحو إعطاء المنصب.]

ثمَّ انه بعد ما عرفت بأن الوكالة و النيابة و الاذن تبطل بموت المجتهد أو فقده لأهلية المرجعية، و ان القيمومة و الجباية و الولاية و نحوها من المناصب الشرعية لا تبطل

بذلك فلو شك في كيفية تعيين الفقيه للشخص بأنه بنحو الاذن و أشباهه مما يبطل بالموت و نحوه أو بنحو إعطاء المنصب له كمنصب القيمومة و أمثاله مما لا يبطل بذلك فذهب بعضهم إلى الثاني متمسكا بالإطلاق مدعيا أن الوكالة و النيابة تحتاج إلى التقييد بكون منصبه نيابة عن الغير بخلاف إعطاء المنصب فإنه و إن كان كل منهما فردا مباينا للآخر لكن في مقام البيان يحتاج أحدهما إلى التقييد دون الآخر كما قيل في البيع من أن إطلاقه يقتضي إيقاعه عن نفسه لا عن الغير لاحتياجه إلى قصد ذلك و هكذا عقد النكاح فإنه يحمل على الدائم لأن الانقطاع يحتاج إلى تقييد.

و لعل غرضه إن كل واحد منهما و إن كان فردا مباينا للآخر إلا أن بيان أحدهما يحتاج إلى مئونة زائدة و قيود أكثر فيحمل جعل الفقيه على الفرد الذي هو أقل مئونة في بيانه، و يمكن أن يقال انه معارض بصورة احتمال الإذن فإنه أيضا لا يحتاج الى التقييد، و الأولى أن يقال انه إن كان يحتاج بيان أحدهما إلى بيان أزيد دون الآخر حمل جعل الفقيه على الآخر الذي هو أقل بيانا و إلّا فيرجع إلى استصحاب الآثار و الأعمال التي كانت ثابتة له سابقا و قد أورد على هذا الاستصحاب انه غير صحيح لتردد المجعول بين فردين معلوم الزوال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 405

و معلوم البقاء و لا أثر للجامع ليجري استصحابه، و لا يخفى ما فيه فان النصب بأي نحو كان أثره جواز التصرف بدليل انه وقت وجود الناصب بأي نحو كان النصب تترتب عليه تلك الآثار فلو لم تكن آثارا للجامع لما ترتبت على

النصب مطلقا عند وجود الناصب. (إن قلت) ان استصحاب جواز التصرف استصحاب تعليقي معارض باستصحاب عدم ترتب الأثر. (قلنا) إنا لم نستصحب جواز التصرف و إنما نستصحب موضوعه و هو القدر الجامع بين الفردين، مضافا إلى ان استصحاب جواز التصرف استصحاب تنجزي لأن نفس الجواز ثابت فعلا، و اما استصحاب عدم ترتب الأثر فقد تقدم ص 401 فساده.

[التنبيه الثاني عشر] أموال الفقيه في زمن الغيبة التي يصرفها على نفسه و شؤونه أو وجوب دفع أموال الإمام له
اشارة

(الثاني عشر) لا ريب ان الذي يصلح أن يكون مالا للفقيه في عصر الغيبة باعتبار ولايته هي أموال الإمام عليه السّلام و قبل الخوض في ذلك لا بأس بالتعرض لأموال الإمام عليه السّلام الثابتة له ثمَّ بيان صحة تصرف الفقيه الجامع لشرائط المرجعية و الولاية فيها بصرفها على نفسه و شؤونه فنقول إن أموال الإمام عليه السّلام على قسمين (أحدهما) ما يكون ثبوتها له بعنوان الإمامة و من جهتها. و (ثانيهما) ما يثبت له بالأسباب الموجبة لثبوتها لسائر المسلمين كالثابتة له بالإرث أو بالهدية أو بالكسب أو بالنذر لشخصه الكريم أو الوقف على ذاته المقدسة أو نحو ذلك و لا كلام لنا في القسم الثاني لوضوح عوده لوراث الامام و عدم رجوعه للفقيه و إنما كلامنا في القسم الأول لأنه هو الذي يمكن ان يقال فيه بعوده للفقيه في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 406

عصر الغيبة،

و الكلام يقع في مقامين
اشارة

أحدهما في تعيين أموال الإمام عليه السّلام و تشخيص أنواعها. و ثانيهما في بيان عودها للفقيه في عصر الغيبة.

اما (المقام الأول) [و هو] في تعيين أموال الإمام ع و تشخيص أنواعها
اشارة

فنقول

[حق الإمام]
اشارة

من أموال الامام (نصف الخمس) و يسمى بحق الإمام فإنه لا اشكال و لا خلاف في كونه ثابتا له بعنوان الإمامة و إنما وقع النزاع في ثبوته في زمن الغيبة. فعن الشيخين و السيدين و الشهيدين و سائر من تأخر عنهم القول بالثبوت بل المحكى عن الرياض انه الأشهر بل عدم الخلاف فيه إلا نادرا من القدماء. و عن الجواهر انه المشهور نقلا و تحصيلا ان لم يكن المجمع عليه. و حكى القول بالسقوط عن المراسم و الكفاية و الذخيرة و المدارك و المفاتيح و الحدائق.

[حجة القول بالثبوت في زمن الغيبة]

و يدل على (القول الأول) هو انه لا إشكال في ثبوته في زمن الحضور لكل ما دل عقلا و نقلا على وجوب دفع الحق إلى مستحقه، و إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يؤخذه و ان الأئمة الأطهار عليهم السّلام يرسلون الوكلاء الى جميع النواحي لقبضه حتى في زمن الغيبة الصغرى، و أدلة الاشتراك في التكليف تقتضي ثبوته في زمن الغيبة. مضافا الى ان الاخبار الدالة على وجوب الخمس في كل نوع من أنواعه ظاهرة الدلالة على ثبوته في كل عصر مضافا لما في الصحيح المروي في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه من قول ابي جعفر الثاني عليه السّلام ان أحدهم يثب على أموال آل محمد أيتامهم و مساكينهم و أبناء سبيلهم فيأخذه ثمَّ يجي ء فيقول: اجعلني في حل. أ تراه ظن إني أقول لا افعل. و اللّه ليسألنهم اللّه تعالى يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا. و لما في المروي في الكافي بسنده عن محمد بن الطبري فيما كتبه أبو الحسن الرضا عليه السّلام الى رجل من تجار فارس إن الخمس عوننا

على ديننا و على عيالنا و على أموالنا و ما نبذله و نشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته فلا تزوه عنها. و لما في المروي في الكافي بسنده عن ابي الحسن الرضا عليه السّلام في جواب قوم طلبوا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 407

منه ان يحل لهم الخمس؟ ما أمحل هذا تمحضونا المودة بألسنتكم و تزوون عنا حقا جعله اللّه لنا و جعلنا له و هو الخمس لا نجعل أحدا منكم في حل، و ما في المروي عن الشيخ بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال سمعته يقول: من اشترى شيئا من الخمس لم يعذره اللّه اشترى ما لا يحل له، و ما في خبر أبي بصير قال قلت: ما أيسر ما يدخل به العبد النار، قال: من أكل مال اليتيم درهما و نحن اليتيم. و ما في خبر عبد اللّه بن بكير عن الصادق عليه السّلام انه قال: اني لآخذ من أحدكم الدرهم و انى لمن أكثر أهل المدينة مالا لا أريد بذلك إلا أن تطهروا و ما في التوقيع الوارد عن العمري في جواب مسائل محمد بن جعفر الأزدي قال و اما ما سألت عنه من أمر من استحل ما في يده من أموالنا و يتصرف فيها تصرفه في ماله من غير أمرنا فهو ملعون و نحن خصمائه.

و ما رواه في الوسائل عن الحجة عليه السّلام انه قال للحسين عم ناصر الدولة الحمداني: يا حسين لم تمنع أصحابي عن خمس مالك، ثمَّ ذكر في آخره: ان العمرى أتاه و أخذ خمس ماله.

و لا يخفى عدم دلالة بعض هذه الاخبار على المدعى من ثبوت الخمس في زمن الغيبة

بل لعله ظاهر في ثبوته في زمن الحضور لمن تدبر فيها و ساكتة عن زمن الغيبة لكن في غيره و ما تقدم من الأدلة غنى و كفاية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 408

حجة القول بالسقوط في زمن الغيبة

(أولا) ان إيصاله إلى الامام كان متعذرا عادة على نحو تعذر إيصال اللقطة أو الكنز أو المجهول المالك إلى صاحبه بل هو أشد من ذلك و كان عزله و استيداعه و الوصية به أو دفنه إلى ظهوره (عج) تغريرا بالمال و تعرضا للتلف لطول الزمن و كثرة السراق و غلبة العثور عليه ممن لا يستحقه و ندرة الأمناء فيسقط وجوب إيصاله إلى الامام عليه السّلام بأي نحو كان لأن التكليف إذا تعذر امتثاله سقط وجوبه. و لا يخفى ما فيه فان أدلة الولاية المتقدمة ظاهرة في أن كل ما كان ثابتا للإمام بعنوان الإمامة يثبت للفقيه الجامع للشرائط كما هو ظاهر ما دل على ان العلماء ورثة الأنبياء و غيرها و سيجي ء ان شاء اللّه عند الكلام في المقام الثاني ما يظهر لك فيه ان حق الإمام في زمن الغيبة صاحبه هو المجتهد الجامع للشرائط و عليه فلا يتعذر إيصاله لمستحقه و (ثانيا) اخبار التحليل (الأول) ما رواه الشيخ ره بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن ابى جعفر يعني أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن على الوشاء عن احمد بن عائذ عن أبي سلمة سالم بن مكرم و هو أبو خديجة عن ابى عبد اللّه عليه السّلام قال قال رجل و انا حاضر حلل لي الفروج ففزع أبو عبد اللّه عليه السّلام فقال له رجل ليس يسألك أن يعترض الطريق انما يسألك خادما يشتريه أو امرأة يتزوجها

أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا أعطيه فقال هذا لشيعتنا حلال الشاهد منهم و الغائب و الميت منهم و الحي و ما يولد منهم الى يوم القيامة فهو لهم حلال اما و اللّه لا يحل الا لمن أحللنا له لا و اللّه ما أعطينا أحدا ذمة و ما عندنا لأحد عهد و لا لأحد عندنا ميثاق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 409

و (ثانيا) ما رواه هو (ره) عنه عن ابي جعفر عن محمد بن سنان عن صباح الأزرق عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال ان أشد ما فيه الناس يوم القيامة ان يقوم صاحب الخمس فيقول يا رب خمسي و قد طيبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم و لتزكو أموالهم.

و (ثالثا) الصحيح الذي رواه هو (ره) بإسناده عن ابي جعفر عن العباس بن معروف عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد اللّه عن ابي بصير و زرارة و محمد بن مسلم كلهم عن ابي جعفر عليه السّلام قال قال أمير المؤمنين علي بن ابى طال عليه السّلام هلك الناس في بطونهم و فروجهم لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا الا و ان شيعتنا من ذلك و ابائهم في حل.

و (رابعا) الصحيح الذي رواه الشيخ (ره) بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن ابي جعفر عن علي بن مهزيار قال قرأت في كتاب لأبي جعفر عليه السّلام الى رجل يسأله أن يجعله في حل من مأكله و مشربه من الخمس فكتب بخطه عليه السّلام من أعوزه شي ء من حقي فهو في حل.

و (خامسا) الصحيح الذي رواه هو (ره) عنه عن ابي جعفر عن الحسين بن سعيد عن فضالة بن أيوب عن

عمر بن أبان الكلبي عن ضريس الكناسي قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام أ تدري من اين دخل على الناس الزنا فقلت لا أدري فقال من قبل خمسنا أهل البيت الا لشيعتنا الأطيبين فإنه محلل لهم و لميلادهم.

و (سادسا) ما عن تفسير الحسن العسكري عليه السّلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السّلام انه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد علمت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انه سيكون بعدك ملك عضوض و جبر فيستولى على خمسي من السبي و الغنائم يبيعونه فلا يحل لمشتريه لأن نصيبي فيه و قد وهبت نصيبي منه لكل من ملك شيئا من ذلك من شيعتي لتحل لهم منافعهم من مأكل و مشرب و لتطيب مواليدهم و لا يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 410

أولادهم أولاد حرام قال رسول اللّه ما تصدق أحد أفضل من صدقتك و قد تبعك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فعلك أحل الشيعة كل ما كان فيه من غنيمة و بيع من نصيبه على واحد بعد واحد من شيعتي و لا أحلها انا و لا أنت لغيرهم.

و (سابعا) ما رواه الصدوق (ره) في محكي إكمال الدين عن محمد بن محمد بن عصام الكليني عن محمد بن يعقوب عن إسحاق بن يعقوب فيما ورد عليه من التوقيعات بخط صاحب الزمان عجل فرجه و جعلني من كل مكروه فداه اما ما سألت عنه من أمر المنكرين لي إلى أن قال و اما المتلبسون بأموالنا فمن استحل شيئا فأكله فإنما يأكله النيران و اما الخمس فقد أبيح لشيعتنا و جعلوا منه

في حل الى أن يظهر أمرنا لتطيب ولادتهم و لا تخبث:

و (ثامنا) المعتبر الذي رواه الشيخ (ره) بإسناده عن سعد بن عبد اللّه عن ابي جعفر احمد بن محمد بن عيسى عن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب قال كنت عند ابي عبد اللّه عليه السّلام فدخل عليه رجل من القماطين فقال جعلت فداك تقع في أيدينا الأموال و الأرباح و تجارات نعلم ان حقك فيها ثابت و انا عن ذلك مقصرون فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام ما أنصفناكم إن كلفناكم.

و (تاسعا) ما رواه هو (ره) بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن الحسن بن علي بن يوسف عن محمد بن سنان عن عبد الصمد بن مشير عن حكيم مؤذن بني عيسى عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له و اعملوا انما غنمتم من شي ء فان للّه خمسه و للرسول قال هي و اللّه الإفادة يوما بيوم الا ان ابي جعل شيعتنا من ذلك في حل ليزكوا.

و (عاشرا) الصحيح أو المعتبر الذي رواه هو (ره) بإسناده عنه عن احمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي عمارة عن الحرث بن المغيرة النضري عن ابي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له ان لنا أموالا من غلات و تجارات و نحو ذلك و قد علمت ان لك فيها حقا قال فلم أحللنا إذا لشيعتنا الا لتطيب ولادتهم و كل من والى ابائى فهو في حل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 411

مما في أيديهم من حقنا فليبلغ الشاهد الغائب.

و (الحادي عشر) ما رواه هو (ره) بإسناده عنه عن جعفر بن محمد بن حكيم عن عبد الكريم بن عمر و

الخثعمي عن الحرث بن المغيرة النضري قال دخلت على ابي جعفر عليه السّلام فجلست عنده فإذا نجية قد أستأذن عليه فاذن له فدخل فجثا على ركبتيه ثمَّ قال جعلت فداك اني أريد أن أسألك عن مسألة و اللّه ما أريد بها الا فكاك رقبتي من النار فكأنه رق له فاستوى جالسا فقال يا نجية سلني فلا تسئلني عن شي ء إلا أخبرتك به قال جعلت فداك ما تقول في فلان و فلان قال يا نجية ان لنا الخمس في كتاب اللّه و لنا الأنفال و لنا صفو المال و هما و اللّه أول من ظلمنا حقنا في كتاب اللّه إلى ان قال اللهم انا قد أحللنا ذلك لشيعتنا قال ثمَّ اقبل علينا بوجهه فقال يا نجية ما على فطرة إبراهيم غيرنا و غير شيعتنا.

و (الثاني عشر) الصحيح الذي رواه الصدوق في محكي العلل عن محمد بن الحسن عن الصفار عن العباس بن معروف عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن ابي جعفر عليه السّلام أنه قال أن أمير المؤمنين عليه السّلام حللهم من الخمس يعني الشيعة ليطيب مولدهم.

و (الثالث عشر) ما رواه ثقة الإسلام عن محمد بن يحيى عن محمد بن احمد عن محمد بن عبد اللّه بن احمد عن علي بن النعمان عن صالح بن حمزة عن ابان بن مصعب عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام ما لكم من هذه الأرض فتبسم ثمَّ قال أن اللّه تعالى بعث جبرئيل و امره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض منها سيحان و جيحان و هو نهر بلخ و الخشوع و هو نهر الساس و مهران

و هو نهر الهند و نيل مصر و دجلة و الفرات فما سقت و استقت فهو لنا و ما كان لنا فهو لشيعتنا و ليس لعدونا منه شي ء إلا ما غصب عليه و ان و لينا لفي أوسع فيما بين ذه الى ذه يعنى ما بين السماء و الأرض ثمَّ تلا هذه الآية قل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 412

هي للذين أمنوا في الحياة الدنيا المغصوبين عليها خالصة لهم يوم القيامة بلا غصب.

و (الرابع عشر) ما رواه هو (ره) عن عدة من أصحابه عن احمد بن محمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب عن عبد العزيز بن نافع قال طلبنا الاذن على ابي عبد اللّه عليه السّلام و أرسلنا اليه و أرسل إلينا ادخلوا اثنين اثنين فدخلت انا و رجل معى فقلت للرجل أحب ان تحل بالمسألة فقال نعم فقال له جعلت فداك أن ابي كان ممن سباه بنو أمية و قد علمت ان بنى أمية لم يكن لهم ان يحرموا و لا يحللوا و لم يكن لهم مما في أيديهم قليل و لا كثير و انما ذلك لكم فاذا ذكرت الذي كنت فيه دخلني من ذلك ما يكاد يفسد على عقلي ما انا فيه فقال عليه السّلام له أنت في حل مما كان من ذلك و كل من كان في مثل حالك من ورائي فهو في حل من ذلك فقمنا و خرجنا فسبقنا معتب الى النفر القعود الذين ينتظرون إذن ابى عبد اللّه عليه السّلام فقال لهم قد ظفر عبد العزيز بن نافع بشي ء ما ظفر بمثله احد قط قيل له و ما ذلك ففسره لهم فقام اثنان فدخلا

على ابى عبد اللّه عليه السّلام فقال أحدهما جعلت فداك ان ابي كان من سبايا بني أمية و قد علمت ان بني أمية لم يكن لهم من ذلك قليل و لا كثير و انا أحب ان تجعلنا من ذلك في حل فقال و ذلك إلينا ما ذلك إلينا ما لنا أن نحل و لا أن نحرم فخرج الرجلان و غضب أبو عبد اللّه عليه السّلام فلم يدخل عليه أحد في تلك الليلة إلا بدية أبو عبد اللّه عليه السّلام فقال الا تعجبون من فلان يجيئني فيستحلني مما صنعت بنو أمية كأنه يرى ان ذلك لنا و لم ينتفع أحد في تلك الليلة بقليل و لا كثير إلا الأولين فإنهما عنيا بحاجتهما.

و (الخامس عشر) ما رواه هو (ره) عن علي بن محمد عن علي بن العباس عن الحسن بن عبد الرحمن عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة عن ابى جعفر عليه السّلام في حديث قال ان اللّه جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفي ء فقال تبارك و تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 413

الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فنحن أصحاب الخمس و الفي ء و قد حرمناه على جميع الناس ما خلاف شيعتنا و اللّه يا أبا حمزة ما من ارض تفتح و لا خمس يخمس فيضرب على شي ء منه الا كان حراما على من يصيبه فرجا أو ما لا الحديث الى غير ذلك من الاخبار.

و الجواب عنها (أولا) بإعراض الأصحاب عنها لأنها تدل على ثبوت الإباحة من زمان النبي صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم الى وقت ظهور الغائب عجل اللّه فرجه أو الى يوم القيامة و هذا لم يقل به أحد من الأصحاب بل هذه الأخبار مخالفة لما يقتضيه النقل المأثور و السيرة المستمرة في جميع الأعصار و الأمصار على إخراج الخمس و حمله إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الى الأئمة الأطهار أو الى النوابهم عليهم السّلام و ارسالهم الوكلاء في النواحي لقبضه بل هي مخالفة للأخبار التي وردت في ضبط أنواعه و بيان مصارفه و تقدير نصابه بل مخالفة لما دل على وجوبه من الآيات و الروايات فضلا عما دل على التشديد في أمره و لعن مستحله. و يؤيد ذلك ان أكابر القدماء الذين هم أعرف بمفاد أخبارهم عليهم السّلام و جهات ورودها اختاروا وجوب الخمس و لم يفهموا من هذه الأخبار سقوطه.

و (ثانيا) إن هذه الأخبار لا يصح التمسك بها أصلا لأنها إن أخذ بعموماتها و إطلاقاتها لزم ارتفاع الخمس بالمرة و سقوطه من عهد الأئمة عليهم السّلام بل من عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو باطل بالضرورة و لا يقول به حتى الخصم، و إن حملت على زمان الحضور خاصة فهو لم يقل به أحد حتى الخصم، بل ظاهرهم الاتفاق على عدم سقوطه زمن الحضور و إن حملت على زمن الغيبة فيلزم خروج موردها فان موردها زمن الحضور و هو غير صحيح.

و (ثالثا) إنها مخالفة لحكم العقل و الشرع لأنها تدل على ان الامام الذي صدر منه التحليل قد حلل حصة الهاشميين من الخمس و حلل ما يملكه الامام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 414

المتأخر عنه و هو لا وجه له

لعدم تسلط الامام على ذلك لعدم ملكه له فلا بد أن يكون المراد بها هو تحليل خصوص ما يعود اليه و هو ما كان له في زمانه فلا يشمل عصر الغيبة إلا أن يثبت التحليل من الحجة عليه السّلام و هو غير ثابت لعدم قيام دليل على ذلك إلا رواية الصدوق المتقدمة ص 410 و هي غير مسلم صحتها مع معارضتها لما تقدم ص 407 من رواية الحسين عم ناصر الدولة، و التوقيع المتقدم ص 407 الوارد على العمري في جواب مسائل محمد بن جعفر مع انه لم يعلم المراد من الخمس فيها إذ لعل (أل) فيه للعهد بخمس معين لشخص معين الذي قد وقع السؤال عنه. مع منافاتها لما هو معروف من حال وكلائه عجل اللّه فرجه من استقرار سيرتهم على قبض الأخماس و يؤيد ذلك من أن المراد بها تحليل خصوص ما يعود اليه قول أبي جعفر عليه السّلام في صحيح ابن مهزيار المتقدم ص 409 (من أعوزه شي ء من حقي فهو في حل) و قول أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية تفسير العسكري المتقدمة ص 409 و قد وهبت نصيبي و قول أبي عبد اللّه عليه السّلام في رواية حكيم المتقدمة ص 410 (إن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حل).

و قوله في رواية عبد العزيز المتقدمة ص 412 (أنت في حل مما كان من ذلك).

فإنها ظاهرة في أن التحليل إنما هو لخصوص ما يعود اليه من المال و هو إنما يكون بالنسبة الى ما يستحقه في عصر إمامته. على انه لو كان الخمس و حق الامام حلال لم يحتاج الى استئذان ممن تأخر من الأئمة عليهم السّلام فلا بد أن يفهم

منها إرادة المرخصية و الإباحة في زمن المحلل خاصة أو لشخص مخصوص فيتعين تجديد الاذن في غير ذلك الزمان و لغير ذلك المحلل له. على أن عمومها أو إطلاقها حتى بالنسبة لما يعود اليه من المال لا يأخذ به الخصم لأنه لو أخذنا به لزم تحليل ما يعود للإمام بالميراث أو الهبة أو نحو ذلك و هو لم يفتي به أحد إلا أعدائهم من الكفار فعمومها و إطلاقها موهون لا يصح التمسك به لنفي ما ثبت وجوبه من الكتاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 415

و السنة و هو الخمس و الميراث و نحوه.

و (رابعا) إن هذه الأخبار معارضة بأدلة القول الأول من الآية و الأخبار. و الترجيح لأدلة القول الأول لموافقتها للكتاب و السنة و لمخالفتها للعامة فتعين الأخذ بأدلة القول الأول.

(إن قلت): لا وجه لطرح أخبار التحليل كما يحكى عن ابن جنيد بعد تواترها و عمل الأصحاب بها في الجملة بل لا بد من الجمع بينهما و بين الاخبار الدالة على التحريم بتنزيل التحليل على زمن الغيبة و التحريم على زمن الحضور وفق المحكي عن سلار. و خيرة الذخيرة، و المدارك، و المفاتيح.

قلنا: هذا الجمع لا يصح قطعا لان أخبار التحليل صريحة بما يعم الحضور كيف و مورد أكثرها هو زمن الحضور فلو حملناها على زمن الغيبة لزم خروج الوارد عن مورده كما أن روايات التحريم صريحة في ما يعم زمن الغيبة فالجمع بذلك إهمال للدليلين. مضافا الى أن هذا الجمع لا شاهد عليه من الروايات فيكون جمعا لا دليل عليه. مضافا الى ما في الجمع بذلك من اعراض الأصحاب و شذوذ القائل به. (نعم يمكن) حمل هذه الاخبار أعني أخبار

التحليل على صورة الخوف من أخذ حقوقهم أو على صورة الإعواز و الإشفاق على صاحب الحق كما ان مالك المار قد يشفق على المديون له فيبرء ذمته. و الأب قد يشفق على أولاده فيسقط ما بذمتهم له و يبيح ما له لهم. أو على ما هو المشهور بين الأصحاب من إباحة ما يأخذونه من المخالفين من المناكح (التي هي الجواري التي تسبى من دار الحرب) و من المساكين (التي يغنمها المسلمون من الكفار) و من المتاجر (التي هي الأموال التي تشترى من الغنيمة المأخوذة من أهل الحرب) فعن المنتهى دعوى الإجماع على استثناء المناكح من متعلق الخمس و إنها مباحة في حال ظهور الامام و غيبته و عن الشهيد (ره) في البيان دعوى إطباق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 416

الإمامية على إباحة تلك الأمور الثلاثة و لم يحك الخلاف في ذلك إلا عن ظاهر ابن جنيد و ابي الصلاح و لا شبهة في ضعفه و شذوذه و عن حواشي الشهيد (ره) انه قال: قد تقرر عندنا ان جميع ما يؤخذ من دار الحرب بغير إذن الامام سواء كان في حضوره أو غيبته فهو له عليه السّلام و قد أباحه لشيعته في حال الغيبة و يؤيد حمل روايات التحليل على ذلك. المروي في غوالي اللئالي مرسلا عن الصادق عليه السّلام انه سأله بعض أصحابه فقال يا ابن رسول اللّه ما حال شيعتكم فيما خصكم اللّه تعالى إذا غاب غائبكم و استتر قائمكم فقال عليه السّلام ما أنصفناهم إن واخذناهم بل نبيح لهم المساكن و نبيح لهم المناكح و نبيح لهم المتاجر. و لا يقدح ضعفه بالإرسال بعد اعتضاده بالشهرة التامة و الإجماعات المحكية

و ظاهر الروايات المتناولة لها بعمومها و لكن المرسل المذكور مختص بزمن الغيبة كما هو صريح المحكي عن فتاوى جماعة و كما هو صريح المحكي المتقدم عن حواشي الشهيد (ره) و لكنه مخالف للإجماع المحكى عن المنتهى المتقدم و لروايات التحليل المذكورة حيث تعم زمن الحضور و الغيبة إلا اللهم أن يحمل الغيبة على ذهاب سلطانهم و عدم خضوع الناس لهم.

و (كيف كان) فالظاهر هو حمل تلك الأخبار أعني أخبار التحليل على تحليل هذه الثلاثة فإنه هو الظاهر من أغلبها لمن تأمل فيها خصوصا ما يذكر فيها من العلة بطيب الولادة مع انه القدر المتيقن منها بعد ما عرفت عدم إرادة عمومها أو إطلاقها. و عليه فلا وجه لما في شرح اللمعة للمحقق المدقق الشيخ جواد ملا كتاب من أن الظاهر من الاخبار إباحة جميع ما يؤخذ من أيدي المخالفين من الخمس و الأنفال من غير فرق بين المناكح و المساكن و المتاجر و غيرها من الأموال المختصة بالإمام أو المشتركة بينه و بين غيره ثمَّ صارت في يد الجائر فإنه يباح للشيعة تناولها دفعا للعسر و الحرج و تحصيلا لطيب الولادة، و قد سبقه جدنا كاشف الغطاء (ره) في ذلك فإن المحكي عن كشف الغطاء انه قال بعد تعداد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 417

الأنفال و كل شي ء يكون بيد الامام مما اختص أو اشترك بين المسلمين يجوز أخذه من حاكم الجور بشراء و غيره من الهبات و المعاوضات و الإجارات لأنهم أحلوا ذلك للإمامية من شيعتهم، هذا و مقتضى هذه النصوص جواز انتزاع ذلك من أيدي مخالفيهم قهرا و سرقة و غيلة لكون ما بأيدي مخالفيهم باقيا على ملك الامام

و قد أحله لشيعته خاصة إلا ان المحكي عن ظاهر الأكثر هو المنع من أخذه من المخالف من غير إذن المخالف و لعله من جهة كونه المتيقن من الإباحة للشيعة هو إباحة أخذه من المخالف برضاه نظير ما ذكروه من المنع من سرقة مال الخراج و المقاسمة بغير إذن الجائر، هذا و الظاهر ان التحليل و الإباحة للشيعة هنا بنحو التمليك و إن كان في تحقق الملك هنا نوع غموض و اشكال لانتفاء ما يفيده من إيجاب و قبول أو حيازة للمباحات الأصلية أو غير ذلك من الأسباب المملكة فلذا احتمل بعض بقاء المال على ملك الامام و اجراء حكم الأملاك عليه تعبدا، و احتمل آخر تحقق الاعراض من الامام فيندرج في المباحات الأصلية المملوكة بالحيازة، و احتمل آخر ان الامام عليه السّلام عبد إسقاط حقه ألحقه بالمباحات فيملك بالحيازة و إن كان قبلها ملكا للإمام فلا منافاة بين التمسك بالحيازة و الملكية قبلها إذا سقط حق المالك من ذلك و لو بإسقاطه لقبيل دون قبيل كما احتمل ذلك فيما ينثر في الأعراس.

هذا و لكن الظاهر ان تحليل هذه الأمور الثلاثة إنما يكون لخصوص ما يعود للإمام عند تحليله لأنه هو المقدار الذي يملكه في هذا الوقت عند احتلاله لهذا المنصب، و اما ما يتجدد فيحتاج الى تحليل آخر منه و لذا نرى الأصحاب في عصر الحضور يحملون الأموال العائدة للأئمة عليهم السّلام أو يطلبون التحليل منهم و إلا لاكتفوا بتحليل أمير المؤمنين عليه السّلام بل تحليل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما عرفته ص 413. إن قلت: قد تقدم حكاية الإجماع عن المنتهى بحليتها في زمن

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 418

الحضور و الغيبة. قلنا: (أولا) قد خالف في ذلك أبو صلاح و الإسكافي فالإجماع المحصل غير حاصل و عدم حجية المنقول منه، بل حتى المحصل منه في المقام ليس بحجة لاحتمال اعتماد المجمعين على روايات التحليل التي قد عرفت انها إنما تدل على تحليل ما يعود للإمام المحلل في وقت تحليله بالنسبة لمن حلل له فقط كما هو مدعانا.

و (ثانيا) لو سلمنا ذلك فظاهر معقده ان ما حللوه الأئمة عليهم السّلام من هذه الثلاثة يكون حلالا في وقت الحضور و الغيبة، و هذا نحن لا ننكره فان المسكن أو المنكح أو المتجر به إذا حلّله الامام عليه السّلام يكون محللا ما دامت عينه باقية و آثاره حلال ليوم القيامة دون ما تجدد منها و لم يصدر التحليل فيه مجددا من الامام الذي وجد في عصره فالجارية المحللة تبقى حلال هي و ما تعاقب منها للشيعة دون ما تتجدد من الجواري و لا أقل من كون هذا هو القدر المتيقن من الإجماع، و بهذا يظهر لك ان التحليل حتى لو كان ثابتا من الحجة عليه السّلام فهو إنما يكون تحليلا لما هو راجع له وقت صدور التحليل لا لما يحدث بعد ذلك التحليل. إن قلت: ما تصنع برواية غوالي اللئالي المتقدمة فإنها صريحة في التحليل لهذه الأمور الثلاثة في زمن الامام و في غيره من الأزمنة. قلنا: مضافا لضعف الرواية بالإرسال و عدم انجبارها بتمسك الأصحاب بها انها إنما تدل على اباحة ما خصهم اللّه تعالى به و ما ملكوه و الخصم يدعي ان ما يتجدد في زمن الغيبة الكبرى يكون ملكا لمن احتل منصب الولاية على المسلمين. و لا ريب ان

أدلة الولاية المتقدمة تدل على ان الولاية للمجتهد الجامع للشرائط كما تقدم. إن قلت: ان خبر ابي خديجة المتقدم يدل على الحلية ليوم القيامة قلت: مع ضعف سنده إنما يدل على حلية ما أحلوه ليوم القيامة و انه ليس بإذن موقت و اما الأمور الحادثة فهي تحتاج في حليتها لتحليل المتولي لهذا المنصب في زمانها كما هو مقتضى العقل و النقل إذ لا يصح تحليل شي ء لا يملكه المحلل. إن قلت: يلزم الحرج

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 419

بعدم إباحة ذلك قلنا: لا حرج فإنه يرجع للمجتهد الجامع لشرائط المرجعية و يؤخذ الاذن منه أو يعوضه عنه. إن قلت: ان السيرة على عدم مراجعة المجتهد الجامع للشرائط في ذلك. قلنا. أما سيرة الفساق فليست بحجة و اما سيرة المتدينين الصلحاء فغير مسلمة بل إثباتها دونه خرط القتاد ان لم تكن السيرة بعكس ذلك.

المعادن

(و من أموال الإمام عليه السّلام المعادن) كما هو المحكي عن المقنعة و المراسم و عن الكليني (ره) و شيخه علي بن إبراهيم و عن الحدائق و الكفاية و السرائر و المستند و غيرها، و قد احتج لهم (أولا) بموثق إسحاق بن عمار حيث فيه:

«و كل أرض لا رب لها و المعادن منها». و لا يخفى ما فيه للاحتمال القوي بل هو الظاهر ان الضمير في «منها» عائد للأرض لا للانفال لبعدها عن الضمير.

و لا اشكال عندهم ان الأرض التي يملكها الامام يملك الامام المعادن فيها بالتبع و إنما الكلام في مطلق المعادن انها ملك له أم لا، و يؤكد الاحتمال المذكور وقوع «فيها» بدل «منها» في بعض النسخ.

و (ثانيا) صحيح أبي خالد حيث فيه «و الأرض كلها لنا»

حيث دل على انهم عليهم السّلام مالكين لجميع الأرض و هي منها المعادن فيكونون مالكين للمعادن في جميع الأرض. و لا يخفى ما فيه فان ملكهم للأرض ليس بمعنى الملكية الشرعية لوجود الأراضي التي لا يملكونها بل المراد بها الملكية بمعنى القدرة على التصرف التكويني فيها كما هو مقتضى ثبوت الولاية لهم بمقامها الأول نظير ما في الزيارة «و بكم ينزل الغيث» أو بمعنى تدبير شئونها (و إن شئت) قلت. ان هذا الخبر الصحيح لم يفهم منه أحد الملكية الشرعية. على انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 420

معارض بقوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً.

و (ثالثا) خبر أبي بصير و خبر داود و هما قاصران سندا و لا جابر لهما.

و (الحق) ان المعادن من المباحات الأصلية و الناس فيها شرع سواء و من سبق إلى شي ء منها فهو ملكه كما هو المشهور، و يدل عليه مضافا الى الأصل الأخبار الكثيرة التي هي أقوى سندا و أكثر عددا الناطقة بوجوب الخمس في المعادن فلو كانت للإمام عليه السّلام لما وجب عليه الخمس لنفسه و لغيره فيها.

ثمَّ ان المعادن منها باطنة و هي التي لا تظهر إلا بالعمل و المعالجة كمعادن الذهب و نحوه. و منها ظاهرة و هي التي لا تفتقر إلى إظهار فمن قال انها ملك الامام كان حكمها حكم أملاك الإمام في زمن الغيبة. و اما من قال انها ليست منها كما عرفت انه هو الحق فالباطنة منها يجوز إقطاعها من قبل الامام و قد حكي في التذكرة الإجماع عليه كما ان الظاهر منها للإمام أن يقطع ما يوجب تكوينه في أرض موات كما لو كان الى جانب الأرض المملحة

أرض موات إذا حفر بها بئر و سيق إليها الماء صار ملحا، و قد نفي في الجواهر الخلاف في ذلك و تحقيقه يطلب من كتاب احياء الموات.

البحار

(و من أموال الإمام عليه السّلام البحار) كما في المستند و المحكي عن المفيد (ره) و الكليني (ره) إلا ان المشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا هو عدم عدها من أموال الامام و الأصل يقتضي ذلك و لا نص معتبر يقتضي ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 421

الأرض التي لم يقاتل عليها

(و منها الأرض التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب) و هي الأرض التي استولى عليها المسلمون من غير قتال سواء انجلى أهلها عنها خوفا من المسلمين أو سلموها طوعا مع بقائهم فيها، و يدل على ذلك مضافا للإجماع المحكي عن جماعة ما في صحيح البختري عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال الأنفال ما لم يوجف عليه خيل و لا ركاب، و موثق محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انه سمعه يقول: ان الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم. و (حكي) عن بعض المتأخرين انه نسب إلى الأصحاب ان كل ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب سواء كان من الأرض أو غيرها فهو للإمام عليه السّلام و ربما يستدل له بصحيح البختري المذكور و غيره حيث لم يقيد بالأرض.

و دعوى ان الكثير من الاخبار قد قيدته بالأرض كموثق محمد بن مسلم المتقدم و غيره فيحمل المطلق على المقيد (مدفوعة) بأن المطلق إنما يحمل على المقيد إذا كان بينهما تنافي و فيما نحن فيه لا تنافي بينهما لأن كل منهما مثبت للحكم و (يمكن أن يورد على الدليل المذكور) بأن المساق في المطلقات و المقيدات متحد و هو يدل على وحدة الحكم فلا بد من حمل مطلقها على مقيدها. مضافا الى ان سكوت الأخبار المقيدة

بالأراضي عما عداها مع انها في مقام البيان و التعداد لما هو من الأنفال يقتضي ظهورها في القصر على الأراضي فتكون منافية للمطلقات فتحمل عليها، مضافا لما ذكره المامقاني من ظهور ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب في الأراضي و انه لو لم يقيد بالأراضي لزم التخصيص بالأكثر ضرورة عدم ملكية الإمام لكل ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب- انتهى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 422

و العهدة عليه (ره) و عليه فغير الأراضي مما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب يكون من الغنيمة.

الأرض الميتة

(و من أموال الإمام عليه السّلام الأرض الميتة) و في المحكي عن الكفاية انه قد نفي معرفة الخلاف في ذلك و استظهر الاتفاق عليه في الجواهر. و في المحكي عن الخلاف الأرضون الموات للإمام خاصة لا يملكها أحد بالاحياء إلا بإذن الإمام عليه السّلام- الى ان قال-: دليلنا إجماع الفرقة و اخبارهم، و يدل عليه فيما رواه في الكافي من صحيح حفص عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من عد الأرض الخربة من الأنفال، و هكذا صحيح محمد بن مسلم. إن قلت: ما ذا تصنع بما ورد عنهم عليهم السّلام بأن من أحيا أرضا فهي له قلنا: قد قيد بإذن الإمام بالإجماع المحكي عن جامع المقاصد و الخلاف و التنقيح و غيرها على ان هذه الاخبار تقيدها بذلك نعم المحكي عن التذكرة إجماع أهل العلم على ان الأرض الميتة التي يعرف مالكها و كانت منتقلة إليه بغير الاحياء لم يزل ملكه عنها بموتها حتى الأرض المفتوحة عنوة التي ملكها المسلمون بالفتح فإنه لا يزول ملكها عنهم بموتها، و يرشد الى ذلك من تقييد الأرض الخربة

التي هي من الأنفال بالتي باد أهلها في جملة من الاخبار كما في خبر حماد و خبر محمد بن علي الحلبي، و كموثق إسحاق بن عمار و خبر عبد اللّه ابن سنان، و كخبر داود بن فرقد. و امام ان كان ملكها بالإحياء ففي زوال ملكها عنه برجوعها مواتا عملا بظاهر صحيح الكابلي و غيره أو بقائها على ملك المحيي لها أولا عملا بالقاعدة و ظاهر بعض النصوص خلاف بين القوم يطلب من محله في كتاب احياء الموات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 423

الأرض التي لا مالك لها

(و من أموال الإمام عليه السّلام الأرض التي لا مالك لها) حتى لو كانت محياة و حتى لو كانت مملوكة سابقا، و يدل على ذلك عدها من الأنفال في موثق إسحاق بن عمار و خبر أبي بصير، و منها المفاوز و سيف البحار و سواحلها و شواطئ الأنهار التي برزت بعد نزول آية الأنفال أو كانت بارزة و لم يملكها أحد و الجزر التي تظهر في وسطها.

رؤوس الجبال

(و من أموال الإمام عليه السّلام رؤوس الجبال) و هي قمم الجبال الكبيرة و الصغيرة و يتبعها ما يكون فيها من حجارة أو شجر أو معدن أو عين ماء و نحو ذلك سواء كانت في الأرض المملوكة للإمام عليه السّلام أو المملوكة للمسلمين أو المملوكة لشخص معين كما صرحت به مرفوعة أحمد بن محمد و خبر محمد بن مسلم و خبر داود ابن فرقد و خبر حماد بن عيسى و ضعفها منجبر بالاشتهار بين الأصحاب قديما و حديثا، و انما استفدنا العموم من إضافتها للجمع المحلي باللام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 424

بطون الأودية

(و من أموال الإمام عليه السّلام بطون الأودية) و هي كل منفرج بين الجبال و يتبعها ما يكون فيها من شجر و غيره سواء كانت محياة أم لا و سواء كانت واقعة في أرض مملوكة أم لا، و يدل على ذلك صحيح حفص و موثقة محمد بن مسلم و خبره الآخر، و خبر داود بن فرقة و مرفوعة أحمد بن محمد، و خبر حماد ابن عيسى، و يدل على العموم الإضافة للجمع المحلى باللام.

الآجام

(من أموال الإمام عليه السّلام الآجام) و هي الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض لتقاربه سواء كان قصبا أو غيره و يسمى فعلا بالزور و يتبعها ما فيها من المعادن و غيرها، و يدل على ذلك خبر أبي بصير و خبر داود بن فرقد و خبر حماد بن عيسى و خبر الحسن بن راشد، و في المحكي عن مجمع البيان انه قد صحت الرواية عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام انهما قالا: الأنفال الآجام و بطون الأودية و غير ذلك و ضعفها منجبر بالاشتهار و العموم مستفاد من الجميع المحلى باللام.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 425

صفو الغنيمة

(و من أموال الإمام عليه السّلام صفو الغنيمة) و هو ما يصطفيه الامام و يختار لنفسه من الغنيمة قبل قسمتها مما يحب و يشتهي كالجارية الحسناء و السيف القاطع و الدرع الدلاص. و يدل على ذلك ما عن المنتهى من أن عليه إجماع علمائنا و صحيح حماد بن عيسى و صحيح الربعي عن الصادق عليه السّلام حيث فيه كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أتاه المغنم أخذ صفوه الى أن قال و كذلك الإمام يأخذ كما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

صفايا الملوك و قطائعهم

(و من أموال الإمام عليه السّلام صفايا الملوك و قطائعهم) و هي ما كان في الغنيمة من المال الخالص لسلطان المحاربين فإنه للإمام عليه السّلام لا يشاركه أحد فيها سواء كان مما ينقل و يحول و يسمى بالصفايا أم لا كالأرضين و يسمى بالقطائع، و يدل على ذلك ما حكي من الإجماع عن المنتهى و لصحيح داود بن فرقد و موثق سماعة و موثق إسحاق بن عمار.

ارث من لا وارث له

(و من أموال الإمام عليه السّلام إرث من لا وارث له) و هو المال الذي مات مالكه و لا وارث له من قرابة أو زوج أو مولي عتق أو ضامن جريرة و لم يكن مشتري بمال الزكاة للإجماع المنقول و لقول أبي جعفر في صحيح ابن مسلم: من مات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 426

و ليس له وارث من قرابته و لا مولى عتاقه و لا ضامن جريرة فمن له من الأنفال.

نعم المسلم إذا مات و كان له وارث كافر لا غير يرثه الامام و ذلك للإجماع المحكي و للروايات المستفيضة المعتضدة بعمل الأصحاب الدالة على أن المسلم لا يرثه الكافر و لصحيحة أبي بصير و في آخرها و ان لم يسلم من قرابته أحد فإن ميراثه للإمام هذا (و لا يخفى) ان وجود الزوج أو الزوجة لا يمنع من إرث الإمام عليه السّلام و إنما يكون لهما السهم الأعلى من التركة فقط كما هو ظاهر الأخبار المذكورة و معاقد الإجماعات. و اما المملوك المشترى من مال الزكاة فإنه إذا مات و لا وارث له ورثه أرباب الزكاة و ذلك للإجماع المنقول عن غير واحد و لما في موثق عبيد بن زرارة قال: سألت أبا

عبد اللّه عليه السّلام عن رجل أخرج زكاة ماله ألف درهم فلم يجد موضعا يدفع ذلك اليه فنظر الى مملوك يباع فيمن يزيده فاشتراه بتلك الألف درهم فأعتقه فهل يجوز؟ قال عليه السّلام: نعم، قلت: فإنه لما ان أعتق اتجر فأصاب مالا كثيرا ثمَّ مات و لا وارث له فمن يرثه؟ قال (ع): يرثه الفقراء المؤمنون الذين يستحقون الزكاة لأنه إنما اشترى بمالهم.

و ناقش المحقق (ره) في الرواية بضعف السند لأن في طريقها ابن فضال و هو فطحي و عبد اللّه بن بكير و فيه ضعف إلا انه (ره) قال بعد ذلك: ان القول بها عندي قوي لمكان سلامتها من المعارض و اطباق المحققين على العمل بها و يدل على ذلك أيضا ما عن الصدوق في العلل من الصحيح عن أيوب قال:

قلت لأبي عبد اللّه (ع): مملوك يعرف هذا الأمر الذي نحن عليه أشتريه من الزكاة و أعتقه؟ فقال (ع): اشتره و أعتقه، قلت: فان هو مات و ترك مالا؟

فقال: ميراثه لأهل الزكاة لأنه اشتري بسهمهم.

هذا و قد ذهب غير واحد من علمائنا الى ان الحربي إذا عقد لنفسه الأمان ليسكن في دار الإسلام ثمَّ مات أو قتل و لم يكن له وارث مسلم ورثه الامام،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 427

و قد ذلك بأنه مال لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب. و لا يخفى ما فيه فإنه قد تقدم، 421 ان المراد به هو الأرض لا مطلق الذي لم يوجف عليه بخيل و ركاب.

الغنيمة بغير اذن الامام

(و من أموال الامام الغنيمة بغير إذنه) و هو ما يغنمه المسلمون عند غزوهم بدون إذن الامام (ع) فإنه للإمام سواء كان أرضا أو غيرها و سواء

كان الغزو للدعوة للإسلام أو للملك و السطوة و السلطان و المحكي عن غير واحد عدم الخلاف فيه و الإجماع عليه، و يدل عليه مرسلة العياش الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد اللّه قال: إذا غزا قوم بغير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام و لا يضر إرسالها بعد انجبارها بعمل الأصحاب و لذا في المسالك قال: ان بالحكم رواية منجبرة بعمل الأصحاب- انتهى، و ان كان ذلك عجيب منه لأنه خلاف ما أسسه من القاعدة من عدم جبر الخبر الضعيف بالشهرة. و عليه فلو غزا سلطان من سلاطين الإسلام في زمن الغيبة الكفار و المشركين الذين تحل أموالهم كانت الغنيمة للإمام. نعم في صورة الدفاع عن الإسلام و النفس و نحوهما. فالظاهر ان الغنيمة ليست للإمام (ع) بل تكون حكمها حكم الغنيمة بإذن الإمام للاذن العام منه (ع) بذلك و (قد ناقش) صاحب المدارك في أصل الحكم و قال في المحكي عنه: ان الغنيمة بغير إذن الامام إنما فيها الخمس كالتي تكون بإذنه لإطلاق الآية و ضعف الرواية و لحسنة الحلبي عن ابي عبد اللّه (ع) في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم فيكون معهم فيصيب غنيمة فقال يؤدي خمسا و يطيب له. (و أجيب عنه) بتقييد الإطلاق بالمرسلة المعتضدة بالشهرة و عدم صلاحية الحسنة لمعارضتها مع إمكان كون ما تضمنته من باب التحليل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 428

[المقام الثاني: في بيان عود أموال الإمام ع للمجتهد.]

(اما المقام الثاني) و هو بيان عود كل ما كان للإمام بعنوان الإمامة يعود للمجتهد الذي له الولاية العامة في زمن الغيبة و يتصرف به كما يتصرف الامام (ع) به فنقول: ان الدليل على ذلك أمور:

(الأول) ان المجتهد الديني الذي

ثبتت له الولاية العامة و الزعامة الدينية إنما يكون في زمن الغيبة و إلا ففي زمن الحضور لا زعيم ديني سوى الامام.

(و قد عرفت) في صدر هذا المبحث انه كلما كان ثابتا للإمام بعنوان انه إمام فهو يثبت له إلا ما أخرجه الدليل، و ليس في المقام دليل يدل على عدم الثبوت له و (دعوى) انه من المحتمل ثبوت تلك الأموال له باعتبار عصمته أو شرفه أو من خصوصية في ذاته (مدفوعة) بأن ظاهر الأدلة انها ثابتة له بهذا العنوان أعني عنوان الإمامة و الولاية و الحجة لأخذها فيها بل الضرورة قامت على ذلك و يدل عليه ما رواه الصدوق بإسناده عن ابي علي بن راشد قال قلت لأبي الحسن الثالث عليه السلام: انا نؤتى بالشي ء فيقال هذا كان لأبي جعفر عليه السّلام عندنا فكيف نصنع؟ فقال (ع): فان كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي و ان كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه تعالى و سنة نبيه (ص). فان ظاهر هذا الخبر ان نفس الإمامة هي السبب في الاستحقاق و ان الامام أو كل ذلك الي فهم السائل من أدلة أموال الامام التي أخذ في عنوانها الإمامة و الولاية و إلا فليس في الأدلة تشخيص ان هذا المال بسبب الإمامة بهذا اللسان. مضافا إلي انه لو كانت الاحتمالات المذكورة من احتمال الخصوصية و نحوها موجبة لعدم ثبوت الاحكام التي أخذ في عنوانها (الإمامة و الولي) للمجتهد لزم عدم الاستفادة من أدلة الولاية و يكون وجودها لغوا و عبثا لأن الاحتمالات المذكورة تتطرق لكل حكم أخذ فيه تلك العناوين.

(الثاني) ان الظاهر من أدلة هذه الأموال انها مجعولة لمن احتل منصب

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 429

الإمامة كيف و الضرورة قامت على انها دائرة مداره وجودا و عدما و لذا لا يرثها وارث الامام و إنما تعطى لمن بعده من الأئمة نظير ما يجعل لعناوين موظفي الدولة في القوانين الدولية من المال فإنه يفهم منها ان العنوان هو الموجب و ان احتلال منصبه هو المقتضي لتملكه ذلك المال و لا ريب ان الزعيم الديني في زمن الغيبة يحتل هذا المنصب و يتلبس به فهو يستحقها.

(إن قلت) إذا كان منصب الإمامة للفقيه في زمن الغيبة فيلزم ان لا يكون ولي العصر أرواحنا فداه إماما. (قلنا) أي أمر يوجب لزوم ذلك فهو الإمام الأصل و المجتهد الامام الفرع، علي انا نقول: ان ظاهر الأدلة هو ان هذه الأموال لمن يباشر أمور المسلمين و يتولاها و (بعبارة أخرى) جعل الولاية للمجتهد لا يوجب زوال ولاية الإمام أرواحنا فداه لأنها ولاية و إمامة عند غيبة نظير ما قيل في نبوة هارون عند غيبة موسى فان ليس معناه زوال نبوة موسى.

(الثالث) ما في مرسلة حماد الذي أجمع الكل على تصحيح ما يصح منه ذكر فيها ان نصف الخمس لولي الأمر من بعد رسول اللّه (ص) و وارثه مع ان وارثه فاطمة سيدة النساء (ع) فلا بد ان يريد الوارث هو الوارث لمقام الولاية لشؤون المسلمين و قد تقدم من الاخبار ما دل على ان العلماء ورثة الأنبياء (الرابع) ما عرفت من ان العقل بعد ما حكم بلزوم شخص في زمن الغيبة يتولى شؤون المسلمين و الفتوى لهم فلا بد له من مصارف و أموال للقيام بتلك المهمات العظمى التي تقدم ذكرها في بحث الولاية العامة، و لا يصلح من الأموال ما يكون

مصرفا له إلا تلك الأموال فلا بد ان يكون هو المستحق لها و لعله يستفاد ذلك من الاخبار المتقدمة من ان العلماء خلفاء الرسول (ص).

و قد يستدل على ذلك بأنها مال الغائب و هو الإمام أرواحنا فداه. و التصرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 430

فيها للحاكم. و أجيب عنه انه لا دليل على ولايته على أموال الغائبين مطلقا حتى مال الامام (ع) مع ان الولاية علي مال الغائبين إنما هي بالحفظ لهم لا بالتفريق بين الناس أو صرفها على النفس. و قد يستدل أيضا بعموم الولاية (و أجيب عنه) ان عموم الولاية يقتضي ثبوت الولاية فيما يتعلق بأمر الرعية لا فيما يتعلق بنفس الامام و أمواله و الاولى الجواب عنه بما ذكرناه في الدليل الأول (و قد يستدل) أيضا بأنه بعد ما ثبت لزوم التصرف في هذه الأموال فلا بد له من مباشر و ليس اولى من الحاكم بل هو المتيقن. (و جوابه) ان الكلام في إثبات لزوم ذلك التصرف و كيفيته و صحة إنفاقها على نفسه بالنحو الذي كان الامام (ع) يتصرف بها حتى على نفسه.

(إن قلت) ان روايات التحليل المتظافرة قد دلت على انه ما كان لهم فهو لشيعتهم (قلنا) قد تقدم ص 408 نقلها و بيان عدم دلالتها على حلية ما يتجدد من أموال الإمام (ع) في زمن الغيبة الكبرى الذي هو محل كلامنا و ابتلائنا (إن قلت) قد قامت الأدلة على ان نصف الخمس مما هو حق الإمام يعطي للسادة الأطهار، ففي مرسلة حماد الطويلة المروية عن الكافي بعد أن ذكر عليه السّلام ان للوالي نصف الخمس و نصفه الآخر لأهل بيته يقسم بينهم و ان فضل منه

شي ء فهو للوالي قال (ع): و إن نقص عن استغنائهم (أى استغناء أهل بيته) كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم و في مرسلة أحمد بن محمد التي رواها الشيخ (ره) أيضا كذلك فإنه بعد أن ذكره (ع) ذلك قال: قال فضل شي ء فهو له (أي للإمام) و إن نقص عنهم و لم يكفهم أتمه من عنده كما صار له الفضل كذلك يلزمه النقصان. فهاتان الروايتان قد دلتنا انه عند إعواز الذرية من السادة يعطون من حق الامام (ع) و في عصر الغيبة الذرية معوزون فيعطون حق الامام (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 431

و ما في المروي عن الوسائل عن كتاب الطرف بإسناده عن عيسى المستفاد عن أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) ان رسول اللّه قال لأبي ذر و سلمان و المقداد أشهدوني على أنفسكم بشهادة أن لا إله إلا اللّه- الى أن قال-: و ان علي بن أبي طالب (ع) وصي محمد و أمير المؤمنين و ان طاعته و طاعة اللّه و رسوله و الأئمة من ولده و ان مودة أهل بيته مفروضة واجبة على كل مؤمن و مؤمنة مع إقامة الصلاة لوقتها و إخراج الزكاة من حلها و وضعها في أهلها و إخراج الخمس من كل ما يملكه أحد من الناس حتى يرفعه إلى ولي المؤمنين و أميرهم و من بعده الأئمة من ولده فمن عجز و لم يقدر إلا على اليسير من المال فليدفع ذلك الي الضعفاء من أهل بيتي من ولد الأئمة فمن لم يقدر على ذلك فلشيعتهم. فهذه الرواية قد دلت

انه مع العجز عن أداء الخمس للأئمة (ع) يعطي لذريتهم و حكي المامقاني (ره) ذلك عن جدنا كاشف الغطاء (ره) و الفاضل المجلسي و الشيخ المفيد و المحقق في المعتبر و العلامة في المنتهي و عن الرياض انه استقر عليه رأي المتأخرين (قلنا) لا يخفى ما في التمسك بهذه الروايات الثلاثة (أولا) ضعفها بالإرسال و بان عيسى بن المستفاد قد ضعفه العلامة (ره) و (ثانيا) ان الروايتين الأوليتين قد اشتملتا على ما لا يقول به حتى المتمسكين بها و هو أخذ الإمام ما فضل من حق السادة. و الرواية الثانية أيضا عدت من الخمس الأرض التي فتحت بدون قتال مع انها للإمام، و الرواية الثالثة اشتملت على دفع الخمس بأجمعه للإمام الظاهر في أخذه بأجمعه له و (ثالثا) ان ظاهر الروايتين الأوليتين أن المتولي لشؤون المسلمين يعطي من عنده المعوز من فقراء أهل البيت، و لا إشكال في ذلك، فان بيت المال الذي يكون للمسلمين إنما يكون لسد حاجاتهم، و لذا في نفس الرواية الأولى ذكر في الزكاة بالنسبة إلى الفقراء مثل ذلك و انه ان فضل من حقهم شي ء فهو للوالي و إن نقص كان على الوالي ان يمونهم من عنده فهما لبيان وظيفة ولي المسلمين، و نحن نقول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 432

بذلك في عصر الغيبة بأن على المتولي لشؤون المسلمين ان يسد حاجات الفقراء و المساكين و الذرية الطاهرة من عنده و ان فضل من حقوقهم شيئا ادخره لهم في بيت مال المسلمين. و الرواية الثالثة لا ربط لها بالمقام و إنما هي ناظرة الى ان العاجز عن الزكاة و الخمس يعطي شيئا يسيرا من المال لأهل بيته

(ع) لا أن الخمس يعطيهم لهم و لذا عطف على العجز عدم القدرة إلا على اليسير من المال.

(إن قلت) ان الكثير من الاخبار تدل على جواز التصدق بالمال بل وجوبه عند تعذر إيصاله لمالكه و ما نحن فيه بمقتضى العادة مندرج في مصاديق هذا الحكم فعلي من بيده مال الإمام أرواحنا فداه يتصدق به و قد أفتى بذلك المرحوم الهمداني ره و حكي عن صاحب الجواهر الفتوى بذلك.

قلت سيجي ء إنشاء اللّه تعالى حكاية الأخبار التي توهم دلالتها على ذلك في الفصل الآتي بعد هذا في بيان الأموال التي للمجتهد الولاية عليها. و لو سلمنا دلالتها فهي أجنبية عن المقام لأنها انما تدل على من لم يتمكن من التصرف في ماله أو الاطلاع عليه. و الحجة عجل اللّه فرجه قادر على ذلك. على انك قد عرفت ان أدلتها ظاهرة و لو بمناسبة الحكم للموضوع أنها أموال لمن يقوم بمهام منصب الإمامة و يشتغل بتدبير شؤون المسلمين. و المجتهد الزعيم الديني هو المتولي لذلك في هذا العصر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 433

[التنبيه الثالث عشر] الأموال التي للفقيه الولاية عليها في صرفها في مواردها في زمن الغيبة
اشارة

الثالث عشر: قد عرفت الأموال التي يملكها المجتهد المتولي لشؤون المسلمين. و هناك أموال له الولاية على صرفها في مواردها

(منها الزكاة)
اشارة

فإنه لا ريب في وجوب دفع الزكاة الي امام الأصل عند المطالبة بنفسه أو بساعيه كما قطع به الأصحاب و نقل عن التذكرة إجماعهم عليه. مضافا لكل ما دل على وجوب اطاعة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الامام عليه السّلام و تحريم مخالفتهم من الكتاب و السنة و الضرورة. مضافا الى معلومية ذلك في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما بعده من الأعصار حتى توصل بذلك من تأمر على المسلمين الى قتل من رماهم بمنع الزكاة و سماهم بأهل الردة. و مضافا لقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بتقريب أنه لا يتعقل وجوب الأخذ بدون وجوب الدفع الذي لا أقل من وجوبه عند الطلب و لا ريب في مساواة الفقيه الجامع لشرائط الزعامة الدينية في زمن الغيبة للإمام عليه السّلام في وجوب الدفع اليه بنفسه أو لساعيه و وكيله و ذلك بدليل عموم ولاية الفقيه المذكور في زمن الغيبة و نيابته عن الامام عليه السّلام فيثبت للنائب جميع ما ثبت للمنوب عنه من الوظائف و الأحكام عدى ما أخرجه الدليل.

(إن قلت): إنا لم نقف على ما يفيد عموم النيابة و الولاية من النصوص و إنما الوارد. جعله قاضيا و حاكما في مقبولتي أبي خديجة و ابن حنظلة. و إن رواه حديثنا حجتي عليكم في توقيع صاحب الأمر عليه السّلام. و الأمر باتباع العلماء عن الباقر عليه السّلام. و لا يفيد شيئا من ذلك سوى لزوم التقليد و الرجوع إليهم في قطع المنازعات

من غير فرق بين زمن الحضور و بين زمن الغيبة حسبما يقتضيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 434

إطلاق النصوص المشار إليها و ملاحظة موردها و لا دلالة فيها على عموم النيابة و الولاية لا سيما ما كان بنحو جباية الأموال و الصدقات فإنه من وظائف الإمام عليه السّلام و خواصه و توابع سلطنته و منصبه و لذا ورد في الحديث: (خمس للولاة وعد منها الصدقات). و دعوى دخولهم في ولاة الأمر. فاسدة بعد ملاحظة الأخبار المفسرة لهم بأهل العصمة عليه السّلام. (قلنا) قد تقدم في مبحث الولاية بيان دلالة كل طائفة من النصوص على عموم الولاية و النيابة و دعوى لزوم أن تكون هذه الولاية ثابتة لهم زمن الحضور. فاسدة فإن النصوص إنما تثبت لهم ذلك بعنوان قيامهم مقام الأئمة و نيابتهم عنهم في إدارة شؤون الملة و لا بد أن يكون مؤداها عدم مزاحمتهم لهم عليه السّلام في ذلك و ثبوتها لهم بعد عدم التمكن من وصول الملة إليهم (ع) و حل شؤونهم على أيديهم (ع). ثمَّ ان مقتضى ذلك كون العلماء هم الولاة بعدهم فيثبت لهم كلما ثبت لهم بعنوان الإمامة و الولاية لكن قد عرفت غير مرة أن ذلك لا يقتضي الثبوت لكل مجتهد و إنما هو للمجتهد الجامع لصفات الزعامة الدينية، ثمَّ إن بعضهم توسع في المقام فأوجب دفع الزكاة في زمن الغيبة للفقيه المأمون ابتداء و إن لم يطلبها بنفسه أو وكيله كما هو المحكي عن المفيد (ره) و أبي صلاح. قال في الجواهر: إن المراد بالفقيه هو الجامع لشرائط الفتوى و الحكومة. و قيل: المراد بالمأمون من لا يتوصل إلى أخذ الحقوق مع غنائه عنها بالحيل

الشرعية. و كيف كان فلا يخفى ما فيه لحكاية الإجماع عن الغنية على عدم وجوب الدفع إلا مع عدم المعرفة. و للسيرة المستمرة على تولي المالك تفريق الزكاة بنفسه من غير نكير و يدل على ذلك ما ورد في جواز تقديم الزكاة قرضا ثمَّ احتسابها. و ما ورد من جواز نقلها عند فقد المستحق في البلد، و ما ورد في جواز شراء العبيد منها و مقاصة الغرماء بها و دفعها لا صلاح ذات البين و أبناء السبيل و الأقارب و الأطفال. الي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 435

غير ذلك من النصوص التي يقف عليها المتتبع الدالة على ذلك. نعم نقل الاتفاق على استحباب نقلها الى الفقيه في زمن الغيبة لكونه أبصر بمواقعها و أعرف بمواضعها و فيه رفع للتهمة و هوى النفس في التفضيل و نحو ذلك.

[وجوب نصب المجتهد عاملا لقبض الزكاة.]

يجب على المجتهد أن ينصب عاملا يقبض الزكاة ربما يستفاد من سيرة رسول اللّه (ص) و سيرة وصيه أمير المؤمنين (ع) في خلافته من نصبهم العمال على جباية الصدقات ان نصب العمال على قبضها واجب كما أفتي بذلك الشيخ فأوجب نصب عامل على الزكاة، بل المحكي عن الحدائق انه المشهور. و لقاعدة اللطف فإنها تقتضي وجوب نصب العمال لأنه من الأمور التي تقرب للطاعة و تبعد عن المعصية لعدم سماحة أنفس المكلفين بها بإخراجها بخلاف ما إذا حضر العامل عليهم لإخراجها و لوجوب مراعاة الولي على الفقراء لصالحهم و لا ريب في أن المصلحة للفقراء أن ينصب جابيا لحقوقهم، كذا ذكره صاحب الجواهر (ره)، و لكن لا يخفى ان السيرة لم يعلم وجهها انها على جهة الوجوب و قاعدة اللطف لو كانت تقتضي ذلك لاقتضت

في الصلاة و الحج و نحوهما من الواجبات أن يرسل المعصوم من يقف عليهم لتأديتها. نعم إنما تقتضي قاعدة اللطف وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و مراعاة الولي لمصلحة المولى عليه لا تقتضي أزيد من أن يكون تصرفه في شؤونه فيه المصلحة لا انه يجب عليه أن يحصل ما له مصلحة فيه. ألا ترى انه لا يجب على الوالي أن يرسل من يتسكع للمولي عليه بل المشهور عدم وجوب الاتجار بمال المولى عليه و نحو ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 436

براءة ذمة صاحب الزكاة لو أوصلها إلى المجتهد أو وكيله

بعد ما ثبت وجوب إيصالها إلى المجتهد عند المطالبة و استحباب إيصالها له ابتداء فلا بد من براءة ذمة صاحب الزكاة لو دفعها اليه أو إلى وكيله.

و يتفرع على ذلك انه لو تمكن صاحب الزكاة من إيصالها للمجتهد أو وكيله فلم يفعل فقد فرط فيها فان تلفت منه و الحال هذه لزمه الضمان كما يدل عليه ما في صحيحة محمد بن مسلم أو حسنته في الزكاة عن أبي عبد اللّه (ع): «إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها اليه فهو ضامن» و في صحيحة زرارة في الزكاة عن أبي عبد اللّه (ع): «إذ عرف لها أهلا فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن» و قد أورد على ذلك بعضهم بأن إيصالها إلى المجتهد أو وكيله ليس إيصال إلى مستحقها حقيقة بل حكما فاذا جاز لصاحب الزكاة أن يتولى الإيصال لمستحقها الحقيقي بنفسه و كان ذلك أوثق في نفسه من حيث الوصول إلى المستحق فلم يدفعها إلى المجتهد و لا إلى وكيله و كان المستحق الحقيقي فعلا غير موجود و تلفت فلم يصدق اسم التفريط و التعدي فيشكل إثبات الضمان في

هذه الصورة بالقواعد العامة. و اما الاخبار الخاصة المتقدمة فلا يبعد دعوى انصرافها عن مثل الفرض و إلا فمقتضى إطلاقها عدم الضمان أيضا لانصراف الأهل الوارد فيها إلي المستحق لا المتولي، و الفرض في الصورة المذكورة ان المستحق الحقيقي غير موجود فلا ضمان عليه. و لا يخفى ما فيه فان الشارع بعد ما اكتفى بإيصالها للمجتهد أو وكيله كان قد فرط بها بعدم إيصالها لهما على أن الصحيحة الأولى كان التعبير فيها بالموضع. و لا ريب ان المجتهد أو وكيله موضع لها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 437

لا يجوز للساعي تفريقها بدون إذن الفقيه

قال في الجواهر: لا يجوز للساعي تفريقها إلا بإذن الإمام لأن العمالة ولاية و وكالة فيقتصر فيها على موضع الاذن من الموكل، إلا اللهم إذا أذن له بذلك.

نية القربة على المجتهد

لا إشكال في أن الزكاة من العبادات فمقتضى القاعدة اعتبار النية في تحققها و صحتها. و عليه فاذا كان المجتهد قبضها بعنوان الولاية على صاحبها أو الوكالة عنه وجب عليه النية عند دفعها للمستحق و إن كان قبضها بعنوان الولاية على الفقير و الوكالة عنه وجبت النية على الدافع له و تحقيق الحال يطلب من كتاب الزكاة.

دعاء الإمام أو نائبه لمعطي الزكاة

ذكره الفقهاء (ره) انه يستحب دعاء الإمام أو نائبه للمالك. و المراد من النائب هنا ما يشمل الساعي و الفقيه على ما قيل و الحكم باستحباب ذلك عند قبض الزكاة من المالك مشهور بين الأصحاب بل عن الشيخ في زكاة الخلاف و الفاضلين في المعتبر و الإرشاد و الشهيد في الدروس وجوب ذلك، استنادا إلى ظاهر الأمر به في قوله تعالى وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ بعد أمره بأخذها منهم فيدل على وجوب ذلك عند الأخذ، و في الدلالة عليه نظر ظاهر، و لو تمت الدلالة عليه فنمنع استفادة الوجوب من ظاهر الأمر هنا بعد اشتهار الاستحباب على وجه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 438

لا يبعد معه دعوى الإجماع عليه لمصير الشيخ و الفاضلين و الشهيد (ره) اليه و ملاحظة خلو النصوص عن افادته لا سيما ما ورد من تعليم أمير المؤمنين (ع) آداب الأخذ لساعيه. و اتفاق الأصحاب على انتفاء الوجوب عن الفقير الذي لعله أولي من النائب بالدعاء، و مخالفة الحكم للأصول و الاعتبار فأقصى ما هنالك أن يقال بالاستحباب الذي قد يتأمل في تعديته من الامام (ع) الى نائبه الخاص أو العام لقوة احتمال كون ذلك من خواص النبي (ص) و الامام (ع) لا سيما بملاحظة تعليل الأمر بقوله جل شأنه «إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ

لَهُمْ» لعدم تحقق العلة في غير صلاة النبي و الامام الذي هو بمنزلة النبي في جميع ما ثبت له من الاحكام عدى ما علم اختصاصه به (ص)، و من ذلك ينقدح الشك في شمول أدلة التأسي لذلك. و دعوى ان النائب كالمنوب عنه مسلمة فيما تحققت النيابة فيه لا ان جميع التكاليف الثابتة في حق المنوب لاحقة للنائب لانتفاء ما يدل عليه عقلا و نقلا إلا ان الأمر في ثبوت الاستحباب للنائب بل و الفقير أيضا هين لاشتهاره و عموم استحبابه للمؤمنين و أمر المتصدق بطلب الدعاء من الفقير المستلزم لثبوت استحبابه منه مع التسامح في أدلة السنن و هل يتعين الدعاء بلفظ الصلاة للأمر بها و التأسي بالمنقول من فعله (ص) انه جاءه أبو أوفى بصدقته فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى». و جاءه آخر بزكاته فقال: «اللهم صلّ عليه» أو يجوز بكل دعاء قولان أظهرهما الثاني لكون الصلاة لغة بمعنى الدعاء فيعم الأمر بها و الأصل عدم النقل و عدم اعتبار لفظ مخصوص.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 439

[زكاة الفطرة.]

وجوب دفع زكاة الفطرة للمجتهد الجامع للشرائط عند المطالبة و (منها) زكاة الفطرة، فإن ما ذكرناه في زكاة المال من وجوب الدفع للمجتهد عند المطالبة يدل على وجوب دفعها للمجتهد الجامع للشرائط عند المطالبة. و في خبر علي بن راشد سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال: للإمام، قال قلت له: فأخبر أصحابي؟ قال نعم من أردت أن تطهره منهم. و في الجواهر ان بعض النصوص يظهر منها شمول آية التطهير لهذه الزكاة و ان عادة السلف حملها للإمام و ربما يظهر من المفيد وجوبه.

[الخمس.]

وجوب دفع الخمس للفقيه زمن الغيبة (منها الخمس) فقد نسب الى المشهور وجوب إيصال جميع الخمس الى الامام (ع) حال حضوره ثمَّ هو يأخذ نصفه له و يقسم النصف الآخر منه على قدر الكفاية فإن فضل كان له و ان أعوز أتمه من نصيبه، و استدلوا لذلك بمرسلة حماد المجمع على تصحيح ما يصح عنه التي رواها في الكافي عن علي ابن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (ع) في حديث طويل قال و له نصف الخمس كملا و نصف الخمس الباقي بين أهل بيته فسهم لليتامي و سهم لمساكينهم و سهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنتهم فان فضل شي ء عنهم فهو للوالي فإن عجز و نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم، و مرسلة أحمد المضمرة التي رواها الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد عن بعض أصحابنا قال فيها

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 440

فالذي للّه فلرسول اللّه و الذي للرسول فهو لذي القربى و الحجة في زمانه فالنصف له خاصة و النصف الآخر لليتامى و المساكين و أبناء السبيل من آل محمد (ع) فهو يعطيهم على قدر كفايتهم فان فضل شي ء فهو له و إن نقص و لم يكفهم أتمه من عنده كما صار له الفضل كذاك يلزمه النقصان و ضعفهما منجبر بعمل الأصحاب.

و لا يخفي ان هذين الروايتين ظاهرتان في من يتولى شؤون المسلمين و يدير أمورهم عند بسط يده و لذا عبر في الأولى ب (الوالي) و في الثانية ب (الحجة في زمانه) و لا ريب ان مقتضى مقامه هو جعل بيت مال له يجمع فيه الخمس و يوزعه كما هو مذكور في الروايتين و إذا نقص وجب أن يكمله من نفسه لأن إدارته لشؤون المسلمين تقتضي أن يعطي ما يأخذه من المال لهذه الغاية لمن كان فقيرا منهم و لذا ذكر (ع) في نفس مرسلة حماد بعد ذلك الزكاة و انها يقسمها الوالي على الأصناف الثمانية بقدر ما يستغنون به في سنتهم بلا ضيق و لا تقتير فان فضل من ذلك شي ء رد إلى الوالي و ان نقص من ذلك شي ء و لم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا. و يرشد لذلك قوله (ع) فيها و يؤخذ الباقي فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينويه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير. (و الحاصل) ان المتأمل في هذه الرواية يجد أنها ناظرة لبيان

وظيفة والي المسلمين المبسوط اليد صاحب بيت المال من وجوه:

(الأول) انها فرض فيها كون الخمس يفي بمؤنة السنة للوالي و السادة و لذا ان نقص من حقهم أعطاهم الوالي و هذا لا يتصور إلا في الخمس إذا جمع في محل واحد و صرف لأن خمس كل شخص قد يكون أقل من درهم فكيف يصنع به ذلك و هكذا يستفاد ذلك من بيانه (ع) في الزكاة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 441

(الثاني) ذكره الجهاد و نحوه و هو إنما يتصور في المبسوط اليد.

(الثالث) التعبير بالوالي فإنه ظاهر فيمن يتولى شؤون المسلمين لا من جلس في بيته و سلك مسلك المتصوفين.

إن قلت: إن الظاهر من قوله في مرسلة حماد (له) هو كون الفاضل ملكا له مع ان الفتوى بخلاف ذلك، فان الفاضل من حق السادة ليس له.

قلنا: نعم لكن بقرينة آخر الرواية في الزكاة يعلم ان المراد بكونه له هو رده اليه و إرجاعه لبيت ماله مضافا الى انه لا مانع من الالتزام في هذه الصورة بإرجاع الباقي له و الحاصل، أن مرسلة حماد بقرينة ما ذكره فيها في الزكاة يخرج فيها عن ظهور اللام في الملك. و الرواية الثانية لم يذكر المروي عنه فهي ساقطة عن الاعتبار إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك ان المجتهد إذا كان مبسوط اليد كان حكمه كذلك لأنه يكون هو الحجة على أهل زمانه بنيابته عن ولي العصر و المتولي لشؤونهم بأهليته لذلك. و عليه جمع المال لصرفه في ذلك.

إن قلت: إن ظاهر صحيح محمد بن أبي نصر عن الرضا (ع) في أن الامام ليس حكمه ما ذكر حيث قال: سئل عن قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ

شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِهِٰ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ فقيل له: فما كان للّه فلمن هو؟ فقال: لرسول اللّه (ص) و ما كان لرسول اللّه فهو للإمام فقيل له: أ فرأيت ان كان صنف من الأصناف أكثر و صنف قل ما يصنع به؟ قال: ذاك الى الامام (ع) أرأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كيف يصنع أ ليس إنما كان يعطي على ما يرى كذلك الامام (ع) و هو ظاهر إن العطاء للأصناف السادة تابع لرأيه (ع) و لو كان العطاء مقيدا بقدر المؤنة السنوية لما كان العطاء مقيدا برأيه. قلنا: يستفاد من هذا الصحيح إن ذلك المذكور في مرسلة حماد على سبيل الاستحباب و يرشد الى ذلك ان الزكاة بالإجماع و الأخبار المتظافرة يجوز إعطائها لصنف واحد مع انها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 442

في نفس المرسلة المذكورة ذكر انها تقسم على نحو ما ذكره في الخمس فلا بد من حمل ما في المرسلة على الاستحباب أو على الجمع في بيت المال.

الأموال الموقوفة

(منها ولايته على الأموال الموقوفة) المشهور ان الواقف إذا لم يعين متوليا في ضمن صيغة الوقف، و تمت شرائط الوقف فللحاكم الشرعي الولاية عليه دون الواقف و دون الموقوف عليه (و يعبر عن متول الوقف في ألسنة الفقهاء بالناظر). أما عدم ثبوت التولية للواقف فلخروج الوقف عن يده فيكون حاله بالنسبة إليه كالأجنبي و أما استصحاب جواز تصرفاته بما يصلح شأن العين الموقوفة فلا يجري لتبدل الموضوع عرفا لأن موضوعها ما هو ملك له.

و العين قد خرجت عن الملكية التي كانت موضوعة لجواز تلك التصرفات.

و أما عدم ثبوت الولاية للموقوف عليهم فلعدم الدليل على ولايتهم على الوقف،

فالأصل عدمها فيتعين الولاية لحاكم الشرع لأنه ولي من لا ولي له كما تقدم ذلك في اخبار الولاية العامة للحاكم الشرعي و للفقهاء في هذا المقام فيما يرجع للحاكم الشرعي مسائل (منها): ان الواقف لو جعل النظارة لأكثر من واحد فمات بعضهم أو خرج عن أهلية النظارة كأن جن أو فسق (على المشهور المعروف بين الأصحاب بل المحكي عليه الإجماع من الرياض من اعتبار العدالة في الناظر) فان كان قد جعل لكل واحد منهم الاستقلال في النظارة فالباقي منهم له النظارة. و إن شرط اجتماعهم فالمشهور انه يجب على الحاكم الشرعي ضم شخص آخر اليه و يحتمل انعزالهم بأجمعهم لأن تولية كل منهم كانت مشروطة بالآخر و ترجع التولية لحاكم الشرع لأنه ولي من لا ولي له. و (منها)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 443

ان الحاكم الشرعي إذا كان متوليا فله أن يتصدى بنفسه و له أن يوكل غيره أو ينصب متوليا قالوا و له عزل الوكيل عنه و ليس له عزل المتولي ما دام باقيا على الأهلية. و (منها) انه إذا جعل الواقف التولية لشخص و لم يقوم بشؤون الوقف أو مات أو خرج عن الأهلية أو كان لا يصلح لها من أصله كأن كان صبيا أو كان فاسقا على المشهور قيل تعود التولية لأهله. و قيل لحاكم الشرع لكون أهله بمنزلة الأجانب عنه و الحاكم الشرعي ولي من لا ولي له. و لو زال المانع من ولاية المجعول ففي عود التولية له وجهان: من أنها كالوكالة فلا تعود و للاستصحاب و من أنها كالولاية قد منع نفوذها فاذا زال عادت. و (منها) إذا جعل الواقف التولية لاثنين على وجه الاجتماع فلا

ينفذ تصرف أحدهما من دون الآخر و لا يجوز لهما قسمة الوقف و لو تعاسرا أجبرهما الحاكم الشرعي على الاجتماع مع الإمكان و مع عدمه يكون المرجع هو الحاكم الشرعي. و (منها) انه لو صار الحاكم الشرعي ناظرا لم يجز للحاكم الشرعي الآخر عزله و لا مزاحمته و لا عزل من نصبه (نعم) لو مات الحاكم الشرعي قيل ينعزل المنصوب من قبله و قيل لا ينعزل لأنه كالمنصوب من قبل الامام (ع) نعم الوكيل عن حاكم الشرع ينعزل بموت ذلك الحاكم الشرعي و تحقيق هذه الفروع تطلب من كتاب الوقف. و إن كان التحقيق إن ما ذكروه فيها بالنسبة لحاكم الشرع لا دليل يعتمد عليه إلا أدلة الولاية العامة و هي تقتضي أكثر من ذلك.

مجهول المالك و المال الذي لا يمكن إيصاله لصاحبه
اشارة

و (منها ولايته على المال الذي لا يمكن إيصاله لصاحبه و على مجهول المالك) اعلم ان مال الغير اما أن يكون المالك له معلوما بشخصه يمكن إيصاله له أو يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 444

معلوما بشخصه و لكن لا يمكن إيصاله له أو لا يكون كذلك بأن كان مرددا و على التقدير الثالث فالمال اما أن يكون متصفا بأحد العناوين كأن كان كنزا أو لقطة أو مختلطا بالحلال، و أما أن يكون مندرجا تحت عنوان من العناوين ككونه جائزة من السلطان أو وديعة عند الغير و لم يعرف صاحبها أو وجد في بطن حيوان اشتراه و لم يعرف البائع أو في بطن حيوان اصطاده و نحو ذلك و أما ان لا يكون كذلك لا متصفا بإحدى تلك العناوين و لا مندرجا تحت عنوان فيسمى بالمجهول المالك و يسمى بالمظالم و إن كانت المظالم تطلق على سائر

الحقوق المالية كالزكاة و نحوها. إلا أن الظاهر اختصاصها عند إطلاقها بمجهول المالك. إذا عرفت ذلك فنقول إن ما كان مالكه معلوما بالتفصيل و يمكن إيصاله له فيجب رده لمالكه عند التمكن من رده كما هو الشأن في سائر الواجبات إلا أن يحرز رضاه بالبقاء عنده و هل الواجب تسليمه له و إقباضه إياه أو يكفي إعلامه به و التخلية بينه و بينه الظاهر هو الثاني و ذلك لأن الأدلة الآمرة بالرد ظاهرة في كونها بيانا لحكم العقل في الأمانات و الذي يحكم به العقل هو تمكين المالك من ماله و عدم حيلولته بينه و بينه. مضافا الى أن الأموال الغير المنقولة لا يتصور فيها إلا ذلك فلو كان الرد ظاهرا في الإيصال و الإقباض للزم عدم شمول الأدلة للأموال الغير المنقولة فإذن لا بد من إرادة معنى يصح نسبته للجميع و هو المعنى الثاني دون الأول. مضافا الى أن معنى الرد هو الإرجاع إلى حالته الاولى كقوله تعالى يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِكُمْ كُفّٰاراً. و كقوله:

فَارْتَدَّ بَصِيراً. و لا إشكال أنه بالتخلية قد أرجعه إلى حالته الاولي من استيلاء المالك عليه. مضافا الى أن الفقهاء قد فسروا الرد بالتخلية في باب الوديعة و لا إشكال في شمول أدلة رد الأمانة للوديعة فلا بد أن يراد بالرد فيها ما يشمل هذا المعني و هو التخلية (ثمَّ) انه لا خلاف في كون الرد فوريا و ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 445

لأن إبقاء العين تحت تصرفه تصرف لم يعلم رضا المالك به فيكون محرما. مضافا للقاعدة المقررة من وجوب الاقتصار في وضع اليد على المقدار المتحقق اذنه.

و لرواية يونس عن أبي عبد اللّه (ع)

قال: يا يونس من حبس حق المؤمن أقامه اللّه يوم القيامة خمسمائة عام على رجليه حتى يسيل من عرقه أودية الى أن قال ثمَّ يؤمر به إلى النار. و لحديث المناهي من حبس على أخيه المؤمن شيئا حرم اللّه عليه بركة الرزق. (ثمَّ) على ما بيناه من ان المراد بالرد التخلية ذكر غير واحد بأنه يشكل حمل المال الى صاحبه لأنه تصرف لم يعلم إذن المالك فيه.

(نعم) إذا أحرز ان الحمل احفظ للمال مما إذا بقي في محله أو مساويا جاز الحمل لأنه يكون الحمل إحسانا فيصح ارتكابه. و لا يخفى ما فيه فان الواجب لما كان مطلق الرد جاز لمن عنده المال أن يرده بأي أنواع الرد و لذا كانت السيرة الموجودة هو حمل المال لصاحبه.

و أما إذا عرف صاحبه و لم يمكن إيصاله له لحبس أو لجهل بمحله فالذي قواه الهمداني (ره) و تبعه بعض المعاصرين هو انه بعد اليأس من التمكن من إيصاله لصاحبه هو جواز التصدق به أو وجوبه و استدلوا على ذلك.

(أولا) بأن أخبار مجهول المالك يستفاد منها أن التصدق به ليس من جهة جهل المالك بل من جهة تعذر إيصال المال له و قد استدل بهذا السيد كاظم (ره) و الحاج آقا رضا الهمداني (ره). و لا يخفى عدم استفادة ذلك منها.

(و ثانيا) برواية علي بن ميمون التي رواها الشيخ بإسناده عنه قال:

سألته عن تراب الصواغين و انا نبيعه؟ قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه. قال: قلت: لا إذا أخبرته اتهمني قال: بعه. قلت: بأي شي ء قال: بطعام. قلت: فأي شي ء اصنع به؟ قال تصدق به أما لك و أما لأهله.

و وجه الاستدلال بها مع انها من غير

ما نحن فيه لأن ظاهرها هو تردد المال بين أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 446

يكون ملكه أو ملك غيره. هو أن التهمة كانت مانعة له عن الإيصال و هو بصدد فراغ ذمته في الواقع لاحتماله ان المال ليس له. و الامام (ع) جعل التصدق موجبا لفراغ ذمته في الواقع لو كان المال لغيره واقعا. و لا يخفى أنها مضافا لضعفها بعلي بن ميمون و إضمارها ان هذه الرواية لم تعمل بها الأصحاب.

(و ثالثا) برواية حفص بن غياث فيمن أودعه رجل من اللصوص دراهم قال (ع): لا يرده فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل و إلا كان في يده بمنزلة اللقطة يعرفها حولا فإن أصاب صاحبها و إلا تصدق بها حيث علق الامام عليه السلام وجوب التصدق على عدم إمكان الرد على صاحب المال مطلقا سواء كان من جهة الجهل به أو تعذر الوصول اليه لحبسه أو بعد المسافة أو غير ذلك و الظاهر انه يتعدى عن موردها بتنقيح المناط إذ لا خصوصية له كما أن ضعفها منجبر بعمل الأصحاب كما عن الجواهر و المسالك.

«و لكن يمكن أن يقال عليها» انها ظاهرة في خصوص صورة الجهل بالمالك فتكون واردة في مجهول المالك لقوله (ع): «يعرفها حولا» فإنه يناسب الجهل بالمالك لا صورة التعذر إذ مع التعذر يكون المالك معلوما.

و دعوى ان التعذر قد يحتاج الى التعريف كما لو تعذر الوصول الى المالك من جهة بعده فإنه يحتاج إلى إرسال رسل لتعريفه بذلك. فاسدة فإنه لو كان كذلك لقال عرفه بها و الحاصل أن الرواية بواسطة التشبيه باللقطة مع أخذ التعريف بالحول فيها مع كون المودع هو اللص ينعقد لها ظهور في

مجهولية المالك فلا يمكن التمسك بها في المقام.

(و رابعا) بصحيحة يونس قال: سألت عبدا صالحا (ع) فقلت:

جعلت فداك كنا مرافقين لقوم بمكة و ارتحلنا عنهم و حملنا بعض متاعهم بغير علم و قد ذهب القوم و لا نعرفهم و لا نعرف أوطانهم و قد بقي المتاع عندنا فما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 447

نصنع به؟ قال (ع): تحملونه حتى تلحقوا بالكوفة. قال يونس:

لست أعرفهم و لا ندري كيف نسأل عنهم؟ فقال (ع): بعه و أعط ثمنه أصحابك. فقال: أهل الولاية؟ فقال (ع): نعم و قد استدل بها الحاج آقا رضا الهمداني (ره) بتقريب انها ظاهرة في تعذر إيصال المال لصاحبه المعلوم لأنه كان يعلم بأن هذا المال لذلك الشخص الخاص المعهود الذي كان معه بمكة و لكنه لم يكن يعرف بلده و لا شخصه على وجه يمكنه الوصول اليه بالفحص و السؤال و هكذا استدل بها بعض المعاصرين و لا يخفى ما فيه فان الرواية ظاهرة في عدم معرفتهم و عدم تشخيصهم حيث فيها (و لا نعرفهم و لست أعرفهم) فهي ظاهرة في مجهول المالك.

(و خامسا) بما رواه في الكافي و التهذيب عن نصر بن حبيب صاحب الخان قال: كتبت الى العبد الصالح (ع) قد وقعت عندي مائة درهم و أربعة دراهم و قد مات صاحبها و لم اعرف له ورثة؟ فكتب (ع) اعمل فيها و أخرجها صدقة قليلا قليلا. و ما في موثقة هشام بن سالم انه سأل حفص الأعور أبا عبد اللّه (ع) عن أجير كان يقوم في رحاة و له عندنا دراهم و ليس له وارث فقال (ع): تدفع للمساكين و لا يخفى ما فيها فإنها ظاهرة في موت

صاحب المال و يكون المال مجهول وارثه فتكون هذه الأخبار لبيان حكم مجهول المالك إذا لم نجري استصحاب عدم الوارث لأنه لو جرى كان مال الإمام لأنه وارث من لا وارث له و عليه يكون الامام قد أذن للسائل بالتصدق بماله (ع).

(و سادسا) الصحيح الذي رواه الشيخ الطوسي بسنده عن يونس بن عبد الرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا و أنا حاضر فقال رفيق لنا كان بمكة فرحل عنها إلى منزله و رحلنا الى منازلنا فلما أن صرنا في بعض الطريق أصبنا بعض متاعه فأي شي ء نصنع به؟ قال: تحملونه إلى الكوفة. قال: لسنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 448

نعرف بلده و لا نعرف كيف نصنع؟ قال: إذا كان كذلك فبعه و تصدق بثمنه. قال له: على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية و هي ظاهرة في وجوب التصدق بمال معلوم المالك إذا لم يمكن إيصاله له و لا يخفى ان هذه الرواية و إن كانت في تقريرات بعض أساتذة العصر للمرحوم الشاهرودى بهذه الصورة و لكن الحقيقة إنها ليست كذلك إذا الذي رواه الشيخ الطوسي (ره) في التهذيب ج 2 ص 188 عن الصفار عن محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن قال: سئل أبو الحسن الرضا (ع) و أنا حاضر فقال: جعلت فداك تأذن لي في السؤال فإن لي مسائل؟ قال: سل عما شئت. قال: قلت له: رفيق كان لنا بمكة فرحل عنها إلى منزله و رحلنا الى منازلنا فلما أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا فأي شي ء نصنع به؟ قال: فقال. تحملونه حتى تصلوه إلى الكوفة. قال: لسنا نعرفه و لا نعرف بلده

و لا نعرف كيف نصنع. و في نسخة أخرى قال له: (كيف نعرفه و لا نعرف بلده و لا نعرفه كيف نصنع)؟ قال (ع): إذا كان كذلك فبعه و تصدق بثمنه. قال له:

على من جعلت فداك؟ قال: على أهل الولاية فتكون هذه الرواية ظاهرة في مجهول المالك لا في معلوم المالك نظير رواية يونس المتقدمة في الوجه الثالث.

(و سابعا) بمرسلة السرائر حيث قال: و روى انه إذا لم يظفر له بوارث تصدق به عنه. و مرسلة الفقيه حيث قال: و قد روى في هذا خبر آخر إن لم يجد له وارثا و علم اللّه بذلك الجهد فتصدق به و إرسالها منجبر بالشهرة الفتوائية بالتصدق و فيه ما لا يخفى فإنهما ظاهر ان في خصوص المفقود دون من تعذر الإيصال إليه لحبس أو نحوه، و لعل الشهرة الفتوائية في خصوص هذا المورد أيضا مع ان المدعي أعم مضافا الى أن ظاهرهما هو صورة العلم بموت صاحب المال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 449

و الجهل بالوارث و هو حينئذ من موارد مجهول المالك بلا إشكال و خارج عن محل البحث هذا مضافا إلى انها معارضة بما دل على وجوب حفظ المال لصاحبه و الإيصاء به بعد الموت كما في (صحيح معاوية بن وهب) على ما يراه المتأخرون في أصحاب الإجماع قال: سئل أبو عبد اللّه عن رجل كان له على رجل حق ففقده و لا يدرى أ حي هو أم ميت و لا يعرف له وارث و لا نسب و لا بلد؟

قال: اطلبه. قال: إن ذلك قد طال فأتصدق به؟ قال: اطلبه فإنه ظاهر في المحافظة على المال المعلوم صاحبه و في طلبه و

مثلها (صحيحة هشام بن سالم) ان خطاب الأعور سأل أبا إبراهيم (ع) و أنا جالس عنده فقال: انه كان عند أبي أجيرا ففقدناه و بقي له من أجره شيئا و لا نعرف له وارثا؟ قال (ع):

اطلبه قال: قد طلبناه و لم نجده؟ فقال: مساكين و درك يده. قال:

فأعاد عليه. قال (ع): اطلب و اجهد فإن قدرت عليه و إلا فكسبيل مالك حتى يجي ء له طالب فان حدث بك حدث فأوصي به إن جاء له طالب أن يدفع له و لا يخفى ان هذه الأخبار هي مقتضى القاعدة لأن المال يجب على الآخذ المحافظة عليه حتى يوصله لصاحبه و قد تمسكوا بها الأصحاب في الدين الذي غاب صاحبه و لا يدرى أحي هو أو ميت كما انهم تمسكوا بها في باب المواريث في عدم صحة قسمة أموال الغائب المنقطع خبره على ورثته. و إن كانت هي لم تكن في الميراث إلا أنه صح الاستدلال بها لعدم القائل بالفرق بينه و بين سائر الحقوق. و من هنا يظهر ما في الكفاية حيث طعن في التمسك بها باحتمال الفرق. كما انه لا وجه للطعن بها بأنها ظاهرة في الدين و كلامنا في العين و ذلك لعدم ظهورها في ذلك و لو سلمناه فللإجماع على عدم الفصل بين الحقوق و لتنقيح المناط إن لم نقل بالأولوية القطعية. هذا و قد ظهر لك وجوب الفحص هنا عن المالك و الطلب له لصريح الروايات. ثمَّ إن الظاهر إن الطلب المأخوذ في الروايات يصدق بالسؤال عنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 450

و الترقب له فلا يجب أعلى أفراده من الضرب في الأرض مضافا إلى أنه إلزام شاق فيه إتلاف

المال و تعب البدن و الشريعة لم تبن على مثله و أدلة الحرج تنفيه و عليه فلا وجه للبحث عن ان الطالب هو الحاكم أو من عنده المال. و إن نفقة السفر على الطالب أو على الغائب الى غير ذلك مما ذكروه في المقام و يرشد إلي ما قلناه ما روي عن زرارة في الصحيح عن أبي جعفر (ع) عن الرجل يكون عليه الدين لا يقدر على صاحبه و لا على ولي له و لا يدرى بأي أرض هو؟ قال:

لا جناح عليه بعد أن يعلم اللّه منه أن نيته الأداء.

(إن قلت): إن التكليف بالانتظار لازمه الانتظار إلى أن يعلم بالحال و قد ينجر ذلك إلى أقصى مدة العمر و هذا فيه حرج منفي بالشريعة. (قلنا):

لا حرج في الانتظار بأن يجعله كسائر الأمانات و إذا خشي التلف تصرف به مع الضمان أو يستبدله بمال لا يخشى تلفه. و (أما إذا كان المال المجهول المالك متصفا بأحد العناوين) ككونه كنزا أو لقطة أو مندرجا تحت عنوان ككونه من جوائز الظالمين فقد ذكروا في موطنه حكمه (و أما إذا كان مجهول المالك غير متصف بأحد العناوين و لا مندرجا تحت عنوان) فان تردد بين غير محصورين فالكلام يقع فيه في عدة جهات: (إحداها) في وجوب الفحص عن مالكه و قد ذهب اليه المشهور و استدل عليه بأمور: (أحدها) إن أدلة وجوب الرد إلى المالك تقتضي الفحص عنه لأنه مقدمة له و (دعوى) انا نحتمل ان الرد غير مقدور للمالك فالأصل البراءة منه فلا تجب مقدمته و هي الفحص. (مدفوعة) بأنه قد تقرر في محله ان الشك في القدرة لا يرفع التكليف و لا يوجب جريان أصل البراءة منه

و إلا لسقطت نوع التكاليف إذ نوع التكاليف عند القيام بها يحتمل الإنسان عدم قدرته على إتمامها. و لكن لا يخفى ما فيه فان فرض الكلام في الشبهة الغير المحصورة، فأصالة عدم وجوب الرد بالنسبة لكل واحد من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 451

الأشخاص المحتمل ملكيتهم له جارية بلا معارض.

(إن قلت): إنا نعلم إجمالا إما بوجوب إيصال المال لمالكه أو التصدق به عنه فيجب الفحص لمعرفة التكليف كما ذكره استاذنا (كا ره). (قلنا):

لا علم إجمالي لأن وجوب الرد أصل البراءة ينفيه لكون الشبهة غير محصورة و وجوب التصدق إن قام الدليل عليه وجب الأخذ به و إلا فالأصل البراءة منه مضافا إلى أن الكلام لو كان مع قطع النظر عن الأدلة فإنا لا نعلم إجمالا ذلك بل، نحتمل ان المال يكون ملكا لواضع اليد عليه.

(ثانيها) صحيحة يونس الأولى المتقدمة ص 446 حيث فيها أمر الإمام بالتفحص بحمل المال للكوفة بعد دعوى الراوي عدم معرفة القوم و عدم معرفة أوطانهم ثمَّ لما ذكر الراوي إنه آيس من معرفتهم بقوله و لا ندري كيف نسأل عنهم أمره بالتصدق و رفع عنه وجوب الفحص فيستفاد من الرواية انه بالجهل بالمالك يجب الفحص و يستفاد منها انه باليأس من معرفة المالك يتصدق به. و عليه لو كان اليأس حاصلا قبل الفحص كما إذا كان لم يعرف المالك بوجه من الوجوه تصدق به كما هو ظاهر الرواية و لازمه انه إذا حصل اليأس بعد الفحص حتى القليل منه يتصدق به و هي أحسن الروايات في هذا الباب و قد استدل بعض أساتذة العصر برواية يونس الثانية. و لا يخفى ما فيه فإنه قد رتب فيها التصدق على

مجرد الجهل بالمالك، فهي للخصم أنفع.

(ثالثها) أخبار اللقطة و اخبار الدين المجهول مالكه و اخبار المفقود فإنها تدل على وجوب الفحص عن المالك و بتنقيح المناط يثبت المطلوب في المجهول المالك، فان المناط في الفحص فيها هو المحافظة على إيصال الحق لصاحبه.

و لا يخفى ما فيه فانا لا نسلم أن المناط هو مجرد ذلك فلعله في الدين المجهول المالك هو إحسان صاحب الدين على المديون بتسليطه على المال و الانتفاع به فيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 452

و الأمر بالفحص جبرا لاحسان المالك. و في اللقطة إنما أمر الشارع بالفحص لبغضه لأخذها من مكانها. و في المفقود لكون المالك معروفا بشخصه.

(رابعها) ما تمسك به المرحوم الايرواني من رواية حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا و اللص مسلم هل يرده عليه؟ فقال: لا يرده فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل و إلا كان بمنزلة اللقطة فيعرفها حولا فإن أصاب صاحبها ردها اليه و إلا تصدق بها فان جاء صاحبها بعد ذلك خيره بين الأجر و الغرم فان اختار الأجر فله الأجر و إن اختار الغرم غرم له و كان الأجر له. و الحديث و إن كان ضعيفا بالقاسم بن محمد إلا أن المحكي عن المسالك و الجواهر ان ضعفه منجبر بالشهرة. و لا يخفى ما فيه فإنه لا وجه للتعدي من موردها لمجهول المالك إذ لعل أمر الإمام بالفحص من جهة إقدامه على الأخذ من اللص الذي يعلم بأنه قد سرق هذا المال فان ظاهر السؤال هو ذلك لا انه قد علم به بعد الأخذ نظير آخذ اللقطة

في عدم رضاء الشارع بأخذه فان اقدامه عليها أوجب عليه الفحص.

و عليه فإنما يتعدى منه لكل مال أقدم على أخذه مع العلم بحرمته و كان مالكه مجهولا و لكن المحكي عن ابن إدريس ره رد وديعة اللص المذكور لإمام المسلمين فان تعذر أبقاها أمانة ثمَّ يوصي بها إلى حين التمكن و قواه في المختلف و المحكي عن المفيد ره و سلار يخرج خمسها و الباقي يتصدق به و لم يذكر التعريف و المجلسي ره ذهب إلى التخير بين الصدقة بها و بين إبقائها أمانة قال ره و ليس له التملك بعد التعريف كما جاز ذلك في اللقطة.

(إن قلت): إن ما ذكرته من التعدي ينافيه ما في رواية على بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية فقال لي: استأذن لي على أبي عبد اللّه (ع) فاستأذنت له فاذن له فلما أن دخل سلم و جلس ثمَّ قال: جعلت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 453

فداك إنى كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا و أغمضت في مطالبه إلى أن قال قال (ع): فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم؟ رددت عليه ماله و من لم تعرف تصدقت به إلى أن قال: رجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئا إلا خرج منه حتى ثيابه التي على بدنه فما أتى عليه أشهر قلائل حتى مرض و مات. فان هذه الرواية تدل على أن الحرام الذي يأخذه الإنسان و هو مجهول المالك يتصدق به من دون فحص و لو كان يعتبر فيه الفحص سنة لما كان يصح من الفتي عند رجوعه يتصدق به بعد أشهر.

(قلنا): مضافا

إلى ضعفها بعلي بن أبي حمزة و عدم عمل المشهور بها و إنها منافية لأخبار حلية جوائز السلطان فهي محمولة على الاستحباب نظير من عنده مال يحتمل أنه حرام و إن كان بحسب الظاهر حلال فيحتاط فيه بهذا النحو مضافا إلى إمكان دعوى عدم دلالتها على أن المأخوذ مجهول المالك و إنه محرم أخذه بل إنما دلت على أنه أخذ منهم من دون تفحص عن انه من أموالهم أو أموال غيرهم.

(إن قلت): ان موثقة إسحاق بن عمار و هي سألت أبا إبراهيم عن رجل نزل في بعض بيوت مكة فوجد فيه نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه و لم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها؟ قلت: فان لم يعرفوها؟ قال: يتصدق بها. ظاهرة في عدم الفحص سنة مع أن يده يد عدوان إذ أنه أخذ المال و هو يعلم بأنه حرام.

(قلنا): الرواية ظاهرة في اللقطة و لذا ذكرها صاحب الوسائل في كتابها فهي نظير الروايات الواردة في اللقطة أجنبية عما نحن فيه و لو سلمنا شمولها لما نحن فيه فهي مقيدة برواية حفص على انا لا نسلم إن يده يد عدوانية لقوله: (و لم يذكرها). (هذا و قد تمسك بعضهم) لعدم وجوب الفحص في المجهول المالك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 454

بإطلاق عدة روايات. منها ما تقدم ص 452 من رواية علي بن حمزة في عمال بني أمية، و قد عرفت ضعفها و عدم عمل المشهور بها و عدم دلالتها على أن المأخوذ كان مجهول المالك و إنما قد أغمض في مطالبه. و (منها) رواية علي ابن راشد قال: سألت أبا الحسن (ع)

قلت: جعلت فداك اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم فلما وفيت المال خبرت أن الأرض وقف؟ فقال عليه السلام: لا يجوز شراء الوقف و لا تدخل الغلة في مالك و ادفعها لمن وقفت عليه. قلت: لا أعرف لها ربا؟ قال: تصدق بغلتها. الى غير ذلك من الروايات التي يستدل بها على عدم وجوب الفحص و الجواب عنها انه بعد تسليم صحة سندها و تمامية دلالتها فهي مخصصة بما تقدم من الأدلة على وجوب الفحص التي عمدتها صحيحة يونس و مضافا إلى أن مجهول المالك لما كان من قبيل الشبهة الغير المحصورة كان الأغلب انه مأيوس من معرفة صاحبه إلا ما شذ و لعل الأخبار الآمرة بالتصدق بدون الفحص ناظرة لذلك بل ظاهر قول الراوي في رواية علي بن راشد: (لا أعرف لها ربا) هو عدم المعرفة في الحاضر و المستقبل فيكون ظاهرها الإياس من المعرفة فلذا الامام رتب عليها التصدق. و (قد أجاب عن ذلك بعض أساتذة العصر (بما حاصله أن الآية الشريفة و هي «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا» تقتضي وجوب الفحص عن المالك لكونه مقدمة للرد الواجب و هي تشمل الأمانة المالكية كالوديعة و نحوها و الأمانة الشرعية كاللقطة و مجهول المالك و نحوها، و لكنها مقيدة بصورة التمكن من الأداء و الفحص لقبح التكليف بما لا يطاق. و اخبار التصدق المطلقة تشمل صورة التمكن من الأداء للمالك و صورة عدم التمكن و لكنها مقيدة بمجهول المالك فبين الآية الشريفة و الاخبار المطلقة عموم من وجه فإن الآية أعم من الاخبار من جهة شمولها للأمانة المالكية دون الاخبار. و أخص من جهة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص:

455

اختصاصها بصورة التمكن من الفحص. و الاخبار المطلقة أعم من جهة شمولها لصورة عدم التمكن من الفحص و الرد و أخص من جهة اختصاصها بمجهول المالك فتقع المعارضة بينهما في مجهول المالك مع التمكن من الفحص فمقتضى الآية هو وجوب الفحص عن المالك و مقتضى الأخبار المطلقة هو وجوب التصدق بالمال و عدم وجوب الفحص عن المالك و قد حققنا في علم الأصول انه إذا تعارض الكتاب مع الخبر بنحو العموم من وجه يؤخذ بعموم الكتاب أو بإطلاقه و عليه فلا بد أن نأخذ بإطلاق الآية و نحكم بوجوب الفحص و مع الإغضاء عما ذكرناه و الحكم بالتساقط يرجع الى عموم حرمة التصرف بمال الغير بدون اذنه. و لا يخفى ما فيه فإنه مضافا الى أن الآية ظاهرة في الأمانة المالكية فإنها المتبادر منها عرفا، انه لا تعارض بين الآية و الاخبار المطلقة الدالة على وجوب التصدق لأن الآية دالة على الحكم الواقعي لأنها إنما تشمل مجهول المالك لا بعنوان انه مجهول بل بعنوان انه مال للغير يجب رده لأهله و إلا لزم الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي. و الاخبار المذكورة دالة على الحكم الظاهري لأخذ الجهل في موضوعه. و لو تمَّ ما ذكره للزم الفحص في سائر الشبه الغير المحصورة الوجوبية لأن دليل التكليف الوجوبي يقتضي الإتيان به. و الفحص مقدمة لامتثاله و أصل الإباحة و نحوه يقتضي إباحة الترك سواء فحص أم لم يفحص، و هكذا يمكن تسرية الحكم إلى الشبهة التحريمية الغير المحصورة و (إن شئت قلت) ان أصالة عدم وجوب الرد جارية في أطراف مجهول المالك لكونه شبهة غير محصورة فيكون التكليف بالرد غير منجز فلا يجب الفحص و

على هذا فلا معارض لاخبار وجوب التصدق الغير المقيدة بالفحص فيثبت بها وجوب التصدق و هو المطلوب للخصم بل للخصم أن يدعي أن المراد (بالأهل) في الآية أعم من المالك أو الفقراء بعد ما عممت الأمانة في الآية لمطلق ما بيد الإنسان و عليه فلا منافاة و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 456

معارضة بين الاخبار و الآية مضافا الى دعوى ان الآية إرشاد لحكم العقل بوجوب رد الامانة و هو لا يشك في حكمه فتكون دعوى المعارضة من قبيل دعوى معارضة القطع للنقل لا من قبيل معارضة الكتاب للسنة.

مقدار الفحص عن مجهول المالك

(ثانيها) إن بعد ما ثبت وجوب الفحص عن مجهول المالك فمقداره إلى حد اليأس من الظفر بالمالك فلو كان واضع اليد على مجهول المالك آيسا في أول الأمر من المالك لم يجب عليه الفحص و الدليل على ذلك كله هو صحيحة يونس الأولى المتقدمة ص 446 (نعم) يستثنى من ذلك صورتان الاولى الحرج في الفحص فان عليه أن يفحص بمقدار لا يلزم منه ذلك الى أن يحصل له اليأس لأدلة نفي الحرج (الثانية) ما لو أقدم على مال يعلم بحرمته و كان مجهول المالك لديه كما لو أخذ المال من اللص الذي يعلم بأنه سرقة فإن يجب عليه الفحص مقدار سنة و ذلك لرواية حفص بن غياث.

اجرة الفحص على الفاحص أو المالك

(ثالثها) انه بعد ما ثبت وجوب الفحص فلو توقف الفحص على بذل الأجرة كأجرة الدلال و الإعلان بل و هكذا المحافظة على العين لو توقفت على الأجرة فهل الأجرة على من وجب عليه الفحص أو على المالك الحق ان الواجب هو البذل لأنه الموقوف عليه الفحص أما انه بنحو المجانية فلم يقم دليل عليه فله أن يختار البذل بنحو العوض نظير ما يقال في الإطعام في المخمصة فإنه واجب لكن لا يجب بنحو المجانية بل له الرجوع بالأجرة، و هكذا الصناعات التي يتوقف عليها النظام و هكذا تحمل الشهادة هذا إذا كانت يده على مجهول المالك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 457

يد إحسان بأن أخذ المال ليحافظ عليه و ليوصله إلى صاحبه أو وقع عنده و لم يعرف صاحبه لقوله تعالى مٰا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ و عليه أن يستأذن من الحاكم الشرعي في الصرف عليه بناء على اعتبار الاذن من الحاكم في القيام بالأمور

الحسبية التي تكون من هذا النوع كما سيجي ء إن شاء اللّه.

(و كيف كان) فاذا وجد المالك أخذ الأجرة منه لأن من له الغنم فعليه الغرم.

و إن امتنع رفع أمره للحاكم الشرعي و هو يأخذها منه لأنه ولي الممتنع و إن لم يجده أخذها الفاحص من العين ثمَّ صرف الباقي في مصارف مجهول المالك. (هذا كله) إذا كانت يده على المال يد إحسان، و أما إذا كانت يده يد عدوان بلا مبرر شرعي كما لو سرق المال و جهل صاحبه فالظاهر إن الأجرة عليه لا على المالك لأنه قد أدخل الضرر على نفسه بعدوانه و تجاوزه على حق المالك فلا يناسبه التخفيف و لا ترفعه قاعدة لا ضرر لأنها في مقام المنة و التخفيف و لأن هذه الأجرة حصلت بفعل المعتدي فلا وجه لتغريم المالك، و يدل على ذلك ما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع): «الحجر الغصب في الدار رهن على خرابها» أي موجب لخرابها، كما ان الرهن موجب لاسترداد المال الذي وضع عليه. و مثله ما رواه ابن ميثم (ره) عن رسول اللّه (ص): «اتقوا الحرام في البنيان فإنه أسباب الخراب». و يؤيده بل يدل عليه ما في صحيحة أبي ولاد عن أبي عبد اللّه (ع) قال قلت: قد علفته بدراهم فلي عليه علفه، قال (ع): لا لأنك غاصب فإنه يفهم من التعليل ان ما يصرف على المغصوب من الغاصب يكون من مال الغاصب و لا يؤخذ من المالك. و لعل المتدبر في كلمات الفقهاء يرى ان ذلك من الأمور المسلمة عندهم.

و في تقريرات بعض أساتذة العصر و قد ورد في بعض الاخبار انه إذا غصب أحد خشبة فجعلها في أساس البناء ثمَّ

جاء مالكها يطلبها وجب عليه ردها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 458

و لو كان بهدم البناء. و لكني بعد الفحص لم أطلع على هذا الخبر بهذا التفصيل و إنما الذي وجدته هو ما تقدم.

مجهول المالك إذا ادعاه مدعي

(رابعها) ان مجهول المالك إذا ادعاه مدعي سواء كان قبل الفحص أو بعده أو في أثنائه، فدعواه تارة تكون مقترنة بالعلم بصدقه بواسطة القرائن، و تارة تكون مقترنة بالحجة الشرعية، و أخرى مقترنة بالتوصيف و التعريف بذكر العلامات الموجودة في المال و أخرى مجردة عن ذلك كله، أما إذا كانت مجردة عن ذلك فقد يقال بأنها دعوى بلا معارض و هي حجة، و لا يخفى ما فيه فان الدليل على حجيتها هو رواية منصور بن حازم قال قلت للصادق (ع):

عشرة كانوا جلوسا و وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا: أ لكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، قال (ع): هو للذي ادعاه. و هي إنما تدل على حجية الدعوى فيما إذا لم يكن على المال يد ملزمة بإيصاله للمالك، و قد استدل على ذلك أيضا بالإجماع و لكن القدر المتيقن منه هو ذلك، و قد استدل على ذلك أيضا بأصالة الصحة في قول المسلم. و فيه ان حمل قول المسلم على الصحة إنما يقتضي الصحة الفاعلية لا صحة القول و مطابقته للواقع فان ما دل على أصالة الصحة لا يدل على اقتضائها صدق الكلام و مطابقته للواقع و إنما يقتضي حمله على عدم تعمده للكذب. و قد استدل على ذلك أيضا بما ورد في اللقطة بما في رواية الحلبي عن أبي عبد اللّه (ع) في اللقطة: فإن جاز لها طالب و إلا

فهي كسبيل ماله. و بما في رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) في اللقطة اجعلها في عرض مالك حتى يجي ء لها طالب و لكن الأستاذ كا (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 459

ذكر ان في موردها و هو اللقطة لم يعمل بها فكيف يتعدى منه إلى مجهول المالك.

هذا كله إذا كانت الدعوى مجردة و أما إذا اقترنت بالتوصيف و التعريف للمال فإن أفاد العلم العادي بأن المال له أعطي له و، إلا فلا لعدم الدليل على حجية التوصيف، و قد يستدل على حجيته في المقام بما في التهذيب عن محمد بن أبي نصر قال: سألت أبا الحسن الرضا (ع) عن الرجل يصيد الطير الذي يسوى دراهم و هو مستوي الجناحين و هو يعرف صاحبه أ يحل له إمساكه، فقال: إذا عرف صاحبه رده عليه و إن لم يكن يعرفه و ملك جناحيه فهو له و إن جاء طالب لا تتهمه رده عليه. و لا يخفى ما فيه فان الظاهر من قوله (ع): «لا تتهمه» هو العلم أو ما يقاربه و قد يستدل له أيضا بالقياس على اللقطة فإنه إذا عرفها مدعيها بذكر العلامات دفعت له. و فيه انه لو سلم ثبوت هذا الحكم في اللقطة فقياس المقام بها قياس في الشرع باطل، و دعوى اتحاد المناط غير مسلمة. و أما إذا حصل العلم من القرائن بصدق دعواه أو قامت الحجة الشرعية كالبينة دفع المال له. قال الأستاذ كا (ره): لو دفعه إلى المدعي بعد الثبوت أو حصول العلم ثمَّ تبين الخلاف الأقوى عدم الضمان لعدم السبيل على المحسنين، و لانصراف أدلة الإتلاف عن هذا الإتلاف الذي هو في سبيل الوصول إلى

المالك و عود النفع اليه، سلمنا عدم الانصراف لكن دليل نفي الضرر و السبيل على المحسنين حاكم على دليل الإتلاف. و لو سلمنا المعارضة و عدم الحكومة كان المرجع هو البراءة من الضمان.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 460

مصرف مجهول المالك

(خامسها) ان مصرف مجهول المالك بعد اليأس عن الظفر بمالكه يتصدق به على الفقراء لصحيحة يونس الأولى المتقدمة (إن قلت) إنه تعارضها رواية داود ابن أبي زيد عن أبي عبد اللّه (ع) قال له رجل: اني قد أصبت مالا و اني قد خفت فيه على نفسي و لو أصبت صاحبه دفعته اليه و تخلصت منه، فقال أبو عبد اللّه:

و اللّه ان لو أصبته كنت تدفعه اليه؟ قال: اي و اللّه، قال (ع): فلا و اللّه ما له صاحب غيري، قال فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره قال فحلف قال (ع): فاذهب فقسمه في إخوانك و لك الأمن مما خفت منه قال: فقسمه بين إخوانه. فإن ظاهر هذه الرواية كون مجهول المالك يملكه الامام (ع). و قد استظهر هذا الرأي صاحب المستند. و دعوى ضعف سندها بموسى بن عمر حتى ان المجلسي (ره) وصفها بالجهالة. مدفوعة بتوثيق جماعة له كالحجة المامقاني و الشيخ محمد طه نجف و الشيخ النوري. و دعوى انها واردة في واقعة شخصية و احتمال ان الامام (ع) كان يملك هذا المال حقيقة و أمره بالتصدق به تطوعا و تفضلا و تحميله الغير توزيعه رفعا للتهمة. مدفوعة بأن ترك الاستفصال يقتضي إطلاق المقال. و هذه الرواية لا تعارضها سائر الروايات الواردة في هذا الباب حتى الآمرة بالصدقة مع الضمان لو جاء المالك كرواية حفص بن غياث المتقدمة، و حتى الظاهرة في تملك

مجهول المالك لو دفع الخمس كصحيحة علي بن مهزيار و ذلك لأن تلك الروايات تحمل على الاذن المالكي بالحفظ أو الصدقة أو التملك بهذا النحو و لعل اختلاف الروايات في مصرف مجهول المالك يدل على ملكية الإمام (ع) له و انه كان يأذن لكل واحد بنحو من التصرف (قلت): عدم عمل المشهور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 461

بها لعدم فتواهم بأن المال المجهول المالك من الأنفال يضعف ذلك، مضافا للروايات الحاصرة للأنفال و عدم عد مجهول المالك فيها، مضافا لعدم ظهورها في ملكية مجهول المالك للإمام. نعم لا يبعد ظهورها في ولايته على مجهول المالك في التصدق به و يؤيدها الروايات الدالة على الولاية المطلقة للإمام (ع) و لعل الاعتبار العقلي يساعد على ذلك خصما للمنازعات. و عليه ففي زمان الغيبة تكون الولاية للمجتهد الجامع للشرائط لما تقدم من ثبوت كل ما للإمام من جهة الإمامة و الولاية يثبت للمجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة، و لكن على هذا تكون منافاة بينهما و بين الاخبار الدالة على وجوب التصدق على القابض إلا أن الظاهر أقوائية الرواية الدالة على ولاية الحاكم دلالة. فتحمل أخبار التصدق على الاذن منه عليه السّلام. و لكن يضعف حجية الرواية عدم عمل المشهور بها، إذ المشهور لم يفتوا بالولاية للحاكم الشرعي على مجهول المالك، و لكن السيرة من المتقدمين عليها فإنهم لا يتصدقون به بدون إذن الحاكم أو يدفعونه له فالرواية مضافا لسلامتها كانت السيرة على طبقها، غاية الأمر إنه يستفاد منها و من الروايات الأخرى إن لحاكم الشرع الولاية على التصدق بالمال. هذا و لكن التحقيق عدم دلالة الرواية على ذلك لاحتمال أن الرجل قد أصاب مالا

من أموال الإمام (ع) أو من الأموال التي له الولاية عليها مثل مال الخراج و المقاسمة و الامام يعرف هذا الرجل من أنه جابي عند الظلمة أو من موظفيهم في هذه الأشياء أو جنودهم الذين يغزون معهم و لا مهنة له غير ذلك و لا مال له سوى ذلك.

و دعوى ترك الاستفصال. لا تنفع في المقام لأن الراوي حاكي لوضعية الحال.

نعم لو كانت الرواية هكذا: بأن سأله الراوي عن رجل أصاب مالا و قد خاف على نفسه، يمكن أن يقال إن ترك الاستفصال من الامام عن هذا الرجل و عن هذا المال يقتضي العموم، و أما فيما نحن فيه فالراوي إنما ينقل سؤال رجل له

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 462

و لعل قرائن الأحوال في الرجل تقتضي وضوح السؤال عن مورد خاص، فالرواية لا دلالة فيها أصلا، و أما أدلة الولاية العامة فهي عندهم إنما تثبت ولايته في الأمور العامة لا الخاصة و أما ما ورد من أن الامام ولي من لا ولي له فهي لا تجي ء في المقام لأن القابض هو ولي المال باعتبار تكليفه بالفحص عنه و التصدق به، و لا دليل لنا على أن الفقيه ولي الغائب كما سيجي ء إن شاء اللّه.

و قد يتوهم الفرق في مجهول المالك بين ما إذا كان كليا في الذمة فيجب دفعه للحاكم الشرعي أو الاستئذان منه في صرفه لأن الكلي لا يتعين إلا بإذن المالك أو وليه و الحاكم الشرعي ولي الغائب و بين ما إذا كان عينا خارجية فلا يجب دفعه للحاكم الشرعي لتعينه في نفسه و هو (توهم فاسد) فإنه لو تمت ولاية الحاكم فإنما تتم بواسطة ما ذكرناه من الأدلة

و هي لا فرق فيها بين الكلي و العين الخارجية و إن لم تتم فأدلة التصدق لا فرق فيها بين الكلي و العين الخارجية و يستفاد منها ان من بيده مجهول المالك هو الولي في تعينه إذا كان كليا نظير الزكاة و الخمس.

(إن قلت): ان صحيحي معاوية و هشام بن سالم المتقدمين ص 449 يدلان على وجوب حفظ مجهول المالك و الإيصاء به. (قلنا): قد تقدم هناك أنهما إنما وردا في معلوم المالك.

(إن قلت): ان ما في صحيحة علي بن مهزيار المذكورة في كتاب الخمس من قوله (ع): «و مثل مال يؤخذ و لا يعرف صاحبه» ظاهر في أن مجهول المالك يملكه واضع اليد عليه بإخراج خمسه. (قلت): انها ظاهرة في تعداد ما هو مفروغ عن ملكيته و يجب فيه الخمس لأنه (ع) في مقام تعداد الفوائد و الغنائم للإنسان التي يجب فيها الخمس، كما أن جميع ما ذكره في هذا المقام كله مفروغ عن ملكيته، فإنه (ع) ذكر الجائزة و الميراث و الغنيمة من العدو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 463

فتكون الرواية ظاهرة في المال المجهول المالك الذي يملك بالأخذ كاللقطة التي تملك و الحرام المختلط بالحلال و المال الذي يوجد في بطن حيوان اشتراه و لم يدعيه البائع و الطائر إذا قبضه و لم يعرف صاحبه و المال الذي يخرج من البحر من السفينة المنكسرة و كالكنز و نحو ذلك. و نحن كلامنا في مجهول المالك الذي لا يملك بالأخذ، و لو سلمنا عدم ذلك فهي مطلقة تقيد بالروايات الدالة على وجوب التصدق بمجهول المالك.

(إن قلت): ان الأمر بالتصدق في مجهول المالك لا يدل على الوجوب و إنما يدل على

الإباحة لأنه وارد عقيب الخطر لان مجهول المالك مال للغير و مال الغير حرام التصرف به، فالأمر بالتصدق به وارد بعده لأنه بواسطة طرو جهل المالك عليه. (قلنا) الأمر بالتصدق في مجهول المالك حكم ظاهري و حرمة التصرف حكم واقعي فهو نظير الأمر باستصحاب الحرمة للشي ء الحرام فان الاستصحاب يكون واجبا لا مباحا و السر في ذلك هو اختلاف مرتبة الحكم فلم يكن الأمر في مرتبة النهي. و (إن شئت قلت): ان الميزان في ذلك هو فهم العرف و في المقام العرف لا يفهم من الأمر الإباحة.

من يجوز التصدق عليه بمجهول المالك

(سادسها) انه بعد ما ثبت وجوب التصدق بمجهول المالك فيجوز التصدق به على كل أحد أو على خصوص أهل الولاية مطلقا أو خصوص الفقراء منهم مطلقا أو على غير الهاشمي. الظاهر من صحيحة يونس الأولى المتقدمة ص 447 اشتراط كون المتصدق عليه من أهل الولاية و هل يشترط كونه فقيرا، ظاهر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 464

بعض المتأخرين هو ذلك لأن المتبادر من لفظ الصدقة هو العطية للفقير لوجه اللّه و لقوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ. و لا يخفى ما فيه فان المأخوذ في الصدقة هو العطية لوجه اللّه مطلقا كما هو ظاهر كلمات اللغويين، و لذا يقال للوقف صدقة جارية مع انه قد يكون للأغنياء، و يؤيد ذلك بل يدل عليه قوله تعالى:

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقٰاتِ فَنِعِمّٰا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهٰا وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَرٰاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فان مفهوم الصدقة لو كان مقيدا بالفقير لما كان وجها لأفضليتها بإعطائها للفقراء. و هكذا يؤيده قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً فان الرسول لم يكن فقيرا، و أما قوله

تعالى إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ فالاستدلال به من جهة حصر الصدقات بالفقراء و لكن المقطوع به ان الآية الشريفة لم يرد منها حصر مطلق الصدقة بذلك لأن المذكور في الآية هو الأصناف الثمانية الذين تعطي لهم الزكاة فيكون الظاهر هو خصوص الزكاة منها مضافا إلى تفسيرها بالزكاة في بعض الروايات.

(فتلخص) أن لا دليل على اعتبار الفقر في المتصدق عليه بمجهول المالك، و حكي عن الجواهر (ره) الفتوى بذلك عملا بإطلاق الروايات.

و أما اشتراط كونه غير هاشمي فقد استدل عليه بحرمة الصدقة الواجبة على الهاشمي و هذا صدقة واجبة فتحرم على الهاشمي أما كونه صدقة واجبة فلفرض الكلام انه كذلك، و أما حرمة الصدقة الواجبة على الهاشمي فلما في صحيحة جعفر ابن إبراهيم المروية في الكافي قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع) أ تحل الصدقة لبني هاشم فقال: إنما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحل لنا فأما غير ذلك فليس به بأس. و لا يخفى انه ظاهر في خصوص الزكاة فإن تقييد الواجبة بالناس يوجب الانصراف إلى الزكاة كما إذا قيل: الصلاة الواجبة على الناس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 465

و الحج الواجب على الناس دون ما عداها من الصدقات الواجبة كالكفارات فإنه لا يصح نسبة وجوبها إلى الناس و إنما تجب بأسباب خاصة كالمنذورة و يؤكد ذلك ان الزكاة هي القدر المتيقن و الأخبار الأخرى التي قيدتها بالزكاة كخبر زيد الشحام عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن الصدقة التي حرمت عليهم فقال (ع) هي الزكاة المفروضة و رواية الهاشمي قال: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن الصدقة التي حرمت على بني هاشم ما هي؟ فقال: هي الزكاة. و عليه فأخبار

التصدق بمجهول المالك الشاملة للهاشمي و غيره تبقى على إطلاقها.

عدم ضمان المتصدق بمجهول المالك إذا ظهر المالك

(سابعها) بعد ما ثبت وجوب التصدق بمجهول المالك فلو تصدق به ثمَّ جاء المالك و لم يرض بالتصدق فهل يضمن المتصدق أم لا و لا حاجة لنا في الكلام في مقتضي الأصل العملي أو مقتضي القاعدة إلا بعد العجز من استفادة الحكم من الأخبار المعتبرة، و الكلام يقع في مقامين: أحدهما فيما لو تصدق به بنفسه و الأخر فيما لو دفعه للحاكم و الحاكم تصدق به، أما الكلام في (المقام الأول) فنقول: إن مقتضي إيجاب التصدق من الشارع الذي هو المالك الحقيقي للأمور هو عدم الضمان فإن إيجابه الإتلاف له بنحو التصدق من دون ذكر التضمين له يلازم عرفا عدم الضمان بحيث يكون له ظهورا في ذلك ألا ترى ان المولى إذا قال لخادمه اعطي هذا المال لعمر فهل يشك أحد في عدم ضمان الخادم له، نعم لو قيده بأنه لو جاء زيد فأعطه بدله كان ذلك رافعا لظهوره شأن سائر القرائن الرافعة لظهور الألفاظ. كيف و المالك الحقيقي للمال و هو الشارع قد أوجبه عليه بدون تقيد بالضمان نظير ما إذا أوجب مالك المال على عبده إتلاف المال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 466

أو إعطائه لعبد آخر فهل يا ترى أحد لا يستظهر عدم الضمان من ذلك و لا يرى أن ذكر الضمان بعده منافي لظهور اللفظ و بهذا ظهر لك أن مجهول المالك الذي يكون من قبيل وديعة اللص يتصدق به و يضمن لو ظهر صاحبه لأن الرواية الدالة عليه المتقدمة ص 452 مقيدة له بالتغريم و التضمين لصاحب المال إذا ظهر و طالبه بذلك و أما الذي لا يكون

من قبيلها فلا ضمان لأن الأدلة المتقدمة ص 460 الدالة عليه غير مقيدة بذلك.

و أما (المقام الثاني) و هو فيما لو دفعه لحاكم الشرع فحيث قد عرفت ص 461 انه لا ولاية لحاكم الشرع على مال المجهول المالك فلا بد أن يكون دفعه له من باب الوكالة عنه في صرفه في التصدق به عن صاحبه. و عليه ففي المورد الذي ثبت فيه الضمان و هو ما كان مثل وديعة اللص يكون الضمان على القابض لا على الحاكم لأن الحاكم وكيل محض و لا ضمان على الوكيل لأن تصرف الوكيل يكون تصرفا للموكل كما هو مفاد أدلة التوكيل فيكون التصدق واقعا من القابض للمال و الحاكم الشرعي بمنزلة الآلة له هذا (و قد استدل بعض أساتذة العصر) على عدم الضمان بالتصدق بلزوم التسلسل بتقريب انه إذا تصدق بالمال صار مديونا للمالك بالمثل أو القيمة و هذا الدين أيضا مجهول المالك فيجب التصدق به أيضا و يكون ضامنا للمالك بالمثل أو القيمة و هلم جرا إلى ما لا نهاية له و لا يخفى ما فيه فان لزوم التسلسل لا يرفع الضمان بالتصدق و إنما يوجب عدم التصدق بعد الضمان لأنه هو الموجب للتسلسل. و هذا نظير ما يقال في الآية الشريفة و هي قوله تعالى:

وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا) فان رد التحية أيضا تحية فيجب رده و هلم جرا فيلزم التسلسل. فان التسلسل في هذا إنما يرفع وجوب التحية في جواب ردها لا انه يرفع وجوب ردها و هكذا مثل ذلك قوله تعالى (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) فإنه يلزم التسلسل لكن لزوم التسلسل لما كان من قتل النفس

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 467

بالنفس التي هي القصاص للنفس المقتولة كان ذلك مرفوعا لا أن النفس لا تؤخذ بالنفس. سلمنا لكن الإجماع بل ضرورة المذهب على عدم التصدق بالضمان لمجهول المالك يكون موجبا لتقييد أدلة التصدق بمجهول المالك بغير ما كان مجهول المالك ضمانا لمجهول المالك الذي تصدق به فلا يلزم التسلسل للتقييد الموجود في أدلة التصدق بمجهول المالك الموجب لعدم شمولها لضمانه الحاصل بالتصدق به على أن ذلك لا يجب على القول بالتضمين و التغريم إذا ظهر المالك و طالب بماله المتصدق به كما هو المستفاد من رواية وديعة اللص المتقدمة ص 452 فإنه على ذلك لم يكن بالتصدق دينا على المتصدق بل إنما يغرم إذا ظهر المالك و عليه دفعه للمالك لا انه يتصدق به. (و أما إذا كان مجهول المالك قد تردد بين محصورين) و غير خارج بعض الأطراف عن محل الابتلاء بحيث يقدر على إيصال المالك لكل واحد منهم فلا إشكال في عدم شمول الأخبار المتقدمة له لانصرافها عنه و لذا لم يتمسك بها في هذا المورد أحد من الفقهاء. فإن أمكن التصالح بينهم فهو لأنه قد حصل رضا صاحب المال و إن لم يكن ذلك فمقتضى تنجز التكليف عليه بالرد للمالك و عدم إمكان الامتثال التفصيلي هو الاحتياط بأن يدفع العين لأحدهم و يسترضي الباقين بدفع القيمة أو أزيد منها لهم. و لكنه لا يخفى ما فيه فان أدلة الضرر ترفع مثل هذا الاحتياط. نعم إذا كان أخذ المال بسوء اختياره و بقصد العدوان فلا تنفيه أدلة الضرر. و يمكن أن يقال إن الواجب هو التخلية بين المالك و صاحبه فيتخلى عن المال لهم كما تقدم ص 444 من أن

الرد الواجب هو التخلية بين المال و صاحبه لا تسليم المال و إيصاله لصاحبه. و قد يقال بوجوب دفعه للحاكم الشرعي لأن للحاكم الشرعي الولاية على المال الممتنع تسليمه لمالكه و لا يخفى ما فيه فان الحاكم الشرعي لا دليل على ولايته على المال مع حضور صاحب المال و عدم امتناعه عن أخذه. و قد يقال بالقسمة بينهم أخذا من بعض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 468

الأخبار الواردة في الوديعة المرددة بين شخصين و حيث عرفت أن الواجب هو التخلية بينهم و بين المال فمع اتفاقهم على أن المال لأحدهم أو ادعاء بعضهم المال دون الباقي و قلنا بحجية الدعوى بلا معارض فلا كلام و مع التنازع يرفع أمرهم لحاكم الشرع فإن أقام أحدهم البينة أو حلف بأنه له فالمال له و مع التساوي بأن لم يقم أحدهم البينة و لم يحلف أحدهم أو أقام الجميع البينة أو حلفوا فالحكم هو التنصيف مع اليمين أو القرعة مع اليمين و تحقيق ذلك و تنقيحه يطلب من كتاب القضاء و من كتاب الوديعة فقد حرر الفقهاء (ره) ذلك مفصلا، و (أما إذا كان مجهول المالك مرددا بين محصورين) و لكن بعض الأطراف خارج عن محل الابتلاء بأن كان ممتنع الإيصال له فيكون أمره دائرا بين وجوب الرد و بين وجوب المحافظة عليه فيجب عليه المحافظة على المال و الفحص عن المالك لأنه مقدمة للرد فان عرف المالك فهو و إن لم يعرفه احتاط و إن لم يتمكن من الاحتياط تخير بين التخلية بينه و بين الطرف الغير الخارج عن محل الابتلاء و بين المحافظة عليه حتى يجي ء مالكه لدوران أمره بين واجبين لا يمكن

الجمع بينهما.

الأراضي الخراجية و مال الخراج و المقاسمة

و (منها ولايته على التصرف في الأراضي الخراجية و على مال الخراج و المقاسمة) و الأراضي الخراجية هي التي فتحها المسلمون بإذن الإمام عنوة أي بالقهر و الغلبة و كانت محياة حين الفتح و هي للمسلمين قاطبة حتى المتجددين بالولادة بالإجماع و الروايات المتظافرة و التصرف فيها منوط بنظر الامام (ع) لأنه المتولي لشؤون المسلمين فيما يرجع لهم لكونه الوالي عليهم و لصحيح ابن أبي نصر و ما أخذ بالسيف فذلك للإمام يقبله بالذي يرى و قد أشبعنا الكلام في ذلك في شرح المكاسب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 469

و (الخراج) ما يضرب على الأراضي المذكورة من النقود كالأجرة عليها. (و المقاسمة) ما يضرب عليها من حاصل الزرع كالأجرة عليها و ليس لهما مقدار معين في الشرع بل مقدارهما بنظر المتولي لشؤون المسلمين بحسب ما تقتضيه مصلحتهم. و قد يسميان بالقبالة و بالطقس و بالميري، و قد يطلق الخراج على المقاسمة كما في مرسلة حماد بن عيسى عن أبي الحسن (ع) حيث قال: الأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة بيد من يعمرها و يحيها على صلح ما يصالحهم عليه الوالي على قدر طاقتهم من الخراج النصف أو الثلث أو الثلثان و على قدر ما يكون لهم صالحا و لا يضر بهم الحديث.

و لا ريب في أن الفقيه في زمن الغيبة الجامع لشرائط الولاية له الولاية على تلك الأراضي الخراجية لكونها راجعة للمسلمين و هو وليهم فيؤجرها بما يراه من المصلحة كما أن له الولاية على صرف أجرتها في مصالح المسلمين لولايته عليهم

أرض الجزية و الذمة

و (منها ولايته على المال الذي يؤخذ على أرض الجزية) و هي الأرض التي صولح

أهلها على أن الأرض لهم و عليها طقسها بحسب ما يصالحهم ولي المسلمين من النصف أو الثلث أو غير ذلك و هذه تسمى بأرض الجزية و ارض الذمة و هي تكون ملكا لأربابها يتصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكه ليس عليهم شي ء سوى الضريبة المجعولة عليهم بالصلح و إذا أسلم أهلها طوعا كانت لهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 470

مال الجزية

و (منها ولايته على مال الجزية) و هي الضريبة التي تؤخذ على رؤوس الكفار أو أراضيهم الذين هم أهل الكتاب و هم اليهود و النصارى و المجوس لإقامتهم بدار الإسلام: و قد روى عن الخاصة و العامة ان النبي (ص) كان يوصي أمراء السرايا بالدعاء للإسلام قبل القتال فإن أبوا فإلى الجزية فإن أبوا قوتلوا. و اما ما عدى الكتابيين فلا تقبل منهم للإجماع المحكي عن الغنية و غيرها و لقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. و تقدير الجزية بنظر الامام بحسب ما يطيقونه كما هو مقتضي صحيح زرارة و محكي الإجماع عن الغنية و عن السرائر نسبته إلى أهل البيت (ع). و لا يخفى ان مصرفها إنما هو في مصالح المسلمين العامة كما هو شأن كل ما يرجع لهم من الأموال.

[التنبيه الرابع عشر] عدم سماع الدعوى بعدم الأهلية على الحاكم إلا مع البينة

(الرابع عشر من تنبيهات الولاية) انه لا إشكال في سماع الدعوى من أحد الرعية على الحاكم الشرعي في الحقوق المالية كالعقار لأنه من هذه الجهة كغيره من الرعية فتشملها إطلاقات أدلة سماع الدعوى و لا ينافيها ثبوت الرئاسة العامة له فقد حضر أمير المؤمنين عليه السّلام مع اليهودي في مجلس القضاء، و اما الدعوى بخلل حكمه أو فساده أو بعدم أهليته للحكم أو جوره في حكمه أو خطأه فيه فلم تسمع بحيث يرتب عليها القضاء على الحاكم بالحلف أو النكول على القول به و ذلك لما هو المشهور بل المحكي عليه نفي الخلاف و الإجماع و للزوم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 471

الفساد باجتراء الناس على تحليف الحكام المنصوبين لاستقامة النظام حيث ينفتح باب الدعاوي عليهم لان كل محكوم عليه يكون بإمكانه اقامة الدعوى بذلك على الحاكم عليه حتى الحاكم

الثاني الذي حضر عنده لإقامة الدعوى على الأول بل حتى الثالث و هلم جرا مضافا الى ما فيه من الحزازة و الغضاضة على الحكام بإحضارهم مجلس القضاء و هذا مما يوجب امتناع الحكام لفصل الخصومات فلا يعقل أن يشرع اللّه تعالى مثل هذه الاحكام كيف و الحكومة منصب نبوة و إمامة و أمانة و قد أمضى الشارع إنشائه الحكم و فوض أمره إليه من غير رد مع احتمال ذلك فيه و جعل رده كفرا و كيف تصدق الدعوى عليه من المدعي مع انه متهم بالعداوة و البغضاء له فلا يحتاج الحاكم إلى البينة على صحة حكمه و لا إلى اليمين منه بصحة حكمه باعتبار انه منكر للدعوى المذكورة عليه و هي الدعوى بفساد حكمه من دون فرق في ذلك كله بين ما إذا كان الحاكم المدعي عليه حاضرا بمجلس الدعوى أو كان غائبا فقد ذكر الأصحاب انه لا يلزم بالحضور مع المدعي إلا إذا كانت له البينة على دعواه فتسمع لعموم أدلة البينة (إن قلت) ان عدم سماع الدعوى إن كان من جهة عدم لزوم الدعوى كما ذكروه في كتاب القضاء من أن شرط سماع الدعوى هو لزومها بأن يترتب على المدعى عليه بعد ثبوت الدعوى شي ء قابل للإلزام و لذا لا تقبل دعوى البيع الفضولي على مالك المال و فيما نحن فيه لا يلزم الحاكم بشي ء لو صحت الدعوى و إنما يؤخذ ما أخطأ فيه من بيت المال (فلا وجه له) إذ لو كان الأمر كذلك فلا فرق بين صورة وجود البينة على عدم صلاحية الحاكم و بين عدمها لأن الدعوى لم تكن لازمة فلا تسمع مضافا إلى أن الدعوى المذكورة من الدعاوي اللازمة

لو ادعاها المحكوم عليه لأنه يكفي في لزوم الدعوى هو حصول الحق بعد ثبوت الدعوى و فيما نحن فيه لو ثبتت الدعوى على المدعى عليه و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 472

الحاكم وجوب دفع المال من بيت المسلمين إن لم تكن عين المال موجودة كما سيجي ء إن شاء اللّه توضيح ذلك.

و (إن كان عدم سماع الدعوى) من جهة عدم شمول موازين القضاء لهذه الدعوى باعتبار ان موازين القضاء من الإقرار و اليمين و النكول و غيرها المتبادر من أدلتها انها موازين فيما إذا كانت الدعوى تتعلق بحق مالي واقعي، و الدعوى المذكورة ليست كذلك لأن دعوى عدم صلاحية الحاكم للحكم أو جوره لا تعرض فيها للحق الواقعي الذي حكم به الحاكم لا نفيا و لا إثباتا لإمكان ثبوت حق المدعي مع عدم صلاحية الحاكم للحكم أو جوره. (ففيه أيضا) انا لو سلمنا ذلك فهو يقتضي عدم سماع الدعوى حتى مع البينة لأن البينة أيضا من موازين القضاء و (إن كان عدم السماع للدعوى) من جهة أثارة الفساد و تعطيل الاحكام و إهانة الحكام و تزهيدهم عن إجراء الأحكام (ففيه) ان ذلك يقتضي عدم السماع حتى مع البينة. (قلنا): عدم السماع لها من جهة حكم العقل بأن فتح هذا الباب على الحكام يولد الفساد و لعله يغلق باب القضاء لأنه كل من يحكم يمكن أن يدعي عليه بذلك المحكوم عليه ثمَّ الحاكم الآخر الذي يرجع له أيضا يدعي عليه ذلك المحكوم عليه و هلم جرا فينسد باب الاستفادة من القضاء بخلاف ما إذا قامت البينة فإنه ينقطع مع عدمها و لا غضاضة على الحكام في سماعها عليهم لندرة قيامها عليهم. (و لو

سلمنا) اختصاص موازين القضاء بالحق المالي الواقعي فنقول: ان البينة إنما تسمع معها الدعوى لا باعتبار ما قام عليها من أدلة موازين القضاء بل من جهة الأدلة الدالة على حجيتها في سائر الموضوعات مع قطع النظر عن القضاء.

(إن قلت) ان سماع البينة على الحاكم يوجب نقض حكمه بغير ما جوزوه به لأن البينة لا تفيد سوى الظن و لا يجوز نقض حكم الحاكم بالظن بل ان تخصيصهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 473

محل جرح الشهود قبل حكم الحاكم و انه بعده لا تسمع دعوى الجرح عليهم يفهم منه بطريق الأولوية عدم سماع الدعوى على الحاكم بعد الحكم لأنه أعظم مرتبة من الشهود (قلنا) ان سماعها ليس من الرد عليه بل هو من بيان خطأ الحاكم الذي هو غير معصوم كذا في الجواهر و لعله (ره) يريد ان البينة تثبت انه لم يحكم بحكمهم (ع) و دليل حرمة الرد إنما يدل على حرمة الرد على ما كان من حكمهم (ع) فالبينة على ذلك تنفي الموضوع لحرمة الرد لا انها يثبت بها الرد و لذا لو أقيمت على ثبوت الحق للمحكوم عليه بعد صدور حكم الحاكم عليه لم تقبل لأنها تثبت الرد على حكمه (و بعبارة أخرى) ان أدلة حجية البينة على عدم أهلية الحاكم أو خطأه مقدمة على أدلة حرمة الرد لأنها تجري في موضوع الرد فتكون حاكمة أو واردة عليها.

(إن قلت) ان الدعوى من المحكوم عليه على الحاكم تكون من قبيل دعوى اوّلي عليه على مولاه لأن الحاكم ولي على المحكوم عليه (قلنا) لا نسلم عدم قبولها عليه، و لو سلمناها فلا نسلم هذا النحو من الولاية يكون مانعا من القبول بل

هو عين المدعي.

(إن قلت) ان البينة لا تقبل لأنه قد أقر بخلافها بفعله و هو ترافعه مع خصمه عند الحاكم المذكور فان ترافعه عنده دليل على اعترافه بصلاحيته للحكم فيكون بفعله ذلك قد كذّب البينة التي أقامها لأن به قد أقر بصلاحية الحاكم (قلنا) نمنع التكذيب لاحتمال جهله ببعض شروط الحاكم ثمَّ علم بها بعد ذلك أو اعتقد وجودها ثمَّ انكشف له عدم وجودها أو ألجأ إلى الترافع عنده. مضافا إلى أن الإقرار و إن كان حجة لكن لا نسلم ان الفعل الدال عليه أيضا حجة إذ لا دليل على حجيته. نعم في بعض الموارد ثبتت حجيته كما في أخذ القناع من رأس المطلقة في الرجوع عن طلاقها و نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 474

(ثمَّ) ان بعضهم خص كلام الفقهاء بما إذا كان المدعي على الحاكم مدعيا و الحاكم مدعي عليه بقرينة قولهم ان دعواه لا تسمع عليه و ليس له إحلافه، و أما إذا ذكر ما يكون معه منكرا و مدعى عليه كما إذا قال لم يثبت عدالتك أو اجتهادك أو جمعك لشرائط الحكومة و قد حكمت على و ألزمتني بما لا يلزمني شرعا، فذهب إلى أنه لا إشكال في قبول قوله و مطالبة الحاكم المزبور بالبينة على جمعه للشرائط إلا إذا كان الحاكم الثاني معلوما له باليقين أو بالبينة أو نحو ذلك من الأدلة المعتبرة اجتهاده و جمعه لشرائط الحكومة (و لا يخفى ما فيه) فإنها أيضا لا تسمع لعين ما ذكروه من العلة من لزوم الفساد و نحوه و الحط من كرامة أمناء اللّه على دينه. و هكذا ذكر بأنه تسمع الدعوى على الحاكم فيما لو ادعى المحكوم

عليه على الحاكم بمثل ما حكم به لصاحبه أو قيمته كأن ادعى على الحاكم دارا أو قيمتها بزعم ان الحاكم قد سبب إتلاف ماله بحكمه به لغيره فله تغريمه إذ الغرم عليه لا على بيت المال لعدم أهليته في نظره للحكم و ذكر (ره) ان الظاهر عدم الخلاف في سماع هذه الدعوى على الحاكم و إن لم تكن بينة لأنها كسائر الدعاوي عليه، و قد تقدم ان الحاكم في دعاوي الحقوق تسمع عليه الدعوى كغيره. و لا يخفي ما فيه فان العلة التي ذكرها القوم لعدم سماع الدعوى من لزوم الفساد موجودة هنا بأي نحو كان مصب الدعوى لرجوعها إلى أمر واحد و هو لزوم سماع الدعوى على الحاكم بعد حكمه و نفوذه. (نعم) الدعوى بأن الحاكم قد أقر بفسقه أو بعدم أهليته للحكم تسمع لأن الإقرار أمر حادث بعد الحكم يفسده و ليس فيه اهانة على الحاكم و لا فتح باب الفساد فتشمله أدلة موازين القضاء.

و أما (الدعوى على المعزول عن القضاء) فقد ذهب الأكثر إلى سماعها لأنه يكون كغيره من الرعية، و الدعوى عليه شرعية و مرجعها الى المال فان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 475

الحاكم لو أقر بذلك لزمه المال. و العمدة عموم أدلة الدعوى و البينة و اليمين فاذا ادعى عليه شخص بأن حكمه قد صدر منه عليه حال فسقه أو عدم اجتهاده أو صغره أو نحو ذلك سمعت الدعوى فيحضره الحاكم الثاني و قد حكي عن الشيخ في المبسوط ذهابه الى أن عليه البينة بأن حكمه كان صحيحا و إلا ثبت عليه الحق لأنه اعترف بالحكم و نقل المال الى غيره فهو يدعي ما يزيل الضمان عنه

فلا يقبل منه، ورد بأن نقل المال لا يوجب الضمان مطلقا و إنما يوجبه مع التفريط و هو لم يفرط و إنما نقل المال بحسب الموازين الشرعية و إنما عليه اليمين و ذهب العلامة و أكثر المتأخرين و هو المحكي عن الشيخ (ره) في الخلاف انه يصدق باليمين لادعائه الظاهر كسائر الأمناء إذا ادعى عليهم بالخيانة، و ذهب بعض العامة إلى أنه يصدق بغير يمين لأنه كان أمين الشرع فيصان منصبه عن التخلف و الابتذال و ذهب آخرون إلى أنه لا تسمع الدعوى عليه إلا إذا أقام البينة لأنه أمين الشرع، و الظاهر ان أحكامه وقعت وفق الصواب فيعمل بها على الظاهر إلا أن تقوم الحجة بخلافه و لأنه يبطل الدواعي إلى الحكم و يؤدي الى امتهان الحكام و زهدهم عن الاحكام.

[التنبيه الخامس عشر] الحقوق التي يتوقف استنقاذها على إذن الحاكم الشرعي

(الخامس عشر) ان الحق إن كان دفاعا عن النفس أو العرض أو المال جاز القيام به إن خاف على نفسه القتل و لا يتوقف على إذن الحاكم الشرعي للإجماع و للصحيح أو الحسن عن أبي عبد اللّه (ع) قال أمير المؤمنين (ع):

ان اللّه ليمقت الرجل الذي يدخل عليه اللص في بيته فلا يحارب. و روى عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 476

أبي جعفر (ع) قلت له: اللص يدخل في بيتي يريد نفسي و مالي؟ قال: اقتله فأشهد اللّه و من سمع ان دمه في عنقي. و في خبر عبد اللّه بن سنان من قتل دون مظلمة فهو شهيد (نعم) حكي الإجماع على وجوب الدفاع بمراعاة الأسهل فالأسهل فإن اندفع بالزجر دفع به و إلا فبالضرب و إلا فبالقتل و إن كانت النصوص الكثيرة خالية عن هذا التقييد و دالة على

جواز الدفاع بالقتل مطلقا، و يذهب دم المدفوع هدرا جرحا أو قتلا للإجماع المحكي على ذلك (و إن كان الحق عقوبة) فإن كان حدا أو تعزيرا وقف استيفائه على إذن الحاكم على ما هو المشهور بل نفي الخلاف عنه في الكفاية و أنوار الفقاهة إلا أن يدخل في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كالضرب على المنكر و كذا تأديب الآباء للأطفال و كذا تأديب المعلم لهم لكن يشترط في الأخير الاذن من وليهم، و يدل على ما ذكرناه رواية حفص بن غياث إقامة الحد الى من اليه الحكم، بل هو قضية نصب الحاكم عموما لزجر الناس و سياستهم و حفظ شؤونهم (نعم) المحكي عن الشيخ و جماعة ان الرجل إذا وجد مع زوجته رجلا يزني بها و علم بمطاوعتها له فله قتلهما و هكذا من سب النبي (ص) أو أحد الأئمة (ع) فإنه يقتل الساب بدون إذن الامام كما هو المشهور و عن الغنيمة الإجماع عليه و يقتضيه إطلاق النصوص و هكذا مدعي النبوة لظهور النصوص في ذلك و من يطلب زيادة المعرفة فليراجع كتاب الحدود (و إن كان الحق قصاصا) فالمشهور بل نقل الإجماع على توقف استيفائه على إذن الحاكم. لعظم خطره و لأن استيفائه وظيفة الحاكم على ما يقتضيه نصبه لزجر الناس و سياستهم و لعدم معرفة العوام بمواقع القصاص من دون مراجعة الحاكم و لأن فائته لا يتدارك. و ذهب شبل كاشف الغطاء (ره) الحسن في أنوار فقاهته الى عدم التوقف لقوله تعالى فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً و لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ و لقوله تعالى النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وَ الْجُرُوحَ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 477

قِصٰاصٌ

و أما ما ذكر من الاعتبار فهو لا يصلح لمعارضة العمومات و لضعف الإجماع المنقول (و إن كان الحق دية) فحكمه حكم الدين الذي سيجي ء ان شاء اللّه الكلام فيه (و إن كان الحق غير عقوبة و غير مالي) كالشفعة و الوصاية و الزوجية و الطلاق و الاستمتاع و الخيارات و نحو ذلك فله استيفائها من دون الرجوع لحاكم الشرع مع علمه بحقه اجتهادا أو تقليدا أو ضرورة أو إجماعا و ذلك لأن الأدلة الدالة على جواز الاستيفاء في العين و الدين بدون الرجوع الى الحاكم التي ستجي ء إن شاء اللّه تدل بالطريق الاولي على جواز استيفاء ذلك بدون الرجوع الى الحاكم و استدل في المستند على ذلك بالإجماع و الأصل الخالي عن المعارض (و إن كان الحق مالا فان كان عينا في يد إنسان) فله انتزاعها منه و لو قهرا لقوله (ص): الناس مسلطون على أموالهم. فإن مقتضى إعطاء السلطة للمالك هو جواز أخذه من يد الغير. و قوله (ص): لي الواجد يحل عقوبته.

فإنه يدل على جواز العقوبة للاستنقاذ.

(إن قلت): انه وارد في الدين فلا يشمل صورة وجود العين (قلنا):

المورد لا يخصص الوارد مع انه إذا فرض في الدين جواز ذلك فبالطريق الأولى يجوز ذلك عند وجود العين.

(إن قلت) ان غاية ما يستفاد من الحديث حلية عقاب الواجد المماطل و لكن لا دلالة فيه على ان المعاقب هو صاحب المال أو الحاكم الشرعي فهو نظير ما دل على ان من زنى يعاقب في سكوته عن المعاقب (قلنا) هو ظاهر في أن من له المال هو المعاقب و لذا فهم الأصحاب في باب الدين من الحديث ان لصاحب الدين العقاب، و أما في الحدود فمن

جهة الأدلة الخاصة على ان المقيم لها هو حاكم الشرع فتكون رافعة لذلك الظهور (نعم) يستثنى من ذلك أمور (أحدها) لزوم الفتنة من ذلك فان لزمت الفتنة وجب رفع أمره لحاكم الشرع لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 478

مقتضى نصبه وليا عاما هو الرجوع له فيما يوجب الفتنة بين الناس، و يكفي احتمال الفتنة احتمالا عقلائيا معتدا به.

(ثانيها) أن ينحصر استنقاذه منه بالمقدمة المحرمة كالدخول لداره أو ضربه فإنه يجب عليه أن يستنقذه منه بالرفع الى الحاكم إذا أمكن استنقاذه به لأنه مقدمة محللة. و لا يخفى ما فيه فان قوله (ص): لي الواجد يحل عقوبته.

يدل على حلية العقوبة للاستنقاذ فضلا عن جواز فعل المحرم للاستنقاذ (نعم) لو وضعها في ملك الغير من دون علم الغير و استلزم إخراجها ضرر على الغير لم يجز إخراجها بدون اعلامه لحديث لا ضرر و لأنه لم يصدق اللي.

(ثالثها) ما إذا لزم الضرر على الخصم فإن أدلة الضرر حاكمة على دليل السلطنة فلا بد أن يرفع الأمر لحاكم الشرع في هذه الصورة (و فيه) ان قوله (ص): لي الواجد. يدل على جواز العقوبة فضلا عن جواز الضرر، مضافا الى أن قاعدة الضرر معارضة بمثلها لان عزل الإنسان عن ماله ضرر عليه فتجي ء قاعدة السلطة بلا معارض.

(رابعها) إذا اعتقد الخصم ان ما بيده هو ماله و كان استنقاذه منه فيه ضرر عليه فإنه لا يصدق اللي و المماطلة عليه و لا يصح التمسك بقوله (ص):

الناس مسلطون. لحكومة أدلة الضرر عليه (و فيه) ان صدق اللي على الخصم ظاهر (نعم) يمكن أن يقال ان عدم سلطنة المدعي على المنكر يمنع عن الانتزاع القهري، كيف و جعل الشارع للرئيس

الحاكم إنما هو لازالة الفساد، و الانتزاع القهري من المنكر من أفراد الفساد (و إن كان الحق دينا) يعترف به الغريم لم يجز له انتزاعه قهرا بدون إذن الحاكم للإجماع المنقول و لأن للغريم التخيير في جهات القضاء فلا يتعين حق الدائن في شي ء من ماله بدون تعينه و أما إذا كان غائبا أو ممتنعا عن أدائه أو كان جاحدا أو ممنوعا من التوصل لماله و للغريم بينة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 479

تثبت حقه عند الحاكم و كان الوصول الى الحاكم ممكنا له فذهب المحقق و الفخر على ما حكي عنهما الى وجوب رفع أمره الى الحاكم لأن له الولاية العامة له و لا يجوز له الأخذ منه بدونه و لأن الأصل الاولي عدم جواز الأخذ و التصرف و عدم صيرورته ملكا له إلا بإذن الحاكم للإجماع و النص على ان الحاكم ولي الممتنع كما سيجي ء ان شاء اللّه. و ذهب المشهور الى جواز الأخذ من عين المال أو بيعه و أخذ مقدار حقه من ثمنه و ان لم يرفع أمره الى الحاكم و لم يأخذ منه الاذن لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ- وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ و خبر جميل بن دراج: سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل يكون له على الرجل دين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده أ يأخذه و ان لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: نعم. و قوله (ص):

لي الواجد يحل عقوبته و عرضه. و في الصحيح قلت لأبي الحسن (ع): اني أعامل قوما فربما أرسلوا الى فأخذوا مني الجارية و الدابة فذهبوا بهما مني ثمَّ

يدور لهم المال عندي فآخذ منه بقدر ما أخذوا مني؟ فقال: خذ منهم بقدر ما أخذوا منك و لا تزد عليه. و احتمال ان هذا إذن منه (ع) في الأخذ لا بيان للحكم الشرعي لا وجه له لان الظاهر انه حكم شرعي للمسألة فيحمل اللفظ عليه (و إن تعذر إثبات حقه على الغريم عند الحاكم الشرعي) لعدم البينة أو عدم إمكانه الوصول اليه أو لم تكن للحاكم يد مبسوطة فله الاستيفاء منه بمقدار ماله و يسقط اعتبار رضا المالك نافيا في الجواهر عن ذلك الخلاف عندنا و للإجماع المنقول و للأدلة السابقة بل له الاستيفاء حتى من المال الذي غير الجنس الذي بذمته بل له الاستيفاء حتى المال الذي أودعه عنده و ذلك لإطلاق الأدلة السابقة و لصحيح البقباق في رجل اسمه شهاب كان قد أخذ منه رجل ألف درهم ثمَّ استودعه بعد ذلك ألف درهم فقال له أبو العباس: خذها مكان الألف التي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 480

أخذها منك، فأبى شهاب، قال فدخل شهاب على أبي عبد اللّه فذكر ذلك له فقال اما أنا فأحب أن تأخذها و تحلف. و خبر على بن سليمان قال كتبت إليه في رجل غصب رجلا مالا ثمَّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه أ يحل له حبسه عليه؟ فكتب (ع): نعم يحل له ذلك إن كان بقدر حقه و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه و يسلم الباقي اليه إن شاء اللّه. و أما صحيح معاوية بن عمار عن أبى عبد اللّه (ع) قلت له: الرجل يكون لي قبله حق فيجحدنيه ثمَّ يستودعني مالا ألي أن

آخذ بدل ما عنده؟ قال: هذه الخيانة فهي مضافا الى ظهورها في الكراهة لأن ذلك ليس بخيانة حقيقة و إنما يشبه الخيانة، فمقتضى الجمع هو حمله على الكراهة لأظهرية أخبار الجواز من أخبار المنع. و على ما ذكرناه يجوز للفقير تقاص الزكاة و الخمس و رد المظالم من الغني المماطل أو الجاحد، و هل يجوز لحاكم الشرع ذلك للإيصال لأهله، قال في المستند: نعم يجوز بل يجب لوجوب دفع الظلم عن المظلوم على حاكم الشرع. و قال السيد (ره) في الملحقات: يجوز للحاكم الشرعي من باب الولاية الشرعية الاقتصاص من مال من عنده الزكاة أو الخمس أو المظالم مع جحوده أو مماطلته إذا لم يمكن له إجباره على الأداء- انتهى. و الأمر واضح مما تقدم فان حكمه حكم العين الموجودة عند الجاحد إذا كانت العين موجودة و حكم الدين إن كانت العين تالفة. (ثمَّ لا يخفى) أن المقاصة لا تجوز ممن ثبت الحق له عند حاكم الشرع، و لا تجوز المقاصة لمستثنيات الديون كثياب بدنه و قوت يومه و فرس ركوبه إذا لم يكن له غيرها، و كذا لو حجر على ماله الحاكم، و كذا لو كان عليه ديون تزيد على تركته فإنه ليس له تقاص الزائد على حصته بعد التوزيع لانتقال ماله بعد موته الى الديان. و لا تجوز المقاصة من الغير لمن لا يعلم ان له الحق عند ذلك الغير (نعم) لو قامت عنده بينة جاز، و لا تجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 481

عند خوف الفتنة و كثرة الفساد و تحقيق ذلك يطلب من محله (قال صاحب أنوار الفقاهة) شبل جدنا كاشف الغطاء (ره) و لا بد في المقاصة

من النية إلا في الدينين المتساويين فيقع التهاتر قهرا، و في لزوم الكلمات المذكورة في الاخبار عند المقاصة و هي أن يقول: «اللهم اني لا آخذه ظلما و لا جناية و إنما أخذته بمكان مالي الذي أخذ مني لم أزد عليه شيئا» وجه، و الأوجه عدم الوجوب لظهور الاستحباب من الروايات و لعدم إيجاب الأصحاب له و لخلو أكثر الاخبار عنها فتحمل على ارادة تذكر نية المقاصة مخافة العدوان أو استحباب ذكر اللّه و التنزه عن أكل أموال الناس بالباطل. قال (ره): و الظاهر ان المقاصة بمنزلة المعاوضة اللازمة فلا يجوز الفسخ فيها بعد حصولها إلا بظهور عيب أو غبن و يتولى هذه المعاوضة طرف واحد و هو المقاص للدليل. و يجوز في المقاصة أخذ الجنس و غير الجنس و يجوز في غير الجنس أخذه عوضا حين الأخذ و يجوز بيعه و اقتصاص ثمنه بل و يجوز بيع ثمن الثمن الى أن ينتهي إلى موافق جنسه و قدره و لا يجب الانتظار في البيع الى وقت الغلو كما لا يجوز البدار مع تفويت المصلحة في مال الغير، و لو توقفت المقاصة على مجرد الدخول الى دار الغير من دون اذنه فلا يبعد الجواز مع ضمان أجرة المثل لدخوله و خروجه و لكن بشرط خوف الاستيذان منه و إلا وجب الاستيذان منه. و لو توقف قبض حقه على قبض زائد جاز و لعله لأدلة نفي الضرر الحاكمة على أدلة النهي عن التصرف في مال الغير و يدل على ذلك أيضا خبر على بن سليمان المتقدم. و عليه يكون الزائد أمانة عنده يجب إرجاعها إلى صاحبها فان لم يمكن إيصالها لخوف و شبهه ارجع أمرها إلى الحاكم

و لا يبعد جواز التصدق بها و لو تلفت الزيادة ففي ضمانها وجهان و الأوجه إن كانت مشاعة فهي مضمونة كالأصل لأصالة ضمان اليد لما أخذته و إن كانت معينة و كان قبضها لمكان الضرورة فلا ضمان. و لم يعتني (ره)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 482

بالقول بعدم الضمان مطلقا لكونه امانة و الامانة غير مضمونة و لإذن الشارع بالأخذ و إذن الشارع لا يستعقب ضمانا. و لعله لمنع كونه أمانة و منع ان الأمانة الشرعية غير مضمونة و منع كون الاذن لا يستعقب ضمانا.

[التنبيه السادس عشر] الاعمال الموجبة لضمان المجتهد و ما يكون ضمانها في ماله أو بيت المال

(السادس عشر) ان الحاكم الشرعي الذي له الولاية إذا طلب من شخص عملا كالصعود إلى نخلة أو النزول إلى بئر أو تهديم دار فمات أو جرح أو تلف منه شيئا فلا يخلو اما أن لا يكون الحاكم قد ألزمه به فلا ضمان لأن الموت أو غيره كان باختياره و إن كان قد ألزمه به فان كان يرجع لمصلحة المسلمين فضمان الدية من بيت مال المسلمين لأن إلزامه باعتبار مصلحتهم و من له الغنم فعليه الغرم إلا في الإلزام على الجهاد و إن كان العمل يرجع لشخص الحاكم فضمان ديته أو تلف شي ء منه من مال الحاكم نفسه، هذا إذا كان العمل لم يوجب القتل غالبا و إنما يوجبه في شذوذ الأحوال و ندرتها، و أما لو كان يوجبه غالبا كالإكراه على تناول السم فيجب أن يقتص من الحاكم إن كان العمل يعود لشخصه لأنه كان ذلك عدوان منه عليه. هذا كله على ما هو المشهور من عدم ثبوت الولاية العامة له بالمعنى الأعم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 483

تذنيب [الولايات الخاصة الثابتة للمجتهد و الفرق بينها و بين الولاية العامة.]
اشارة

فيما ذكره الفقهاء للمجتهد من الولايات الخاصة قد تقدم الكلام في الولاية العامة للمجتهد، ثمَّ انه ينبغي لنا التعرض لما ذكره الفقهاء للمجتهد من الولاية على أمور خاصة من قبل الشرع، و الفرق بينهما واضح فان ما كان من الولاية الشرعية في المورد الخاص مستنده أدلة الولاية العامة رجعت الولاية فيه للولاية العامة، فإن قلنا بثبوتها ثبتت في هذا المورد و إلا فلا و ما كان مستنده أدلة خاصة كانت الولاية فيه غير راجعة للولاية العامة فلا يتوقف ثبوتها فيه على ثبوت الولاية العامة. (و تظهر الثمرة في ذلك) ان ما كان مستندها أدلة

الولاية العامة يعتبر في ثبوتها للمجتهد جامعيته للشرائط المعتبرة فيها المتقدمة ص 377 دون ما إذا كان مستندها الأدلة الخاصة فلا يعتبر فيها تلك الشرائط من الأعلمية أو غيرها بل تكون نظير ولاية الأب و الجد و عدول المؤمنين فيقتصر على ما تقتضيه أدلتها و لهذا لم يشترط في ولاية المجتهد على أموال اليتامى و نحوها الأعلمية و جاز قيام المفضول بها مع وجود الأفضل لأن الدليل الذي قام عليها لم يعتبرها في ذلك و هكذا الكلام في غيرها. و دعوى اختصاص هذه التصرفات بالأعلم نظرا لكونها من مناصب الإمامة فلا بد أن يقتصر فيها على موارد العلم بالاذن من الامام و لا ريب ان الأفضل مأذون فيها و الأصل عدم الاذن للمفضول (فاسدة) بأن إطلاق الأدلة حاكم على هذا الأصل إلا ان دعوى الإجماع في كلام بعضهم على وجوب الرجوع الى الأعلم فيها توجب الاحتياط و إن كان هذا الإجماع لم يثبت عندنا. بل تظهر الثمرة أيضا في مسألة النيابة و الوكالة عنه فعلي تقدير ثبوتها من باب الولاية العامة صح له أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 484

ينيب أحدا عنه فيما له الولاية عليه لقيام الأدلة على ذلك كما تقدم ص 395 و اما على تقدير ثبوتها من باب الولاية الخاصة به لم يجز له أن يوكل عنه أحدا فيما كان له الولاية عليه إلا إذا قامت الدليل على جواز ذلك فلذا كان علينا أن نتعرض لها لتميز تلك الولايات انها من التي قام الدليل عليها بخصوصها أو انها من التي لم يقم الدليل عليها بخصوصها و كانت الولاية فيها من باب الولاية العامة.

ولاية المجتهد على الصغير

(منها) ولايته على الصغير، فان للفقيه

الولاية عليه ما لم يكن له ولي من أب أوجد أو وصي من أحدهما و إن لم نقل بالولاية العامة للفقيه للإجماع و الاخبار كصحيحة علي بن رباب قال: سألت أبا الحسن موسى (ع) عن رجل بيني و بينه قرابة مات و ترك أولادا صغارا و ترك مماليك غلمانا و جواري و لم يوصي فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد و ما ترى في بيعهم فقال قال (ع): إن كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم و نظر لهم و كان مأجورا فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ قال:

لا بأس بذلك إذا باع عليهم القيم الناظر لهم فيما يصلحهم فليس لهم أن يرجعوا فيما صنع القيم لهم الناظر لهم فيما يصلحهم. و وجه الدلالة انها تدل على ثبوت الولاية لغير الأب و الوصي و الجد عند فقدهم. اما عند فقد الأب و الوصي فلمنطوق الرواية، و اما عند فقد الجد فلأنه لو كان موجودا لذكره لمعروفية ولايته بينهم و إذا ثبتت الولاية لغير هؤلاء الثلاثة فلا بد أن تكون ثابتة للفقيه إذ لا يحتمل غيره في مقابله، مضافا للإجماع المركب و هو ان كل من قال بثبوت الولاية عند فقد الثلاثة المذكورين قال بثبوتها للفقيه. و كصحيحة محمد بن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 485

إسماعيل بن بزيع في الكافي قال: مات الرجل من أصحابنا و لم يوصي فرفع أمره إلى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله و كان الرجل خلف ورثة صغارا و متاعا و جواري فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذ لم يكن الميت صير

اليه وصيته و كان قيامه بهذا بأمر القاضي لأنهن فروج. فذكرت ذلك لأبي جعفر (ع) فقلت له. يموت الرجل من أصحابنا و لم يوصي الى أحد و خلف الحواري فيقيم القاضي رجلا منا لبيعهن- أو قال-:

يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه لأنهن فروج فما ترى في ذلك القيم؟ قال فقال (ع): إذا كان القيم به مثلك أو مثل عبد الحميد فلا بأس به. و مثله ما رواه في التهذيب في آخر الوصايا لكن بزيادة تقييد (عبد الحميد) ب (ابن سالم العطار) و هكذا بهذه الزيادة في مفتاح الكرامة. و هكذا بهذه الزيادة في المحكي عن نقد الرجال، و إن كان المحكي عن البهبهاني (ره) في التعليقة سقوط هذه الزيادة من نسخة التهذيب الموجودة عنده. و عن المحقق القمي (ره) في كتاب الحجر من أجوبة مسائله ان المراد منه عبد الحميد بن سالم. و كيف كان فوجه الدلالة ان القدر المتيقن من المماثلة هو الفقيه العادل لا سيما و محمد بن إسماعيل ابن بزيع من الفقهاء من مشايخ الفضل بن شاذان. و صحيحة إسماعيل بن سعد قال: سألت الرضا (ع) عن رجل يموت بغير وصية و له ولد صغار و كبار أ يحل شراء شي ء من خدمه و متاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك فان تولاه قاض قد تراضوا به و لم يستخلفه الخليفة أ يطيب الشراء منه أم لا؟ قال (ع):

إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع و قام عدل في ذلك، و الظاهر ان مراد السائل بالخليفة في قوله «و لم يستخلفه الخليفة» هو الخليفة الحق. و موثقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّه (ع)

عن رجل مات و له بنون و بنات صغار و كبار من غير وصية و له خدم و مماليك و عقد كيف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 486

يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس، و وجه دلالة هاتين الروايتين انهما دلتا على جواز بيع العدل و قسمة الثقة و لا شك في صدقهما على الفقيه الجامع للشرائط و النبوي المشهور السلطان ولي من لا ولي له. و المراد بالسلطان هو الفقيه الجامع للشرائط، كما حمله الفقهاء في بعض روايات المفقود زوجها و الوجه في ذلك انه لا يحتمل أن يكون في زمان الغيبة سلطان غيره مع ان الشارع قد جعل له السلطنة على المجانين و السفهاء و نحو ذلك فيصدق عليه لفظ السلطان فلا يصغي لما ذكره بعضهم من التشكيك في صدق السلطان عليه.

(إن قلت). ان رواية إسماعيل و سماعة يدلان على جواز تولي العدول مع وجود الفقيه. و يحكي عن الأردبيلي (ره) انه قد مال الى ذلك في شرح الإرشاد أيضا لهاتين الروايتين (قلنا) هذا مخالف لعمل الأصحاب الثابت بالتتبع و حكايات الإجماع على اختصاص جواز تصرف العدول بمال اليتيم بصورة فقد الفقيه (ثمَّ لا يخفى) ان هذه الأدلة لا يثبت منها إلا ولايته على الصغير مع فقد الجد و الأب و الوصي كما هو ظاهر مساقها و القدر المتيقن من الإجماع.

(ان قلت) ان الآية الشريفة و هي قوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* قد دلت على جواز قرب ماله بالتي هي أحسن لكل أحد من الناس حتى لو كان الأب أو الجد أو الوصي موجودا. (قلنا) الآية

ليس فيها إطلاق من هذه الجهة و لا تدل على جواز قرب كل أحد من مال اليتيم و إنما هي ناظرة إلى ان الذي له حق القرب لا يجوز له أن يقربه إلا بالتي هي أحسن (ان قلت) ان الجد قد شملت الروايات المذكورة بإطلاقها صورة وجوده أيضا فتكون دالة على ولاية الفقيه مع وجود الجد (قلنا) الأدلة الدالة على ولاية الجد لما كانت تدل على أن ولايته مثل ولاية الأب بل مع التعارض تقدم على ولاية الأب كانت مخصصة لتلك الروايات بصورة فقدان الجد مضافا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 487

الى أن مساقها ظاهر في عدم وجود الجد، كما ان ظاهرها جواز التصرف في مال اليتيم بنحو التجارة و البيع و الشراء و الصلح و نحوها و لكنه مخصوص بصورة انتفاء المفسدة للإجماع و لقوله تعالى وَ لٰا تَقْرَبُوا مٰالَ الْيَتِيمِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ* و هكذا قوله (ع) «و انظرهم» في صحيحة ابن رباب المتقدمة، و هل يكفي عدم المفسدة أو لا بد من وجود المصلحة ظاهر الآية الثاني إذ مع عدم المصلحة لم يكن التصرف في مال اليتيم بالتي هي أحسن كما أن ظاهر الآية هو مراعاة الأصلح مع تعارضه بالصالح فلو كان بيعه صالحا و لكن إجارته أصلح وجبت الإجارة و بهذا يقيد إطلاق الروايات المتقدمة، هذا كله مع التصرف في ماله اما مع عدم التصرف كما لو كان المال مدفونا أو مودوعا عند الأمين فلا يجب ملاحظة الأصلح لعدم القرب اليه. كما ان الظاهر انه إذا بنينا على ولاية الفقيه في هذا المقام من جهة الأدلة الخاصة لا من جهة الولاية العامة فلا يجوز له طلاق زوجة

الصبي الدائمة و لا بذل المدة في زوجته المنقطعة لعدم الدليل على ذلك مضافا الى ما دل على ان الطلاق بيد من أخذ بالساق. نعم ذكر بعضهم ان الصبي إذا بلغ مجنونا فله الطلاق للروايات الدالة على جواز طلاق الولي عن المجنون.

و (الحاصل) ان مقتضى أدلة ولاية الحاكم على الأيتام هو جواز إجارتهم و استيفاء منافع أبدانهم و استيفاء حقوقهم المالية و غيرها كحق الشفعة و الفسخ بالخيار، و دعوى الغبن و الإحلاف ورد الحلف و حق القصاص في الدم و الجنايات و اقامة البينة و جرح الشهود و نحوها (نعم) وقع الكلام في ولايته على تزويج الصبي و الصبية كما كان لأبويهما و جديهما من طرف الأب فإن المشهور عدم ثبوت ولاية النكاح للحاكم الشرعي و نسب عدم الولاية له في الحدائق إلى الأصحاب مؤذنا بدعوى الإجماع و احتمل الإجماع جماعة و قال صاحب المدارك في شرح النافع: انه المعروف بمذهب أصحابنا- انتهى. و أرسل الفتوى بذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 488

جملة من علمائنا المتقدمين إرسال المسلمات و تنظر في ذلك صاحب المسالك، و يمكن أن يستدل لهم. أولا بمفهوم الشرط في صحيح محمد بن مسلم عن أبى جعفر (ع) في الصبي يتزوج الصبية يتوارثان؟ قال (ع): إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم، قلت: فهل يجوز طلاق الأب؟ قال (ع): لا و لا يخفي أن مفهومها معارض بمنطوق صحيحة ابن يقطين قال: سألت أبا الحسن (ع) أتزوج الجارية و هي بنت ثلاث سنين أو يزوج الغلام و هو ابن ثلاث سنين و ما أدنى حد ذلك الذي يزوجان فيه فاذا بلغت الجارية فلم ترضى فما حالها؟ قال: لا بأس بذلك

إذا رضي أبوها أو وليها مضافا الى أن الأدلة الدالة على ثبوت الولاية له تكون مخصصة للمفهوم نظير الأدلة الدالة على ولاية الجد على التزويج. و ثانيا بمفهوم صحيحة محمد بن مسلم الأخرى قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الصبي يتزوج الصبية قال: إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز و لكن لهما الخيار إذا أدركا فإن رضيا بذلك فان المهر على الأب، قلت: هل يجوز طلاق الأب على ابنه في صغره؟ قال: لا و اشتمال ذيله على إثبات الخيار غير ضائر لأن خروج جزء من الخبر عن الحجية لا يضر بالباقي و الجواب عنها كالجواب عن الاولى.

و ثالثا خبر عبيدة بن زرارة المروي في البحار عن أبي عبد اللّه (ع) في الصبي يزوج الصبية هل يتوارثان؟ فقال (ع) ان كان أبواهما اللذان زوجاهما حيين فنعم و الجواب عنها كالجواب عن الاولى مع ما في تقييدها بالحيين. و رابعا ما رواه في الكافي في الصحيح و التهذيب في الموثوق عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سألت أبا جعفر (ع) عن غلام و جارية زوجهما وليان لهما و هما غير مدركين فقال (ع) النكاح جائز و أيهما أدرك كان له الخيار و ان ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما و لا مهر إلا أن يكونا قد أدركا و رضيا، قلت: فإن أدرك أحدهما قبل الآخر قال (ع) يجوز ذلك عليه ان هو رضي؟ قلت: فان كان الرجل الذي قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 489

أدرك قبل الجارية و رضي بالنكاح ثمَّ مات قبل أن تدرك الجارية أ ترثه؟ قال:

نعم يعزل ميراثها منه حتى تدرك فتحلف باللّه ما دعاها إلى أخذ الميراث إلا رضاها

بالتزويج ثمَّ يدفع إليها الميراث و نصف المهر، قلت: فان ماتت الجارية و لم تكن أدركت أ يرثها الزوج المدرك؟ قال (ع): لا لأن لها الخيار إذا أدركت قلت: فان كان أبوها هو الذي زوجها قبل أن تدرك؟ قال (ع): يجوز عليها تزويج الأب و يجوز على الغلام و المهر على الأب للجارية. و لا ريب ان ذكر الأب قرينة على إرادة غيره من الوليين المذكورين أولا و لذا كان لهما الخيار عند البلوغ لكونه حينئذ فضوليا موقوفا على الإجازة.

و لا يخفى انه حال هذه الرواية حال صحيحة محمد بن مسلم المشتملة على الخيار عند تزويج الأبوين، فكما ان الخصم استدل بها و أسقط الخيار كذلك هنا: على أن ذكر الأب ليس فيه دلالة على إرادة غيره من الأولياء فلعل الراوي ذكره للتأكد من الحكم و لم يكن في جواب الامام (ع) ما يدل على المخالفة في الحكم للأولياء كيف و لازم عدم إرادة الأب من الأولياء أن يكون حكم الجد غير حكم الأب في الرواية لأنه داخل في الأولياء فالأولى الحمل على تأكيد السؤال و خامسا ما في رواية داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه (ع): و اليتيمة في حجر الرجل لا يزوجها إلا برضاها بناء على إرادة الصبية الغير البالغة كما هو ظاهر التعبير باليتيمة، و المراد برضاها هو رضاها بعد البلوغ فإنه على هذا تدل الرواية على ان كل من زوج الصبية الفاقدة للأب فزواجه غير نافذ إلا إذا بلغت و رضيت به و (الجواب) عنها ان الظاهر هو تزويج الرجل لها بقرينة الضمير في (يزوجها) فإنه عائد للرجل التي هي في حجره، و من المعلوم ان مجرد كون الجارية في

حجره لا يوجب نفوذ زواجه إياها إلا إذا بلغت و رضيت بذلك لكون العقد حينئذ يكون فضوليا، كما انه يحتمل أن يكون المراد باليتيمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 490

هي البالغة كما في قوله تعالى وَ ابْتَلُوا الْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا النِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً.

و الذي يمكن أن يستدل به لثبوت ولاية الحاكم الشرعي على تزويج الصغير و الصغيرة عند فقد أبواهما النبوي المشهور: السلطان ولي من لا ولي له.

و الصغير حسب الفرض لا ولي له لأن كلامنا فيمن مات أبوه وجده و لا وصي عليه و يشكل على التمسك به (أولا) بإرساله الموجب لضعفه، و جوابه انه منجبر بعمل جملة من الأصحاب به. و (ثانيا) بأن الفقيه غير مسلم بأنه السلطان، و جوابه انه لا إشكال في أن الشارع قد جعل له السلطنة على المجنون و نحوه و الصبي بالنسبة لماله و لا يتصور في زمن الغيبة السلطنة لغيره. و (ثالثا) بأنه لا يثبت الولاية له على النكاح، و جوابه أنه بإطلاقه يثبت له الولاية على كل شؤون الصبي التي كان أبوه قد ولي عليها و لا إشكال في ان الأب كان وليا على نكاحه.

و صحيحة ابن سنان: الذي بيده عقدة النكاح هو ولي أمرها. و لا شك ان الحاكم ولي أمر الصغيرين و هكذا سائر الأخبار الواردة في بيان من بيده عقدة النكاح وعد ولي الأمر منه. و قد أورد عليها من أن مفهوم صحيحتي محمد بن مسلم أخص منها لأنهما مختصين بالصغير و هذه الصحيحة أعم، و جوابه ان لسانها لسان حكومة و بيان للموضوع و ان الولي من هو، نعم قد ذكر بعضهم انها واردة في المرأة

البالغة و عليه فتخرج عن محل الكلام.

و رواية زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: إذا كانت المرأة مالكة أمرها تبيع و تشتري و تعتق و تشهد و تعطي مالها ما شاءت فإن أمرها جائز تزوج إن شاءت بغير إذن وليها و إن لم تكن كذلك فلا يجوز تزويجها إلا بأمر وليها، و لا يخفى ما فيها، فإنها واردة في المرأة لا في الصغيرة.

و صحيحة الفضلاء عن أبي جعفر (ع) قال: المرأة التي ملكت نفسها غير السفيهة و لا المولى عليها إن تزوجها بغير ولي جائز، و الجواب عنها كالجواب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 491

عما تقدمها من انها مختصة بالبالغة. و صحيحة ابن يقطين أتزوج الجارية و هي بنت ثلاث سنين أو تزوج الغلام و هو ابن ثلاث سنين و ما أدنى حد ذلك الذي يزوجان فيه، فاذا بلغت الجارية فلم ترض فما حالها؟ قال (ع): لا بأس بذلك إذا رضي أبوها أو وليها. و قد أورد على الاستدلال بها بأنها شاذة و لا يخفى ما فيه فإنه قد أفتى بمضمونها جماعة، نعم المحكي عن المشهور الفتوى بخلافها و هو لا يسقطها عن الحجية بعد صحتها و فساد مبنى المشهور.

(ثمَّ لا يخفى) ان الملتقط له الولاية على الصغير الذي التقطه بتعهده و تربيته لأنه يجب عليه ذلك. و ان كانت نفقته غير واجبة عليه و إنما يرفع أمره لوالي المسلمين فينفق عليه من بيت المال فان عجز عن تربيته سلمه لحاكم الشرع لأنه ولي من لا ولي له. و إذا كان اللقيط مال كما لو كان عليه ذهب أو ثياب فلا يجوز للملتقط التصرف به و إنما يرجع لحاكم الشرع لأنه هو

الولي على ماله.

كما ان عاقلة اللقيط الإمام لأنه وارثه لكونه وارث من لا وارث له فاذا جنى صغيرا كانت الدية على الامام و إن جنى كبيرا عمدا اقتص من اللقيط و ان جنى خطأ فالدية على الامام و إذا قتل اللقيط عمدا فللإمام القصاص و إذا قتل خطأ فالدية للإمام. و لا يتولى الملتقط ذلك لكونه لا ولاية له إلا على الحضانة.

و تحقيق ذلك يطلب من كتاب اللقطة.

ولاية المجتهد على المجنون و السفيه

و (منها) ولايته على المجنون و السفيه و هو من ليس له ملكة الإصلاح لما له إذا لم يكن لهم جد أو أب أو وصي عنهما و ذلك للإجماع القطعي و لان الشارع قد منع من تصرفهما في مالهما لقوله تعالى وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ و المفهوم قوله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ. و لصحيحة هشام بن سالم و أن احتلم و لم يؤنس منه رشدا كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله و في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 492

موثقة ابن سنان، و جاز امره إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا فقال و ما السفيه فقال الذي يشتري الدرهم بأضعافه قال و ما الضعيف قال الأبله و حيث ثبت أن الشارع قد حجر على أموالهما فلا بد أن يقيم عليهما قيما عند فقد أبويهما و جديهما و الوصي عنهما و القدر المتيقن هو اقامة المجتهد العادل و للإجماع الذي قطع به النراقي (ره) و قد استدل بعضهم أيضا بما تقدم من الروايات الدالة على عموم الولاية و لكن على ذلك تكون الولاية الثابت للمجتهد عليهما هي الولاية العامة فيعتبر فيها ما يعتبر فيها. ثمَّ لا يخفى أن ولايته

عليهما انما هي بنحو التصرف على الوجه الأصلح كما هو المحكي عن ظاهر المشهور لأنه القدر المتيقن من الإجماع و من دليل العقل المذكور كما أنه انما يكون وليا عليهما مع فقد الجد و الأب و الوصي لأنه القدر المتيقن من الأدلة المذكورة. (و تنقيح البحث و توضيحه) أن الجنون أو السفه ان كان أدواريا بحيث يفيقان في حال يمكن مراجعة شؤونهما فيها فلا ولاية عليهما بل ينتظر فيهما إلى وقت الصحة و يوكل أمرهما فيه إلى أنفسهما و أن كان في السفه يستبعد ذلك و إن كانا اطباقيين مستمرين فاما أن يحدثا بعد البلوغ و المشهور في هذه الصورة ثبوت الولاية لحاكم الشرع حتى مع وجود الجد أو الأب أو الوصي لانقطاع ولايتهم بعد البلوغ فيهما لا ولي لهما. و الحاكم ولي من لا ولي له و ذهب بعضهم إلى ثبوت الولاية لهم لا للحاكم الشرعي. و غاية ما يمكن أن يستدل لهذا البعض هو أن يقال أن الأدلة الدالة على ثبوت الولاية للمذكورين تقتضي بإطلاقها ثبوتها لهم على الأولاد عند جنونهم و سفههم حتى لو حدث ذلك بعد بلوغهم بدعوى إن إطلاقات أدلة الولاية قد دلت على ولايتهم على الولد مطلقا خرج عنه الكبير العاقل الرشيد و بقي غيره تحت الإطلاقات و على هذا فمن بلغ و هو رشيد ترتفع ولايتهم عنه و تعود إذا ابتلي بالجنون و السفه نظير ما إذا أمر المولي بإكرام العالم و العادل ثمَّ أن زيد كان عالما ثمَّ صار جاهلا ثمَّ صار عادلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 493

فإنه يجب إكرامه. و لا يخفى ما فيه لأن الأدلة على ولايتهم على الصغير قاصرة عن

ذلك فلا عموم لها و لا إطلاق، فإن الذي استدل به على ولايتهم أمور أحدها:

الإجماع و انما يؤخذ القدر المتيقن منه و هو غير الصورة المذكورة، كيف و قد ذهب المشهور الى عدم الولاية لهم في هذه الصورة و ثانيها الاخبار و هي على طوائف (الأولى) ما تدل على جواز تصرفات الأب المعاملية لنفسه بالاقتراض من مال الولد و بتقويم جاريته على نفسه. فان ذلك يقتضي الولاية له عليه إذ لا تنفذ المعاملة إلا ممن له الولاية عليه. و لكن لا يخفى انها إن كانت لها إطلاق لحال ما بعد البلوغ بحيث يجوز للأب حتى ما بعد البلوغ الاقتراض من الابن لنفسه و تقويم جاريته على نفسه فهي إذن لا تقتضي ثبوت الولاية لأن في هذه الحال لا إشكال في عدم ولاية الأب على الابن و إن كانت لا إطلاق لها فأذن هي لا إطلاق لها يقتضي ثبوت الولاية بعد البلوغ عند السفه و الجنون (و بعبارة أخرى) انها إنما يستفاد منها الولاية حيث يثبت الحكم المذكور لأنها قد استفيدت من ثبوته. و عليه فما بعد البلوغ حال الرشد و الكمال إن كان الحكم المذكور ثابتا فلازمه عدم الملازمة بينه و بين الولاية لعدم تحقق الولاية قطعا في هذه الحال و إن لم يكن الحكم المذكور موجودا فقد انقطع ثبوت الحكم المذكور و يحتاج الى ثبوته عند حدوث السفه أو الجنون الى دليل آخر و إلا فالأصل عدمه، مضافا الى انا لا نسلم أنها تقتضي الولاية و إنما تقتضي جواز انتفاع الوالد بمال ولده و تقويم جاريته كما لا يجوز له الإنفاق على نفسه من مال ولده و لو دلت على الولاية فهي إنما تدل

على هذا المقدار الخاص من الولاية و هو الولاية على الاقتراض من مال ولده لنفسه و تقوم جاريته على نفسه فقط و هو غير ما نحن فيه من ثبوت الولاية له بالاتجار و النكاح و باقي الشؤون الأخرى (الثانية) أخبار الوصية المشتملة على جواز تصرف الوصي عن الأب و الجد في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 494

مال القصر، فإنها مختصة بالقصر و لا تشمل لحالهم ما بعد البلوغ على أن هذا الحكم الذي استفيد منه الولاية للوصي على القصر يزول قطعا عن الوصي عند بلوغ القصر و رشدهم ضرورة عدم جواز تصرف الوصي في مالهم عند بلوغهم و رشدهم. فثبوته للوصي بعد بلوغهم و رشدهم عند عروض الجنون أو السفه لهم يحتاج الى دليل فالأصل عدمه. (الثالثة) الأخبار الدالة على جواز معاملاتهم العائدة إلى الصغير كتزويجه و الاتجار بماله فإنه مضافا الى اختصاصه بالصغير فإنه لا يدل على ثبوت الولاية إلا في مورد ثبت هذا الحكم لأنها مستفادة من ثبوته و لا ريب في انقطاع هذا الحكم عند بلوغهم و كمالهم و لا دليل على عودته بعد عروض الجنون و السفه عليهم و الأصل عدمه بعين ما ذكرناه في الطائفة الثانية. هذا مع أنه قد ناقش بعضهم في أصل دلالتها على الولاية باعتبار ان أدلة التزويج مختصة بالنكاح، و أدلة الاتجار إنما هي مسوقة لبيان تعلق الزكاة إذا اتجر الأب بمال ولده (الرابعة) ما دل على ان الولد و ماله لأبيه كرواية علي بن جعفر عن أخيه (ع) قال: سألته عن رجل أتاه رجلان يخطبان فهو يجد البنت أن يزوج رجلا و هوى أبوها الآخر أيهما أحق أن ينكح؟

قال: الذي هوى الجد

أحق بالجارية لأنها و أباها للجد. و رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال: اني ذات يوم عند زياد بن عبد اللّه إذ جاء رجل يستعدي على أبيه فقال: أصلح اللّه الأمير ان أبي زوج ابنتي بغير إذني فقال لجلسائه: ما تقولون فيما يقول هذا الرجل؟ فقالوا: نكاحه باطل، قال (ع):

ثمَّ أقبل علىّ فقال: ما تقول يا أبا عبد اللّه فلما سألني أقبلت على الذين أجابوه فقلت لهم: أ ليس فيما ترون أنتم عن رسول اللّه (ص) ان رجلا جاء يستعديه على أبيه في مثل هذا، فقال له رسول اللّه أنت و مالك لأبيك قالوا بلى فقلت لهم كيف يكون هو و ماله لأبيه و لا يجوز نكاحه قال فأخذ بقولهم و ترك قولي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 495

و رواية الحسين بن أبي العلاء قال قلت لأبي عبد اللّه (ع) ما يحل للرجل من مال ولده قال قوته بغير سرف إذا اضطر اليه، قال فقلت له قول رسول اللّه (ص) للرجل الذي أتاه فقدم أباه فقال له أنت و مالك لأبيك، الحديث. و قد استدل بهذه الطائفة المحقق ملا كتاب على ثبوت الولاية للأب على ولده إذا غرض عليه السفه أو الجنون بعد بلوغه و رشده. و لا يخفى ما فيه فإنه لا يعقل أن يراد بها الولاية لورود بعضها في الولد الكبير الرشيد البالغ كرواية علي بن جعفر و رواية عبيد بن زرارة، و رواية ابن أبي العلاء التي تقدم ذكرها فلو كان ذلك يقتضي الولاية للزم ثبوت ولاية الأب على البالغ الرشيد إذ لا يعقل خروج المورد عن الوارد، مع أنه إنما تدل على ذلك

لو قلنا بأن اللام للملك مثل الملك للّه تعالى و لا يعقل إرادة ذلك منه لأن الولد و ماله ليس بمملوك لوالده فلا بد أن تكون اللام للاختصاص بنحو من الأنحاء مثل العبادة للّه. و عليه فهي لا تقتضي الولاية إذ الاختصاص يحتمل أن يكون باعتبار انه فرع منه كما يقال الغصن للشجرة و هذا الفرخ لهذا الطير، و يحتمل أن يكون من جهة شدة الارتباط به كما يقال هذا صديق لفلان، و غاية ما يستفاد من هذا التعبير هو أولوية الجد من الأب فيما كان يجوز لكل منهما فعله. و قد استدل بعضهم بالسيرة المستمرة عند العقلاء على تصرف الجد و الأب في شؤون أولادهم مع عدم الردع و هذا يقتضي ثبوت الولاية لهما عليهم. و لكن لا يخفى ان القدر المتيقن من هذه السيرة هو ما قبل البلوغ و لا يعلم ثبوتها ما بعد البلوغ. و (اما إذا كان الجنون و السفه مستمرين من الصغر الى ما بعد البلوغ) فالولاية للحاكم الشرعي، إذا لم يكن له جد أو أب أو وصي عنهما لما تقدم في صدر هذا البحث من ان الفقيه هو القدر المتيقن ولايته عليهما، و أما إذا كان أحدهم موجودا فالولاية له لا للحاكم الشرعي لاستصحاب ولايته مضافا الى ما يظهر من صاحب الحدائق من عدم الخلاف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 496

في ذلك و من صاحب المفاتيح في كتاب النكاح، و إن كان يظهر من خصوص صاحب المفاتيح في الباب الخامس في التصرف بالنيابة ان الولاية في خصوص السفيه للحاكم مطلقا حتى لو كان السفه متصلا بما بعد البلوغ، و نظيره المحكي عن التذكرة، و استدل له

في التذكرة بأن الحجر يفتقر الى حكم الحاكم و زواله أيضا يفتقر اليه فكان النظر في ماله اليه سواء تجدد السفه بعد البلوغ أو كان مستمرا لما بعد البلوغ، و لا يخفى ما فيه فان الظاهر انه لا نزاع في عدم توقف حجر السفيه على حكم الحاكم إذا كان السفه متصلا بالبلوغ، و قد نقلت الإجماعات على ذلك كما ان فك الحجر لا نسلم أنه يتوقف على حكم الحاكم لقوله تعالى:

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً و لزوال المقتضي للحجر و لأنه لو توقف على ذلك لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من الحاكم و لكان عندهم من أهم الأشياء مضافا الى ان كون الحجر و فكه بيد الحاكم لا ينافي كون الولاية على التصرف في شؤونه لغير الحاكم فإنه نظير إثبات الحق له فإنه بيد الحاكم.

و (اما لو كان الجنون و السفه حال الصغر) فأيضا كذلك من أن الولاية للحاكم الشرعي مع فقد الجد و الأب و الوصي و إلا فهي لهم اما انها للحاكم الشرعي مع فقدهم لما تقدم في صدر هذا المبحث، و اما انها لهم عند وجودهم فللإجماع المنقول و المحقق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 497

تعيين المراد بالأب و الجد و مقدار ولايتهما

ثمَّ ان المراد بالجد و الأب انماهما النسبيان و اما الرضاعيان فلا ولاية لهما قطعا لانصراف لفظ الأب و الجد إليهما لا الى الرضاعيين و للإجماع على ذلك و ان كان قضية التنزيل بقوله عليه السّلام (ان الرضاع لحمة كلحمة النسب) هو جريان احكام النسب على الرضاع. كما ان الظاهر ان المراد الجد للأب لا للام للانصراف له. و اما من ولد منهما بالزنا فقد ذهب بعضهم الى ثبوت ولايتهما عليه لصدق ذلك

عرفا عليه و الأحكام الشرعية تابعة للمعاني العرفية و لا ريب انه لم يثبت في الجد و الأب حقيقة شرعية. ثمَّ ان ولاية الجد و الأب لا تختص بشي ء دون شي ء فتجري بالنسبة إلى التصرف بالأموال و النكاح قال المرحوم المامقاني أن ولايتهما تجري في كل أمر عدى طلاق زوجته لقوله (ع) الطلاق بيد من أخذ بالساق و غيره من الاخبار و أما هبة مدة المتعة و فسخ النكاح الدائم بالأسباب الموجبة للفسخ فهي ثابتة لهما لعموم الولاية أو إطلاقها و انما الخارج منها بدليل خاص هو الطلاق فيبقي هبة المدة و الفسخ و غيرهما مندرجة تحت عموم الولاية أو إطلاقها.

مقدار ولاية الحاكم الشرعي (على المجنون و السفيه)

ثمَّ انه بعد ما عرفت ثبوت ولاية الحاكم الشرعي على المجنون و السفيه بقطع النظر عن أدلة الولاية العامة فمقتضى الأدلة هو ثبوتها للحاكم الشرعي بشرط الصلاح كما تقدم في صدر البحث كما هو ظاهر المشهور كما لا إشكال في ولاية الحاكم الشرعي في إجارتهم و استيفاء منافع أبدانهم و استيفاء حقوقهم المالية و غيرها كحق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 498

الشفعة و الفسخ بالخيار و دعوى الغبن و الإحلاف ورد الحلف و حق القصاص في الدم و الجنايات و اقامة البينة و جرح الشهود و أمثالها لأنه مقتضى الأدلة الدالة على ولاية الحاكم عليهما (نعم) محل الكلام في ولايته عليهما في النكاح ففي المجنون و المجنونة اختلفوا في ثبوت ولاية الحاكم عليهما فإن المحكي عن جماعة كالمبسوط و الإرشاد و التحرير و المحقق الشيخ علي و الفاضل الهندي و شارح المفاتيح يشترطونها بشرط الحاجة و الضرورة في نكاح المجنون بل المحكي عن الشيخ علي دعوى الإجماع على اشتراط ذلك و

قال المحقق النراقي (ره) ان كلمات أكثر القدماء خالية عن ذكر ولاية الحاكم على نكاح المجنون بل يظهر من كثير مصنفاتهم انتفائها كالفقيه و الخلاف و المبسوط و النهاية و التبيان و الجامع و الوسيلة و الغنية و غيرها انتهى. و الحق ثبوتها و قد تقدم في اخبار ولاية الحاكم على الصغير ما يدل على ولاية الحاكم على نكاح المجنون.

و (أما السفيه) ففي ولاية الحاكم على نكاحه مع فقد ولي عليه خلاف بين المتأخرين فالمحكي عن المحقق في الشرائع و العلامة في القواعد و التحرير و الإرشاد الى عدم ثبوت الولاية عليه و صحة عقده بنفسه لو أوقعه بدون اذن المولى كما صرحوا بذلك في نكاح المحجور عليه و ان كان لهم كلام في المهر و ذهب جمع آخر كما في التذكرة و نكت الإرشاد و المسالك و شرح القواعد للمحقق الشيخ علي الى ثبوت الولاية لا بمعنى استقلال الحاكم في تزويجه بل بمعنى عدم استقلاله و توقف صحة نكاحه على اذن الحاكم قال (ره) لا ريب ان السفيه لا يجبر على النكاح لأنه بالغ عاقل و لا يجوز له الاستقلال لأنه لسفهه و تبذيره محجور عليه شرعا ممنوع من التصرفات المالية و لما كان هذا القول مركب من دعويين (إحداهما) عدم استقلال الحاكم بتزويج السفيه و السيفهة و توقف النكاح على إذنهما (و ثانيهما) توقف صحة تزويجهما على اذن الحاكم استدلوا على (الاولى) بالإجماع و بقوله تعالى فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 499

فَلٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ. و صحيحة الحلبي عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال في المرية الثيب تخطب الى نفسها قال هي أملك لنفسها

تولي أمرها من.

شائت. و صحيحة البزنطي قال: قال أبو الحسن (ع) و الثيب أمرها إليها و على (الدعوى الثانية) بصحيحة الفضلاء المتقدمة في مبحث ولاية الفقيه على الصغير فإنها دلت بمفهومها على عدم جواز تزويج السفيهة بغير ولي. و رواية زرارة المتقدمة هناك أيضا المصرحة بأنه لا يجوز تزويج المرية الغير المالكة لأمرها إلا بأمر وليها و النبوي المشهور السلطان ولي من لا ولي له فان مقتضى الجمع بين هذه الاخبار مع الإجماع المذكور هو ان يكون المراد ان اختيار الزوج السفيه و الزوجة السفيهة راجع لهما و لكن يكون بإذن المولى عليهما لأن لا يكون الاختيار واقعا على من هو ضرر عليهما و مضرا بمستقبلهما و بعد وجود الإجماع لا مجال للتمسك بالروايات المذكورة أو غيرها على استقلال ولاية الحاكم الشرعي في تزويجهما و يؤكد الإجماع على ذلك اكتفاء العلماء في باب شرائط المتزوجين في النكاح بالبلوغ و العقل و الحرية و تفريعهم على ذلك عدم صحة عقد الصبي و الصبية و المجنون و المجنونة و السكران و العبد فقط من غير تعرض لذكر السفيه أصلا و تفريعهم عدم صحة التصرفات المالية من السفيه في باب المعاملات على اشتراط الرشد.

ولاية المجتهد على المغمى عليه و السكران

و (منها) ولاية الحاكم الشرعي على المغمى عليه و السكران لأن الأدلة الدالة على ولايته على المجنون تقتضي ولايته عليهما بتنقيح المناط أو الأولوية.

ولاية المجتهد على المفلس

و (منها ولاية المجتهد على المفلس) قد ذكر الفقهاء (ره) ان الحاكم الشرع الولاية على التحجير على المفلس بمنعه من التصرف في ماله و قسمته على غرمائه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 500

ببيعه إلا إذا كانت عين مال الغريم موجودة فإن ذلك الغريم أحق بها من غيره نعم التحجير عليه لا يكون إلا في صورة ما إذا ثبت على المفلس الدين عند الحاكم الشرعي و حلول أجله و نقصان ماله عن وفائه و التماس الغرماء أو بعضهم للحاكم التحجير عليه و ذكروا ان رفع الحجر عنه لا يحتاج لحكم الحاكم برفعه على تفصيل في ذلك كله ذكره الفقهاء رضوان اللّه عليهم في كتاب المفلس.

ما يتوقف ثبوته مما تقدم (على حكم الحاكم)

لا إشكال في ان ولاية الحاكم على الصغير و المجنون تثبت بمجرد تحقق موضوعهما بالشرائط المتقدمة و يثبت التحجير عليهما بمجرد تحققهما من دون حاجة لحكم الحاكم بالتحجير عليهما و وجه ذلك واضح حيث لم يؤخذ في ثبوت التحجير عليهما في هذه الحالة حكم الحاكم. و هكذا يرتفع التحجير عنهما و تزول الولاية عليهما بزوالهما من دون حاجة لحكم الحاكم برفعه و أما المفلس فقد ذكر الفقهاء اعتبار حكم الحاكم بالتحجير في ثبوت التحجير و الولاية عليه. و أما رفع التحجير عنه فلا يحتاج لحكم الحاكم برفعه و قد تعرضوا لذلك في كتاب المفلس مفصلا.

و أما السفه فالمنسوب الى المشهور توقف الحجر و الولاية عليه ثبوتا و رفعا على حكم الحاكم و ان السفه بنفسه غير موجب للتحجير على السفيه استنادا لعمومات العقود و المعاملات و وجوب الوفاء بها، و ان موضوع الرشد و السفه اجتهادي لاختلاف العلماء في بعض ما يعد فعله سفها و رشدا فيتوقف ثبوته

و نفيه على رأي الحاكم، و انه لو كان مجرد تحقق السفه موجبا للحجر و ان لم يحكم به الحاكم لأدى إلى العسر و الحرج في المعاملات لأن أغلب المعاملات مع مجهول الحال مع استمرار السيرة على المعاملة من دون بحث و لا نظر و ذهب جمع من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 501

المحققين الى عدم اعتبار حكم الحاكم في الحجر عليه مطلقا ثبوتا و رفعا استنادا الى ظواهر الإطلاقات من الآيات و الروايات حيث دلت على ثبوت الحجر عليه بمجرد السفه من غير اعتبار حكم الحاكم كقوله تعالى وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ و قوله تعالى فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لٰا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) حيث أطلق النهي في الأولى عن إيتاء السفيه و في الثانية أثبت الولاية و الولي عليه و هكذا الكلام في الروايات الدالة على التحجير على السفيه. و لان الحجر على السفيه انما هو لمصلحته و النظر له في حفظ ماله كالحجر على الصبي و المجنون فإنه لا يفتقر الى حكم الحاكم لا كالحجر على المفلس فإنه لمصلحة الغرماء فلا يثبت بدون حكم الحاكم و الحق هو الثاني لضعف ما ذكر حجة على التوقف فان عمومات المعاملات مخصصة بما دل على ان السفه مانع عن صحتها بإطلاقه و (دعوى) ان السفه أمر اجتهادي (ممنوعة) بأنه هو و الرشد أمران عرفيان و لا يقدح الاختلاف في تحققهما ببعض الأفعال إذ هو من الاختلاف في المصاديق العرفية و لو فرض توقف ثبوته و نفيه على رأي الحاكم فلا يلزم منه توقف الحجر عليه على حكم الحاكم بالتحجير و (دعوى) لزوم العسر

و الحرج لو اكتفى بمجرد السفه في الحجر (ممنوعة) فإن السفه من قبيل المانع و هو انما يقتضي اجتناب معاملة معلوم السفه و هو لا عسر فيه و لا حرج. و أما مجهول الحال فالسيرة قاضية بصحة معاملاته عملا بأصالة الصحة في فعل المسلم و بأصالة الرشد و عدم السفه إلا مع فرض جهل الحال بعد سبق العلم بالسفه فان الاستصحاب للسفه و الحجر عليه موجب للمنع و لذا حكم الأصحاب باستمرار الحجر الى تبين الرشد في صورة ما إذا جهل حال الصبي إذا بلغ و لقوله تعالى فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ و مقتضى ذلك ان النزاع في اعتبار حكم الحاكم و عدمه في الحجر على السفيه انما هو في السفه المتجدد بعد الرشد لا في المتصل منه بالبلوغ لمعلومية اتصال الحجر عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 502

الثابت له حال صغره بدون حكم الحاكم. و يؤيد ذلك انه لو كان زوال الحجر بعد البلوغ موقوفا على حكم الحاكم لطلب الناس عند بلوغهم فك الحجر عنهم من الحاكم كما أفاد ذلك العلامة في المحكي عن تذكرته.

ولاية المجتهد على الغائبين
اشارة

و (منها) ولاية الفقيه على الغائبين و هم على قسمين أحدهما المفقود خبرهم و هم كما في أنوار الفقاهة ما يشمل الضائعين و المفقود في بلده إذا كانت واسعة لم يدر كيف صنع به فيها و الضال في الطريق و المنكسرة به السفينة في البحر و لم يعلم غرقه و المفقود في المعركة و المأسور و الغائب إذا غاب و لم يدر إلى أين توجه و القسم الثاني هم الغائبون المعلوم خبرهم و هذان القسمان قد ذكروا في كتاب القضاء ان للحاكم الشرعي

القضاء عليهم ببيع مالهم لقضاء الدين المعجل عليهم بعد مطالبة الدائن و استدلوا على ذلك بمرسلة جميل عنهما (ع) قالا الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة و يباع ماله و يقضى دينه و هو غائب و يكون الغائب على حجيته إذا قدم و لا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء و نحوه خبر محمد بن مسلم عن الباقر (ع) إلا ان فيه إذا لم يكن مليا و استدلوا أيضا بأن ما دل على ولاية الحاكم الشرعي على الممتنع عن أداء الحق عليه يدل على ذلك بعد اتحاد المناط بينهما من امتناع إيصال الحق إلى مستحقه من غير فرق في الامتناع بين كونه قهرا أو عن اختيار و استدلوا أيضا بأن تعطيل الاستيفاء الى وقت الحضور ضرر منفي لا يجب تحمله و تحقيق ذلك يطلب من كتاب القضاء و هكذا له الولاية على أموالهم فيما لو كان مالهم في معرض التلف فإنه يجوز حفظه للقطع بالاذن منهم الحاصل بشاهد الحال و لقوله تعالى وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و لكن ذلك لا يكون من باب الولاية بل من باب الإحسان و البر و الحسبة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 503

نعم فيما عدى ذلك فالقسم الثاني منهم ليس للحاكم الشرعي الولاية على أموالهم و لا على أزواجهم مع قطع النظر عن الولاية العامة حتى فيما كان الغائبون غير متمكنين من التصرف في أموالهم لبعد المسافة أو لحبسهم و ذلك للأصل و أما القسم الأول فللحاكم الولاية على حفظ أموالهم فقط و لا دليل على ذلك مع قطع النظر عن ثبوت الولاية العامة إلا الإجماع المدعي و لا دليل على جواز التصرف

في أموالهم بالبيع و الشراء و التبديل و نحو ذلك حتى بعد الفحص عنه و اليأس و ان كان لهم فيه مصلحة فإن الأصل الحرمة و لقاعدة عدم حل مال إمرء إلا بطيب نفسه و لا تجري قاعدة و الإحسان و إلا لجرت في أموال الحاضرين و هكذا ليس على الحاكم استيفاء ما للغائبين في الذمم و لذا لا يحجر على أموال غرمائهم بخلاف المجانين و السفهاء فإنه له الاستيفاء و التحجير على غرمائهم و هكذا لا يجوز التصرف في أموالهم بالقسمة بين ورثتهم حتى بعد الفحص و اليأس عنهم كما هو المحكي عن معظم الأصحاب في المسالك و (دعوى) انه قد تقرر في أبواب الفقه ان الحاكم ولي الغائب و أرسلها الفقهاء إرسال مسلمات (مدفوعة) بما هو المحكى عن المسالك ان من القواعد المقررة في بابها ان الودعي ليس له دفع الوديعة إلى الحاكم مع إمكان المالك و لا مع غيبته إلا مع الضرورة و لو كان الحاكم كالمالك لجاز الدفع إليه في الموضعين (و دعوى) تنزيل الظن بالموت منزلة اليقين. دعوى بلا دليل و دعوى لزوم تعطيل حق الوارث. فاسدة لعدم ثبوت استحقاقه للمال لعدم العلم بانتقاله اليه

[الفتوى بأن المشتري بالخيار إذا غاب عن البائع فللبائع ان يدفع الثمن للفقيه لفسخ البيع عند حلول الأجل.]

قال المرحوم النراقي (ره) ان من الموارد التي لا أرى عليها دليلا ما تداول في هذه الأعصار في المبايعات الشرطية التي فيها خيار الفسخ للبائع بشرط رد الثمن إلى المشترى في زمان معين فاذا لم يحضر المشترى في الزمان المعين يجيئون بالثمن إلى الفقيه و يفسخون المبايعة و لا أرى لذلك وجها فان شرط الخيار هو رد الثمن إلى المشتري فإذا لم يتحقق الشرط كيف يتحقق الفسخ و كون الفقيه قائما مقامه

النور الساطع

في الفقه النافع، ج 1، ص: 504

حتى في ذلك مما لا دليل عليه أصلا و (توهم) ان ذلك لدفع الضرر و الضرار (فاسد) إذ هذا الضرر مما أقدم البائع نفسه عليه مع ان الفسخ عند غير المشتري متضمن لضرر المشتري سلمنا الضرر المنفي فلم يجبر برد الثمن إلى الفقيه و الفسخ عنده إذ بعد ما جاز للحاكم التجاوز عن مقتضى الشرط لدفع الضرر فيمكن دفعه بزيادة مدة الخيار أو بإلزام المشتري على ما يجبر به الضرر أو بغير ذلك من الاحتمالات.

[الفتوى بأن البائع إذا لم يقبل الثمن في بيع النسيئة عند حلول الأجل يؤديه المشتري للفقيه و تبرء ذمته.]

و من تلك الموارد ما ذكروه في باب النسية انه إذا لم يقبل البائع الثمن في الأجل يؤديه إلى الحاكم و يبرئ بذلك و يكون التلف من البائع حينئذ و هو أيضا مما لا دليل عليه و حديث الضرر يعلم ما فيه مما مر الى غير ذلك من الموارد (فان قيل) لا بد في أمثال تلك الموارد من الرجوع إلى الحاكم (قلت) نعم لا شك في ذلك هو المرجع في جميع الحوادث و له منصب المرجعية في جميع ما يتعلق بالشريعة و لكن الكلام في وظيفة الحاكم بعد الرجوع إليه انها ما هي و اللّه العالم بحقائق أحكامه.

[المديون إذا غاب عنه الدائن بحيث يأس منه دفع الدين للفقيه.]

و ستجي ء إنشاء اللّه ولاية الحاكم على الممتنع هذا و قد حكي عن غير واحد من الفقهاء ان من وجب عليه الدين و غاب عنه صاحبه بحيث يأس منه و لم يعلم له وارثا بعد ان اجتهد في طلبه سلمه لحاكم الشرع إلا ان المشهور يتصدق به و لعله الوجه في ذلك انه ما يتخيل من مساواته لمجهول المالك لاشتراكهما في عدم التمكن من الإيصال لصاحبه و لما أرسله في السرائر حيث قال و روي انه إذا لم يظفر له بوارث تصدق به عنه و لما في الفقيه و روي في هذا خبر آخر ان لم يجد له وارثا و علم اللّه بذلك الجهد فتصدق به (و لا يخفى ما فيه) فإنه ليس من مجهول المالك لأن صاحب الدين معروف في نفسه و إلحاقه به قياس ممنوع (نعم) لو علم موته و جهل وارثه أمكن ان يقال انه من مجهول المالك كما لو علم بعدم الوارث له كان من مال الامام (ع) لأنه وارث من لا وارث

له. و أما الأخبار فمع ضعفها بالإرسال و معارضتها بصحيح معاوية عن الصادق (ع) في رجل كان له على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 505

رجل حق ففقده و لا يدري أين يطلبه و لا يدري أحي هو أم ميت و لا يعرف له وارثا و لا نسبا قال اطلب قال ان ذلك قد طال أ فأتصدق به قال اطلب و (الحاصل) انه يمكن ان يقال ان المال للإمام مع العلم بموت الدائن و الشك في وجود الوارث فإن أصالة عدم الوارث تقتضي انه مال لا وارث له فهو للإمام و ان كان ناقش في ذلك بعضهم بأن الشرط هو العلم و القطع بعدم الوارث فلا يكفي الاستصحاب لإثباته كما انه يمكن ان يقال انه من مجهول المالك لو تمت مناقشة ذلك البعض و (لعل) ما يحكي عن الشيخ في النهاية و عن جماعة من الحكم بالصدقة نظرهم إلى صورة عدم العلم بموت صاحب الدين و عليه فيكون حكمهم جار على القواعد الشرعية مؤيدا بالمراسيل المذكورة غير معارض بالصحيح المتقدم لوروده في صورة بقاء صاحب الدين و عدم العلم بموته فان اللازم في مثله استبقاء الدين أمانة و الإيصاء به عند الموت أو دفعه لحاكم الشرع لأنه ولي الغائب نعم التصدق به مع ضمان المال لو لم يرض بالصدقة إحسان محض فهو جائز و ليس فيه تصرف بمال الغير بغير اذنه حيث انه لم يسلم له حتى يكون ماله

[ولاية المجتهد على مال المودع عند فقده.]

و لقد جعل الفقهاء (ره) من آثار ولاية الحاكم الشرعي على الغائبين ولايته على مال المودع عند فقده و فقد الوكيل عنه مع الضرورة للمودع عنده في التخلي عن الوديعة أو العذر له

في ذلك لعجزه عن الحفظ لها أو الخوف عليها من الغرق أو الحرق أو النهب أو أخذ المتغلب لها و من العذر السفر عنها مع الاضطرار اليه أو مطلقا بناء على منافاة السفر عنها مطلقا لحفظها و ان كانت السيرة على خلافه في كثير من الأحوال فإنهم ذكروا انه يردها لحاكم الشرع معللين ذلك بأنه ولي الغائب في حفظه ماله و لكن مقتضى هذا التعليل هو جواز ردها لحاكم الشرع عند فقد المالك أو وكيله اختيارا و ان لم تكن ضرورة من خوف سرقة. و نحوها لأنه رد للولي و الوديعة من العقود الجائزة فللمستودع الفسخ في جميع الأوقات و لازمه جواز ردها للحاكم لأنه ولي المودع عند غيبته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 506

إلا ان ظاهر الأصحاب المنع من ردها للحاكم إلا مع الضرورة و يمكن ان يكون الوجه في ذلك هو ان الحاكم لا ولاية له على من له الوكيل. و الودعي بمنزلة الوكيل و انما جاز الدفع للحاكم عند الضرورة دفعا للحرج و الإضرار إلا ان هذا يقتضي عدم تمامية التعليل المذكور

[وجوب قبول المجتهد الوديعة و الدين و المغصوب و نحوها عند فقد مالكها.]

و حيث يجوز دفعها الى الحاكم فهل يجب عليه القبول لأنه ولي الغائب و منصوب للمصالح أولا للأصل؟ و لعل الأول أقوى و كذلك لو حمل اليه المديون الدين و المغصوب و نحو ذلك مع غيبته المالك (و قد ذكر الفقهاء) في كتاب اللقطة ان الضوال في الكلاء و الماء لو أخذها الإنسان كان مكلفا بين إمساكها لصاحبها و بين دفعها لحاكم الشرع و قد علله بعضهم بأنه ولي حفظ مال الغائب و علله آخرون بأن الحاكم منصوب لمصالح المسلمين التي منها ذلك هذا كله بالنسبة

لولايته على مال الغائبين.

[ولاية المجتهد على المفقود في فك زوجته منه.]
اشارة

و أما بالنسبة إلى ولايته على أزواجهم فلا بد لنا ان تنقل الأخبار في هذا الباب (منها) صحيحة بريد بن معاوية المروية في الكافي و التهذيب و الاستبصار قال سئلت أبا عبد اللّه (ع) عن المفقود كيف يصنع بامرأته قال ما سكتت عنه و صبرت يخلي عنها فإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين ثمَّ يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه فليسئل عنه فان خبر عنه بحياة صبرت و ان لم يخبر عنه بشي ء حتى تمضي الأربع سنين دعى ولي الزوج المفقود فقيل له هل للمفقود مال؟ فان كان له مال أنفق عليها حتى يعلم حياته من موته و ان لم يكن له مال قيل للولي أنفق عليها فان فعل فلا سبيل لها إلى ان تتزوج ما أنفق عليها و ان لم ينفق عليها أجبره الوالي على ان يطلق تطليقة في استقبال العدة و هي طاهر فيصير طلاق الولي طلاق الزوج فان جاء زوجها من قبل ان تنقضي عدتها من يوم طلقها الولي فبدا له ان يراجعها فهي امرأته و هي عنده على تطليقتين فان انقضت العدة قبل ان يجي ء أو يراجع فقد حلت للأزواج و لا سبيل للأول عليها قال الصدوق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 507

في الفقيه و في رواية أخرى انه ان لم يكن للزوج ولي طلقها الوالي و يشهد شاهدين عدلين فيكون طلاق الوالي طلاق الزوج و تعتد أربعة أشهر و عشرا ثمَّ تتزوج ان شاءت و (منها) خبر أبي الصباح الكناني المروي في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) في امرأة غاب عنها زوجها أربع سنين و لم ينفق عليها و

لا تدري أ حي هو أم ميت أ يجبر وليه على ان يطلقها؟ قال نعم و ان لم يكن له ولي طلقها السلطان قلت فان قال الولي أنا أنفق عليها قال فلا يجبر على طلاقها قال قلت أرأيت ان قالت أنا أريد مثلما تريد النساء و لا أصبر و لا أقعد كما أنا قال ليس لها ذلك و لا كرامة إذا أنفق عليها و (منها) موثقة سماعة المروية في الكافي قال سألته (ع) عن المفقود فقال ان علمت انه في أرض فهي منتظرة له أبدا حتى يأتيها موته أو يأتيها طلاقه و ان لم تعلم أين هو من الأرض كلها و لم يأتها منه كتاب و لا خبر فإنها تأتي الإمام فيأمرها أن تنتظر أربع سنين فيطلب في الأرض فان لم يوجد له أثر حتى تمضي الأربع سنين أمرها ان تعتد أربعة أشهر و عشرا ثمَّ تحل للرجال فان قدم زوجها بعد ما تنقضي عدتها فليس له عليها رجعة و ان قدم و هي في عدتها أربعة و عشرا فهو أملك برجعتها.

و (منها) صحيحة الحلبي المروية في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) انه سئل عن المفقود فقال: المفقود إذا مضى له أربع سنين بعث الوالي أو يكتب إلى الناحية التي هو غائب فيها فان لم يوجد له أثر أمر الوالي وليه ان ينفق عليها فما أنفق عليها فهي امرأته. قال: قلت: فإنها تقول: فإني أريد ما تريد النساء. قال ليس لها ذلك و لا كرامة. فأن لم ينفق عليها وليه أو وكيله أمره أن يطلقها فكان ذلك عليها طلاقا واجبا.

و خبر السكوني المروي في التهذيب عن جعفر عن أبيه (ع) ان عليا (ع) قال

في المفقود لا تتزوج امرأته حتى يبلغها موته أو طلاق أو لحوق بأهل الشرك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 508

و مثلها ما رواه في المستدرك عن الجعفريات.

و عن دعائم الإسلام روينا عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (ع) انه قال إذا علم مكان المفقود لم تنكح امرأته. و عن جعفر بن محمد (ع) أنه قال:

يخلي عن امرأة المفقود ما سكتت فإن هي رفعت أمرها إلى الوالي أجلها أربع سنين و كتب الى الموضع الذي فقد فيه فيسأل عنه فان لم يخبر عنه بشي ء حتى تنقضي الأربع سنين دعى ولي المفقود فقال هل للمفقود مال فان كان للمفقود مال قال للولي أنفق عليها من ماله فان فعل فلا سبيل لها إلى التزويج ما أنفق عليها و ان أبي وليه ان ينفق عليها أجبره الوالي على ان يطلق تطليقة في استقبال عدتها و هي طاهر فيصير طلاق الولي طلاقا للزوج فان جاء زوجها قبل ان تنقضي عدتها من يوم طلق الولي فبدا له ان يراجعها فهي امرأته و هي عنده على تطليقتين باقيتين و ان انقضت عدتها قبل ان يجي ء أو يراجع فقد حلت للأزواج و لا سبيل لأحد عليها و ان قال الولي أنا أنفق عليها لم يجبر على ان يطلقها و ان لم يكن له ولي طلقها السلطان قيل له يا ابن رسول اللّه أرأيت ان قالت المرية أنا أريد ما تريد النساء و لا استطيع أن اصبر قال ليس لها ذلك و لا كرامة إذا أنفق عليها وليه.

و عن كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (ع) عند ذكر بدع عمرو قضيته في المفقود ان أجل امرأته أربع

سنين ثمَّ تتزوج فان جاء زوجها خير بين امرأته و بين الصداق فاستحسنه الناس و اتخذوه سنة و قبلوه عنه جهلا و قلة علم بكتاب اللّه و سنة نبيه (ص).

و عن الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص عن يعقوب بن زيد عن أبي عمير قال: قال مؤمن الطاق فيما ناظر به أبا حنيفة ان عمر كان لا يعرف أحكام الدين أتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين إني غبت فقدمت و قد تزوجت امرأتي فقال ان كان قد دخل بها فهو أحق بها و ان لم يكن قد دخل بها فأنت أولى بها و هذا حكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 509

لا يعرف و الأمة على خلافه و قضى في رجل غاب عن أهله أربع سنين انها تتزوج ان شاءت و الأمة على خلاف ذلك انها لا تتزوج أبدا حتى تقوم البينة انه مات أو كفر أو طلقها. و عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال في المفقود ينتظر أهله أربع سنين فان عاد و إلا تزوجت فان قدم زوجها خيرت فان اختارت الأول أعتدت من الثاني و رجعت إلى الأول و ان اختارت الثاني فهو زوجها.

و عن ابن شهر اشوب في المناقب روى ان الصحابة اختلفوا في أمرية المفقود فذكروا ان عليا (ع) حكم بأنها لا تتزوج حتى يجي ء نعي موته و قال هي امرأة ابتليت فلتصبر و قال عمر تتربص أربع سنين ثمَّ يطلقها ولي زوجها تمَّ تتربص أربعة أشهر و عشرا ثمَّ رجع إلى قول علي (ع).

و عن الصدوق في المقنع و اعلم ان المفقود إذا رفعت امرئته أمرها إلى الوالي فأجلها أربع سنين ثمَّ يكتب إلى الصقع الذي فقد فيه

فيسئل عنه فإن أخبر عنه بحياة صبرت و ان لم يخبر عنه بحياة و لا موت حتى يمضي دعى ولي الزوج المفقود فقيل له هل للمفقود مال فان كان له مال أنفق عليها حتى يعلم حياته من موته و ان لم يكن له مال قيل للولي أنفق عليها فان فعل فلا سبيل لها إلى ان تتزوج ما أنفق عليها و ان أبي ان ينفق عليها أجبره الوالي على ان يطلقها تطليقة في استقبال العدوة و هي طاهر فيصير طلاق الولي طلاق الزوج و ان لم يكن لها ولي طلقها السلطان و أعتدت أربعة أشهر و عشرة أيام فإن جاء زوجها قبل ان تقتضي عدتها من يوم طلقها الوالي فبدا له ان يراجعها فهي امرأته و هي عنده على تطليقتين و ان انقضت عدتها قبل ان يجي ء الزوج فقد حلت للأزواج و لا سبيل للأول عليها هذا ما ظفرنا به من الروايات في هذا الباب و قد فهم الأصحاب من هذه الروايات ان المراد من الولي و الامام فيها هو حاكم الشرع في زمن الغيبة لفتواهم بمضمونها بالنسبة اليه و عدم فتوى ابن إدريس (ره) بمضمونها في زمن الغيبة لا من جهة عدم فهمه ذلك منها بل من جهة كونها أخبار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 510

آحاد على ما حكي عنه

و كيف كان فالمستفاد من هذه الاخبار بعد ظم بعضها إلى بعض و تقييد مطلقها بمقيدها أمور.
الأول [المرأة إذا عرفت حياة زوجها المفقود لا يجوز لها ان تتزوج، و مع علمها بوفاته و لكن الحاكم الشرعي أمرها بتأجيل زواجها للفحص عنه فلا يجوز تزويجها.]:

ان الزوج إذا عرف حياته انتظرته زوجته كما هو مقتضى صحيحة بريد و موثقة سماعة و غيرها كما انها إذا عرفت موته أعتدت عدة الوفاة كما هو مقتضى أدلة المرأة المتوفى عنها زوجها. و جاز تزويجها لمن أخبرته بموته للسيرة القاضية بذلك و لأنهن مصدقات على فروجهن. و يمكن القول بأنه

مع تأجيل الحاكم ليس للسامع منها التزويج بها الإبان يحكم الحاكم بجوازه. و لكنه بعيد.

الثاني [زوجة المفقود تؤجل اربع سنوات حتى لو كانت غير مدخول بها. و ان مبدأ التأجيل من حين فقده.]

ان زوجة المفقود سواء كانت مدخول بها أم لا مع جهلها بحاله ان صبرت خلي عنها و ان رفعت أمرها لحاكم الشرع أجلها أربعة سنين للفحص عنه و هل يفحص عنه في مدة التأجيل في سائر الأرض أو الناحية التي غاب فيها مقتضى الجمع بين الروايات انه ان عرفت الناحية التي غاب فيها فحص عنه فيها كما هو مقتضى صحيحة بريد و صحيحة الحلبي و خبر دعائم الإسلام و اما إذا لم يعلم الناحية التي غاب فيها تفحص عنه في الأرض في كل طرف احتمل كونه فيها كما هو مقتضى خبر سماعة قال صاحب أنوار الفقاهة الشيخ حسن شبل كاشف الغطاء انه لا يجب تمام الاستقصاء لعسره و لا يكتفي بالقليل للشك في أجزائه. ثمَّ انه هل يشترط في حساب الأربع سنين التي هي مدة التأجيل و الفحص من وقت رفع أمرها إلى الحاكم أولا يشترط ذلك بحيث لو بقيت بعد فقده أربع سنين تتفحص هي أو وليها عنه كفى ذلك و بعبارة أخرى ان مبدأ التأجيل أربع سنين هو من حين فقده أو من حين التفحص عنه أو من حين رفع أمرها للإمام ظاهر صحيحة الحلبي و خبر أبي الصباح هو الأول و اما صحيحة بريد و ما كان بلسانها من قوله (أجلها أربع سنين) فهو غير ظاهر في كون مبدء التأجيل هو من حين رفع أمرها للوالي إذ لعل المراد أجلها أربع سنين مبدئها حين الفقد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 511

الثالث [انه لا بد في صحة زواج امرأة المفقود من الفحص عنه اما في الأربع سنين أو بعدها.]

انه لا بد من الفحص من قبل الامام اما في الأربع سنين كما في صحيحة بريد و موثقة سماعة أو بعدها كما هو ظاهر صحيحة الحلبي.

الرابع [انه لا بد الفحص عنه ان كان له مال أنفق على زوجته و لم تطلق منه حتى يعلم موته.]

انه بعد تمام الأربع سنين و الفحص فيها بالمقدار المتعارف فان عرف حاله بنحو تطمئن به النفس فيعمل على طبقه و ان لم يعرف حاله فان كان له مال أجبر الحاكم الشرعي من بيده ماله ان ينفق عليها حتى يعلم حياته من موته و لا سبيل لها ان تتزوج إلى ان ينفذ ماله و ان لم يكن له مال قيل لوليه أو وكيله أنفق عليها فإن أنفق عليها أيضا لا سبيل لها ان تتزوج ما دام ينفق عليها كما هو مقتضى صحيحة بريد و صحيحة الحلبي و رواية دعائم الإسلام و كلام المقنع و بها تقيد موثقة سماعة و غيرها مما لم يشتمل على ذلك. و اما لو تبرع متبرع بالنفقة عليها فلا دليل على وجوب الانتظار حتى يعلم حياته من موته و ان كان ظاهر بعضهم إلحاق صورة التبرع بصورة إنفاق وليه أو وكيله نعم لو قام حاكم بالإنفاق عليها من بيت المال مع عدم الولي له وجب عليها الانتظار لأنه حينئذ يكون هو وليه.

الخامس [ان المطلق لها هو حاكم الشرع.]

انه بعد تمام الأربع سنين و الفحص فيها بحسب المتعارف و لم يكن مال للغائب ينفق عليها و لا وليه ينفق عليها طلقت في حال طهرها و المطلق يكون حاكم الشرع ان لم يكن له ولي و ان كان له ولي أجبره حاكم الشرع على ان يطلقها منه. و قد دل على إجبار الوالي للولي على التطليق في هذه الصورة صحيحة بريد و خبر ابي الصباح و صحيحة الحلبي و خبر دعائم الإسلام و كلام المقنع. و دل على تطليق حاكم الشرع لها عند عدم الولي للغائب في الصورة المذكورة رواية الفقيه المعتضدة بخبر ابي الصباح و خبر دعائم

الإسلام و كلام المقنع فإنه يحصل الوثوق بالصدور و بذلك تقيد الروايات الغير المشتملة على الطلاق كموثقة سماعة مضافا إلى ان تلك الروايات مؤيدة بالروايتين المشتملتين على ان المفقود لا تتزوج امرئته حتى يبلغها موته أو طلاقه أو لحوقه بأهل الشرك. فإنهما يقتضيان تحقق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 512

الطلاق في جواز تزويج امرئته و هو اما ان يكون منه أو من وليه أو من حاكم الشرع.

السادس [ان عدة الطلاق بمقدار عدة الوفاة و لا يجب عليها الحداد.]

أن العدة التي تعتد بها بعد طلاقها من وليه أو من حاكم الشرع هي عدة وفاة أربعة أشهر و عشرة أيام لرواية الفقيه و كلام المقنع الذي هو كالرواية و موثقة سماعة. و لا يجب عليها الحداد إذ لا دليل عليه و لأن العدة انما كانت بعد الطلاق لا بعد الموت.

السابع انه ان جاء زوجها قبل انقضاء عدتها

كان أمرها بيده ان شاء رجع بها و تبين عنه إذا طلقها بعد رجوعه تطليقتين و ان انقضت العدة قبل ان يجي ء فهي تملك أمرها كما عليه المشهور و يدلك على ذلك صحيحة بريد و موثقة سماعة و غيرها

الثامن [عند عدم الحاكم الشرعي يقوم عدول المؤمنين بتطليقها.]

انه قال في أنوار الفقاهة انه لو تعذر البحث عن الحاكم لعدم وجوده أو لقصور يده فالقواعد تقضي بأنها مما ابتليت فلتصبر اقتصار على ما دلت عليه الاخبار و لقوله (ع) امرأة المفقود امرئته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه و لكن يمكن القول بقيام عدول المسلمين مقام الحاكم حسبة لحصول الضرار بدونه بل لا يبعد تولي الأمرية ذلك ثمَّ تعتد بعد ذلك دفعا للضرر و لكنه خلاف ما في الاخبار و فتوى الأصحاب و في الحدائق ردا على صاحب المسالك بعد ان نقل عنه تعيين صبر المرية في هذه الصورة قال لا يخفى ما فيه من الاشكال و الداء العضال و الضرر المنفي بالآية و الرواية الواردتين في أمثال هذا المجال و بهما استدلوا في غير حكم من الأحكام و خصصوا بهما ما كان ثمة من دليل مطلق و عام. و في المحكي عن الوافي ما حاصله انه مع فقد الحاكم أو قصور يده تجب على عدول المؤمنين القائمين مقامه في تولي بعض الأمور الحسبية القيام بذلك و تخرج الآيات و الاخبار الدالة على نفي الضرر و الحرج و الضيق في هذا الدين شاهدا على ذلك انتهى. على انه يمكن الدعوى ان لفظ الوالي في صحيحتي بريد و الحلبي و غيرهما و لفظ السلطان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 513

في خبر ابي الصباح يشمل عدول المؤمنين عند فقد حاكم الشرع لأنهم

هم الولاة على الأمور و لهم السلطنة عليها حينذاك فيكون لفظ الوالي يشملهم كما يشمل حاكم الشرع بالإجماع و ضرورة المذهب. و من هنا يظهر الحال في مسئلة تطليقها و مسئلة اعتدادها فان ظاهر الروايات انها لا بد و ان تكون بأمر الولي.

التاسع [ثبوت التوارث بين المفقود و بين زوجته.]

ان الظاهر هو ثبوت التوارث بينهما لو مات أحدهما قبل انقضاء العدة و دعوى انها عدة وفاة و من شأنها انقطاع العصمة بينهما فاسدة إذ لا نسلم انها عدة وفاة حقيقة و ليس في الأخبار نص على تسميتها بعدة وفاة و انما تشبهها بطول الزمن كيف و حق الرجوع له بها ثابت فهي كالرجعية و الأصل بقاء التوارث بل الحق أنها عدة رجعية لجواز رجوعه بها و هي محبوسة عليه.

العاشر [عدم وجوب الحد حال العدة على المرأة المفقود زوجها.]

انه لا يجب عليها الحد لما عرفت من انها ليست بعدة وفاة و يجب على الغائب النفقة لأنها في الحقيقة عدة رجعية لجواز رجوعه بها نعم لو كانت غير مدخول بها أو طلاق ثالث أو مختلعة فلا نفقة لها.

الحادي عشر [عدم إلحاق بينونة الزوجة المفقود زوجها بعد العدة ببينونة باقي أزواجه.]

قال في أنوار الفقاهة لا يلحق ببينونة الزوجة بعد العدة بينونة أزواجه الباقية اللاتي لم يرفعن أمرهن لحاكم الشرع و لا قسمة مواريثه و لا انعتاق أم ولده و لا وصاياه اقتصارا على مورد النص.

[قسمة ميراث المفقود.]

و لو قلنا بقسمة مواريثه لدليل اقتصرنا عليه أيضا دون الأحكام الباقية و قال في الحدائق و كما خرجت الزوجة بالأخبار المذكورة خرج الميراث أيضا بموثقة سماعة عن أبي عبد اللّه قال المفقود يحبس ماله على الورثة قدر ما يطلب في الأرض أربع سنين فان لم يقدر عليه قسم ماله بين الورثة. و موثقة إسحاق بن عمار قال: قال أبو الحسن (ع) المفقود يتربص بماله أربعة سنين ثمَّ يقسم و هذه الرواية و ان كانت مطلقة بالنسبة إلى طلبه مدة الأربع سنين إلا انه يجب حمل إطلاقها على ما تضمنه الخبر الأول من الطلب تلك المدة حملا للمطلق على المقيد و قد مال جملة من الأصحاب الى هذا القول منهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 514

الصدوق و المرتضى و أبو الصلاح و استوجهه في المسالك أيضا إلا انه اختار فيه القول المشهور و هو ان ينتظر به مدة لا يعيش فيها عادة مع انه لا دليل على ما ذهب اليه المشهور إلا أصالة الحياة الذي يجب الخروج عنه بالنص الذي هو هنا موجود كما عرفت. و لكن صاحب المسالك لم يعتني بالموثقتين المذكورتين لإلحاق الموثق عنده بالضعيف و ترجيح الأصل عليه.

الثاني عشر [متى تملك الزوجة النفقة على زوجها.]

انه لا خلاف بين الأصحاب ان الزوجة تملك النفقة بمجرد التمكين لزوجها منها فلو لم يدفعها اشتغلت ذمة الزوج بها. كما انه لو مكنت زوجها منها و غاب عنها على الصفة التي فارقها عليها أيضا تجب نفقتها عليه بلا خلاف كما في الجواهر و اما ان كان غاب عنها و لم يكن قد دخل بها فحظرت عند الحاكم و بذلت التمكين الكامل فلا تجب النفقة إلا بعد إعلامه لتوقف صدق التمكين

عليه. و في المحكي عن المسالك لو لم يعرف موضعه كتب الحاكم إلى حكام البلاد فان لم يظهر فرض الحاكم نفقتها في ماله الحاضر و أخذ منها كفيلا بما يصرفه إليها لأنه لا يؤمن ان تظهر وفاته أو طلاقه و ناقش في ذلك في الجواهر بأن المتجه سقوطها لعدم حصول التمكين المتوقف على اعلامه المفروض عدمه إذ المشروط ينتفي عند انتفاء شرطه

الثالث عشر [لو ظهر وجود المفقود أثناء العدة.]

لو ظهر وجوده في أثناء المدة أو العدة زال الحكم المذكور و كان حالها حال المرية الغائب زوجها المعلوم حاله لان موضوع الحكم في لسان الروايات هو الغائب المجهول الحال.

[ولاية المجتهد على] الممتنع عن أداء ما عليه من الحقوق

و (منها) ولايته على الممتنع عن أداء ما عليه من الحقوق المستحقة عليه بل حتى على الممتنع عن قبض الثمن المردود له في زمن الخيار في بيع الخيار و نحوه و لم يمكن إجباره عليه فان للحاكم الشرعي ان يتولى قبضه و يفسخ بالخيار بعد قبضه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 515

و كذا بيع ماله للوفاء عنه و ذكر الأصحاب ان البائع إذا حل أجل ثمن المبيع و امتنع عن قبض الثمن قبضه الحاكم الشرعي عن البائع و هكذا في بيع السلم و هكذا في باب الزكاة فإنهم جعلوا للحاكم الشرعي أخذها من الممتنع و تولي النية عنه بدعوى ولايته عليه.

[الممتنع عن أداء الدين.]

بل ذكروا ان الممتنع عن أداء الدين و ما يجب عليه من نفقة و نحوها لحاكم الشرع الولاية على ماله و أداء ذلك منه.

[الممتنع من الشريكين.]

و هكذا ذكروا في باب الشركة انه لو أراد أحد الشريكين القسمة و امتنع الآخر أجبره الحاكم الشرعي أو أمينه عليها مع عدم الضرر و لعل الوجه عندهم هو ولايته العامة

[الراهن إذا امتنع عن الأداء.]

و ذكروا في باب الرهن ان الأجل إذا حل و أراد المرتهن حقه طالب الراهن بالوفاء و لو امتنع الراهن من الأداء و لم يكن المرتهن مفوضا على بيع الرهن من قبله رفع امره لحاكم الشرع ليلزمه بالبيع بالقول أو بالضرب أو بالحبس و نحوها مما يتوقف عليه تحصيل الحق و ليس للمرتهن البيع قبل رفع أمره إلى الحاكم،

[المرتهن الممتنع.]

و هكذا لو أراد الراهن بيعه للوفاء و امتنع المرتهن فالحاكم يلزمه بالاذن و الا تولى أمره الحاكم و لم يذكر أحد لهم دليلا على ذلك غير دعوى عدم الخلاف و فيها ما فيها نعم يمكن ان يستدل لهم بموثق عمار عن الصادق (ع) كان أمير المؤمنين (ع) يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثمَّ يأمر فيقسم ماله بالحصص فإن أبا باعه و قسمه فيهم. و بعموم أدلة الولاية و لا ينافي ذلك موثق إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (ع) في الرهن الذي لا يدري لمن هو من الناس من انه يبيعه. لعدم دلالة له على عدم اعتبار اذن الحاكم الشرعي فيما نحن فيه لأن موضوعه الرهن المجهول المالك و ما نحن فيه هو امتناع الراهن أو المرتهن عن البيع عند حلول الأجل و هكذا الكلام في (موثق عبيد بن زرارة عن الصادق (ع) في الرهن الذي قد غاب مالكه من انه لا يباع حتى يجي ء صاحبه فان موضوعه فيما إذا غاب الراهن فهو أجنبي عما نحن فيه و هكذا الكلام في (موثق ابن بكير) في الرهن الذي انطلق مالكه فلا يقدر عليه من انه حتى يجي ء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 516

صاحبه فإنه أيضا ظاهر فيما إذا غاب الراهن مضافا الى

ان الأخيرين قد أعرض الأصحاب عن إطلاقهما و اما (خبر إبراهيم بن عثمان) عن الصادق (ع) في رجل رهن داره عنده فأراد بيعها فقال (ع) أعيذك باللّه ان تخرجه من ظل رأسه. فلسانه لسان كراهة. على انه لم يعلم منه ان الراهن كان ممتنعا و لعل الظاهر ان مصب السؤال هو الاستفسار عن صحة بيع الدار التي يسكنها الراهن و إبقائه بلا مؤى الذي هو يشبه حالة الإعسار. و هكذا الحال في النفقة الواجبة عليه فإنه في الشرائع ذكر ان الحاكم يجبره على دفعها و ان امتنع حبسه و ان كان له مال ظاهر أخذ منه الحاكم ما يصرف في النفقة من دون اعتبار رضاه و ان كان له عروض أو عقار أو متاع جاز له بيعه لأن النفقة حق كالدين و لعل وجه ذلك هو ثبوت الولاية العامة للحاكم التي من شؤونها رفع الظلم و دفع الفساد.

[المظاهر الممتنع.]

و هكذا المظاهر لامرئته الممتنع عن التكفير و الطلاق فان امرئته ان صبرت على تركه لوطئها فلا اعتراض عليه و ان لم تصبر رفعت أمرها لحاكم الشرع فيحضره و يخيره بين التكفير و الرجعة و بين الطلاق و أنظره للتفكر في ذلك ثلاثة أشهر من حيث المرافعة فإن انقضت المدة و لم يختر أحدهما حبسه و ضيق عليه في المطعم و المشرب حتى يختار أحدهما. و في المحكي عن المسالك و كشف اللثام و الرياض الإجماع و الاتفاق على ذلك بل المحكي عن نهاية المرام ان هذه الاحكام مقطوع بها في كلام الأصحاب و استدل لها بموثق أبي بصير قال سئلت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل ظاهر من امرأته قال ان أتاها فعليه عتق رقبة أو

صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا و إلا ترك ثلاثة أشهر فإن فاء و إلا أوقف حتى يسئل أ لك حاجة في امرأتك أو تطلقها فان فاء فليس عليه شي ء و هي امرأته و ان طلق واحدة فهو أملك برجعتها

[الممتنع في الإيلاء.]

و هكذا الممتنع في الإيلاء عن الطلاق و الرجوع بها بعد انقضاء مدة التربص التي هي أربعة أشهر فإن الحاكم الشرعي يجبره بالحبس أو التضيق عليه حتى يفي ء أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 517

يطلق و قد حكى صاحب الجواهر عدم الخلاف في ذلك و الاخبار متظافرة على ذلك ففي خبر غياث عن الصادق كان أمير المؤمنين (ع) إذا أبى المولي ان يطلق جعل له حظيرة من قصب و أعطاه ربع قوته حتى يطلق. و مثله خبر حماد بن عثمان و في مرسل خلف بن حماد عن الصادق (ع) في المولي اما ان يفي ء أو يطلق فان فعل و إلا ضربت عنقه. و روي عن أمير المؤمنين (ع) انه بني حظيرة من قصب و جعل فيها رجلا آلي من امرئته بعد الأربعة أشهر فقال له اما ان ترجع إلى المناكحة و اما ان تطلق و إلا أحرقت الحظيرة. و في الصحيح عن الباقر (ع) و الصادق (ع) إذا آلى الرجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول و لا حق في الأربعة أشهر و لا اثم عليه في كفه عنها في الأربعة أشهر فإن مضت الأربعة أشهر قبل ان يمسها فما سكتت و رضيت فهو في حل وسعة و ان رفعت أمرها قيل له اما ان تفي ء و اما ان تطلق الخبر.

[الممتنع عن تفسير إقراره.]

و هكذا الممتنع عن التفسير في الأقارير المبهمة فان المحكي عن المشهور ان الحاكم يحبسه حتى يفسر ما أقر به و حكي عن الشرائع و التحرير انه المروي و هو شهادة منهما على وجود رواية به و الشهرة تجبر إرسالها و احتمل صاحب مفتاح الكرامة انهما أرادا الخبر المشهور بين

الفريقين و هو قوله (ص) (لي الواجد يحل عرضه و عقوبته) و في نقل آخر و حبسه و لا تفاوت بينهما فان الجنس من أنواع العقوبة و وجه الاستدلال به ان الجواب عن الإبهام واجد له و قادر عليه إلا ان يقال ان الخبر ظاهر في المال لا في الجواب. و ذهب الشيخ و ابني زهرة و إدريس الى أن الممتنع المذكور يجعل ناكلا لأنه إذا سكت و لم يفسر فقد نكل عن الجواب و اليمين معا و ان العناد فيه أشد.

[الممتنع عن تعمير الأرض.]

و هكذا الممتنع عن تعمير الأرض يجبره الامام على احد الأمرين اما الاحياء و اما التخلية بينهما و بين غيره و لو امتنع أخرجها من يده لئلا يعطلها.

قال (جدي العباس بن على) في كتابه موارد الأنام في شرح شرائع الإسلام انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 518

لا خلاف يعرف في ذلك حذرا من التعطيل المنافي للغرض منها و هو الانتفاع العام لسائر الناس على أن أدلة التحجير لم يكن فيها ما يقتضي جواز ذلك على نحو تحجير الأرض للزراعة مثلا بل لعل ما فيها مقتضي لعدم ذلك كما هو هنا ثمَّ استثنى من ذلك ما لو ذكر عذرا أنظره السلطان بقدر زواله ثمَّ ألزمه أحد الأمرين، فان لم يفعل أحدهما و لم يمتثل سقط احترام تحجيره و جاز لغيره إتمام عمله بإذن الإمام (ع) إن كان ذلك راجعا اليه كما هو أحد القولين و إلا لم يفتقر الى اذنه كما هو الحكم في سائر المشتركات هذا كله مع كون العذر الذي أبداه مقبولا عند العقلاء غير موجب للتعطيل المنافي للغرض المزبور؟؟ و قال في الجواهر و الذي عثرنا عليه مناسبا

لذلك مضافا الى بعض القواعد التي يمكن تقريرها هنا. خبر يونس عن العبد الصالح (ع) إن الأرض للّه تعالى جعلها وقفا على عباده فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية لغير ما علة أخذت من يده و رفعت الى غيره الحديث. و إن كان هو غير منطبق على تمام ما سمعت و تحقيق الحال يطلب من كتاب أحياء الموات.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 1، ص: 518

[الممتنع عن المصالحة.]

(و هكذا الممتنع عن المصالحة) فيما لو اختلط ماله بمال غيره و لم يعلم التالف ماله أو مال غيره فان تراضيا بالصلح فهو و إلا أجبرهما الحاكم الشرعي بالصلح بما يراه عدلا بينهما و علل القوم ذلك بكون الحاكم الشرعي ولي الممتنع و يدل على ذلك رواية السكوني فيمن استودع دينارين و استودع آخر دينارا فامتزجت الثلاثة و تلف أحدهما بغير تفريط من المستودع فإنها تدل على اختصاص صاحب الدينارين بواحد و تنصيف الآخر بينهما. و لما ورد في صحيحة ابن المغيرة في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، و قال الآخر: بيني و بينك من ان أحد الدرهمين للأول و الآخر بينه و بين صاحبه من غير تعرض لليمين منهما أو من أحدهما. و لما في رواية إسحاق بن عمار فيمن اشترى ثوبا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 519

بعشرين و الآخر ثوبا بثلاثين فاشتبها انه يباع الثوبان و يعطي صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، و صاحب العشرين خمسي الثمن، فان الظاهر من الجميع وجوب المصالحة القهرية.

[الوارث إذا امتنع عن دفع قيمة البناء للزوجة.]

(و هكذا لو امتنع الوارث عن أن يدفع للزوجة قيمة البناء و الشجر و النخل و كل ما تستحق قيمته) من ان للحاكم إجباره على دفع القيمة أو البيع عليه قهرا. و قد حكم بذلك في الجواهر و أرسله إرسال مسلمات قائلا: كغيره من الممتنعين عن أداء الحق. فإنه يظهر من ذلك ان الحكم ضروري عندهم.

ولاية المجتهد على الميت

و (منها) ولايته على الميت فيما إذا لم يكن له ولي أو كان و لكنه كان ممتنعا أو كان و لكن يتعذر الوصول اليه و توضيح ذلك و تحقيقه ان ما يخص الميت من الأحكام التي كان الخطاب فيها موجها لعموم المسلمين بنحو الكفاية سواء في المستحبات منها أو الواجبات كالاستقبال به حال الاحتضار و تغسيله و تكفينه و تلقينه و الصلاة عليه و دفنه و نحو ذلك ان اولى الناس بها هو أولاهم بميراثه كما هو المحكي عن القواعد و اللمعة و عن النهاية و المبسوط و المهذب و المعتبر بأن أولى الناس بأحكام الميت بأجمعها أولى الناس بميراثه. و عن جامع المقاصد ان الظاهر انه إجماعي و عن الخلاف و ظاهر المنتهى دعوى الإجماع عليه و استدلوا لذلك بعموم قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ*.

و عليه فلو امتنع الولي يكون قد أسقط حقه و يكون نظير ما لو لم يكن للميت ولي أو كان و لكنه غائب يتعذر أخذ رأيه و لكن في هذه الصور وقع الكلام هل تكون لحاكم الشرع ولاية على الميت و تكون هذه الأمور ترجع لنظره نظير وليه المتصدي لها أم لا. ذهب بعضهم كالمرحوم الهمداني إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 520

العدم لعدم الدليل على ذلك بعد

انصراف الأدلة عن الحاكم الشرعي و لأن حق الولاية من الحقوق المتقومة بنفس صاحب الحق فيتعذر استيفاءه بولاية الغير و ذهب بعضهم الى ثبوت الولاية له على ذلك لما ورد من ان العالم ولي من لا ولي له الذي تقدم الكلام في دلالته و سنده في الطائفة السادسة من أدلة الولاية و هو يدل على ان الأمر الذي قد جعل الشارع له وليا إذا فقد كان العالم وليا عليه و لأنه في صورة عدم الوارث له. و قلنا: بأن حاكم الشرع في زمن الغيبة وارث من لا وارث له كالإمام فيكون وليه حينئذ هو حاكم الشرع في هذه الصورة. و لأن الأمور المذكورة تكون من الأمور الحسبية و قد تقدم و يجي ء الكلام فيها. و في المحكي عن الذكرى و المسالك: (و لو لم يكن ولي فالإمام وليه مع حضوره و مع غيبته فالحاكم و مع عدمه فالمسلمون)، هذا مع قطع النظر عن ثبوت ولاية الفقيه العامة، و إلا فمع ثبوتها فهي كما عرفت مقدمة على ولاية الولي كما تقدم في مبحث تزاحم ولاية الحاكم الشرعي مع غيره.

[ولاية المجتهد على الصلاة على الميت.]

(ثمَّ لا بأس بالتعرض للصلاة عليه على حدة) فنقول: إن الصلاة عليه قد حكي الإجماع على تقديم الإمام الأصلي على غيره فيها، بل المحكي عن كشف اللثام انه ضروري المذهب. و لقول الصادق (ع): إذا حضر الإمام الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها. و في مرسل الدعائم عن أمير المؤمنين (ع): إذا حضر السلطان. و في نسخة (الإمام) الجنازة فهو أحق بالصلاة عليها من وليها.

و تقديم الحسين (ع) سعد بن العاص في الصلاة على الحسن (ع) قائلا له لو لا السنة لما قدمتك لعله لإطفاء الفتنة كما حكاه

في الجواهر عن الذكرى فان من السنة اطفائها على انه غير ثابت عندنا. و باب التقية باب واسع. على انه مناف لما دل على ان المعصوم لا يصلي عليه إلا المعصوم الظاهر في كونه يصلي عليه مستقلا لا مؤتما بغيره. (إن قلت): إن خبر السكوني عن الصادق (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 521

قال: قال أمير المؤمنين (ع): إذا حضر سلطان من سلاطين اللّه جنازة فهو أحق بالصلاة عليها إن قدمه الولي و إلا فهو غاصب فإنه يدل على ان الولي أولى من الامام، و إن صلاة الإمام مشروطة بإذن الولي.

قلنا: إن الخبر ضعيف فلا يعمل به في مقابل ما ذكرناه. و إذا ثبت ذلك للإمام ثبت للمجتهد الذي يستحق الزعامة الدينية في عصر الغيبة و ذلك للأدلة التي أثبتنا بها قيامه مقام الامام (ع) في شؤون إمامته.

ولاية المجتهد على نصب الأمين للرهن

(و منها) ولايته على نصب أمين للرهن، و توضيح ذلك ان ظاهر أكثر الفتاوى عدم استحقاق المرتهن وضع الرهن عنده. و عليه فلكل من الراهن و المرتهن الامتناع من استيمان صاحبه و لا يحل لأحدهما استيمانه عنده بدون اذن الآخر لتعلق حق الملك للراهن به و حق الاستيثاق للمرتهن به حتى انه لو اذن الراهن للمرتهن في حفظه فمات المرتهن فللراهن الامتناع من استيمان وارث المرتهن مع عدم اشتراط المرتهن حق حفظه لوارثه لكونه استيداعا و الوديعة تنفسخ بموت الودعي فإذا لم يتفق الراهن و المرتهن على أحدهما و لا على غيرهما رفع أمرهما لحاكم الشرع فاما يجعله عنده أو ينصب أمينا عدلا غيرهما و لو كان لأحدهما مرجع العدالة على الآخر ففي جواز نصب الحاكم له وجهان أظهرهما جواز النصب لا لترجيحه بالعدالة بل

لكونه بواسطة العدالة يصح نصبه و الظاهر انه في المقام لا دليل لهم على ذلك إلا الإجماع و إن كان لم أر أحدا ادعاه و لكن ارسالهم لهذا الحكم أعني (ولاية الحاكم على ذلك) يشعر بإجماعهم عليه. و لعل مستندهم في ذلك هو ما دل على ولايته العامة فيما يتعلق بمصالح المسلمين.

[فيما لو طلب المودع عنده الرهن رد الرهن.]

هذا و في المحكي عن بعض الفقهاء انه لو أودعاه عند عدل و طلب ذلك العدل رده إليهما فامتناعا عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 522

قبضه أجبرهما حاكم الشرع على قبضه أو قبضه عنهما.

[لو تشاح الشريك و المرتهن في إمساك الرهن.]

و هكذا لو رهن مشاعا و أذن للمرتهن في قبضه و تشاح الشريك و المرتهن في إمساكه انتزعه الحاكم الشرعي.

فأما أن يجعله عنده أو عند أمين عدل. و لعل الوجه فيه هو ولاية الحاكم الشرعي فيما يتعلق بالمصالح العامة أو كونه ولي الممتنع. أو لما ذكره في الجواهر من أن قوله (ع): فإني قد جعلته حاكما يقتضي ذلك لأن الحاكم هو المعد لقطع مثل ذلك النزاع الذي يجب على الشارع حسم مادته لما يترتب عليه من المفاسد.

و منه يظهر أن حكومة الحاكم لا تختص بما كان من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بل هي أعم من ذلك ضرورة عدم المعروف في الفرض إذ لا يجب على أحد الشريكين الاذن للآخر في القبض أو لمن يريده أحدهما فتشاحهما لا معصية فيه

[فيما إذا اختلفا فيما يباع به الرهن.]

و منه يظهر ما ذكره الفقهاء فيما إذا انحصر الوفاء ببيع الرهن اختيارا من المتراهنين أو لامتناع الراهن من الوفاء و نحو ذلك فاختلفا فيما يباع به بأن اختار كل منهما جنسا من الثمن غير جنس الآخر. فان ظاهر كلماتهم عدم ترجيح أحد الإرادتين على الأخرى لاجتماع الحقين في عين الرهن و انتفاء المرجح من البين فيلزمها الحاكم الشرعي بالبيع بالنقد الغالب في البلد قطعا للنزاع بينهما.

و ربما يستشكل بأن تعين النقد الغالب عليها مع انحصار الحق بهما و عدم رضائهما به مما لا وجه له لأنه إن كان لقطع الخصومة فقطعها غير منحصر بالنقد الغالب بل يمكن بالنقد المجانس للحق أو الأوفر حظا و الأقرب عرفا. و لعل نظرهم بأن الموجب لمراعاة النقد الغالب و إلزام الحاكم به ليس هو مجرد قطع النزاع بين المتراهنين بل لأن عقد الرهان متضمن للزوم بيع

الرهن عند الاحتياج الى بيعه و الاستيفاء من ثمنه سواء صرح بذلك أم لا، و لا ريب في ان إطلاق البيع المأذون فيه ضمنا ينصرف إلى كونه بالنقد الغالب كانصرافه الى ثمن المثل فرد الحاكم لهما إلى النقد الغالب رد إلى ما التزما به من البيع المقيد بثمن معين جنسا و قدرا لا اقتراحا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 523

لمجرد قطع النزاع و الخصومة.

ولاية المجتهد على نصب الوصي للميت
اشارة

و (منها ولايته على نصب الوصي للميت و الناظر عليه) ذكر الفقهاء ان لحاكم الشرع الولاية على نصب الوصي للميت فيما إذا جن الوصي أو مات أو عجز عن التصرف لكبر أو مرض أو سفه بحيث لا يتمكن من المباشرة و لا الاستنابة و لو بالاستيجار و نحوه و لعل الوجه في ذلك مضافا للإجماع هو سقوطه عن الولاية على الموصى به فإن الوصاية هي جعل الولاية بعد الموت للوصي، و المذكورون لا يصلحون لها فيكون الموصى به بلا ولي عليه و الحاكم ولي ما لا ولي له و هو المتولي لمصالح المسلمين و القيم على أمورهم لولايته العامة. نعم لو عجز عن بعض التصرفات دون بعض فالحاكم الشرعي إنما يضم له أمينا للقيام بما عجز عنه. و هكذا لو فسق الوصي بناء على اعتبار العدالة في الوصي (كما عن المشهور بل عن الغنية الإجماع عليه). فإنه لو فسق لم يصلح حينئذ للولاية فيبقى الموصي به بلا ولي و الحاكم ولي ما لا ولي له. و هكذا لو اشترط الموصي فقاهة الوصي أو عدالته أو نحو ذلك فإنه لو زال الشرط ينتفي جعل الوصاية له لأن المشروط عدم عند عدم شرطه فيرجع الأمر لحاكم الشرع، و هكذا لو

ظهرت خيانته فإنه يعزله الحاكم الشرعي و ينصب غيره و الظاهر عدم الخلاف في ذلك و وجهه على القول باشتراط عدالة الوصي واضح، و أما على القول بعدم اشتراطها فحيث ان الوصاية بحسب ظاهر الحال إنما أعطاها المسلم له على الأموال و حقوق الغير لأمانته و عدم خيانته فيخرج عن أهليته للوصاية باتصافه بالخيانة. مضافا الى أن الحاكم الشرعي باعتباره المتولي لمصالح المسلمين و المرجع في شؤونهم فيجب عليه مراعاة حقوق الأطفال و أموال الصدقات و نحوها و حفظها عن التعدي و لا يتم ذلك إلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 524

بعزل الحاكم له و منعه من التصرف فوجب عليه عزله و اقامة غيره مقامه و (دعوى) ان هذا لا يتم فيما لو علم الموصي بخيانة الوصي فأوصاه، على أن ذلك لا يقتضي عزله بل غايته منعه من الاستقلال فيضم الحاكم اليه غيره كما عن بعض المتأخرين (مدفوعة) بأن الوصاية استيمان و ولاية بعد الموت و قد جعلها الشارع للمحافظة على الحقوق و حفظ المال عن صرفه في غير مورده فهي غير مجعولة شرعا للخائن و من هنا يظهر انعزاله بالخيانة و لا وجه لعدم عزله و الاكتفاء بضم الحاكم إليه فإن الضم إنما يصح مع عجز الوصي لا مع خروجه عن الأهلية. و هكذا ذكروا ان الإنسان لو مات و لا وصي له و له أطفال و لا ولي إجباري عليهم أو له وصايا من الغير أو غير ذلك مما يحتاج إلى الولي يكون المرجع في ذلك هو الحاكم الشرعي لأنه ولي من لا ولي له هذا كله مع كون الوصي منفردا و أما إذا لم يجعله منفردا فتارة يطرأ العجز

أو الموت أو نحو ذلك مما يسقطهم عن الوصاية فالحكم هو كما في صورة الانفراد، و إن طرأ على أحدهم ذلك

فالكلام يقع و على وجوه ثلاثة:
(أحدها) [تنصيب الموصي ناظرا على الوصي]
اشارة

أن يجعل الموصي على الوصي شخصا آخرا يكون صرف الوصي باطلاعه حذرا من خيانته و لم يكن له مدخل في التصرف و لا في الاذن فيه و يسمى بالناظر و قد يعبر عنه بالمشرف

[فيما إذا خرج الناظر عن صلاحيته للنظارة.]

و حينئذ فلو مات الناظر أو خرج عن صلاحية النظارة و الأشراف بواسطة جنونه أو عدم قدرته أو هرمة أو نحو ذلك فهل يستقل الوصي بالتصرف أو يجب رفع أمره للحاكم الشرعي الظاهر هو الثاني لعدم اعتماد الميت على الوصي استقلالا فلا يصح منه التصرف منفردا لأنه تغير للوصية و تبديل لها فلا بد له من مراجعة من هو ولي الأمر و هو ينصب عليه ناظرا. (إن قلت): انه لا ولاية للحاكم مع وجود وصي الميت. و مقتضى وصايته استقلاله. و شرطية اشراف الغير عليه مقيدة بحال الإمكان و إلا لبطلت وصايته لانتفاء شرطها فينبغي استقلال الحاكم بالوصية لا جعل ناظرا عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 525

مع انه لم يقل بذلك أحد.

قلنا: ان هنا جعلان: جعل الوصية، و جعل النظارة فتعذر أحدهما إنما يقتضي سقوطه بخصوصه و لا يقتضي عزل الوصي حتى يرجع الأمر للحاكم الشرعي و لا يقتضي إلغاء ما اشترطه من عدم استبداد الوصي في عمله لكونه مخالفة لمقتضى الوصية فلا بد من الرجوع في هذه الناحية لمن بيده مجاري الأمور و هو الفقيه الجامع للشرائط فيعيّن ناظرا عليه. مضافا الى أن هذا هو القدر المتيقن في التصرف بمال الميت. (و من هذا يظهر) صورة امتناع الناظر عن النظارة فان الواجب على حاكم الشرع أن يجبره على ذلك و إن لم يقدر على ذلك نصب ناظرا مكانه.

(ثانيها) أن يجعل الوصاية لكل منهما مستقلا

ففي هذه الصورة لو خرج أحدهما عن الأهلية أو مات فالوصي الآخر يكون هو المرجع و لا ينصب مكانه وصيا آخرا لثبوت الوصاية للباقي على نحو الاستقلال.

(ثالثها) أن يجعل الوصاية لكل منهما مجتمعين
اشارة

بأن يجعل الوصاية لهما معا بمعنى تعلقها بالمجموع بأن يكون مجموعهما وليا واحدا بحيث يكون كل منهما جزء وصي أو يجعل الوصاية لكل منهما بشرط الاجتماع في التصرف بمعنى صدوره عن رأيهما جميعا. فإنه في هذه الصورة بأي نحو كان الجعل لو مات أحدهما أو خرج عن الأهلية فقد يقال بلزوم استقلال الحاكم الشرعي بالوصاية لأن الوصي الموجود مشروطة وصايته بالآخر و قد عدم هذا الشرط و المشروط عدم عند عدم شرطه و قد يقال ان على الحاكم الشرعي أن يضم اليه من يقوم مقام الآخر إذ لا يشرع للوصي إنفاذ الوصية منفردا لاشتراط الموصي عدم الانفراد فلو انفرد كان تبديلا للوصية فلا مناص له من الرجوع الى الحاكم الشرعي لأنه المرجع في أمور المسلمين فاذا رجع اليه فالواجب على الحاكم الشرعي أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 526

ينفذ الوصية حسب ما أراده الوصي قدر الإمكان، و حيث أن الموصي قد قدم هذا الموجود على الحاكم الشرعي حيث انه قد أوصاه فإذن لا بد للحاكم الشرعي من إبقاء الوصي على وصايته. و حيث ان الموصي لا يرضى باستقلال هذا الوصي، فلا مناص من تعين الحاكم أمينا بدلا عن المفقود يضمنه الى الموجود مضافا الى أن هذا مقطوع بصحته و لا نقطع بالصحة مع الاستقلال و اللازم هو الاقتصار في التصرف بمال الغير على القدر المتيقن صحته هذا و المنسوب إلى الأكثر في هذه الصورة هو استقلال الوصي الموجود بالوصاية فظهر ان الأقوال ثلاثة و (الحق)

هو الأول فان الموصي إنما قدم الأول على نظر الحاكم عند ما كان منظما لما عينه معه لا عند فقده و خروجه عن الأهلية كما ان الثاني هو الأحوط. و من هنأ يظهر لك الحال فيما لو مات الوصيان فإنه للحاكم ان ينصب واحدا مكانهما.

[لو تشاح الأوصياء]

(كما انهم ذكروا) في ان الوصيين المذكورين لو تشاحا و تعاسرا و لم يتفقا على التصرف و العمل بالوصية بنحو واحد يجبرهما الحاكم الشرعي على الاجتماع لأنه المتولي لمصالح المسلمين و المعد لحسم مثل ذلك لأدلة الولاية العامة فإن تعذر اجتماعهما عزلهما و استبدل بهما غيرهما لان شرط ولايتهما على شؤون الميت و على أمواله اجتماعهما و مع انتفائه ينتفي المشروط و يكون المال بلا ولي. و الحاكم الشرعي ولي من لا ولي له. و لكن يمكن ان يورد على ذلك بأمور:

(أحدها) ما عن الروضة من أن هذا لا يتم ببناء على المشهور من اشتراط عدالة الوصي لأنه بتعاسرهما يفسقان لوجوب المبادرة إلى تنفيذ الوصية مع الإمكان فيخرجان بالفسق عن الوصية و يستبدل بهما الحاكم الشرعي فلا يتصور إجبارهما على هذا التقدير و أجاب عنه غير واحد بأن محل كلام القوم هو التشاح بينهما بحسب ما يراه أحدهما من المصلحة غير ما يراه الآخر و هو لا يوجب فسقهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 527

و انما الموجب للفسق هو التشاح عنادا و تشهيا. (ثانيها) انه لا وجه للإجبار لأن حقيقة الإجبار هو حمل الإنسان على فعل ما يكره و لا يتصور في المقام لأنه إن أرادوا جبر أحدهما على موافقة صاحبه على الرأي و ان اعتقد خلاف المصلحة بالموافقة فهو ليس من الجبر لهما بل هو من

الاذن لأحدهما بالانفراد حيث لا اعتراض عليه من الآخر على هذا التقدير و ان أراد و أجبرهما على رأى مخالف لرأيهما فهو غير جائز لأنه يكون هذا استبدال لهما بغيرهما لا جبرا على الاجتماع. و يمكن الجواب عنه بأن المراد بالجبر على الاجتماع هو جبرهما على اعادة النظر و اجالة الرأي رجاء لتحصيل الموافقة بينهما و يكون المراد بتعذر اجتماعهما هو عدم حصول الاتفاق في النظر بينهما و عليه فلا وجه لما في الجواهر من التزام جبر الحاكم لهما بما هو الأصلح عنده في نظره و مع التساوي يتخير فان هذا رجوع لأحدهما لا جبرا على اجتماعهما. (ثالثها) ان ذهاب المشهور الى الاستبدال بهما مع تشاحهما و عدم اجتماعهما مناف لما مر من ذهابهم من انه لو مرض أحدهما أو عجز ضم الحاكم إلى الآخر من يعينه و انه لو مات أو و فسق استقل الآخر بالوصاية و ذلك لأنه أيضا لا يمكن اجتماعهما فعدم إمكان الاجتماع لو كان موجبا للاستبدال فكذا في صورة العجز أو الفسق أو الموت أو المرض ينبغي الفتوى منهم بالاستبدال.

و الحاصل انهم كان عليهم اما ان يلحقوا تلك الأحوال في الحكم بحال تعذر الاجتماع أو يحلقوا حال ما نحن فيه من تعذر الاجتماع بتلك الأحوال فيكون الواجب فيما نحن فيه هو جعل أحدهما مستقلا و هو ما يكون أرجح في نظر الحاكم و مع التساوي يختار أحدهما أو يضم له أمينا هذا و لكن هذا الإيراد لا يرد على ما اخترناه فيما نحن فيه حيث اخترنا في المقامين الرجوع إلى نظر الحاكم الشرعي و زوال الوصاية و الولاية عنهما.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 528

ولاية المجتهد على من لا ولي له في الدم

و (منها ولايته

على من لا ولي له في الدم) فقد ذكر الفقهاء ان حاكم الشرع ولي من لا ولي له في الدم فيقتص ان قتل عمدا و لو قتل خطأ أو شبيه بالعمد فله استيفاء الدية. و ذلك لما في صحيحة أبي ولاد أو حسنته. في مسلم قتل و ليس له ولي مسلم على الامام ان يعرض على قرابته الإسلام فمن أسلم فهو وليه يدفع اليه القاتل ان شاء قتل و ان شاء عفى و إن شاء أخذ الدية فان لم يسلم أحد كان الامام ولي أمره ان شاء قتل و ان شاء أخذ الدية يجعلها في بيت مال المسلمين إلى ان قال: فان عفى عنه الامام. قال (ع) انما هو حق لجميع المسلمين و انما على الامام أن يقتل أو بأخذ الدية و ليس له العفو.

(العشرون: من أحكام المجتهد و الاجتهاد) وجوب الفتوى بالتخير و القضاء بالتعيين (عند التعارض بين الامارات)

اشارة

لا يخفي انه بناء على التخير في صور تعارض الأمارتين المتكافئين فلا إشكال في ان المجتهد بالنسبة لعمل نفسه يكون مخيرا بينهما. و اما بالنسبة إلى إفتائه و قضائه

فالكلام يقع في مقامين
(الأول في مقام الإفتاء) [عند تعارض الأمارات.]

فهل يفتي بالتخير في العمل أو ان التخير ثابت له فقط و يفتي بمضمون أحد الخبرين الذي اختاره حكى في الرسائل ذهاب المشهور إلى الأول أعني لزوم أن يفتي المجتهد بالتخير في صورة تكافؤ المتعارضين مستدلين على ذلك.

أولا بأن نصب الشارع للأمارات و طريقتها يشمل المجتهد و المقلد فالخطاب الأصولي كالخطاب الفرعي متعلق بنوع المكلفين من غير فرق بين المجتهد و المقلد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 529

فالخطاب بالتخير لا يختص بالمجتهد غاية الأمر، إن العامي لا يقدر في زماننا هذا على تشخيص مدلول الخبر و شرائط العمل به و دفع معارضاته و المجتهد قادر على ذلك فيكون المجتهد نائبا عن العامي في ذلك و وجب على العامي الرجوع إليه لمعرفة الحكم الشرعي فهذا الاختصاص بالمجتهد و التعيين عليه أمر طارئ لا يمنع من الحكم بالتخير بعد عموم أدلته للعامي و المجتهد نظير اختصاص العمل بالخبر بالمجتهد فإنه عرضي لا يمنع من عموم مؤداه الذي هو الحكم الفرعي للمجتهد و العامي. و قد أجيب عن ذلك بأن الحكم بالتخير بين المتعارضين حكم أصولي كالحكم بوجوب العمل بخبر الواحد و كالحكم بالترجيح للراجح منهما، فإن العامي لا يقدر على العمل بها بخلاف الحكم الفرعي كالحكم بوجوب رد السلام فإن العامي يقدر على العمل به فلذا كان الحكم الأصولي مختص بالمجتهد دون العامي بخلاف الحكم الفرعي.

و الحاصل إن التخير بين الأمارتين المتعارضين تخير في المسألة الأصولية بمعنى انه تخير في أخذ الحكم من أحدهما

و استنباطه منه و هذا لا يقدر عليه العامي فهو يغاير التخير في المسألة الفرعية فإنه تخير في العمل بالتكليف كالتخير بين القصر و الإتمام في المواطن الأربعة أو خصال الكفارة فالأول يختص بالمجتهد كالخطاب بالترجيح للراجح من المتعارضين فإنه يختص بالمجتهد و كالخطاب بالحدود المتوجه للحكام فلا تعلق لهذا الحكم بالعامي فلذا لا يصح للمجتهد أن يفتي به للعامي بخلاف التخير في المسألة الفرعية فإن العامي قادر عليه و متمكن من امتثاله. إن قلت:

إن الخطابات الشرعية بالمسائل الأصولية متوجهة للعوام أيضا فإن العوام في عصر النبي (ص) و الأئمة (ع) كان يرجعون للأخبار المروية عنهم (ص) و يعملون بها و يعالجون متعارضاتها بما ورد عنهم (ع) كما يعمل بها المجتهدون بل المخاطب في كثير منها العوام.

قلنا: نعم لكن في هذه الأعصار التي كثرت فيها الاختلاطات و الأفكار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 530

و تشتت الآراء و الأنظار صار العوام لا يقدرون على تشخيص مدلول الخبر و إحراز شروط العمل به و دفع معارضاته بخلاف عصور المعصومين (ع) ثمَّ إنا لا نسلم ان المخاطبين بها كانوا غير مجتهدين كيف و هم يسألون عن الخبرين عند تعارضهما و المرجحات لأحدهما على الآخر و بهذا ظهر لك ما في كلام المرحوم الآخند (ره) حيث ذهب فيما نحن فيه الى عدم جواز الإفتاء بالتخير في المسألة الفرعية بأن يقول أنت مخير في هذه الواقعة لعدم الدليل عليه فيها و جواز الإفتاء بالتخير في المسألة الأصولية، و حينئذ للمقلد أن يختار غير ما اختاره مجتهده من المتعارضين و يعمل بما يفهم مما اختاره بصريحه أو بظاهره إن كان ممن قام عنده حجية الظواهر و إلا رجع

للمجتهد في تعين مدلوله كما رجع إليه في معرفة ان مورده من موارد التخير و لا يخفي ما فيه لما عرفته و لما ستعرفه في تحقيق القول الثاني من أن الاحكام الأصولية التي ترجع للاستنباط مختصة بالمجتهدين مضافا الى أن هذا يلزم منه الاجتهاد في المسألة مع أن مقدماته تقليدية و المشهور عدم جواز ذلك.

(و ثانيا) إن الإفتاء بالحكم الذي هو مضمون أحدهما على سبيل التعين مع عدم تعيينه على العامي كما هو الفرض إفتاء بغير حكم اللّه تعالى لأن اللّه تعالى لم يعينه عليه فلا يجوز للمجتهد ذلك لأن الفتوى بغير ما أدى اليه نظره تشريع محرم بالأدلة الأربعة لكونه إدخال ما ليس من الدين في الدين. و فيه ما عرفته في الجواب عن الحجة الاولى من أن التخير لم يكن حكما للعامي و إنما هو حكم مختص بالمجتهد نظير أحكام المسافر المختصة به و حينئذ فيختار المجتهد أحد الخبرين و يعين حكم المسألة منه ثمَّ يشاركه المقلد في ذلك الحكم و إلا فقبل الاختيار لم يشخص حكم الواقعة المتعارض فيها الأخبار حتى يفتي به. و ذهب العلامة إلى الثاني في محكي التهذيب و هو الفتوى بمضمون أحدهما فقط دون التخير بين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 531

مضمونيهما و قد استدل على ذلك بما تقدم من أن التخير مختص بالمجتهد لعجز العامي عن العمل به. و إن اختيار المجتهد لأحدهما يكون هو الطريق التعبدي للحكم الشرعي المشترك بينهما. و أجيب عنه بأن الذي يجب اتباعه إنما هو رأي المجتهد لا ما اختاره في مقام عمله فإذا رأى المجتهد تكافؤ الخبرين و إن الحكم عند التكافؤ جواز الأخذ بمضمون كل منهما و

اطلع المقلد على ذلك جاز له تطبيق عمله على ذلك و إن لم يخبره المجتهد بذلك أو أخبره بخلافه. و الحاصل انه لا دليل على أن اختيار المجتهد بمنزلة الطريق التعبدي لإثبات متعلقه و صيرورة المتعلق تكليفا تعينيا منجزا على العامي مع أن المجتهد لا يراه في الواقع كذلك و إنا لا نسلم اختصاص الخطابات المتعلقة بالطرق بالمجتهدين و الا فيتطرق البحث إلى الأحكام الواقعية الأولية أيضا. و يقال انها لا تتعلق بالجاهل القاصر عن معرفتها فتلخص ان العوام مكلفون بالعمل بالخبر الواحد السليم عن المعارض و بأحد الخبرين المتعارضين أو بأرجحهما مزية بالعمل. و بقول اللغوي: في ان الصعيد وجه الأرض و بتقديم العرف على اللغة، و بإجراء الاستصحاب و سائر الأصول في موردها و نحو ذلك فإنها كالأحكام الواقعية متعلقة بالجميع غاية الأمر ان العوام عاجزين عن التشخيص بها فينوب عنهم المجتهدون و ذلك لأنها بأجمعها أحكام شرعية إلهية و جميع المكلفين فيها شرع سواء و حكم اللّه تعالى في الأولين و الآخرين سواء و حكمه على الواحد و الجماعة سواء. نعم إنها لا تتنجز إلا بعد إمكان العلم بها أو إمكان الرجوع الى العالم في معرفتها ففي أصل تعلق الأحكام لا تفاوت بين الناس و كذا لا تفاوت بينهم في عدم تنجزها مع العجز عن الوصول إليها و كذا في تنجزها مع تيسر العلم بها بلا واسطة كالمجتهد أو مع الواسطة كالمقلد. و عليه فاللازم حينئذ على المجتهد بيان حكم الواقعة للمقلد و من الواضح إن حكمها هو التخير فكيف يفتي بالمعين الذي ليس هو حكم اللّه لا في حقه و لا حق مقلده. و بعبارة أخرى

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 1، ص: 532

إن دعوى اختصاص حكم التخير بالمجتهد. إن كان من جهة دعوى عجز العامي عن العمل بها و العاجز غير مكلف كما لو كان عاجزا في الفرعيات فإنه غير مكلف بها فلا يخفي ما فيه لأن عجزه انما كان من جهة عدم العلم و هو لا يوجب الاختصاص بغيره الذي هو المجتهد كما نشاهد في ذلك العامي القاصر العاجز عن معرفة التكاليف الشرعية الفرعية فإنه كما يجب عليه إن يرجع لمن يعلمها كذلك يجب في تلك أن يرجع لمن يعلمها فهو غير عاجز في الحقيقة لإمكانه الوصول إلى من يعلمها. و إن كان من جهة أن المجتهد عليه أن يفتي بمؤدى ما اختاره لنفسه من الطريق فيكون الطريق الذي اختاره من المتعارضين مؤداه هو الحكم الشرعي للمقلد. ففيه ان المقلد عليه أن يتبع رأي المجتهد في الواقعة و قد كان رأيه هو التخير بين مضمون الخبرين في هذه الواقعة و اختيار أحدهما كان لهوى في نفسه لا علاقة له بالحكم الشرعي و بعبارة أخرى أنه ان كان اختيار أحد الخبرين من تتمة الاستنباط و الاجتهاد و إنه لم يتحصل الاجتهاد للمجتهد قبل الاختيار لعدم حصول الدليل له إلا بعد الأخذ و الاختيار لأحدهما و قبله لا حجة له فأخذه يجعل للخبر حجية عنده غاية الأمر أنه قبل الأخذ له أن يأخذ كل منهما بعنوان الحجية فلهما هذه الشأنية لا أنهما حجتان بالفعل فلا يكون المقلد مخيرا لأن الحكم الشرعي لم يتحقق للمجتهد حتى يقلده العامي فيه فلا يجوز الإفتاء بالتخير، فهو فاسد، لأن الشارع بعد ما حكم بالتخير و وجد المجتهد الموضوع للتخير فيكون المجتهد فارغا عن الاجتهاد و قد تمَّ الاجتهاد قبل

الاختيار لأحدهما فيكون الحكم هو التخير بينهما و يكون اختياره لأحدهما من قبيل العمل بالحكم الشرعي. و إن كان من جهة أن حكم الواقعة في الواقع تعينيا لا تخيريا فكيف يفتي بالتخير ففاسد أيضا لأن حكم الواقعة بعنوانها الاولي كذلك، و أما بعنوان تعارض الخبرين فيها فحكمها التخير. و إن كان من جهة ان التخير إنما يكون حكم المتحير و العامي بعد اختيار المجتهد لأحدهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 533

يخرج عن كونه متحيرا لان من ناب منابه في الاستنباط و هو المجتهد زال تحيره باختيار أحدهما. ففيه أنه قبل اختيار المجتهد لأحدهما يقتضي جواز الفتوى بالتخير مع أنه لا يعقل زوال التخير الذي هو موضوع لاختيار أحدهما باختيار أحدهما و إلا لزم أن يكون حدوث المعلول سببا لزوال العلة. و إن كان من جهة أنها مسألة أصولية و المسألة الأصولية لا يجوز التقليد فيها فسيجي ء إن شاء اللّه جواز التقليد فيها فيما يمكن العمل بها كمسألة تقليد الميت و فيما نحن فيه يمكن العمل للمقلد إذا أفتى له المجتهد بالتخير بين المضمونين للخبريين المتكافئين نظير ما يفتي له بالتخير بين خصال الكفارة. و إن كان من جهة أنه لا بد للمقلد من موافقة المجتهد في الحكم لأنه تابع له و على الإفتاء بالتخير قد يلزم المخالفة لأن المقلد قد يختار خلاف ما اختاره المجتهد ففي صورة ما إذا تكافأ الخبران و كان أحدهما دالا على الوجوب و الآخر على الحرمة فاختار المجتهد الوجوب و المقلد الحرمة فلم يكن تابعا له. فلا يخفى ما فهي فإنه نظير ما إذا قلده في البقاء على تقليد الميت و كانا متخالفين في الفتوى فان التبعية

إنما تكون في أصل الفتوى و إذا كانت التبعية في الفتوى تجوز المخالفة فلا مانع منها. و ان كان من جهة أن لازم ذلك عدم جواز التعين في مقام القضاء أيضا لأن الحكم الشرعي لو كان عند التكافؤ هو التخير فكيف يقضي بخلاف حكم اللّه تعالى بالتعين كما لو باع أحدهما العذرة على الآخر ثمَّ شكا في صحة البيع فأحدهما يقول بصحته لقوله عليه السلام: (لا بأس ببيع العذرة). و الآخر يقول: بفساده لقوله (ص):

(بيع العذرة سحت). فلا يخفى ما فيه فإنه في صورة النزاع التخير يختص بالقاضي و لا يشمل المتنازعين لأنه يلزمه عدم رفع التشاجر بينهما فجعل القاضي لرفع الخصومة يقتضي اختصاص التخير به (و التحقيق أن يقال) أن التخير بين المتكافئين من الأحكام الأصولية التي تتعلق بمقدمات الاستنباط و هي لا يشترك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 534

فيها العامي و المجتهد لأن الأحكام الأصولية المذكورة ليست مطلوبة في حد ذاتها بل المطلوب في الحقيقة هو الأحكام الفرعية التي هي مؤديات الامارات و الأصول العملية فهي أحكام طريقية مقدمية لتحصيل الأحكام الفرعية فلا ثمرة لتكليف غير المجتهد بها لعدم قدرته على العمل بها و التكاليف المقدمية الطريقية مختصة بمن يقدر على سلوكها و أعمالها لتحصيل ذي المقدمة و ذي الطريق منها و هو المجتهد دون العامي. مضافا الى ان موضوعاتها مختصة بالمجتهد فان موضوع وجوب العمل بخبر الواحد هو الذي يتفحص و لم يجد المعارض و لا المخصص و العارف بالدلالة و هو لا يكون إلا المجتهد و هكذا موضوع الأصول العملية هو الشك الفعلي بعد الفحص و العجز عن الظفر بالدليل و هو مختص بالمجتهد و هكذا الأدلة التي

أخذ في موضوعها الظن أو القطع إذ هما مختصان بالقاطع و الظان. مضافا إلى ان الأحكام الأصولية الراجعة للاستنباط و كيفيته انما تكون مختصة بالمستنبط و هو المجتهد دون العامي شأن سائر الأحكام المختصة بموضوعاتها كأحكام السفر المختصة بالمسافر دون الحاضر و لعله إلى هذا أشار الشيخ الأنصاري (ره) في رسائله بقوله (ره) و التخير هنا في طريق الحكم فعلاجه بالتخيير مختص بمن يتصدى لتعين الطريق و (دعوى) ان المجتهد ينوب عن العامي في الاستنباط فيكون العامي مكلفا بأحكام الاستنباط. (فاسدة) لأن النيابة عنه في الاستنباط لا تقتضي ثبوت أحكام الاستنباط على المنوب عنه فإن أحكام كل شي ء تختص بمن يقوم بذلك الشي ء فإن أحكام الصلاة للنائب مثل سجود السهو و البناء على الأكثر في عدد الركعات انما تختص بفاعل الصلاة و لا تتعدى للمنوب عنه و هكذا أحكام الحج النيابي و غيرها. و (دعوى) أن العامي إذا كان مكلفا بالفروع فهو مكلف بمقدماتها و هو التكاليف الأصولية (فاسدة) فإن تكليف العامي بالفروع يقتضي وجوب تحصيلها بالمقدور اليه و هو التقليد فيها و ليس مكلف باستنباطها و الاجتهاد فيها نعم المجتهد مكلف بالاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 535

فيها و استنباطها فتكون أحكام الاجتهاد و الاستنباط متوجهة نحوه. و دعوى أن الحكم بالتخير بين الخبرين للشك في حجية أحدهما نظير الحكم ببقاء الحالة السابقة عند الشك فيها فكما ان الحكم بالبقاء مشترك بين المجتهد و المقلد فكذا الحكم بالتخير فاسدة بما ذكره المرحوم الأنصاري مما حاصله ان الشك هناك في نفس الحكم الشرعي المشترك فحكم الشارع فيه بحكم مشترك و التخير هنا في طريق الحكم و استنباطه فحكم الشارع بالتخيير مختص بمن

يتصدى لتعيين الطريق كما ان الحكم بالترجيح مختص به. و دعوى ان التخير هنا مسألة فرعية لأنه تخير في العمل بمضمونهما نظير التخير في خصال الكفارة فاسدة فإن التخير هنا في الطريق لمعرفة الحكم الشرعي بمعنى انه تخير في أخذ الحجة على الواقع و التخير في الطريق مسألة أصولية.

و دعوى ان التخير هنا لو سلمنا انه تخير بين الحجتين و هو تخير في مسألة أصولية و سلمنا ان المسألة الأصولية لا يجوز التقليد فيها و مختصة بالمجتهد لكنه لما كان مستلزما للتخير في المسألة الفرعية و هو التخير بين مضموني الخبرين لأنه إذا كان مخيرا في الأخذ بأحدهما فهو مخير في مفادهما أيضا و هو تخير في المسألة الفرعية فيفتي المجتهد بالتخير من هذه الجهة. فاسدة فإن هذا التخير في الفرع تابع للمسألة الأصولية فإذا كانت المسألة الأصولية قد سلم اختصاصها بالمجتهد و عدم جواز التقليد فيها فلا يجوز فيما يتبعها من الفروع ان تتجاوز موضوعها و تثبت لغيره و هو العامي. و دعوى ان الحكم الأصولي و ان كان متوجه للمجتهد فإنه الذي جاءه النبإ و الحديثان المتعارضان أو تيقن بالحكم سابقا و شك في بقائه لاحقا و هو المأمور عنوانا بالتصديق و بالترجيح و بالتخير و بالإبقاء في الاستصحاب لكنه إذا كان له مساس بمقلديه فلا يعقل جعله للمجتهد فقط بل هو المأمور عنوانا و مقلده مأمور لبا حيث انه بأدلة جواز الإفتاء و وجوب التقليد يكون المجتهد نائبا عن المقلد فيما يمسه من الاحكام فهو محكوم بتلك الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 536

الأصولية عنوانا و مقلده محكوم بها لبا و عليه فلا مجال إلا للإفتاء بالحكم المجعول في

حق المقلد لبا و هو فيما نحن فيه التخير بلسان (اذن فتخير) و بعنوان (بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك). لا يخفى ما فيها لان الكلام في مساس هذا الحكم الأصولي بالمقلد و كيف يمسه و التخير انما هو في الحجية فإن اختيار العامي لأحدهما و أخذه حجة له لا ينفعه لعدم معرفة دلالته و مخصصة و مقيدة و غير ذلك و الحاصل ان التخير في المسألة الفرعية أعني بين المضمونين له مساس بالمقلد لكن لا دليل عليه هنا و التخير في المسألة الأصولية اعني التخير في اختيار الحجة من المتكافئين أخبار التخير تدل عليه لكن لا مساس له بالمقلد.

[المقام الثاني: في القضاء عند تعارض الأمارات.]

قضاء المجتهد عند تكافؤ المتعارضين (المقام الثاني) و هو قضائه عند تكافؤ المتعارضين فنقول قد عرفت فيما سبق ان حكم المجتهد في الإفتاء عند تكافؤ المتعارضين الدالين على الحكم الشرعي هو التخير في الفتوى بأحدهما و لا يجوز له الفتوى بالتخير بينهما. و أما قضائه عند تكافؤ المتعارضين ففي الرسائل للشيخ (ره) انه عن جماعة يختار أحدهما فيقضي به لان القضاء و الحكم عمل نفسه لا غيره و لما عن بعض من ان تخير المتخاصمين لا ترتفع معه الخصومة. ثمَّ ان القاضي لو حكم في خصومة في واقعة على طبق احدى الأمارتين المتكافئتين فهل له الحكم على طبق الأخرى في خصومة أخرى في نفس تلك الواقعة المحكي عن العلامة (ره) في التهذيب الجواز و نسب للمحقق القمي (ره) بل نسب للمحققين ذلك أيضا و استدل عليه في النهاية بأنه ليس في العقل ما يدل على خلاف ذلك و لا يستبعد وقوعه كما لو تغير اجتهاد المجتهد إلا ان يدل دليل على عدم الجواز كما روى

ان النبي (ص) قال لأبي بكر لا تقضي في شي ء واحد بحكمين مختلفين و التحقيق ان يقال انا ان قلنا بأن المستفاد من أدلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 537

التخير في المتكافئين هو التخير الاستمراري فيجوز ذلك بأن يحكم تارة على طبق أحد الأمارتين و أخرى على طبق الأخرى و ان قلنا أن المستفاد هو التخيير الابتدائي فلا يجوز ذلك و قد حققنا ذلك في محله و وقته في مبحث التعارض.

الواحد و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد فيما يخص اجتهاده إذا استند فيه الى التقليد في بعض المقدمات

ان المجتهد لو استند في اجتهاده لمقدمات كانت بعضها تقليدية كما لو كان مقلدا في حجية الاستصحاب فهل يجوز عمله باجتهاده و هل يجوز للغير تقليده.

الظاهر انه لو كان تقليده في تلك المقدمات صحيحا جاز عمله باجتهاده حيث كان اجتهاده يستند لمقدمات صحيحة و إلا فلا كما هو واضح و أما رجوع الغير له فلا يجوز لأنه ليس اجتهاده في هذه المسألة باجتهاد بل يرجع للتقليد لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات و أدلة التقليد انما تدل على جواز الرجوع للمجتهد في المسألة لا للمقلد فيها فان حكمه حكم العامي فيها بل لا يجوز له الفتوى بهذه المسألة لأنه جاهل بحكمها.

الثاني و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد فيما يخص الأعمال التي شك في صحتها من جهة الشك في الاجتهاد و صحته

لا يخفى أنه تارة يشك الإنسان في أصل صدور الاجتهاد منه في أعماله الماضية بمعنى انها صدرت منه عن اجتهاد أم لا فهو يشك في صحة أعماله من جهة الشك في أنها صدرت منه عن اجتهاد أم لا و أصل الصحة لا يثبت صدورها عن اجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 538

و لكن قد عرفت ص 36 ان أصل الصحة يثبت صحة الأعمال فيما إذا لم يعرف أنها بأي كيفية وقعت أما مع علمه بكيفيتها و لكنه لا يدري بمطابقتها للواقع فاصل الصحة لا يجري فيها لأنه لا يجري في الشبهة الحكمية إذ لا يثبت به الحكم الشرعي و انما يثبت مطابقة المأتي به للحكم الشرعي الذي هو معنى صحته كما قررناه في محله (و تارة أخرى) يشك في صحة أعماله من جهة الشك في صحة اجتهاده مع القطع بصدور أعماله عن اجتهاده و لكن يشك في صحة اجتهاده و هذا يتصور على صور (إحداها) ان يكون شكه من قبيل الشبهة الحكمية

كان يدري أن اجتهاده في المسائل كان بدون معرفة علم النحو و الصرف و المنطق و لكنه شك في صحة الاجتهاد بدون ذلك فلا مجال لجريان أصالة الصحة و لا بد له من الفحص و معرفة صحة الاجتهاد بدونها أو توقفه عليها.

(ثانيها) ان يشك في الصحة فعلا مع العلم بتحققها سابقا كأن احتمل فعلا بواسطة طبع بعض كتب الأخبار أوسعه تظلعه بالأحكام أو علم الأصول أو الدراية له قوة استنباط أكثر أو قدرة على الفحص أزيد ففي هذه الصورة يبني على البقاء على صحة اجتهاده لأصالة الصحة أو استصحابها.

(ثالثها) ان يعلم بأن أعماله صدرت عن اجتهاد و لكنه يشك في صحة اجتهاده فعلا بنحو الشك الساري بمعنى ان فتاواه و أعماله الماضية صدرت عن اجتهاد صحيح جامع للشرائط أم لا بنحو الشبهة الموضوعية. فقد يقال ان مرجع الشك في هذه الصورة إلى الشك في ان التكليف الفعلي الذي هو مؤدى الاجتهاد الصحيح على طبق ما عمله و أفتى به أم لا و عليه فلا مجرى لقاعدة الفراغ و الصحة في أعماله و فتاويه الماضية لأن الشك ليس في موافقة العمل و الفتوى للاجتهاد و انما في موافقة العمل و الفتوى للتكليف الفعلي الذي هو مؤدى الاجتهاد الصحيح و لا يحرز تكليفه الفعلي الذي هو مؤدى الاجتهاد الصحيح بإجراء قاعدة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 539

الفراغ و الصحة لأن قاعدة الفراغ انما تقتضي صحة العمل إذا شك في مطابقته لتكليفه الفعلي لا ما إذا شك في نفس التكليف الفعلي و انه كان موافقا لعمله المعلوم بحده أم لا و لكن التحقيق انه قد تقدم ص 36 و سيجي ء إنشاء اللّه في مباحث التقليد

صحة إجراء أصالة الصحة في المقام.

(رابعها) ان يشك في صحة اجتهاده الماضي مع العلم بصحة اجتهاده فعلا كما لو جدد النظر في المسألة و تبدل رأيه فيها فشك في صحة اجتهاده الأول و احتمل انه قصر في بعض المقدمات أو لم يكن عنده مؤهلات الاجتهاد فأصالة الصحة جارية في اجتهاده السابق و يكون حكمه حكم من تبدل رأيه عن اجتهاد صحيح إلى اجتهاد صحيح آخر.

الثالث و العشرون من أحكام الاجتهاد و المجتهد ما يخص طرق إثبات اجتهاد المجتهد

يثبت اجتهاد المجتهد أولا بالقطع باجتهاده لأن القطع حجة بذاته من أي سبب حصل سواء كان من الاختبار أو الأخبار. و قد يورد على ذلك بأنه كيف يعلم العامي باجتهاد المجتهد و هو لا يعرف من علوم الاجتهاد شيئا و جوابه بالنقض بأنا نعلم أعلم الناس بالتجارة و الصياغة و لا نعرف شيئا منها.

و بالحل انا نعرف ذلك من آثاره أو من كثرة الأخبار بذلك عنه بحيث تفيد القطع (و ثانيا) بالبينة العادلة كما هو المحكي عن المقاصد العلية و المعالم لما سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث العدالة من ان البينة حجة في مطلق الموضوعات و قد حكي الخلاف في ذلك عن الذريعة و الجعفرية و الوافية.

(و ثالثا) بظاهر الحال بأن يراه منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق و يرى اجتماع الناس عليه و العمل بفتواه و الانقياد الى قوله و إقبال المسلمين على سؤاله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 540

و استرشاده للإجماع المحكي عن النهاية و عن شرح المبادي لفخر الإسلام و عن المنية و عن المحصول و لمرسلة يونس عن مولانا الباقر (ع) خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم الولايات و المناكح و الذبائح و الشهادات و الأنساب و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام

في هذه المرسلة في مبحث العدالة عند الكلام في إثبات العدالة بظاهر الحال. و قيل يثبت بالشياع و بخبر العدل الواحد و بالظن و بحكم الحاكم و إذا أردت تحقيق ذلك فراجع طرق إثبات العدالة التي سيجي ء الكلام فيها إنشاء اللّه فانا هناك قد تعرضنا لكل الطرق التي تثبت الموضوعات الخارجية.

الرابع و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد التصدي للأمور الحسبية

الحسبة (بكسر الحاء) اسم مصدر من الاحتساب و هي الأجر و الثواب و الأمور الحسبية في ألسنة الفقهاء هي التي يأتي بها طلبا للأجر و الثواب و أرادها الشارع في الخارج من دون خصوصية لمن يقوم بها لأنها تعم مصالحها و يتقوم بها النظام و ان شئت فقل هي الواجبات الكفائية و المستحبات الكفائية و بعبارة أخرى انها كل ما علم من الشرع مطلوبيته مع عدم تعين المكلف به كإنقاذ الغرقى و تكفين الموتى و دفنهم. و قد قيل ان أظهرها الجهاد. و الدفاع عن المسلمين. و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و اقامة الحدود. و التعزيرات. و الفتيا. و القضاء.

و الشهادة و الاشهاد على الواقعة باعتبار انه من المصالح الكلية التي يتوقف عليها النظام و يرتبط بها أمر الخاص و العام حسما لمادة المنازعات الناتجة من تركه. و أخذ اللقيط و هو الإنسان الضائع الغير المستقل بنفسه و لا كافل له. و المحافظة على مال الصغير و المجنون و السفيه و المفلس و عبر عنها بعضهم بالأمور المستفاد القيام بها من آية المعاونة و هي قوله تعالى تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ و آية أَحْسِنُوا إِنَّ اللّٰهَ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 541

يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و من قوله (ع) (كل معروف صدقة) و من قوله (عون الضعيف من أفضل صدقة) و

من حكم العقل بالإحسان فتكون الأمور الحسبية هي ما يصدق عليها عنوان الإحسان و البر و المعروف ثمَّ لا يخفى ان البحث عما كان مستحبا منها لا يهمنا لجواز تركه و لمعرفة حاله من معرفة حال ما هو الواجب منها (و انما المهم) بيان حال ما هو الواجب منها فقد ذهب بعضهم إلى وجوب تصدى المجتهد لها مستدلا على ذلك.

(أولا) بالإجماع و لا يخفى ما فيه لمخالفة الكثير من العلماء في ذلك و ان لعدول المؤمنين القيام بها. و (ثانيا) ان كل أمر كان كذلك بمعنى ان الشارع يريد تحققه في الخارج لا بد ان ينصب الشارع له شخصا يقوم به و المفروض انه غير معلوم من يقوم به. و الفقيه صالح للقيام به فنحن على يقين من نصبه للقيام بتلك الأمور و غيره مشكوك نصبه فالأصل عدم نصبه فهي و ان كانت من الواجبات الكفائية لكنا نقطع بتعلقها بالفقهاء و نشك في كون إتيان غيرهم مسقطا عنهم أم لا و الأصل عدم السقوط فلا بد من تصدي الفقهاء لها. و التحقيق ان يقال انه لما كان الفرض ان هذه الأمور مرادة للشارع فالدليل على إرادتها اما ان يكون شاملا لكل أحد و مقتضى ذلك يصلح كل أحد للتصدي لها و اما ان يكون معينا لقسم خاص من الناس كالصلاة على الميت فان الدليل دل على تصدي وليه لها و مقتضي ذلك تصدي ذلك القسم الخاص لها دون غيره و أما ان يكون الدليل لم يعلم منه شيئا و شك في ان التصدي لها مخصوص بقسم خاص كالمجتهدين أو عدول المؤمنين أو تصح من الجميع بنحو الكفاية فقد يقال ان أصالة عدم الخصوصية تقتضي تساوي

الكل فيه فلو تصدى شخص سقط عن غيره.

و قد يقال ان الأصل هو وجوب تصدي ذلك القسم الخاص لأصالة عدم السقوط عنه بفعل الغير له. و دعوى أصالة عدم الخصوصية فاسدة لأنها معارضة بأصالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 542

عدم قصد التعميم. و دعوى ان التعميم يكون بعدم إرادة الخصوصية و لا يحتاج إلى قصد حتى يعارض بذلك فان التعميم على سبيل البدلية يقتضي إرادة العمل في الخارج من دون قصد شخص معين. و قد تقدم في التنبيه على الشك في الولاية ما في هذا الدعوى و ان التعميم كالتخصيص يحتاج إلى القصد. فلا بدمع الشك المذكور من الرجوع إلى الأصول العملية و هي بالنسبة إلى المجتهد تقتضي إتيانه بها للعلم بتوجه خطابها اليه و الشك في سقوطه بفعل غيره و الاشتغال اليقين يستدعي الفراغ اليقيني. و أما بالنسبة إلى غيره فهي تقتضي عدم وجوبها عليه لأصالة البراءة من وجوبها عليه.

و اما إذا شك في صحة عملها منه مع علمه بجوازه منه و لو بأصل الإباحة كما لو كان العامي علم بواسطة أصالة الإباحة جواز المحافظة على مال اليتيم أو الصلاة على الميت فان كانت من قبيل العبادات فان كان شكه في كفاية عمله العبادي عن غيره كأن شك في أن صلاته على الميت تكفي عن صلاة غيره أم أنها بمنزلة العدم لم يكن عليه شي ء في إتيانه بذلك العمل و أن كان شك في اعتبار الاذن من المجتهد في صحتها منه فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر و الأصل عدم وجوب الأكثر فلا يجب الاستيذان من المجتهد و أن كانت من قبيل المعاملات ذات الأثر الشرعي كأن

شك في صحة المعاملة منه على مال اليتيم التي يحفظ بها ماله فالأصل يقتضي الفساد لأصالة عدم ترتب الأثر على المعاملة و وجب عليه أخذ الاذن من الفقيه و اما إذا شك في تعين وجوب تصدي الفقيه له أو تعين وجوب تصدي شخص آخر له كما في المجنون إذا حدث جنونه بعد بلوغه و كان أبوه موجودا فإنه يشك في أن وليه المجتهد أو أبوه فالأصل البراءة من الوجوب بالنسبة إلى كل منهما كواجدي المني في الثوب المشترك نعم لو أريد إيقاع المعاملة على ماله و احتمل اعتبار أذن أحدهما على سبيل الاجمال فيها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 543

وجب أخذ الاذن من كل منهما. ان قلت ان المعاملة المذكورة أما أن تكون واجبة أو مستحبة لأنها حسب الفرض يحفظ بها مال اليتيم فتكون من المعروف و الإحسان فيشملها قوله (ص) (كل معروف صدقة) و مقتضى ذلك صحتها قلنا قد تقدم تحقيق التمسك بذلك في مثل هذه الموارد في مبحث الولاية عند التنبيه على موارد الشك في الولاية للفقيه و انه يصح التمسك بهذه العمومات في كل مورد شك في اعتبار إذن الفقيه إلا أن كان هناك أصل يجري في العمل و يثبت حرمته كما في المعاملة المذكورة دون مثل الصلاة على الميت و تجهيزه و حفظ مال القصير و الغائب بلا تصرف فيه و أخذ مال الزكاة و الخمس من الممتنع و تفريقها على أربابها و (كيف كان) فلا إشكال في وجوب تصدى الفقيه لها و لو بنحو الكفاية و أحوطية أخذ الإذن منه فيها (إلا اللهم) أن يحتمل اعتبار تصدي الإمام (ع) بخصوصه لها كالجهاد و نحوه و لم يقم

دليل على نفي هذا الاحتمال و لم يثبت ولاية الفقيه أو نيابته عن الامام (ع) في القيام بها فإنها لا تكون أيضا واجبة على المجتهد لأصل البراءة من وجوبها، و لا فرق فيما ذكرناه بين المجتهد المطلق أو المتجزي لما عرفت أنها من قبيل المطلوبات الكفائية التي يأتي بها لوجه اللّه تعالى فمقتضى القاعدة هو جواز التصدي من كل أحد إليها إذا تمكن من القيام بها على الوجه الصحيح إلا إذا قام دليل خاص أو أصل خاص على حرمة القيام بها من المتجزي كما ذكرناه في غير المجتهد.

و عليه فلا يصغى لما ذكره بعض المتأخرين من عدم جواز تصدى المجتهد المتجزى للأمور الحسبية بدعوى أنه لا دليل على جواز تصدى المجتهد لها إلا الإجماع على الجواز و القدر المتيقن منه هو المجتهد المطلق: و أن مقتضى الأصل هو ذلك لان التصرف في أموال الغائبين و القاصرين و نحو ذلك مما ليس له ولي خاص غير جائز بمقتضى عدم جواز التصرف في مال أحد إلا بإذنه خرجنا عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 544

هذا الأصل في المجتهد المطلق من جهة الإجماع و بقي غيره تحت عموم المنع هذا و قد يقال بأن غير المجتهد لا يقدر على القيام بالأمور الحسبية لأنه أبصر بها و أعرف بمواقعها و مجاريها و فيه ما لا يخفى فانا لا نسلم عدم القدرة و لو فرض عدم القدرة يكون الأمر منحصرا بالمجتهد من باب انحصار الواجب الكفائي بواسطة العوارض الخارجية بفرد واحد من المكلفين فالحق ان الأمور الحسبية يجوز للمجتهد و لغيره من المسلمين القيام بها إلا ان يقوم دليل على إرادة التصدي لها من قسم خاص كالفقهاء

أو عدول المسلمين كما يقال ذلك في الحدود و التعزيرات و التصرف بمال القصير بما فيه المصلحة و ليس هنا محل البحث في تشخيص المتصدي من غير الفقهاء فإنا إنما نتكلم هنا فيما يخص الفقيه من الوظائف و الاحكام. هذا كله مع عدم ثبوت الولاية العامة للفقيه و إلا فمع ثبوتها يتعين التصدي لها على نظره كما تقدم (ان قلت) ان هذا ينافي وجوبها الكفائي على سائر المسلمين إذ مقتضى ذلك جواز قيام كل مسلم بها و مقتضي دعوى ولاية الفقيه بالتصدي لها هو وجوبها عليه دون غيره و بعبارة أخرى انه لا معنى لإناطة الواجب بنظر بعض المكلفين و الفرض انه مطلق لا مشروط فمقتضى وجوبها الكفائي عدم اعتبار اذن الغير في صحة فعلها (قلنا) معنى الولاية هو أحقيته من غيره بالتصرف و عدم تصرف الغير بدون نظره و اذنه و هذا لا ينافي وجوبه على الغير بنحو الكفاية على نحو الإطلاق إذ لا منافاة بين كون الوجوب مطلقا و بين ان يكون اذن الولي شرط لصحة العمل فالغير إذا أراد ان يبرئ ذمته أخذ الاذن من الولي و أتى بالعمل فيكون اذن الولي من قبيل مقدمة الواجب فالواجب واجب كفائي على الناس كافة وجوبا مطلقا غير مشروط و يتوقف صحته على مراعاة اذن الولي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 545

الخامس و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم تغسيل المقتول بين يديه

من أحكام المجتهد ان المقتول بالجهاد أو الدفاع عن بيضة الإسلام بأمره لا يغسل و لا يكفن و يصلي عليه سواء كان حرا أو عبدا رجلا أو أمرية و سواء كان طاهرا أو جنبا و سواء كانت المرأة حائضا أو نفساء للإجماع المحكي عن ظاهر الغنية بل صريحها على ثبوت ذلك

لمن قتل في سبيل اللّه في كل جهاد بحق و لو في حال الغيبة و لا ريب ان ذلك من الجهاد بحق بل هو أظهر مصاديقه و يشهد له إطلاق حسنة أبان بن تغلب بإبراهيم بن هاشم قال سمعت أبا عبد اللّه يقول الذي يقتل في سبيل اللّه يدفن في ثيابه و لا يغسل إلا ان يدركه المسلمون و به رمق ثمَّ يموت بعد فإنه يغسل و يكفن و يحنط ان رسول اللّه (ص) كفن حمزة في ثيابه و لم يغسله و لكنه صل عليه و نحوه في ذلك خبره الآخر قال سئلت أبا عبد اللّه (ع) عن الذي يقتل في سبيل اللّه أ يغسل و يكفن و يحنط قال يدفن كما هو في ثيابه إلا ان يكون به رمق الحديث. و المروي عن الفقه الرضوي و ان كان الميت قتيل المعركة في طاعة اللّه لم يغسل و دفن في ثيابه التي قتل فيها بدمائه و لا ينزع من ثيابه شي ء معقود. و مضمر أبي خالد قال اغسل كل الموتى الغريق و أكيل السبع و كل شي ء إلا ما قتل بين الصفين فان كان به رمق غسل و إلا فلا. و رواية أبي مريم عن الصادق (ع) انه قال الشهيد إذا كان به رمق غسل و كفن و حنط و صلي عليه و ان لم يكن به رمق كفن في ثيابه. و رواية عمر بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه (ع) قال: قال أمير المؤمنين (ع) ينزع عن الشهيد الفرو و الخف و القلنسوة و العمامة و المنطقة و السراويل إلا ان يكون قد أصابه دم فإن أصابه دم ترك و لا يترك

عليه شي ء معقود. و عن المعتبر ان الشهيد إذا مات في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 546

المعركة لا يغسل و لا يكفن و هو إجماع أهل العلم إلا سعيد بن المسيب و الحسن فإنهما أوجبا غسله قالا لأن الميت لا يموت حتى يجنب و لا عبرة بخلافهما مضافا لما دل على قيام المجتهد مقامهم (ع) كما تقدم في مبحث الولاية لكن لو تمسكنا بالأخير لا بد أن يكون ذلك في المجتهد الذي جمع شرائط الولاية و صلح لأن يكون قائما مقام الإمام فإنه هو المنصوب من قبله (ع) لهذه المهمات و قد اعتبروا في ذلك أمور (أحدها) ان يكون مقتولا بين يدي الإمام (ع) كما هو المحكي عن الأكثر و لا وجه لهذا الاشتراط كما هو المحكي عن المعتبر و الذكرى و ذلك لخلو الأخبار المتقدمة منه. و أما أخذ الشهيد في لسان بعضها لا يقتضي تقييد مطلقاتها لأنهما يكونان من قبيل المثبتين على ان معنى الشهيد هو القتيل في سبيل اللّه تعالى كما هو المحكي عن الصحاح و القاموس و في النهاية من قتل مجاهدا في سبيل اللّه (ثانيها) ان يكون وقوع موته في المعركة بحيث لو انقضى الحرب و هو حي أو سقط جريحا و مات خارجها غسل و كفن و لم يجري في حقه الحكم المذكور و يمكن ان يستدل له بما تقدم من الفقه الرضوي و لكن لا يخفى انه لا دلالة على وقع الموت في المعركة فإن الإضافة فيه يحتمل ان تكون من اضافة المسبب للسبب مثل ألم الضرب و يمكن ان يستدل له بمضمر أبي خالد المتقدم و ضعفه منجبر بنقل الإجماع على ذلك عن الخلاف

و التذكرة. و المحكي عن صاحب المدارك انه نسبه إلى الأصحاب. و عن مجمع البرهان قال كأنه إجماعي.

(ثالثها) ان يكون مقتولا في الجهاد أو الدفاع عن بيضة الإسلام لا مطلق من بذل نفسه في طاعة اللّه و لو عن غير جهاد كالمقتول في سبيل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لدعوى الإجماع على وجوب تغسيله كغيره من المعتبر و التذكرة و هو المتبادر من القتل في سبيل اللّه لمن أمعن النظر في أخبار الباب و صريح مضمرة أبي خالد و الفقه الرضوي و ضعفهما منجبر بدعوى عدم الخلاف في ذلك و ما عرفته من نقل الإجماع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 547

(رابعها) ان يكون موته قبل ان يدركه المسلمون حيا لتظافر الأخبار على ذلك و الظاهر ان المراد من ادراك المسلمين له حيا هو ان ينقذه المسلمون من الحرب كما هو الظاهر من قولهم فلان أدرك فلان و في الدعاء (يا علي أدركني) و يؤيد ذلك ما حكي عن عمار (ره) من ان المسلمين حضروه حينما استسقي اللبن الذي كان آخر شرابه من الدنيا مع ان أمير المؤمنين (ع) لم يغسله. و يؤيد إرادة هذا المعنى أيضا ما روى عن النبي (ص) انه قال يوم أحد من ينظر حال سعد بن الربيع فقال رجل أنا أنظر لك يا رسول اللّه فنظر فوجده جريحا و به رمق فقال له ان رسول (ص) أمرني ان انظر في الأحياء أنت أم في الأموات فقال أنا في الأموات فأبلغ رسول اللّه (ص) مني السلام قال ثمَّ لم أبرح إلى ان مات. و لم يأمر النبي (ص) بتغسيل أحد منهم.

(و كيف كان) فيكون هذا الشرط يرجع للشرط

الثاني لأن لازم إنقاذ المسلمون له من حرب العدو ان يكون موته خارج المعركة. و على هذا فلو وجود في المعركة و فيه رمق ثمَّ مات فيها كان حكمه عدم وجوب التغسيل و عدم التكفين له لأنه يصدق عليه ان موته كان قبل ان يدركه المسلمون حيا.

السادس و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم انعقاد صلاة الجمعة في زمن الغيبة بدونه

حكي عن المحقق الثالث انه جزم باختصاص جواز إقامة الجمعة في زمن الغيبة بالفقيه الجامع للشرائط و عده من الأمور المسلمة لدى الفقهاء و تحقيق ذلك و تنقيحه انه مبني على مقدمتين.

(الاولى) ان صحة صلاة الجمعة مشروطة بالإمام (ع) أو نائبه و ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 548

لتواتر نقل الإجماع على ذلك من فطاحل الفقهاء كالشيخ في الخلاف و ابن إدريس في سرائره و المحقق في معتبرة و العلامة في تحريره و هو كاف في رد من ذهب إلى خلاف ذلك كما ان نسبة الخلاف لبعض المتقدمين كذبها أكثر المتأخرين كصاحب مفتاح الكرامة (ره) و غيره.

و للأخبار المتكثرة منها موثقة سماعة قال سئلت أبا عبد اللّه عن الصلاة يوم الجمعة فقال أما مع الامام فركعتان و أما لمن صلى وحده فهي و أربع ركعات و ان صلوا جماعة. و نحوها موثقته الأخرى قال سئلت أبا عبد اللّه عن الصلاة يوم الجمعة فقال أما مع الامام فركعتان و أما مع من صلى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر يعني إذا كان امام يخطب فان لم يكن امام يخطب فهي أربع ركعات و ان صلوا جماعة. و الظاهر كما ذكره بعضهم ان التفسير من الراوي. و خبر دعائم الإسلام عن على (ع) انه قال لا يصلح الحكم و لا الحدود. و لا الجمعة إلا للإمام أو

من يقيمه الامام. و النبوي المشهور المنجبر بالعمل أربع للولاة الفي ء و الحدود و الجمعة و الصدقات. و النبوي الآخر ان الجمعة و الحكومة لإمام المسلمين، و في الصحيفة السجادية في دعاء الجمعة و ثاني العيدين اللهم ان هذا المقام لخلفائك و أصفيائك و مواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها. و صحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال صلاة الجمعة فريضة و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام فإنه يفهم منها انها انما يجب إقامتها إذا كانت مع الامام لا مع أي شخص كان و في المحكي عن التهذيب بسنده عن أمير المؤمنين (ع) انه قال لا جمعة إلا في مصر يقام فيه الحد و من المعلوم ان المصر الذي يقام فيه الحد هو مصر الإمام أو نائبه فيكون هذا التعبير كناية عن لزوم كونها مع الإمام أو نائبه. و في الصحيح أو القريب منه المروي في العلل انما صارت صلاة الجمعة إذا كان مع الامام ركعتين و إذا كان بغير الامام ركعتين و ركعتين لأن الناس يتخطون إلى الجمعة من بعد الحديث. و لا وجه لحمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 549

الامام فيها على إمام الجماعة فإن الإمام ينصرف عند إطلاقه الى امام الأصل و نائبه الذي له الولاية المطلقة مضافا الى انه لو كان كذلك لامتنع الاشتراط بالإمام إذ من الممتنع في العادة عدم وجود إمام جماعة يحسن الحمد و الصلاة و الوعظ و القراءة و لو بالتلقين إذ لا يعتبر في الخطيب للجمعة قدرته على إنشاء الخطبة فإنه يكفي أقل القليل (ان قلت) ان مقتضى النصوص المذكورة اعتبار شخص المعصوم و هو خلاف ما يدعيه المشترطون من الاكتفاء

به أو بنائبه.

(قلنا) الإجماع بل الضرورة و السيرة على الاكتفاء بالنائب فإن فعل النائب فعل المنوب عنه بل كل عمل يكون من وظائف الإمام لا يلزمه المباشرة له بنفسه المقدسة للحرج و التعذر في كثير من الأحوال و في بعض الاخبار عبر بالولاة و في بعضها بمن يقيمه الامام. و قد عرفت ان خبر التهذيب المتقدم يشمل ذلك و لعل في تفسير الراوي في موثقة سماعة الثانية المتقدمة ما يدل على ذلك حيث عبر (بإمام يخطب) للتنبيه على عدم لزوم شخص الامام و الاكتفاء بنائبه و في صحيحة الفضل بن عبد الملك التي ستجي ء عبر فيها (بمن يخطب).

(ان قلت) ان قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ يدل على وجوب صلاة الجمعة على كل أحد سواء أقامها الإمام أم لا و هكذا ما في صحيحة أبي منصور عن أبي عبد اللّه و الجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر الناس فيها إلا خمسة المرية و المملوك و المسافر و المريض و الصبي (قلنا) لا يصح التمسك بتلك الآية الشريفة و لا بتلك الرواية الصحيحة و نحوها على نفي شرطية امامة الإمام أو نائبه لها حيث كلها ظاهرة في بيان ارادة الجمعة المعهودة التي تعارف إقامتها بشرائطها المقررة في الشريعة فتكون اللام للعهد لا للجنس و لا أقل من احتمال ذلك فان الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 550

و لو سلمنا ان اللام للجنس لا للعهد فان المراد ان الجمعة المنعقدة يجب على كل أحد حضورها لأدائها لا انه يجب إتيانها على كل أحد كيفما كان و لو سلمنا

ذلك فهي مقيدة بالأدلة الدالة على اعتبار وجود الإمام أو نائبه فيها كما انها مقيدة بباقي شروط وجوب الجمعة.

(ان قلت) ان صحيحة الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول إذا كان قوم في قرية صلوا الجمعة أربع ركعات فان كان لهم من يخطب بهم جمعوا تدل على وجوب الجمعة بمجرد وجود من يخطب. (قلنا) هذه الرواية و نحوها ظاهرة في اعتبار من يخطب في الجمعة و انه شرط وجوب لها و الإجماع منا و من الخصم انه لو كان ذلك شرط وجوب لها لكان هو المنصوب لخطبة الجمعة الذي هو الإمام أو نائبه. مضافا للأدلة الدالة على الاشتراط.

(ان قلت) ان صحيحة زرارة. قال: حثنا أبو عبد اللّه على صلاة الجمعة حتى ظننت انه يريد ان نأتيه فقلت نغدوا عليك فقال لا انما عنيت عندكم. تدل على صحتها بدون الإمام أو نائبه. (قلنا) لا دلالة لها على ذلك إذ ان مثل زرارة و أصحاب الإمام فيهم من هو جامع لشرائط الفتوى فهو نائب عن الامام مضافا الى ان ذلك يكون نصبا للإمام لهم نيابة عنه في أدائها و نظير ذلك قول أبي جعفر (ع) لعبد الملك صلوا جماعة يعني الجمعة مضافا الى ان الأدلة الدالة على الاشتراط تقييدها مضافا الى انها ظاهرة في اعتقاد زرارة عدم صحتها بدون الامام فلو كانت واجبة حتى مع عدم الإمام أو نائبه لما خفي ذلك على مثل زرارة و أشباهه.

(ان قلت) ان صحيحة زرارة الأخرى قال: قلت له على من تجب الجمعة قال على سبعة نفر من المسلمين و لا جمعة لأقل من خمسة أحدهم الإمام فإذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمهم بعضهم و خطبهم.

و قال: أبو جعفر و انما وضعت الركعتان الخبر. تدل على عدم اعتبار امامة الإمام أو نائبه في وجوب الجمعة خصوصا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 551

ذيلها. قلنا انما هي مسوقة لبيان العدد المعتبر في الجمعة فلا يصح التمسك بها لنفي اعتبار غيره مضافا لتقييد الأدلة الدالة على اعتبار ذلك فيها مضافا لما نقله صاحب مفتاح الكرامة (ره) عن أستاذه من ان قوله فاذا اجتمع سبعة إلخ. يحتمل ان يكون من كلام الصدوق (ره). و قد صرح المحققون بأن كلام الصدوق (ره) في الفقيه مخلوط مع الأحاديث بحيث يشتبه على الغافل غير المطلع و يؤيد ذلك قوله قال: أبو جعفر (ع) مع ان الظاهر ان ما رواه أو لا كان عن أبي جعفر (ع) و ذلك يستشعر منه ان ما ذكره بعده كان من عند نفسه و يؤيده أن الكليني (ره) و الشيخ رويا عن زرارة المذكور عن نفس أبي جعفر (ع) مضمون هذه الرواية و لم يذكرا هذه الزيادة.

(ان قلت) انا نستصحب وجوبها. (قلنا) ان المتيقن السابق هو وجوبها مع الإمام أو نائبه.

(المقدمة الثانية) ان المجتهد الجامع لشرائط الولاية منصوب من قبل الامام (ع) لإقامة الجمعة و غيرها من وظائفه (ع) لما ذكرناه في مبحث الولاية من الاخبار المتكثرة الدالة على ذلك فاذا ثبت ان صلاة الجمعة مشروطة بالإمام أو نائبه و في زمن الغيبة المجتهد الجامع لشرائط الولاية و المرجعية و الزعامة الدينية يكون هو النائب عن الامام و هو المنصوب من قبل الإمام في وظائف الإمام بما هو امام فيثبت ان الجمعة في زمن الغيبة مشروطة بالمجتهد الجامع لشرائط المرجعية. (ان قلت) على هذا تكون صلاة الجمعة واجبة عينا

لوجود المجتهد المذكور الجامع للصفات المذكورة بحمد اللّه (قلنا) السيرة المقطوعة و ظاهر الكثير من الاخبار ان وجوبها على سبيل التخير على الإمام أو نائبه فله ان يقيمها و له أن لا يقيمها كما هو ظاهر صحيحة زرارة المتقدمة و لعل إقامتها أفضل فردي الواجب التخيري لما هو المحكي عن مصباح الشيخ (ره) بطريق صحيح عن الصادق (ع) انه قال إني لأحب للرجل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 552

أن لا يخرج من الدنيا حتى يتمتع و لو مرة واحدة و ان يصلي الجمعة في جماعة.

نعم لو أقامها وجب السعي إليها كما هو ظاهر الآية الشريفة و ظاهر المحكي عن غاية المراد و التنقيح و ان كان المحكي عن جامع المقاصد انه لا يجب الحضور و ان انعقدت. و تحقيق ذلك يطلب مما كتبناه في هذا الموضوع في محله.

(تنبيه) إذا كان قيام المجتهد مقام الامام (ع) في هذه الصلاة من باب الولاية العامة له في زمن الغيبة جاز له ان يستنيب عنه فيها و أما ان كان من جهة الأدلة الخاصة فلا لعدم ما يدل على ذلك.

السابع و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم انعقاد صلاة العيد بدونه في زمن الغيبة

ظاهر الأخبار عدم انعقاد صلاة العيدين بدون الإمام لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (ع) لا صلاة يوم الفطر و الأضحى إلا مع امام عادل: و صحيحته الأخرى عنه أيضا من لم يصلي مع الإمام في جماعة يوم العيد فلا صلاة له و لا قضاء عليه. و صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عن الصلاة يوم الفطر و الأضحى فقال ليس صلاة إلا مع الامام و صحيحة أبان عن زرارة عن أحدهما (ع) قال: إنما صلاة العيدين على المقيم و لا صلاة إلا بإمام. و قد يناقش

في دلالتها.

(أولا) بأنها مخصوصة بإمام الأصل (ع) دون نائبه فلا تدل على اشتراطها بالمجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة. و جوابه ما تقدم في صلاة الجمعة من ان الأدلة الدالة على قيام المجتهد مقام الإمام في زمن الغيبة تقتضي ثبوت هذا الأمر له مضافا الى ان الامام لا يصلي إلا في بلده و أما سائر البلاد فالمصلي نائبه بل ربما كان مريضا فيستنيب شخصا عنه (ع) في بلده مضافا الى دعوى الإجماع من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 553

غير واحد من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين على أنه يعتبر فيها ما يعتبر في صلاة الجمعة و قد تقدم اعتبار الإمام أو نائبه في الجمعة قال الشيخ المرحوم المحقق الشيخ جواد ملا كتاب و أما اعتبار شرائط الجمعة فيها (أي في صلاة العيد) فقد قطع به الأصحاب كما في كشف اللثام، و ادعى عليه في الانتصار و الغنية و المعتبر و التذكرة و جامع المقاصد الإجماع صريحا كما هو ظاهر كثير من العبارات من غير استثناء شي ء سوى الخطبتين المستثناتين في معقد إجماع التذكرة (و ثانيا) أن المراد بالإمام إمام الجمعة لا إمام الأصل أو نائبه و جوابه أنه لو كان الأمر كذلك لاستغنى بذكر الجماعة عن ذكر الامام لاندراجه في مفهومها مع أن الإطلاق منصرف الى الامام الحق الأصلي مضافا لتعريف الامام المنصرف لإمام الأصل لعدم معهودية غيره و أن كان في بعض النصوص قد أتي به بلفظ التنكير فإنه يحمل على ذلك المعرف و تقيد الامام بالعادل في بعض الروايات أنما هو توضيحي (أن قلت) لو كان الأمر كذلك لكانت صلاة العيدين واجبة عينا في زمن الغيبة للأدلة على وجوبها لدعوى إلا

جماع من غير واحد من علمائنا على وجوبها و لصحيحة جميل عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال صلاة العيد فريضة و بمعناها صحيحته الأخرى و إخبار أخر و الفرض أن شرط وجوبها قد حصل في زمن الغيبة و هو حضور منصوب الامام و هو الفقيه الجامع لشرائط المرجعية فيلزم أن تكون واجبة فعلا مع أن الإجماع على عدم وجوبها في زمن الغيبة ففي المحكي عن الروض و الألفية الإجماع على عدم وجوبها حتى أن بعضهم قال أن السر في عدم اختيار أحد من الأصحاب الوجوب في صلاة العيد مع اختيار المشهور في صلاة الجمعة الوجوب تخييرا، و الحال أن الجمعة و العيدان متحدان في الشرائط عند جميع الأصحاب و حالهما واحد بحسب الفتاوى و الإجماعات هو أن الوجوب يصير عينيا حيث لا بدل للعيد بخلاف الجمعة فيلزم المخالفة للجمعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 554

في المقام بحسب الشرائط و من تجب عليه. و صاحب المدارك مع تقويته لوجوب صلاة العيد في زمن الغيبة أعترف بعدم عثوره على تصريح به لواحد من الأصحاب. (قلنا) قد ذهب جماعة من المتأخرين إلى وجوبها في زمن الغيبة و عن المجلسي في البحار الميل اليه و يحكي عن المدارك و غيره تقويته و عن الحدائق اختياره و عن المجلسي أنه صرح في زاد المعاد بوجوبها جماعة مع الفقيه و استحبابها منفردا مع تعذره إلا أنه بمقتضى صحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (ع) قال: قال الناس لأمير المؤمنين (ع) ألا تخلف رجلا يصلي في العيدين فقال لا أخالف السنة ان وجوبها مشروط بإقامة الإمام لها بخصوصه و لا يكفى المنصوب عنه فان الظاهر ان الناس

طلبوا منه (ع) ينيب عنه في أداء صلاة العيد الواجبة كما هو مرتكز في أذهانهم فأجاب بالامتناع و عدم مخالفة السنة: و مثله ما عن البحار نقلا عن كتاب عاصم بن حميد عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول قال الناس لعلي (ع) إلا تخلف رجلا يصلي بضعفاء الناس في العيدين قال: لا أخالف السنة و ان كان بعضهم قد حملها على غير ذلك و هو النهي عن اقامة جماعتين للعيد إلا ان الظاهر هو ما ذكرناه نعم صحتها في حال التمكن من الامام أو منصوبه مشروطة بالجماعة مع أحدهما و مع التعذر يصليها منفردا فيكون في المقام دعاوي ثلاثة (أحدها) ان صحتها مشروطة بالائتمام جماعة فيها بالإمام الأصلي أو منصوبه مع التمكن منهما.

(الثانية) ان وجوبها مشروط بإقامة الإمام الأصلي جماعة لها دون غيره فلو أقامها منصوبه لا تجب.

(الثالثة) عند تعذر الإمام أو منصوبه يستحب إقامتها جماعة أو منفردا أما الدليل على الاولى فهي الروايات المتقدمة مع الروايات الدالة على قيام منصوب الامام مقامه المعتضدة بالإجماعات المحكية الدالة على اشتراطها مع الإمام أو من نصبه فتكون صحتها مشروطة بهما.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 555

و أما (الدليل على الثانية) فهو مقتضى الجمع بين صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة و السيرة من عهد الأئمة (ع) و العلماء الاعلام على تركها و بين الإجماعات و الوجوه الدالة على صحة الاستخلاف عن الإمام في إقامتها و بين الأدلة الدالة على وجوبها بل لعل أغلب الإجماعات المنقولة على وجوبها مقتصرة على اشتراط الامام دون ذكر المنصوب له و هكذا ظاهر أغلب عبارات القدماء من الأصحاب ففي المحكي عن المقنعة للشيخ المفيد انه قال

الصلاة فرض لازم لجميع من لزمته الجمعة على شرط حضور الإمام فإنه يستفاد من ذلك ان وجوبها مشروط بإقامة الإمام لها جماعة فقط و انما صحتها تكون منوطة بإقامة الإمامة أو منصوبه لها.

و أما (الدليل على الثالثة) فيدل على استحبابها منفردا صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) قال من لم يشهد جماعة الناس في العيدين فليغتسل و ليتطيب بما وجد و ليصل وحده كما يصلي في جماعة و على هذا يحمل موثقة سماعة عن أبي عبد اللّه (ع) لا صلاة في العيدين إلا مع الإمام فإن صليت وحدك فلا بأس فإن الظاهر ان في عصر الامام (ع) كان يتعذر اقامة الامام أو منصوبه لها خوفا من الظلمة فلذا أجاز (ع) للراوي إقامتها وحده و لا ريب ان جواز إتيان العبادة يقتضي استحبابها و الى ذلك يرجع ما في الخبر عنه (ع) إنما صلاة يوم العيدين على ما خرج الى الجبانة و من لم يخرج فليس عليه صلاة. فإن المراد نفي الصلاة الواجبة بقرينة (عليه). و قد حكي عن الذكرى نسبة القول باستحبابها على الانفراد عند اختلال بعض شرائطها إلى الأصحاب و في الرياض أنه الأشهر و عليه عامة من تأخر. و أما استحبابها جماعة عند عدم الإمام أو منصوبه فهو ظاهر المنقول عن جمع كثير من علمائنا و ظاهر المحكي عن الذكرى و جامع المقاصد و العزية و الشافية انه مذهب أكثر الأصحاب. و ظاهر المحكى عن المختلف أنه عليه فعل الأصحاب في زماننا قال: المحقق ابن إدريس (ره). فيما حكي عنه ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 556

قول فقهائنا أجمع يستحب في زمن الغيبة لفقهاء الشيعة أن يجمعوا بهم

صلوات الأعياد يقتضي أن تجوز جماعة في زمن الغيبة. و ان معنى قول أصحابنا على الانفراد ليس المراد بذلك ان يصلي كل واحد منفردا بل المراد أنها تصلي جماعة عند انفرادها عن الشرائط انتهى. ملخصا و لا يخفى أن فعل الأصحاب هو الصلاة خلف من يرون أنه منصوب للإمام بأدلة الولاية العامة و أنه نائبه دون من لم يرونه كذلك فلو كان المستند في استحبابها جماعة فعل الأصحاب لم يكن ذلك صحيحا إلا اللهم أن يكون ذلك من باب التسامح في أدلة السنن.

(تنبيه) الكلام في جواز إنابة المجتهد غيره في هذه الصلاة كالكلام في صلاة الجمعة المتقدم.

الثامن و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم انعقاد صلاة الاستسقاء بدونه

نقل غير واحد إجماع الأصحاب على أن صلاة الاستسقاء مماثلة لصلاة العيد كما و كيفا عدى الوقت و بعدية الخطبة للصلاة. كما أن حسنة هشام بن الحكم عن الصادق (ع) يدل على المماثلة لها، و هذا يقتضي أنه يعتبر في صحتها امامة امام العصر فيها أو من ينصبه عنه إلا إذا تعذرا و لا ريب أن المجتهد في زمان الغيبة هو المنصوب عنه فيكون هو المعتبر في صحتها و لو عند تعذره (أن قلت) لو كان يصح الأخذ بالمماثلة لصح صلاتها فرادا. (قلنا) إنما نأخذ بإطلاق المطلق أو عموم العام إذا لم يكن مخصص فاذا فرض هناك مقيد أو مخصص على عدم صحتها فرادا لم نأخذ بالإطلاق و العموم.

تنبيه الكلام في صحة انابة المجتهد غيره في هذه الصلاة كالكلام في صلاة الجمعة المتقدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 557

التاسع و العشرون من أحكام المجتهد و الاجتهاد تقديمه في إمامة الجماعة

يستفاد من جملة من المتأخرين كالعلامة و جماعة ممن تأخر عنه أن الاولى للمأمونين تقديم المجتهد على غيره في إمامة الجماعة في زمان الغيبة مستدلين على ذلك بالعقل و النقل اما الدليل العقلي فهو أنه لو قدموا غير المجتهد لزم تقديم المفضول على الفاضل و هو قبيح و لأن الحاجة الى الفقه في الصلاة غير محصورة فكان أولى بالملاحظة و لا يخفي ما فيه اما قبح تقديم المفضول على الفاضل. ففيه المنع منه في غير الرئاسة العامة و مسائل التقليد فإنه قد تكون هناك اعراض أخر تستدعي تقديمه بحكم العقل و اما الحاجة الى الفقه فهي انما تقتضي تقليده فقط و قياس ما نحن فيه على ذلك لا وجه له فان القياس ليس بحجة و لأن المفضول قد يقدم في إمامة الجماعة كما لو

كان هو الراتب في المسجد أو صاحب المنزل أو الأمير كما حكي عدم الخلاف في ذلك، و اما النقل فمن الكتاب قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ، و من السنه ما حكي عن الصدوق في الفقيه مرسلا قال قال (ص) امام القوم وافدهم فقدموا أفضلكم و قال قال على (ع) ان سركم أن تزكو صلاتكم فقدموا خياركم و عن الصدوق في الفقيه مرسلا و الشيخ في كتاب الأخبار مسندا قال قال (ص) من أم قوما و فيهم من هو اعلم منه لم يزل أمرهم إلى السفال الى يوم القيامة، و عن رسول اللّه (ص) أن أئمتكم وفدكم الى اللّه تعالى فانظروا من توفدون في دينكم و صلوتكم، و ما روى من صلى خلف عالم فكأنما صلى خلف رسول اللّه (ص)، و ما روى من ان الصلاة خلف العالم بألف ركعة و لتقديم العالم على الهاشمي في المروي عن الرضا (ع) أنه قال للهاشمي انكم سادات الناس و العلماء ساداتكم و (لا يخفى ما فيه) فان الآية الكريمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 558

انما تدل على عظم منزلته و لا تدل على أولوية تقديمه في الجماعة و ارجحيته على غيره في هذا المنصب و اما السنة فهي ضعيفة السند و الدلالة نعم يستفاد من تعاضد بعضها مع بعض أن الصلاة خلف المجتهد فيها ثواب عظيم و هذا لا يستدعي أولويته من غيره بهذا المنصب بحيث عند التشاح بين أئمة الجماعة على وجه لا ينافي العدالة يكون الثابت من الشرع بذلك تقديمه عليهم فلعل الأتقى يكون هو المقدم لقوله تعالى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ (نعم) قد يستدل على ذلك

بما روى عن النبي ص من قوله يؤمكم أقرؤكم و قوله ص يؤم القوم اقرؤهم لكتاب اللّه تعالى فان كانوا في القراءة سواء فاعلم بالسنة: و بما في معتبر ابي عبيده المروي في الكافي قال سئلت أبا عبد اللّه الصادق (ع) عن قوم من أصحابنا يجتمعون فتحضره الصلاة فيقول بعضهم لبعض تقدم يا فلان فقال أن رسول اللّه (ص) قال يتقدم القوم أقرؤهم للقرآن فان كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة فان كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا فان كانوا في السن سواء فليؤمهم أعلمهم بالسنة و أفقههم في الدين و الظاهر أن هذا الترتيب في خبر ابي عبيده مما لا يعرف به قولا من الأصحاب عدى ما يحكى عن البيان نقلا عن بعض الأصحاب من المصير اليه و وجه الاستدلال بذلك هو أن يقال أن المراد من الأقرء هو الأفقه كما ذهب اليه المحقق الشيخ جواد ملا كتاب و بعده المرحوم آقا رضا الهمداني بناء على ما قيل من أن المتعارف في ذلك الزمان الملازمة بين القراءة و الفقه كما حكي عن ابن مسعود أنه قال كنا لا نتجاوز عشر ايات حتى نعرف أمرها و نهيها. و جعل الأعلم بالسنة في النبوي و خبر ابي عبيده مرتبة متأخرة عن الاقرء غير مناف لإرادة الأفقه من الاقرء كما ربما يتخيله بعضهم لان المراد به على هذا التقدير من جمع بين وصفي القراءة و الفقه و هو مقدم على من انفراد بوصف الفقه لأعلميته بالسنة: و عليه فتكون هذه الروايات دليلا لتقديم المجتهد على غيره. و الانصاف ان من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 559

المجموع مع ما ورد من فضل العالم يطمئن الفقيه

بأولوية هذا المنصب للمجتهد على غيره عند الشرع هذا كله مع قطع النظر عن ثبوت الولاية العامة و النيابة المطلقة للمجتهد الجامع لشرائط الزعامة الدينية فإنه لا إشكال في تقديمه على غيره لان المنصب المذكور يقدم الإمام الأصلي على غيره فيه بالإجماع و ضرورة الدين و المجتهد المذكور قائم مقامه في زمن الغيبة. و في المروي عن النبي (ص) أنه قال و كل أهل مسجد أحق بالصلاة في مسجدهم إلا أن يكون أمير حضر فإنه أحق بالإمامة من أهل المسجد.

الثلاثون من احكام المجتهد و الاجتهاد لو عطل الناس الحج أو زيارة النبي ص وجب على المجتهد أن يجبرهم على ذلك

يجب على الفقيه الجامع لشرائط الولاية ان يجبر الناس على الحج و زيارة النبي (ص) عند تعطيلهم لذلك لما في الصحيح الذي رواه الصدوق بأسانيده عن حفص بن البختري و هشام بن سالم و معاوية بن عمار و غيرهم عن ابي عبد اللّه (ع) قال لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده و لو تركوا زيارة النبي (ص) لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده فان لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين، و رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن ابي عمير عن حفص بن البختري و هشام بن سالم و حسين الأحمسي و حماد و غير واحد و معاوية بن عمار عن ابي عبد اللّه (ع) و في الصحيح الذي رواه ثقة الإسلام عن عدة من أصحابه عن احمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن عبد اللّه بن سنان عن ابي عبد اللّه (ع) قال لو عطل الناس الحج لوجب على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 560

الامام

أن يجبرهم على الحج و لا شبهة في أن المجتهد الجامع للشروط هو المتولي لشؤون المسلمين و الامام عليهم و مع الإغماض عن ذلك فالأدلة الدالة على قيامه مقام الإمام الأصلي تقتضي ثبوت هذا الحكم له.

الواحد و الثلاثون من احكام المجتهد و الاجتهاد انه يخرج قبل صلاتي الظهر لمني و يقيم بها الى طلوع الشمس

المشهور بين الأصحاب بل حكي الإجماع عليه أنه يستحب للإمام الخروج من مكة إلى منى يوم التروية الثامن من ذي الحجة بعد إحرام الحج قبل صلاتي الظهر و العصر و يصليهما بمنى و يبقى بمنى الى طلوع الشمس من يوم عرفة و أن الأفضل لغيره إيقاع الإحرام بعد اتيانهما في المسجد بالنحو الذي ذكره الفقهاء و يدل على ذلك صحيح جميل على الامام أن يصلي الظهر بمنى ثمَّ يبيت بها و يصبح حتى تطلع الشمس ثمَّ يخرج و في صحيحته الأخرى ينبغي للإمام أن يصلي الظهر من يوم التروية بمنى ثمَّ يبيت بها و يصبح حتى تطلع الشمس ثمَّ يخرج، بل المحكي أن الشيخ في التهذيب و ظاهر النهاية و المبسوط ذهب الى انه لا يجوز للإمام غير ذلك و أن صاحب الحدائق قد مال اليه لظاهر النصوص المزبورة و لكن مقتضى الشهرة على الاستحباب و نقل الإجماع عليه و اشعار لفظ ينبغي و نحوه به هو حملها على الاستحباب كما في الجواهر، هذا و قد فسر في الجواهر (الامام) بأمير الحاج ناقلا التصريح بذلك عن غير واحد من الأصحاب معللا بأنه ينبغي أن يتقدم الى المنزل فيتبعوه و يجتمعوا اليه. و لا يخفى أن هذا خلاف الظاهر و المراد به هو امام المسلمين و من يتولى شؤونهم و انما يرتب هذا الحكم على أمير الحاج باعتبار نيابته عنه فالأولى ثبوت هذا الحكم للمجتهد النائب مناب الامام و الذي

له

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 561

الولاية المطلقة و الزعامة الدينية في عصر الغيبة فإنه قد عرفت أنه كلما ثبت للإمام بعنوان الإمامة يثبت له اما لأنه إمام حال الغيبة أو للأدلة على قيامه مقام الإمام الأصلي.

الثاني و الثلاثون من احكام المجتهد و الاجتهاد يستحب له أن يخرج من المشعر بعد طلوع الشمس

يستحب للإمام الإفاضة من المشعر الحرام بعد طلوع الشمس بخلاف غيره فإنه يستحب له قبل طلوع الشمس بقليل كما صرح بذلك غير واحد لخبر جميل ينبغي للإمام أن يقف بجمع حتى تطلع الشمس بل عن الشيخ و ابن حمزة و القاضي الوجوب و لا يخفى أن ظاهر الخبر هو الاستحباب. ثمَّ أنك قد عرفت أن كل ما ثبت للإمام يثبت للفقيه الجامع للشرائط حال الغيبة.

الثالث و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد استحباب خطبة المجتهد يوم النفر الأول

في المحكي عن المختصر النافع و القواعد و غيرهما أنه يستحب للإمام يوم النفر الأول أن يخطب بعد صلاة الظهر كما عن السرائر و بعد صلاة العصر كما عن المنتهي بان يعلم الناس وقت النفرين الأول و الثاني و عن المدارك (ينبغي أن يعلمهم فيها أيضا كيفية النفر و التوديع و يحثهم على الطاعة و على أن يختموا حجهم بالاستقامة و الثبات على طاعة اللّه تعالى و أن يكونوا بعد الحج خيرا مما قبله و أن يذكروا ما عاهدوا اللّه عليه من خير) و لكن لم أجد حتى الآن دليلا على ذلك و لكن لا ينكر حسنة فإن ذلك من شؤون الزعامة الدينية و الولاية لأمور الرعية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 562

الرابع و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد مشروعية الجهاد بل وجوبه بأمر المجتهد في زمن الغيبة

اشارة

الظاهر ثبوت الإجماع على مشروعية الجهاد بل وجوبه بأمر الإمام الموجود عند بسط يده أو بأمر من نصبه للجهاد و لكن وقع النزاع بكفاية أمر المجتهد الجامع للشروط إذا كان مبسوط اليد في زمان الغيبة فعن المسالك و غيرها عدم الاكتفاء به و حرمة توليه. و لكن الظاهر كفاية ذلك لان مقتضى عموم أدلة وجوب الجهاد و عدم اختصاصها بزمان دون زمان هو ثبوته في زمن الغيبة و اما ما دل على اعتبار وجود الامام العادل. فإنه ظاهر في اعتبار وجود الزعيم الديني الجامع للشرائط لقوله في موثقة سماعة المحكية عن الكافي و الاحتجاج عن ابي عبد اللّه (ع) أنه قال لقي عباد البصري على بن الحسين (ع) في طريق مكة فقال له يا على بن الحسين تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت على الحج و لينه أن اللّه عز و جل يقول إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية فقال

(ع) أتم الآية فقال التّٰائِبُونَ الْعٰابِدُونَ الآية فقال (ع) إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج، و عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبيه عن رجاله عن على بن الحسين (ع) مثله و عن محمد بن الحسن الطوسي بسنده عن أبي حمزة الثمالي مثله: و لا ريب أن هذا يشمل المجتهد الجامع للشرائط في زمن الغيبة فيكون المراد بالإمام في تلك الروايات هو هذا المعنى، و يؤيد ذلك ما عن علل الصدوق بسنده عن ابي بصير عن ابي عبد اللّه (ع) عن آبائه قال قال أمير المؤمنين (ع) لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي ء. سلمنا إرادة الإمام الأصلي لكن الأدلة الدالة على نيابة المجتهد الجامع للشرائط عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 563

الامام المتقدمة تثبت له جميع الأحكام الثابتة له بعنوان الإمامة و لا ريب أن الجهاد انما يثبت للإمام بهذا العنوان و لذا أخذ نفس هذا العنوان في موضوع الأدلة: و يرشدك إلى ذلك فتوى الفقهاء بكفاية من نصبه الإمام في الجهاد فلو لم يكن دليل النصب حاكما على تلك الأدلة لما كان وجه لافتائهم بذلك لأن أدلة الجهاد إذا كانت تمنع من كفاية غير الإمام فهي تمنع من ذلك سواء دلت الأدلة على النصب العام لسائر الوظائف أو لبعضها بالخصوص هذا مع أن تلك الأخبار إذا قيست بالنسبة للأخبار الواردة في هذا الباب تكون ظاهرة في النظر للمنع من الجهاد مع أئمة الجور، و اما دعوى الإجماع على عدم كفاية المجتهد الجامع للشرائط في زمان الغيبة فإن الظاهر من مدعيها أنها حدسية شاك مدعيها فيها كيف

و لو سلمت فهي ليست بحجة لاحتمال استناد المجمعين الى تلك الأدلة الموهون دلالتها.

باقي أحكام المجتهد في باب الجهاد

و من هنا يظهر الحال في الاحكام التي ذكروها في الجهاد للإمام، من أن الكفار المحاربين لا يبدءون بالحرب إلا بعد الدعوة لهم من الامام أو من ينصبه لذلك إلى محاسن الإسلام و امتناعهم عن ذلك إلا إذا عرف لهم محاسن الإسلام بقتال سابق أو بغير ذلك. و من أن له مهادنة الكفار.

و أنه ينبغي له قتال من يليه من الكفار إلا أن يكون الأبعد أشد خطرا أو أكثر ضررا. فان ذلك من أحكام السياسة التي ترجع إلى نظر الامام، و أن الواجب عليه التربص إذا كثر العدد و قل المسلمون حتى تحصل له الكثرة المقاومة و يجعل كل ما يتحرس به المسلمون من الكفار كعمل الحصون و حفر الخنادق و تهيئة الجند و أخذ السلاح الكافي لهم الى غير ذلك مما يقتضيه الحال بحسب العصور و الأزمان لأن أمر الجهاد موكول لنظره لتولية شؤون المسلمين و يجب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 564

على الرعية طاعته. و من أنه يكره طلب المبارزة بدون أذن الامام بل قيل بحرمتها كما أنها تستحب المبارزة كفاية أو عينا إذا ندب إليها الامام و تجب كفاية أو عينا إذا ألزم بها. و من أنه للإمام أو من نصبه أن يذم لأهل الحرب عموما أو خصوصا على حسب ما يراه من المصلحة. و نفي الخلاف في الجواهر عن ذلك و لأن ولايته عامة و الأمر موكول الى نظره في ذلك و يجب الوفاء بالذمام على حسب ما وقع عليه، و من أن الامام يرث الحربي الذي عقد الأمان لنفسه إذا لم يكن له

وراث مسلم. و علل بأنه مال لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب فهو من الأنفال التي جعلها اللّه له كإرث من لا وارث له و قد ناقشنا في ذلك بان المراد بما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب هو خصوص الأرض، و من أن التحكيم و المهادنة لا تجوز إلا بإذن الامام، و من جواز جعل الإمام الجعائل لمن يدله على مصلحة من مصالح المسلمين و ليس للجيش الاعتراض لعموم الولاية و لفعل النبي (ص) كما في الجواهر. و من أن كيفية القتل بيد الامام لمن أسر و الحرب قائمة، و من ان الامام يكون له التخير بين المن و الغداء و الاسترقاق للاسرى بعد انقضاء الحرب و أنه إذا استرق الزوج انفسخ النكاح، و من أن ما شرطه الامام من الجعائل التي يجعلها للقائمين بمصالح المسلمين المحاربين و من السلب إذا شرطه للقاتل يجب إخراجه لأربابه قبل قسمة الغنيمة و هكذا ما رضخه للكفار الذين قاتلوا بإذن الامام. و من أن ما غنمه المسلمون بعد القسمة إذا كان فيه مال لمسلم عاد المال لأربابه و يرجع الغانم على الامام بقيمته فيعطيه من بيت المال و بعضهم قيد ذلك بتفرق الغانمين و إلا أعاد القسمة أو رجع على كل واحد منهم بما يخصه. و من أن للإمام أو من يقوم مقامه عقد الذمة. و من أن تقدير الجزية بيد الامام بحسب ما هو الأصلح للمسلمين، و جواز وضع الامام لها على رءوسهم أو على أراضيهم و جواز اشتراط ضيافة مارة العسكر عليهم، و أن خرقوا الذمة في دار الإسلام للإمام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 565

ردهم إلى مأمنهم، و قيل

أن الامام مخير بين ذلك و بين استرقاقهم أو مفاداتهم أو قتلهم. و من أن الامام إذا ضرب مقدارا من الجزية إلى أمد معين أو على الدوام و قد مات وجب على الإمام القائم بعده إمضاء ذلك و أن أطلق الأول كان للثاني تغيره حسبما يراه صلاحا، و قد حكي عدم الخلاف على ذلك في الجواهر و من أنه على الامام أن يمنع أهل الكتاب استيناف بناء المعابد لهم كالبيع و الكنائس و الصوامع في بلاد الإسلام و لو استجدوها وجب عليه إزالتها سواء كان ذلك البلد مما أحدثه المسلمون كالبصرة و الكوفة و بغداد و سر من رأى و نحوها أو فتحت عنوة أو صلحا على أن تكون الأرض للمسلمين، دون أراضيهم التي فتحت صلحا على أن تكون لهم و يؤدون خراجها فإنه يجوز إقرارهم على بيعهم و كنائسهم و نحوها من معابدهم و أحداث ما شاءوا من ذلك و من أن أهل الذمة إذا فعلوا ما ليس بسائغ في شرعهم أيضا كالزنا كان للإمام أو من يقوم مقامه أن يجري عليهم الحد الذي يجريه على المسلمين و ذهب بعضهم إلى أنه له أن يدفعهم إلى أهل نحلتهم ليقيموا عليهم الحد بمقتضى شرعهم. و من أن للإمام و من يقوم مقامه المهادنة و هي المعاقدة على ترك الحرب بعوض أو غير عوض إذا كان في ذلك مصلحة المسلمين و أن له أن يشترط لنفسه الخيار في نقضها متى شاء قال في الجواهر أن الظاهر قيام نائب الغيبة مع تمكنه مقامه في ذلك لعموم ولايته بل لا يبعد جريان الحكم على ما يقع من سلطان الجواز المعد نفسه لمنصب الإمامة انتهى.

و من أن الامام يجب

عليه العمل بموجب ما شرطه في عقد الهدنة ما قبله الى أن تخرج مدة الهدنة و أنه يجب قتال من خرج على السلطان العادل (و هم أهل البغي) إذا ندب اليه السلطان أو من نصبه السلطان لذلك بل من وظائف الامام جواز قتال كل من خالف أمره في حق وجب عليه أدائه كما لو امتنع من الزكاة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 566

أو الصلاة أو الصوم أو نحو ذلك، و له أن يستعين بأهل الذمة في قتال المسلمين البغاة مع الضرورة.

الخامس و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد وجوب إجبار المجتهد للمحتكر على بيع ما احتكره

لا يخفى ان الاحتكار الممنوع منه شرعا هو حبس الطعام طلبا لغوا الثمن مع احتياج أهل البلد و فقد بائع له أو باذل له فلو حبسه للقوت أو للتصدق أو لطلب زيادة الثمن مع عدم احتياج الناس له أو مع احتياجهم و وجود البائع له و الباذل له بنحو يقوم بحاجتهم فلا مانع منه شرعا لعدم الخلاف المحكي و لقول الصادق (ع) في حسنة الحلبي أو صحيحته إنما الحكرة أن يشتري طعاما ليس في المصر غيره فيحتكره فان كان في المصر طعام أو متاع غيره فلا بأس بأن يلتمس بسلعته الفضل و لقول الصادق (ع) في صحيح الحناط انما كان ذلك رجل من قريش يقال له حكيم بن حزام و كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله فمر عليه النبي (ص) فقال له، يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر، فان ظاهره الإشارة إلى الاحتكار الممنوع منه شرعا و كيف كان فالاحتكار أن كان يؤدى إلى تلف النفوس لاضطرارهم لما احتكره و لا مندوحة لهم عنه البالغ إلى حد المخمصة و ما يقرب منها فلا ريب في حرمته و يجب على

متولي شؤون المسلمين من الامام أو نائبه إجبار المحتكر على البيع للإجماع المنقول عن غير واحد بل لضرورة الدين و لصالح مصلحة المسلمين و اما إذا لم يبلغ ذلك حد الاضطرار ففي تحريمه أو كراهته قولان أكثر المتأخرين على الثاني لعدم صراحة بعض الاخبار في التحريم و عدم صراحة ما ظاهره التحريم في مورد البحث بل لعله ظاهر في الاحتكار مع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 567

الاضطرار مضافا لما في حسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (ع) قال سألته عن الرجل يحتكر الطعام و يتربص به هل يصلح ذلك قال (ع) أن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس به و أن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر الطعام و يترك الناس ليس لهم طعام. و حمل الكراهة على الحرمة مجاز خلاف الظاهر و كيف كان فقد حكي عدم الخلاف بين الأصحاب في أن الامام أو من يقوم مقامه يجبر المحتكر على البيع أو غيره من المعاوضات بل في الجواهر حكاية الإجماع عن جماعة عليه و في كتاب ملا جواد (ره) نقل الإجماع المستفيض عليه من دون فرق بين أن يكون المحتكر مالكا أو وكيلا أو وليا و للنصوص منها خبر حمزة عن أمير المؤمنين (ع) أن رسول اللّه (ص) مر بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج الى بطون الأسواق حيث ينظر الناس إليها، و خبر حذيفة ابن منصور عن ابي عبد اللّه (ع) نفذ الطعام على عهد رسول اللّه (ص) فأتاه المسلمون فقالوا يا رسول اللّه قد نفذ الطعام و لم يبق شي ء إلا عند فلان فمره يبيع الناس قال فحمد اللّه و اثنى عليه ثمَّ قال يا

فلان أن الطعام قد نفذ الأشياء عندك فأخرجه و بعه كيف شئت و لا تحبسه، بل ذلك من المصالح العامة للمسلمين فولاية الفقيه في زمن الغيبة تقتضي ذلك بل تقتضي أن المحتكر لو امتنع من المعاملة على ماله مع الإجبار قام الفقيه مقامه في المعاملة على ماله نعم لو بذل المحتكر طعامه صدقة لم يجبر على بيعه إلا في حق من ينقصه قبولها، و قد اختلفوا في جواز تسعير ولي المسلمين للطعام و المشهور عدمه للأصل و عموم التسلط على المال و الإجماع المنقول عن جماعة و لخبر حمزة عن على (ع) المتقدم فان تكملته فقيل لرسول اللّه (ص) لو قومت عليهم فغضب حتى عرف الغضب في وجهه و قال انا أقوم عليهم انما السعر الى اللّه عز و جل يرفعه إذا شاء و يضعه إذا شاء و في مرسل الفقيه انه قيل للنبي (ص) لو سعرت لنا سعرا فقال ما كنت لألقى اللّه تعالى ببدعة لم يحدث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 568

إلى فيها شي ء و لما ورد ان اللّه و كل بالأسعار ملكا يدبرها. و الحق ان يقال انه لا يسعر عليه إلا أنه لو أجحف ألزمه ولي المسلمين بالنزول الى حد ينتفي معه الإجحاف إذ الميزان هو مصلحة المسلمين برفع حاجتهم مع عدم الاضطرار بالغير و في المحكي عن كتاب الأمير (ع) لمالك الأشتر في الاحتكار. و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين العدل واسعا لا يجحف بالفريقين من البائع و المبتاع.

السادس و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد اعتبار قبضه فيما يعتبر فيه القبض إذا كان في الجهات العامة

ان الأمور التي يعتبر في صحتها القبض كالوقف و الهبة و نحوها إذا تحققت بالنسبة للجهات العامة كما لو أوقف على الفقراء أو أوقف مسجدا أو وهبه، للفقراء

نظير ما لو صنع ذلك للمجنون أو للصبي الذي لا ولي له فإنه يعتبر في صحتها قبض الحاكم الشرعي باعتبار ان القبض لا يتحقق بالنسبة اليه ألا بقبض جميع أفراده أو الولي العام و حيث لا يمكن قبض الجميع فيتعين قبض وليهم كما يتولى القبول عنهم و لهذا قالوا في الزكاة ان قبض الحاكم الشرعي لها يكون قبضا عن الفقراء أجمع و موجبا لبراءة ذمة الدافع و كان له الصلح عنها بخلاف قبض بعض مستحقيها فإنه انما يكون قبضا لما يخص المدفوع له باعتبار كونه مصرفا من مصارفها و تحقيق الحال في هذه المسألة يطلب من مظانها و إن كان الأحوط ما ذكرناه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 569

السابع و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد جواز بذل السبق في المسابقة و الرماية من بيت المال

ذكر الفقهاء انه لو بذل الامام السبق من بيت المال جاز بلا خلاف و لا إشكال معللين ذلك بأن فيه مصلحة للإسلام و المسلمين و هي مصرفه. و مقتضي التعليل تعدية الحكم للمجتهد الثابت له الولاية العامة.

الثامن و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد عدم جواز فسخ النكاح بالعيوب بدون مراجعته

حكي عن بعض الأصحاب ذهابهم الى توقف فسخ النكاح في جميع العيوب على الحاكم الشرعي و هو لا وجه له لمخالفته لجميع الأخبار الحاكمة بأن الفسخ للزوجة من غير توقف على أمر آخر. (نعم) ظاهر الأصحاب أن زوجة العنين ليس لها الفسخ قبل الرجوع الى الحاكم الشرعي فيؤجلها سنة و بعد ذلك يكون الفسخ لها و ذكر المحقق الشيخ حسن (ره) شبل كاشف الغطاء (ره) ان مقتضى كلامهم ان الرجوع الى الحاكم الشرعي و الانتظار إلى سنة تعبدي حتى لو تسالم الزوج و الزوجة على العنن و قطعا به و بعدم برئه منه و في كلامهم بحث لا سيما فيما لم يوجد هناك حاكم شرع أو وجد و امتنع من ضرب الأجل انتهى.

و الموجود في أخبار الباب ما يدل على ان التأجيل من حين المرافعة إلى الحاكم كخبر أبي البختري عن جعفر (ع) عن أبيه (ع) عن على (ع) انه يقول في العنين يؤجل سنة من يوم مرافعة المرية. و في خبر قرب الاسناد عن الحسين بن علوان عن جعفر بن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 570

محمد (ع) عن أبيه (ع) عن على (ع) أنه يقتضي في العنين أنه يؤجل سنة من يوم رافعته المرية المنجبر ضعفهما بدعوى عدم الخلاف عن الرياض و من المعلوم ان ظاهرهما أنهما لو ترافعا عند الحاكم كان على الحاكم تأجيله سنة و لا دلالة فيهما على لزوم المرافعة مطلقا

كما انهما ظاهرهما في ان مبدء السنة هو المرافعة فيما لو ترافعا و إلا فكيف مبدئها المرافعة مع عدم الترافع و الاتفاق على وجود العنن هذا. و الظاهر ان المراد بالمرافعة مطلق النزاع بينهما في هذا الموضوع و ان لم يكن عند الحاكم بقرينة عدم تقيدها بذلك. و لكن القوم حملوها على المرافعة عند الحاكم. كما ان من الأخبار ما يدل على انتظاره سنة فقط كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) قال العنين ينتظر به سنة و غيره من الاخبار الدالة على ذلك المؤيدة بنقل الاتفاق على تأجيله سنة عن الشهيد الثاني (ره) و المحقق الشيخ على (ره) و ظاهر هذه الاخبار هو ان التأجيل من جهة احتمال عدم العنن أو احتمال برئه منه و ذلك بقرينة الخبرين المتقدمين فان مقتضى المرافعة هو احتمال عدم العنن أو البرء منه و بقرينة ما روى عن المشايخ الثلاثة عن عباد الضبي أو غياث عن أبي عبد اللّه (ع) أنه قال في العنين إذا علم أنه لا يأتي النساء فرق بينهما. و عن أبي بصير عن ابن مسكان في الصحيح قال:

سئلت أبا عبد اللّه عن امرأة ابتلي زوجها فلم يقدر على الجماع أ تفارقه قال: نعم ان شائت. و عن أبي صباح الكناني قال: سئلت أبا عبد (ع) عن أمرية ابتلي زوجها فلم يقدر على الجماع أبدا أ تفارقه قال نعم ان شائت. و عن الكناني بهذا الاسناد قال: إذا تزوج الرجل المرية و هو لا يقدر على النساء أجل سنة حتى يعالج. و عن عبد اللّه بن الحسين عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال:

سألته عن عنين دلس نفسه لامرئة ما حاله

قال عليه المهر و يفرق بينهما إذا علم انه لا يأتي النساء فان هذه الاخبار ظاهرة في انه مع علم الرجل بالعنن و عدم برئه منه و عدم المرافعة منه في ذلك يفرق بينهما بدون تأجيله سنة. فظهر ان التحقيق ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 571

العنين عند النزاع بينه و بين زوجته في العنن أو البرء منه يؤجل سنة من حين النزاع و ان لم يوجد حاكم و لعل الإجماع المحكي ناظر لهذه الصورة و أما إذا علم وجود العنن و عدم البرء منه و لم يقع من الزوج مناقشة في ذلك مع الزوجة كان للزوجة الفسخ من دون تأجيل و اللّه العالم.

التاسع و الثلاثون من أحكام المجتهد و الاجتهاد بعثه للحكمين في الشقاق بين الزوجين

الشقاق: هو ان يكره كل واحد من الزوجين صاحبه فيكون كل منهما بكراهته للآخر في شق عنه أي في ناحية عنه، و الحكمان هما الشخص الذي يبعثه الزوج و الشخص الذي تبعثه الزوجة و الأصل في ذلك قوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلٰاحاً يُوَفِّقِ اللّٰهُ بَيْنَهُمٰا) و قد اختلف الفقهاء في الباعث للحكمين المذكورين هو الحاكم الشرعي كما عن المسالك من نسبته إلى الأكثر أو الزوجان كما هو المحكي عن ابن بابويه و أبيه. أو أهل الزوجين كما هو المحكي عن السدي. و عن ابن جنيد ان الامام يأمر الزوجين ان يبعثا الحكمين.

و ظاهر الاخبار ان ذلك يرجع للزوجين و ذلك لما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي في الصحيح و في آخر في الحسن عن أبي عبد اللّه (ع) قال سألته عن قول اللّه تعالى فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا قال (ع) ليس

للحكمين ان يفرقا حتى يستأمرا الرجل و المرية و يشترطا عليهما ان شاءا جمعا و ان شاءا فرقا فان جمعا فجائز و ان فرقا فجائز. و نحوها غيرها من روايات الباب فان ظاهر اشتراط الحكمين على الزوجين قبول ما يحكمان به ان البعث انما يكون منهما و إلا لو كان من غيرهما لما كان لهما الاشتراط و كان الأمر يرجع للباعث فان من قال إن البعث من الحاكم يجعله مستقلا لا يتوقف حكمهما على رضائهما. (نعم) عند رفع أمرهما للحاكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 572

الشرعي و تشاحهما و لم يتفقا على الجعل للحكمين فعلى الحاكم الشرعي جعل ذلك لهما و ما يحكم به الحكمان يكون نافذا عليهما و ان لم يرضيا به و ذلك للولاية الثابتة له في رفع الخصومات. و يؤيد ذلك ما عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي (ع) في رجل و أمرية حدث شقاق بينهما أنه قال: (ع) ابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها ثمَّ قال للحكمين هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما و ان رأيتما ان تفرقا فرقتما فقالت المرية رضيت بكتاب اللّه على ولي اللّه فقال:

الرجل أما الفرقة فلا فقال: على (ع) ما تبرح حتى تقر بما أقرت به.

نعم في الجواهر بتقريب و توضيح منا ان الضمير في (خفتم) و في (فابعثوا) للخطاب للجماعة و هو لا بد ان يكون للحاضرين و في (بينهما) للغيبة للزوجين و لا بد ان يكونا غائبين فالمرجع لهما مختلف بالحضور و الغيبة و الجمع و التثنية فلو كان الباعث للحكمين هما الزوجان لاتفق الضميران و لكانت الآية فإن خفتما شقاق بينكما فابعثا.

فلا بد ان يكون ضمير الجمع في الكلمتين عائد للحكام المنصوبين لذلك كما هو المحكي عن الأكثر في المسالك، و عن كنز العرفان و مجمع البيان انه المروي عن الباقر (ع) و الصادق (ع) و (دعوى) المنافاة بين كون الباعث هو الحاكم و بين ما هو ظاهر الأخبار من استئمارهما بأمر الزوجين من الافتراق و الاجتماع (مدفوعة) بأنه لا منافاة بين كون الباعث هو الحاكم و المبعوث عنه يستأمر بأمر الزوجين.

و لا يخفى ما فيه فان اختلاف الضمير لا يوجب ان يكون المخاطب هم الحاكم فلعله المسلمون و يكون من قبيل المطلوب الكفائي. و عليه فلو قام به الزوجان سقط عن الباقين مضافا الى ما عرفت كما في الحدائق ان من قال بأن الباعث هو الحاكم يقول برجوع الأمر إليه دون الزوجين و أما ما نقل عن كنز العرفان و مجمع البيان فهو لم نظفر به في أخبار الباب كما صرح بذلك صاحب الحدائق (ره). على ان اختلاف الضمائر في لغة العرب و في القرآن الشريف مع اتحاد المرجع أكثر من ان يحصى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 573

الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان يكون اللعان بين الزوج و الزوجة بين يديه

المنسوب للأكثر كما هو المحكي عن المسالك أن يكون اللعان بين الزوجين بين يدي الحاكم لحسن بن مسلم سئل الباقر (ع) عن الملاعن و الملاعنة كيف يصنعان قال: يجلس الامام مستدبر القبلة فيقيمها بين يديه. و عن ابن سعيد استحباب ذلك و يؤيده المرسل عن الصادق (ع) انه قال: و السنة ان يجلس الامام للمتلاعنين و يقيمها بين يديه كل واحد منهما مستقبل القبلة و الأدلة لا تفي بوجوب ذلك.

الواحد و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد انه ينفق على اللقطة من الإنسان و الحيوان و التي يخشى فسادها يبيعها

اشارة

يظهر من الفقهاء الاتفاق على وجوب الإنفاق على اللقيط و اللقيطة من ولي المسلمين عند عدم مال لهما و لا متبرع على الإنفاق عليهما و ان اختلفوا في ان الإنفاق عليهما يكون من بيت المال كما هو المشهور أو بنحو القرض و الأصح هو الأول لما في الجواهر من حكاية عدم الخلاف فيه عن المبسوط و لأنه بعد الحكم بحريته و إسلامه و فقره في ظاهر الشرع و اعداد بيت المال لمصالح المسلمين كان اللازم الإنفاق عليه منه قال: في الجواهر و هل يلحق نائب الغيبة بالسلطان على وجه يجب على الملتقط رفع الأمر اليه لم أجد تصريحا به و لكنه محتمل. و أما الضال و الضالة ففي مفتاح الكرامة ان عبارات الفقهاء قد طفحت بأن السلطان إذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 574

وجد و رفع أمرهما إليه أنفق عليهما من بيت المال صرح بذلك في المقنعة و النهاية و السرائر و النافع و التحرير و اللمعة و المهذب و المقتصر و الروضة و المسالك و غيرها قال (ره) و فيه ما تقدم من أنه لا ينفق على مال الغير من بيت المال بل يستقرض عليه أو يباع فيه و أما المال

الملتقط الذي يخشى فساده ففي محكي التذكرة انه لم يجز بيعه بنفسه مع وجود الحاكم لأنه مال الغير و لا ولاية له عليه و لا على مالكه كالمال الغير الملتقط و لا يخفى ان هذا انما يتم لو لم نقل بأن للملتقط الولاية على المال لأن له جواز تملكه و الصدقة به بعد التعريف. و لو افتقر بقاء اللقطة إلى العلاج كالرطب المفتقر الى العلاج رجع الى الحاكم فيبيع الحاكم بعضه و ينفقه عليه وجوبا حذرا من التلف قال في مفتاح الكرامة و وجه تعين الرجوع الى الحاكم انه مال غائب و هو وليه في حفظ ماله و في العمل ما هو الحفظ له فيه. و لكن قد عرفت ان هذا انما يتم لو لم تكن للملتقط الولاية على المال و ظاهر الاخبار أنه له الولاية عليه.

هل يجب على الحاكم قبول اللقطة

ذهب بعضهم الى أن الملتقط يجوز له دفع اللقطة إلى الحاكم لأن يبيعها لأنه ولي الغائب في الحفظ و في المحكي عن المسالك أنه يجب على الحاكم قبولها لأنه معد لمصالح المسلمين و من أهمها حفظ أموالهم. و لا يخفى ما فيه فان أدلة اللقطة ظاهرة في ولاية الملتقط عليها و هو الحافظ لها فلا يجب على الحاكم الحفظ لأن اللقطة محفوظة بيد الملتقط و تحقيق ذلك كله يطلب من كتاب اللقطة.

الثاني و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد جواز القضاء و الحكم للمجتهد

اشارة

تقدم ص 133 الفرق بين الحكم و الفتوى كما تقدم أنه يجوز للمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 575

الفتوى و الكلام هنا في جواز الحكم له و القضاء و قد عرفت معنى الحكم في الفرق بين الفتوى و الحكم. و اما القضاء فهو بالمد و القصر و هو في اللغة لمعاني كثيرة و عن مجمع البيان و عن الصدوق أنها عشرة معاني و الظاهر ان بعضها يرجع الى بعض، منها الحكم و الإلزام كقوله تعالى وَ اللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ و منها الإتمام كقول تعالى فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ و عن المسالك أنه سمي القضاء قضاء لأن القاضي يتم الأمر بالفصل و يمضيه و سمي حكما لما فيه من منع الظالم عن ظلمه و عن كشف اللثام هو فصل الأمر قولا أو فعلا، و في عرف الفقهاء عبارة عن ولاية شرعية لمن له أهلية الفتوى على الحكم في إثبات الحقوق و استيفائها و في المصالح العامة و الظاهر أنه بمعنى الحكم المخصوص و في محكي الروضة فسره بنفس الحكم بين الناس و يدل على ذلك المشتقات منه كقضى و يقضى و أقضي فالظاهر عدم ثبوت معنى جديد للفقهاء يغاير معناه اللغوي كما

أنه لو كان عرف الفقهاء ما ذكر للزم اختصاص القضاء عندهم بالصحيح و لا يطلق على الفاسد مع أنه لا إشكال في إطلاقه على قضاة غير الشيعة عند الفقهاء على سبيل الحقيقة، و الشرائط التي ذكروها للقضاء ليست هي شرائط لنفس القضاء و انما هي شرائط لصحته و لكن الظاهر انما دعاهم لنسبة ذلك المعنى للفقهاء و هو رؤيتهم صدق القاضي على صاحب الولاية و أن لم يصدر منه الحكم فعلا كما لو كان نائما لكن قد عرفت في مبحث الاجتهاد إن المشتق إذا صدق لا يلزم منه أن يكون مصدره بمعناه الحقيقي متحقق كما في نجار يصدق على النائم من دون صدور نجارة منه (ثمَّ لا يخفى) انا لا ننكر كون القضاء من الولايات و أنه من شعب الرئاسة و الولاية العامة للأئمة الأطهار و انما ننكر أن يكون معناه عند الفقهاء كذلك. و يدل على شرعيته العقل لاحتياج الناس إليه في فصل الخصومات الواقعة بينهم و قطع منازعاتهم فلولاه لاختل النظام و يدل عليه أيضا القرآن الكريم بقوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 576

وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) و قوله تعالى مخاطبا لداود إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ: و يدل عليه أيضا مشهورة أبي خديجة إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم قاضيا فإني قد جعلته قاضيا فحاكموا اليه: و قوله عليه السلام القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنة و جعل (ع) الرجل الذي قضى

بالحق و هو يعلم في الجنة: و قول الصادق عليه السلام اتقوا الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل بين المسلمين كنبي أو وصي و قول أمير المؤمنين عليه السّلام لشريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي و قول ابي عبد اللّه (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة في رجلين وقعت بينهما منازعة ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حاكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه تعالى و هو على حد الشرك باللّه: و في رواية أبي خديجة الأخرى اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضيا و يدل عليه أيضا الإجماع و المستفاد من الجميع أنه من مناصب النبي و الأئمة (ع) بالأصالة لكونه من شؤون الرئاسة العامة و الولاية التامة الثابتة لهم (ع) من ضرورة المذهب و أن ثبوت هذا المنصب لغيرهم انما هو من قبلهم و بواسطتهم و انهم (ع) قد أثبتوه للمجتهد العادل الجامع لشرائط الإفتاء للإجماع القطعي على ذلك بل الضرورة و مقبول عمر بن حنظلة. و مشهورة ابي خديجة المتقدمتان

[قضاء المنسد عليه باب العلم و العلمي.]

هذا (و قد يورد) على جواز قضاء المجتهد المنسد عليه باب العلم و العلمي بناء على الحكومة بل من رجع الى الأصول العملية العقلية بأن مثله ليس ممن يعرف الاحكام مع أن معرفتها معتبرة في القاضي كما دلت عليه المقبولة كما في كفاية الاخند (ره) نعم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 577

بناء على الكشف

يصدق عليه انه عارف بحلالهم و حرامهم كالمجتهد الذي قامت عنده الامارة فيكون مشمولا للمقبوله. و (دعوى) أن كل من قال بجواز قضاء المجتهد قال به من دون فرق بين المنفتح عنده باب العلم و بين المنسد و بين من رجع للأصول العقلية فبواسطة عدم القول بالفصل يثبت جواز قضائه. (فاسدة) لأنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل لأن المسألة من المستحدثات أو من جهة الغفلة عنها. (و دعوى) ان المجتهد المنسد عليه باب العلم أو الراجع للأصول العقلية بواسطة علمه بالأحكام التي هي موارد الإجماعات و الضرورات و المتواترات إذا كانت بمقدار يعتد به فيصدق عليه ممن عرف حلالهم و حرامهم فتدل المقبولة على جواز قضائه و ان كان منسدا عليه باب العلم في معظم الفقه. (فاسدة) لأن ظاهر أدلة القضاء أن يكون القاضي عالما بأحكام الواقعة و فرض الكلام أنه ليس بعالم لانسداد باب العلم عليه أو رجوعه للأصول العقلية. (و الجواب عنه) ان المراد بالمعرفة في المقبولة و غيرها هو المعرفة بالوظيفة الشرعية الفعلية حسب الموازين التي يقتضيها العقل و المنسد عليه باب العلم و العلمي قد عرف الوظيفة الشرعية التي يريدها منه المعصومون (ع) و قد تقدم منا توضيح ذلك و تنقيحه.

و قد يورد على جواز قضاء المجتهد ثانيا بأن المقبولة قد دلت على ان المجتهد انما يصح ان يقضى بحكمهم (ع) لقوله (ع) فيها (فاذا حكم بحكمنا) و المجتهد لم يحرز أن ما أدى اليه اجتهاده هو حكمهم (ع) بل يعرف ان هذا مؤدى الأمارة أو الأصل العملي خصوصا إذا كان منسد عليه باب العلم. (و أجاب عنه) في الكفاية بأن إسناد الحكم إليهم (ع) على سبيل المجاز كما

لو قلت هذا الحكم السلطان و الحاكم هو وكيله أو نائبه فنسبة الحكم الصادر من المجتهد إليهم (ع) في المقبولة باعتبار أنه منصوب منهم (ع) و القرينة على هذا المجاز هو كون المجتهد في مقام الحكم غالبا يحكم بقضايا شخصية مثل ان هذه الدار لزيد مع ان الحكم الجزئي لم يكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 578

صادرا عنهم (ع) فلو أريد بالمقبولة خصوص الصادر منهم (ع) لزم اختصاص المقبولة بالفرد النادر. و ذهب المرحوم الأصفهاني (ره) أنه يحتمل بقرينة صدر المقبولة و هو (من عرف أحكامنا) ان المراد بقوله فيها (إذا حكم بحكمنا) أنه إذا حكم بما عرفه من أحكامنا بالطرق المقررة لمعرفتها كما يحتمل ان المراد إذا حكم بأحكامهم (ع) المقررة لفصل الخصومات في مقام القضاء كما يحتمل أن المراد هو كونه من جزئيات الحكم الوارد عنهم (ع) و كون قواعدهم (ع) منطبقة عليه و لا ريب ان القاضي يعلم بذلك بواسطة اجتهاده. (أقول التحقيق) ان المراد به أنه إذا حكم بحكم بعنوان أنه حكم للمعصومين (ع) احترازا من أن يحكم بحكم المخالفين أو أهل العرف أو بحكم العقل أو بحكم السلطان فان من نظر في حلالهم و حرامهم قد يحكم بينهم لا بعنوان أنه حكمهم (ع) بل بعنوان حكم أهل العرف أو بعنوان حكم العقل فلا يلزم الأخذ به و جاز رده.

جواز قضاء [المجتهد] المتجزي

ثمَّ أن أنه يجوز القضاء للمجتهد المتجزي كما يجوز للمجتهد المطلق إذا كان مجتهدا بالمسائل التي تخص القضاء في المسألة المتنازع فيها و يدل على ذلك مشهورة أبي خديجة المتقدمة صفحة 191 خصوصا على نسخة (قضائنا) بدل قضايانا. و للإجماع المركب بعد ما ثبت جواز تقليده فان المحكي

عن غير واحد ان من قال بجواز تقليده قال بجواز قضائه و الترافع اليه. و قد أورد على ذلك المرحوم آغا ضياء و غيره من المعاصرين بمقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة صفحة 203 و سبقهم الى ذلك المرحوم صاحب الجواهر و ارجع مشهورة أبي خديجة إلى مفاد المقبولة و أورد على ذلك أيضا بما في التوقيع عن صاحب الأمر (ع) من قوله (و أما الحوادث الواقعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 579

فارجعوا فيها الى رواه حديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) و في بعض الكتب فإنهم خليفتي عليكم: و تقريب الإيراد بذلك ان هذه المذكورات تدل بظاهرها أنه يعتبر في القاضي معرفة جميع الأحكام الشرعية عن مداركها فان قوله (ع) (عرف أحكامنا) ظاهر في معرفة جل الأحكام لإضافة الجمع و عبر (بالمعرفة) للإشارة إلى اعتبار أن تكون عن مدرك لا عن تقليد، و على هذا يخرج قضاء المتجزي إلا إذا فرض كون المتجزي عارفا بغالب الأحكام و كانت له قوة استنباط جل الأحكام بحيث يصدق عليه أنه عارف بأحكامهم (ع) و قد تقدم صفحة 203 الجواب عن ذلك و ان المراد بها الجنس مضافا الى ما عرفته غير مرة من أن مناسبة الحكم الموضوع تقتضي معرفة ما يخص الموضوع المتنازع فيه، مضافا الى أن ذلك هو مقتضي الجمع بينهما و بين مشهورة أبي خديجة المتقدمة صفحة 191 فإن المقبولة لو كانت ظاهرة في بيان ما يعتبر في القاضي فمشهورة ابي خديجة أيضا كذلك لها ظهور في ذلك بل ظهورها أقوى من ظهور المقبولة لما عرفت صفحة 203 أن سياق المقبولة ظاهر في الجنس و لو سلمنا تساوي الظهورين فيتساقطان و

كل منهما يكون دالا على أن المذكور فيها منصوبا للقضاء و ليس حينئذ إحداهما تنفي نصب الآخر قاضيا. و أما التوقيع فظاهر في إرادة الجنس لكون (الحديث) مفردا مضافا و لو سلمناه فالكلام فيه عين الكلام في المقبولة، و قد أورد ثانيا على الاستدلال بمشهورة أبي خديجة لجواز قضاء المتجزي بالإيراد العاشر عليها المتقدم صفحة 195 و جوابه هو الجواب. و يرد ثالثا على الاستدلال بمشهورة أبي خديجة لجواز قضاء المتجزي عدم العمل بها في خصوص المقام كما عن بعضهم و في الجواهر عدم الجابر لسندها بالنسبة الى ذلك بل الموهن متحقق فإني لم أجد من أثبت جميع أحكام المجتهد المطلق للمتجزي عدى ما يحكى عن الأردبيلي (ره) مستدلا بخبر أبي خديجة. (و جوابه) انه لم يعلم عدم الفتوى بمضمونها فيمن اجتهد في خصوص

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 580

مسائل القضاء على انك قد عرفت عدم و هن سندها و ان المحكى عن المسالك الاتفاق على العمل بمضمونها كما تقدم صفحة 192 على أن نفس صاحب الجواهر (ره) احتمل جواز الحكم بالمعلوم من أحكام أهل البيت (ع) للمتجزي و حكاه عن بعضهم خصوصا مع عدم المجتهد المطلق. و يرد رابعا أن في المسالك دعوى وفاق الأصحاب على عدم جواز الحكم ممن لم يكن مجتهدا مطلقا و في الجواهر دعوى الإجماع بقسميه على ذلك. (و جوابه) ان عبارة المسالك في باب الأمر بالمعروف غير صريحة في ذلك فإنه إنما ذكر ذلك في الفقيه المجتهد و من المعلوم ان هذا أعم من المتجزي و المطلق و أما صاحب الجواهر فقد اعترف (ره) بحكاية الخلاف في ذلك عن الأردبيلي (ره) و احتمل جواز الحكم من

المتجزي في المعلوم من أحكام أهل البيت (ع) و حكاه عن بعضهم و (الحاصل) ان الإجماع المفيد للقطع بحكم الامام (ع) هنا غير حاصل فيصح التمسك بالرواية المذكورة على انك قد عرفت أن غيرها من الروايات أيضا فيه دلالة على ذلك بمناسبة الحكم للموضوع فان المراد بها من عرف أحكامنا التي تخص الواقعة المتنازع فيها. هذا و قد ذكر الفقهاء (ره) شروطا لقضاء المجتهد تطلب من كتاب القضاء

و ينبغي التنبيه على أمور.
[التنبيه الأول] ان الحاكم يحكم بعلمه

(التنبيه الأول) الظاهر ان المجتهد يحكم بعلمه الناشئ من الأسباب العادية و ان قامت البينة على خلافه كما لو رأى الهلال بعينه و اطلع على قتل زيد لعمر بنفسه دون الناشئ من أسباب غير عادية كالمكاشفات و الرمل و الجفر لقيام الإجماع على عدم جوازه (و قبل الخوض في ذلك) ليعلم ان الظاهر أن محل الخلاف هو ما كان التخاصم في الموضوعات الخارجية ككون هذا ملك زيد و هذا زاني و نحو ذلك و أما إذا كان النزاع من جهة الشبهة الحكمية كما لو كان نزاعهم من جهة عدد الرضعات المحرمة فلا إشكال في عمل المجتهد بعلمه إذ يكون الرجوع إليه حينئذ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 581

في فتواه و لا ريب في أنه يفتي بما يعلم به دون غيره و لا يتصور في هذه الصورة مخالفة موازين القضاء من البينة و نحوها لعلمه لأنه في هذه الصورة لا يرجع لموازين القضاء و انما يرجع للفتوى و الحاصل أن المجتهد لا بد و ان يحكم بعلمه و يدل على ذلك الإجماع المحكى عن الانتصار و الغنية و الخلاف و ظاهر السرائر و نهج الحق و غيرها على حكم الحاكم بعلمه فلا تضر مخالفة

ابن جنيد. و لقول أمير المؤمنين (ع) لشريح لما طلب منه شاهدين ويحك ان امام المسلمين يؤمن على ما هو أعظم من ذلك و لقوله تعالى يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ) و قوله تعالى وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ و قوله تعالى وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ. و لا ريب في أن حكمه بحسب علمه حكم بالحق كما أن حكمه بخلاف علمه حكم بالباطل ألا ترى أن الحاكم لو اطلع على أن عمر قتل زيدا ثمَّ قامت البينة على أن خالدا قتله فان حكمه بمقتضى البينة يكون خلاف العدل و القسط و الحق لأنه حكم بخلاف الواقع و قس الباقي على ذلك. مضافا الى ان كلما علق فيه الحكم على الأمر الواقعي من حد أو قصاص كان العقل حاكما بلزوم العمل به و الحكم به عند تحققه. و عند العلم و القطع به يرى العقل تحققه و ان شئت قلت أن جميع ما دل على حد السارق و الزاني و ما دل على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يدل على ان الحاكم لو علم بالواقع لزمه الحكم به إذ لا يحتاج تنجزها إلى شي ء سوى العلم بها قال صاحب أنوار الفقاهة ان عدم القضاء بالعلم قد يؤدي الى إيقاف الحكم أو الفسق من الحاكم كما إذا طلق الرجل ثلاثا عند الحاكم ثمَّ أنكر ذلك الرجل فلو لم يحكم الحاكم بعلمه لزم أما تسليمها اليه و هو فسق أو اعانة على الإثم و العدوان و أما ترك الحكم. مضافا الى ان حجية البينة و باقي موازين القضاء أمارات على الواقع فهي غير مجعولة للعالم بالواقع.

فان الامارات سواء كانت حجيتها بنحو الطريقية للواقع أو بنحو الموضوعية و السببية انما هي مجعولة لغير العالم بالواقع مضافا الى ان القول بعدم حجية العلم للحاكم و حجية البينة و نحوها من موازين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 582

القضاء عند العلم بكذبها يلزمه التصويب الباطل لما عرفت من أن النزاع إن كان في الشبهات الحكمية فالمرجع هو علم الحاكم فلا بد أن يكون محل البحث هو الموضوعات فاذا قلنا بحجية موازين القضاء فيها حتى مع علم الحاكم بالخلاف لزم التصويب في الموضوعات لأن مثل القاتل و الزاني و المديون و نحوها من موضوعات الاحكام ليس مما يعم الموضوع الواقعي و ما يقام عليه البينة بالضرورة من العامة و الخاصة فالبينة أن بدلت الموضوع لزم التصويب في الموضوعات و ان لم تبدله فلا يعقل ثبوت حكم غيره له و ان بدلت البينة الحكم الواقعي إلى حكم آخر لزم التصويب و الإلزام اجتماع الحكمين المتباينين في موضوع واحد في مرتبة واحدة و هي مرتبة العلم لأن الفرض أن الحكم الثابت بواسطة البينة ثابت في مرتبة العلم بالواقع أيضا مضافا لقوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. و لجعله (ع) الرجل الذي يقضي بعلمه في الجنة في تقسيمه القضاة إلى أربعة. (أن قلت) فما تصنع في خبر الحسين بن خالد عن الصادق (ع) انه قال الواجب على الإمام إذا نظر الى رجل يزني أو يشرب خمرا ان يقيم عليه الحد و لا يحتاج الى بينة مع نظره لأنه أمين اللّه في خلقه و إذا نظر الى رجل يسرق فالواجب عليه أن يزجره و ينهاه و يمضي و يدعه قال قلت كيف

ذلك فقال لأن الحق إذا كان للّه تعالى فالواجب على الامام (ع) اقامته و إذا كان للناس فهو للناس و بمضمونه أخبار أخرى. (قلنا) قد أجابوا عن ذلك بما حاصله أن الرواية انما تدل على كون مطالبة ذي الحق في حق الناس شرطا لإقامة الحد فان معنى قوله (ع) (و إذا كان للناس فهو للناس) ان الحق الذي يكون للناس فأمره يرجع إليهم و هذا لا ينافي وجوب القضاء بالعلم في حقوق الناس كما انه لا يقضي في حقوق الناس بالبينة و الإقرار إلا بعد مطالبة ذي الحق كما هو المحكي عن جماعة مدعين على ذلك الإجماع على توقف القضاء في حقوق الناس على مطالبة ذي الحق (نعم) يحكي الخلاف في ذلك عن الشيخ في المبسوط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 583

و عن بعض آخرين فحكموا بجواز القضاء بالإقرار لبعض الروايات و لكنه ضعيف.

و يدل على ما ذكرناه ما رواه سماعة عن الصادق (ع) قال من أخذ سارقا فعفى عنه فذاك له و ان رفع الى الامام قطعه فان قال الذي سرق منه الا أهب له لم يدعه الامام حتى يقطعه إذا رفعه اليه و انما الهبة قبل ان يرفع الى الامام. و ما أرسله في الفقيه و الخصال من ان صفوان بن أمية سرق ردائه فأخذ السارق و جاء به الى رسول اللّه (ص) و اقام على ذلك شاهدين فأمر (ص) بقطع يمينه فقال صفوان يا رسول اللّه أ تقطعه من أجل ردائي فقد و هبته له فقال (ص) الا كان هذا قبل أن ترفعه الى فجرت السنة في الحد إذا رفع الى الامام و قامت عليه البينة أن لا يعطل

و يقام (ان قلت) انه يلزم على هذا أنه لو حكم الحاكم بان هذا قول رسول اللّه (ص) حيث أنه علم به لزم إنفاذ حكمه عند جميع الحاكم و العمل به و هو لا يلتزم به احد (قلنا) الإجماع على عدم نفوذ حكمه في ذلك هو المانع فهو نظير الحكم بان حكم اللّه تعالى هو هذه الفتوى. (ان قلت) ما تصنع بقوله (ص) (لو كنت راجما من دون بينة لرجمتها) فإنه ظاهره أن النبي (ص) كان يعلم باستحقاقها للرجم و لم يحكم بذلك لعدم قيام البينة عنده على ذلك. قلنا الخبر ضعيف فلا يؤخذ به. (ان قلت) ان الاخبار خالية عن الحكم بالعلم و انها انما علقت الحكم في جميعها بالبينات و الايمان و لم يذكر معها الحكم بالعلم و إن الرسول (ص) و الأئمة (ع) لم يزالوا يحكمون بالبينة و اليمين مع علمهم بالواقع فعلا أو بالمشيئة بمعنى أنهم لو أرادوا أن يعرفوا الواقع لعرفوه. و لا ريب في عدم المطابقة بين علمهم و البينة و اليمين في جميع أحكام الدعاوي و لم يزالوا يقفوا عن الحكم و الحد حتى توجد البينة. و لم ينقل عنهم (ع) أنهم ردوا بينة في حد أو قصاص أو قطع خصومة لعلمهم بخلافها أو حكموا ابتداء على شخص بحق و أسندوا ذلك إلى علمهم (ع) (قلنا) لندرة حصول العلم عند القضاة لم يتعرض له في الاخبار بل لبداهة العمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 584

بالقطع ترك التعرض له. على أن الأدلة الآمرة بالحكم بالعدل و القسط و الحق تكون دالة على اعتبار الحكم بمقتضى العلم لأن الذي يحكم بخلاف قطعه يكون قد حكم بخلاف الواقع

و هو حكم بغير العدل و بغير القسط و بغير الحق (و دعوى) أن ما دل على حصر الموازين للقضاء بأربعة يقتضي نفي كون العلم من موازين القضاء (فاسدة) جدا للقطع بأن الموازين الشرعية كلها أمارات على الواقع و من شأن الامارات اختصاصها بالجاهل فهي موازين بالنسبة للجاهل بالواقع. مضافا إلى أنه لم يثبت إهمال الامام لعلمه في مورد و على تقدير الثبوت فهو قضية في واقعة محتملة لكثير من التأويلات و التوجيهات ككون الموضوع فيها مبني على الظاهر كما يقال أن من نعلم بأنه يبطن الكفر و لكن يظهر الإسلام يرتب عليه آثار الإسلام من الطهارة و غيرها لان الموضوع لتلك الاثار هو إظهار الإسلام. أو كون المصلحة العامة تقتضي عدم الحكم بالعلم. و لعل منه عدم حكمهم بكفر بعض الفرق أو من جهة التقية و نحوها على أنا لا نسلم انهم لم يعلموا بعلمهم الحاصل لهم من الأسباب العادية و انا لو سلمنا ذلك فانا إنما نسلمه في علمهم الحاصل من الأسباب الغيبية التي من المصلحة العامة إخفائها على الناس و التي قد ذكرنا في صدر البحث عدم الدليل على لزوم العمل به.

[حرمة قضاء من ليس له أهلية القضاء.]
اشارة

من ليس له أهلية القضاء يحرم عليه القضاء بين الناس. و حكمه غير نافذ. و لا يجوز الرجوع إليه في مقام التخاصم. و لا يجوز الشهادة عنده. و المال الذي يؤخذ بحكمه حرام (التنبيه الثاني) قال السيد (ره): في عروته أن من ليس له أهلية القضاء يحرم عليه القضاء بين الناس و حكمه ليس بنافذ و لا يجوز الرجوع إليه في فصل الخصومة بالترافع عنده و لا تجوز الشهادة عنده. و المال الذي يؤخذ بحكمه حرام

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 1، ص: 585

و ان كان الآخذ محقا إلا إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع عنده فهذه أحكام خمسة (أما حرمة قضائه بين الناس) فلأن عدم أهليته إن كان من جهة جهله بالمسألة المترافع فيها أو من جهة جهله بأصول القضاء و قواعده فواضح لكون قضائه موجبا للتفويت الحقوق و تضيع الأموال و اباحة الإعراض مع أن كل ذلك مما علم بعدم رضاء المولى به فيكون التسبيب لوقوعها حراما مضافا إلى أن الأدلة الدالة على القضاء التي سنذكرها فيما بعد تدل على أنه من الأمور المختصة بالنبي (ص) و الأئمة من بعده و من أذنوا له بذلك و المذكور لم يأذنوا له بذلك قطعا.

و ان كان عدم أهليته من جهة عدم اجتهاده المطلق و إلا فهو عارف بالمسألة المترافع فيها و أصول القضاء فحرمة ذلك مبني على عدم جواز قضاء المتجزي و قد تقدم منا الكلام في ذلك في مبحث تجزي الاجتهاد. و ان كان عدم أهليته من جهة فقده للشروط المعتبرة في القاضي من العدالة أو طهارة المولد و نحوها فحرمة ذلك من جهة أن الأدلة الدالة على جواز القضاء تدل على أنه من الأمور المختصة بالنبي (ص) و الأئمة (ع) من بعده أو من أذنوا له بذلك و لا ريب أن القاضي الفاقد للشروط المعتبرة فيه غير مأذون منهم فيحرم عليه القضاء. مضافا للأدلة الكثيرة منها صحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (ع) قال: اتقوا الحكومة فإن الحكومة انما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصي و في نسخة أخرى لبني أو وصي. و كرواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال: أمير المؤمنين لشريح

يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي.

[من كان عالما بالأحكام الشرعية من طريق التقليد يحرم عليه القضاء.]

(و اما) إذا كان عاميا و لكنه عالم بالقضاء عن طريق التقليد فقد حكي عن بعضهم جواز القضاء له إلا ان الحق عدم جوازه له لما عرفته من ان القضاء من الأمور المختصة بالنبي (ص) و الأئمة (ع) أو المأذون من قبلهم و المقلد حتى العالم بالقضاء عن طريق التقليد لم يثبت الاذن له بذلك فهو حرام عليه. و قد حكي الإجماع من المسالك على ذلك و ادعى الإجماع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 586

في أنوار الفقاهة عليه. (نعم) حكي عن المرحوم المتبحر صاحب الجواهر (ره) في كتاب القضاء ثبوت الاذن بالقضاء للعالم بالقضاء و لو عن طريق التقليد و انه ناقش في الإجماع المذكور و قد استدل له على ذلك بوجهين:

(أحدهما): الروايات منها رواية أبي خديجة قال أبو عبد اللّه (ع): إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا (و في نسخة) (من قضائنا) فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا اليه بتقريب أن العلم أعم من القطع الوجداني أو الظن الحاصل من الأمارة المعتبرة شرعا بدليل شمول الرواية عند الجميع للمجتهد الذي أكثر استنباطاته ظنية و لا ريب أن العامي المقلد قد حصل له الظن من الأمارة المعتبرة و هي الفتوى.

(و منها) ما في روايته الأخرى عن أبي عبد اللّه: اجعلوا بينكم رجلا عرف حلالنا و حرامنا فإني قد جعلته قاضيا، بتقريب أن المعرفة للحلال و الحرام تشمل المعرفة عن تقليد. (و منها) رواية الحلبي قال قلت: لأبي عبد اللّه (ع)، ربما كان بين الرجلين من

أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منا فقال (ع):

ليس هو ذاك انما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط بتقريب ان الامام (ع) قرر السائل على جواز التراضي على قضاء رجل منا بقوله (ع) ليس هو ذاك فان المراد منه أن الرجل منا الذي تراضيا على قضائه ليس هو ذاك القاضي المنهي عن الرجوع إليه في القضاء، و حيث ان ترك استفصال الامام (ع) عن انه رجل مقلد أو مجتهد علم جواز قضاء كل عالم حتى عن طريق التقليد (و لا يخفى ما فيه) فان إطلاق هذه الروايات منصرف عن المقلد العامي و لو سلم الإطلاق فيها فهي مقيدة بمقبولة عمر بن حنظلة بقوله (ع) فيها (ينظر ان من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا) فإنه ظاهر في المجتهد لأنه هو الذي له النظر في الروايات من حيث الدلالة و السند لمعرفة الأحكام الشرعية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 587

و مقيدة أيضا بالتوقيع الشريف عن الإمام الحجة عجل اللّه فرجه بقوله (و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) بناء على شمول الحوادث حتى للمنازعات فإنه (ع) أرجعهم للرواة الذين يعرفون الحكم الشرعي من الاجتهاد في الروايات و لم يرجعهم لمطلق من عرف الأحكام الشرعية و لو عن الفتوى و دعوى أنهما لا يصلحان لتقيد تلك المطلقات لأن كل منهما مثبتين للحكم فاسدة لأن الظاهر منهما انهما في مقام بيان تمام الموضوع للحكم.

و أما ما ذكره بعضهم من أن الروايات المذكورة ليس لها إطلاق بحيث تشمل المعرفة عن تقليد لأنها في مقام بيان

اشتراط الايمان في القاضي في مقابل العامة و انه لا بد و ان يكون من الشيعة، و أما من جهة أنه مطلق من يعرف الحكم أو خصوص المجتهد فليست الروايات في مقام بيانه. فلا يخفى ما فيه فان رواية أبي خديجة الأولى ظاهرة في مقام بيان اعتبار المعرفة كما أنها في مقام بيان أنه من الشيعة لتعقيبه (ع) (يعلم) بقوله (منكم).

(الوجه الثاني) الذي استدل به على جواز قضاء العامي المقلد: أن المنصوبين من قبل الأئمة (ع) في زمن الحضور للقضاء لم يكونوا مجتهدين عندهم ملكة الاستنباط بل أغلبهم سئلوا الأئمة (ع) عن الأحكام الشرعية و عرفوها بطريق الجواب لا بطريق الاجتهاد و أعمال ملكة الاستنباط نظير سؤال العوام للعلماء و معرفتهم الأحكام الشرعية منهم. و الجواب عنه أن المنصوبين منهم للقضاء لا بد و أن يكونوا عندهم ملكة الاجتهاد و الاستنباط للأحكام الشرعية لابتلائهم بمختلف الوقائع و القضايا الموقوفة على اطلاعهم على الأدلة الشرعية و الأخبار الدينية و حمل العام منها على الخاص و المطلق على المقيد و أعمال قواعد المعارضة لا سيما من بعد عن ديارهم (ع) أو شق عليه الوصول إليهم (ع) إلى غير ذلك من الأمور التي لا بد من إعمالها في معرفة أحكام الوقائع المتوقفة على ملكة الاستنباط و ليس الاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 588

إلا ذلك غاية الأمر سهولة الاجتهاد في عصرهم (ع) لسهولة مقدماته في ذلك العصر و صعوبته في عصرنا لصعوبة مقدماته علينا.

(و أما ان حكمه غير نافذ) فلأن الأدلة الدالة على نفوذ حكم القاضي إنما تخص من كان فيه أهلية القضاء فاذا كان لا أهلية له فلا تشمله الأدلة فالأصل عدم نفوذ حكمه.

[حرمة الترافع الى من ليس له أهلية القضاء.]

(و أما عدم جواز الترافع إلى من ليس بأهل للقضاء) فقد حكي الإجماع عليه و العمدة في المقام هو الاخبار الدالة على عدم جواز الرجوع إلى قضاة العامة و أهل الجور فإنها و ان اختصت بقضاة العامة إلا ان مقتضى الضابط المذكور فيها أنه حكم كل من ترافع إلى غير من كان داخلا في الضابط المزبور فيها بعد تقيد مطلقها بمقيدها (منها) رواية أبي خديجة المتقدمة حيث فيها إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فان قوله (ع) و لكن انظروا بمنزلة الضابط و لا ريب ان المراد بالرجل هو الجامع لباقي صفات القاضي بواسطة الأدلة الدالة على تقيد القاضي بها فتكون الرواية دالة على حرمة التحاكم و الترافع إلى غيره (و نظيرها) روايته الأخرى قال بعثني أبو عبد اللّه إلى أصحابنا فقال (ع) قل لهم إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدار في شي ء من الأخذ و العطاء ان تحاكموا إلى احد من هؤلاء الفساق بينكم اجعلوا رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فإني قد جعلته قاضيا (و نظيرها) مقبولة عمر بن حنظلة قال: سئلت أبا عبد اللّه عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أ يحل ذلك فقال (ع): من تحاكم إليه في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و ان كان حقه ثابتا و في نسخه (حقا ثابتا) لأنه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه تعالى أن يكفر به قلت فكيف يصنعان قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 589

و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حاكما فإني قد جعلته حاكما فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه و هو على حد الشرك باللّه. و قد يقرب الاستدلال بهذه المقبولة بوجه آخر بأن من كان ليس بأهل للقضاء و قد تصدى له فقد صار طاغوتا لان الطاغوت هو من طغى و تعدى على حدود اللّه تعالى فيكون الترافع و التحاكم عنده تحاكم عند الطاغوت و هذه الرواية قد دلت على حرمته و قد يستدل على حرمة التحاكم عند من ليس بأهل للقضاء بأنه أعانه على الإثم لأن قضائه حرام و الترافع عنده موجب لصدور قضائه.

[حرمة الشهادة عند من ليس له أهلية القضاء.]

(و أما عدم جواز الشهادة عند من ليس له أهلية القضاء) فلأن الشهادة عنده سبب لقضائه و من مقدمات قضائه نظير الترافع عنده فتكون محرمة من باب الإعانة على الإثم و لذا المرحوم آقا ضياء العراقي قيد عدم جواز الشهادة بصورة ما إذا قصد التوصل بها إلى فصل الخصومة. أو لأنها تقوية للباطل الذي هو القضاء المحرم لأنه إمضاء له. أو لمقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة حيث دلت على عدم جواز الترافع عند سلاطين أهل الجور و قضاتهم من جهة أنهم من الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به باعتبار ان الكفر بهم يقتضي عدم الشهادة عندهم و عدم متابعتهم و ترتيب الأثر على مناصبهم و بضميمة عدم الفصل بين قضاة العامة و قضاة الشيعة الذين لا أهلية لهم يتم المطلوب

[حرمة التصرف بالمال المأخوذ بحكم من ليس له أهلية القضاء.]

(و أما المال الذي يؤخذ بحكمه حرام التصرف به كالذي يؤخذ غصبا) فلعدم سببية حكمه للاستحقاق و لا لدفع حق الدعوى بل و ان كان الآخذ محقا و مالكا لما أخذه فإنه حرام تصرفه فيه. و قد يستدل على ذلك (أولا) بأنه صار متعلقا لحق دعوى الغير بعد وقوعه بيده فلا يجوز التصرف فيه قبل ابطال حق دعوى من في يده بعد أن أظهر دعواه و أقدم على المرافعة فلا ينافي ذلك جواز سرقته منه لعدم وجود الدعوى منه و (لا يخفى ما فيه) فإنه مختص بصورة ما إذا كان المال بيد الغير دون ما إذا كان ليس بيده. على انا لا نسلم ان حق الدعوى للغير يمنع من تصرف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 590

العالم بما يملكه.

(و ثانيا) بمقبولة ابن حنظلة المتقدمة قبل أسطر حيث قال (ع) فيها (و ما

يحكم له فإنما يأخذه سحتا و ان كان حقا ثابتا) و دلالتها على ذلك أما من جهة ما ذكرناه من جعل الضابط فيها للقاضي الذي يصح الترافع عنده و يكون أخذ المال بحكمه ليس من السحت بعد تقيده بما دل على ما يشترط في القاضي فيكون ما عداه من القضاة هو من لا أهلية له و يكون أخذ المال بواسطة حكمه سحت أو من جهة أن الطاغوت فيها هو كل من تجاوز حدود اللّه تعالى و طغى على اللّه و عصاه و ليس مختصا بولاة أهل الجور و السنة فيكون التعليل بقوله (لأنه أخذه بحكم الطاغوت) يشمل كل قاضي و سلطان ليس له أهلية الحكم أو من جهة عدم القول بالفصل بين قضاة أهل الجور و غيرهم من القضاة الذين لا أهلية لهم و قد أورد على الاستدلال بالمقبولة بوجوه (أحدها) ما ذكره استاذنا المرحوم الشيخ كا (ره) بأن العالم بان العين له لا مانع له من التصرف و ليس في إطلاق المقبولة قوة تخصيص لأدلة جواز تصرف المالك في ملكه و ان السلطنة على الأموال عقلي معاضد بالشرع ربما يدعي فيها الإباء عن التخصيص حتى قيل فيما ورد في الموارد من ترخيص المارة بالأكل مما مر عليه أنه يكشف عن ثبوت حق له و إلا فالحكم بجواز التصرف في مال الغير لا يكاد يقع في الشرع إلا بدليل قطعي و في حكمه المنع من تصرف المالك بل هو من أفراده في وجه. و يمكن الجواب عنه انا لا نسلم ذلك كيف و منع الشارع عن التصرف في الملك أكثر من أن يحصى فهو يحرم التصرف فيه بنحو الإسراف أو بنحو الضرر أو في حال

خاص كحال الصوم أو حال الحج و هكذا يمكن أن يكون منها حال حكم القاضي الجائر به له عند التداعي و كيف يمكن إنكار قوة إطلاقها مع تعليل الحكم فيها بالأمر بالكفر بالطاغوت (ثانيها) ما يمكن أن يقال بل لعله قد قيل بأن السؤال فيها عن الدين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 591

و الميراث و لا ريب في ظهور الدين في الترافع في الكلي لا في العين الخارجية و هكذا ظهور النزاع في الميراث في الشبهة الحكمية كالنزاع في أن الزوجة تستحق في الأرض أم لا و لا إشكال في هذه الصور ان حكم الجائر لا ينفذ أما في الدين فإن أمره بالأخذ من مال الغريم معناه نفوذ حكمه في تعيين الكلي في فرد خارجي و هو حرام و هكذا في الشبهة الحكمية. (و لا يخفى ما فيه) فان النزاع في الدين قد يتصور في العين الخارجية كما لو استدان منه مال و عينه باقية فعلا فطالبه به و هكذا النزاع في الميراث طالما يكون في غير الشبهة الحكمية كما لو ادعى بأن أباه قد ترك هذا المال و أنكره الآخر أو أودع هذا المال و أنكره الآخر أو ورث هذا المقدار من المال و أنكره الورثة أو ادعى أنه ابنه و أنكره الآخرون إلى غير ذلك فمقتضى ترك استفصال الامام (ع) هو شمول الحكم للجميع.

(ثالثها) مورد الرواية المأخوذ بحكم السلطان و قضاة العامة فلا يعم المأخوذ بحكم غيرهم من فاقدي شرائط القضاء. و لا يخفى ما فيه لما عرفت في تقريب الاستدلال بها ص 588 من عدم اختصاصها بهم و عمومها لكل ما يأخذ بحكم من ليس له أهلية الحكم و

القضاء و اختصاص المورد لا يخصص الوارد.

(رابعها) أن المقبولة معارضة بموثقة علي ابن فضال قال: فرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني (ع) و قرأته بخطه سأله عن ما في تفسير قوله تعالى وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ فكتب (ع) بخطه الحكام القضاة ثمَّ كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم، و وجه المنافاة ان في الرواية اشترط عدم المعذورية بصورة العلم بأنه ظالم و غير مستحق ما أخذه فيفهم من مفهوم الشرط أنه يكون معذورا لو لم يعلم بأنه ظالم و يجوز له الأخذ. (و دعوى) أن هذا تفسير للاية و ان الأكل بالباطل يكون بهذا النحو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 592

(غير مفيدة) لأن ما ذكر بعد التفسير هو ناظر لبيان الحكم الشرعي للمسألة لا لبيان معنى الباطل و شرحه سلمنا ذلك إلا أنه لو كان ما يأخذه سحتا حتى لو كان محقا كما هو مفاد المقبولة كان من الأكل الباطل فتخصيصه الأكل بالباطل بتلك الصورة ينافي إطلاق المقبولة السحت على الحق المأخوذ بواسطة القضاة ممن ليس له أهلية القضاء (و دعوى) أن مراد الامام (ع) القضاة العدول فإنه لا إشكال في عدم معذورية المدعي لو علم أنه ظالم و معذوريته لو لم يعلم.

(مدفوعة) بأن الآية بقرينة قوله (ع) وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ الظاهر في الرشوة للقاضي ليحكم له بالباطل يوجب انعقاد الظهور لها في قضاة أهل الجور لان قضاة أهل العدل لا يقدمون عليها بخلاف قضاة أهل الجور. مضافا لما

ورد من أن المراد بالحكام في الآية الكريمة هم قضاة الجور كما في رواية أبي بصير في كتاب القضاء من الوسائل. (نعم) يحتمل أن الضمير في قوله (أنه ظالم) عائد للقاضي فيكون معنى الرواية هو أن يعلم الرجل أن القاضي ظالم بجلوسه مجلس القضاء و هو ليس بأهل له أو المراد أنه من الظلمة و أهل الجور و حينئذ فالرواية تكون مؤكدة لمعنى المقبولة و يؤيد إرادة هذا المعنى أن ارادة المعنى الأول واضح بديهي لا يحتاج أن يكتبه الامام (ع) أن قلت كان على الامام (ع) أن يوضح هذا المعني قلنا لما كان الحكم المذكور خلاف التقية أجمله و أبهمه خصوصا في الكتابات فإن التقية فيها أكثر و الزم و يؤيد ذلك أن الكلام في القضاة الظلمة الذين هم الحكام.

(خامسها) أن الرواية لا تشمل التداعي على العين الخارجية لأن السحت هو المال المنتقل اليه من الغير على وجه محرم و أما مال نفسه فلا يكون سحتا و ان حرم التصرف فيه بعنوان ثانوي، و لو سلم إطلاقه على مطلق الحرام كان ذلك فيما خبث ذاتا و أما ما كان غير خبيث في ذاته فليس بسحت و ان حرم بطرو عنوان عرضي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 593

عليه فلا يقال آكل السحت لمن أفطر في نهار رمضان بطعام مملوك له أو قطع صلاته به، و عليه فالعين المتداعي عليها ليست بسحت على مالكها و ان حرم عليه استعمالها فقول الامام (ع) يأخذه سحتا لا يشمل التداعي على العين الخارجية و انما يشمل الدين لأن حكم القاضي بتعيين كلي الدين في مال الغريم غير نافذ فيكون أخذ الدائن له أخذ لغير ماله و

هو سحت. (و لا يخفى ما فيه) فان السحت ظاهر في (الذي يحرم الانتفاع به و يحرم التكسب به و لو كان بعنوان ثانوي) لأنه هو المتبادر من إطلاقه و في الأمثلة المذكورة لم يكن المال يحرم التكسب به حتى يكون سحتا فالعين الخارجية لما كانت يحرم التكسب بها صارت من السحت على أنه بعد فرض دلالة المقبولة على أن ما يؤخذ بحكم القاضي سحتا صارت العين الخارجية المأخوذة بحكم القاضي سحت كسائر الأعيان الخارجية المحكوم بسحتيتها لذاتها أو لطرو عنوان آخر عليها كالغصبية فاذا كان للمقبولة إطلاق و دلالة فلا وجه لتقيد المأخوذ فيها بغير العين الخارجية و بعبارة أخرى أن المقبولة هي التي أثبتت السحتية للمأخوذ كذلك بينما في حد ذاته ليس بسحت فلا وجه لإخراج بعض أفراد المأخوذ لعدم صدق السحت عليه في العرف. (و دعوى) أنه غير قابل لأن يكون سحتا لان السحتية يعتبر فيها الخباثة الذاتية و هو ليس بخبيث ذاتا (فاسدة) فإن السحتية ليست تقتضي ذلك فان المال المغصوب ليس به خبث ذاتا و انما هو بطرو عنوان عليه و هو الغصبية صار فيه خبث و هكذا المال المختلط بالحرام و هكذا ما يعطي لمحاربة الدين و ذلك لان السحتية انما تثبت فيما إذا حرم الانتفاع بالمال مع حرمة التكسب به و لو بواسطة طرو عنوان يقتضي ذلك و لا ريب أن هذا المعني قابل للثبوت في العين الخارجية بالنسبة لمالكها و المقبولة بإطلاقها تقتضيه سلمنا لكن هذا الإطلاق متعارف عند العرب فإنه إذا قيل أن مالي لا يحل لأحد أخذه فإنه دم عبيط أو نار تحرق أو سم ذعاف فهل ترى يخصص

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1،

ص: 594

ماله بما يكون دما عبيطا أو بما يكون نارا دون ما عداه ففي ما نحن فيه الامام (ع) في مقام التشديد في الحكم و المبالغة في المنع منه عبر بالسحت عن المأخوذ به كناية عن المبالغة في الحرمة و أنه حكمه حكم السحت و ان لم يكن سحتا نظير قوله تعالى يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً.

(سادسها) هو حمل المقبولة على حرمة الأخذ فقط دون حرمة التصرف بالمال المأخوذ بتقريب منا بأن نقول أن سحتا في الرواية نائب المفعول المطلق لا حالا فيكون المعنى انما يأخذه أخذا سحتا نظير قولهم ضربا مؤلما أي أخذا يكون فيه خبث و حرمة. نظير ما يقال تجارة سحت أي فيها خبث و حرمة و يدل على إرادة هذا المعنى أنه لو كان مقصود الامام (ع) هو كون المأخوذ سحتا لقال (ع) و ما يحكم له به فهو سحت لكان أخصر و أوضح و انما مراد الامام (ع) هو بيان ان الأخذ محرم فقط و أما ان المأخوذ بعد أخذه يكون سحتا فهو مسكوت عنه، و بهذا تتوافق المقبولة و موثقة على بن فضال بناء على احتمال ان الضمير في الموثقة يعود للقاضي و يكون المراد إذا علم الرجل ظلم القاضي في جلوسه بمجلس القضاء كما تقدم ص 590 و يؤيد ذلك ما ذكره صاحب معالم الزلفى في شرح عروة الوثقى من أنه لم يجد من أفتي بكون المأخوذ سحتا صريحا مطلقا حتى فيما لو كان الآخذ محقا إلا الماتن مع أنه في ملحقاته في كتاب القضاء استشكل في ذلك مثل صاحب الكفاية، لكن المحكي عن المستند دعوى الإجماع عن والده على حرمة المأخوذ بحكم الجائر حتى لو كان حقا.

و (أما أنه يجوز الترافع) إلى من ليس له أهلية القضاء و ما يأخذه بحكمه فليس بسحت إذا انحصر استنقاذ حقه بالترافع عنده فقد استدل عليه جماعة بقاعدة نفي الضرر و قاعدة نفي العسر و الحرج لحكومتهما على جميع ما ذكر من الأدلة لحرمة الرجوع إليهم و قد روي عن نسخة من الكافي عن علي بن محمد قال سألته: هل يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضاتهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 595

فكتب يجوز ذلك، و حيث أن المعتمد هو قاعدة نفي الضرر فلا بد من الأخذ بها بمقدار ما تقتضيه و عليه فلا بد للمدعي من إحراز كون المال له بالعلم الوجداني أو بالدليل المعتبر عنده و أما مع الجهل بكون المال له فلم يحرز موضوع الضرر بترك الترافع حتى ينفيه بقاعدة نفي الضرر كما أنه مقتضي القاعدة المذكورة هو الرجوع إلى من ليس له أهلية القضاء عند فقد الجامع للشرائط أو تعسر الوصول اليه أو عدم نفوذ قضائه بمعنى عدم استنقاذ الحق بقضائه بل حتى في صورة ما إذا كان بالرجوع للجامع للشرائط لا يظهر حقه بخلاف ما إذا رجع للجائر كما لو كان شهوده على الواقعة فسقة لا يقبلهم القاضي الجامع للشرائط و يقبلهم القاضي الجائر فإنه يجوز له الرجوع أيضا للجائر لقاعدة نفي الضرر و لا ينفع إطلاق مقبولة ابن حنظلة لحكومة قاعدة الضرر عليها، هذا و قد نسب عدم الجواز في المسألة للأكثر و حكي الإجماع عليه عن الروضة و استدل له بإطلاق أدلة المنع و بأنه اعانة على الإثم و بأن الترافع إليه أمر بالمنكر و لكن لا يخفى أن قاعدة نفي الضرر حاكمة على

الجميع و الإجماع موهون بوجود المخالف كما هو المحكي عن الشهيدين في الحواشي و المسالك.

التنبيه الثالث [ترافع غير أهل مذهبه عنده.]

الترافع من غير أهل المذهب (التنبيه الثالث) في الشرائع في كتاب الإيلاء ما حاصله ان الذميان إذا ترافعا عند حاكم شرعنا كان الحاكم بالخيار بين أن يحكم بينهما بمقتضى شرعنا و بين أن يردهما إلى أهل نحلتهما. و التحقيق أن يقال ان على الحاكم أن يحكم بمقتضى اجتهاده في الحكم الشرعي حتى لو ترافعا عنده من المسلمين من هو من غير مذهبه لقوله تعالى لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ و لقوله تعالى وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ و لقوله تعالى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* و لان غير مذهبه حتى الكفار مكلف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 596

بالفروع فلا يجوز أن يرده إلى نحلته مع أنه يعتقد بعدم صحتها و أنها خلاف تكليفه المطلوب منه. (ان قلت) ان ذلك هو مقتضى قوله تعالى فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ و ردهما الى نحلتهما من الاعراض عنهم. (قلنا) قد قيل انها منسوخة بقوله تعالى وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ كما عن بعض العامة و لو سلمنا عدم نسخها فالرد إلى أهل نحلتهما لا يصح لأنه ليس باعراض عنهما و انما هو إفتاء منه بالرجوع للباطل و خلاف حكم اللّه تعالى.

نفوذ حكم المجتهد و عدم جواز نقضه
اشارة

(التنبيه الرابع) ان حكم المجتهد نافذ و لا يجوز نقضه سواء كان متجزيا أو مطلقا حتى لمجتهد آخر فيما إذا كان المتنازعان يرجع نزاعهما الى الحكم الشرعي الكلي كثبوت حق الشفعة في أكثر من الشريكين و ثبوت الحبوة لا كبر الأولاد و ثبوت الحصة للزوجة في الأراضي و يدل على ذلك مقبولة عمر بن حنظلة و أما إذا كان المتنازعان يرجع نزاعهما إلى الموضوعات الخارجية كالنزاع

في ملكية شي ء أو دين و نحو ذلك فظاهر المقبولة أيضا لا يجوز نقضه و رده بقرينة صدرها فان صدرها يدل على ان النزاع كان في الموضوع الخارجي و هو الدين و الميراث و لا أقل من ترك استفصال الامام (ع) مع عموم الجواب مع ان الإجماع قائم على ذلك بل الضرورة عليه بل يقتضيه أصل تشريع القضاء. و الحاصل انه لا يجوز نقض حكمه لا من الحاكم نفسه و لا من المترافعين لديه و لا من حاكم آخر و لا من غيرهم لوجوه.

(الأول) ان الحكم هو الإلزام بإجراء تنفيذ القانون الشرعي في الواقعة كما تقدم في مبحث الفرق بين الفتوى و الحكم و الشارع قد فصل به الأمور و أنفذه و قرره، و نقضه يقتضي عدم ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 597

(الثاني) الإجماع بل الضرورة التي قامت على ذلك.

(الثالث) قوله (ع) فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فبحكم اللّه استخف و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه تعالى و هو على حد الشرك باللّٰه تعالى (ان قلت) ان الظاهر من قوله (ع) فاذا حكم بحكمنا هو إحراز كون الحكم مطابقا للواقع و ألا لم يحرز أنه حكمهم (ع) فمقتضى الرواية عدم وجوب تنفيذ الحكم مع الشك في كون حكمهم (ع) لأن الموضوع لوجوب التنفيذ هو كون الحكم حكمهم (ع) فاذا لم يحرز مطابقته للواقع لم يحرز موضوع وجوب التنفيذ و لا يخفى أنه مع العلم بالمطابقة للواقع لا حاجة لجعل وجوب التنفيذ لحكم العقل بذلك فاذن الرواية ليست بدالة على وجوب إمضاء كل حكم و ليست أيضا بصدد ذلك و لذا جملة من العلماء لم يستدلوا بها. (قلنا) هذه

الرواية بقرينة صدرها و انها لبيان وظيفة المتنازعين فلا يعقل أن يجعل حل خصومتهما منوطة بالعلم بالواقع الذي طالما خفي على ذوي الابصار فلا بدان يكون المراد بقوله (حكم بحكمنا) أى حكم بحكم بعنوان أنه حكم المعصومين لا حكم المخالفين أو أهل العرف أو النصارى أو حكم العقل و لذا كان الحكم فيه نوع كاشفية عن حكمهم (ع).

(الرابع) لزوم الهرج و المرج إذ كل ينقض حكم الآخر فلا ترتفع الخصومة فليتسلسل.

[المراد] بنقض الحكم
اشارة

أعلم ان الحكم قد ينقض بأن ينشأ إبطاله فقط و قد ينقض بأن ينشأ حكم بخلافه فمثلا إذا حكم الحاكم بحرية العبد فتارة ينشأ نقضه بأن يقول هو أو حاكم غيره أبطلت الحكم و نقضته و تارة ينشأ حكم بخلافه كأن يحكم بعبودية العبد

[موارد جواز نقض الحكم]
اشارة

و كيف كان فقد ذكروا لجواز نقض الحكم و إزالته بإزالة آثاره موارد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 598

(المورد الأول) ما إذا تراضي الخصمان على تجديد الدعوى

و قبول حكم الحاكم الثاني. (ورد عليه) بأن الحكم عبارة عن فصل الخصومة بإلزام أحد المتخاصمين و من الواضح أن النزاع يستحيل أن يطرء عليه فصلان لخصومته إذ بعد فصل الخصومة لا تبقى خصومة حتى تفصل مرة ثانية سواء رضي المتخاصمان بتجديد المرافعة أم لا لأن رضاءهما يكون لاغيا بعد فرض عدم الخصومة بينهما شرعا فلا يبقى محل قابل للفصل بعد الحكم الأول و بهذا استدل الاشتياني (ره) و مرزا حبيب اللّه في تقريراته المنسوبة اليه. (و لا يخفى ما فيه) فان الكلام في النقض لا في الحكم مرة ثانية فان الحكم مرة ثانية يكون بعد تحقق النقض فاذا تحقق النقض برضاء المتخاصمين عاد النزاع و صار المحل محلا لفصل الخصومة و بعبارة أخرى أن الخصم يدعي أن النقض في هذا المورد صحيح فاذا صح النقض تجددت الخصومة نظير ما إذا ظهر فسق الشهود فإنه ينقض الحكم و تتجدد الخصومة فكان على القوم أن يبينون عدم صحة النقض لا عدم النزاع و الخصومة فالأولى في الجواب عنه أن يقال أن ما تقدم من الدليل الأول و الثالث يقتضيان عدم صحة النقض لا بالتراضي و لا بغيره.

(المورد الثاني) ما لو علم بمخالفة حكمه للواقع النفس الأمري

فإنه يجب على العالم نقضه سواء كان المترافعين أو الحاكم بل كل من علم ذلك و كان محل ابتلائه فإنه لا يجوز له العمل به لقطعه بالمخالفة للحكم الشرعي الإلهي فإن حكم الحاكم إنما أمرنا الشارع بالأخذ به باعتبار كشفه عن حكم اللّه تعالى في الواقعة الخاصة فإذا علمنا بأنه غير حكم اللّه تعالى فلم يكن له كاشفية عنه هذا مع أن ما دل على ان الخبر المخالف للكتاب يطرح يدل بمفهوم الأولوية على ان الحكم المخالف للواقع يطرح

لان الخبر يحتمل مطابقته للواقع و مع هذا يطرح فكيف بالحكم الذي لم يحتمل مطابقته للواقع على أن الآيات الثلاثة المصدرة بقوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ)* تدل على طرحه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 599

و ان كانت ظاهرة في صورة العمد إلا أنه يستفاد منها طرح مثل هذا الحكم و ان صدر عن غير عمد مع ان إمضاء مثل هذا الحكم إدخال ما ليس من الدين في الدين (و بعبارة أخرى) أن الحكم انما يكون حجة مع الجهل بالواقع و أما مع معرفة الواقع فلا حجية له و لا لغيره من الامارات بل لا يعقل ذلك إلا على التصويب و أما لو علم بمخالفته للحكم الظاهري فلا يجوز نقضه لأن الأحكام الظاهرية متعددة حسب تعدد الآراء فليس لمجتهد نقض ما حكم به المجتهد الآخر لمخالفته لحكمه الظاهري و إلا لم يبق للحكم مورد لا ينقض فيه إلا نادرا و أدلة حرمة الرد و النقض تشمل صور المسائل الخلافية التي يكون لكل مجتهد حكم ظاهري فيها بل مورد مقبولة عمر بن حنظلة التي هي من أمتن الأدلة على حرمة النقض هي صورة الاختلاف في الحكم، و أورد على ذلك (أولا) أنه بحكم الحاكم قد فصلت الخصومة و تقرر الحال فأي دليل على ان العلم بالخلاف سبب موجب لرفع ذلك. (و جوابه) بأنه مع العلم بالخلاف ينكشف بأن الخصومة لم تفصل بحكم الشرع فهي باقية و لا الحال قد قرر بحكم الشرع فهو باقي على وضعه فليس العلم سببا و انما انكشف ان الوضع باقي على حاله و ان الحكم ملغي عن أصله غير مؤثر في مورده فليس في الحقيقة

نقض للحكم في هذا المورد. (و أورد ثانيا) ان الروايات دلت بإطلاقها على أن مجرد الحكم مانع من الرد و النقض سواء علم بالخلاف أم لا فأي وجه لتقيد الروايات بصورة عدم العلم بالخلاف مع عدم وجود أي أثر له في الروايات (و جوابه) أن الروايات تدل على ان اعتبار الشارع لحكم الحاكم باعتبار كشفه عن حكم الشارع في الواقعة فإن قوله (ع) فاذا (حكم بحكمنا إلخ.) ظاهر في كون حكمه كاشف عن حكمهم (ع) و هكذا قوله (ع) في رواية أبي خديجة (انظروا إلى رجل يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه قاضيا) فإنه ظاهر في كون اعتبار قضائه باعتبار كاشفيته عن حكمهم (ع). و لا ريب أنه مع العلم بالخلاف لا كاشفية لحكمه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 600

(و أورد ثالثا) أنه قد تقرر في كتاب القضاء أن الميزان في اعتبار حكم الحاكم هو كونه حكما للّٰه تعالى في نظر الحاكم لا في نظر غيره و لذا لو كان أحد المترافعين يفتي بخلاف ذلك لا يجوز له النقض للحكم. (و جوابه) ان المراد أنه لا يشترط في حكم الحاكم أن يعلم و يقطع بأن حكمه مطابق للواقع بل مجرد وجود الموازين الشرعية كافي في حكمه لا أنه لا يجوز نقضه لمن يقطع بأنه مخالف للواقع (و أورد رابعا) أن اعتبار الحكم ان كان من باب الطريقية فالحق كما ذكرتم ألا أنه ينافي ذلك ذهاب المشهور إلى أنه إذا علم فساد مدرك الحكم و مبناه لا يجوز نقضه كما سيجي ء إنشاء اللّٰه و ان كان من باب الموضوعية و السببية فحينئذ يكون معتبرا حتى مع العلم بمخالفة الواقع. (و جوابه) أن الطريقية و

السببية أنما يجعلان للأمارات في ظرف الجهل بالواقع لا عند انكشاف الواقع فان الجعل حينئذ يلزم منه التصويب أو اجتماع المتنافيين. و قد يستدل بالإجماع على جواز النقض في هذه الصورة و لا يخفى ما فيه فإنه يمكن أن يناقش في الإجماع بعدم كشفه عن رأي الامام في المقام لاحتمال استناد المجمعين إلى تلك الإيرادات.

(المورد الثالث) [عدم أهلية الحاكم للحكم]

الذي ذكره القوم لجواز النقض هو صورة القطع بعدم أهليته للحكم بأن كان عاميا أو قطع بخطإ الحاكم في اجتهاده قصورا أو تقصيرا مثل الاستناد في الحكم إلى كتاب فيه غلط أو خبر له معارض أقوى مع تركه للفحص أو إلى بعض كتب الاخبار من غير المراجعة إلى غيره أو غير ذلك مما ينافي الاجتهاد الصحيح فإنه يجوز النقض بل يجب على المترافعين و الحاكم و غيرهما ممن هو محل ابتلائه لأن الحكم الذي أمضاه الشارع هو الحكم الصادر عن اجتهاد صحيح لا مطلق الحكم كما هو ظاهر المقبولة بقرينة صدرها و هو قوله (ع) و عرف أحكامنا. كيف و الحكم الذي يصح ان ينسب إليهم (ع) فيقال قد حكم بحكمهم (ع) الحكم المستند إلى اجتهاد صحيح فالاجتهاد الصحيح مأخوذ في موضوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 601

الحكم و في الحقيقة ان هذا ليس بنقض للحكم بعد فرض عدم صحته و إنما يكون في هذه الصورة الحكم لاغيا من أصله. و قد استشكل بعضهم في جواز النقض عند العلم بكون الحكم موافقا للواقع من جهة أن الغرض من الحكم هو وصول الحق إلى مستحقه و قد وصل فيحرم النقض لأن الحكم طريق للوصول إلى الحق فمتى حصل الوصول للحق كان حراما إبطاله. و جوابه ان الحرام هو

أخذ المال من مستحقه و ليس يلازم النقض استرجاع المال إذا علم الحاكم بواقع الحال بل يبقى الحق عند مستحقه و ينقض الحكم لما عرفت من ان الاجتهاد الصحيح له موضوعية للحكم لا أنه طريق للواقع فلا يصح الحكم بدونه و من هنا يعلم الفرق بين هذا المورد و المورد الثاني لأن سبب النقض في الثاني هو القطع بالمخالفة للواقع و سبب النقض في هذا المورد القطع بفساد الاجتهاد سواء صادف الواقع أم لا، و يلحق بهذا المورد صورة ما إذا علم الحاكم بنفسه فساد اجتهاده فإنه لو اطلع الحاكم الآخر على ذلك كان على الحاكم الآخر نقضه كما على الحاكم الأول نقضه.

(المورد الرابع) الذي ذكره القوم لجواز النقض هو صورة ما لو قطع بمخالفة حكم الحاكم للدليل المعتبر عند الكل

أو المعظم كالخبر الصحيح المعمول به الموجود في الكتب المعتبرة مع عدم المعارض أو إجماع كاشف عن دليل معتبر عند الكل أو ظاهر كتاب أو سنة متواترة مع عدم المعارض فان نقض الحكم أيضا جائز في هذه الصورة كما يحكي عن الشهيد (ره) في الدروس لأن القطع بالواقع أو القطع بالدليل المذكور سيان في عدم جواز المخالفة و لذا جعلوا الإجماع من الأدلة القطعية التي لا يجوز مخالفتها مع ان الإجماع قد لا يكشف عن الواقع و إنما يكشف عن دليل معتبر عند الكل بحيث لو فرض مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد لأفتى بمضمونه (و لكن الحق ان يقال) ان ذلك ان أوجب القطع بعدم مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد بمعنى اكتشفنا من ذلك فساد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 602

اجتهاده جاز النقض و رجع إلى المورد الثالث و حكمه حكمه و إلا فيحرم النقض لشمول أدلة حرمة النقض و الرد لهذه الصورة. (و دعوى) ان هذا يرجع الى العلم و

القطع بمخالفة الحكم للتكليف الظاهري الفعلي الثابت عند الكل لثبوت الدليل على خلاف الحكم، فيكون من قبيل المورد الثاني و هو العلم بمخالفة الحكم للتكليف الثابت (مدفوعة) بأنه ليس الأمر كذلك فإنه المورد الثاني هو العلم بمخالفة الحكم للتكليف الواقعي و هنا يكون العلم بمخالفة الحكم للتكليف الظاهري و قد عرفت في المورد الثاني انه لا يجوز النقض بالعلم بمخالفة الحكم للتكليف الظاهري

(المورد الخامس) الذي ذكروه القوم لجواز النقض هو انكشاف بطلان دليل الحكم

و مستنده و إن كان الحاكم أهلا للحكومة واجدا لشرائط نفوذ الحكم فاذا ظهر عند المجتهد الآخر فساد مبني الحكم بأن كان مخالفا له في المبني كأن لا يقول بحجية خبر الواحد و الحاكم اعتمد على خبر الواحد أو بالعكس جاز له نقضه و عدم ترتيب الآثار عليه في حق نفسه و ان لم يجز معارضة الحاكم في ذلك فيجوز نقض حكم من كان مستنده الشهرة أو الأولوية الظنية أو الخبر الضعيف أو غير ذلك عند من لا يعمل بها. غاية الأمر نفوذه في حق الحاكم و متابعيه ممن يقلدوه أو من لم ينكشف عنده فساد المدرك و قد نسب هذا إلى الدروس و القواعد و اما قوله (ص): «فاذا حكم بحكمنا و لم يقبل منه فإنما بحكم اللّه استخف- الخبر» إنما يدل على خصوص حكم الحاكم الصحيح كما هو ظاهر الإضافة فمقتضاه وجوب إحراز الصحة في قبول حكم الحاكم اما بالوجدان أو الدليل أو الأصل أو أصالة الصحة و أين أحدها بعد انكشاف فساد المبني.

و لكن لا يخفى ان الظاهر من الرواية هو الحكم بحسب الموازين و ان كان المستند غير صحيح و لذا ينفذ الحكم في المتنازعين و ان كان أحدهما مجتهدا مخالفا للحاكم في فتواه و مستند حكمه،

إلا اللهم أن يقال انا نلتزم بأنه ينفذه بحسب الظاهر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 603

دون الواقع نظير المحكوم عليه الذي يعلم بفساد الحكم، فالعمدة في المقام ما يستفاد من مقبولة ابن حنظلة، و قد عرفت غير مرة ان المراد بها هو ما حكم به الحاكم بعنوان انه حكمهم (ع) و عليه حتى لو ظهر فساد المبنى فالمقبولة تدل على نفوذ الحكم و قد يورد على ذلك بأن عموم المقبولة أو إطلاقها معارض بالأدلة التي قامت على خلاف حكم الحاكم فلا وجه لترجيحه عليها. (و جوابه) ان لسان المقبولة لسان حكومة عليها مضافا الى أن مورد المقبولة هو صورة الاختلاف في الدين و الميراث أعم من الشبهة الحكمية أو الموضوعية لترك الامام (ع) الاستفصال و لازم ذلك أن يكون الحكم مقدما على الدليل المخالف له الموجود عند أحد المتنازعين.

(المورد السادس) [عدول الحاكم إلى فتوى تخالف حكمه]

لنقض حكم الحاكم هو ما إذا عدل الحاكم الى فتوى تخالف الحكم الصادر منه كما سيجي ء إن شاء اللّه في مبحث نقض الحكم بالفتوى.

هذا كله في الحكم في التكاليف الشرعية. (و اما الموضوعات) كالهلال و الملكية فالحق انه لا يجوز أيضا نقض حكم الحاكم فيها إلا إذا علم بمخالفة حكمه للواقع أو علم بعدم أهليته للحكم أو علم بتقصيره أو قصوره في موازين الحكم فإنه ينقض حكمه لعدم حكمه بحكمهم (ع) و مع عدم أهليته للحكم لم يكن منصوبا عنهم (ع) (نعم) المحكوم عليه علمه بذلك لا يجوّز له النقض جهارا و لا تجديد المرافعة بل يجب عليه الالتزام ظاهرا بالحكم و إلا لزم نقض أغلب الاحكام في الموضوعات من حيث ادعاء المحكوم عليه كذب الشهود أو كذب المدعي أو عدم أهلية الحاكم

أو قصوره في الموازين أو تقصيره. نعم يجوز له نقضه سرا بمعنى عدم الالتزام بآثار الحكم في الواقع فيجوز له إنقاذ ماله من المحكوم له بينه و بين اللّه تعالى و لو بالسرقة إلا في صورة اليمين فإنه لا يجوز للمحكوم عليه نقض الحكم لا جهرا و لا سرا بناء على ان اليمين موجبة لذهاب حقه و حرمة التقاص منه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 604

و تحقيق ذلك يطلب من كتاب القضاء. ثمَّ انه قد يتوهم الإشكال في النقض في صورة ما إذا علم بمخالفة الموضوعات لواقعها الواقعة في طريق الحكم كما إذا علم الحاكم الثاني فسق الشهود واقعا و لكن التحقيق انه لا يصح النقض في هذه الصورة لأن ذلك قد يؤدي الى تنازع الحكام و عدم النظام للأنام بنقض كل منهم للآخر بمقتضى علمه في طريق الحكم و لعدم علم الحاكم بمخالفة الحكم للواقع و عدم علمه بفساد حكمه لأن الفرض ان الحاكم الأول يعلم بعدالة الشهود فلا فساد في حكمه بعد اندراج حكمه في عموم الأدلة الدالة على عدم النقض فيكون نظير من استند في حكمه الى رواية ليست بحجة في نظر الحاكم الآخر فإنه لا يجوز نقضه مع كونه لم يقصر في الاجتهاد و لم يقطع الحاكم الآخر بمخالفته للواقع، نعم لو ادعى المدعي ذلك أعني فسق الشهود أو عدم أهلية الحاكم أو جوهر مع البينة سمعت دعواه و صح الحكم على طبقها لو تمت البينة لمطالبة ذي الحق بحقه مع إقامة الحجة عليه.

و يلحق بالمقام أمور ينبغي التنبيه عليها
(أحدها) الفحص عن حكم الغير ليعلم ما يوجب نقضه
اشارة

انه قد عرفت ان الحكم ينقضي في الموارد المتقدمة فهل يجب على نفس الحاكم أو على الحاكم الآخر أو المقلدين أن يفحصوا عن الحكم

إذا احتملوا وجود ما يوجب نقضه فيفحصوا حتى ينقضوه إذا وجدوا ذلك و لا ينقضوه إذا لم يجدوا ذلك أو يجوز لهم الفحص أو يحرم عليهم الفحص المشهور بل الظاهر عدم وجود الخلاف في جواز الفحص و عدم وجوبه و عدم حرمته لأصالة البراءة من الوجوب و الحرمة و أصالة الصحة في الحكم و السيرة على عدم الفحص فلا يجب الملاحظة و النظر في أحكام الغير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 605

و انها صدرت عن اجتهاد أولا أو عن الطرق المعتبرة في القضاء أولا أو عمن له الأهلية أولا أو على وجه الصواب أولا.

و قد يقال بحرمة الفحص عن ما يوجب النقض للحكم لوجهين:

(أحدهما) ان الظاهر من الروايات و الإجماعات هو وجوب قبول حكم الحاكم و ترتيب آثار الحكم الصحيح عليه و إن احتمل عدم صحته و لا ريب ان الفحص عن الحكم و النظر في صحته و فساده ينافي قبوله و ترتيب آثار الصحة عليه، و لا يخفي ما فيه، فان الفحص و النظر في الحكم ليس برد للحكم مع البناء على الالتزام به ما لم يظهر فساده كما ان قبول قول العادل و حرمة رده و قبول قول المرأة على ما في رحمها لا ينافي الفحص عن صحته احتياطا و لا يقال إنه رد له إذا كان البناء على الالتزام به ما لم يظهر فساده. (نعم) إذا كان الفحص و النظر في الحكم بنحو يوجب صدق عنوان الرد على الحكم كان حراما كما لو فحص عن الحكم بأن سمع الدعوى ثانيا و طلب من المدعي البينة و من المنكر اليمين و نحو ذلك فهو حرام لأنه يصدق عليه بأنه رد

لحكم الحاكم.

(و ثانيهما) ان الفحص يستلزم التفتيش عن عيوب الناس من فسق الحاكم أو كذب الشهود و هو محرم لقوله تعالى وَ لٰا تَجَسَّسُوا. و لا يخفى ما فيه فان التفتيش عن الواقع لمعرفة الوظيفة الشرعية و إن كان فحصا عن العيب إلا انه ليس بحرام كما في الفحص عن أحوال الشهود و رجال الحديث و نصح المستشير، نعم يحرم إذا كان غرضه الاطلاع على عيوب الحاكم أو الشهود فظهر انه يجوز الفحص بنحو لا يوجب صدق عنوان الرد عليه

[الصور التي يجب الفحص فيها عن حكم الحاكم.]
اشارة

و قد أستثني صورا يجب فيها الفحص

(الاولى) ما لو علم إجمالا بوجود ما ينقض أحد أحكام هذا الحاكم المحصورة

كأن صدرت منه خمسة أحكام نعلم بنحو الإجمال أن واحدا منها فيه ما يوجب نقضه و لكن لا نشخصه بعينه فإنه في هذه الصورة يجب الفحص من باب المقدمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 606

العلمية لتمييز ما يجب قبوله من هذه الأحكام عما يجب نقضه إذ لو بادر الى النقض قبل الفحص لم يحصل له العلم بالخروج عن عهدة التكليف بقبول الحكم الصحيح ورد الفاسد. قيل يمكن تمييز ما يجب قبوله من الأحكام عن غيره بغير الفحص كشهادة البينة أو الحاكم يعين ذلك و عليه فلا يتوقف التمييز على الفحص حتى يكون واجبا من باب المقدمة قلنا لو أمكن ذلك كان الفحص أحد أفراد المقدمة فيكون واجبا على سبيل التخيير:

[الصورة الثانية ادعاء المحكوم عند الحاكم فساد الحكم]

ثاني الصور التي قيل يجب الفحص عن الحكم فيها ما إذا ادعى المحكوم عند الحاكم فساد حكم الحاكم و بطلانه أو ما يوجب فساده مثل كون الشهادة كانت من الفساق أو اشتباه الحاكم أو نسيانه أو قلة فحصه أو عدم أهليته و نحو ذلك مما يوجب فساد حكمه فإنه قد حكي الإجماع على وجوب فحص الحاكم الثاني عن حكم الحاكم الأول. و استدل على ذلك بدليلين:

(أحدهما) دعوى الإجماع عليه و في الجواهر نفى وجدان الخلاف فيه و لكن يمكن ان يقال ان مصدر الإجماع هو إطلاقات سماع دعوى كل مدعي فلا يكشف الإجماع عن رأي المعصوم.

(ثانيهما) إنها دعوى كسائر الدعاوي يلزم على الحاكم سماعها لإطلاق ما دل على سماع كل دعوى و حيث لا يمكن فصل هذه الدعوى و حلها إلا بالفحص عن حكم الحاكم الأول فيجب على الحاكم الآخر ان يفحص عن الحكم لوجوب حل الخصومة عليه و فصلها فهو يجب

من باب المقدمة. و قد أورد على هذا الاستدلال بايرادات ثلاثة:

(أحدها) أنه لا وجه لدعوى توقف حل الخصومة على فحص الحاكم عن الحكم بل يمكن حلها بالبينة بأن يقيم المدعي الشهود على عدم أهلية الحاكم أو فسق الشهود و إذا لم يتوقف حل الخصومة على الفحص فهو ليس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 607

بواجب. و الجواب عنه مضافا الى أن الحل بالبينة من النظر في الحكم و الفحص عنه فان النظر في الحكم قد يكون بالتتبع في كيفية حكمه و قد يكون بالاستماع للبينة فهذا الفرض لا يوجب خروج الصورة المذكورة عن وجوب النظر و الفحص فيها و إنما يكون الواجب من باب المقدمة هو القدر الجامع و كل من التتبع و اقامة البينة فرد منه واجب على سبيل التخيير على ان الدعوى إذا كانت على عدم مطابقة حكمه للواقع فلا تصح البينة لأن البينة إنما تقبل في الموضوعات لا الاحكام فلا تقبل في كون هذا حكم اللّه أو مخالف له و حينئذ فينحصر حل الدعوى بفحص الحاكم الثاني عن الحكم فان قطع بمخالفته رده و إلا فلا، نعم لو كانت الدعوى على عدم أهلية المجتهد أو فسق شهوده أو عدم فحصه أو غير ذلك من الموضوعات الخارجية قبلت البينة.

(ثانيها) ان ظاهر أدلة القضاء انه ليس للمحكوم عليه الاعتراض على حكم الحاكم لأنه يكون ردا عليه فلا تسمع دعواه على حكم الحاكم فيكون ظاهر هذه الأدلة مقيدا للإطلاقات الدالة على سماع كل دعوى من مدعي مضافا الى لزوم الهرج و المرج و فتح باب الفساد لان لكل محكوم عليه أن يدعي ذلك بعد كل حكم حكم به عليه حتى حكم الحاكم الثاني.

و أجيب بأن الظاهر من أدلة القضاء هو الرد على ما كان من حكمهم (ع) لقوله (ع): فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، و المحكوم عليه إنما يدعي ان هذا الحكم ليس بحكمهم (ع) أو ليس منصوبا للقضاء فليست الأدلة مقيدة لإطلاقات أدلة سماع دعوى كل مدعي و أما الهرج و المرج فهو ليس بلازم لانقطاع الخصومة بالرجوع الى جميع الحكام الموجودين في وقته. و لا يخفى ما فيه فان أدلة القضاء ظاهرة في ان الحاكم الذي تراضي عليه المتخاصمان و كان مجلسه للقضاء مبنيا على أن يحكم بحكمهم (ع) لا بحكم العرف و لا بقانون الروم. حكمه لا يجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 608

الرد عليه و الاعتراض عليه و المراد من قوله (ع): فاذا حكم بحكمنا هو كونه بانيا على ذلك و إلا فمن أين يستطيع المتخاصمان أن يعرفا ان هذا هو حكمهم (ع) و الحاصل ان الظاهر من أدلة القضاء ان الرجل إذا كان من الشيعة و نظر في حلالهم (ع) و حرامهم (ع) و قد تراضي عليه الخصمان في أن يحكم بحكم المعصومين الأطهار و صدر منه حكم بعنوان انه حكمهم (ع) لا يجوز لهم الرد عليه و الاعتراض عليه فلا تسمع الدعوى عليه لأنها نوع من الاعتراض إن لم تكن أجلى أفراده و بعبارة أخرى إن كان المبيح للرد هو الشك في اجتهاد الحاكم و كونه ناظرا في حلالهم و حرامهم فأصالة الصحة تنفي هذا الشك و ان كان الشك في مطابقة حكمه للواقع فهو غير معتبر إحرازها و إنما المعتبر اجتهاده و عدالته و كونه يحكم بعنوان انه حكمهم (ع) من دون اعتبار إحراز المطابقة.

(ثالثها) دعوى

الإجماع على عدم سماع الدعوى بالبطلان بعد حكم الحاكم كما ذكروه في مبحث الدعوى المسموعة في كتاب القضاء. و جوابه ان الذي ذكروه هناك هو عدم سماعها مرة ثانية بعد حكم الحاكم الأول و عدم سماع الدعوى بعدم أهليته أو بجوره في حكمه بدون البينة بمعنى عدم إحضار الحاكم مجلس القضاء و تحليفه مع عدم البينة من المدعي على الحاكم و هذا لا ينافي التتبع في حكمه و النظر فيه و في البينة التي استند إليها من دون إحضاره مجلس القضاء و بعبارة اخرى ان المذكور هنا هو النظر في حكمه و المذكور هناك إحضاره في مجلس القضاء، و أما لزوم الهرج فهو أوضح من أن يبين.

[الصورة الثالثة عدم وصول الحق للمحكوم له]

ثالث الصور التي قيل يجب الفحص عن الحكم فيها صورة ما إذا لم يصل الحق للمحكوم له كما لو حكم عليه بالمال و حبسه لاستيفاء المال منه فإنه عند مجي ء الحاكم الثاني مكان الحاكم الأول يجب عليه أن يتفحص في الحكم الأول فإن كان الحكم الأول مخالفا للحق أبطله و إلا ألزم به. و الحاصل ان الحكم في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 609

صورة انقطاع الفصل بين المتخاصمين بحيث يكون المحكوم له قد استوفي جميع حقه لم يجب الفحص على الحاكم الثاني الذي يجي ء مكان الحاكم الأول و أما في صورة عدم تمام الفصل بين المتخاصمين و عدم استيفاء الحق للمحكوم له كأن حبس الغريم أو حجر على ماله لاستيفاء حق المحكوم له أو حكم و لم يستوف أصلا وجب على الحاكم الثاني الحال محل الأول الحاكم بذلك الحكم أن يفحص عن الحكم. و بعبارة أخرى ان الحاكم الأول إذا لم ينفذ حكمه بإجراء آثاره

عليه بأن يأمر من عليه الحق بالخروج عنه و يحكم عليه بوجوب أداء الحق فإنه يجب على الحاكم الثاني الفحص عن الحكم الأول فإن علم مخالفته للواقع أبطله و إلا أمضاه. و حكي القول بذلك عن الأكثر كما حكي القول به عن المسالك و المجمع و ظاهر الإرشاد و و الحق عدم الوجوب وفاقا للمحكي عن القواعد و الإرشاد لأصالة صحة الحكم و لأصل البراءة و استدلوا على وجوب الفحص في هذه الصورة ان أصالة الصحة غير جارية في الحكم الأول لأنه لم يتم الفصل به حتى تجري أصالة الصحة بعد الفراغ منه فإن أصالة الصحة في فعل الغير انما تكون بعد الفراغ منه فاذا لم تجري أصالة الصحة فلم يعلم صحة الحكم فيحتاج تنفيذ الحكم إلى مسوغ فلا بد من الفحص ليعلم صحته من فساده (و لا يخفى ما فيه) فأن الحكم قد تمَّ الفصل به و ليس الاستيفاء و الاستنقاذ من مراتب الفصل بالحكم فإنه بإنشاء الحكم تحقق الفصل، و الاستيفاء من آثاره لا من مراتبه سلمنا انه من مراتبه إلا انه يكفي لجريان أصالة الصحة مضي مقدار من العمل الذي تكون صحته موضوعا لترتيب سائر المراتب عليه و بعبارة أخرى أنه لا وجه لتخصيص أصالة الصحة في فعل الغير بحالة الفراغ منه و مضيه و انما المختصة بالفراغ هي قاعدة الفراغ الجارية في حق الإنسان نفسه و هي غير أصالة الصحة في فعل الغير.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 610

هل يعتبر في النقض مطالبة صاحب الحق

(التنبيه الثاني في المقام) أنه قد عرفت موارد النقض و هي ثابتة للحكم الباطل بأقسامه سواء كان واقعا في حقوق اللّه أو في حقوق الناس و لا يشترط في نقض

الحاكم للحكم المطالبة للحاكم من المحكوم عليه أو من غيره بنقض الحكم أما من في حقوق اللّه فواضح إذ لا مطالب لها سوى اللّه تعالى و لا يتصور مطالبة اللّه عن نفسه و لذا قام الإجماع على عدم اشتراط المطالبة. و أما في حقوق الناس فالمحكي عن القواعد و المبسوط و بعض العامة اشتراط المطالبة و ظاهر غيرهم عدم اشتراطها حيث أطلقوا النقض (و الحق) عدم الاشتراط المطالبة لأن ما تقدم من الأدلة على النقض تشمل صورة المطالبة و عدم المطالبة بل تدل على النقض حتى لو طالب المحكوم عليه بعدم النقض فراجعها. (ان قلت) ان المحكوم عليه إذا لم يطالب بالنقض فربما كان قد أسقط حقه فلا وجه للنقض و اعادة الخصومة و اما إذا طالب بعدم النقض فقد أسقط حقه قطعا فلا معنى للنقض و إعادة الخصومة.

(قيل في جوابه) أنه ان أريد بالحق هو نفس النقض فمعلوم ان النقض حق الهي مفروض على الحاكم الآخر و ليس بيد المحكوم عليه و لا بيد غيره فإنه إن تمت موازين النقض صح صدوره و إلا فلا. و ان أريد به متعلق الحكم فإن إسقاطه و ان كان بيد المحكوم عليه بإبراء أو هبة و نحوهما إلا ان ذلك لا ينافي نقض الحكم و بيان فساده بإنشاء النقض الذي يسقط الاستحقاق بسبب الحكم المنقوض لا بغيره من الأسباب.

المراد بالجواز في قولهم جواز النقض

(التنبيه الثالث) ان الظاهر ان المراد بجواز النقض لمن تحقق عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 611

موجبات النقض هو الجواز بالمعنى الأعم فمن كان الحكم محل ابتلائه بمعنى ان آثاره تترتب عليه وجب عليه نقضه لبطلان الحكم عنده فلا يجوز له ان يرتب عليه الآثار

بما هو حكم و أما من لم يرتبط به ذلك و لم يترافع عنده الخصمان فيجوز له النقض.

المراد بالنقض

(التنبيه الرابع) ان المراد بالنقض من الحاكم هو إنشاء بطلان الحكم و فساده أو إنشاء حكم بخلافه، و النقض من غير الحاكم هو عدم ترتيب الأثر عليه و عدم العمل بموجبة.

ابتداء النقض من حينه أو من حين صدور الحكم

(التنبيه الخامس) ان نقض الحكم هل يقتضي عدم تأثيره من أول الأمر بأن يكون وجوده كعدمه فيكون نظير فسخ المعاملة من حينها أو يقتضي رفع اليد عن استمراره مع تأثيره قبل زمن النقض نظير النسخ. الحق هو الأول لما عرفت في موارد نقض الحكم من أنها يكون الحكم فيها لاغيا من أول الأمر لا من حين النقض.

الشك في جواز النقض

(التنبيه السادس) في مورد الشك في جواز النقض كما لو صدر حكمان من مجتهدين و لم نعلم بأن الثاني جامع لشرائط جواز النقض أم لا فلا وجه لإجراء أصالة الصحة لتعارض الأصلين في الحكم الأول و الثاني و حرمة الرد في كليهما و لا وجه لاستصحاب تأثير الحكم الأول لعدم اليقين السابق بتأثيره نعم يصح استصحاب عدم تأثير الحكم الثاني و عدم نفوذه بعد الحكم الأول بناء على صحة استصحاب العدم الأزلي و لكن هذا لا يثبت تأثير الحكم الأول حتى على القول بالأصل المثبت إذ لا ملازمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 612

بينهما (لا يقال) ان هذا العدم لم يحرز لاحتمال أنه في الواقع يكون الحكم الثاني مؤثرا لكونه هو المطابق للواقع (لأنا نقول) ان عدم التأثير يكون هو الثابت لانتفاء الموضوع و هو الحكم في السابق فإن السالبة بانتفاء الموضوع تصدق لا محالة بخلاف الموجبة فإنها تكذب عند انتفاء الموضوع (و التحقيق أن يقال) أن الحكم الثاني حاكم على الأول لأنه يشتمل على نقض الأول بخلاف الأول فإنه لم يكن ناظرا للحكم الثاني و بعبارة أخرى أن الحكم الثاني لا يكون إلا بعد فساد الأول فهو كاشف عن فساد الأول نظير اليد الثانية الكاشفة عن زوال حكم اليد الاولى. (و ان شئت قلت)

أن الحكم الثاني يشتمل على حكمين أحدهما الحكم بنقض الحكم الأول و ثانيهما الحكم بالوظيفة نعم لو كان الحكم الآخر غير ناظر للحكم الأول كأن حكم أحدهما بالهلال و الآخر بعدمه من دون التفات منهما إلى حكم صاحبه فحينئذ يرجع إلى المرجحات المذكورة في مقبولة عمر بن حنظلة فإن فقدت يتساقطان و يرجع لحكم حاكم ثالث لأن مقبولة عمر بن حنظلة تعرضت لترجيح الحكمين المتعارضين (لا يقال) أنا نشك في مانعية الحكم الثاني من نفوذ الحكم الأول و الأصل عدم المانع (لأنا نقول) انا نشك أيضا في مانعية الحكم الأول من نفوذ الحكم الثاني و الأصل عدم المانع. (لا يقال) أن الحكم الثاني قبل صدور الأول كان نافذا قطعا فيستصحب بعد صدوره (لأنا نقول) أنه قبل صدور الحكم الأول لم يكن موجودا حتى يستصحب نفوذه.

المراد من حرمة النقض

(التنبيه السابع) هل المراد بحرمة النقض و قبول الحكم الالتزام بآثار المحكوم به مطلقا في نوعه أو في شخصه من حيث انفصال الخصومة أو ما هو محط الحكم بأن يكون الحكم طريقا بالنسبة إلى الجهة التي وقعت الخصومة فيها و كانت محط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 613

الحكم أو أن المراد به الالتزام بآثار المحكوم به مطلقا بحيث يكون الحكم طريقا إلى جميع آثار المحكوم به نظير الفتوى فمثلا إذا اختلف المتبايعان في نجاسة المبيع كالعصير الذاهب ثلثاه بالشمس و طهارته فيدعى المشتري بطلان البيع من جهة بنائه على نجاسته و يدعي البائع صحته من جهة بنائه على طهارته فحكم الحاكم بالطهارة من جهة صحة البيع أو حكم الحاكم بصحة البيع فعلى الأول لا يرتب عليه إلا خصوص الأثر الذي يرفع الخصومة و كان محط الحكم و

المقصود به أعني صحة البيع و لزومه و تملك الثمن للبائع و المثمن للمشتري و أما باقي الآثار و هي الطهارة و شربه و الصلاة به فلا ترتب بخلافه على الثاني فإنها ترتب عليه و الحاصل أن في المقام مطلبان. (أحدهما) أن الحكم في مورد يسرى إلى نوعه فلو حكم بصحة بيع العصير المذكور في هذه الدعوى فهل الحكم يسرى إلى باقي أفراد العصير الذي ذهب ثلثاه فيكون الحكم نافذا بالنسبة لكل عصير كذلك و لا يجوز رده أو ان الحكم يختص بخصوص هذا الفرد في خصوص هذه الواقعة (الحق) ان الحكم لا يسري إلى باقي الأفراد بل لا يتجاوز هذه الواقعة أيضا للإجماع و لأن الدليل انما دل على إمضاء الحكم بالنسبة لمتعلقه و متعلقه كان هو خصوص هذا الفرد في خصوص هذه الواقعة فلو فرض كان متعلقه عاما كما لو حكم بحلية أخذ مال الكفار في هذا اليوم و قلنا بأن للحاكم أن يحكم في مثل هذا أو بوجوب الصوم على كل أحد من جهة الهلال فهو ينفذ بمقدار متعلقه فقط لأن عدم إنفاذه في غير متعلقه لا يسمى ردا له فلذا يجب في هذا المقام أن يعرف سعة دائرة المتعلق و عدمها (و اما ما استدل به) لتسرية الحكم لباقي الأفراد بدعوى أنه لو لا التسرية لزم القول بالفصل بين الأفراد فيكون هذا الفرد صحيح بيعه دون غيره من الأفراد و هو قول بالفصل. (فجوابه) أنه بحسب الأحكام الظاهرية يجوز التفكيك و القول بالفصل كما قرر في علم الأصول. و الحكم تكليف ظاهري (و ما يقال) ان الحكم فيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 614

طريقة للواقع (فإنه يقال) ان

غرضهم أنه لا يجوز مخالفته للواقع و إلا فهو إنشاء محض ليس له أدنى حكاية عن الواقع فدليل اعتباره لا يقتضي إلا حجيته في خصوص متعلقه و مورده و محط نظر الحاكم في حكومته فقط فلا يتعدى الى غيره و عليه فلا مانع من الحكم بعدم صحة بيع ذلك العصير في منازعة أخرى فلو باعه على آخر و وقع النزاع بينهما و ترافعا لحاكم آخر يرى نجاسته نفذ حكمه بفساد البيع و الحاصل ان استصحاب بقاء الفتوى و بقاء آثارها يقضي بالبقاء و عدم انتقاضها بالحكم في غير مورد الحكم نعم لو كان الحاكم بالخلاف هو صاحب الفتوى انتقضت الفتوى في سائر الأفراد لأنه لو لم يعدل عن فتواه لما حكم بذلك و إلا لزم القول بالفصل بين الأفراد في فتواه.

(ثانيهما) أنه سواء قلنا بأن الحكم يسرى لباقي الأفراد أو يختص بخصوص الفرد الموجود في الواقعة التي حكم فيها فهل الحكم يقتضي ترتب جميع الآثار أو خصوص الأثر الذي كان محط الحكم و المقصود منه. (و الحق) هو الثاني و ان الذي يرتب هو خصوص ما كان محطا للحكم و موردا له لأن الذي حكم الحاكم به هو خصوص صحة البيع و كون الثمن للبائع و المثمن للمشتري لأن الحكم كما قد عرفت إنشاء و ليس حجيته كالفتوى من باب الطريقية المحضة فهو ليس له إراءة إلا عن متعلقه فدليل اعتباره لا يقتضي إلا أن يثبت به متعلقه دون غيره فلا يعتبر الحكم إلا فيما تعلق به إنشائه و لا يرتب أي اثر آخر بل حتى آثاره الشرعية إذا لم يعلم شمول الحكم لها، و عليه فيكون فرق بين ما إذا كان متعلق الحكم الطهارة

بأن يقول الحاكم حكمت بطهارته و بين ان يقول حكمت بصحة البيع فيما إذا كان نظره فصل الخصومة و هي كانت من جهة صحة البيع و استرداد الثمن فإنه لم يكن قد حكم بالطهارة نعم لو فرض انه كان قد حكم بالطهارة و قلنا بصحة حكمه فيها ترتب عليه آثار الطهارة بمقدار ما كان مقصودا للحاكم في حكمه و أما ما عداها من الآثار فيكون الحكم بالنسبة إليها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 615

بمنزلة الفتوى أو الشهادة التي لا تنفذ بالنسبة للحاكم الآخر و مقلديه لعدم تعلق حكمه بها لأن مخالفته فيها لا تكون ردا على حكمه حيث انها ليست بمتعلق حكمه

[صور] نقض الحكم بالفتوى و بالعكس
اشارة

(التنبيه الثامن) قد عرفت عدم جواز نقض الحكم بالحكم و موارد جوازه و منه يظهر نقض الحكم بالفتوى و نقض الفتوى بالحكم أما نقض الفتوى بالفتوى فقد حققنا الكلام فيه في مبحث تبدل رأي المجتهد. و الحاصل أن الصور المتصورة أربعة

[الصورة] (الأولى): نقض الحكم بالحكم

بأن ينقض الحكم الأول بإنشاء حكم بخلافه كأن يحكم بملكية الدار لزيد ثمَّ يحكم هو أو حاكم آخر بملكيتها لخالد و قد عرفت أنه ينتقض الحكم بالحكم الثاني إذا كان الأول مخالفا للواقع أو كان مقصرا في اجتهاده و إلا فلا ينقض به و كان الحكم الثاني باطلا فاسدا فراجعه.

(و [الصورة] الثانية) و هي نقض الحكم بالفتوى

كأن حكم بصحة بيع العصير العنبي في واقعة خاصة لأنه كان يفتي بطهارته ثمَّ بعد هذا أدى نظره الى نجاسته و أفتى بنجاسته أو أفتى بفساد بيعه فهل هذه الفتوى المتأخرة توجب نقض الحكم السابق منه المستند لفتواه بطهارة العصير يمكن ان يقال أنه لا يجوز النقض في هذه الصورة للإجماع و لأنه إذا لم نجوز نقض الحكم بالحكم فبالطريق الأولى أن لا نجوز نقضه بالفتوى لأن الحكم أقوى من الفتوى. (و ان شئت قلت) ان الظاهر من المقبولة و غيرها كون حكم الحاكم حاكم على جميع الطرق و الامارات و مقتضى حكومته أن لا ترفع أثره الفتوى و لا غيرها من الامارات. (ان قلت) ان ما دل على حرمة الكتمان و وجوب الردع و تدمير الباطل يقتضي أن يكون بالفتوى ينقض الحكم لأن الحكم يكون بنظر المفتي بالخلاف باطل. (قلنا) ان الإجماع و الأدلة الدالة على حرمة نقض الحكم تكون مخصصة لأدلة حرمة الكتمان و وجوب الردع (نعم) في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 616

صورة جواز نقض الحكم تكون الفتوى ناقضة له عن مورده الخاص. (و الحاصل) أنه في صورة عدم جواز نقضه لا يجوز نقضه بالفتوى المتأخرة لا من الحاكم نفسه و ان عدل عن فتواه التي استند الحكم إليها و لا من حاكم آخر قد خالفه في الفتوى التي

استند إليها الحاكم في حكمه و أما في صورة جواز نقضه فيجوز ان ينقض بالفتوى لأنه لم يكن من الحكم الذي حرم الشارع نقضه بل هو ملغي من أصله كما عرفت تحقيق ذلك في مبحث موارد نقض الحكم فتصح الفتوى في مورده لعموم أدلة الفتوى لتلك الموارد، و المراد بنقض الحكم بالفتوى هو ان يفتي في خصوص مورد الحكم بخلافه و إلا فالفتوى بنحو العموم بما هو حكم المسألة تصح حتى من الحاكم نفسه إذا عدل نظره عن الفتوى السابقة و ان لم يكن مجوز النقض موجودا لكنه لا ينقض بها الحكم عند عدم المجوز للنقض و ينقض بها الحكم عند وجود المجوز للنقض. (و الحاصل) ان الفتوى بنحو العموم المخالفة للحكم سواء كانت من الحاكم أو من غيره تصح و تجوز و ان لم يكن المجوز للنقض بها موجودا و انما الذي لا يجوز هو الفتوى المخالفة في مورد الحكم بخصوصه و في نفس الواقعة مع عدم المجوز لنقض الحكم. (فتلخص) أن الحكم لا ينقض بالفتوى و ان كان قد تبين للحاكم فساد حكمه بالظن الاجتهادي لأن حكم الحاكم كما عرفت مقدم و حاكم على جميع الامارات و الظنون المعتبرة كما يستفاد من المقبولة و غيرها. (و قد يتمسك) في المقام باستصحاب عدم جواز النقض فيكون الشك في المقام نظير الشك في النسخ فان الحكم مثبت للتكليف و يشك في رفع استمراره و لا يخفى ما فيه فإنه مع الشك لا يقين سابق بعدم النقض إذ يرجع الشك إلى صحة الحكم من أصله لا في ارتفاع أثره بعد القطع بثبوته و أما التشبيه بالنسخ فهو غير صحيح فان الحكم يثبت حكما ظاهريا ما دام

لم يعلم بمخالفته للواقع فاذا علم بمخالفته للواقع فلا بد من البناء على عدم الحكم الظاهري من أول الأمر و إلا لزم التصويب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 617

(هذا و قد يمنع) من شمول أدلة حرمة النقض بالنسبة إلى نفس الحاكم فيما لو تبين فساد حكمه بالظن الاجتهادي فان المقبولة و غيرها من أدلة الرد انما هي ناظرة لحرمة رد الغير على الحاكم بالظنون الاجتهادية و أما بالنسبة إلى الحاكم نفسه فهي غير ناظرة إلى رده على حكمه و (الحاصل) ان الأدلة التي دلت على حكومة حكم الحاكم على سائر الامارات و الطرق الظنية انما هي ناظرة إلى حكم الحاكم بالنسبة لغيره و أما بالنسبة إلى نفسه فلا و هكذا ما جعل دليلا من الهرج و المرج و عدم حل الخصومة انما يختص بغيره لا بالنسبة لنفسه و إذا كان الأمر كذلك فلا دليل لنا على حرمة نقض حكم الحاكم بفتوى نفسه و مع الشك فالأصل يقتضي جواز النقض بفتوى نفسه بل وجوب النقض لقيام الظن المعتبر الاجتهادي على فساد الحكم و لا دليل على حرمة نقضه فيجب إبطاله من أصله فيكون الحكم فاسدا من أصله لقيام الحجة على ذلك فيكون وجوده كعدمه. و أما الإجماع المنقول على حرمة نقض الحكم بالفتوى لم يعلم ثبوته بالنسبة إلى الحاكم نفسه فيؤخذ القدر المتيقن منه و لو سلم شموله للحاكم نفسه فلا نسلم كشفه عن رأي المعصوم (ع) في هذا المورد لاحتمال اعتماد المجمعين على الروايات المناقش في دلالتها. (و أما دعوى لزوم الهرج و المرج) بدعوى انه ربما يكون رأي المجتهد يتبدل بمرات عديدة فالزوجة المرتضعة بعشر رضعات عدة مرات تنفصل عن زوجها

و ترجع إليه.

(فاسدة) لأن الفرض نادر الوقوع من مجتهد و لو فرض اقتصر على مورده الخاص فهو نظير دعوى لزوم العسر و الحرج.

(و [الصورة] الثالثة) و هي نقض الفتوى بالحكم

و قد عرفت أنه ينقض الحكم الفتوى إذا وقع الحكم على الوجه الصحيح و بحسب الموازين الشرعية و لم يعلم بمخالفته للواقع إذ لو لم تنتقض الفتوى به لكان جعل اعتباره لغوا لسبق الفتوى غالبا عليه و للزم دوام الخصومة بين كل مختلفين في الرأي اجتهادا أو تقليدا مضافا إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 618

الإجماع على نقضها بالحكم و سيرة المسلمين على ذلك فالحكم ينقض الفتوى السابقة عليه في مورد الحكم. و قد خالف في ذلك المحقق القمي (ره) في قوانينه و ظاهر كلامه (ره) أنه في صورة ثبوت حق الدعوى ينقض الحكم الفتوى و أما في صورة عدم حق الدعوى كما لو تراضيا على العقد بالفارسية بأن قلدا مجتهدا فيه مع علمهما بالخلاف ثمَّ دعاهما الهوي إلى المنازعة فلو رجعا لمجتهده آخر يقول بفساده فحكمه بالفساد لا ينقض فتوى مقلدهما بالصحة، و في عوائد النراقي (ره) ما حاصله ان المتنازعين المقلدين لمجتهد واحد في الواقعة المتنازع فيها إذا ترافعا عند حاكم يخالفه في الرأي فحكمه بمقتضى رأيه لا ينقض الفتوى و لا يعمل به و إنما يجب عليه أن يحكم برأي المجتهد الذي قلداه في هذه الواقعة سابقا. و لعل نظر الأول منهما الى أن الاتفاق بين المتعاقدين على عقد يوجب إسقاط حق الدعوى فلا تصح الدعوى منه و نظر الثاني منهما الى ان المتعاقدين إذا كانا مقلدين لمجتهد واحد كان حكمهما الشرعي الواقعي في المعاملة هو فتوى مجتهدهما لا حكم الحاكم. (و الجواب) عن الأول ان

إسقاط حق الدعوى لا يوجب سقوط حكم الحاكم مع أن مجرد الاتفاق على شي ء لا يوجب سقوط الدعوى و عدم سماعها و عن الثاني ان الفتوى حكم ظاهري لهما و قد تقدم ان حكم الحاكم مقدم على حكمهما الظاهري و لذا يقدم الحكم على فتوى المجتهد نفسه فإنه لا يجوز له أن يعمل بفتواه و يجب أن يعمل بحكم الحاكم، نعم لو علم بالواقع فحكم الحاكم يرد و ينقض (و قد أجاب) عن ذلك المرحوم ملا علي بما حاصله من أنه على الحاكم أن يحكم بما أنزل اللّه تعالى بحسب معتقده و لذا لم يشترط أحد في حكم الحاكم استفساره عن رأي المتداعيين في المسائل الخلافية بل انعقدت السيرة على عدم الاستفسار بل يلزم ذلك أن لا يجوز لنا الحكم على الكفار و المخالفين بما هو حق عندنا إذا احتمل في حقهم التراضي على حكم حاكم خاص في الواقعة و هو خلاف الإجماع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 619

و بالجملة: الواجب على الحاكم بما أدى اليه نظره من الصحة و الفساد في الواقعة و لو كان المتنازعان قلدا مجتهدا آخر في خلاف ما يراه الحاكم، نعم حكمه إنما يكون حكما ظاهريا فلا يقلب حكمهما الواقعي الذي قلدا فيه فلو قلدا في صحة بيع المعاطاة و أوقعاه ثمَّ ترافعا عند من حكم بفساده لم يحل المبيع على البائع و الثمن على المشتري في الظاهر لكون الحكم الشرعي في حقهما خلافه فالحكم ينقض الفتوى في الظاهر لا في الواقع.

(و [الصورة] الرابعة) نقض الفتوى بالفتوى

و هو غير جائز إذا لم تكونا من مجتهد واحد فان المجتهدين طالما يختلفون في فتاواهم و لو كانت فتوى المجتهد الآخر تنقض الفتوى السابقة عليها

للزم سد باب الإفتاء و انحصار الحكم الظاهري بالفتوى المتأخرة لأنها تنقض جميع ما تقدم عليها من الفتاوى و يلزم من ذلك تقليد الجميع له و الإجماع بل الضرورة على خلاف ذلك، نعم المقلد لا يجوز له أن ينقض فتوى مجتهده بالعدول لآخر إلا إذا كان الآخر أعلم من الأول فيجب عليه النقض بناء على وجوب تقليد الأعلم، هذا كله بالنسبة إلى الإفتاء و أما بالنسبة إلى ترتيب الأثر في حق مجتهد بالنسبة لمجتهد آخر أو مقلديه فنقول ان الصحة ان كانت عند نفس المجتهد تكفي في ترتب الأثر كما إذا علم من الأدلة ان الصحة عند الفاعل تكفي في ترتب الأثر من الغير عليه و إن كان عند الغير فاسدا فحينئذ ترتب الاثار كما يقال في الطلاق فإنه لو كان صحيحا عند الفاعل جاز لمن كان فاسدا عنده التزويج منها و لذا كان طلاق المخالف مجوزا لأخذ غيره لزوجته، و أما إن كانت غير كافية بل لا بد من الصحة عنده أيضا فحينئذ لو كان العمل فاسدا بحسب فتواه فلا يرتب الأثر عليه و لو فرض انه كان صحيحا عند الفاعل كما لو ذبح و لم يكن الذبح صحيحا عند الغير و مع الشك فالقاعدة عدم ترتب الأثر لعدم إحراز الموضوع للأثر إلا إذا كان هناك أصل يقتضي الصحة، و من هذا الباب ما لو أفتى بجواز دخول النجاسة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 620

الغير المسرية للمسجد فأدخلها و الغير مقلد أو مجتهد في وجوب تبعيد النجاسة عنه فلا إثم على الأول في إدخالها و وجب على الثاني إخراجها إن تمكن و هكذا لو بني المسجد من آجر لا يرى نجاسته

و يرى الغير نجاسته و يشكل فيما إذا أوقف شيئا يراه طاهرا على المسجد و شرط عدم إخراجه و اطلع المجتهد المفتي بوجوب إخراجه و الظاهر انه يجب عليه إخراجه لأن شرط الواقف إن اختص بمن يراه طاهرا فهذا المجتهد ليس منه و إن كان عاما فالظاهر فساد هذا الشرط حيث انه شرط مخالف للشرع، و أما إذا كانت الفتويان من مجتهد واحد فالمتأخرة تنقض المتقدمة بمعنى انه يجب العمل على الثانية من المفتي و من يقلده فلا يجوز العمل بالأولى في موارد الثانية سواء كان يقطع بفساد الأولى أو يظن بالظن المعتبر بفسادها و قد تقدم البرهان على ذلك في مبحث عدول المجتهد عن رأيه و أما نقضها بمعنى زوال آثارها التي تترتب على العمل بها بالفتوى الثانية فقد تقدم تفصيل ذلك في مبحث عدول المجتهد، و أما نقض الفتوى بالفتوى من نفس المقلد بالنسبة لمجتهدين و مرجعه إلى جواز العدول من مجتهد لآخر فيما قلده فيه فقد حققناه البحث عنه في مبحث جواز العدول من مجتهد لآخر:

وجوب اعلام الحاكم بخطئه في حكمه

(التنبيه التاسع) ان الحاكم إذا علم بخطئه أو قامت عنده الحجة المعتبرة على خطأه وجب عليه أن يعلم من يعمل بحكمه لعين ما ذكرناه في وجوب إعلام المجتهد بتبدل رأيه، و أما إذا علم المجتهد بمخالفة حكم المجتهد الآخر للواقع أو بعدم أهليته للاجتهاد أو بتقصيره فيه فلا يجب على ذلك المجتهد إعلام من يعمل بحكمه بعدم صحة حكمه، نعم قال أستاذنا المرحوم العراقي بوجوب ذلك عليه في الدماء و الاعراض لكثرة اهتمام الشارع بهما بحد يجب حفظهما على كل من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 621

يتمكن من ذلك، و أما في الأموال

فوجوبه مبني على أحد أمرين و هما اما دعوى ان حفظ الأموال من وظائف قضاة الجور و كل ما كان من وظائف قضاة الجور ثابت لقضاتنا بإطلاق المقبولة، و أما دعوى صدق الإتلاف للمال على مجرد سكوت ذلك المجتهد عن إعلام خطأ المجتهد الآخر في حكمه و إلا فلا دليل على وجوب حفظ مال الغير بالإعلام بعد فرض قيام الحجة للمحكوم له في أخذه المال، و دليل النهي عن المنكر غير ظاهر الشمول لمثل المورد، نعم لو كان المحكوم له عالما بخطإ الحاكم يجب على كل من يعلم بحاله نهيه عن عمله لكون عمله منكرا حتى عند نفسه.

عدم نفوذ حكم الحاكم

(التنبيه العاشر) ان القوم ذكروا ان الحاكم إذا كانت له منازعة مع غيره لا ينفذ حكمه لنفسه على ذلك الغير بل يلزم الرجوع إلى حاكم آخر مستدلين على ذلك بالإجماع. و بأخبار رجوع المتنازعين إلى من عرف أحكامهم فإن ظاهرها كون الحاكم غير المتنازعين. و هكذا ذكروا ان حكمه لا ينفذ على من لا تقبل شهادته عليه كحكم الولد على والده و العبد على مولاه. و كذا لا ينفذ حكمه لمن لا يقبل شهادته له كحكمه لمن يجر بحكمه له نفعا. قال السيد في ملحقاته و لا دليل لهم على ذلك إلا دعوى ان الحكم شهادة و زيادة و هو كما ترى فالأقوى عدم المانع من شمول إطلاق أدلة نفوذ الحكم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 622

فيما لو أخطأ الحاكم فالدية من بيت المال

(التنبيه الحادي عشر) لو نقض حكم الحاكم بالأمور المصححة لنقضه كما تقدم و قد استوفى المحكوم له فان كان قتلا أو جرحا فلا قود على الحاكم قطعا و لا على كل من وكله في إقامته و إنما تكون للمحدود الدية في بيت المال و لا يضمنها الامام و لا عاقلته و قد نقل في الجواهر عدم الخلاف في ذلك إلا ما يحكى عن ظاهر الحلبي من ضمان الإمام في ماله و هو فاسد لما هو المروي عندنا عن أمير المؤمنين (ع) في خبر الأصبغ ان ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت المال و ضعف سنده منجبر بالشهرة. و ما أورد على ذلك من الرواية المشتملة على تضمين أمير المؤمنين (ع) عاقلة عمر بن الخطاب باطل لأن الرواية لم تثبت من طرقنا و لأنه ليس بحاكم شرع و لا منصوب من قبل حاكم

الشرع. و كيف يضمن حاكم الشرع و هو محسن و لا سبيل على المحسنين. على انه منصوب لمصالح المسلمين و يعمل لصالحهم فضمان خطأه على بيت ما لهم. و إن كان المحكوم به القصاص و كان المباشر له الولي فذهب صاحب الشرائع و تبعه الفاضل إلى أنه لا يضمن مع حكم الحاكم و إذنه لأن السبب و هو حكم الحاكم أقوى من المباشر و لا الحاكم لأنه ليس على المحسنين من سبيل و إنما الضمان على بيت المال للرواية المتقدمة بخلاف ما إذا اقتص قبل الحكم أو بعد الحكم و قبل الاذن من الحاكم فإنه يضمن لعدم قوة السبب على المباشر. و إن كان المحكوم به ما لا دية أو غيرها فيستعاد إن كانت العين باقية لأنها لا سلطان لأحد عليها إلا لمالكها و إن كانت تالفة فيضمن المحكوم له لأن على اليد ما أخذت حتى تؤدي و مع إعساره ينتظر كما هو الحال في كل ضامن بخلاف القصاص إذ لا دليل على ضمان المحكوم له بالقصاص لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 623

دليل الضمان اما دليل (على اليد) و يد المحكوم له في القصاص لم تأخذ شيئا أو دليل من أتلف ماله و المحكوم له لم يتلف مالا في القصاص، و من ذلك يعلم ان الحاكم لو أنفذ إلى حامل إقامة الحد فأجهضت خوفا فدية الجنين في بيت المال لأنه خطأ و خطأ الحكام في بيت المال كما هو المنسوب لأكثر علمائنا قال في الجواهر و دعوى ان ذلك من الخطأ الشبيه بالعمد لا يدفع اندراجه في خطأ الحكام بعد فرض جواز الإرسال إليها. و في الجواهر أيضا لو أمر الحاكم

بضرب المحدود زيادة على الحد فمات سهوا كأن تخيل ان حد الشارب هو حد الزنا أو غلط في الحساب فنصف الدية من بيت المال لأنه من خطأ الحكام.

بقية أحكام المجتهد و الاجتهاد بالنسبة للقضاء

بقي هناك أحكام للمجتهد و الاجتهاد فيما يخص القضاء مثل هل للحاكم البحث عن حال الشاهد إذا جهل أمره و هل له نقض الحكم لو تبين فسق البينة و غير ذلك مما ذكر في كتاب القضاء من الأحكام التي تخصه و حيث ان الأمر فيها واضح فمن أراد الاطلاع عليها فليرجع الى كتاب القضاء.

(الثالث و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا كانا يفتقران الى الجرح أو القتل افتقرا الى إذنه

في المحكي عن الشيخ و فخر الإسلام و الشهيد و المقداد و الكركي انه لا يجوز الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا كانا بنحو الجرح و القتل إلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 624

بإذن الإمام. قال في الجواهر (ره) لما في جواز ذلك لسائر الناس عدو لهم و فساقهم من الفساد العظيم و الهرج و المرج المعلوم عدمه في الشريعة خصوصا في مثل هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه على الناس.

(إن قلت) ان إطلاق الأدلة الدالة على وجوبهما لا سيما الدالة على وجوبهما باللسان و اليد يقتضي شمولهما للجرح و القتل من دون اشتراط إذن الامام. كيف و وجوبهما لمصلحة العالم فلا يتوقفان على شرط. (قلنا) لا إطلاق لها بالنسبة الى ذلك بعد ما عرفت من أن وجوبهما كذلك يوجب فساد النظام فالمقيد لهما عقلي.

(إن قلت) لا إشكال في وجوبهما على النبي و الأئمة (ع) و لو بنحو الجرح و القتل بدون إذن أحد و مقتضى اشتراك التكليف أن يكونا واجبين كذلك على كل أحد. (قلنا) نعم لكن بعد قيام الدليل على عدم وجوبهما كذلك بدون الاذن لا وجه للتمسك بأدلة اشتراك التكليف.

(إن قلت) انه روي عن تأريخ الطبري عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال اني سمعت عليا يوم لقينا أهل الشام يقول: أيها المؤمنون انه

من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و من أنكره بلسانه فقد أوجر و هو أفضل من صاحبه و من أنكره بالصيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك أصاب سبيل الهدى. و قول الباقر (ع): فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم فإن اتعظوا و الى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ. هنا لك فجاهدوهم بأبدانكم و أبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا و لا باغين به مالا و لا مريدين بالظلم ظفرا حتى يفيئوا إلى أمر اللّه و يمضوا على طاعته. (قلنا) هذه الاخبار و نحوها ظاهره في قتال أهل البغي و الجهاد في سبيل اللّه لا في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فتلخص ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 625

هذا الحكم لا بد فيه من إذن الامام أو المتولي لشؤون المسلمين و هو المجتهد العادل الذي له الولاية عليهم.

الرابع و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد اقامة الحدود و التعزيرات

اشارة

اختلفوا في ان للمجتهد إقامة الحدود و التعزيرات في زمن الغيبة مع تمكنه من ذلك و عدم الضرر عليه فالمحكي عن الشيخين و الديلمي و الفضال و الشهيدين و المقداد و ابن فهد و الكركي و السبزواري و الكاشاني و الشيخ الحر هو أن له ذلك و نسب القول للمشهور و نقل الإجماع عليه. و عن الحلي عدمه. و عن ظاهر الشرائع و النافع التردد و الحق هو الأول لما قلنا من ثبوت الولاية العامة له و منها ولايته على اقامة الحدود و التعزيرات لحفظ شؤون المسلمين من

المعاصي و تعدي بعضهم على بعض، مضافا الى رواية حفص بن غياث المنجبر ضعفها لو كان بالشهرة قال سألت أبا عبد اللّه (ع) من يقيم الحدود السلطان أو القاضي؟ فقال (ع) اقامة الحدود الى من اليه الحكم و يؤيده رواية أبي مريم قال قضى أمير المؤمنين ان ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فعلي بيت مال المسلمين، فلو لم يكن لهم ذلك لكان عليهم الدية لا على بيت مال المسلمين. و قد استدل أيضا بإطلاقات مثل قوله تعالى (فَاقْطَعُوا) و قوله تعالى (فَاجْلِدُوا) و نحو ذلك من الأوامر الدالة على الحدود و التعزيرات. و احتمال كون ذلك من خصائص الإمام أو مدخلية حضوره أو إذنه مدفوع بإطلاق أدلتها و عدم تقيدها مضافا لعموم أدلة النيابة كما تقدم ثمَّ لا يخفى أن ثبوت ذلك للفقيه على سبيل الوجوب لان ترك اقامة الحدود و التعزيرات يؤدي الى العظيم من المفاسد و لأن أوامر الحدود مثل (اجلدوا و اقطعوا) دالة على الوجوب و لان كل من قال انه له ذلك قال بوجوبه عليه،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 626

و لقول أمير المؤمنين (ع) في رواية ميثم الطويلة التي رواها المشايخ الثلاثة الواردة في حد الزنا. و انك قد قلت لنبيك فيما أخبرته به من دينك يا محمد من عطل حدا من حدودك قد عاندني و طلب بذلك مضادتي اللهم و اني غير معطل حدودك و لا طالب مضادتك و لا مضيع أحكامك الحديث و هو ظاهر في العموم لكل زمان مضافا الى التشديد من المعصومين في تعطيل الحدود فإنه يستفاد من ذلك وجوب اقامة الحدود لكن الظاهر انه مع أمن الضرر من السلطان عليه و

على غيره من الشيعة لقاعدة نفي الضرر. و هذه الأدلة المختصة بالحدود يتعدى منها الى التعزيرات بالإجماع المركب بل قد يقال بأن لفظ الحدود يشمل التعزيرات (و قد استدل بعضهم) على منع إقامة الفقيه لها بالمروي عن كتاب الأشعثيات لمحمد بن محمد بن الأشعث بإسناده عن الصادق (ع) عن أبيه عن آبائه عن علي (ع) أنه قال لا يصلح الحكم و لا الحد و لا الجمعة إلا بالإمام. و لا يخفى ما فيه لضعفه سندا بل المحكي عن بعض الأصحاب أن الكتاب المذكور ليس من الأصول المشهورة بل و لا المعتبرة و لم يحكم أحد بصحته من أصحابنا بل لم تتواتر نسبته لمصنفه و لم تصح على وجه تطمأن به النفس و لذا لم ينقل عنه الحر في الوسائل و لا المجلسي في البحار مع شدة حرصهما خصوصا الثاني على كتب الحديث. و من البعيد عدم عثورهما عليه. و الشيخ و النجاشي و ان ذكرا ان مصنفه من أصحاب الكتب إلا أنهما لم يذكرا الكتاب المزبور بعبارة تشعر بتعينه. و مع ذلك فان تتبعه و تتبع كتب الأصول يعطيان أنه ليس جاريا على منوالها فإن أكثره بخلافها و انما تطابق روايته في الأكثر رواية العامة و لو سلمناه لكن عرفت أن المجتهد في زمن الغيبة يثبت له كلما يثبت للإمام بعنوان الإمامة و ان لم نقول أنه يصدق عليه لفظ الامام.

قال في الجواهر ما حاصله و لا إشكال و لا خلاف في وجوب مساعدة الناس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 627

للفقهاء على ذلك نحو مساعدة الإمام (ع) ضرورة كونه من السياسيات الدينية التي لا يقوم الواحد بها و من البر و التقوى

اللذين أمر بالتعاون عليهما

و ينبغي التنبيه على أمور.
ان الحاكم يبدأ برجم المرجوم إذا كان مقرا

(الأول) أنه حكي الإجماع عن الخلاف و ظاهر المبسوط أن على الامام أن يبدأ بالرجم ثمَّ الناس إذا أقر المرجوم، و يبدأ بالشهود ثمَّ الامام بعدهم ثمَّ الناس إذا قامت البينة و يعضد ذلك المروي في الفقيه و غيره إذا أقر الزاني المحصن كان أول من يرجمه الامام ثمَّ الناس فاذا قامت البينة كان أول من يرجمه البينة ثمَّ الناس. كما ذكروا أنه يستحب للإمام أو نائبه أن يحضرا شاهدين عارفين بمواقع القصاص و شرائطه عند القصاص من الجاني.

ان الحاكم يجب عليه اقامة الحد بعلمه

(التنبيه الثاني) أنه يجب على الحاكم اقامة حدود اللّه عز و جل لو علم بها كحد الزنا دون حقوق الناس فإنه بمجرد علمه بها لا يقيمها إلا بالمطالبة لخبر الحسين بن خالد المتقدم في مبحث حكم الحاكم بعلمه. و لما في الصحيح من أنه إذا أقر على نفسه عند الإمام بسرقة قطعه فهذا من حقوق اللّه تعالى. و إذا أقر على نفسه أنه شرب الخمر حده فهذا من حقوق اللّه تعالى. و أما حقوق المسلمين فإذا أقر على نفسه عند الإمام بفرية لم يحده حتى يحضر صاحب الفرية أو وليه و إذا أقر بقتل رجل لم يقتله حتى يحضر أولياء المقتول فيطالبوه بدم صاحبهم و بمعناه الصحيح الآخر في حقوق الناس من أقر على نفسه عند الامام بحق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 628

أحد من المسلمين فليس على الامام أن يقيم عليه الحد الذي أقر به عنده حتى يحضر صاحب الحد أو وليه و يطلب بحقه.

ان للمجتهد العقاب زيادة على الحد فيما لو وقعت المعصية في وقت شريف أو موضع شريف

(التنبيه الثالث) ذهب جل الأصحاب على أن للحاكم الشرعي أن يعاقب العاصي زيادة على الحد بحسب ما يراه إذا أتي بالمعصية في زمان شريف كشهر رمضان أو في مكان شريف كالمساجد و المشاهد المشرفة و يشهد لذلك ما في المرسل انه أتي أمير المؤمنين (ع) بالنجاشي الشاعر و قد شرب الخمر في شهر رمضان فضربه ثمانين ثمَّ حبسه ليلة ثمَّ دعي به من الغد فضربه عشرين سوطا فقال يا أمير المؤمنين ضربتني ثمانين في شرب الخمر فهذه العشرون ما هي فقال هذه لجرئتك في شهر رمضان قال في الجواهر و من التعليل يستفاد الحكم لغير مورده كما فهمه الأصحاب و يشهد له الاعتبار بل لا يبعد

ملاحظة الخصوصيات أيضا بالنسبة إلى الأزمنة و الأمكنة كليلة القدر و كالمشاهد المعظمة الى غير ذلك مما يكون فيه هتك الحرمة أو زيادة الهتك.

عفو المجتهد عن المجرم و عدم اقامة الحد أو الجلد عليه إذا أقر بالجريمة

(التنبيه الرابع) أنه حكي الإجماع عن السرائر على ان الامام مخير في إقامة الحد على من أقر بالجريمة ثمَّ تاب و حكي الإجماع أيضا في الجلد كذلك و الشهرة العظيمة على ذلك جابرة للنصوص الواردة في المقام التي منها ما رواه في الوسائل عن محمد بن الحسن عن بعض الصادقين (ع) أنه جاء رجل الى أمير المؤمنين (ع) فأقر بالسرقة فقال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 629

أ تقرأ شيئا من القرآن قال نعم سورة البقرة قال قد وهبت يدك لسورة البقرة فقال الأشعث أ تعطل حدا من حدود اللّه تعالى فقال ما يدريك يا هذا إذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو و إذا أقر الرجل على نفسه فذاك الى الامام ان شاء عفى و ان شاء قطع قال في الوسائل و رواه الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (ع) و روى أيضا بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد (ع) نحوه و خصوص المورد لا يوجب تخصيص الوارد. و ما رواه صاحب تحف العقول عن أبي الحسن الثالث في حديث قال و أما الرجل الذي اعترف باللواط فان لم يقم عليه البينة و انما تطوع بالإقرار من نفسه و إذا كان للإمام الذي من اللّه يعاقب عن اللّه كان له أن يمن عن اللّه أما سمعت قول اللّه هذا عطاءنا فامنن أو أمسك بغير حساب، و عن ابن شهر اشوب في المناقب مثله و عن الكافي بسنده

عن أبي جعفر (ع) و عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) لا يعفى عن الحدود التي للّه دون الامام الخبر. و عن فقه الرضا مثله قال في الجواهر ليس في النصوص اعتبار التوبة و لعل اتفاقهم عليه كاف في تقييدها و لعل ظاهر الإقرار و الاعتراف بالذنب هو التوبة. و إذا ثبت ذلك للإمام فقد ثبت لنائبه في زمن الغيبة لما تقدم من أن كلما ثبت للإمام بعنوان الإمامة يثبت لنائبه بل ظاهر النصوص هو ثبوت ذلك له بعنوان الولاية العامة من اللّه تعالى و هي كما عرفت ثابتة للمجتهد الجامع لشرائط الزعامة في زمن الغيبة.

بقي الكلام في بقية أحكام الحاكم الشرعي المتعلقة بالحدود

ككونه مخيرا بين رجم اللائط و بين قتله بالسيف أو حرقه بالنار أو إلقائه من شاهق. و كونه مخيرا في الكافر الذي يلوط بمثله بين إقامة الحد عليه و بين دفعه الى أهل ملته لقيموا عليه حدهم و إخراج الزاني من البلد الذي أقيم فيه الحد عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 630

و غير ذلك من الأحكام يطلبها من أراد معرفتها من كتاب الحدود و القصاص و الديات.

الخامس و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد انه له الحبس على التهمة

حكي عن الشيخ و أتباعه و الطبرسي و العلامة أن ولي الدم إذا اتهم شخصا جاز للحاكم حبس الشخص المتهم حتى يحضر الرجل بينته و استندوا في ذلك الى رواية السكوني عن أبي عبد اللّه (ع) أن النبي (ص) كان يحبس في تهمة الدم ستة أيام فإن جاء أولياء المقتول ببينة يثبت و إلا خلي سبيله، و ضعف الخبر بالسكوني منجبر بعمل المذكورين به و حكاية الإجماع على العمل برواياته نعم لو لم يرد الرجل حبس المتهم لم يكن للحاكم حبسه لكون الحق له. كما أن ظاهر ذيل الخبر اختصاص الحكم بالقتال دون الجرح.

السادس و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان اذنه رافع للضمان

أن كل فعل يحصل التلف بسببه كحفر البئر في غير الملك و نصب السكين و طرح المعاثر في المسالك يوجب ضمان دية العاثر للإجماع المحكي و لصحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه سألته عن رجل ينفر برجل فيعقره و تعقر دابته رجلا آخر قال هو ضامن لما كان من شي ء و عن شي ء يوضع على الطريق فتمر الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال كل شي ء مضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه و صحيح الكناني قال قال أبو عبد اللّه (ع) من أضر بشي ء في طريق المسلمين فهو له ضامن و موثق سماعة سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجل يحفر البئر في داره أو ملكه فقال ما كان حفره في داره أو ملكه فليس عليه ضمان و ما حفر في الطريق أو في غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها. و يستفاد من هذا أنه لو صنع ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 631

بأذن الحاكم الشرعي فيما للحاكم الشرعي الولاية عليه لم يضمن كما لو حفر في طريق

المسلمين بالوعة بإذن الإمام لأنه أقوى من المالك في ولايته في ملكه و من أراد تحقيق الحال فليراجع كتاب الديات.

السابع و الأربعون من أحكام المجتهد و الاجتهاد ان الامام عليه دية من قتل خطأ

و لا وارث له و لا عاقلة كما أن تقسيط الدية على ما يراه من المصلحة المجتهد الذي له الولاية على المسلمين و قائم مقام الامام يضمن دية القاتل خطأ و لا وارث له و لا معتق و لا ضامن جريرة له ففي المرسل في الرجل إذا قتل رجلا خطأ فان لم يكن له عاقلة فعلى الوالي من بيت المال و هكذا تقسيط الدية على العاقلة بحسب ما يراه من حالها كما هو المنسوب للمشهور و تحقيق ذلك يطلب من كتاب الديات.

خاتمة فيها مطالب

حقوق العالم الديني على غيره

(الأول) في الكافي بسنده عن سليمان الجعفري عمن ذكره عن أبي عبد اللّه (ع) و مثله عن المحاسن قال كان أمير المؤمنين (ع) يقول أن من حق العالم أن لا تكثر عليه السؤال. و لا تأخذ بثوبه. و إذا دخلت عليه و عنده قوم فسلم عليهم جميعا و خصه بالتحية دونهم. و أجلس بين يديه و لا تجلس خلفه و لا تغمز بعينك و لا تشر بيدك و لا تكثر من القول قال فلان و قال فلان خلافا لقوله و لا تضجره بطول صحبته فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك منها شي ء و العالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل اللّه. و عن آمالي الصدوق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 632

بسنده عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد اللّه الصادق يقول اطلبوا العلم و تزينوا معه بالحلم و الوقار و تواضعوا لمن تعلمونه العلم و تواضعوا لمن طلبتم منه العلم و لا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم. و عن الخصال عن علي بن الحسين (ع) و حق سائسك بالعلم التعظيم له و التوقير

لمجلسه و حسن الاستماع اليه و الإقبال عليه و أن لا ترفع اليه صوتك و لا تجيب أحدا يسأله عن شي ء حتى يكون هو الذي يجيب و لا تحدّث في مجلسه أحدا و لا تغتاب عنده أحدا و ان تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء و ان تستر عيوبه و تظهر مناقبه و لا تجالس عدوا له و لا تعادي له وليا. و في الإرشاد ما رواه الحارث قال سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول من حق العالم أن لا يكثر عليه السؤال و لا يعنت في الجواب و لا يلح عليه إذا كسل و لا يؤخذ بثوبه إذا نهض و لا يشار اليه بيد في حاجة و لا يفشي له سر و لا يغتاب عنده أحد و يعظم كما حفظ أمر اللّه و يجلس المتعلم أمامه و لا يعرض من طول صحبته و إذا جاءه طالب علم و غيره فوجده في جماعة عمهم بالسلام و خصه بالتحية و ليحفظ شاهدا و غائبا و ليعرف له حقه فان العالم أعظم أجرا من الصائم القائم المجاهد في سبيل اللّه و إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه، و طالب العلم تستغفر له الملائكة و يدعوا له من في السماء و الأرض.

و عن غوالي اللئالي قال الصادق (ع) من أكرم فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة و هو عنه راضي و من أهان فقيها مسلما لقي اللّه يوم القيامة و هو عليه غضبان.

فرض العلم و الحث على طلبه

(الثاني) في الكافي بعدة طرق عن أبي عبد اللّه (ع) و عن بصائر الدرجات بثلاثة طرق عن أبي عبد اللّه (ع) و عن أمالي الشيخ و مجالس المفيد أيضا عن

أبي عبد اللّه (ع) ان طلب العلم فريضة على كل مسلم و لعل هذا الخبر من المتواتر نقله عن أبي عبد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 633

اللّه (ع) و لا شك في وجوب طلب العلم بالعقائد الدينية كما لا ريب في وجوب معرفة الأحكام الشرعية التي هي محل ابتلائه و لو بالتقليد و أما ما عداها فهو مستحب لما هو المحكي عن أمالي الصدوق و عيون أخبار الرضا و غيرهما من قول أمير المؤمنين (ع) قيمة كل امرئ ما يحسنه و لما عن بصائر الدرجات بسنده عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال قال رسول اللّه (ص) العالم و المتعلم شريكان في الأجر للعالم أجران و للمتعلم أجر و لا خير في سوى ذلك. الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

سؤال العالم

(الثالث) قال اللّه تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* و قد كاد أن يتواتر عن المعصومين (ع) انهم قالوا العلم خزائن و مفاتيحه السؤال فاسئلوا يرحمكم اللّه فإنه يؤجر فيه أربعة السائل و المعلم و المستمع و المحب لهم.

مجالسة العلماء و مذاكرتهم

(الرابع) عن ثواب الأعمال و أمالي الصدوق و الخصال عن الصادق (ع) عن آبائه عن رسول اللّه (ص) انه قال مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة. و عن العدة عن علي (ع) قال جلوس ساعة عند العلماء أحب الى اللّه من عبادة ألف سنة و النظر الى العالم أحب الى اللّه من اعتكاف سنة في البيت الحرام و زيارة العلماء أحب الى اللّه من سبعين طوافا حول البيت و أفضل من سبعين حجة و عمرة مبرورة مقبولة و رفع اللّه له سبعين درجة و أنزل اللّه عليه الرحمة و شهدت له الملائكة ان الجنة وجبت له.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 1، ص: 634

تمَّ الجزء الأول من كتاب النور الساطع و يليه الجزء الثاني يشتمل على مباحث التقليد و أحكام المقلد و التقليد

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

الجزء الثاني

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

و به نستعين

[الديباجة]

الحمد للّه رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد و آله و صحبه الطيبين الطاهرين. و بعد: فيقول المفتقر إلى اللّه تعالى علي ابن المرحوم الشيخ محمد رضا ابن المرحوم الشيخ هادي قد ساعدني التوفيق الإلهي على إنجاز الجزء الأول من كتابي (النور الساطع في الفقه النافع) و قد كان يشتمل على القسط الأوفر مما وضعته مقدمة للبحث في مسائل الفقه من مباحث الاحتياط و الاجتهاد و المجتهد. و هذا الجزء الثاني منه يشتمل على ما بقي مما وضعته مقدمة له من مباحث التقليد و شروطه و ما يعتبر في المقلد و المقلد فيه و أحكام ذلك. و من اللّه نستمد الصواب و التوفيق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 4

مباحث التقليد

[بحوث تمهيدية]

تعريف التقليد
معناه اللغوي

التقليد: في اللغة مصدر مأخوذ من قلد بتشديد اللام فهو نظير التقديس المأخوذ من قدس و ليس بمأخوذ من تقلد زيد السيف فان مصدره تقلد بفتح القاف و ضم اللام نظير التدحرج المأخوذ من تدحرج و الظاهر انه من المصادر الجعلية المأخوذة من المواد الجامدة نظير حجّر المأخوذ من الحجر فهو مأخوذ من القلادة و لذا فسره غير واحد من أهل اللغة كما هو المحكي عن الصحاح و مجمع البحرين بتعليق القلادة في العنق فإنه مرادهم تعليق الشخص القلادة في عنق الغير لا تعليق الشخص القلادة بعنقه نفسه فان هذا يناسب معنى التقليد لا التقليد.

و صاحب الفصول لما فسر التقليد في اللغة بذلك تخيل بعضهم ان مراده تعليق الشخص القلادة بعنقه نفسه فأورد عليه بأن هذا تقلد لا تقليد و ما درى ان مراده هو ذلك، و كيف كان فالتقليد بالمعنى الذي ذكره اللغويون يصلح للتعدية لمفعولين الأول منهما القلادة و ما

هو بمنزلتها و الثاني منهما ذو القلادة و منه قول الفقهاء في كتاب الحج يجب تقليد النعل الهدي فإن مرادهم تعليق النعل الذي صلى فيه بعنق الهدي، و منه في حديث الخلافة قلدها رسول اللّه (ص) عليا (ع) أي ألزمه بها و جعلها في عنقه، و منه قول العامة للمجتهد «قلدتك أمور ديني أو قلدتك أعمالي الدينية» أي جعلتها في عنقك و يكون فيه تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول لأن المقصود من ذلك انه قد جعل أمور دينه و أعماله الدينية مرتبطة بالمجتهد و في عهدته و منوطة به و ملزمة برأيه فكانت أعماله الدينية و أموره الإلهية كالقلادة للمجتهد باعتبار ارتباطها به كارتباط القلادة بعنق الغير و جيد الفتاة حيث كانت منوطة به و موضوعا عهدتها عليه لا انه جعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 5

المجتهد مرتبطا بأمور دينه و منوطا أمره بها و إلا لكان المجتهد بمنزلة القلادة لأمور دينه لا أن أمور دينه بمنزلة القلادة للمجتهد. و منه أيضا تقليد الولاة الأعمال و قد يعدى للمفعول الثاني بنفسه و للأول بالباء أو بفي فيقال قلدتك في معرفة القبلة و قلدتك بمعرفة القبلة.

[معنى التقليد اصطلاحا. المراد من (العمل) في تعريف التقليد]
اشارة

و في اصطلاح الفقهاء هو العمل بقول الغير من غير حجة كما هو في القوانين و المعالم، و المحكي عن السيد الصدر في شرحه على الوافية و العضدي و المدارك في مبحث القبلة و النهاية و الأحكام، و من الغريب ما ذكره بعض أساتذة العصر في تقريراته ان التقليد باق على معناه اللغوي عند عرف المتشرعة و هذا يخالفه الوجدان لتبادر هذا المعنى الخاص إذا أطلق في كلماتهم دون أن يحتملوا معنى آخر مضافا إلى تصريح

أهل العرف بذلك و هم أرباب النقل و أهل البيت أدرى بالذي فيه، و لا بد لتوضيح هذا التعريف من التكلم في أجزائه:

(الأول) منها هو العمل و لتحقيق المراد منه نقول: ان بعضهم أبدل العمل في التعريف بالأخذ كما في الفصول و هو المحكي عن المقاصد العلية و بعضهم أبدله بالقبول كما عن مجمع البحرين ناسبا له لاصطلاح أهل العلم و كما هو المحكي عن الوافية و الإيضاح و جامع المقاصد و شرح المبادي لفخر الإسلام و بعضهم أبدله بالمتابعة، فهل هذا كله اختلاف في التعبير و المقصود واحد و هو تطبيق الحركات و السكنات على قول الغير بإرجاع الجميع إلى ظاهر لفظ العمل و يكون المراد من الأخذ و القبول هو العمل و الجري على مقتضى قول الغير و قد استعمل الأخذ بهذا المعنى في كثير من الموارد مثل من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات فان المراد به العمل بها و مثل الأخذ بأعدلهما و الأخذ بما وافق الكتاب، و يشهد لكون المراد بالأخذ هو العمل تمثيل بعض من فسره بالعمل (بأخذ العامي من مثله) كصاحب القوانين و المعالم، و ذكر القبول في المحكي عن النهاية بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 6

تعريفه بالعمل. أو المقصود من الجميع هو الأخذ و القبول لقول الغير لأجل العمل به عند الحاجة و إن لم يتعقبهما العمل لعدم تحقق الحاجة إليه بمعنى جعل قول الغير مستندا له و معتمدا عليه و جعل مؤداه حكما في حقه و التوطن على العمل به وقت الحاجة و إن لم يتعقبهما العمل بأن يرجح ظاهر لفظ الأخذ و القبول الواقعان بعد تعريفهم التقليد بالعمل كما تقدم على عكس

ما تقدم و يكون المراد بالعمل هو الأخذ أو أن ذلك اختلاف منهم في معنى التقليد فبعض يفسره بالعمل و بعضهم يفسره بالأخذ و القبول. (و بالجملة) التقليد في عرف المتشرعة دائر بين معنيين:

(أحدهما) هو جعل قول الغير مستندا له و جعله طريقا إلى نفسه بالنسبة إلى الوظائف الدينية و جعل مؤدى فتوى الغير حكم اللّه الفعلي في حقه الذي هو من أفعال القلوب، و هذا يتحقق بأخذ الرسالة بهذا القصد أو التعلم للفتوى بهذا القصد أو بعقد القلب على الرجوع في أمور دينه لهذا المجتهد و ان لم يعرف فتاواه على سبيل التفصيل و لم يعمل بها فعلا.

و (ثانيهما): العمل على طبق قول الغير الذي هو من أفعال الجوارح و هذا لا يتحقق بأخذ الرسالة و لا التعلم للفتوى و لا بعقد القلب المذكور إذا لم يعرف الفتوى و يعمل بها أو أن معنى التقليد مختلف فيه بينهم، و قد ذهب جماعة من المتأخرين إلى الأول، و في تعليقة المرحوم عمنا: التقليد كالبيعة و العهد يتحقق بإنشاء الالتزام و حجتهم في ذلك أمور:

[الأدلة على ان التقليد هو الأخذ لا العمل]

(الأول) انه الأقرب إلى المعنى اللغوي كما تقدم من أنه يكون بالانقياد و الاعتماد على قول الغير وقت الحاجة قد جعل قلادة عمله في رقبة ذلك الغير و قلده إياه بخلاف مجرد العمل على طبق قول الغير فإنه ليس فيه جعل كذلك. و قول أستاذنا المشكيني (ره) و المناسب لهذا المعنى كون التقليد في قولهم قلد المجتهد هو أخذ قوله فكأنه جعل قوله و فتواه قلادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 7

في عنقه فيكون المجتهد مفعولا أولا بمنزلة القلادة لكون فتواه كذلك فاسد لأن هذا المعنى يناسب تقلد

لا قلد. و يمكن الجواب عن هذا الوجه الأول بأن الأقربية لا نسلم انها موجبة لكون الاصطلاح كذلك.

(الثاني) ان الأغلب عند المتشرعة استعماله في هذا المعنى فإنهم يقولون وقع هذا العمل عن تقليد لا عن اجتهاد. فإنه ظاهر في ان التقليد قبل العمل مضافا إلى أن كثيرا ما يطلقون على من التزم بذلك انه مقلد و إن كان فاسقا لا يعمل بقول مقلده بل بعضهم ادعى تبادر هذا المعنى من لفظ التقليد اصطلاحا و عدم صحة السلب عنه اصطلاحا و لذا في محكي مجمع البحرين علل تسمية قبول قول الغير بالتقليد بأن المقلد يجعل ما يعتقده من قول الغير قلادة في عنقه (الثالث) إن التقليد لو كان هو العمل امتنع وقوع العمل على وجه العبادة إذا كان مما اختلف في عباديته كصلاة الجمعة في زمان الغيبة و صلاة القصر في أربعة فراسخ فان وقوع العمل على صفة العبادية لا يتحقق إلا بالتقليد، ضرورة انه لو لم تقم الحجة على عباديته لم يكن يعلم انه عبادة حتى يوقعه العبد على صفة العبادية. و بعبارة أخرى: إن العمل العبادي موقوف على العلم بمشروعيته للعامي و العلم بمشروعيته له موقوف على تقليده للغير إذ مع عدم تقليده له لا يعلم بمشروعيته له فلو كان التقليد موقوفا على العمل لزم الدور و هكذا يمتنع تحقق العمل على وجه الوجوب أو الندب فيما اختلف فيهما كغسل الجمعة بعين التقريب المذكور، بل يقال ان العمل الذي يراد إتيانه لإحراز الواقع موقوف على التقليد و التقليد موقوف عليه لفرض انه نفس العمل. (و دعوى) انه متوقف على الأخذ بالفتوى و الاعتماد عليها و هو ليس بتقليد فلا دور (فاسدة) فإنه إذا فرض

توقف العمل على الأخذ بالفتوى و الانقياد لها و هو ليس بتقليد لزم توقف العمل على غير الاجتهاد و التقليد و الاحتياط و هذا لا يلتزم به أحد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 8

فلا بد من الالتزام بأن الأخذ بالفتوى هو التقليد. (و دعوى) ان المعتبر في العمل هو وقوعه على وجه التقليد أي صدوره مطابقا لرأي الغير عند المكلف فالعمل لا يتوقف على سبق التقليد و لا يلزم من عدم سبقه كون العمل بلا تقليد فصحة العمل لا تتوقف على أزيد من كونه صادرا ممن يرى مطابقته لفتوى الغير كشرط الاستقبال للصلاة فلا دور و المكلف يعلم بأن العمل الموافق لفتوى الغير هو المكلف به فيقصد القربة بالعمل الكذائي. نعم لا بد من العمل بقول الغير و فتواه من العلم بأن العمل الكذائي مطابق له. و لا ريب ان مجرد العلم لا يكون تقليدا. و الحاصل ان الواجب على المكلف هو إيجاد العمل على طبق فتوى الغير و هو يتوقف على العلم به فالمقدمة ليست بتقليد فلا بد أن يكون هو العمل (و بعبارة أخرى) منع توقف العمل على سبق صفة العبادية عنده بل الإتيان به على صفة العبادية كاف فمشروعية العمل و عباديته أو وجوبه موقوفة على وقوعه على وجه التقليد لا على تقدم التقليد عليه (فاسدة) لأنه إن كان مراد الخصم ان العمل يكون صحيحا بمجرد المطابقة للفتوى و إن لم يستند إليها فمسلم لكن في هذه الصورة لا يوجد تقليد أصلا، فإن الجاهل إذا وافق عمله فتوى المجتهد من دون استناد إليها لا يقال له مقلد و إن كان غرضه ان العمل بعد استناده لقول الغير يكون تقليدا فصحته

موقوفة على الاستناد لقول الغير لا على التقليد فهو فاسد لما عرفته في جواب الدعوى الأولى من لزوم توقف صحة العمل على غير الاجتهاد و التقليد و هو لا يلتزم به أحد، و أما دعواه ان مجرد العلم لا يكون تقليدا ففيها انا لا نقول ان العلم هو تقليد و إنما الاستناد و الاعتماد على قول الغير هو التقليد.

(الرابع) انه لو كان عندهم التقليد هو مجرد العمل لكان العامي في عرف المتشرعة مقلدا للمجتهد إذ أتى بالعمل مطابقا لفتوى ذلك المجتهد بحسب الصدفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 9

و الاتفاق مع إنه قطعا لا يسمى عندهم بمقلد له (و جوابه) ان هذا يخرج عن التعريف لمكان الباء فإنها ظاهرة في الاستعانة و ان العمل كان بواسطة قول الغير فهي يستفاد منها لابدية استناد العمل لقول الغير في تحقق مفهوم التقليد.

(الخامس) ان التقليد مقابل الاجتهاد، فكما ان الاجتهاد مقدم على العمل فكذلك التقليد (و بعبارة أخرى) ان التقليد خلاف الاجتهاد فاذا كان الاجتهاد هو أخذ الأحكام عن الدليل كان التقليد هو أخذها من الغير بلا دليل و إذا كان عمل المجتهد لا بد في صحته من سبق أخذه الحكم من الدليل كان عمل المقلد أيضا لا بد من سبق أخذه للحكم من غيره بلا دليل فالاجتهاد و التقليد أمران سابقان على العمل لا محالة. و أجيب انه لا تقابل بينهما و إنما التقابل بين العمل بهما نظير الاحتياط فان العمل بنفسه احتياط مع انه يقابل بالاجتهاد و التقليد باعتبار ان عمله مقابل لهما.

(السادس) ان العمل متفرع على الاجتهاد و التقليد و لا يصدر ممن يخاف اللّه إذا لم يحتاط إلا عنهما و كما

ان الاجتهاد مقدمة للعمل فكذلك التقليد، لأن التقليد يقوم مقامه و هو بديل عن الاجتهاد. (و جوابه) ان للخصم أن يناقش في ذلك و لا يسلمه.

(السابع) ان التقليد الذي هو محط البحث هو تقليد العوام للمجتهد في أمور دينه و أعماله الدينية، و من رجع إلى العوام وجدهم انهم قبل العمل يقولون قلدنا فلانا أو قلدناك أيها المجتهد ثمَّ يعملون و هذا ما يدل على ان التقليد الذي هو حجة عند العوام بفطرتهم مرتبته سابقة على العمل و متقدمة عليه و لعل كل إنسان قد قلد يجد ذلك من نفسه.

(الثامن) ان التقليد لو كان هو العمل لزم أن لا يتحقق العدول من التقليد و لا يتصور البقاء على تقليد الميت أصلا لأن لكل حادثة جزئية حكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 10

جزئي خاص فصلاة الظهر في يوم الجمعة لها حكم غير صلاة الظهر في يوم السبت فيكون كل عمل موجبا للتقليد بالنسبة لحكمه الخاص و لا يكون مقلدا بالنسبة لحكمه في الواقعة الثانية فلا يتصور العدول و لا يتصور البقاء على تقليد الميت لتجدد الحوادث. (و جوابه) ان مرادهم بالعمل هو مجرد الإتيان بفرد واحد مضافا إلى أن الحكم هو الأمر الكلي الذي أفتى به المجتهد و الأحكام الشخصية أحكام عقلية منتزعة منه فالعمل به إنما يكون بإتيان فرد منه.

(التاسع) ما حكي عن صاحب الفصول ان العمل مسبوق بالعلم فلا يكون سابقا عليه. (و فيه) ان العلم سابق على الأخذ أيضا لأنه ما لم يعلم لم يأخذ (و ذهب إلى الثاني و هو ان التقليد نفس العمل) المتقدمون لأن كلامهم بين مصرح بأن التقليد هو العمل و بين ما يمكن إرجاعه إلى

ذلك و لم ينبه أحد على وقوع الخلاف فيه بل نسب صاحب القوانين تفسيره بالعمل إلى علماء الأصول و يمكن استفادة ذلك من استدلالهم على حرمة التقليد بما دل على المنع من العمل بغير العلم و استدلوا على ذلك بأمور:

[الأدلة على ان التقليد هو العمل لا الأخذ]
اشارة

(أحدها) أن الأخذ بقول الغير لا يصح أن يكون هو التقليد لأنه ان كان المراد به مجرد العلم بقول الغير و العلم بأن فتواه كذا فهو ليس بتقليد لان المجتهد يعلم بفتاوى غيره من المجتهدين مع انه ليس بتقليد و ان كان المراد به التعبد و الالتزام بمقتضى قول الغير بحيث يكون هنا واجب آخر متعلق بالجنان من قبيل الالتزامات و التدينات فلزومه على المكلف ممنوع و توقف صحة العمل عليه غير مسلم و إذا بطل كون معناه الأخذ تعين كون معناه العمل لعدم وجود معنى ثالث عندهم (و لا يخفى ما فيه) فإنك قد عرفت ان المراد بالأخذ هو جعل قول الغير مستندا له و معتمدا عليه بمعنى جعل مؤداه حكم اللّه في حقه نظير جعل المجتهد أحد الخبرين المتعارضين مستندا له و طريقا للواقع بل نظير جعله الأمارة المعينة طريقا له بل نظير جعل المجتهد رأيه في المسألة طريقا له عند الحاجة للعمل به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 11

فيسجله ليعمل به عند ما يحتاج الى ذلك بخلاف ما إذا سجله لا للعمل به كما في بعض الكتب الاستدلالية فإنه قد يبدي رأيه لا للعمل به فليس مجرد العلم بقول الغير تقليدا و لا التدين به تقليدا و انما التقليد هو جعل قول الغير مستندا له و مرجعا له نظير الاجتهاد في أخذ الرأي من الأدلة للعمل به و الاعتماد

عليه وقت الحاجة لا مجرد إبداء الرأي. و سيجي ء إنشاء اللّه بيان وجوب ذلك عند الجواب عن الدليل الرابع.

(ثانيها) أن تفسير التقليد بالعمل يطابق معناه اللغوي إذ العامي يقلد المجتهد عمله من حيث المخالفة و الموافقة. (و فيه) أن التقليد استعماله في تقليد الغير للمجتهد استعمال مجازي باعتبار ان ارتباط عمل العامي بالمجتهد يشبه ارتباط القلادة بالعنق فالتقليد عبارة عن هذا الارتباط و ما يتحقق به هذا الارتباط: و الأخذ المذكور هو نوع من الارتباط بين العمل و المجتهد.

(ثالثها) ان الاستعمال للفظ التقليد عند الفقهاء في الأغلب انما هو في العمل و الشي ء يلحق بالأعم الأغلب نحو قولهم يحرم على المجتهد تقليد غيره و يحرم على العامي تقليد مثله فان متعلق التحريم لا يكون إلا العمل إذ مجرد الأخذ لا حرمة فيه و هكذا الآيات و الروايات الناهية عن التقليد انما هي ناظرة إلى العمل بقول الغير لا مجرد الاعتماد عليه و الاستناد له. (و فيه) انه لا اشكال ليس المراد بالحرمة الحرمة الشرعية إذ العمل لو كان موافقا للواقع كان صحيحا و لا عقاب عليه و انما المراد بالحرمة عدم الصحة في الاعتماد على رأيه و الأقرب للحرمة بهذا المعنى هو إرادة الأخذ من التقليد في تلك الاستعمالات و ان الأخذ بقول الغير غير صحيح لأنه لا يجوز الاعتماد من المجتهد على قول غيره.

(رابعها) ما ذكره المرحوم آغا ضياء في مقالاته و تعرض له صاحب تقريراته من أن التقليد واجب و الأخذ بقول الغير لا يصلح ان يكون متعلقا للوجوب لان مفاد أدلة حجية التقليد هو وجوب تصديق رأي المجتهد عين مفاد دليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 12

حجية الخبر و

هو وجوب تصديق الرواية الذي يرجع بالأخرة إلى وجوب المعاملة مع الخبر و الرأي معاملة الواقع و العمل به تعبدا و من المعلوم انه لا يجب على العامل بالرواية الالتزام بشي ء و التدين بشي ء مقدمة للعمل و لا يجب في حقه الا العمل بل صريح فتاواهم ان المقلد لو عمل و اتفق عمله على طبق فتوى المجتهد المنحصر حجية فتواه في حقه اجزئه (و بعبارة أخرى) ان الالتزام و التدين بقول الغير مقدمة للعمل لا تقتضيه أدلة التقليد و لا يكون له دخل في حجية الفتوى و لا في صحة العمل لأن الأدلة للتقليد انما تدل على حجية قول الغير من دون تقييد له بالتدين و الالتزام فالتدين بقول الغير أمر مستقل في نفسه يحتاج وجوبه الى قيام دليل عليه بالخصوص فهو أجنبي عما دل على وجوب التقليد من السيرة و العقل الفطري الارتكازي و سائر الأدلة الشرعية هذا كله على فرض انحصار المجتهد في معين الذي تكون فتواه حجة في حقه. (و اما) مع فرض عدم انحصار المجتهد و اختلاف فتاواهم مع تساويهم في الفضيلة فلا محيص من الالتزام بفتوى أحدهم لعدم إمكان حجية الجميع في حقه لتنافي فتاواهم و تكاذبها و لا احدى الفتاوى لا على التعيين لابهامها و عدم استفادة الحكم منها و لا احدى الفتاوى على التعيين للزوم الترجيح بلا مرجح و لا تساقطها رأسا عن الحجية و الرجوع الى غير الفتوى لكونه خلاف الإجماع فلا محيص من ان يكون حجية خصوص أحدهما مشروطة بأخذه و الالتزام بحجيته و طريقيته (و الحاصل) انه يتعين عليه التخير في الأخذ بإحدى الفتاوى طريقا للواقع نظير التخير في الخبرين المتعارضين و في مثله يتعين

الحجة بما يختاره فيجب عليه عقلا الاختيار بمعنى الالتزام بالعمل على طبق احدى الفتويين أو الفتاوى معينا و ليس الأخذ بمقدمة للعمل و انما هو مقدمة لتحصيل الحجة على امتثال الاحكام بمناط حكم العقل في الشبهة قبل الفحص بوجوب تحصيل الحجة على الجاهل المتمكن من تحصيلها لا بمناط وجوب رجوع الجاهل للعالم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 13

و حجية فتواه لأن حجية كل من الفتاوى مشروطة بالأخذ بها بمعنى الالتزام بحجيتها إذ قبل الأخذ بأحدها لا تكون واحدة منها حجة في حقه. و لو سلمنا وجوب الأخذ و الالتزام مطلقا و انه مقدمة للعمل ينتزع منه عنوان التقليد إلا ان وجوبه حينئذ لا يكون إلا عقليا بمناط تحصيل الحجة على امتثال الأحكام الشرعية لا شرعيا مولويا بل لو ورد دليل شرعي على وجوبه يكون إرشادا لحكم العقل و انما الوجوب الشرعي متعلق بالفتوى في ظرف اختيارها كما حققنا ذلك في الأمر بالتخير في الخبرين المتعارضين و حينئذ فلا مجال للتشبث على وجوب التقليد بالمعنى المذكور بمثل السيرة و سائر الأدلة الشرعية و لا بالعقل الفطري الارتكازي الحاكم بوجوب رجوع الجاهل الى العالم لأنها ناظرة إلى إثبات حجية فتوى المجتهد نظير أدلة حجية خبر الواحد فإنها ترجع الى وجوب العمل على طبق فتوى المجتهد لا الى وجوب تحصيل الحجة على امتثال الاحكام لان البرهان على وجوبه هو حكم العقل المستقل بوجوب تحصيل الحجة على المتمكن منها مقدمة لامتثال الاحكام. (و الجواب) عن ذلك ان في مقام التقليد عندنا مرحلتين:

(الاولى) حجية قول الغير و هي لا تقتضي إلا وجوب العمل على طبق قوله سواء عند العمل كان ملتزما بقول الغير أم لا آخذا به

أم لا فان مقتضى الحجية ليس إلا أن يكون مؤداها هو الواقع، أما وجوب التدين به و الالتزام بأنه هو الواقع المسماة بالموافقة الالتزامية فليست تدل عليها أدلة حجية قول الغير و لا أدلة حجية كل شي ء حتى الخبر الواحد و إنما تدل على وجوب كون العمل على طبقها و ان صحته بمطابقتها، سواء كان حجيتها بحكم العقل كالظن عند الانسداد أو بحكم الشرع كخبر الواحد و سواء قلنا بالسببية أو بالطريقية.

و (الثانية) وجوب تحصيل قول الغير الذي هو الحجة و الاستناد اليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 14

في مقام الامتثال و العمل فرارا من العقاب فهذا أمر يحكم به العقل من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، و من باب وجوب الإطاعة لأنه مقدمة لها، و لو ورد به أمر فهو إرشادي و هذا لازم على المجتهد و على المقلد في مقام عمله و ليست حجية الامارة موقوفة عليه فإنها حجة استند إليها أم لا اتخذت أم لم تتخذ فحجية فتوى الغير كحجية الخبر الواحد لا تتوقف على الاستناد إليها و الأخذ بها بدليل أن حجيتها مقدمة على الأخذ بها و الاستناد إليها إذ لا يؤخذ إلا بالحجة و لا يستند إلا إليها فهي موضوع لذلك، و إنما الاستناد و الأخذ واجب عقلي آخر لأجل الامتثال و العمل الخارجي، و هكذا وجوب تحصيل الحجة أمر عقلي لتوقف الاستناد للحجة في العمل عليه من دون توقف الحجية عليه بدليل ان الذي يحصّل و يعيّن هو الحجة فالحجة موضوع للتحصيل

فظهر أن المكلف قبل الامتثال و العمل لا بد له من أمور ثلاثة:

(الأول) حجية الامارة كالخبر أو فتوى الغير في حد ذاته و هي لا تقتضي إلا وجوب العمل على طبقها من دون دلالة لها

على وجوب الالتزام بأن مؤداها هو الواقع و لا وجوب التدين المسمى بالموافقة الالتزامية، و هذا لا يتوقف على التحصيل و التعيين للأمارة و لا الاستناد إليها في مقام العمل و الامتثال.

(الثاني) تحصيل الحجة و تعيينها و هو واجب عقلي لأجل وجوب امتثال التكليف و إطاعته لأن اطاعة التكليف لا يحرزها العبد إلا بتحصيل الحجة عليه، و الإحراز للاطاعة واجب عقلي من باب دفع الضرر المحتمل.

(الثالث) الاستناد إلى الحجة التي حصلها و عينها و هو واجب عقلي من باب وجوب الطاعة و الامتثال إذ لو حصلها و لكنه لم يستند إليها عند العمل لم يحرز إطاعة التكليف و امتثاله و الإحراز للاطاعة واجب من باب دفع الضرر المحتمل. إذا عرفت ذلك فالظاهر ان الخصم لما رأى ان نفس فتوى الغير ليست

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 15

بتقليد قطعا و تحصيلها ليست بتقليد قطعا لأن المجتهد لو حصل فتوى مجتهد آخر لم يكن مقلدا له فيتعين الاستناد لقول الغير و الأخذ به و هذا أيضا لا يكون تقليدا عند المتشرعة لأن المتشرعة بين منكر لجواز التقليد و بين من يقول انه واجب شرعي و بين من يقول انه واجب عقلا و بين من يقول انه واجب بحسب الفطرة فلو كان التقليد هو الأخذ و الاستناد لقول الغير لما صح هذا النزاع لأن الأخذ كما عرفت واجب عقلي لا مجال للنزاع من المتشرعة فيه فيتعين أن يكون معنى التقليد العمل بقول الغير فإنه يتصور فيه النزاع المذكور عند المتشرعة. و لكن غير خفي فساد ذلك لأنك قد عرفت ان مرادهم بالأخذ هو الاستناد و الاعتماد الذي هو الأمر الثالث من الأمور المتقدمة لا ان

مرادهم به الالتزام و التدين و هو كما عرفت يحكم به العقل، و توهم ان هذا لو كان معنى التقليد لما صح النزاع في انه واجب عقلا أو شرعا لوضوح كون وجوبه عقلي فاسد، لأن النزاع في أن التقليد واجب شرعا أو عقلا أو فطرة باعتبار متعلقه و هو قول الغير فمن يقول بأن قول الغير حجة عقلا لانسداد باب العلم و العلمي قال ان التقليد وجوبه عقلي و من يقول بأنه حجة شرعا قال ان وجوبه شرعي و من يقول فطرة و ارتكازا قال وجوبه ارتكازي نظير ما حرره الأصوليون من أن العمل بخبر الواحد عقلي من باب الانسداد أو شرعي من باب النقل فان العمل هو الأخذ و هو واجب عقلي و إنما وصف بالشرعي عند بعضهم و العقلي عند آخرين بالنظر لمتعلقه و هو الخبر، و هكذا قولهم العمل بالاستصحاب عقلي أو شرعي نظرهم إلى ذلك.

(خامس الأدلة) على أن التقليد هو العمل

ما ذكره المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ره) من أن ما يقتضيه الأدلة للتقليد من السيرة و الأدلة النقلية و العقلية هو العمل بقول الغير لا عقد القلب عليه و لا الانقياد اليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 16

و الالتزام به قلبا و لا أخذه بوجوده الكتبي أو بوجوده العلمي فإن الظاهر من السيرة هو العمل بقول العارف و هو الذي يقتضيه العقل، و ان اللازم بحكم العقل لمن لا يتمكن من الحجة هو الاستناد عملا إلى من له الحجة لا الانقياد قلبا و الأخذ كتبا أو علما، و آية النفر على فرض دلالتها على وجوب التقليد لا تدل إلا على العمل على طبق ما أنذر به المنذر فإنه المراد من التحذير القابل

لتعلق الوجوب به و هو الذي يقتضيه الخوف عادة، و آية السؤال إن كانت مسوقة لوجوب القبول بعد الجواب، فالمراد به القبول عملا لا قلبا و إن كانت مسوقة لتحصيل العلم فهي أجنبية عن التقليد التعبدي (و لا يخفى ما فيه) فان المراد بالأخذ الذي فسر التقليد به ليس هو عقد القلب و إنما هو الاستناد إلى الحجة قبل العمل من باب وجوب الطاعة كما تقدم في جواب الدليل الأول و الدليل الرابع، و الأخذ بالرسالة أو تعلم فتوى الغير إنما يكون تقليدا إذا كان بداعي الأخذ و الاستناد فإنه يصير تقليدا باعتبار تحقق الأخذ و الاستناد بهما كما تقدم. و أما ما ذكره من الأدلة فهي تقتضي حجية قول الغير و أما لزوم الاستناد اليه عند العمل فهو يقتضيه العقل كما اعترف به. و من هذا ظهر لك فساد ما ذكره بعض شارحي العروة من أن مقتضى الأدلة جواز العمل بالفتوى بلا توسيط الالتزام فلا يكون دخيلا في حصول الأمن من الضرر، و وجه ظهور فساده ما عرفته من أن المراد بالأخذ هو الاستناد لا الالتزام القلبي، و لا ريب ان الاستناد في العمل لقول المجتهد له تمام الدخل في الأمن من الضرر لأن من يعمل بلا اعتماد على شي ء لا يأمن على نفسه في أن يقع في خلاف الواقع.

(إن قلت): ان الاعتماد على قول الغير في أعماله المستقبلة ليس بلازم و لا واجب عليه. (قلت): عدم وجوبه لا ينافي كونه تقليدا للمجتهد في الأعمال المستقبلة و من قال بوجوبه إنما يقول به من جهة حرمة العدول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 17

ثمرة النزاع في أن التقليد هو الأخذ أو العمل

و قد ذكروا لثمرة النزاع في أن التقليد

هو العمل أو الأخذ، جواز البقاء على تقليد الميت في الفتاوى التي التزم بها في حياته و لم يعمل بها.

فان من قال بجواز البقاء على تقليد الميت ان ذهب إلى أن التقليد هو الأخذ جواز البقاء على تقليده في تلك الفتاوى التي لم يعمل بها، و إن ذهب إلى أنه هو العمل لم يجوّز ذلك لعدم صدور التقليد منه، و هكذا كل مسألة أخذ في موضوعها التقليد نظير مسألة حرمة العدول عن تقليد الحي فإن من ذهب إلى أن التقليد هو الأخذ لم يجوّز العدول عن الفتاوى التي أخذ بها و من ذهب إلى أنه هو العمل جوّز ذلك لعدم تحقق التقليد بالنسبة إليها (و قد ناقش) في هذه الثمرة بعض أساتذة العصر بأنه لا فائدة في البحث عن معنى التقليد و انه هو العمل أو الأخذ لأنه لم يؤخذ عنوان التقليد في أدلة تلك المسائل و موضوع المسألة سعة و ضيقا تابع لدليل المسألة. (نعم) في رواية ضعيفة عن تفسير العسكري قال (ع): فللعوام أن يقلدوه. و لا يخفى ما في هذه المناقشة فإن بعض أدلتها الإجماع و هو مأخوذ فيه عنوان التقليد بل في تلك المسائل بعضهم لم يعتمد إلا على الإجماع، و أما ما ذكره من ضعف الرواية فهو منجبر بشهرتها بل و العمل بها.

[المراد بالباء الداخلة على (القول) في تعريف التقليد]

(الثاني) من اجزاء التعريف للتقليد هو الباء الداخلة على لفظ القول و الظاهر انها نظير الباء الداخلة على القلم في قولهم: كتبت بالقلم. فهو للاستعانة، و عليه فلا يشمل التعريف العمل المطابق من دون اعتماد عليه.

[المراد (بالقول) في تعريف التقليد]

(الثالث) من أجزاء التعريف هو لفظ (القول) و المراد به الرأي فلا يشمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 18

العمل بالرواية فإنه لا يسمى تقليدا و يشمل الرأي في المسألة الفقهية أو الأصولية أو الاعتقادية أو الفرعية، و لا ينافي هذا التعميم كون بعض أقسامه تقليدا فاسدا فان هذا التعريف ليس للتقليد الصحيح.

[المراد (بالغير) في تعريف التقليد]

(الرابع) من أجزاء التعريف (الغير) و المراد به الأعم من واحد معين كأن يأخذ بفتوى العلامة (ره) أو غير معين كفتوى واحد من علماء العصر لا يعينه بخصوصه أو فتوى جماعة كأن يأخذ بجواز صلاة الجمعة باعتبار انه فتوى لعلماء عديدين معينين أو غير معينين و سيجي ء إن شاء اللّه في شروط المفتي وجوب الاستناد إلى الفتوى و عدم لزوم تعيين المفتي

[ما في تعريف السيد في العروة للتقليد]

و به يظهر ما في تعريف السيد (ره) في العروة للتقليد حيث اعتبر فيه تعيين المجتهد فعرفه بالالتزام بالعمل بقول مجتهد معين، إلا اللهم أن يدعى السيرة و الإجماع على لزوم التعيين للمجتهد في التقليد و سيجي ء إن شاء اللّه تحقيق ذلك في شروط المفتي.

[المراد (بغير دليل) في تعريف التقليد]

(الخامس) من أجزاء التعريف (من غير دليل) و الظاهر تعلقها بالقول لا بالعمل لأن العمل بقول الغير من غير حجة يختص بعمل العامي بقول مثله و المجتهد بقول مثله فإنه يكون من غير دليل على العمل و هذا فرد نادر، و اما عمل العامي بقول المجتهد فهو بدليل و هو حكم العقل أو السيرة أو الآيات أو الأخبار، و اما إذا علقناه بالقول فالتعريف يشمل الجميع لوضوح دخول الفردين الأولين فيه لكون العمل من غير دليل على قول الغير، و اما الفرد الثالث و هو عمل العامي بقول المجتهد فان عمله به و إن كان يستند إلى تلك الأدلة لكن قول المجتهد لم يكن دليل عليه عند العامي. و الحاصل فرق بين العمل بالقول و نفس القول.

و الدليل في التقليد الصحيح على الأول دون الثاني.

[ما يورد على تعريف التقليد]

و قد أورد على التعريف باعتبار أخذ (من غير دليل) فيه (أولا) بالمحكي عن القوانين بأن المراد من لفظ التقليد إن كان ما ليس عليه دليل فكيف يجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 19

في الفروع و إن كان مما ثبت عليه دليل فكيف لا يجوز في الأصول. و أجاب عنه (ره) بأن التقليد في الفروع يحمل على اصطلاح جديد و هو الأخذ ممن قام الدليل على جواز الأخذ منه، و التقليد في الأصول يحمل على ما عرفوه فإن أخذ قول الغير في الأصول أخذ من غير دليل، (و لا يخفى ما فيه) فان التقليد فيهما بمعنى واحد و من غير دليل متعلق بالقول و لكن الأخذ في الأصول لا دليل عليه و الأخذ في الفروع عليه الدليل. نعم القول في كل منهما لا دليل عليه.

و (ثانيا) انه

على تقدير رجوع (من غير دليل) إلى العمل فقد عرفت يلزم أن يخرج عن التعريف رجوع العامي إلى المجتهد، و على تقدير رجوعه إلى (قول الغير) فيلزم أن يدخل فيه الرجوع إلى المعصومين (ع) فانا نرجع إليهم من غير دليل على صحة أقوالهم، و هكذا الرجوع إلى الإجماع و الشهرة بناء على حجيتهما فإنه رجوع إلى الغير من غير دليل عليه، و هكذا الرجوع إلى الشهادة أو الشياع و حكم الحاكم و أخبار ذي اليد و المترجم و الإجماع المنقول و فتوى الواحد في السنن بناء على التسامح في أدلة السنن فإنه رجوع إلى الغير من غير دليل على قولهم. (و دعوى) بأن المراد من غير دليل على صحته و مطابقته للواقع و المعصومين عليهم السلام بواسطة العصمة يكون لنا دليل و هو العصمة على مطابقة قولهم للواقع بخلاف قول المجتهد فإنه لا دليل لنا على صحة قوله و مطابقة للواقع (مدفوعة) بأن هذا إنما يتم في المعصومين و اما في الشهرة و في الشهادة و حكم الحاكم و الشياع و المترجم و الإجماع المنقول بناء على حجيته و أخذ الفتوى من جهة أدلة التسامح في السنن فلا يتم لعدم الدليل على صحة قول الغير و مطابقته للواقع و إنما يجب العمل به تعبدا نظير ما نقوله في فتوى المجتهد (و دعوى) ان الدليل على رجوع العامي للمجتهد دليل واحد عام و هو ان هذا ما أفتى به المفتي و كل ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقي (لا تنفع مدعيها)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 20

لأن التعريف للتقليد قد أخذ فيه (الدليل) و هو يشمل الواحد أو المتعدد مضافا إلى

أن الشهرة و ما ذكر أيضا ترجع إلى دليل واحد عام فيقال هذا ما اشتهر بين أصحابنا و كل ما اشتهر بين أصحابنا حكم اللّه في حقي فهذا حكم اللّه في حقي.

(إن قلت): ان هذا يؤخذ من الروايات و باقي الأدلة (قلنا) الدليل المذكور أيضا يؤخذ من الأدلة العقلية و النقلية و غيرها (و دعوى) إنما يثبت قول المفتي على العامي و يصير في حقه حكما شرعيا بعد أخذه به فهو يأخذ ما لا دليل عليه حال الأخذ و إن قام الدليل عليه بعده بخلاف الأخذ بأخبار ذي اليد، و قول الشاهد و نحو ذلك فان ما دل على حجيتها دل على ثبوت مقتضاها في الظاهر أخذ به أو لم يأخذ. (مدفوعة) بأن الآيات و الأخبار التي استدلوا بها على التقليد لا تدل على ذلك إذ هي تثبت قول المفتي على العامي سواء أخذ به أم لا نظير إثباتها ذلك لخبر واحد بل الكثير منها استدل به لخبر واحد كآية السؤال و النفر فإنهم يستدلون بها على حجية الخبر و على حجية الفتوى،

[الاولى في تعريف التقليد]

و الأولى أن يقال في تعريف التقليد أنه الأخذ بقول الغير من غير دليل عليه يجوّز الفتوى بمضمونه.

(و قد أورد) على تعريف التقليد أيضا بأن هذا التعريف يشمل العمل بقول الغير في الأحكام النحوية و الصرفية، و غير ذلك، فكان عليهم أن يقيدوه بالأحكام الشرعية كما هو المحكي عن شرح المبادي لفخر الإسلام، و لكن يمكن الالتزام بأنه عند المتشرعة يسمى ذلك تقليدا و لذا يقال قلد في معرفة القبلة و الوقت عند الفقهاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 21

الأدلة على جواز التقليد
اشارة

الحق جواز التقليد كما ذهب اليه نوع علمائنا (ره) و المراد بالجواز صحته و كونه عذرا عند المخالفة لا الجواز بالمعنى الأعم كما تخيل بعض أساتذة العصر فإنه ليس الكلام في هذا المقام في الحكم التكليفي و إنما في الطريقية للواقع و المؤمّنية عن العذاب و قد خالف في ذلك بعض قدماء الأصحاب و فقهاء حلب كابن زهرة في الغنية و كابن حمزة و أبى صلاح و سلار و معتزلة بغداد و الأخباريين و قد تقدم منا نقل كلماتهم و توضيح آرائهم ص 256 ج 1 في مسألة وجوب الاجتهاد كفائيا، و الدليل على جواز التقليد أمور:

(أحدها) العلم القطعي اليقيني للعوام بجواز رجوع الجاهل بشي ء لمن يعلم

بذلك الشي ء و هذا العلم و القطع قد حصل لهم بفطرتهم و جبلتهم و مرتكز في قرار نفوسهم لا من مقدمات علمية و لا برهان عقلي بل خلقه اللّه لهم في نفوسهم نظير علمهم بأن الإحسان حسن و الظلم قبيح و لهذا ما اشتهر من رجوع العالم إلى الجاهل. و العلم القطعي حجة بنفسه لا يحتاج إلى إمضاء الشارع و لا شي ء آخر و يدل على ذلك انه لو لم يكن ارتكازي تقتضيه النفوس بصرف طباعها لما أمكن حصول العلم لهم بجواز التقليد إذ الفرض انهم عوام لا يقدرون على الاجتهاد و لا يعرفون شيئا من الأدلة و لا يحسنون استعمالها فالكتاب و السنة لا يعرفون شيئا منهما و لا يحسنون شرائط الاستنتاج منهما. و الدليل العقلي لا يعرفون طرق جمع مقدماته و لا العلم بها. و لا يمكن أن يقلدون في هذه المسألة و هي جواز التقليد للزوم التسلسل أو الدور لأنه يصير جواز التقليد في المسائل موقوفا على جواز التقليد في هذه المسألة، فاما أن تذهب

السلسلة فيلزم التسلسل أو يقال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 22

بأن جواز التقليد في هذه المسألة موقوف على جواز التقليد في المسائل و هو الدور نظير ما لو أثبت حجية الخبر بحجية الخبر فاذا ثبت ان مسألة جواز التقليد ليس للعامي دليل يفيده العلم و القطع بها مع انه وجدانا كثير من العوام عالمين بها لما نراهم يعملون بها في سائر قضاياهم و وقائعهم فلا بد أن يكون علمهم بها ارتكازي تقتضيه فطرتهم التي فطرهم اللّه عليها بصرف طباعهم، و (دعوى) انه ليس لنا قطع بأن علم العامي بجواز التقليد فطري لأن له ما يوجب قطعه بجواز التقليد و هو دليل الانسداد، و تقريبه أن يقال ان العامي يعلم إجمالا بوجود تكاليف عليه و لا يمكنه الاجتهاد فيها للعسر و الحرج المنفيين في الشريعة و لا الاحتياط فيها لعدم معرفته بموارده و للعسر و الحرج لو احتاط في جميع التكاليف فيحكم عقله السليم بلزوم الرجوع إلى قول العالم لكونه أقرب الطرق عنده إلى الواقع (فاسدة) فإن ذلك مضافا إلى عدم علم أغلب العوام البسطاء بهذه المقدمات إذ لا يعلم أغلب العوام البسطاء بأن الاجتهاد أو الاحتياط فيه عسر عليهم و لا يعلمون ان العسر منفي في الشريعة بحيث يوجب رفع التكليف و لا يعرفون الاجتهاد الصحيح من غيره، و لو سلمنا علمهم بتلك المقدمات فهي لا توجب علمهم بجواز التقليد و الرجوع إلى العالم و عدم الرجوع إلى ظنونهم المخالفة لقول العالم فإنها أقرب في نظر الظان إلى الواقع أو إلى طرق أخرى غير التقليد. و عليه فيجوز للمجتهد أن يفتي بجواز التقليد للعامي لوجود العلم القطعي للعامي بذلك و إن كان

لا يحتاج العامي إلى التقليد في هذه المسألة لقطعه بها و تكون فتواه من قبيل التنبيه على ما في نفسه من العلم بها و إلا فلا يجوز له تقليده فيها.

(الدليل الثاني لجواز التقليد) نقل الإجماع على جوازه

عن جماعة من العلماء منهم السيد المرتضى (ره) في الذريعة و الشيخ (ره) في العدة و المحقق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 23

في المعارج و العلامة في النهاية و ولده الفخر في الإيضاح و الشهيد في الذكرى و الآمدي في الاحكام و العضدي في شرح المختصر و غيرهم من الخاصة و العامة (و لا يخفى ما فيه) فقد عرفت مخالفة فقهاء حلب و الأخباريين و إيجابهم للاجتهاد و قد أجيب عن ذلك بأن خلافهم لا يضر لاستفاضة نقل الإجماع و لأن خلافهم مسبوق بالإجماع على الجواز و ملحوق به.

(الدليل الثالث) السيرة

، و قد تقرر بالسيرة الجارية بين المسلمين على الإفتاء و الاستفتاء من غير نكير من الصدر الأول، و قد تقرر بالسيرة على رجوع العالم إلى الجاهل في العرف و العقلاء و المتدينين في أمور معاشهم و معادهم و قد تقرر السيرة على الرجوع إلى أهل الخبرة و قد أمضاها الشارع، إذ لو كان قد ردع عنها لنقل ذلك إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. (و قد أورد) على السيرة أن الإفتاء في الصدر الأول إنما كان بنقل الرواية بألفاظها أو بمضمونها فهي من أدلة حجية الرواية لا حجية الفتوى. (و قد أجيب) عن ذلك بأنا لو سلمناه فنقول: ان نقل الرواية منهم في مقام الإفتاء بالواقع إنما كان باعمال الرأي و النظر في حكم المسألة و الاجتهاد في استفادته من ظاهر الرواية لا بصرف نقل الرواية عن الامام بما هي رواية فان صرف نقل الرواية لا يوجب عمل السامع و إنما هو يعمل بما هو رأيه قد أدّاه بلفظ الرواية (و قد يقال) بأن الشارع قد منع السيرة و لم يمضها بالآيات و

الاخبار المانعة من العمل بغير العلم و باستصحاب عدم حجية التقليد و حرمة العمل به. (قلنا) قد أجبنا عن ذلك بأنه لو تمَّ لسقط الاستدلال بالسيرة في جميع الموارد.

و التحقيق ان مثل هذه الأمور لا توجب عدم الإمضاء و المنع لعدم التفات العوام لها، فلو كان الشارع يريد منعها لنص على ذلك كما نص على القياس.

بل يمكن أن يقال ان هذه السيرة قبل ورود المنع من الشارع قد تمَّ حجيتها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 24

و كانت أخص من تلك الروايات و الآيات فتكون مخصصة لها، هذا مع دعوى انصرافها إلى الأمارات الغير الحجة عند العقلاء.

(الدليل الرابع) دليل الانسداد

بتقريب أن العامي يعلم إجمالا بالتكليف و بطلان الاجتهاد و الاحتياط في حقه للزوم العسر و الإخلال بالنظام، و الاستدلال على الخواص صعب فكيف على العوام فيتعين التقليد حيث لا طريق ثالث اليه.

(إن قلت) ان الاجتهاد الناقص بالنحو الذي ذكره فقهاء حلب أو الأخباريين كما تقدم لا عسر فيه عليه و لا حرج. (قلنا) ان النحو الذي ذكره فقهاء حلب محتاج إلى ملكة الاستنباط المفقودة في أغلب العوام البسطاء مع عدم مساعدة وقت العالم على تعليم عشر من ذلك مع انه ليس في نظر العامي ان هذا الاجتهاد أقرب للواقع من فتوى المجتهد و لا دليل له على حجيته.

(الدليل الخامس) إطلاقات أدلة حجية الخبر الواحد

لأن المفتي بفتواه ينقل مقتضيات الأصول و القواعد المقررة في الشريعة فيكون ذلك نظير نقل مضمون الرواية (و بعبارة أخرى) لنقل الرواية مراتب: أولها نقل الألفاظ المسموعة بنفسها ثمَّ نقلها بترجمتها و ذكر مرادفها في العربية أو غيرها ثمَّ نقل المتحصل منها من دون زيادة أو نقيصة المسمى عندهم بنقل المضمون ثمَّ نقل المتحصل منها و من غيرها بعد ضم بعضها إلى بعض و ترجيح النص على الظاهر. و منه نقل مقتضيات الأصول من التخيير و البراءة و الاحتياط و الاستصحاب بعد فقدان الحجة الفعلية فكأن المجتهد بفتواه يخبر بمقتضيات القوانين المجعولة في الشريعة.

(و دعوى) انصراف الأدلة عن الاخبار الحدسية و اخبار المجتهد عن ذلك حدسي فهو ليس بحجة (مدفوعة) بأنا إنما نسلمه بالنسبة الى غير الحدسيات القريبة من الحس أو المنتهية إلى العلم و لذا كانوا يقبلون الجرح و التعديل، و أخبار المجتهد بالوظيفة الشرعية أخبار علمي مستند إلى مبادي قطعية و مقتضى عموم حجية الخبر هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 25

شمولها للأخبار العلمية و قد أصر على ذلك أستاذنا الجليل المحقق الشيخ كاظم الشيرازي (ره) و لكنه لا يخفى ان الفتوى هو الاخبار عن حكم اللّه بحسب الاعتقاد المستند الى الخبر و غيره فلا تخلو عن إعمال الظنون الاجتهادية و بذلك تفارق النقل بالمعنى و لأجله منع الأخباريون عن الإفتاء دون النقل بالمعنى بل لم يحكي المنع عن الثاني عن أحد.

(الدليل السادس) [آية الذِّكْرِ و هي]

عموم قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* بناء على أن الذكر هو القرآن أو مطلق العلم. (و قد أورد) على الاستدلال بها انها إنما تدل على وجوب إظهار الواقع و ليست فيها دلالة على وجوب التعبد بقول أهل الذكر حتى لو لم يفد القطع بالواقع فيكون المراد بالآية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* حتى تعلموا (و يمكن الجواب) عنه بأن تقييد جواز العمل بقول أهل الذكر المستفاد من الآية بصورة حصول العلم بالواقع يدفعه الإطلاق فإن ظاهر الآية في مقام القبول مضافا الى الملازمة العرفية بين جواز السؤال و جواز القبول مضافا الى ان ظاهرها بقرينة إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* ان السؤال بنفسه موجب للعلم من دون حاجة الى ضم شي ء آخر و هو إنما يكون كذلك إذا كان مجرد الجواب حجة و لو لم يحصل العلم منه (و قد أورد) على الاستدلال بها أيضا ان الآية بحسب سوقها يكون المراد فيها (بأهل الذكر) أهل الكتاب و بحسب بعض التفاسير الواردة فيها الأئمة (ع) و في بعضها علماء اليهود و على أي حال فهي أجنبية عن حجية الفتوى و الرواية. (و جوابه) ان مقتضى الجمع بين ذلك هو حملها على بيان المصاديق لأهل الذكر فالمراد بها مطلق أهل الذكر

(و قد أورد) على الاستدلال بها أيضا بأنها في مقام السؤال عن بشرية الأنبياء لأن الآية كما في سورتي النحل و الأنبياء وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 26

لٰا تَعْلَمُونَ. و يمكن الجواب عنه بأن تعليق السؤال على خصوص عدم العلم يدل على ان الحكم لا يختص بخصوص السؤال عن البشرية على أن نزول الآية في مورد خاص لا يوجب اختصاصها بذلك المورد لأن التعبير فيها كان بجهة العموم مضافا الى ما دلت عليه الروايات المتضافرة من أن القرآن لا يختص بمورد دون مورد و قد رواها صاحب تفسير البرهان في مقدمة كتابه المسماة بمرآة الأنوار، و في بعضها تعليل ذلك بأن القرآن لو نزل في قوم فماتوا لمات القرآن.

(الدليل السابع) [آية النفر و هي]

عموم قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ فإنه يشمل الإنذار بالفتوى و يقتضي ذلك الحذر من عدم قبولها (و قد أورد) على الاستدلال بها (أولا) ان المراد بها الإنذار بنحو الرواية لا الفتوى (و لا يخفي ما فيه) لإطلاق الإنذار مع ان ظاهر الإنذار بما تفقه فيه هو الإنذار بالفتوى لا في الرواية كيف و ظاهر الإنذار هو ان الشخص لا ينذر إلا بما هو معتقده و رأيه.

و (ثانيا) بمنع اقتضائها وجوب الحذر مطلقا و لو مع عدم حصول العلم للمنذرين و يكون المراد لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ عند حصول العلم لهم من المنذرين بواسطة تظافر أخبارهم بذلك، و يشهد لذلك انه لا شك في دلالة الآية على التفقه في أصول الدين و فروعه، و لذا استدل

الإمام بالآية الشريفة على وجوب نفر جماعة من كل بلد لمعرفة الإمام اللاحق إذا حدث على الامام السابق حدث كما في رواية يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه (ع) عند ما سأله عن الإمام إذا حدث عليه حدث كيف يصنع الناس؟ فقال (ع): أين قول اللّه عز و جل:

فَلَوْ لٰا نَفَرَ الآية. مع وضوح انه لا يجوز الحذر عقيب الإنذار في أصول الدين بدون حصول العلم إجماعا. و منها الإمامة فإنها لا تثبت إلا بالعلم فلو كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 27

المراد بها القبول بمجرد الإنذار و لو لم يفد العلم ما استشهد بها الامام (ع) و لا ريب ان اخبار جماعة بشي ء موجب للعلم عادة. (و الجواب عنه) إنا لا نسلم دلالتها على التفقه في أصول الدين لأن ظاهر التفقه التفقه في فروع الدين و الخبر المذكور لا نسلم حجيته. سلمنا ذلك لكن تقييد بعض أفراد المطلق بصورة خاصة بمقيد منفصل لا يستدعي تقييد سائر أفراد ذلك المطلق، ألا ترى انه لو قال أكرم العالم ثمَّ قال لا تكرم النحوي الفاسق فإنه لا يوجب تقييد العالم في أكرم كل عالم بغير الفاسق و إنما يقيد خصوص النحوي منه و فيما نحن فيه كذلك فإن الإجماع على وجوب تحصيل العلم في أصول الدين الذي ادعاه الخصم يكون مخصصا منفصلا لبعض أفراد الآية بصورة العلم و لا يوجب تخصيص جميع أفرادها بذلك.

(و أورد على الاستدلال بها ثالثا) ان المراد بالنفر الواجب المشتملة عليه الآية إنما هو النفر إلى الجهاد بقرينة قوله تعالى قبلها وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فيكون المراد بالتفقه هو التبصر بمشاهدة آيات اللّه و غلبة أوليائه على

أعدائه و سائر ما يشتمل عليه حرب المؤمنين مع الكفار مما يوجب قوة الايمان و تأكد اليقين و البصيرة لهم في الدين و المراد بالإنذار هو الاخبار بما شاهدوه لقومهم المتخلفين إذا رجعوا إليهم و المراد بحذرهم هو الحذر من مخالفة الدين فان ذلك هو الذي يحصل بالنفر للجهاد فالآية أجنبية عن التقليد (و الجواب) عنه ان سوق الآية في آيات الجهاد بل و حتى ظهور النفر فيها في النفر للجهاد لا ينافي ظهورها في وجوب التفقه في معرفة أحكام الدين فان اللّه تعالى يطلب منهم أن ينفروا للجهاد مع رسول اللّه (ص) ليصاحبوه حتى يتعلموا منه الأحكام الشرعية فتكون الآية على تقدير ظهور النفر فيها للجهاد قد اشتملت على بيان فائدة للجهاد و هو تعلم أحكام الدين في أثناء القيام بهذه المهمة، و يرشدك إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 28

إرادة التفقه في معرفة أحكام الدين من الآية رواية الفضل بن شاذان في علله عن الرضا (ع) قال: إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى اللّه و طلب الزيارة إلى أن قال: و نقل أخبار الأئمة إلى كل صقع و ناحية كما قال عز و جل فَلَوْ لٰا نَفَرَ الآية.

(و أورد على الاستدلال بها رابعا) ان الآية تخص الرواية و لا تشمل الفتوى و ذلك لأن الاجتهاد لم يكن متعارفا في ذلك الوقت و إنما المتعارف فيه هو الرجوع للحجة أو الرواية عنه و لذا تمسك بها الأصحاب على حجية الخبر، مضافا لما تقدم في جواب الإيراد الثالث من استدلال الامام (ع) بها على مطلوبية نقل الاخبار في كل صقع و ناحية (و فيه) ما لا يخفي فان عدم وجود فرد أو

نوع وقت نزول الآية لا يوجب انصرافها عنه و إلا لما دلت أغلب الآيات و الروايات على أحكام هذا العصر، مضافا إلى أن الفتوى كانت موجودة أ فهل ترى ان الناس كلهم كانوا يراجعون الحجة و هل كلهم عند ما يريدون معرفة الحكم الشرعي يقول لهم العارف به أروي أو روى فلان لي سلمنا ذلك و لكن تكون الفتوى منهم بلسان الرواية، و الاجتهاد كان عندهم سهل المؤنة.

(و أورد على الاستدلال بها خامسا) ان الآية إنما تدل على وجوب الحذر إذا كان المنذر عالما بما ينذر به لا ما إذا كان ظانا به، و المهم إثبات جواز التقليد في الفتاوى الظنية إذ الفتاوى العلمية تحصل من إجماع أو ضرورة فالعامى لا يحتاج إلى التقليد فيها لكونها معلومة لديه، و لو فرض إمكان ذلك فالقدر الثابت حينئذ جواز التقليد تعبدا في صورة حصول الفتوى عن علم (و لا يخفي ما فيه) ان الإنذار يحصل بالفتوى سواء كانت عن علم أو علمي فإن الدليل فإذا قام على الحكم صح الإنذار به كما هو المتعارف سلمنا لكن ليس كل فتوى عن علم يكون العامي عالما بها و لا يقلد فيها إذ لعلها عن خبر قد حف بالقرائن القطعية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 29

أو التواتر أو الإجماعات التي لم يلتفت إليها العامي و إذا ثبت جواز التقليد في ذلك فبضميمة الإجماع المركب يتم المطلوب.

(الدليل الثامن على جواز التقليد) آية الكتمان

و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ. و تقريب الاستدلال بها ان حرمة الكتمان يستلزم وجوب القبول عند الإظهار و إلا لكان

الإظهار لغوا، نظيره ما عن المسالك من الاستدلال على وجوب قبول قول النساء في العدة بقوله تعالى:

وَ لٰا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ، و لكن يمكن المناقشة في دلالتها بدعوى عدم الملازمة المذكورة و ان المطلوب إظهار الحق فقط حتى يراجع في شأنه إذا حصل الشك فيه، إلا اللهم أن يدعي الملازمة عند العرف. و نوقش فيها أيضا بأن موردها كتمان اليهود لعلامات النبي (ص) فلا دلالة فيها على التقليد في التعبديات (و فيه) ان تخصيص المورد لا يخصص الوارد. إلا اللهم أن يقال ان المورد لا يجوز فيه التقليد فلا يعقل خروجه إلا اللهم أن ينكر كون ذلك موردها.

(الدليل التاسع على ذلك) آية النبإ

و هي إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ الآية و يرشدك إلى دلالتها على جواز التقليد استدلال العلماء بها على عدالة المفتي فلو لا دلالتها على التقليد لم يكن وجه لذلك (و فيه ما لا يخفي) فإنك قد عرفت ان الفتوى غير النبإ فإنها اخبار عن الرأي و النبإ اخبار عن الواقع.

(الدليل العاشر) الأخبار الدالة على جواز التقليد

صريحا أو فحوى (منها) ما في الوسائل عن الاحتجاج للطبرسي و عن تفسير العسكري عن الصادق:

«فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه». و قد يورد عليه (أولا) بأن مورد هذا الكلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 30

هو أصول الدين و هو النظر في أمر رسول اللّه (ص) و معجزاته و لا شك ان التقليد لا يجوز في ذلك، فلا بد أن يكون مراد الامام (ع) بالتقليد غير هذا المعنى (و لا يخفي ما فيه) فان موردها مطلق الأحكام و كان ذكر أمر رسول اللّه (ص) و معجزاته من باب زيادة النقد على اليهود و انهم يتابعون فساق علمائهم حتى في هذا الأمر البين الواضح فراجع الاحتجاج و لو لا ان الرواية طويلة لذكرتها لك.

و (ثانيا) بما في الوسائل ما حاصله من انه لا يجوز الاعتماد عليها لضعف سندها بالإرسال إذ التفسير المذكور لم يثبت تواتره عن العسكري (ع) و لا نقله عنه على وجه يعتمد عليه و احتمل حملها على التقية و قال أيضا: انها معارضة بمتواتر قطعي السند (و فيه) ان ضعف سندها مجبور بمصير معظم الأصحاب إلى جواز التقليد و استنادهم إليها، و أما احتمال الحمل على التقية فمدفوع بالأصل و لو لا الأصل لارتفع الوثوق بأكثر الأخبار. و أما

دعوى كونها معارضة بالمتواتر فممنوعة، فان المقطوع به عدم التواتر في منع التقليد في الفروع، إلا أن يكون المراد به العمومات المانعة من التقليد أو العمل بغير العلم و هي لا تصلح للمعارضة لأن الرواية أخص منها.

و (منها) ما دلت على وجوب التعلم من أهل العلم مثل رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع): فتعلموا العلم من حملة العلم. و قد أورد على الاستدلال بها بأن قبول أخبار الغير من غير دليل على المخبر به يصدق عليه التقليد عرفا و هو ليس بعلم بخلاف المعرفة من الروايات فإنها يصدق عليها العلم فتكون هذه الطائفة من الأخبار مختصة بالروايات (و فيه) انا لا نسلم ان العلم لا يصدق على المعرفة الحاصلة من التقليد.

و (منها) ما تدل على إظهار الفتوى مثل قول أبي جعفر الباقر (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 31

لأبان بن تغلب: اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس فإني أحب أن أرى في شيعتي مثلك. فان جواز الإفتاء يلازم عرفا لجواز القبول.

و (منها) ما ورد من إرجاع الأئمة إلى مثل أبي بصير و زكريا بن آدم و زرارة و محمد ابن مسلم و ابان بن تغلب و يونس بن عبد الرحمن و أمثالهم من ثقات أصحابهم (ع) في معرفة المسائل الشرعية. و اما ما في الكافي عن أحمد بن إسحاق قال: سألت أبا الحسن (ع) و قلت له: من أعامل أو عمن آخذ و قول من أقبل؟ فقال (ع) له: العمري ثقة فيما أدى إليك عني، فهذه الرواية ظاهرة في حجة الرواية لا الفتوى.

و (منها) ما تدل على النهي عن الفتوى بغير علم و هي كثير روى الكثير منها في الكافي،

ففي الصحيح عن أبي جعفر (ع) قال: من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه، و مثل قوله (ع): أنهاك عن خصلتين- الى أن قال-: و أن تفتي الناس بما لا تعلم.

و قوله (ع): أن تفتي الناس برأيك. و قوله (ع): من أفتى بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة، الحديث. و قول أبي الحسن (ع) فيما كتبه لعلي بن سويد: لا تأخذن معالم دينك عن غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا اللّه و رسوله. و قوله (ع): من أفتى الناس و هو لا يعلم الناسخ من المنسوخ و المحكم من المتشابه فقد هلك.

و (منها) ما تدل على وجوب قبول حكم الحاكم مثل مقبولة ابن حنظلة ففيها (ينظر من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرض به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا و لم يقبل منه فإنما بحكم اللّه استخف) الحديث. و قد عرفت ان المراد انه إذا حكم بالحكم الذي ينسبه إلينا يجب القبول بقرينة انه لو كان المراد بالحكم المعلوم عند سامعه انه حكمهم (ع) لا يكون حينئذ حاجة الى قبوله من الغير و الرجوع اليه فيه مضافا الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 32

ان تتمة الحديث الدالة على اختلاف الخبر صريحة في جهل السامع بالحكم فيكون المعنى فاذا حكم بحكم ينسبه إلينا و دلالتها على قبول الفتوى اما أن يقال بأن المراد بالحكم أعم من أن يكون بعد الترافع أو قبله فيشمل الفتوى أو يقال ان قبول الحكم يستلزم

جواز التقليد بطريق أولى أو يقال ان جواز الترافع قد يكون باعتبار اشتباه الحكم و الرجوع فيه الى الحاكم تقليد أو يقال انه لا قائل بالفصل بين الفتوى و الحكم كما التزم بذلك بعضهم.

و (منها) ما دل على الرجوع للعلماء مثل ما رواه البرقي في المحاسن عن أبي جعفر (ع) قال: و بقول العلماء فاتبعوا. و ما رواه الصدوق في كتاب الإكمال و الغيبة و الاحتجاج عن صاحب الزمان (ع): و اما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه عليهم. و دعوى ان المراد بالوقائع المرافعات و لا عموم فيها لكون اللام للعهد فاسدة. لوجود (اما) دون أن يقول و الحوادث. و دخول اللام على الجمع يوجب الظهور في الاستغراق سلمنا لكن لا خصوصية للحوادث المذكورة سلمنا لكن التعليل بأنهم حجتي عليكم يقتضي العموم، و ما رواه الكشي و ذكره الشيخ في الاختبار و هو ان أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه- يعني أبا الحسن الثالث (ع)- أسأله عن أخذ معالم ديني و كتب أخوه أيضا فكتب (ع) إليهما: فهمت ما ذكرتما فاعتمدا في دينكما على كل مسن في حبنا و كل كثير القدم في أمرنا فإنهم كافوكما إن شاء اللّه. و ما رواه الصدوق (ره) في علل الشرائع في الصحيح عن محبوب عن يعقوب السراج قال لأبي عبد اللّه (ع): هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم؟ فقال: إذن لا يعبد اللّه يا أبا يوسف. و رواه الصفار أيضا في البصائر مع اختلاف يسير.

و (منها) ما روي عن احتجاج الطبرسي و عن تفسير العسكري عن

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 2، ص: 33

الرضا (ع): ان الرجل كل الرجل هو الذي جعل هواه تبعا لأمر اللّه و قواه مبذولة في رضاء اللّه يرى الذل مع الحق أقرب من العز في الباطل- الى أن قال:

فذلكم نعم الرجل فتمسكوا بسنته، الخبر.

و كيف كان فمن مجموع هذه الأخبار يحصل اليقين بصحة التقليد و جوازه فلا يصغي الى ما يقال كما قيل على الاستدلال بالسيرة من ان الإفتاء في الصدر الأول كان بالرواية لا بالرأي فهي حجة على قبول الرواية لما عرفت من أن الإفتاء بنقل الرواية للجاهل بالحكم إنما كان باعمال الرأي و الاجتهاد فهو إبداء للرأي بنقل الرواية نظير ما يستعمله بعض فقهاء العصر في مقام الإفتاء و إلا فصرف نقل الرواية لا يكون إفتاء لحكم المسألة و لا يصدق عليه عنوان الفقيه و العارف بالأحكام الذي أفيد في تلك الأخبار. (ثمَّ لا يخفي) ان الحق ان مادة الإفتاء بلسان الشرع غير متقومة بالرأي و النظر المخصوص بالمجتهد كما في قوله تعالى:

يَسْتَفْتُونَكَ (قُلِ اللّٰهُ يُفْتِيكُمْ) فِي الْكَلٰالَةِ بل لا يختص بالأحكام كما في قوله تعالى فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً فيصح إطلاقه على الأخبار بالحكم.

أدلة المانعين عن جواز التقليد
اشارة

(أحدها) ان المستفتي يجوز على المفتي الخطأ و ذلك يمنع من قبول قوله لعدم الأمن من الاقدام على القبيح (و فيه) منع كون تجويز الخطأ مانعا من العمل و إلا لمنع المجتهد من العمل برأيه بل الامارات بأجمعها يجوز فيها الخطأ و مع هذا نعمل بها، فالميزان هو قيام الحجة على صحة العمل به و تلك الأدلة حجة على ذلك.

(الثاني من أدلتهم) انه لا يجوز التقليد في الأصول و إذا كان العبد مكلفا بالاجتهاد و العلم في الأصول فلا بد

أن يكون متمكنا منه و إلا لزم التكليف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 34

بالمحال و من تمكن من الاجتهاد في الأصول تمكن من الاجتهاد في الفروع أيضا لأنها أشكل من الفروع و أكثر شبها منها. (و فيه) ان مسائل الأصول مطلوب فيها الاعتقاد فلا بد فيها من الاجتهاد بخلاف المسائل الفرعية مضافا الى ما ذكره صاحب القوانين (ره) من منع كون الاجتهاد في الأصول أصعب فإنها مبنية على قواعد عقلية و شواهد ذوقية و دلائل وجدانية يسهل إدراكها إجمالا لكل من التفت إليها و ليس المطلوب فيها إلا الدليل الإجمالي. مع ان مسائلها قليلة غاية القلة في جنب الفروع الفقهية، و أدلة الفروع جزئيات متشتتة و أكثرها مبنية على مقدمات عقلية و مدلولات خفية محفوفة باختلافات و اختلالات لا يرجى زوالها في كثير منها.

(الثالث من أدلتهم) ان الأخذ بقول المجتهد يكون من التمسك بغير الكتاب و السنة لأنه تمسك بقول الغير فهو ينافي أخبار الثقلين. (و جوابه) ان التمسك بقول الغير باعتبار انه مستند الى الثقلين يكون من التمسك بالثقلين قطعا لا سيما و ان العامي لا يتمكن من التمسك بهما إلا بهذا النحو فيكون أقرب طرق التمسك بهما للعامي هو ذلك.

(الرابع من أدلتهم) ان التقليد عمل بغير علم و قد نهى الشارع عن العمل بغير العلم (و جوابه) ان الأدلة الناهية مخصصة بالأخبار المتقدمة مضافا الى انها لو تمت لمنعت حتى من الاجتهاد.

(الخامس من أدلتهم) ما دل على الذم على التقليد من الآيات و الأخبار (و فيه) انها على فرض شمولها للتقليد في الأحكام الشرعية فتخصص بالتقليد في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها العلم و اليقين لكون أغلب مواردها ذلك فيكون هو

مقتضى الجمع بينها و بين ما دل على جواز التقليد أو تخصص بتقليد الفسقة من العلماء في الفروع الفقهية كما يشهد بذلك المروي في الاحتجاج من قوله (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 35

و كذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر و العصبية الشديدة و التكالب على حطام الدنيا- الى قوله (ع)-: من قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم اللّه سبحانه بالتقليد لفسقة فقهائهم أو تخصص بتقليد الجاهل لجاهل مثله بقرينة قوله تعالى أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ شَيْئاً بعد قوله تعالى قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا.

(السادس من أدلتهم) ان أدلة التقليد المذكورة لو كانت تامة لوجب اتخاذه طريقا للأحكام الشرعية و ما كان يصح الاجتهاد لعدم تقييدها بذلك.

(و جوابه) ان مقتضى الجمع بينها و بين الأدلة الدالة على جواز الاجتهاد هو جواز التقليد مع عدم التمكن من الاجتهاد كما سيجي ء إنشاء اللّه في أن المجتهد أو من عنده ملكة الاجتهاد لا يجوز له التقليد.

(السابع) ان الحجة إن كانت مشتملة على الحكم الشرعي الذي له مساس بالمجتهد عملا و ان صح أن تكون حجة في حق العامي و لكن حجيتها مختصة بالمجتهد دون العامي لعدم تحقق موضوع الحجية و شرائطها بالنسبة اليه. و عليه فلا يشترك العامي مع المجتهد في مدلولها و إذا كانت مشتملة على حكم لا مساس له بالمجتهد كما إذا كانت مشتملة على مسائل الحيض و النفاس فلا معنى لجعل حجيتها بالنسبة إليه. (قلنا) نعم لكن بواسطة أدلة جواز التقليد يكون قيام الحجة بمنزلة قيامها عند العامي المقلد و يكون مساسها بالعامى يوجب المساس لها بالمجتهد على ان المانع من

الاشتراك هو اختصاص الحكم لا اختصاص الحجة به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 36

ثمرة البحث في جواز التقليد و عدمه

قد يقال بل قد قيل ان هذا البحث لا ينفع العامي لأنه عالم بجواز التقليد و لأنه لا يجوز له أن يقلد في هذه المسألة و إلا لزم التسلسل أو الدور و لا يمكنه الاجتهاد فيها لعجزه عن الاجتهاد و لا ينفع المجتهد لأن المجتهد لا يجوز له التقليد قطعا. (و قد أجيب) عن ذلك بأن البحث عنها يثمر من حيث إطلاق الجواز و تقييده فإن الأدلة الدالة على الجواز إذا عرفناها استطعنا أن نعرف أنها مطلقة من حيث الأعلمية و الحياة و الوثاقة أو مقيدة، ثمَّ ان المجتهد لو يثبت عنده عدم الجواز ردع العامي عن التقليد، كما انه لو ثبت عنده الجواز جاز له حث العامي على التقليد، على أن هذا البحث ينفع العامي خصوصا من عنده بعض المبادي من العلوم فان جل أدلة التقليد واضحة يتفهمها العامي.

شروط التقليد

اشارة

قد عرفت ان الاجتهاد يعتبر فيه أمور، فهكذا يعتبر في التقليد أمور يفسد التقليد بدونها، و حيث ان هذه الأمور بعضها يرجع للمقلد (بالكسر) الذي هو المستفتي، و بعضها في المجتهد المقلّد (بالفتح) الذي هو المفتي، و بعضها في الحكم الذي يقلد العامي المجتهد فيه وقع الكلام في جهات ثلاثة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 37

(الجهة الأولى) فيما يعتبر في المستفتي
اشارة

و يعتبر أمور في الشخص الذي يقلد الغير و يعمل بفتواه بحيث يترتب على التقليد آثاره من صحة عمله و عدم جواز عدوله و نحو ذلك:

(أحدها) أن يكون عاقلا

حال تقليده للمجتهد فلا عبرة بتقليد المجنون حال جنونه كأن عقد قلبه على الأخذ بقول المجتهد و عمل به في تطهير ثوبه أو بدنه أو استبرائه. نعم لو قلد حال العقل ثمَّ جن فذهب صاحب الفصول إلى استقرار التقليد في حقه و تظهر الثمرة في حق وليه و حقه بعد الإفاقة و لكن يمكن القول بتبدل الموضوع (إلا اللهم) أن يدعى ان الجنون مثل النوم و الغفلة و الاغماء لا يجوز معها العدول لأنها أعذار عقلية لا توجب ارتفاع التكليف من أصله و إنما توجب رفع تنجزه، و عليه فعلى وليه أن يعمل على طبق قول من قلده المجنون حال تعقله حتى لو كان الولي مجتهدا و لا يجوز له العدول عنه عند الإفاقة و سيجي ء ان شاء اللّه في موارد جواز العدول التعرض لذلك.

(ثانيها) أن يكون بالغا

فلا عبرة بتقليد الصبي و إن كان مميزا و قلنا بأن أعماله تمرينية. قال صاحب الفصول: و لو جعلنا أعماله شرعية لزم ثبوت التقليد في حقه لأنه منها و لتوقف شرعية غيره غالبا عليه. و (تظهر الثمرة) فيما لو بلغ عشرا و قلد من يقول بصحة عتقه فأعتق مملوكه فان جعلنا تقليده شرعيا انعتق عليه المملوك و لو جعلناه للتمرين لم يلزم الانعتاق عليه و في عدوله عند من يمنع من العدول فيجوزه على القول بكونه تمرينيا و لا يجوزه على القول بكونه شرعيا، و كذا الكلام في استصحاب تقليده إلى ما بعد البلوغ إذا مات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 38

مفتيه قبل البلوغ عند من يقول بالبقاء، و يعتبر في تقليده شرعيا أو تمرينيا وقوعه بعد البلوغ المقطوع به فلو قلد قبله أشكل اعتباره بكونه دوريا،

و لا فرق في ذلك بين تقليده في الوجوب و التحريم و غيرهما إذ لا يعتبر في صحة التقليد فعلية الحكم و إلا لم تثبت بالنسبة إلى فاقد الشرط ا ه. و لعل وجه الدوران شرعية التقليد في حقه تثبت بالتقليد الشرعي فكيف يثبت التقليد الشرعي في حقه. و قد أورد عليه بعض المحققين (ره) ان وجوب التقليد مقدمي و هو توصلي معاملي لا عباديا و التمرينية و الشرعية على الخلاف فيما بين الفقهاء إنما يجريان في العبادات دون المعاملات، ضرورة انه لا معنى له في المعاملة فكون بيعه و شرائه و عتقه و نحو ذلك تمرينيا مما لا محصل له لأن البيع إن كان شرعيا أثر و كان نافذا و إلا فلا يجوز أخذ المال منه و لو بالمبادلة و على وليه قبض يده من إعطاء ماله لا أمره بذلك كما لو كان تمرينيا إلا أن يريد من الأعمال خصوص العبادات فيكون المقصود ان عبادات الصبي لو جعلت شرعية كان التقليد أيضا شرعيا لأن شرعية العمل تستلزم شرعية مقدماته بخلاف ما لو كانت تمرينية فان التقليد حينئذ لما لم يكن شرعيا لا أثر له لا انه تمريني لكنه لا يلائم قوله لأنه منها و لا بعده فافهم، مع انه ينتقض بمثل غسل ثوبه أو تطهير بدنه أو غير ذلك من مقدمات العبادة فان نفي شرعية العبادة لا يستلزم نفي الآثار المترتبة على المقدمات التوصلية و أيضا الظاهر دخول العتق في المعاملات المجمع على صحتها من الجاهل المقصر دون العبادات المختلف فيها و إن كان له جهة عبادة أيضا فقصر صحة عتقه في كلامه على سبق التقليد و شرعيته لا وجه له ظاهرا و أيضا

التقليد إن كان هو العمل فيلغوا أكثر ذلك الكلام و إن كان الأخذ للعمل فبعضه، و أما مجرد الأخذ فلا قول به. (و الحاصل) ان القول بنفوذ التقليد في حق الصبي بل المجنون بعد تحقق موضوعه في حقهما بأن قلنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 39

أن التقليد هو الأخذ للعمل و لو بعد البلوغ أو الإفاقة أو هو العمل مع صدور عمل شرعي بأن قلنا بشرعية عبادة الصبي فصلى على طبق الفتوى آخذا بها مما لا مانع منه إلا أن يتمسك بظهور إطباقهم على نفي الأثر عن فعل المجنون بل الصبي إلا ما ثبت فتدبر ا ه. و لا يخفى ان مراد صاحب الفصول (ره) بالشرعية هو الاعتبار الشرعي و الصحة و ترتب الأثر لا ما فهمه المشكل و سيجي ء إنشاء اللّه في التنبيه الثامن من تنبيهات مبحث البقاء على تقليد الميت ما ينفعك هنا فراجعه.

(ثالثها) ما ذكره صاحب الفصول أن يكون المقلد مؤمنا

حال التقليد إذا كان المفتي مؤمنا فلا عبرة بتقليد الكافر و المخالف له لعدم كونه آخذا بقول المجتهد المؤمن حقيقة لكونه على خلاف معتقده. نعم لو فرض انه اعتقد جواز تقليد المؤمن كما في الكافر بالجحود أو بهتك الشعائر و المرتد الذي لم يقبل منه الإسلام لم يبعد ترتب أحكامه عليه (و تظهر الثمرة) في جريان أحكام التقليد عليه من صحة عقوده و إيقاعاته و في ارتفاع الإثم عنه إذا أفتى له بإباحة ما هو محرم واقعا و في جواز عدوله بناء على عدم جوازه و في جواز بقائه على تقدير موت المفتي، و الكافر لو قلد المجتهد من أهل مذهبه في أحكام وضعية من ملكية أو صحة أو فساد لزمه تلك الأحكام بالنسبة إلى الوقائع

التي قلد فيها حال كفره فيحكم بصحة عقوده و إيقاعاته و تستمر تلك الأحكام الى إسلامه لو أسلم ما لم يمتنع استمراره فيه كالبقاء على نكاح المحارم أو على ما فوق النصاب و من هذا الباب بقائه على نكاح زوجة لاط بأخيها قبل النكاح و لا يقدح في ذلك كونه عندنا معاقبا على الفروع إذ لا منافاة بين صحة العقد و تحريمه. نعم لا يبعد اختصاص ذلك بالكافر المعتقد لحقية دينه. و أما الكافر المعتقد لحقية الإسلام فجريان ذلك في حقه غير واضح و كذلك المخالف إذا قلد لأهل مذهبه و يزيد على الكافر بصحة عباداته إذا استبصر بعد فعلها عدى ما استثني انتهى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 40

(رابعها) أن لا يكون مجتهدا
اشارة

و قد تقدم الكلام في ذلك ص 173 ج 1 و لا بأس بتنقيح البحث مرة أخرى فإن الإعادة لا تخلو من الإفادة فنقول: ان المجتهد ان كان عارفا بالمسألة فلا يجوز له التقليد من غير فرق بين من عرفها بالعلم أو بالظن المعتبر و ذلك لعدم جريان أدلة التقليد في حقه لظهورها في الجاهل الغير العالم، و حكي الإجماع على ذلك عن النهاية و التمهيد و الأحكام. و استدل على ذلك أيضا بالعمومات المانعة من التقليد خرج منها بعض الصور و لم يعلم خروج محل البحث عنها. و استدل أيضا بأصالة عدم صحة التقليد. و استدل أيضا بفحوى ما دل على عدم جواز التقليد للمجتهد في القبلة أو الوقت لغيره.

[عدم جواز تقليد المجتهد المتوقف بالمسئلة لمجتهد آخر عارف بها و عليه ان يرجع للأصول]

و أما المجتهد المتوقف في المسألة لعدم الدليل فيها أو لتعارض الأدلة فيها فوظيفته الرجوع الى الأصول دون التقليد لحكومة أدلة الأصول على أدلة التقليد و لقيام السيرة و الإجماع على عدم جواز التقليد و لاعتقاده بخطإ المجتهد المدعي للدليل فلا يكون رجوعه رجوعا للعالم و قلما يحتمل وجود مستند صحيح عند غيره.

(و الحاصل) ان الأصول العملية تكون أحكامها منجزة في حقه لتحقق موضوعها بالنسبة إليه فهي تمنع من تنجز حكم آخر في حقه الا أن يرتفع عنه موضوعها.

(ان قلت) انه عند الفحص و اليأس عن الدليل أو عند التعارض يتنجز في حقه حكم الأصل في المسألة و التقليد لأن كلا منهما موضوعه و هو عدم العلم قد تحقق في دفعة واحدة (قلنا) ان أدلة التقليد مقيدة بمن لم يعلم وظيفته الشرعية أو العقلية، و مع تحقق موضوع الأصول يعلم بتحقق الوظيفة بخلاف الأصول فإن موضوعها عدم معرفة الواقع لا الوظيفة بدليل ان ما

لا يعلمون في قوله (ع) رفع ما لا يعلمون ليس هو الوظيفة لأنه يعلم بالوظيفة العقلية بخلاف أدلة التقليد فان ما لا يعلمون يمكن الأخذ بإطلاقها لمن لا يعلم وظيفته و لا حكمه الواقعي.

(ان قلت) ان عدم العلم بالحكم الواقعي المأخوذ في الأصول ان كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 41

حتى عن طريق التقليد فالأصل لا يجري لفرض وجود طريق التقليد للحكم الواقعي و ان كان عما عدى طريق التقليد فيلزم التقييد و لا دليل عليه. (قلنا) التقليد لم يكن من العلم المأخوذ عدمه في الأصول فإن المنصرف منه هو المعرفة من غير طريق التقليد و لذا المقلد لا يقال له عالم فتأمل.

[عدم جواز تقليد المجتهد المتوفى حتى في الحكم الظاهري لمجتهد آخر]

و أما المجتهد المتوقف في المسألة حتى في الحكم الظاهري و ما هو مقتضى الأصل فيها. فالحق عدم جواز تقليده للغير لبعض الوجوه المتقدمة و للسيرة و الإجماع و لانصراف أدلة التقليد عنه لأنها ظاهرة فيمن جهل الحكم عن نقصان في طرف المعرفة و عدم كمال في قوة الاستنباط.

(ان قلت) ان استصحاب جواز التقليد جار في حقه فيما لو كان قد بلغ و لم يكن مجتهدا فإنه و ان بلغ مرتبة الاجتهاد لكن الظاهر ان الموضوع عند العرف من لم يتمكن من معرفة الوظيفة و العاجز عنها. (قلنا) لا نسلم ان الموضوع ذلك بل نحتمل ان الموضوع عند العرف هو من جهل الحكم لنقصان في قوة الاستنباط و طرق المعرفة لا من كان قوة استنباطه كاملة و طرق المعرفة موجودة عنده، و عليه فيرجع لحكم العقل.

[عدم جواز تقليد المجتهد الملكي لغيره حتى عند عدم استنباطه للحكم]

و أما المجتهد الذي عنده ملكة الاجتهاد و لكنه لم يعملها و لم يجتهد بعد في المسألة فوظيفته أن يعمل ملكته و يجتهد لتحصيل الحكم الشرعي في المسألة و لا يقلد فيها و المحكي عن الشيخ الأنصاري (ره) انه المعروف عندنا بل لم ينقل جواز التقليد عن أحد منا و انما حكي عن مخالفينا على اختلاف منهم في الإطلاق و التقييد، و قد حكي عن السيد (ره) في مناهله جواز التقليد، و في الضوابط حكايته عن بعض أهل العصر، بل المحكي عن صريح جدنا كاشف الغطاء تعين التقليد عليه و لا حجية لظنه لا بالنسبة اليه و لا بالنسبة لغيره، و قد استدل على صحة تقليده للغير (أولا) انه إذا لم يكن مستنبطا لقدر معتد به من الأحكام بحيث يعد فقيها عرفا على حد صدق سائر

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 2، ص: 42

ما يشتق من أسامي العلوم على أربابها فهو ليس بفقيه لأن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية و هو ليس بعالم و إنما هو قادر على العلم بالأحكام الشرعية و وظيفته الرجوع إلى الفقيه لما دل على ان الناس صنفان: فقيه و غير فقيه و ان وظيفة الثاني الرجوع إلى الأول.

[تحقيق قاعدة الناس صنفان فقيه و غير فقيه]

(و فيه) ان هذه القاعدة إنما هي متصيدة من أدلة التقليد، فإنه يستفاد منها ان الناس قسمان عالم و متعلم يرجع اليه فلا بد أن ننظر في مقدار دلالتها، و الظاهر منها ان المجتهد الملكي داخل في العالم لا يرجع لغيره لأنه لو كان المراد بها العالم الفعلي دون من كان يعلم بالحكم لو رجع إلى ما عنده لزم أن تكون وظيفة سائر المجتهدين الذين لم يستحضروا فتواهم الرجوع إلى الغير و هذا خلاف ما فهمه الأصحاب منها بأجمعهم.

و (ثانيا) ان المذكور في مقبولة عمر بن حنظلة اعتبار معرفة أحكامهم عليهم السلام و هو جمع مضاف يفيد العموم و لا أقل من العموم العرفي و هو غير صادق بمجرد عموم الملكة ما لم يكن عالما بالفعل بقدر يعتد به بحيث يصدق عليه عرفا أنه عارف بالأحكام. (و جوابه) انها مختصة بالحكم و لا نظر لها إلى الفتوى على أنها غاية ما تدل عليه عدم الرجوع إلى من لم يعرف ذلك لا على جواز رجوعه للغير. و لا ريب في أن من لم يستنبط حكما لم يرجع إليه إذ لم يعرف الحكم فعلا.

و (ثالثا) أن كثيرا من الناس في عصر الأئمة (ع) يرجعون للرواة مع تمكنهم من معرفة الحكم من الامام (ع). و جوابه انه لا نسلم ذلك إلا مع عجزهم

عن معرفة الحكم من الامام (ع) أو لزوم العسر و الحرج عليهم بذلك أو أعمالهم للاجتهاد في المسألة إذا كانوا من أهل الرأي لا تقليدهم للغير و إنما يأخذون الرواية.

و (رابعا) استصحاب جواز التقليد له (و فيه) ان موضوعه القاصر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 43

عن الاستنباط و الفرض انه قد انتفى لأنه قد صار متمكنا من الاستنباط على أنه لا مجال للأصل مع وجود الدليل على عدم الجواز كما سيجي ء إنشاء اللّه، مضافا الى ان الحالة السابقة و هي وجوب التقليد و الثابت فعلا قطعا هو عدم وجوبه للإجماع على جواز الاستنباط لهذا الرجل إلا أن يناقش في الإجماع لمخالفة مثل جدنا كاشف الغطاء (ره) على ما هو المحكي عنه، و لعدم معروفية المسألة مضافا الى ان الإجماع قد قام على التخير بين التقليد و الاجتهاد و الاحتياط للعامي.

و (خامسا) عموم آية السؤال و النفر و قوله تعالى أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ و العلماء من أولي الأمر. فعلى المجتهد الملكي الرجوع لهم.

(إن قلت) انهما يدلان على وجوب التقليد و هو منفي عنه بالإجماع و إنما الكلام في جوازه له. (قلنا) قد عرفت الجواب عن دعوى الإجماع المذكورة في الدليل الرابع. (و فيه) ان الظاهر ان المراد بعدم العلم في آية السؤال هو العجز عن المعرفة إلا عن طريق السؤال بقرينة الأمر بالسؤال مع انه لا إشكال في وجود طرق أخرى للمجتهد الملكي يرجع إليها فمن حصر الأمر بالسؤال عند الجهل يستظهر ان المراد العجز عن المعرفة إلا عن طريق السؤال. (و بعبارة أخرى) انهم لو كانوا متمكنين من معرفة الواقع بغير السؤال لأمروا بالرجوع إليه أيضا

مضافا إلى ان المراد بأهل الذكر هم أهل العلم و هم المتمكنون من تحصيل العلم لا المستحضرون له فإن الأهلية للشي ء إنما تحصل بالتأهل له و لا يلزم حصوله بالفعل. و على هذا فتختص الآية بسؤال من ليس أهل الذكر و العلم و هو العامي لمن هو أهل له مضافا إلى ما سبق من القرينة و هو الإجماع على عدم جواز السؤال لمن نسي الحكم الشرعي الذي اجتهد فيه و كان مسجلا عنده بحيث بمجرد الرجوع اليه يعرفه فلو كان المراد بها عدم العلم الفعلي لجاز لمثل هذا الرجل أن يرجع إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 44

الغير فتعين أن يكون المراد عدم العلم الفعلي و الملكي. (و اما آية النفر) فجعل التفقه غاية للنفر يوجب ظهور الآية عن عجز الطائفة عن معرفة الأحكام من غير السؤال ضرورة انه لو كان عندهم ما يمكنهم معرفة الحكم به لما أمروا بالنفر لمعرفة الأحكام و لما علل النفر بالتفقه إذ التفقه لا يكون حينئذ علة للنفر لتحقق التفقه إذ ذاك بدون النفر. (و اما آية أولي الأمر) فلأن الظاهر منها هو الإطاعة في القضاء و الأحكام. و لو سلمنا بواسطة حذف المتعلق حيث يقتضي العموم، فالجواب عنها يظهر مما سبق في الجواب عن آية السؤال.

(خامسا) لزوم الحرج على المجتهد المذكور في التزامه باستنباط جميع أحكام أعماله الشرعية بمجرد وجود الملكة عنده (و جوابه) ان المتعين عليه حينئذ الاجتهاد في المسائل التي هي محل ابتلائه الأهم ثمَّ الأهم و يحتاط في ما عداها و إن لزم عليه العسر و الحرج في الالتزام بالاجتهاد أو الاحتياط يقلد بمقدار ما يرتفع به الحرج و (الحاصل) ان كل

مسألة ابتلى بها إن لم يكن عليه حرج في الاجتهاد بها أو الاحتياط فيها ارتكب أحدهما و إن كان في ذلك حرج لعسر الاحتياط و عدم تهيأ أسباب الاجتهاد أو وجود مانع منه أو لاشتغاله بأهم منه تعين عليه التقليد إلى أن يتمكن من الاجتهاد أو الاحتياط فيها و إذا تمكن من الاجتهاد أو الاحتياط في أحد المسائل لا على التعيين اختار الأهم منها و مع التساوي في نظره أو عدم معرفة الأهم اختار واحدة منها.

أدلة القائلين بالمنع من تقليد المجتهد الغير المستنبط لغيره

استدل القائلون بمنع المجتهد الملكي من التقليد لغيره بوجوه:

(أحدها) الأصل حرمة العمل بالتقليد أو أصالة الاشتغال كما في الضوابط

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 45

و لا يخفى ما فيه فان الخصم بعد ما أقام الأدلة على الجواز لا مجال للتمسك بهذا الأصل في قباله.

(ثانيها) ما ذكره جملة من العلماء كالشيخ محمود صاحب القوامع و غيره عموم ما دل على الرجوع إلى الكتاب و السنة خرج منه القاصر فيبقى غيره تحت العموم. و بعبارة أخرى: ان أدلة الأحكام الشرعية إنما لا يجوز للعامي التمسك بها من جهة قصوره عن معرفتها، و المجتهد الملكي غير قاصر عن ذلك فيكون مخاطبا بالعمل بها و تكون حجة في حقه، و أدلة التقليد إنما هي ناظرة لمن لا حجة عنده يرجع إليها. و قد تقدم ص 184 ج 1 ما ينفعك في المقام عند التعرض للقول المنسوب لجدي كاشف الغطاء (ره).

(ثالثها) بناء العقلاء، فإنه لا ريب في انهم لو كانوا أهل صنعة و كانوا متمكنين من الصنعة مع فرض وجود الاختلاف بين أهل تلك الصنعة لم يكونوا يرجعون إلى غيرهم، و أدلة التقليد إنما جاءت مؤكدة لحكم العقل و الفطرة.

(رابعها) ترجيح

المرجوح على الراجح فإن الأمر يدور بين العمل برأيه أو العمل برأي الغير، و لا شك ان العمل برأيه أرجح، و فيه ما لا يخفى.

(خامسها) نقل الإجماع من الإمامية على حرمة التقليد إذ لم نجد منهم من قال بالتخير بين الاجتهاد و التقليد إلا من خروجه غير ضائر بالإجماع و عدم لزوم الاحتياط عليه للإجماع فيتعين في حقه الاجتهاد. فالحق وجوب الاجتهاد على المجتهد الملكي مع التمكن من الاجتهاد و عدم تعسره عليه، و اما مع عدم التمكن من الاجتهاد أو تعسره لضيق الوقت أو لعدم تهيأ أسباب الاجتهاد له أو نحو ذلك فمخير بين الاحتياط و بين التقليد لأن أدلة التقليد تشمل من كان عاجزا عن المعرفة إلا عن طريق السؤال و هذا عاجز فعلا عن المعرفة إلا عن طريق السؤال و لو قلد ثمَّ تمكن من الاجتهاد وجب عليه الاجتهاد لحصول مقتضية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 46

و انتفاء المانع منه و لو اعتراه مانع من الاجتهاد بعد ذلك جاز له تقليد غير من قلده سابقا و ان منعنا من العدول لأنه تقليد ابتدائي وفاقا لما ذكره صاحب الفصول (ره).

(إن قلت) ان الواجب عليه الرجوع إلى الاحتياط لا إلى التقليد لأنه موجب لحصول العلم بالواقع. نعم مع تعسر الاحتياط و الاجتهاد يجوز له التقليد (قلنا) لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال في العامي أيضا ذلك مع انه حكي الإجماع على عدم لزوم الاحتياط على من تعسر في حقه الاجتهاد مطلقا مع انه قد تقدم من الروايات ما تدل على جواز التقليد مطلقا من غير تقييد لها بصورة عسر الاحتياط. (نعم) لو قلنا بالتقليد من جهة حكم العقل بعسر الاحتياط،

ففي هذه الصورة يقدم الاحتياط على التقليد لعدم عسر الاحتياط.

[عدم جواز تقليد المجتهد المتجزي لغيره]

و أما المجتهد المتجزي: ففي المسائل التي اجتهد فيها أو كان له ملكة الاجتهاد فيها فحكمه حكم المجتهد المطلق في حرمة التقليد و أما ما عداها فيقلد فيها. و هكذا يجوز للمجتهد تقليد الآخر إذا كان باشتغاله بالاستنباط أو بالاحتياط يفوت وقت الواجب و هكذا يجوز للمجتهد تقليد الغير إذا أشكل عليه طريق الواقعة و تعذر عليه الاستنباط فيها بحيث لا يعرف حتى الأصل العقلي الذي يرجع له و لم يتمكن من العمل بسوى التقليد، و لعل هذا يلحق بالمتجزي. و أما من شك في نفسه انه بلغ مرتبة الاجتهاد حتى لا يجوز له التقليد أو انه بعد لم يبلغها فحكمه التقليد استصحابا لعدم حصول الملكة له فإن الملكة مانعة عن التقليد فيستصحب عدمها، و أما استصحاب جواز التقليد أو عدم وجوب الاجتهاد فهو لا يصح لاحتمال تبدل الموضوع لاحتمال انه صار ذا ملكة و إن كان ينبغي له معرفة ذلك اما بشهادة أهل الخبرة في حقه إن قلنا بحجية الشهادة أو بأن يجرب نفسه في عدة من المسائل فيبحث عن المسألة و يجيل نظره فيها فإنه إذا رأى ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 47

الطريق الذي سلكه في الاستنتاج عين طريق من تقدمه قد يحصل له الاطمئنان بالاجتهاد و نحو ذلك من المناقشات و النزاعات التي قد تولد له الاطمئنان بالاجتهاد

(خامس الشروط التي تعتبر في المستفتي) أن يكون عالما بجواز التقليد

فلو قلد مع عدم علمه بذلك لم يكن تقليده صحيحا و معتبرا لعدم تحقق الأخذ في حقه حقيقة و تظهر الثمرة فيما لو انكشف الخلاف كذا في الفصول، و الأولى أن يعلل ذلك بأنه لم يكن التقليد حجة له يأمن بها من العقاب.

(سادسها) أن يثبت عند العامي جامعية مرجعه في التقليد لشرائط المرجعية
اشارة

من اجتهاد و غيره من الشرائط للزوم إحراز الموضوع عند ترتيب الآثار عليه و لأنه بدون ثبوت ذلك فالاستصحاب يقتضي عدم جامعيته للشرائط و عدم جواز تقليده و لاحتمال العقاب باتباع أقواله لعدم ثبوت حجيتها، فاذا عرفت لزوم ثبوت جامعية المرجع،

[طرق ثبوت صلاحية المجتهد للمرجعية]

فاعلم ان ثبوته اما أن يكون بالعلم الحاصل من المعاشرة أو من الشياع أو من الاختبار بأن كان العامي من أهل الخبرة و المعرفة و لم يبلغ درجة الاجتهاد أو غير ذلك من الأسباب الموجبة للعلم فان القطع حجة من أي سبب كان، و لا وجه لما في عروة السيد (ره) في هذه المسألة من جعل العلم الحاصل من الشياع مقابلا للعلم الحاصل من الاختبار.

و قيل يثبت بأمور أخرى:
(أحدها) انه يثبت بشهادة العدلين

وفاقا للمحكي عن المعالم و المقاصد العلية و المفاتيح و خلافا لما يظهر من الذريعة و المعارج و الجعفرية و الوافية على ما حكي عنهم و هو المحكي عن صاحب الرياض و استشكل المحقق الثالث في ذلك و قد يستدل على ذلك بأن ولاية القاضي المنصوب من الامام (ع) في زمن الحضور تثبت بذلك فيثبت الاجتهاد بها في زمن الغيبة لظهور عدم الفرق بين أفراد المجتهدين و تحقيق الحال يطلب من ما سيجي ء ان شاء اللّه في الطريق الثاني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 48

لإثبات العدالة فراجعه.

(ثانيها) انه يثبت بخبر العدل الواحد

حكي عن صاحب الضوابط القول به و عن المفاتيح الميل اليه و تحقيق الحال يعلم من مراجعة الطريق الثالث لإثبات العدالة، هذا و ان بعض محشي العروة استدل على ثبوته بخبر الواحد الثقة بعموم ما دل على حجيته في الأحكام الكلية الشرعية قائلا: إذ المراد منه (أي مما دل على حجية قول الثقة في الأحكام الكلية) ما يؤدي إلى الحكم الكلي سواء كان بمدلوله المطابقي أم الالتزامي و المقام من الثاني فإن مدلول الخبر المطابقي هو الاجتهاد، و من هذه الجهة يكون اخبارا عن موضوع لكن مدلوله الالتزامي هو ثبوت الحكم الواقعي الكلي الذي يؤدي إليه نظر المجتهد.

(و لا يخفى ما فيه) فإنه على هذا ينبغي أن يقبل قول الثقة في كل موضوع خارجي يترتب عليه أثر شرعي فإن ما نحن فيه ليس إلا من قبيل الاخبار عن موضوع خارجي للأثر الشرعي المذكور لا من قبيل المتلازمين فهو نظير الأخبار عن العدالة و كون هذا المائع خمرا فإن المحشي المذكور لا يلتزم بحجية خبر الثقة بذلك.

(ثالثها) انه يثبت بالشياع

اما المفيد للعلم فلا اشكال فيه لأن العلم حجة كما عرفت، و اما غير المفيد للعلم فثبوته به و عدمه يعرف من الكلام في الطريق الخامس لإثبات العدالة.

(رابعها) انه يثبت بمطلق الظن

، و قد ذهب إلى كفاية الظن صاحب المفاتيح و التهذيب و النهاية أيضا و شارح المبادي و الشهيد في الذكرى و صاحب المحصول على ما حكى عنهم (ره) و ظاهر المحكي عن الحاجبي في المختصر و صريح العضدي في شرحه و صاحب المبادي الاتفاق على جواز الاستفتاء عند الظن باجتهاد المفتي و عدالته و يحكى عن بعضهم جواز ذلك حتى مع التمكن من تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 49

العلم و انه بمجرد ما إذا رآه منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق و اجتماعهم عليه و الانقياد إلى ما يفتيهم به و إقبال المسلمين على سؤاله يثبت بذلك اجتهاده و جامعيته لباقي الشرائط و قد استدل على حجية الظن هنا بأن تحصيل العلم غير ممكن غالبا لأغلب الناس و أهل البلدان النائية لأن تحصيل العلم به اما من اخبار المخبرين أو بالصحبة المتأكدة و الثاني لا يحصل به العلم إلا بأن يكون للمكلف قوة و مرتبة وافية من العلم يميز بهما المجتهد عن غيره كما لا يخفى. و تحصيل تلك القوة لكافة الناس متعذر و متعسر جدا. نعم في حق بعض الطلاب المستعدين أمر ممكن بلا عسر و لا صعوبة و لكنه نادر لا يلتفت إليه ضرورة ان مناط التكليف هو الغالب من المكلفين، و اما الثاني لندورة تكاثر أخبار أهل الخبرة بحيث يحصل العلم لكل الناس باجتهاد المجتهد و إذا كان تحصيل معلوم الاجتهاد لأغلب الناس في غالب أحوالهم متعذرا أو متعسرا فلا

بد من كفاية الظن و تجويز العمل برأي مظنون الاجتهاد.

(إن قلت) يرجع للاحتياط. (قلنا) مضافا إلى تعسره و تعذره فهو خلاف السيرة و الإجماع.

(إن قلت) ان الأمر غير منحصر بالتقليد لمظنون الجامعية للشرائط و بالاحتياط بل هناك شق ثالث و هو تقليد الميت ابتداء المعلوم الجامعية للشرائط كالشيخ و الفاضلين و الشهيدين و غيرهم ممن نقطع باجتهادهم و جامعيتهم الشرائط فلا عسر على أحد في تحصيل معلوم الاجتهاد لأنه موجود في الأموات (قلنا) مضافا إلى عدم تمامية ذلك عند من يقول بعدم جواز تقليد الميت ابتداء انه لا يجي ء في المرافعات و المسائل المستحدثة التي لم يجتهد فيها المجتهد الميت و لا يجي ء في سائر تصرفات الحاكم في أموال الغيب و الصغار و المجانين لامتناع تصرف الميت في أموالهم، و إذا ثبت لزوم الرجوع إلى مظنون الاجتهاد الحي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 50

في المرافعات و غيرها من المذكورات ثبت في غيرها من الفتاوى بالإجماع المركب إذ لم نجد مفصلا من تلك الجهة. (و جوابه) ان دعوى عدم القول بالفصل في مثل هذه المسألة غير مسلم كيف و جملة من العلماء من جوّز تقليد الميت ابتداء التزم في هذه المسائل بتقليد الحي مضافا إلى عدم تعسر العلم و إمكان تحصيل البينة على الاجتهاد و الشرائط و تحقيق الحال يعلم من مراجعة الطريق السابع لإثبات العدالة.

(خامسها) انه يثبت بالوثوق

بذلك كما إذا رآه منتصبا للفتوى في جماهير الناس و الناس الأخيار تسأل منه مسائلهم و هم يأخذونها بالقبول منه و تحقيق ذلك يطلب من مبحث العدالة في الطريق السادس.

(سادسها) انه يثبت بإخبار العدل عن نفسه بأنه مجتهد جامع للشرائط
اشارة

و يصح للعامي تقليده مع عدم قرينة تكذب دعواه

[الأدلة التي يستدل بها على حجية اخبار العدل عن نفسه]
اشارة

و الذي يمكن أن يستدل به على قبول دعواه وجوه:

«الأول» قاعدة حمل فعل المسلم و قوله على الصحة

فالعدل المخبر عن اجتهاده يصدّق قوله حملا لقوله على الصحة و هو الصدق (و جوابه) انه ليس بناء الأصحاب على قبول قول المسلم و حمله على الصدق و ترتيب الآثار عليه في مثل ما نحن فيه بمجرده ما لم يقترن به أمارة معتبرة و لذا لا يقبلون دعوى المدعي على الغائب في الوكالة عنه في طلاق زوجته أو بيع أمواله و نحو ذلك و لا دعوى القيمومة على الصغير و لا الوصاية عن الميت ما لم تكن معها بينة شرعية. نعم قد يكتفي بالوصف في اللقطة على اشكال معروف بينهم و فيما نحن فيه بناء الناس على ذلك أيضا فإن من يدعي لنفسه شيئا كمنصب و نحوه لا يقبلون منه ذلك ما لم يكن على طبق أمارة معتبرة (مضافا) إلى أن قاعدة حمل فعل المسلم على الصحة لا تقتضي جواز تقليده بمجرد دعواه الاجتهاد كسائر المدعين بل هي إنما تقتضي عدم تكذيبه و عدم جواز مزاحمته و ردعه عما يباشره من الأمور المختصة بالمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 51

و الحاكم مثل تصدي الإفتاء و التصرف في أموال الأيتام و الغيب و الأوقاف و نحوها كما لا يجوز مزاحمة مدعي الوكالة و ردعه عن التصرفات ما لم يعلم كذبه فغاية ما يمكن أن يقال ان اللازم من الحمل على الصحة إنما هو هذا المقدار فقط و عليه فلا يجوز أخذ الفتاوى منه و لا الترافع اليه و لا رفع أموال الغيب و الصغار و المجانين اليه و لا يلزم إنفاذ حكمه و تصرفاته بمجرد ذلك كما لا يخفى.

(إن قلت) كيف يقبل قول

مدعي الفقر (قلنا) إنما قبلت بدليل خاص فان تمَّ قلنا به و إلا فالتمسك في سماعها على مجرد ان قول المسلم محمول على الصحة في غاية الإشكال، مضافا إلى أنه لو صح التمسك بالقاعدة المزبورة لزم قبول قول مدعي الاجتهاد و الجامعية للشرائط و ان لم يعلم عدالته.

«الثاني» ان الاجتهاد و شرائطه من الملكات النفسانية الخفية

التي صاحبها أدرى بها من غيره فيندرج في قاعدتهم المعروفة من سماع قول القائل فيما لا يعلم إلا من قبله كاحتلام الصبي و حيض المرأة و طهرها و يأسها و قول الوكيل في شراء شي ء لنفسه أو لموكله و أمثال ذلك. (و فيه) المنع من كونها من الأمور التي لا تعلم إلا من قبله بل هي من الأمور الجلية و ليست من الخفية و ذلك لأنها بالنسبة إلى العارف ظاهرة لتمكنه من الاستكشاف بالمعاشرة، و اما بالنسبة إلى غيره فلتمكنه من الرجوع إلى العارفين و لو سلم فكلية الكبرى ممنوعة إذ ثبوت حكمها في الأمثلة المذكورة لا يفيد الاطراد و لذا لا يثبت كل أمر خفي بمجرد دعوى صاحبه.

«الثالث» ما دل على حجية خبر الواحد

فإنها تشمل قبول خبر العدل عن نفسه بالجامعية لشرائط التقليد. (و جوابه) يعلم مما قررناه في قبول خبر العدل فان الجواب هو الجواب عن ذلك لأن الجامعية للشرائط من الموضوعات الخارجية فإن كانت دلت على قبول خبر الواحد فيها كما في الأحكام فقد دلت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 52

هنا و إلا فلا بل لو سلمنا دلالتها على قبوله في الموضوعات فلا نسلم في صورة الاخبار عن نفسه لا نصرفها عن ذلك.

(سابعها) [ثبوته بإجازة مجتهد معلوم الاجتهاد له]

انه يثبت الاجتهاد و شرائط المرجعية في التقليد بوجود اجازة من مجتهد معلوم الاجتهاد في يده و تصديقه له بالاجتهاد كما هو متعارف في زماننا هذا (و الحاصل) انه يثبت اجتهاد المفتي بمجرد تصديق مجتهد له به و التحقيق عدم ثبوته بمجرد تصديق المجتهد الآخر له إلا إذا قلنا بقبول قول العدل الواحد في ذلك و هو غير مسلم.

(إن قلت) ان ذلك حكم منه بالاجتهاد نظير حكمه بالهلال و حكمه نافذ مطلقا لعموم قوله (ع) في المقبولة فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فاذا حكم بحكمنا و لم يقبل منه فإنما بحكم اللّه استخف، و قوله (ع): و الراد عليه راد على اللّه، و قد أجيب عن ذلك بأنه لم يظهر من الأخبار أزيد من نفوذ حكمه في الأحكام فان القدر المستفاد منها انه إذا حكم في موضوع بما عرفه من الأحكام الشرعية كأن يحكم بأن هذا المال لزيد و بأن المرتضعة مع الرجل عشرة رضعات محرمة عليه، و اما حكمه بالموضوع الصرف الذي لا ربط له بالحكم مثل قوله هذا ماء و هذا كافر أو هذا فاسق أو عادل فلا دليل على نفوذ حكمه فيها و لذا

استشكلوا في ثبوت الهلال بحكمه و مع الشك في نفوذ حكمه فاللازم هو العمل بالأصول و هي قاضية بعدم النفوذ و عدم جواز الاتكال على مجرد حكمه في إجراء الأحكام المخالفة للأصل. (و لا يخفى) ما فيه فإنه قد أثبتنا في محله نفوذ حكم الحاكم في الموضوعات و الأولى أن يقال ان ما تعارف في هذا الوقت من قبل الشهادة من المجتهد في حق حاملها و لذا لا تقبل لأنها من شهادة الواحد إلا إذا انضم إليها شهادة مجتهد آخر و اما لو كان من قبيل الحكم و كان جامعا لشرائط الحكم فهو نافذ و يجب قبوله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 53

(سابع الشروط) المعتبرة في العامي المستفتي و عمله بالفتوى
اشارة

أن يكون عند العمل بالفتوى تكون الفتوى ثابتة عنده لا انه ظان بها أو محتملا لها و إلا لم تكن تحصل بها المعذورية عن الواقع لعدم حجية ما عمل به عنده

[طرق ثبوت الفتوى عند العامي. ثبوتها بالعلم بها. ثبوتها بالبينة. ثبوتها بظواهر ألفاظه. ثبوتها بخبر الثقة بها]

و هذا الثبوت يحصل بأمور:

(أحدها) بالعلم بالفتوى مشافهة له أو بالتواتر عنه أو الخبر المحفوف بالقرائن أو بالمعاشرة له كما لو رآه ملتزما بالصلاة عند سقوط القرص فإنه يعلم بأن فتواه في هذه المسألة هو دخول الوقت بسقوط القرص لا بذهاب الحمرة المشرقية.

(ثانيها) بالبينة أعني أخبار عدلين لما ذكرناه في الطريق الثاني لإثبات العدالة (ثالثها) بظواهر الألفاظ فإنها حجة لبناء العقلاء و بها يثبت عموم الفتوى و خصوصها و يشخص المراد منها.

(رابعها) خبر الثقة عن (فتوى المجتهد) الضابط لا كثير السهو و النسيان فإنه حجة في هذا الباب و يجوز للعامي العمل به و ذلك لأنه ان كان نقل الفتوى من قبيل نقل الأحكام الشرعية فيكون حال نقل الثقة حال نقله عن الامام (ع) و ان كان من قبيل نقل الموضوعات كما استقر به أستاذنا المحقق الشيخ المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي و لا أقل من خروجه من منصرف حجية أخبار الآحاد كما هو المتيقن من جملة أدلتها فكذلك لا إشكال في حجيته للسيرة القطعية الجارية بين المسلمين حيث يتلقون فتاوى المجتهدين من الثقات. و للإجماع المحكي عن السيد في المصابيح و الشهيد في الذكرى و الشيخ حسن في المعالم و غيرهم على جواز تعويل العامي على خبر العدل عن فتوى المجتهد. و لبناء العقلاء في كل ملة و نحلة في الرجوع إلى أهل الخبرة على الاكتفاء بنقل الثقات عنهم و لا يلتزمون بأخذ الحكم منهم مشافهة. و للعسر و الحرج بتحصيل العلم الوجداني

بفتوى الفقيه فان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 54

تكليف العباد من الرجال و النساء و العبيد و الإماء في أقصى الأرض و أدناها بالعلم موجب للعسر العظيم بل اختلال النظام بل و عسر تحصيل العلم الشرعي. و الاستشهاد من العدلين على كل مسألة فإن فيه عسر عظيم و حرج شديد أصعب من لزوم مشافهة المفتي و عسر الاحتياط لو اقتصر على أخذ الفتاوى المعلومة. و من هنا ظهر لك فساد ما ذهب اليه بعض محشي العروة من أن كفاية أخبار شخص موثوق بفتوى المجتهد مبني على عموم حجية خبر الثقة في الأحكام الكلية لمثل المقام من جهة دلالة الخبر عن الفتوى بالالتزام على ثبوت الحكم الكلى، و ذلك لما عرفت من حجية خبر الثقة في الفتوى و لو لم نبني على ذلك مضافا الى ما سبق منا في الرد عليه عند الكلام في ثبوت اجتهاد المجتهد بخبر العدل مضافا إلى ما عرفت من انصراف أدلة حجية خبر الواحد عن مثل هذا الخبر عن الفتوى.

هذا و قد بقي الكلام في هذا المقام في جهات:
(الاولى) [جواز الاعتماد على اخبار الواحد عن الفتوى حتى مع التمكن من العلم بها]

انه هل يجوز أن يعتمد على الخبر عن الفتوى مع التمكن من العلم بالفتوى للتمكن من الرجوع الى نفس المجتهد بدون عسر عليه و قد خالف في ذلك شارح المبادي فذهب إلى أن المستفتي ان وجد المجتهد لم يجز له الاستفتاء عن الحاكي، و لكن الظاهر ان الإجماع المنقول و بناء العقلاء و سيرة المسلمين تقتضي جواز الرجوع إلى الحاكي الثقة مع التمكن من الرجوع للمحكي عنه نظير الرواية عن الامام (ع) مع التمكن من الرجوع للإمام (ع).

(الثانية) [جواز رجوع الحائض إلى زوجها في معرفة الفتوى]

ان جماعة ادعوا الإجماع على جواز رجوع الحائض إلى زوجها في نقل الفتوى و قد حكي هذا الإجماع عن الذكرى و صاحب المعالم و صاحبي المفاتيح و المصابيح و هو بإطلاقه يشمل حتى صورة فسق الزوج و صورة التمكن من الرجوع للمجتهد و لكن المحكي عن الضوابط جواز الرجوع للزوج الفاسق في حكاية الفتوى عن المجتهد مع الحرج و العسر عليها في معرفة فتوى المجتهد، و اما مع عدم العسر فلا لأن الضرورات تقدر بقدرها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 55

(الثالثة) [عند نقل الفتوى خطأ يجب اعلام المنقول إليه]

إذا نقل شخص فتوى المجتهد خطأ يجب عليه اعلام من تعلم منه و كذا إذا أخطأ المجتهد في بيان فتواه يجب عليه الاعلام، و قد بينا ذلك مفصلا في وجوب اعلام المجتهد مقلديه إذا تبدل رأيه فإن ما يصلح لدليله هناك يصلح هنا.

(الرابعة) [صحة الاعتماد على رسالة المجتهد و ان كانت بخط غيره]

الوجدان للفتوى في كتبه و رسائله سواء كانت بخطه أو بخط من يوثق به كالمطابع التي يعتمد عليها في طبع الكتب أو نفس المجتهد أو وكيله أعطاه إياها للعمل بها أو كانت ممضاة من قبله لأن الكتابة للرسالة بخط الغير تكون من قبيل الاخبار عن فتوى المجتهد فلا بد من حصول الوثوق بها و المذكورات من الأمور الموجبة للوثوق بها و الدليل على اعتبار الرسالة هو جريان السيرة على ذلك فإن كتابة القرآن و كتابة الروايات كلها يؤخذ بها و يعمل عليها و هكذا كتابة سائر الآراء و المعتقدات.

(خامسها) [تعارض الأدلة الدالة على الفتوى]

إذا تعارضت الأدلة الدالة على الفتوى فإن أمكن الجمع الدلالي بحمل الظاهر على الأظهر و غير النص على النص كما يجمع بين الأخبار المتعارضة تعين ذلك لأنه جمع عرفي قامت الحجة على صحته (و دعوى) انه إنما يصح إذا كان من متكلم واحد أو متكلمين في حكم الواحد و أما مع تعدد المتكلم موضوعا و حكما فلا وجه لصرف ظاهر كلام أحدهما بكلام الآخر إذ لا يكون كلام أحدهما قرينة على كلام الآخر (فاسدة) فإن ما نحن فيه من قبيل المتكلمين في حكم متكلم واحد لأن كل منهما ينقل رأي شخص واحد نظير الروايتين المتعارضتين هذا إذا أمكن الجمع الدلالي و إذا لم يمكن الجمع الدلالي فإن كان أحد الأدلة دال على الفتوى الفعلية الحالية للمجتهد دون الآخر أخذ بالدال على الفتوى الفعلية لأن الآخر إن كان دالا على فتواه السابقة فاستصحاب بقائها لا يجري لقيام الحجة على خلافه و إن كان الآخر مطلق أو ساكت أخذ بالدال على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 56

الفتوى الفعلية لأنه أصرح منه فيقدم عليه بمقتضى الجمع

الدلالي و لا وجه لما ذهب له بعضهم من أن العدول عن الرأي إذا كان محتملا و كان التاريخ مختلفا تعين العمل بالمتأخر فإن مجرد صدور أحد المتعارضين متأخرا لا يوجب التقديم على صاحبه مع اتحادهما في الدلالة و احتمال العدول يوجد في كل منهما إذ لعل المتقدم صدوره كان هو المشتمل على الرأي المتأخر للمجتهد فالحق هو ما ذكرناه من تقديم ما دل على الفتوى الحالية الفعلية، و إذا لم يكن أحدهما قد دل على ذلك فيؤخذ بالقطعي منهما دلالة و صدورا لان الظني إنما يكون حجة مع عدم القطعي، و إذا لم يكن أحدهما قطعي فقد قيل بالرجوع الى المرجحات في باب الاخبار و التخير عند التساوي بدعوى ان نقل الفتوى مثل نقل الاحكام فيتعدى من الترجيح و التخير فيها الى الترجيح و التخير فيما نحن فيه مضافا الى أن عموم أدلة نيابة الفقيه عن الامام (ع) في تبليغ الأحكام تقتضي ثبوت أحكام أقوال الإمام (ع) لقول الفقيه و من جملة ذلك الترجيح بالمرجحات المذكورة فيها (و لا يخفى ما فيه) اما الأول فلأنه قد تقدم منا في الرد عليه عند الكلام في ثبوت اجتهاد المجتهد بخبر العدل مضافا الى ما عرفت غير مرة من انصراف تلك الأخبار الدالة على التخير عند التساوي و الترجيح عند عدمه عن نقل الفتوى لان موضوعها الأخبار المتعارضة و الخبر ظاهر في نقل الحكم الشرعي الإلهي بخلاف نقل الفتوى فإنه نقل لرأي المجتهد في الحكم الشرعي. و اما الثاني فلأن أدلة النيابة ليست فيها هذه السعة و إنما تدل عند من قال بعموميتها على أن الوظائف الثابتة للإمام (ع) بعنوان الإمامة تثبت للمجتهد لا انه يثبت له

كل شي ء كان ثابتا للإمام (ع) و الأولى أن يقال أنه في هذه الصورة إن كان المجتهد المفتي جعل قانونا لصورة التعارض بأن قال يؤخذ بالرسالة أو يؤخذ بأعدل الناقلين كما صدر من بعضهم فهو و ان لم يجعل قانونا فمع التمكن من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 57

الرجوع اليه لاستيضاح الحال وجب الرجوع إليه لأن الأدلة التي أقمناها على حجية رسالة المجتهد أو نقل فتواه أو غير ذلك إنما القدر المتيقن منها هو حجيتها في غير صورة ابتلائها بالمعارض مع التمكن من معرفة رأي المجتهد. و أما إذا لم يتمكن من معرفة رأي المجتهد تخير بينهما لما عرفت من أن الأصل عند التعارض بين الحجج عندنا هو التخير ما لم يكن أحدهما أوثق من الآخر، و قلنا بانصراف دليل الحجية عن غير الأوثق أو أن الأوثق هو القدر المتيقن منها في صورة التعارض أو هو المقدم عند التعارض قدم الأوثق منهما و بهذا ظهر لك فساد ما ذكره السيد في عروته من تقديم السماع شفاها من المجتهد على النقل إذا تعارضا معللا له بعضهم بأن النقل طريق للسماع فالعلم بالسماع المخالف للنقل يستوجب العلم بمخالفة النقل للواقع. و وجه الفساد ان السماع منه ان كان يوجب القطع بفتواه قدم على النقل كما ان النقل عنه ان أوجب القطع بفتواه قدم على السماع لما عرفت من تقديم القطعي على الظني و إن كان السماع يفيد الظن كالنقل و كان أحدهما أوثق و قلنا بتقديم بالأوثق أخذ به و إلا فإن أمكن أن يستوضح منه الحال وجب ذلك و إلا فيتخير. و دعوى ان النقل طريق للسماع فاسدة. فإن النقل طريق للرأي كالسماع

فهو حاكي عن الرأي بواسطة السماع أو الكتابة أو القرائن أو نحو ذلك و طالما يشتبه المجتهد في نقل فتواه. و قد رأينا جملة من المجتهدين عند ما يسئل عن المسألة مع انه مفتى بها من قبل ينسى فتواه. و من هنا تعرف فيما ذكره (ره) من تقديم السماع على ما في الرسالة عند التعارض و من تقديم الرسالة على النقل و ما في تخصيص بعضهم الرسالة بكونها بخط المجتهد، فان المجتهد قد يخطأ في خطه.

و الحاصل ان هنا مسائل كتبناها فيما قبل:
(الاولى) في حجية كتاب المفتي

و الحق جواز الاعتماد على تأليف المفتي و كتابه و ما يكتبه في جواب المسائل وفاقا لجم غفير و جمع كثير بل لم نجد مخالفا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 58

في ذلك و هو المحكي عن النهاية و التهذيب و المبادي و المنية و الذكرى إلا انهم قيدوها بصورة الأمن من التزوير و هو خيرة المفاتيح و المصابيح لأنه لو لم يكن حجة لزم سد أبواب التكاليف و المعاملات و لأنه المعهود من سيرة المسلمين و لولاه لزم العسر العظيم و الحرج الشديد كما لا يخفى و عليه بناء العقلاء في أمور معادهم و معاشهم و معاملاتهم و تكسبهم فان كلها على الرجوع إلى كتب السلف و المكاتبات المرسولة من بلد إلى بلد فلو لم يكن حجة لزم اختلال نظم العالم و هدم أساس عيش بني آدم، ضرورة ان بنائهم مستقر على ذلك في كل ملة و نحلة و شيوع عملهم بكتب السلف من الأطباء الماضين و أهل التواريخ و غيرهم (و بالجملة) لا ريب في جواز التعويل على كتابه بل الظن الحاصل من كتابه أقوى من الظن الحاصل من قول العدل و لذا يقدم الكتاب

على خبر العدل حين التعارض عند العقلاء.

(الثانية) [يشترط في الرجوع الى كتاب المفتي ثبوت نسبة الكتاب له]

هل يشترط في جواز الرجوع إلى كتابه العلم بكونه من الفقيه الذي يريد تقليده أو ما يقوم مقامه من قول العدلين أو أخبار المفتي بأنه كتابه أم لا بل يكفي مطلق الظن في ذلك الحق هو الأول لما مر مرارا من عدم حجية الظن في الموضوعات الصرفة لعموم الأدلة الناهية ثمَّ هل يكفي إخبار الوكيل و ذي اليد بأنه كتاب المجتهد الفلاني و تأليفه أم لا فيه وجهان كما ان في قول العدل الواحد بأن ذلك تأليفه وجهان و لعل الأوجه هو الاكتفاء بالعدل الواحد و الوكيل و ذي اليد مع الأمن من التزوير.

(الثالثة) [كفاية كون كتاب المفتي بخط غيره و الظن بعدم تحريفه]

هل يشترط في ذلك أن يكون الكتاب بخط المفتي أم يكفي و إن كان بخط غيره و الحق هو الثاني لسيرة المسلمين و لزوم العسر و الحرج الشديد في الاقتصار على المكتوب بخطه. ثمَّ هل يشترط فيه العلم بكونه صحيحا ليس فيه غلط و لا ترك و لا زيادة و لا نقيصة و لا تصحيف و لا تحريف أم يكتفى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 59

بالظن به الحق هو الثاني لتعذر حصول ذلك العلم حتى للأشخاص الذين كانوا يقابلون ذلك الكتاب مع نسخة الأصل لاحتمال السهو و النسيان بل يتعذر إقامة العدلين على ذلك و شهادتهما بصحته، فإن غاية ذلك أن يكونا طرفي المقابلة و مع ذلك لا يحصل العلم للقاري بما في يد المستمع بل لا يحصل للمستمع العلم بما في يد القاري، و على فرض الإمكان بتكرر المقابلة بأن يأخذ أحدهما نسخة الأصل فيقرأه لصاحبه مرة و يستمع منه أخرى ثمَّ يعطيها لصاحبه و يأخذ منه النسخة التي كانت في يده فيقرأها له مرة ثمَّ يستمع

منه أخرى ليصير كل منهما شاهدا على صحة تلك النسخة و مطابقتها لنسخة الأصل فهو في غاية التعسر كما لا يخفى فالحق كفاية الظن في المقام حذرا من لزوم العسر و الحرج.

(الرابعة) [حجية ظواهر كلام المفتي و صحة الأخذ بها]

لا ريب في حجية نصوص كتابه لكن ظواهر ألفاظه كعامها و مطلقها و مفهومها و غيرها هل هي حجة أم لا (و بعبارة أخرى) هل يشترط في العمل بما دل عليه كتابه حصول العلم بأنه مراده من ألفاظه أم يكفي الظن بمراده الحق هو الثاني لأن الظنون الحاصلة بالمراد من الألفاظ الصريحة و الظاهرة كالعمومات و المطلقات حجة إجماعا. نعم لا عمل بمجملات ألفاظه و لا بمتشابهاتها و اما مفاهيم كلامه كمفهوم الشرط و الغاية و الحصر و غيرها مما قلنا بحجيته فهل هي حجة كالمناطيق أم لا؟ ذهب بعضهم إلى الأخير قال لأنا بعد ما استقرينا و تصفحنا في كلماتهم و فتاويهم وجدناهم غالبا يقيدون حكمهم في المسألة بقيد من شرط أو صفة أو غاية و لا يريدون بتعليق حكمهم عليه الانتفاء عند الانتفاء بل يريدون به ان مؤدى ظنهم هو ثبوت الحكم عند القيد المزبور (و بعبارة أخرى) ان ما اجتهدوا فيه و استقر عليه رأيهم هو ثبوت الحكم في محل القيد و ان ما عدى محل القيد لم يظهر لهم حكمه بعد و لم يجتهدوا فيه فهم في غير محل القيد من المتوقفين و المترددين لا انهم جازمون بانتفاء الحكم عند انتفاء القيد فهذه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 60

الاستقراءات في كلماتهم كاشفة عن توقف المفتي و تردده في غير محل القيد و صارفة للفظ عن معناه الحقيقي من انتفاء الحكم عند انتفاء القيد. (قلت) تلك الغلبة

لو سلمت ليست أغلب من استعمال الأمر في الندب و لا في استعمال العام في الخاص لأنه قيل في الأول ان استعماله في الندب من المجازات الراجحة و في الأخير ما من عام إلا و قد خص، و مع ذلك يحمل الأمر على الوجوب و العام على العموم عملا بظاهر اللفظ فيكون مفاهيم كتابة و ألفاظه حجة للإجماع على حجية ظواهر الألفاظ فإن لتعليق الحكم على الشرط أو الصفة أو الغاية فوائد كثيرة منها الانتفاء عند الانتفاء، و منها عدم علم المتكلم بما عدى محل القيد، و منها غير ذلك، فاذا قلنا ان الظاهر من التعليق على الشرط مثلا هو الانتفاء عند الانتفاء و وجب العمل بظاهر الألفاظ كما مر وجب العمل بمفهوم كلامه من غير اشكال و وجب على المتكلم أو المصنف الذي يعلق الحكم على شرط أو صفة و يريد به توقفه عن غير محل القيد و يرى دلالته على الانتفاء عند الانتفاء أن يبين ذلك بأن ينطق بالمفهوم و يخبر انه فيه من المتوقفين و إلا لزم الإغراء بالجهل فتدبر.

(الخامسة) [يصح العمل بالفتوى من دون لزوم الفحص عما يعارضها أو يخصصها]

هل يشترط في العمل بالفتوى المستفادة من كتاب المفتي الفحص عن ما يعارضها في تمام كتابه أم لا، الحق عدم اشتراط الفحص لبناء العقلاء و لزوم العسر و الحرج و لسيرة المسلمين و لفقد المقتضي فإن اشتراط الفحص في العمل بالأخبار على المجتهد إنما هو لأجل حصول العلم الإجمالي بأن أكثر الاخبار لا يكون خاليا عن المعارض و لا يكون مثل هذا العلم موجودا في المقام فلا يجب الفحص فيما نحن فيه.

(السادسة) لو تعارض فتوى المجتهد

الذي يريد تقليده في كتابيه أو في موضعي كتابه فإن علم تاريخ الاستنباط تعين العمل بالمتأخر و فتواه الأخيرة لأن كلامه الثاني رجوع عن الأول و إن جهل التاريخ فهل التقدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 61

و التأخر الكتبي يدل على التقدم و التأخر الاستنباطي ليتعين العمل بالمتأخر من حيث الترتيب أم لا الحق هو العدم لأنا نرى كثيرا من المجتهدين لا يكون تأليفهم على الترتيب فقد يكون تصنيفه في المعاملات مقدما على تصنيفه في العبادات و في العبادات ربما يقدم الصوم على الصلاة و الصلاة على الطهارات و في المعاملات ربما يقدم النكاح على البيع و الإجارة على الرهن و القضاء على النكاح بل ربما يقدم التصنيف في مبطلات الصلاة و الخلل على أجزائها أو أجزائها على مقارناتها أو يقدم الغسل على الوضوء و مع ذلك كيف يدل ترتيب الكتبي على ترتيب الاستنباطي و إن ما في كتاب الطهارة يكون مستنبطا قبل استنباط ما في كتاب الصلاة فعلى هذا يكون تعارض كتابيه أو موضعين من كتابه الواحد مع جهل تاريخ الاستنباط كتعارض الدليلين فجميع المراتب المذكورة فيها جارية هنا أيضا. و قد تقدم ذلك تحقيقا و تنقيحا فلا نطيل

الكلام بإعادتها.

(السابعة) [اخبار العدل بالفتوى من كتاب المفتي لا من قوله]

لو أخبر العادل بفتوى الفقيه ناقلا من كتابه فهل يجوز للمقلد أن يعمل به كما يجوز له العمل بنقله من سماعه أم لا و هل يجوز للعدل نقل فتواه لغيره من كتابه أم لا الحق جواز النقل من كتاب الفقيه للغير و جواز تعويل المقلد على ما نقله العدل من كتابه لسيرة المسلمين و بناء العقلاء و لزوم العسر و الحرج لولاه لأن أغلب الناس عوام لا يعرفون الخطأ و لو عرفوه لم يفهموا عبائر الكتاب بأسرها فيكون في الاقتصار على خبر لعدل فيما إذا سمعه من المجتهد دون ما وجده في كتابه ضيق شديد و حرج عظيم و هما منفيان في الشريعة السمحة السهلة مضافا الى إطلاق ما يدل على حجية خبر العدل فكما ان خبر العدل حجة و لو كان بواسطة عدل آخر بل و لو بوسائط عدول كذلك خبره حجة فيما إذا كان الواسطة بينه و بين المجتهد هو لكتاب فان كتاب الفقيه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 62

حجية شرعية كقول العدل الراوي عنه بل ربما قيل انه أقوى من قول العدل.

(الثامنة) [تعارض نقل العدل للفتوى مع كتاب المفتي]

إذا تعارض نقل العدل عن المفتي مع كتابه فمع العلم بالتاريخين أي تاريخ استنباط ما في الكتاب مع تاريخ سماعه تعين العمل بالمتأخر منهما و ان كان أحدهما معلوما و الآخر مجهولا تعين العمل بالمجهول لو بنينا على ان الأصل تأخر الحادث و ان كان تاريخهما معا مجهولين فهل يقدم الكتاب على خبر العدل أو العكس أو التوقف و الرجوع الى المراتب المذكورة في تعارض الدليلين و الأصح هو العمل بما في كتابه لأن الظن الحاصل من كتابه أقوى من الظن الحاصل من خبر العادل الراوي عنه

و يساعده بناء العقلاء كما لا يخفى.

(التاسعة) [إذا علم العامي بتبدل راي المفتي في بعض مسائل رسالته]

إذا علم المقلد إجمالا برجوع المجتهد عن بعض المسائل المدونة في كتابه و لم يعلمه تفصيلا، فهل يجوز له العمل بذلك الكتاب مطلقا أم لا أم يفصل بين التقليد الابتدائي و استمرار التقليد فان كان الثاني وجب عليه البقاء على تقليده الذي كان ثابتا قبل حصول ذلك العلم الإجمالي و ان كان الأول لم يجز الرجوع الى ذلك الكتاب، و التحقيق ان ذلك العلم الإجمالي ان كان في قليل كان من باب الشبهة المحصورة، فإن قلنا بعدم لزوم الاجتناب عن تمام الأمور المحصورة كما يظهر من الفاضل القمي (ره) كان وجود العلم الإجمالي كعدمه، و ان قلنا بعدم لزوم الاجتناب عن التمام إلا مقدار الحرام جاز له العمل بجميع مسائل الكتاب إلا خمسة مسائل منها من أي المسائل شاء لو علم بأنه رجع عن خمسة منها إجمالا و ان علم برجوعه عن عشرة إجمالا ترك العمل بعشرة منها و عمل بالباقي، و ان قلنا بلزوم الاجتناب عن الكل كما هو خيرة بعضهم لم يجز له العمل بشي ء منها و ان كان العلم الإجمالي في قليل من كثير كما لو علم برجوعه عن عشرة مسائل و كتابه مشتملة على عشرة آلاف مسألة فلا عبرة بهذا العلم الإجمالي و لا إشكال في شي ء من ذلك و انما الإشكال في صورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 63

واحدة و هي أن تكون الشبهة محصورة و قلنا بلزوم الاجتناب عن تمام الأمور المحصورة و هو قد قلده في تمام مسائل الكتاب و قلنا بحرمة الرجوع عن التقليد مطلقا و قد اختار بعضهم في المسائل البراءة في دوران الأمر بين الواجب

و الحرام و كون الشبهة مصداقية كاشتباه آخر رمضان بأول شوال و اشتباه الزوجة المنذور وطيها بالأجنبية انه إن كان أصل يرجح جانب الحرمة كما في اشتباه آخر الحيض بالاستحاضة أو جانب الوجوب كاشتباه آخر رمضان بأول شوال عمل بالأصل و مع فقد الأصل من الجانبين كالزوجة المنذور وطيها المشتبهة مع الأجنبية حكم بتعيين التخير البدوي و مقتضى ذلك الحكم بالتخير البدوي بأن يعين من مسائل الكتاب مقدار ما حصل له العلم الإجمالي برجوع مجتهده عنه ان خمسة فخمسة و ان عشرة فعشرة و يعمل بما عداها.

الشك في جامعية المفتي للشرائط

قد عرفت وجوب إحراز العامي جامعية المفتي للشرائط من حياته و عدالته و عقله و عدم تبدل رأيه و غير ذلك من الشرائط اما إذا شك فيها بعد تقليده له فان كان شكه فيها في بقائها بعد إحراز وجودها سابقا في المفتي استصحب بقائها و لا يجب عليه الفحص لعدم وجوبه في الشبهات الموضوعية و ان كان شكه سار و في أصل وجودها سابقا وجب عليه الفحص لإحرازها فيه بالطرق المتقدمة حتى يصح بقائه على تقليده له و الا وجب عليه العدول لمن أحرزها فيه من المجتهدين و اما اعماله الماضية فهي كما لو كانت واقعة بدون تقليد و قد تقدم حكمها فراجعه نعم قد يناقش في الاستصحاب في صورة ما إذا شك في حياته مع الشك في عروض الفسق أو عروض نحو ذلك مما يوجب عدم تقليده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 64

لعدم إحراز الموضوع وجدانا لكون الموضوع لها هو المجتهد الحي و المفروض انه شاك أيضا في حياته و في عروض ذلك عليه لو كان حيا و لا يصح إحراز الموضوع بالاستصحاب إذ

ليس من آثار بقاء حياته جواز استصحاب عدالته أو عدم تبدل رأيه أو بقاء عقله و هكذا ليس الشك في العدالة مسبب عن الشك في الحياة حتى يكفي عنه و قد أجاب استاذنا كا (ره) بأنه يكفي في الاستصحاب إحراز الموضوع على تقدير الحياة فالعدالة على تقدير الحياة مستصحبة و لا مانع منه و ما سمعته من وجوب إحراز الموضوع في الاستصحاب لا يراد منه أزيد من اتحاد القضية المتيقنة و المشكوكة و هو حاصل في الفرض و أضعف من التوهم المذكور ما يتوهم من انه لا اثر لاستصحاب الحياة عند الشك في الموت لان بقاء حجية الرأي إنما يترتب على الحياة عقلا باعتبار ان زوال الرأي بالموت انما هو بحكم العقل فإنه يندفع بضرورة كون اشتراط الحياة في المجتهد شرعيا و من جهة ان التقليد الابتدائي للميت لا يجوز لأدلة خاصة عندهم لا من باب حكم العقل: و عدم بقاء الرأي له بعد موته على تقدير تسليمه لا يمنع عن جواز الأخذ برأيه السابق فيكون الرأي نظير الخبر كما ان الأمر واضح على رأي استاذنا كا (ره) من ان الفتوى من أقسام الخبر الحدسي كما في غيره من أرباب أهل الخبرة في الصنائع

الجهة الثانية فيما يعتبر في الفتوى التي يقلد العامي المجتهد فيها
اشارة

و يعتبر في الأمور التي يرجع العامي فيها للمجتهد بحيث يكون رجوعه اليه صحيحا و يرتب عليه الآثار و يأمن به من العقاب أن لا تكون أحد الأمور الآتية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 65

الأحكام الضرورية

(الأول منها) الأحكام الضرورية

كوجوب الصلاة و نحوه فإنه لا يجوز التقليد فيها لعدم احتياج العامي إلى المؤمن من الوقوع في خلاف الواقع فان التقليد إنما يحتاجه لأجل الخوف من الوقوع في خلاف الواقع و في الضروريات قد انكشف له الواقع، و ان شئت قلت ان أدلة التقليد مقيدة بصورة عدم العلم و الضروري قد تعلق به العلم.

الأمور اليقينية

(الثاني منها) اليقينيات

كمن اعتقد بوجوب صلاة الجمعة لعين ما ذكرناه في الضروريات.

الأمور التي علم خطأ المجتهد فيها

(الثالث من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها)

الأمور التي علم بخطإ المجتهد فيها سواء قطع بخطئه في حكمه لأنه يكون حكما بغير ما أنزل اللّه عنده و لا يراه حكما شرعيا أو قطع بخطئه في مدركه و احتمل صحة الحكم فلأنه لم يره في هذه الصورة انه عالم بالحكم بل متخيل له، فلو كان المقلد عالما بالرجال و علم بخطإ مجتهده في عدالة الراوي و ثقته لم يجز له الرجوع في الفتوى المستندة الى ذلك، و هكذا لو كان عالما باللغة و علم بخطإ مجتهده في معنى لفظ الرواية لم يجز تقليده في الفتوى المستندة الى هذه الرواية و ربما يظهر من الشيخ الأنصاري (ره) في رسائله في مبحث تكافؤ المتعارضين الذهاب الى جواز التقليد و ان علم بخطإ المجتهد في مدركه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 66

الموضوعات الصرفة و المستنبطة

(الرابع من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الموضوعات الصرفة
اشارة

و المراد بها هي المصاديق الجزئية الخارجية المتعلق نوعها للأحكام الشرعية الكلية و تكون هي متعلقة للاحكام الجزئية (و ان شئت قلت) ان موضوعات الاحكام لا يجوز التقليد في تحققها في الخارج و حصولها فيه سواء كانت الموضوعات شرعية أو عرفية أو لغوية، و لذا أعاب الوحيد البهبهاني (ره) على من أمر بالتقليد فيها بقوله (ره) في فوائده ما يفعله بعض من يدعي الاجتهاد من الأمر بالتقليد في الموضوعات غفلة منه أو قصورا مثلا يقول فلان عندي عادل فصلوا خلفه و أقبلوا قوله أو شهادته أو يقول فلان مات فاقتسموا إرثه و تزوجوا زوجته الى غير ذلك من أمثال ما ذكر. نعم ان كان عادلا و يخبر بعنوان العلم و اليقين يكون شاهدا واحدا يعتبر شهادته في مقام اعتبار الشهادة بعد استجماع جميع شرائط القبول و مستند علمه الحس

لا الحدس.

و الى هذا أشار المرحوم عمنا الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في حاشيته على العروة حيث افتى بعدم جريان التقليد في مقام تطبيق الكبريات على الصغريات سواء كانت المفاهيم الكلية شرعية أو لغوية أو عرفية فلا يصح التقليد في ان هذا تراب أو ليس بتراب. و ذلك لعدم الإطلاق أو التعميم في أدلة التقليد. و دليل الانسداد و الارتكاز لا يجري في الموضوعات لانفتاح باب العلم فيها و لو سلمنا عمومها فهي مخصصة برواية مسعدة بن صدقه و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة و يؤيدها الرواية عن الصادق (ع) المحكية في الكافي و التهذيب في الجبن كل شي ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 67

ان فيه الميتة و لا ريب ان بالتقليد لم يستبين الشي ء و لم تقم عليه البينة فتكون مخصصة لأدلة التقليد كما تخصص أدلة حجية الخبر.

(ان قلت) ان دليل الانسداد يجري في الموضوعات الخارجية لانسداد باب العلم فيها (قلنا) لا يجري فيها ذلك لأن من مقدمات دليل الانسداد انه لو رجع إلى الأصول العملية يلزم عليه الخروج عن الدين و طرح الخطاب المنجز عليه و فيما نحن فيه لو رجع العامي إلى الأصول العملية لم يلزم عليه ذلك لانفتاح العلم بالموضوعات الخارجية عليه في كثير من الموارد و هي على ما عليه عند انفتاح باب العلم عند وجود الشارع بلا تفاوت فعلى الجاهل بالموضوعات الرجوع لفتوى مجتهده في الأصول العملية و على المجتهد ان يفتي له بالأصل العملي عند الشك في ذلك الموضوع لا بما يعلمه فيه فاذا شك في ان هذا ماء طاهر و

المجتهد يعلم بنجاسته افتى له بالطهارة لا بالنجاسة و هكذا في الهلال و (الحاصل) انه لا يجوز العمل بالتقليد في الموضوعات فإنه عمل بالظن الغير المعتبر. و منه يظهر انه لا يجوز التقليد في كون هذا اليوم أول الشهر و كون هذا الجلد خزا و هذا الإناء وقع فيه البول و ان الوقت قد دخل و ان القبلة من هذه الجهة (نعم) هناك موضوعات يقبل قول الغير فيها (منها) ما إذا قلنا بحجية مطلق الظن في مطلق الموضوعات الخارجية كان قول المفتي حجة فيها لإفادته الظن المطلق بها. و قد حكي عن بعض الأخباريين القول بحجية الظن المطلق في مطلق الموضوعات.

و حكى بعضهم عن المحقق القمي (ره) الذهاب اليه، و انه (ره) قد نسبه الى جماعة و لكن المستفاد من القوانين اعتبار الظن الحاصل من القرائن و العادات كما في غسالة الحمام و نحو ذلك مما تعارض الأصل و الظاهر المعنون في مطاوي الفقه و يظهر من المرحوم الأنصاري اعتبار الظن الاطمئناني بقول مطلق في جميع موارده و انه ملحق بالعلم و يحكى إصرار صاحب الجواهر (ره) على ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 68

و يحكى عن الشهيد الثاني (ره) القول بحجية الشياع الظني مطلقا نظرا الى أن حجيته أقوى من الظن الحاصل من البينة العادلة في غالب مواردها. و نقل عن المرحوم الشيخ محمد تقي الإجماع على اعتبار الظن في الأمور المستقبلة إلا أن التحقيق هو ما عليه المشهور من عدم اعتبار مطلق الظن في مطلق الموضوعات بل و لا الظن الاطمئناني إلا ما خرج بالدليل و ذلك لعدم قيام دليل على حجيته و قد تقرر في محله ان الظن الذي

لم يقم دليل على حجيته ليس بحجة لأن الأصل يقتضي حرمة العمل به كيف و قد قام فيما نحن فيه الدليل على عدم حجيته لما في رواية مسعدة بن صدقة و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة.

[الأدلة التي أقاموها على اعتبار مطلق الظن في مطلق الموضوعات]
اشارة

و قد استدل على حجية مطلق الظن في مطلق الموضوعات بأدلة:

(الأول) منها [انسداد باب العلم بالموضوعات و بالأحكام الجزئية المتعلقة بها غالبا]

و هو مبني على تمامية دليل الانسداد في الأحكام الشرعية بأن نجريه في خصوص الموضوعات بتقريب ان باب العلم بالموضوعات منسد غالبا و لا طريق إليها إلا الظن و الأحكام الجزئية متعلقة بها فيكون باب العلم منسدا فيها فاذا جاز العمل بالظني في الأحكام الكلية لانسداده فيها فيجوز العمل بالظني في الموضوعات الخارجية بالنسبة لأحكامها الجزئية لانسداد العلم بها من ناحيتها (و فيه) ان الموضوعات التي انسد فيها باب العلم ليس من الكثرة ما يوجب الرجوع فيها إلى الأدلة أو الأصول الخروج عن الدين (و دعوى) انا لو لم نرجع في كلها الى الظن و رجعنا فيها إلى البينة أو باقي الامارات كحكم الحاكم لحصل لنا العلم بمخالفة التكاليف الواقعية على سبيل الإجمال (فاسدة) فإن أغلب القواعد المقرر في الموضوعات يلزم فيها ذلك، ألا ترى ان العمل بقاعدة الطهارة يستلزم العلم بالنجاسة على سبيل الاجمال فهذا العلم الإجمالي لا يمنع من العمل بها. نعم الذي يمنع هو لزوم الخروج عن الدين كما قرر في مقدمات دليل الانسداد مع انا نقطع ان باب العلم كان منسدا في بعض الموضوعات الصرفة في زمان المعصومين (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 69

كما في زماننا و لم يكن منهم (ع) أمر بالعمل بالظن في الموضوعات. هذا مع ان دليل الانسداد إنما تثبت مقدماته معذورية الجاهل فيما انسد فيه باب العلم لفقد بيان الشارع فيما عليه بيانه، اما إذا انسد باب العلم في مورد ليس عليه بيانه كما لو كان من جهة الأمور الخارجية فهي لا تثبت جواز عمله بالظن مع ان الموضوعات ليست بمنوطة بأدلة أمارات

مضبوطة يمكن فيها دعوى الانسداد في هذا الزمان. (و قد يقرر دليل الانسداد) بوجه آخر بأن يجرى دليل الانسداد في سنخ الاحكام و ماهيتها الشاملة للكلية و الجزئية التي هي من لوازم الموضوعات الصرفة إذ الظن بكون المائع خمرا لازمه الظن بوجوب الاجتناب عن المائع المذكور (و فيه) ان ذلك إنما يثبت حجية الظن بنحو الإهمال و لا دليل على تعميمه بالنسبة للموضوعات لعدم جريان المقدمات فيها كما عرفت (و قد يقرر) بواسطة الاستلزام بعد اجراء دليل الانسداد في الاحكام بأن يقال ان الظن إذا كان حجة في الأحكام الكلية فلازمه أن يكون حجة في الأحكام الجزئية التي هي من لوازم الموضوعات الصرفة لأن الظن بالحكم الكلي يستلزم الظن بالحكم الجزئي الذي يبتني عليه (و فيه) ان هذا غير عام فان الظن بالحكم الجزئي قد لا يتولد نعم المتولد نلتزم بحجية الظن فيه دون غيره و إنما نرجع فيه الى البينة أو ما يقوم مقامها و ان فقد فنرجع الى القواعد الظاهرية المعول عليها.

(و قد يقرر) بواسطة الاستلزام بوجه آخر بأن يقال ان الظن بالموضوع الصرف و ان لم يكن حجة من حيث انه ظن في الموضوع الصرف لكنه مستلزم للظن بالأحكام الشرعية الفرعية فالظن بكون هذا المائع بولا مستلزم للظن بحرمته و هو ظن بالحكم الشرعي و الظن بالأحكام الشرعية حجة حسب الفرض فيكون الظن بالموضوع الصرف أيضا حجة من حيث انه مستلزم للظن بالحكم الفرعي (و فيه) ان القدر المتيقن من دليل الانسداد هو حجية الظن في الأحكام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 70

الكلية الإلهية الفرعية مثل الماء طاهر و الكلب نجس لا الظن في الأحكام الجزئية الشخصية التابعة للموضوعات

الخاصة مثل نجاسة هذا الكلب الخاص و طهارة هذا الماء.

(الثاني) من الأدلة على حجية الظن في الموضوعات ان ترك العمل بالظن فيها

يوجب المخالفة القطعية للقطع بوجود تكاليف في المظنونات على وجه يعلم لزوم ترك الواجب و ارتكاب المحرم من ترك العمل بالظن فيها و لو بتدريج الأيام و الشهور و بممر السنين و الدهور.

(و جوابه) قد عرفته مما سبق من انه مع الرجوع للقواعد المقررة في الموضوعات و الأصول الشرعية لا يلزم ذلك. و لو سلمنا لزومه فهو لا يضر فإن قاعدة الطهارة و نحوها يلزم منها العلم الإجمالي بارتكاب النجاسة و إنما يضر الخروج عن الدين بل الرجوع الى مطلق الظن أيضا قد يلزم منه العلم الإجمالي بمخالفة التكليف. و هذا الدليل يرجع لدليل الانسداد فان تمَّ تمَّ و إلا فلا.

و قد عرفت عدم تمامية دليل الانسداد في الموضوعات و انه لا فرق بين زماننا و زمان الشارع بالنسبة إليها.

(الثالث) [حجية الظن في الضرر]

أن بترك العمل بالظن في الموضوعات يلزم ظن الضرر و دفع الضرر المظنون واجب عقلا. (و جوابه) ان ترخيص الشارع بالرجوع للقواعد و الأصول يقتضي عدم الضرر الأخروي و تدارك الضرر الدنيوي و تحقيق الحق يطلب من تعاليقنا على الرسائل و الكفاية فإن هذا الدليل بنفسه قد ذكره المرحوم الشيخ الأنصاري و المرحوم الآخند على حجية مطلق الظن دليلا أولا و أجابوا عنه فراجع إن أردت زيادة التحقيق.

(الرابع) انه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح

و هو قبيح (و فيه) إنما يلزم لو ثبت ان العمل به أرجح و هو غير ثابت بعد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 71

جعل الطرق و الامارات و القواعد المقررة و إذا أردت التحقيق فراجع تعاليقنا على الرسائل و الكفاية فقد ذكروا هذا الدليل ثاني الأدلة على حجية مطلق الظن

(الخامس) [استلزام موضوعية الألفاظ للأمور الاعتقادية حجية الظن]

إن الألفاظ موضوعة للأمور الاعتقادية لا النفس الأمرية و لازمه حجية الظن لأنه من الاعتقاد (و فيه) ما تقدم في مبحث التخطئة و التصويب من عدم وضعها لذلك (و بالجملة) فالمرجع في ذلك الى الأمارات المعتبرة كالبينة و نحوها و مع فقدها فالمرجع الأصول العملية و من هنا لا يجب الفحص عن الموضوعات المشتبه و لا يجب الرجوع فيها إلى المفتي.

[الموضوعات التي يقبل فيها قول الغير]
اشارة

(و من الموضوعات) التي يكون قول الغير حجة فيها الموضوعات التي حكم الحاكم الشرعي بها كالأهلة و كموت زيد عند تنازع الورثة و كملكيته لهذه الدار عند الخصومة مع غيره في الملكية.

(و من الموضوعات) التي يكون قول الغير فيها حجة الموضوعات التي قام عليها قول أهل الخبرة فيها عند عدم التمكن من معرفتها ككون هذا الخاتم ذهب حتى يحرم لبسه. (و من الموضوعات) التي يكون قول الغير حجة فيها الموضوعات التي قام عليها قول ذي اليد كما في طهارة الشي ء و نجاسته. (و من الموضوعات) التي يكون قول الغير حجة فيها الموضوعات التي يعتبر فيها الظن و التخمين كما في دخول الشهر و القبلة و الوقت و قيم المتلفات و أرش الجنايات و مثل ضيق الوقت و الضرر و العدالة و النسب و الوقف لدليل الانسداد فيها، اما في الضرر فمن جهة اتفاق العلماء على حجية الظن بل و العقلاء في أمور معادهم و معاشهم و اما ما عدى الضرر فقد قيل انه من جهة دليل الانسداد في غالب مواردها فالرجوع الى الأصل يوجب طرح تلك الاحكام و يناقش في ذلك بأن جميع الوقائع بالنسبة لتلك الموضوعات لا يتفق عادة الابتلاء بها دفعة واحدة بحيث تصير محلا لابتلائه حتى يلزم من الرجوع الى الأصل

طرح الخطاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 72

المتوجه الى المكلف منجزا على ما هو المناط في منع الرجوع الى الأصل في الشبهة المحصورة نعم إذا علم في بعض المواضيع ان الشارع لا يرضى بمخالفة الواقع و مع الرجوع الى الأصول تحصل مخالفة الواقع كان الظن حجة كما في الضرر فإنه منسد فيه باب العلم غالبا و للشارع مزيد الاهتمام بعدم تضرر العبد بحيث يعلم عدم رضا الشارع بمخالفته للواقع الحاصلة بإجراء الأصول في جميع موارد الشك فيه لقلة الإصابة مع ارادة الشارع التخلص من الضرر مهما أمكن مع عدم وجوب الاحتياط فيه شرعا أو عدم إمكانه عقلا كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب و الحرمة كمسألة الصوم و الإفطار مثلا فلا محيص مع هذه المقدمات من اتباع الظن و يعرف من هذا حال باقي الموضوعات المذكورة نعم في الصلاة حكم معظم الأصحاب بجواز الظن بدخول الوقت في الغيم و الظاهر ان المستند هو الأخبار الدالة على جواز الصلاة في الغيم بظن دخول الوقت و (من الموضوعات المذكورة) الموضوعات التي لا تعلم إلا من قبل الغير كحيض المرأة و طهرها و (من الموضوعات المذكورة إقرار الإنسان على نفسه (و من الموضوعات المذكورة) أحوال الرواة فإن قول علماء الرجال فهم حجة مثل قولهم بعدالة زرارة بل حتى تصحيح العلماء للسند و تضعيفهم له في الكتب الفقهية إذا كان ذلك يوجب الثقة بصدور الخبر بناء على القول بحجية الخبر الموثوق و (من الموضوعات) المذكورة النسب فإنه يقبل فيه قول صاحب الفراش بأن هذا ولدي و (من الموضوعات) المذكورة الموضوعات التي يكون قول الغير مفيدا للاطمئنان بها كما ذهب اليه الشيخ الأنصاري (ره) و

صاحب الجواهر (ره) و يمكن أن يستفاد من قوله (ع) خذ بما لا ريب فيه و دع ما يريبك (و من الموضوعات المذكورة) ما إذا كان الرجوع للأصل في هذا الموضوع موجبا للوقوع في خلاف الواقع كثيرا جدا بحيث يعلم منه نقض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 73

غرض الشارع كما في القدرة على التكليف فان نوع التكاليف يشك في القدرة عليها قبل الشروع فيها و مقتضى الأصل البراءة فيستكشف من ذلك عدم عموم الأصل لهذا الموضوع و اعتبار الظن فيه و أما مجرد العلم بالوقوع في خلاف الواقع فليس بمحذور لما عرفت من ان أغلب القواعد يلزم منها ذلك كقاعدة النجاسة و للخصم أن يلتزم في هذا المورد بالاحتياط كما في الاعراض و النفوس فيحتاط بالإتيان بكل تكليف احتمل عدم القدرة عليه حتى مع الظن بعدم القدرة عليه. هذا إذا قلنا بأن القدرة شرط للتكليف. و أما إذا قلنا بأن العجز مانع و الأصل عدم المانع فالأمر سهل و الأصل يقتضي التكليف.

(و من الموضوعات) المذكورة دعوى الصبي الحربي الإنبات بعلاج ليلتحق بالذراري فإنه في المسالك ان الأقوى قبول قوله بغير يمين عملا بأن الشبهة تدرئ القتل و احتياطا في الدماء التي لا يستدرك فائتها. و لأصالة عدم البلوغ و عدم استحقاقه القتل، و قيل يقبل قوله مع اليمين لأنه محكوم ببلوغه ظاهرا و استحقاقه للقتل فدعواه لا تثبت إلا بمثبت و أقله اليمين. و المحقق ذهب الى عدم قبوله مطلقا إلا بالبينة لوضع الشارع الإنبات علامة للبلوغ و قد وجدت هذه العلامة و دعواه المعالجة خلاف الظاهر فيفتقر إلى البينة و قد ذكر صاحب المسالك عدة موارد يقبل فيها دعوى المدعي نذكرها

و إن كان لنا النقاش في بعضها (منها) دعوى البلوغ و قد قيده بعضهم بدعوى الاحتلام و أما السن فيكلف البينة لإمكان إقامتها عليه و أما الإنبات فبالمشاهدة لأن محله ليس من العورة على الأشهر و بتقديره هو من مواضع الضرورة (و منها) دعوى انه من أهل الكتاب لتؤخذ منه الجزية (و منها) دعوى تقدم الإسلام على الزنا بالمسلمة حذرا من القتل (و منها) دعوى فعل الصلاة و الصوم خوفا من التعزير (و منها) دعوى الولي إخراج ما كلف به من نفقة أو غيرها و دعوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 74

الوكيل فعل ما وكل به قال في المسالك و في هذين نظر (و منها) دعوى المعير و مالك الدار لو نازعه المستعير و المستأجر في ملكية الكنز على قول مشهور.

(و منها) دعوى ذي الطعام انه لم يبقه إلا لقوته في نفى الاحتكار (و منها) قول المدعي مع نكول خصمه بناء على القضاء بالنكول (و منها) دعوى مدعي الغلط في إعطاء الزائد على الحق لا التبرع (و منها) دعوى المحللة للإصابة (و منها) دعوى المرأة فيما يتعلق بالحيض و الطهر كالعدة (و منها) دعوى الظئر أنه الولد (و منها) دعوى منكر السرقة بعد إقراره مرة لا في المال (و منها) دعوى هبة المالك ليسلم من القطع ان ضمن المال (و منها) دعوى إنكار موجب الرجم الثابت بإقراره (و منها) دعوى الإكراه في الأقوال المذكورة (و منها) دعوى الجهالة مع إمكانها في حقه (و منها) دعوى الاضطرار في الكون مع الأجنبي مجردين (و منها) دعوى إنكار القذف بناء على عدم سماع دعوى مدعيه.

(و منها) دعوى رد الوديعة على القول المشهور. قال في المسالك

و ضبطها بعضهم بأن كل ما كان بين العبد و بين اللّه و لا يعلم إلا منه و لا ضرر فيه على الغير أو ما تعلق بالحد و التعزير.

(و من الموضوعات) التي يكون قول الغير فيها حجة عقيدة الإنسان فإن قول الشخص حجة فيها فإنه إذا قال الشخص مذهبي و عقيدتي كذا قبل قوله بدليل قبول رسول اللّه (ص) و الأئمة ذلك بل السيرة عليه.

(و من الموضوعات) المذكورة ما استأجر عليه الشخص من العبادات فإن أخبار الأجير بإيقاعها يقبل لقيام السيرة على ذلك.

(و من الموضوعات) المذكورة فتوى المجتهد فإنه يقبل اخبار الغير عنها كما تقدم ص 53 و ص 61.

(و من الموضوعات) المذكورة ما أخبر به الإمام أو المأموم إذا شك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 75

أحدهما في الصلاة.

(و من الموضوعات) المذكورة إبدال النصاب في أثناء الحول فان دعوى المالك تقبل و إن كانت لنفى الزكاة عنه كما هو المحكي عن جماعة من الأصحاب و كذا تقبل دعواه دفع الزكاة إلى المستحق و دعوى نقص الحب و الثمرة و الزرع لينقص عنه ما قرر عليه من مقدار الزكاة و يمكن أن يستدل له بما روي عن أمير المؤمنين (ع) من أمره الجابي بسماع قول مالك المال بأداء الزكاة أو عدم تعلقها بماله مع فتوى المشهور بذلك بل نقل الإجماع عليه عن جماعة و نقل عدم الخلاف عن آخرين.

(و من الموضوعات) المذكورة الإسلام فإن دعوى الذمي الإسلام قبل الحول ليتخلص من الجزية تقبل منه و استدلوا على ذلك بنقل الإجماع عليه عن جماعة و نقل عدم الخلاف عن آخرين ففي هذه الأمور حتى المجتهد يرجع للغير فيها فهي ليست من باب التقليد للمفتي

هذا حال الموضوعات باعتبار تحققها (و أما باعتبار ماهيتها الموضوعة لها) أو المرادة منها عند الخطاب سواء كان من جهة المادة أو من جهة الهيئة كالمشتق أو من جهتهما معا فالموضوعات للأحكام المعلومة الماهية كالحنطة و الشعير و الماء التي تسمى بالمقطوعة لا يجوز التقليد فيها لعدم الجهل بماهيتها، و أما ما كان من الموضوعات التي يحتاج الى الفحص و التأمل في معرفة معناها و تسمى بالموضوعات المستنبطة لأنه لا بد من استفراغ الوسع في استنباطها كالصلاة و الغناء فما كان منها شرعيا أي موضوعا عند الشارع كالصلاة و الأذان و الإقامة و الكر و الاستبراء و العدالة و البلوغ و النصاب الى غير ذلك من الموضوعات المستنبطة الشرعية على القول بالحقيقة الشرعية. فالمقلد يرجع في تعيين ماهيتها للمجتهد لأن ذلك من الأمور الراجعة للشارع تعينها و تميزها لأن أدلة البينة إنما خصصت أدلة التقليد بالنسبة للموضوعات الغير الشرعية. و أما ما كان منها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 76

موضوعا عند المتشرعة فيرجع فيها للمتشرعة كالصلاة و الحج بناء على انها موضوعات لمفاهيمها عند المتشرعة فإنه يرجع المقلد للمتشرعة في تشخيصها و حيث ان المجتهد منهم جاز ان يرجع له في ذلك بما هو من المتشرعة لا بما هو مجتهد لأنها من الموضوعات الخارجية على هذا و أما ما كان منها موضوعا عند اللغة أو العرف كلفظ الصعيد و التراب و الغناء و كبعض ألفاظ المعاملات فإنه يرجع في معرفة ماهياتها الى أهل وضعها و ليس من وظيفة الشارع بما هو شارع بيان ماهياتها عند أهلها فأدلة التقليد لا تشملها نظير أدلة خبر الواحد كما تقدم في الموضوعات الصرفة، نعم قد يرجع

الى المجتهد بما هو من أهل الخبرة بمعناها بل قد يرجع المجتهد للمقلد فيها باعتبار أن المقلد من أهل الخبرة فيها كما يرجع فيها لأصالة عدم النقل و أصالة عدم تعدد الوضع و أصالة عدم القرينة لأن حجيتها اجماعية و لقول اللغوي بناء على حجيته و للأمارات الظنية كالتبادر و صحة السلب و الاطراد و نحوها بناء على حجيتها و الغريب من استاذنا المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي قدس اللّه سره حيث ذهب الى أن التقليد يجري فيها إذا لم يتمكن العامي من تعلمها عرفا أو لغة إذ لا طريق له حينئذ غيره فإن العامي إذا لم يتمكن من تحقيق مفهوم الغناء أو الصعيد بنفسه فأي طريق له الى رفع الشبهة من مواردها غير التقليد خصوصا من يرى الدليل على جواز التقليد في الفروع قاعدة رجوع الجاهل الى العالم و السيرة الجارية على مراجعة الناس في كل صنعة الى أهل خبرتها.

و قد عرفت ان المجتهد بما هو مجتهد ديني ليس من أهل الخبرة بالمعنى اللغوي أو العرفي فلا يصح تقليده في ذلك نعم يرجع له لو كان من أهل الخبرة بالمعنى اللغوي أو العرفي و لكن لا بملاك حجية التقليد بل بملاك حجية قول أهل الخبرة إذا كان هو منهم و مع عدم وجود أهل الخبرة و عدم التمكن من تعلمها فان قلنا بحجية الظن فالمتتبع هو و إلا فالمرجع هو الأصول العملية لا تقليد المجتهد إذا فرض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 77

انه ليس من أهل الخبرة. و الحاصل انه لا يصح الرجوع إليه في هذه الأمور إلا باعتبار انه من أهل الخبرة و يكون الرجوع اليه من باب الرجوع لأهل الخبرة

فلا يرتب عليه آثار التقليد حتى ان المقلد لو التزم بالأخذ بجميع أقوال المجتهد و قلنا ان التقليد هو الأخذ لم يكن في أخذه بقول أهل الخبر كصاحب القاموس و نحوه عدولا عن التقليد بل يجب الأخذ بقولهم و إن لم يكونوا فقهاء و لا مسلمين إذا كانوا أعلم من المفتي و لو كان ذلك من باب التقليد لما جاز ذلك و أما دليل الانسداد فقد عرفت عدم جريانه في المقام لعدم الخروج عن الدين بالرجوع الى الطرق المقررة لمعرفة الموضوعات الخارجية و إن عدمت فإلى الأصول العملية كما تقدم توضيح ذلك. و استدل بعض شارحي العروة على جواز التقليد في هذه الأمور بأن البناء على عدم جواز التقليد فيها يقتضي البناء على وجوب الاجتهاد فيها أو الاحتياط و لا يظن أحد يلتزم بذلك و لا يخفى ما فيه لأن الاجتهاد فيها هو المتعين مع التمكن منه أو يرجع لأهل الخبرة و مع عدم التمكن اما أن نقول بحجية الظن من باب الانسداد و إلا فيأتي بالمقدار الذي يتمكن منه مضافا الى أن المرجع له هو الأصول العملية اجتهادا أو تقليدا فإن العامي يرجع لمجتهده عند الشك في الموضوع أو عدم معرفته، و استدل بعضهم على الرجوع فيها للمجتهد بأن الشك في معناها يرجع الى الشبهة الحكمية و المرجع فيها هو المجتهد فلا بد فيها من التقليد و لا يخفى ما فيه فان هذا عين المدعي فإنه يرجع الى أن الشبهة المفهومية يرجع فيها للمجتهد أو يرجع العامي فيها لاجتهاده أو أهل الخبرة. و استدل بعضهم على جواز التقليد فيها هو ان تعرض الفقهاء في كتبهم الفقهية و رسائلهم العملية لمعانيها يدل على جواز تقليدهم

فيها إذ لولاه لما كان لتعرضهم لها كثير فائدة مضافا الى استمرار السيرة قديما و حديثا على التقليد فيها. و لا يخفى ما فيه فان المذكور فيها نوعا هو ألفاظ الماهيات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 78

المستحدثة لا معاني الألفاظ اللغوية و العرفية و لو ذكر بعضها فباعتبار انه من أهل الخبرة فيها هذا كله مع ان اخبار التقليد لا عموم فيها لها حتى يتمسك بها على حجية قول المفتي في الموضوعات سوى المقبولة و هي ظاهرة في الحكم لا في الفتوى مضافا الى إمكان دعوى الإجماع المحصل على عدم حجية التقليد فيها فان نوع من ذكر التقليد في الأحكام خصه بالأحكام الشرعية و أخرج الموضوعات منه

[حجية الظن المطلق في الموضوعات المستنبطة]

نعم يكون قول الغير حجة في الموضوعات المستنبطة إذا أفاد الظن لأن الظن المطلق حجة في الموضوعات المستنبطة لنقل الإجماع على ذلك عن جماعة منهم العضدي و المحقق الشيرواني و هو المحكي عن المرحوم الكرباسي عن السيد المرتضى (ره) و عن الاخبارين و لكن السيد السند صاحب الرياض (ره) أنكر حجية الظن المطلق في ذلك، و الحق ان حجية الظن المطلق في ذلك مشهورة شهرة عظيمة كادت أن تكون إجماعا و يدل على حجيته أمور:

(الأول) هو بناء العقلاء على ذلك و سيرتهم فإنه مجرد حصول الظن لهم بمعنى اللفظ من الطرق العادية المتعارفة بنوا على ذلك.

(الثاني) إن أغلب الألفاظ المستعملة في كلمات الشارع ليس لنا علم بمعناها بتفاصيلها على سبيل القطع فلو نعمل بالعلم في تشخيص معناها لزم اما الاحتياط و هو عسر أو الخروج عن الدين و هو باطل بخلاف ما إذا أخذنا بمعناها المظنون.

(الثالث) إن بناء أهل المحاورة على الأخذ بالظهور سواء

كان قطعيا أو ظنيا أعم من أن يظنون بالوضع أم لا و بنائهم هذا حجة لأن الشارع جرى معهم على هذه الطريقة إذ لو لم يجر لنقل ذلك إلينا لتوفر الدواعي لنقله لكن هذا لا يكون من باب التقليد لأنه إذا لم يحصل الظن لم يأخذ به كما ذكره بعض المحققين، و الحاصل ان الظن الحاصل في الموضوعات المستنبطة حجة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 79

سواء تعلق بتشخيص الظواهر كما لو ظن من الشهرة بثبوت الحقيقة الشرعية أو أن الأمر ظاهر في الوجوب لأجل الوضع أو أن الأمر عقيب الخطر ظاهر في رفع الخطر لأجل القرينة العامة و نحو ذلك و بين ما تعلق بتشخيص المرادات كما لو ظن من تفسير الراوي للرواية أو القرائن الظنية الحالية أو المقالية بل بعضهم التزم حجية الظن في ذلك حتى في الموارد التي لا يترتب عليها الحكم الشرعي الكلي كالوصايا و الأقارير و النذور.

مسائل العلوم الغير الشرعية

(الخامس من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) مسائل العلوم غير الشرعية

كمسائل النحو و الصرف و الهندسة و الحساب و الهيئة لعين ما ذكرناه في الموضوعات.

(إن قلت) ان من مسائل العلوم العربية يحتاج إليها في تصحيح القراءة و الذكر و الأذان و الإقامة و صيغ العقود و الإيقاعات مثل مسائل الإدغام و المد و رفع الفاعل و نصب المفعول و إن من مسائل الهندسة ما يحتاج إليها في تعيين القبلة و من مسائل الحساب ما يحتاج إليها في تقسيم المواريث و من مسائل الهيئة ما يحتاج إليها في تعيين الوقت فلا بد للعامي من التقليد لعموم أدلته. (قلنا) هذا الإيراد ذكره بعض شارحي العروة و لكن قد عرفت مما ذكرناه في عدم جواز التقليد في الموضوعات أن أدلة التقليد

إنما تخص الأمور التي أمرها يرجع للشارع نظير حجية الخبر و إنما على العامي أن يعرف صحة قراءته و القبلة و الوقت أما بنفسه أو بالبينة أو بالرجوع الى أهل الخبرة و الفن عند عجزه عن معرفتها بنفسه و هذا الرجوع لا يترتب عليه آثار التقليد و لذا يجوز الرجوع في ذلك الى علماء الفن و إن لم يكونوا فقهاء مع ان شرط التقليد الفقه بل المجتهد مع عجزه يرجع لمقلده فيها إذا كان من أهل الفن و المعرفة فالمقلد يقلده في الحكم و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 80

وجوب صحة القراءة و الصلاة الى القبلة و المجتهد يرجع لمقلده في تلك المسائل نعم إذا كان المجتهد من أهل الخبرة في تلك المسائل صح للمقلد أن يرجع اليه لكن لا باعتبار انه مجتهده بل باعتبار انه من أهل الخبرة فيها و لا يرتب على رجوعه اليه آثار التقليد.

مسائل أصول الفقه

(السادس من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) مسائل أصول الفقه

لأن ما كان منها شرعية كالأصول العملية في الشبهات الحكمية و كحجية خبر الواحد و نحو ذلك فإنها و إن كان يصح للعامي أن يرجع فيها للمفتي إلا انه لا أثر لتقليده فيها لعدم إمكانه العمل بها لفقده شروط العمل بها من الفحص عن المخصص و المقيد و المعارض و الناسخ و تمييزه الصحيح عن غيره و أما ما كان يمكنه العمل بها و لا يتوقف العمل بها على أمر غير مقدور له فيجوز أن يقلد المجتهد فيها كمسألة البقاء على تقليد الميت و مسألة العدول عن المفتي في موارد احتياطاته لغيره بناء على كونها من مسائل الأصول نعم لو فرض أن العامي تمكن من الفحص كما إذا كان مراهقا للاجتهاد

فلا مانع من التقليد فيها كما انه لو فرض ان المجتهد قد فحص و رفع موانع العمل بها كان للمجتهد أن يفتي بأن المورد مورد هذه الآية أو هذا الخبر أو هذا الأصل و العامي يقلده في ذلك، و أما ما كان من مسائل الأصول ليست بشرعية سواء كانت لغوية كمسألة دلالة الأمر على الوجوب و نحوها أو عقلية كمسألة اجتماع الأمر و النهي أو غيرها فلا يجوز تقليده فيها لما ذكرناه في عدم جواز تقليده في مسائل العلوم و إن شئت فقل ان مسائل أصول الفقه هي التي تقع في طريق الاستنباط للحكم الشرعي و مع التقليد فيها لا يصح الاستنباط لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات فيكون مقلدا في الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 81

الشرعي المستنبط بها إلا اللهم أن يقال لا مانع من عمل الإنسان بالحكم الذي يستنبطه بهذا النحو و لا دليل على فساد هذا النحو من الاجتهاد نعم لا يجوز رجوع الغير اليه فيها لأنه يكون في الحقيقة مقلدا لغيره (و قد استدل بعضهم) على عدم جواز التقليد في المسائل الأصولية بأن القدر المتيقن من أدلة التقليد هو خصوص المسائل الفرعية لأنها اما مجملة أو منصرفة عن المقام. و جوابه ان من رجع إليها يجد فيها الإطلاق لا سيما بملاحظة أن التقليد فطري و بعضهم كالمرحوم السيد كاظم (ره) في كتابه التعادل و التراجيح استدل بالإجماع على عدم جواز التقليد فيها و الانصاف ان دعوى الإجماع في مثل هذه المسألة المستحدثة لا تقبل لا سيما مع احتمال استناد المجمعين لما سبق لا سيما مع فتوى الكثير بجواز التقليد في بعض المسائل الأصولية كالبقاء على تقليد الميت هذا

و لكن الظاهر من المرحوم الآخند في كفايته انه يجوز للعامي بعد تقليده المجتهد في عدم الامارة في المورد أن يرجع لعقله في إجراء الأصول دون أن يرجع للمجتهد فيها، كما انه لا إشكال في جواز تقليده في الأصول العملية في الشبهات الموضوعية لعدم توقف إجرائها على الفحص و لو سلمنا توقفها على الفحص فهو ممكن له و ليست هي من مسائل علم الأصول بل هي من مسائل علم الفقه.

أصول العقائد

(السابع من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) أصول العقائد
اشارة

و هي الأمور التي يطلب فيها عمل الجوانح لا الجوارح من العلم بها و الاعتقاد فيها و البناء عليها و التدين بها و الإقرار باللسان بها كالاعتقاد بوجود اللّه و توحيده و عدله و نبوة نبينا محمد (ص) و امامة أمير المؤمنين علي (ع) و من بعده الأئمة الأحد عشر و وجود المعاد الجسماني بعد الموت و لتوضيح الحال في هذه المقام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 82

نحرر الكلام هنا في مسألتين:

(إحداهما) جواز العمل بمطلق الظن بناء على حجيته أو الظن المعتبر

كخبر الواحد في أصول العقائد أو انه لا بد من تحصيل العلم بها و لا يكفي الظن أو انه لا يجب هذا و لا ذاك و إنما يكفي التدين بها و عقد القلب عليها و لا يجب تحصيل العلم بها و لا الظن فيها و هذه المسألة ترجع الى تشخيص متعلق التكليف بها و مقداره و إن متعلق الوجوب فيها ما هو فهل هو المعرفة و العلم بها فقط أو مع التدين بها أو يكفي الظن المعتبر فيها و يقوم مقام العلم كما في الأحكام الشرعية أو الظن المذكور مع التدين بها أو كفاية التدين بها فقط من دون العلم بها أو الظن بها و إنما يجب العلم أو الظن من باب المقدمة للتدين لو توقف التدين عليهما و هذه المسألة تعرض لها الأصوليون في أواخر باب حجية الظن لبيان شمول أدلة حجية الظن لأصول العقائد و إن الظن الذي هو حجة في الأحكام الفرعية يكون حجة في أصول العقائد و يقوم مقام العلم بها و لما كان هذا البحث ينجر الى البحث في مقدار متعلق الوجوب فيها لذا بحثوا عن ذلك هناك و الظاهر ان الجميع ذهب الى وجوب

التدين بها و لكن بعضهم اكتفى به و بعضهم الى وجوب العلم بها مع التدين و مع عدم التمكن من العلم يتدين بالواقع و لا يجب عليه تحصيل الظن بل لا يجوز له فهو يعقد قلبه على ما هو الواقع في المعاد الجسماني و مسألة القضاء و القدر و مسألة أن صفات اللّه عين ذاته أو يعقد قلبه على ما جاء به محمد (ص) في مسألة الإمامة و بعضهم التزم بوجوب تحصيل الظن بها عند عدم التمكن من تحصيل العلم و بعضهم التزم بكفاية الظن المعتبر فيها و قيامه مقام العلم حتى مع التمكن من العلم بها فهذه المسألة تكون أجنبية عن مسائل الاجتهاد و التقليد و لا ربط لها بها بالكلية و عليه فلا وجه للتعرض لها في مباحث الاجتهاد و التقليد كما صدر عن بعض المحققين من المتقدمين و من المتأخرين، و ليعلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 83

ان بين التدين و العلم بحسب الذات التباين لأن العلم له كاشفية عن الواقع بخلاف التدين فإنه ليس له أدنى كاشفية عن الواقع كالرضاء و الحب و هو الذي يكون موجودا في موارد العقود و النذور و الايمان و أما بحسب الوجود و التحقق فبينهما عموم من وجه فقد يحصل العلم مع التدين كما في علم الأئمة (ع) و تدينهم بأصول الدين و قد يحصل العلم بدون التدين كالكفار العالمين بنبوة محمد صلى اللّه عليه و آله الجاحدين لها و قد يحصل التدين بدون العلم كما في الموارد التي تقوم عليها الأمارات المعتبرة كما لو قامت البينة على ملكية زيد للدار فيحصل التدين دون العلم و نحو ذلك. و أما ما ذكره

المرحوم الأصفهاني في حاشيته من ان عقد القلب لازم دائمي للتصديق العلمي و المعرفة و المراد من جحود الكفار ليس عدم عقد القلب مع اليقين بل عقد القلب ملازم لليقين و إنما حجودهم من جهة عنادهم و معاداتهم لرسول اللّه تحفظا على الجاه و استكبارا على اللّه تعالى. ففيه انك قد عرفت ان عقد القلب هو البناء على الشي ء و هذا لا يلازم التصديق به فان الكاذب يبني على خلاف ما يعتقده و يرتب الأثر على كذبه و يعقد نفسه عليه و سيجي ء له زيادة إيضاح عند تحرير الكلام في هذه المسألة و بيان ما هو الحق فيها.

(المسألة الثانية) [في جواز التقليد في العقائد]
اشارة

هي أنه سواء قلنا بكفاية التدين في أصول العقائد أو وجوب العلم بها أو كفاية الظن فيها فهل يكفي ذلك مطلقا سواء حصل من الدليل عليها أو من التقليد فيها فمثلا لو بنينا على وجوب التدين في أصول العقائد فهل يجب أن نتدين بها عن دليل عليها أو يكفي أن نقلد فيها و نتدين بما ذهب اليه مقلدنا فيها و هكذا لو قلنا بوجوب العلم بها فهل يجب أن يكون العلم عن دليل عليها أو يكفي حصول العلم من التقليد فيها فان التقليد طالما أفاد العلم بالمقلد به و إذا قلنا بكفاية الظن فهل يجب الظن عن دليل أو يكفي عن التقليد فيها و هذه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 84

المسألة هي الاولى من مسائل علم الكلام حيث يبحث فيها عن ان الإسلام و الايمان هل يتحقق بمعرفة أصول العقائد و لو بالتقليد أم لا بد من الاجتهاد فيها و تحصيل الدليل عليها و هي المسألة التي يبحث عنها في مسائل الاجتهاد و التقليد.

و لا بأس بتحقيق في الحال المسألتين:

[المسئلة الاولى الأدلة على وجوب التدين بالعقائد]
اشارة

(أما المسألة الأولى) فقد ذهب جماعة الى أن الواجب هو التدين و عقد القلب و التسليم الباطني و الانقياد القلبي المستتبع للإقرار اللساني و الذي من آثار كماله الرضا بقضاء اللّه و قدره و اجتناب نواهيه و فعل أوامره كما هو ظاهر ملا محسن الفيض في الوافي و القمي في قوانينه و لعله قول كل من ذهب الى كفاية الظن بأصول الدين كما هو المحكي عن جماعة منهم: المحقق الطوسي (ره) و الأردبيلي (ره) و تلميذه صاحب المدارك (ره)، و عن ظاهر الشيخ البهائي (ره) و العلامة المجلسي (ره) و غيرهم و يمكن أن يستدل له بوجوه:

(الأول) انه فعل اختياري مقدور للإنسان بخلاف العلم و اليقين و المعرفة فإنها ليست بمقدورة للإنسان فلا يعقل التكليف بها.

(إن قلت) انه مقدور بالواسطة فإن العلم بالعقائد مقدور بواسطة القدرة على تحصيل الدليل عليها. (قلنا) الدليل ليس بعلة تامة لحصول القطع بها و إنما هو من قبيل المقتضي فإن النفس إذا كانت مشوبة بالأوهام و التشكيكات لم يؤثر فيها الدليل القطعي بالنتيجة و هكذا مثل نفوس الطبقات المنحطة فان الدليل لا يولد فيها القطع بالنتيجة. و يؤيد ذلك ما روي عن زرارة عن الصادق (ع) قال:

ليس على الناس ان يعلموا حتى يكون اللّه هو المعلم فاذا علمهم فعليهم أن يعملوا و ما روي عن صفوان قال: قلت للعبد الصالح هل في الناس استطاعة يتعاطون بها المعرفة؟ قال: لا، و إذا كانت المعرفة غير مقدورة فلا يعقل أن يتعلق بها التكليف فيكون متعلقه هو عقد القلب و إقراره إذ لا شي ء غيرهما يحتمل انه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 85

متعلقه

و لكن هذا الدليل إنما يقتضي عدم وجوب العلم لمن لا يتمكن منه لا مطلقا و هذا شأن سائر الواجبات الجوانحية و الجوارحية.

(الثاني) من الوجوه ان اليقين المستولد من القضايا البديهية المرتبة ترتيبا صحيحا متعسر جدا لا يحصل إلا للأوحدي من الناس فلا يقع التكليف به لجميع الخلق لقوله تعالى مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. و لقوله (ص) بعثت بالحنيفية السهلة السمحة. (و الجواب) إن تحصيل اليقين بأصول الدين ليس فيه صعوبة و لا يلزم في تحصيل اليقين ترتيب المقدمات على النهج الموجود في علم المنطق فان العوام يحصل لهم اليقين بأشياء كثيرة من دون ترتيب للمقدمات و لذا حكي عن الكثير من أهل العدل و غيرهم إنهم قالوا إن العوام و النساء من المؤمنين من أهل الجمل أي إنهم حصل لهم العلم بالأصول الدينية بالدليل الإجمالي نعم المستضعفون الذين لا يقدرون على تحصيل اليقين حتى من الدليل الإجمالي هم ليسوا بمكلفين بذلك لعدم قدرتهم.

(إن قلت) إن الفرق بين الدليل الإجمالي و التفصيلي باطل كما حكي عن العلامة (ره) في نهايته لأن دليل المسألة إن حصل بجميع مقدماته فهو دليل تفصيلي و إن لم يحصل بجميعها فهو لا يفيد اليقين و إن حصل بعض مقدماته و البعض الآخر بالتقليد كانت النتيجة تابعة للتقليد فقطع العامي الغير المطلع على الدليل لا بد و أن يكون تقليدا. (و جوابه) ان العامي يحصل له العلم من الدليل البسيط من دون التفات الى دفع الشبهات عنه أو عن مقدماته فهذا يسمى بالدليل الإجمالي.

(الثالث) من الوجوه هو السيرة المستمرة فإن أغلب المسلمين إن لم يكن كلهم ليس عندهم قطع و يقين بالعقائد الإلهية و المعارف الدينية و إنما

عندهم عقد القلب على ذلك فلو كان المعتبر هو اليقين و القطع لزم استحقاقهم العقاب بل لزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 86

أن يكون الظان بأحد أصول الدين كافرا و إن كان عالما بالباقي و يترتب على ذلك ما هو خلاف الضرورة من عدم قبول شهادتهم و نحو ذلك لعدم تمكنهم من تحرير العقائد بالأدلة القاطعة. و فيه ان للخصم أن يدعي وجود أدلة إجمالية عندهم إلا المستضعفين فإنهم معذورون لعدم قدرتهم على تحصيل العلم.

(الرابع) من الوجوه هو ظهور الآيات و الأخبار في ذلك (منها) رواية عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني المشهورة قال: دخلت على علي الهادي (ع) فقال مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا قال فقلت له (ع) يا ابن رسول اللّه (ص) إني أريد أن أعرض عليك ديني فإن كان مرضيا ثبت عليه حتى القى اللّه عز و جل فقال (ع): هاتها يا أبا القاسم، فقلت: إني أقول ان اللّه تعالى واحد ليس كمثله شي ء خارج من الحدين حد الأبطال «1» و حد التشبيه و هو انه ليس بجسم و لا صورة و لا عرض و لا جوهر بل هو مجسم الأجسام و مصور الصور و خالق الاعراض و الجوهر و رب كل شي ء و مالكه و جاعله و محدثه و إن محمدا (ص) عبده و رسوله خاتم النبيين فلا نبي بعده الى يوم القيامة. و أقول ان الامام و الخليفة و ولي الأمر من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ثمَّ الحسن ثمَّ الحسين ثمَّ علي بن الحسين ثمَّ محمد بن علي ثمَّ جعفر بن محمد ثمَّ موسى بن جعفر ثمَّ علي بن موسى ثمَّ

محمد بن علي ثمَّ أنت يا مولاي فقال (ع): و من بعدي الحسن ابني فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قال: و قلت: و كيف ذلك يا مولاي قال (ع) لأنه لا يرى شخصه و لا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما. قال: فقلت: أقررت. و أقول ان

______________________________

(1) المراد بحد الأبطال هو عدم إثبات الوجود و الصفات الجمالية و الجلالية الفعلية و الإضافية، و المراد بحد التشبيه هو إثبات الاشتراك مع الممكنات في حقيقة الصفات و عوارض الممكنات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 87

وليهم ولي اللّه، و عدوهم عدو اللّه، و طاعتهم طاعة اللّه، و معصيتهم معصية اللّه.

و أقول ان المعراج حق و المسألة في القبر حق و ان الجنة حق و النار حق و الصراط حق و الميزان حق و إن الساعة آتية لا ريب فيها و إن اللّه يبعث من في القبور.

و أقول ان الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فقال (ع): يا أبا القاسم هذا و اللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا و الآخرة انتهت عبارة هذا الحديث الشريف و إنما نقلناه بطوله لاشتماله على أصول الشيعة و جل عقائدهم و لذا قال (ع): هذا دين اللّه الذي ارتضاه. نعم لم يذكر فيه عقيدة العدل و إن اللّه عادل و لعله يظهر من قوله رب كل شي ء و محدثه باعتبار ان الظلم من شأن غير القادر و وجه الاستدلال به ان الراوي كان يقول:

«أقول و أقررت» و هو

ظاهر في تدين القلب و عقده و إقراره المستتبع للإقرار باللسان و الاعتراف بذلك و لو كان المطلوب بالذات هو القطع و الجزم لكان اللازم على الراوي أن يقول إني أقطع أو أجزم أو أعلم أو أيقن و نحو ذلك. (و منها) الأخبار الدالة على اكتفاء الرسول الأعظم بالإقرار بالشهادتين بل في سائر العصور كانوا علماء الدين يكتفون بالإقرار القلبي المستتبع للإقرار اللساني بالشهادتين، و كم يهودي و نصراني بمجرد اعترافه بهما اعترافا يكون فيه أمارية على الاعتراف القلبي يكون موجبا لإسلامه (و جوابه) أن الدليل الإجمالي موجود لديهم على وجود الخالق و المعجزات على النبوة مشاهدة لديهم كالقرآن الشريف (و منها) قوله تعالى في سورة الحجرات آية 14 قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ الْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ. و قول الصادق عليه السلام للشامي بعد أن أقام له الدليل و حصل له اليقين: بل آمنت باللّه الساعة ان الإسلام قبل الايمان و عليه يتوارثون و يتناكحون و الايمان عليه يثابون.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 88

(و منها) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) بعد ما ذكر الامام (ع) ان من قال لشي ء صنعه اللّه تعالى أو النبي (ص) هلا صنع خلاف ذلك أو ذكر ذلك في قلبه يكون بذلك مشركا ثمَّ قال (ع): فعليكم بالتسليم و لا يخفى ان هذه الرواية تصلح تأييدا للمطلب. (و منها) قوله تعالى في سورة آل عمران آية 81 وَ إِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ، قال: أقررتم و أخذتم

على ذلكم إصري قالوا: أقررنا. قال: فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين». و وجه الاستدلال ان المطلوب كان هو الإقرار و أخذ العهد على ذلك. (و منها) قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (ع) أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فإنه يدل على أن الجزم و اليقين غير معتبر في الايمان و إلا لم أخبر (ع) عن نفسه بالايمان بقوله بَلىٰ مع ان قوله وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يدل على انه لم يكن مطمئنا فلم يكن جازما إلا اللهم انه يقال ان المراد بالاطمئنان زيادة اليقين كقوله (ع) لو انكشف لي الواقع لما ازددت يقينا. (و منها) قوله تعالى وَ مٰا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّٰهِ إِلّٰا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ فإنه لو كان الايمان يستدعي اليقين لما كانوا مشركين حال ايمانهم. و فيه ما لا يخفى فإن الآية ظاهرة في أيمانهم باللّه تعالى و لكنهم لم يوحدوا اللّه تعالى. (و منها) ما روي عن محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد اللّه (ع) جالسا عن يساره و زرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال يا أبا عبد اللّه ما تقول فيمن شك في اللّه فقال كافر يا أبا محمد قال: فشك في رسول اللّه فقال كافر ثمَّ التفت الى زرارة فقال إنما يكفر إذا جحد. (و منها) ما في رواية محمد بن سالم عن ابي جعفر (ع) إن اللّه عز و جل بعث محمدا (ص) و هو بمكة عشر سنين فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا اللّه و ان محمّدا رسول اللّه إلا أدخله اللّه الجنة بإقراره و هو ايمان التصديق

النور الساطع في الفقه

النافع، ج 2، ص: 89

و ليعلم ان ما في هذا الحديث مخالف للمشهور من ان الرسول كان في مكة بعد البعثة ثلاث عشر سنة. و لعله مبني على ما يظهر من الأخبار انه لما نزل قوله تعالى وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ و كان أول بعثته (ص) دعى رسول اللّه (ص) بني عبد المطلب و طلب منهم بيعته و الايمان به فلم يؤمن به إلا علي (ع) و خديجة عليها السلام ثمَّ جعفر (ره) و بعد ذلك بثلاث سنين نزل فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ فالمشهور لم يعدّوا تلك الثلاث من السنين من أيام البعثة لأنها لم تكن بعثة عامة مؤكدة (و منها) ما في فقه الرضا (ع) ان المعرفة التصديق و التسليم. (و منها) ما في الكافي بسنده عن الفتح بن يزيد عن أبي الحسن (ع) قال: سألته عن أدنى المعرفة فقال: الإقرار بأنه لا إله غيره و لا شبيه له و لا نظير و انه قديم مثبت موجود غير فقيد و أنه ليس كمثله شي ء و لعل هذا الخبر يستفاد منه ان الإقرار يطلق عليه المعرفة فتكون الأخبار الدالة على اعتبار المعرفة لا تنافي الأخبار التي تدل على اعتبار التدين فقط. و لكن سيجي ء إنشاء اللّه من الأخبار ما يقتضي مغايرة المعرفة للتدين. (و منها) ما في الكافي بسنده الى أبي جعفر (ع) ثمَّ بعث اللّه النبيين فدعوهم إلى الإقرار باللّه تعالى و هو قوله تعالى وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّٰهُ. ثمَّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيين فأقر بعضهم و أنكر بعضهم ثمَّ دعوهم الى ولايتنا فأقر بها (و اللّه) من أحب، و أنكرها من أبغض، فلو كانت المعرفة و اليقين مطلوبة بالذات لكانت الدعوة

إليها. (و منها) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن عبد الرحيم القصير. الايمان إقرار باللسان و عقد في القلب و عمل بالأركان. فإن الظاهر من عقد القلب هو التدين و البناء على ذلك. (و منها) ما في الكافي عن عدة من الأصحاب بسنده عن الحسن ابن هارون قال: قال لي أبو عبد اللّه (ع) إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا قال: يسأل السمع عما سمع و البصر عما نظر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 90

اليه و الفؤاد عما عقد عليه، و لو كانت المعرفة مطلوبة لقال عما عرفه. و يرشد الى ذلك ان معظم احتجاجات الأئمة (ع) و أصحابهم و جل الآيات إقناعية لا برهانية الا ترى الى الاستدلال الامام الرضا (ع) على الوحدانية بأنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله و لرأيت آثار ملكه و سلطانه. نعم سيجي ء إنشاء اللّه تعالى ان التدين بالعقائد الدينية يجب أن يكون عن دليل لا عن تقليد نظير من يتدين بشي ء تدينا مستتبعا لآثاره عن حجة شرعية كالشهادة و الشياع و خبر الواحد و اليد و نحو ذلك كالتدين بأن هذه الدار لزيد و يرتب عليه آثار ملكيته لها و هذا القبر للشخص الفلاني و يرتب عليه آثار دفنه فيه المستند للبينة أو الشياع و لعل المعرفة التي ادعي الإجماع على وجوبها في أصول الدين و دلت عليها بعض الأخبار كما سيجي ء إنشاء اللّه التعرض لها إنما يراد منها هذا التدين و بهذا ظهر انه لا وجه للقول باعتبار الظن عند عدم التمكن من العلم لأن المطلوب هو التدين عن دليل و لو كان إقناعيا سواء حصل العلم

أم الظن و لو سلمنا ان المطلوب هو العلم فلا دليل على اعتبار الظن عند فقد العلم مضافا الى الآيات الناهية عنه الأدلة على وجوب اليقين بأصول الدين و ذهب آخرون الى وجوب معرفة أصول الدين و المراد بالوجوب هو استحقاق الثواب عليها و العقاب على تركها و إن كان الوجوب بهذا المعنى لا يطلق على أفعال اللّه و إنما يطلق عليها بمعنى اللزوم كقولهم اللطف واجب على اللّه بمعنى انه لازم عليه و المراد بالمعرفة هو اليقين و الاعتقاد بها بحيث لو سئل عن شي ء منها أجاب عنه و ان لم يقدر على التعبير عنها بعبارات أهل الفن و الاصطلاح و لكن اختلف القائلون بوجوب المعرفة في انه عقلي أو سمعي فالامامية و المعتزلة على الأول و الأشعرية على الثاني و لكن الظاهر انه لم يذهب أحد إلى وجوب اليقين بها فقط من دون التدين بها بل لا بد من اليقين بها مع التدين بها

[الأدلة النقلية على وجوب اليقين بالعقائد الدينية]
اشارة

و الذي استدل به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 91

على وجوب المعرفة لأصول الدين أو يمكن الاستدلال به من النقل أمور:

(أحدها) رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع) ان أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرفه اللّه تبارك و تعالى نفسه فيقر له بالطاعة و يعرفه نبيه فيقر له بالطاعة و يعرفه امامه و حجته في أرضه و شاهده على خلقه فيقر له بالطاعة فقلت: يا أمير المؤمنين و إن جهل جميع الأشياء إلا ما وصفت؟ قال: نعم.

فإنها ظاهرة في لزوم المعرفة في الايمان و لكن يمكن المناقشة فيها بأن المعرفة هو الإدراك مطلقا اما انه على سبيل الجزم فلا فالإنسان إذا أدرك

بأن هذا نبيه و أقر له بذلك و أطاعه كفاه ذلك و يؤيد ذلك ما تقدم في رواية محمد بن سالم ص 88 ما يدل على ان الإقرار هو الايمان التصديقي كما انه يمكن أن يقال بأن ظاهر الرواية ان المعرفة مقدمة للإقرار فإذا أقر الإنسان بدونها كان ذلك كافيا له.

(ثانيها) رواية إسماعيل قال: سألت أبا جعفر (ع) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله؟ فقال: الدين واسع و إن الخوارج لضيقوا على أنفسهم فقلت: جعلت فداك أما أحدثك بديني الذي أنا عليه؟ فقال: بلى. قلت:

أشهد أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا عبده و رسوله و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و أتولاكم و أبرأ من عدوكم و من ركب رقابكم و تأمر عليكم و ظلمكم حقكم.

فقال: ما جهلت شيئا؟ فقال: هو و اللّه الذي نحن عليه. قلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال: لا إلا المستضعفين. قلت: من هم؟

قال: نساؤكم و أولادكم. قال: امرأتي أم أيمن فإني أشهد أنها من أهل الجنة و ما كانت تعرف ما أنتم عليه. فان جواب الامام (ع) باستثناء المستضعفين بعد سؤال الراوي عن سلامة من لا يعرف هذا الأمر يدل على لزوم المعرفة على غير المستضعفين و هو المطلوب لأن المستضعفين ساقط عنهم التكليف بالمعرفة لعدم قدرتهم على ذلك و لكن الظاهر ان المراد بالمعرفة أعم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 92

من التدين لأن الراوي أطلقها على الإقرار بما جاء به من عند اللّه و على التولي و التبري و هذا من لوازم التدين.

(ثالثها) ما روى عن صحيفة الرضا (ع) إن أول ما افترض اللّه على عباده و أوجب

على خلقه معرفة الوحدانية. و ما روي عن الرضا (ع) في بعض خطبه أول عبادة اللّه معرفته. و ما في بعض خطب أمير المؤمنين (ع) أول الدين معرفته. و بضميمة عدم القول بالفصل بين معرفة اللّه و وحدانيته و بين باقي أصول الدين يتم المطلوب و هو وجوب معرفة أصول الدين بأجمعها.

(رابعها) قوله تعالى في سورة الحجرات آية 15 إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ. فان قوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا دليل على اعتبار اليقين بذلك في الايمان و إلا فالظن و الشك يكون معه الارتياب لا سيما بملاحظة قوله تعالى هُمُ الصّٰادِقُونَ فان الظاهر ان المراد به الصدق في دعواهم الايمان فتدل الآية الشريفة على اعتبار عدم الارتياب في حقيقة الايمان و يتم المطلوب بضميمة عدم القول بالفصل و لكن يمكن أن يقال إن الجهاد ليس داخلا في الايمان فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون الكاملون فليست الآية في مقام بيان حقيقة الإيمان.

(خامسها) دعوى الإجماع على وجوب المعرفة من شارح التجريد الجديد و من الشهيد (ره) في رسالة الايمان حيث قال فيها أطبق العلماء على وجوب معرفة اللّه تعالى بالنظر و إنها لا تحصل بالتقليد. و فيه انه لعل الإجماع مستند الى توهم دلالة الآيات و الروايات على ذلك هذا مع وجود المخالفين في ذلك كما تقدم ص 84.

(سادسها) قوله تعالى خطابا للنبي (ص) «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللّٰهُ» فيجب على الأمة أيضا لوجوب التأسي به (ص) المستفاد من قوله تعالى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 93

إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ و بالإجماع على عدم

القول بالفصل بين التوحيد و غيره من أصول الدين يتم المطلوب.

(سابعها) قوله تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. حيث دلت على حصر الفلاح بأهل اليقين بالآخرة و لازمها عدم فلاح غيرهم و بضميمة عدم الفصل يتم المطلوب.

(ثامنها) ما روي في الكافي عن الصادق (ع) انه قال: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال إياك أن تفتي برأيك و تدين بما لا تعلم. فإنها دلت على أن التدين الذي هو المطلوب في أصول الدين لا بد و أن يكون بشي ء يعلمه.

(تاسعها) ما دل على حرمة الظن و الشك في أصول الدين بنحو العموم و الخصوص فإنه لازمه وجوب اليقين بها، أما ما دل على حرمة الظن فقوله تعالى إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لٰا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً. و قوله تعالى إِنْ نَظُنُّ إِلّٰا ظَنًّا وَ مٰا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ. و إن شئت قلت ان هذه الآيات قد اشتركت في التوبيخ على الظن فلو كان الظن كاف لما وبخ عليه.

و أما ما دل على حرمة الشك فهو الذي دل على حرمة الظن لأنه يفهم منه بطريق الأولوية حرمة الشك. مضافا الى ما روي عن العبد الصالح (ع) ان الحسين ابن الحكيم كتب اليه يخبره بأنه شاك؟ فقال (ع) في جملة جوابه: إن الشاك لا خير فيه. و قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمٰانَهُمْ بِظُلْمٍ.

فقد روي عن أبي عبد اللّه ان المراد بالظلم هو الشك. و قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا. و في المحكي عن وصية المفضل قال: سمعت

أبا عبد اللّه (ع) يقول من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط اللّه عمله إن حجة اللّه هي الحجة الواضحة. و في خطبة لأمير المؤمنين (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 94

لا ترتابوا فتشكوا، و لا تشكوا فتكفروا.

[المراد بالشك هو التردد في الظاهر]

و يمكن أن يقال إن الظاهر أن المراد بالشك هو التردد في الظاهر لا في الباطن بقرينة ترتيبه على الريب و بقرينة ما في صحيحة محمد بن مسلم ان أبا بصير سأل أبا عبد اللّه (ع) عمن شك في اللّه و رسوله؟ فقال الامام (ع): إنه كافر ثمَّ التفت (ع) فقال: انما يكفر إذا جحد. و ما في رواية الكافي عن أبي جعفر (ع) قال: لا ينفع مع الشك و الجحود عمل، فان عطف الجحود على الشك يشعر بذلك. و ما في الوسائل عن الكافي و محاسن البرقي عن زرارة عن أبي عبد اللّه لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا و لم يجحدوا لم يكفروا، ألا ترى ان الشخص إذا فرض انه بعد النظر و الاستدلال لم يحصل له اليقين و لكنه تدين بالمؤدى لا يحكم بكفره و لا باستحقاقه العقاب بواسطة أمر لم يحصّله بحسب مقدوره و هل حاله إلا حال المستضعف.

(عاشرها) ما في الكافي بسنده الصحيح عن عيسى بن السري قال:

قلت لأبي عبد اللّه أخبرني بدعائم الإسلام التي لا يسع أحد التقصير عن معرفة شي ء منها، و التي من قصر عن معرفة شي ء منها فسد عليه دينه و لم يقبل اللّه منه عمله فقال (ع): شهادة أن لا إله إلا اللّه، و الايمان بأن محمدا رسول اللّه و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و حق في الأموال الزكاة. و الولاية

التي أمر اللّه تعالى بها ولاية آل محمد.

(الحادي عشر) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه و أما ما فرض اللّه على القلب من الايمان فالإقرار و المعرفة و العقد و الرضا و التسليم بأن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له إلها واحدا أحدا لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و ان محمدا عبده و رسوله و الإقرار بما جاء من عند اللّه من نبي أو كتاب فذلك ما فرض اللّه على القلب من الإقرار و المعرفة و هو عمله، و لكن يمكن أن يقال ان المراد بها معنى واحد و هو التدين و يكون المعطوفات على الإقرار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 95

عطفها عطف تفسير و يؤيد ذلك ما في آخر الجملة من عطف المعرفة على الإقرار و اعادة الضمير المفرد إليهما فإنه يقتضي أن يكون المراد بهما شيئا واحدا و هو العمل لا المعرفة لأنها من قبيل التصور و ليست بعمل للقلب.

(الثاني عشر) ما في رواية الكافي عن بعض الأصحاب بسنده عن العالم (ع) فأما ما فرض على القلب من الايمان فالإقرار و المعرفة و التصديق و التسليم و العقد و الرضا بأن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له أحدا صمدا لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و ان محمدا (ص) عبده و رسوله.

(الثالث عشر) ما عن علي بن إبراهيم بسنده عن السكوني عن أبي عبد اللّه قال: ثلاثة علامات المؤمن العلم باللّه و من يحب و من يكره، فقد عد العلم باللّه من علامات الايمان، و لكن يظهر من هذا الحديث ان المراد بالعلامة هي التي تستلزم

الشي ء و لا يلزمها الشي ء فإن العلم باللّه و العلم بمن يحبه اللّه و يكرهه اللّه قد تنفك عن بعض المؤمنين: نعم قد يشكل عليه بأن بعض الجاحدين يعلمون بذلك إلا اللهم إذا فسرنا العلم بالتسليم القلبي.

(الرابع عشر) ما في رواية يونس بسنده عن أبي عبد اللّه قال: سمعته يقول أمر الناس بمعرفتنا و الرد علينا و التسليم لنا. و دعوى ان التسليم عطف تفسير على ما قبله. (فاسدة) لأنه خلاف الظاهر.

(الخامس عشر) ما في رواية محمد بن يحيى بسنده عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّٰهِ. قال (ع): قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة و جعفر و أشباههما من المؤمنين ثمَّ إنهم دخلوا في الإسلام فوحدوا اللّه و تركوا الشرك و لم يعرفوا الايمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنة و لم يكونوا على جحودهم فيكفروا فتجب لهم النار.

و يمكن أن يكون المراد بأنهم لم يعرفوا الايمان في قلوبهم هو أنهم لم يكن لهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 96

تسليم قلبي و عقد قلبي عليه فلا تدل الرواية على لزوم المعرفة بمعنى اليقين.

(السادس عشر) ما رواه محمد بن يحيى بسنده عن أبي جعفر (ع) قال الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قوم وحدوا اللّه و خلعوا عبادة من دون اللّه و لم تدخل المعرفة قلوبهم و كان رسول اللّه (ص) يتألفهم و يعرفهم لكيما يعرفوا و يعلمهم. و وجه الدلالة أن المعرفة لو لم تكن واجبة لما صنع ذلك رسول اللّه (ص) معهم ذلك و يمكن أن يقال إن ذلك إنما يقتضي مطلوبيتها لا وجوبها.

(السابع عشر) ما رواه في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم المرفوع الى أبي عبد

اللّه (ع) فإنه (ع) قال فيه و إيمان في يقين، و لكن المتأمل في الرواية يجدها ناظرة لأعلى درجات الايمان حيث فيها وصف المؤمن بأشياء قل أن توجد عند أحد من الناس إلا عند الأئمة الأطهار أو أصحابهم الخلص الأبرار.

(الثامن عشر) ما في عيون أخبار الرضا للصدوق بعدة طرق الأيمان معرفة بالقلب، و إقرار باللسان، و عمل بالأركان.

(التاسع عشر) ما في وصية المفضل قال: سمعت أبا عبد اللّه يقول:

من شك أو ظن فأقام على أحدهما أحبط اللّه عمله إن حجة اللّه هي الحجة الواضحة و فيه ان الظاهر منه الإقامة على الشك و الظن و عدم إعمال النظر و الفكر و عدم ملاحظة الحجج. هذا غاية ما أمكننا بهذه العجالة أن نجمع ما يتيسر لنا من الاخبار و الآيات الدالة على وجوب المعرفة و لكن يمكن المناقشة فيها بأن الذي يظهر من بعض الاخبار الأخر أن المراد بالمعرفة فيها هو التسليم القلبي المستتبع لآثاره الذي هو التدين القلبي، و الإقرار القلبي، و الاعتراف القلبي، و الرضا القلبي، و العقد القلبي، الذي هو أمر اختياري للإنسان غير العلم و المعرفة ألا ترى أنه بالبينة الشرعية أو بالشياع أو نحو ذلك يحصل هذا الإقرار القلبي في الموضوعات و هكذا بخبر الواحد الجامع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 97

لشرائط الحجية يحصل الإقرار القلبي.

[الأخبار الدالة على ان المراد بالمعرفة هو التدين]

(فمن تلك الأخبار) ما رواه في الكافي عن أبي علي الأشعري بسنده عن جابر قال: قال لي أبو عبد اللّه: يا أخا جعف إن الايمان أفضل من الإسلام و إن اليقين أفضل من الايمان، و ما من شي ء أعز من اليقين. فهذه الرواية دلت على أن اليقين خارج عن حقيقة الإسلام و

الايمان و انهما يوجدان بدونه.

(و منها) ما في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم عن الوشاء عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول الايمان فوق الإسلام بدرجة، و التقوى فوق الايمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة و ما قسم للناس شي ء أقل من اليقين.

و مثلها رواية محمد بن يحيى بسنده عن الرضا (ع). (و منها) ما في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم عن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد اللّه (ع):

يا أبا محمد الإسلام درجة؟ قال: قلت: نعم. قال (ع): و الايمان على الإسلام درجة. قال: قلت: نعم. قال (ع): و التقوى على الإيمان درجة. قال: قلت: نعم. قال (ع): و اليقين على التقوى درجة. قال:

قلت: نعم. قال (ع): فما أوتي الناس أقل من اليقين و إنما تمسكتم بأدنى الإسلام فإياكم أن ينفلت من أيديكم. فهذه الرواية دلت على عدم اعتبار المعرفة بمعنى اليقين و الجزم في الإسلام و الايمان. و مثلها رواية علي بن إبراهيم بسنده عن الرضا (ع) إلا أنه فيها. قال: قلت فأي شي ء اليقين؟ قال (ع):

التوكل على اللّه، و التسليم للّه، و الرضا بقضاء اللّه، و التفويض الى اللّه.

قلت: فما تفسير ذلك؟ قال (ع): هكذا. قال أبو جعفر (ع)، و من المعلوم أن اليقين الذي هو أعلى درجة من الايمان ليس يقين الجاحدين الذين أشار لهم اللّه في كتابه المجيد بقوله تعالى جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ و إنما هو اليقين مع التسليم لما تقدم من أنه لم يقل أحد باعتبار اليقين فقط في الايمان أو الإسلام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 98

و إنما هو مع التسليم و التدين. (و منها) ما رواه علي

بن إبراهيم بسنده عن علي بن الحسين (ع) قال: الزهد عشرة أجزاء أعلى درجة الزهد، أدنى درجة الورع. و أعلى درجة الورع، أدنى درجة اليقين. و أعلى درجة اليقين، أدنى درجة الرضا. فإنها تدل على أن اليقين لا يعتبر في الزهد الذي هو أعلى درجة من الايمان و الإسلام. (و منها) ما في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن هاشم صاحب البريد عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال لهاشم: ما تقول في خدمكم و نسائكم و أهل الطريق و أهل المياه و أهل اليمن و تعلقهم بالكعبة أ ليس يشهدون أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه و يصلون و يصومون و يحجون. قلت:

بلى. قال (ع): فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت: لا. قال (ع): فما تقول فيهم؟ قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر. قال (ع): سبحان اللّه هذا قول الخوارج ثمَّ قال (ع) أما انه شر عليكم أن تقولوا بشي ء ما لم تسمعوه منا، و لكن يحتمل أن المراد بهذا الأمر هو أمر الإمامة لا معرفة اللّه تعالى و إن محمدا رسول اللّه (ص).

(إن قلت) إن قوله (ع) هذا قول الخوارج يدل على أن المراد هو معرفة الوحدانية و الرسالة لأن الخوارج لا يقولون بإمامة الأئمة (ع).

(قلنا) المشار اليه هو القول بكفر هؤلاء المذكورين فان الخوارج عندهم المسلمون كفار يجب محاربتهم. (و منها) ما في عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق (ره) عن محمد بن الحسن بسنده عن أبي الصلت الهروي قال:

سألت الرضا (ع) عن الايمان فقال: الايمان عقد بالقلب، و لفظ باللسان، و عمل بالجوارح. (و منها) ما في رواية سفيان بن السمط المروية في الكافي قال: سأل رجل

أبا عبد اللّه عن الإسلام و الايمان فلم يجبه، فسأله ما الفرق بينهما؟ فقال: الإسلام هو الظاهر الذي عليه الناس شهادة أن لا إله إلا اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 99

و أن محمدا رسول اللّه (ص)، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حج البيت، و صيام شهر رمضان فهذا الإسلام، و الايمان معرفة هذا الأمر فإن أقر بها و لم يعرف هذا الأمر كان مسلما ضالا. (و منها) ما في رواية محمد بن يحيى بسنده عن سماعه عن أبي عبد اللّه (ع) في وصف الإسلام و الايمان انه قال (ع): شهادة أن لا إله إلا اللّه و التصديق برسول اللّه (ص) به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الايمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام و ما ظهر من العمل به. و توهم أن قوله ما يثبت في القلوب يدل على اعتبار اليقين فيه فاسد لا وجه له لأن التدين و التسليم إذا كان عن دليل يكون ثابتا في القلب و لو سلمنا ظهوره في ذلك فحاله حال الأخبار التي دلت على اعتبار اليقين في الايمان و جوابه جوابها.

(و منها) رواية علي بسنده عن فضيل بن يسار إن أبا عبد اللّه قال: الايمان ما وقر القلوب، و الإسلام ما عليه المناكح و المواريث و حقن الدماء. و نظير ذلك ما رواه في الكافي عن عدة من الأصحاب بسندهم عن حمران بن أعين عن أبي جعفر (ع) قال: سمعته يقول: الايمان ما استقر في القلب و أفضى به الى اللّه عز و جل و صدقه العمل بالطاعة و التسليم لأمره،

و الإسلام ما ظهر من قول أو فعل و هو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها و به حقنت الدماء، و عليه جرت المواريث و جاز النكاح و اجتمعوا على الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج فخرجوا بذلك من الكفر و أضيفوا الى الايمان هذا هو الدليل السمعي و ما فيه على وجوب المعرفة.

و أما الدليل العقلي عليها فقد استدل:
(أولا) [الدليل العقلي الأول على وجوب المعرفة للعقائد]

بأنه لو لا أن يحكم العقل بوجوب المعرفة لأصول الدين فالأدلة السمعية كتابا و سنة لا تجدي نفعا لعدم تمامية الاستدلال بها للجاهل بأصول الدين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 100

لأن دليليتهما فرع و الاعتقاد بهما، الاعتقاد بهما فرع المعرفة لأصول الدين و فيه ان الأدلة السمعية تجدي نفعا مع التدين بأصول الدين فهذا الدليل إنما يثبت أن الوجوب عقلي لا أن الوجوب متعلق بالمعرفة أو التدين. مضافا الى أنه إنما يتم بالنسبة إلى وجود الواجب و نفي الكذب عنه و رسالة الرسل فإنه من المعلوم إنه إذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال بالأدلة السمعية من الكتاب و السنة على التوحيد و صفات النبي (ص) و الأئمة و المعاد فهذا الدليل إنما يثبت الوجوب العقلي لأحد الأمرين المعرفة أو التدين و لخصوص وجوب الواجب و نفي الكذب عنه و رسالة الرسول مضافا إلى ان هذا الدليل إنما يكون ردا على المتشرعين المنكرين للوجوب العقلي أما الالحاديون الغير المتشرعين فلا يصلح لإثبات الوجوب العقلي عليهم.

[الدليل العقلي الثاني على وجوب المعرفة للعقائد]

و قد (استدل ثانيا) على وجوب المعرفة لأصول الدين عقلا بأن من كمل عقله إذا رجع لنفسه يرى عليها نعما ظاهرة و باطنة و يعلم بداهة انه لم يوجدها و لا هي وجدت بنفسها فلا بد من منعم عليه قد أوجدها و قد فطر اللّه عباده على حسن مقابلة المنعم بالشكر و قبح ضده فيكون شكر المنعم واجبا و لا ريب أن شكر المنعم لا يكون بدون معرفته فتكون معرفة المنعم واجبة عقلا و هذا الدليل يرجع الى قاعدة التحسين و التقبيح العقليين. و قد أورد عليه:

(أولا) إن الوجوب ما تضمن ثوابا و الثواب أمر أخروي فكيف يستقل به

العقل قبل معرفة المنعم و معرفة جعله للثواب و العقاب. و جوابه ان الوجوب هنا عقلي بمعنى الإلزام نظير ما يقال ان اللطف واجب على اللّه تعالى و ليس يتضمن ثوابا فإن الذي يتضمن هو الوجوب الشرعي.

(و ثانيا) أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان تقتضي رفع وجوب الشكر الذي يبتني عليه وجوب المعرفة لأنه لا بيان من الشارع عليه. و جوابه ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 101

الفطرة المذكورة و حكم العقل بمقابلة الإحسان بالشكر هو نعم البيان و بعبارة أخرى أن حكم العقل بوجوب الشكر و المعرفة لا يرفعه حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لأن حكم العقل أحسن بيان نظير الشبهة قبل الفحص و إن شئت قلت إن العقل إنما يحكم بقبح العقاب بلا بيان حيث يعلم ان هناك مبين و انه لا يصدر منه القبح فعند ذا يكون حكم العقل بقبح العقاب مؤمن للعبد و الفرض أن العبد لم يحرز وجود المبين و لم يعلم انه لم يصدر منه القبيح: و عليه فلا وجه لما ينسب للمرحوم آغا ضياء العراقي من ورود هذه القاعدة على حكم العقل بوجوب شكر المنعم و وجوب المعرفة.

(و ثالثا) إنا لا نسلم توقف الشكر على المعرفة المطلوب إثبات وجوبها بل يكفي فيه معرفة المنعم أي كان من دون تعيينه بأنه خالق الكون و واجب الوجود و هذه المعرفة بديهية فهو يشكر المنعم بما هو منعم على سبيل الاجمال. (و جوابه) ان الشكر متقوم بالتعظيم و الإجلال للمشكور و التعظيم و الإجلال لكل شي ء بحسبه فاذا لم يعرف المنعم بخصوصه لم يحرز أن الشكر قد وقع على قدر منزلته و جلالة قدره. (و إن شئت

قلت) إن العقل حاكم بالشكر له بعينه لا بوجه عام فان الشخص إذا شكره شخص بوجه عام لم ير الشكر لشخصه و ذاته و إنما الشكر للجهة النوعية.

(و رابعا) إن المعرفة مطلوبة بالذات لا من باب المقدمة للشكر و الدليل المذكور يثبت ان وجوبها مقدمي. (و جوابه) إنها شرعا كذلك مطلوبة بالذات لتوقف سائر الأمور عليها و لكن لا نسلم أنها عقلا مطلوبة بالذات بل لأجل شي ء آخر، مضافا الى أن المعرفة هي نفسها تكون شكرا للواجب فان الشكر العملي له هو معرفته و عبادته.

(و خامسا) إن هذا يختص بخصوص معرفة الواجب دون باقي أصول الدين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 102

كما هو المطلوب. و التحقيق أن يقال إن هذا الدليل إنما يدل على وجوب الفحص و البحث و النظر في وجود المنعم فإن أدى النظر اليه وجب التدين به و شكره و إلا فيكون العبد معذورا لان وجوب المعرفة و اليقين كما عرفت ليسا تحت اختيار الإنسان فإنه قد يحصل للإنسان الدليل التام و لا يحصل له اليقين بذلك.

[الدليل العقلي الثالث على وجوب المعرفة للعقائد]

(و استدل ثالثا) على وجوب المعرفة عقلا إن الإنسان إذا كمل عقله و رأى ما عليه من النعم الظاهرة و الباطنة فلا أقل من احتمال وجود منعم. له رضى و سخط و يحتمل بترك شكره أن يسخط عليه فيحكم العقل بوجوب شكره لاحتمال الضرر بتركه و دفع الضرر المحتمل واجب عقلا فيجب شكره، و شكره موقوف على معرفته فتجب معرفته. (و إن شئت قلت) يحتمل وجود منعم يحتمل في حقه انه لو ترك معرفته و معرفة شؤونه من صفاته و رسله و نحو ذلك لأضره و دفع الضرر المحتمل واجب خصوصا الأخروي

منه فان ذلك أمر فطري قد جبلت عليه النفوس بصرف طباعها حتى الحيوانات منها فان خوف الضرر يكون زاجرا و ناهيا لها عن العمل و إذا وجب دفع الضرر المحتمل وجبت المعرفة. و هذا الدليل مبني على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

(و قد أورد عليه أولا) بأن المعرفة متوقفة على النظر، و النظر يحتمل وقوع الخطأ فيه فيستحق العقاب بمعرفته خلاف الواقع فيحتمل فيه الضرر فيجب تركه و لازم ذلك عدم وجوب المعرفة لحرمة مقدمتها. (و جوابه) انه لا يحتمل العقاب و الضرر لو وقع الخطأ في النظر إذا لم يقصر فيه كما هو الفرض لأنه يكون معذورا و ألا يلزم التكليف بما لا يطاق فالعقل يعذره.

(و ثانيا) إن الشكر غير واجب لأنه يحتمل حرمته لاحتمال انه لا يقع لائقا بحال المنعم فيحتمل الضرر فيه. (و جوابه) انه بعد بذل الجهد في تحصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 103

المعرفة يكون معذورا فيما لو وقع غير لائق بحاله بل أمر مستحسن منه إذا كان هو مقتضى عقله و تفكيره. و يرد أيضا ما أوردناه على الدليل المتقدم و الجواب الجواب ما عدى الإيراد الخامس.

(و ثالثا) إن العقل حاكم بعدم وجوب شكر المنعم لأن وجوبه إن كان لا لفائدة فهو عبث غير جائز عقلا، و إن كان لفائدة فأما أن تعود الى المشكور فهو متعال عن ذلك، و أما الى الشاكر و هي منتفية أما في الدنيا فلان الشكر مشقة لا نحس بترتب الأثر عليه. و أما في الآخرة فلعدم استقلال العقل بالفائدة لأن الفرض أن بوجوب شكر المنعم يثبت وجوب معرفة المنعم و الاعتقاد بالآخرة فرع عن الاعتقاد به. (و الجواب) ان فائدته

تعود الى الشاكر في الدنيا لأن به يزول الخوف عن نفسه و هي أعظم فائدة دنيوية حيث توجب استراحة النفس بخلوها عن الهلع، و أما في الآخرة و هو عدم العقاب المحتمل فيها و وجود الثواب المحتمل فيها.

المسألة الثانية في كفاية التقليد في أصول الدين
اشارة

و أما المسألة الثانية و هي كفاية التقليد في أصول الدين أو عدمها فنقول:

قد ذهب جماعة كالعلامة الحلي في باب الحادي عشر و المحقق في المعارج و الشهيد الأول و المحقق الثاني الى عدم جواز التقليد في أصول الدين و إن أفاد العلم و لا بد من الرجوع الى البراهين أو العلم عن إلهام أو بكشف أو تصفية للنفس أو بمشاهدة المعجزة أو من القرآن أو التواتر أو من العلم بصدق المخبر لعصمته أو غير ذلك و ليعلم ان محل الكلام في جواز التدين و عقد القلب بواسطة التقليد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 104

للغير أعني العمل الجوانحي بقوله في العقائد كما يكون العمل الجوارحي بقوله في الفروع. و عليه فلا وجه لما ذكره المحقق القمي (ره) و غيره من الإشكال في استعمال التقليد بمعناه الاصطلاحي في العقائد إذ المعيار في العقائد هو الإذعان و الاعتقاد و القول بجواز الإذعان بقول الغير و عدمه مما لا محصل له لأن حصول الظن و اليقين من قول الغير ليس باختياري حتى يصير موردا للبحث و إنما يصح ذلك في الفروع لأن المطلوب فيها العمل و هو أمر اختياري انتهى. و لا يخفى ما فيه فان نظرهم في ذلك الى عقد القلب و التدين بقول الغير و هو أمر اختياري غاية الأمر من يشترط العلم يكون كلامه مقصورا على التقليد المفيد للعلم من جهة أنه هل يجوز

أن يعقد عليه القلب أم لا و أما من لا يشترط العلم فكلامه في مطلق التقليد. و الحاصل ان المطلوب هو التدين و عقد القلب و هو أمر اختياري يحصل بالتقليد كما يحصل بقيام البينة أو قيام حجة معتبرة على الشي ء

[الأدلة على عدم كفاية التقليد في العقائد]

فالذي يمكن أن يستدل به على حرمة التقليد بل و الظن في العقائد أمور:

(أحدها) انه لا دليل على حجية التقليد فيها. (و جوابه) أن الأدلة التي دلت على جواز التقليد في الفروع تشمل التقليد في الأصول.

(ثانيها) أنه لو كان التقليد جائزا فيها لكان كل ضال بالتقليد معذورا فالنصارى و اليهود بل و اللادينية المقلدون لعلمائهم في عقائدهم معذورون لأنهم قد قامت الحجة لهم على ذلك و هو قول مجتهدهم و أيضا لم يكن التقليد لطائفة أولى من التقليد لأخرى لأنه مع عدم الاستدلال لا يعرف المحقة من المبطلة و مع قيام الدليل عنده على أحقيتها فقد حصل المطلوب و لا يحتاج الى التقليد.

(و أجيب عنه أولا) بأن محل الكلام هو كفاية التقليد في الحق و اشتراط المطابقة للواقع و سقوط الاستدلال به عن المكلف كما يظهر من الشيخ الأنصاري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 105

و لا يخفى ما فيه فان إحراز كونه تقليدا للحق يحتاج الى دليل و مع حصوله يستغنى عن التقليد و (بعبارة أخرى) أنهم إن أرادوا العلم بكون الشي ء حقا فهذا ينافي التقليد لأن التقليد لا يكون مع العلم بالشي ء و إن أرادوا التقليد يكون حقا في نظرهم فهو حاصل لهم و إن أرادوا حقيته بحسب الواقع و نفس الأمر لا أنه يحصل لهم علم بذلك فهذا تكليف بما لا يطاق. و إن أرادوا أن المعتبر في

الايمان هو التقليد الذي يكون في الحق فإن تحقق كان مؤمنا و إلا فلا فهذا تصريح بعدم جواز الاكتفاء بالتقليد و إن اللازم هو تحصيل القطع بكونه حقا.

و (يمكن أن يجاب عنه ثانيا) إن كلامنا فيما علم بالضرورة أنه من أصول الدين الإسلامي و من ضرورياته فهل يكفي أن يقلد فيها الغير و يكون مسلما و مؤمنا بتقليده أو لا بد له من التدين بها و اليقين بها و لو من دليل إجمالي اما ما لم يكن ضروريا فيجب عليه النظر و الاستدلال عليه. (و فيه) أن الضروري من العقيدة إذا جاز فيه التقليد و لم يجب الفحص و النظر فيه فلليهودي و النصراني أن يقلد في ضرورياته إذ ليس في أدلة التقليد العقلية تخصيص الجواز بالنسبة الى أحد الديانات. و الحاصل إن احتمال عدم صحة العقيدة إن كان موجبا للفحص عنها و لمعرفتها عن دليل بحيث يكون مانعا من شمول أدلة التقليد فهو يمنع بالنسبة إلى الجميع إذ كل صاحب عقيدة قبل الفحص عنها يحتمل ذلك و إن كان لا يمنع فهو لا يمنع بالنسبة لكل صاحب عقيدة أن يقلد في عقائده و لا يتفحص عن صحة العقيدة. (نعم) نحن معاشر المسلمين لا نجوّز التقليد لعلماء الديانات الأخرى في عقائدهم لما دل على بطلانها بالأدلة الدالة على النبوة لنبينا (ص) و عدم توفر شرائط التقليد في علمائهم.

(ثالثها) قوله تعالى إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ قٰالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدىٰ مِمّٰا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبٰاءَكُمْ. و قوله تعالى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 106

مٰا يَعْبُدُونَ إِلّٰا كَمٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُهُمْ. في ذم الكفار على تقليد الآباء و كقوله

تعالى إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ. و قوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. و قوله تعالى:

وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلَّا الدَّهْرُ وَ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلّٰا يَظُنُّونَ. و نحو ذلك من الآيات الدالة على حرمة اتباع غير العلم في العقائد فتدل على حرمة التقليد بعمومها من حيث كونه فردا منه. (و دعوى) الفرق بين تقليدنا و تقليد الكفار باعتبار أن تقليدنا لأهل الحق و تقليدهم لأهل الباطل. (مدفوعة) بأن كلا من المقلدين يعتقد بأنه مقلد لأهل الحق و كون تقليدنا لأهل الحق و تقليدهم لأهل الباطل في الواقع لا يجدي لأنه كل يرى الواقع معه. (و لكن) قد يناقش فيه الخصم بأن الذم إنما كان بعد ظهور الدلائل و المعجزات على فساد تقليدهم و هذا التقليد باطل حتى في الفروع مضافا الى أن هذه الآيات ظاهرة في خصوص تقليد الكفار و متابعة ظنونهم و ليست ناظرة لتقليد المسلمين لعلمائهم إلا أن يدعى عمومها بتنقيح المناط.

(رابعها) دعوى الإجماع على وجوب النظر و الاستدلال في أصول الدين من العلامة الحلي في باب الحادي عشر و في المبادي و عن الفاضل المقداد في شرح الباب الحادي عشر لكن خصصه بإجماع الإمامية و عن الآمدي و الحاجبي و القوشجي و ظاهر غاية البادي و المعالم و الشهيد الثاني (ره) في رسالته و العضدي من دون تخصيص و لكن يبطل دعوى الإجماع ما هو المنقول عن المحقق الطوسي و الأردبيلي و البهائي و المجلسي (ره) كفاية الظن في التقليد في أصول الدين كيف و هو يخالف سيرة المسلمين و لعل المراد به التدين و

لو عن دليل إجمالي.

(خامسها) ما روي في الكافي عن الصادق (ع) من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال و من أخذ دينه من الكتاب و السنة زالت الجبال و لم يزل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 107

و قال (ع): إياكم و التقليد فإنه من قلد في دينه هلك، إن اللّه تعالى يقول اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ و لا و اللّه ما صلوا لهم و لا صاموا و لكنهم أحلوا لهم حراما و حرموا عليهم حلالا فقلدوهم في ذلك فعبدوهم و هم لا يشعرون و ما رواه ثقة الإسلام عن العالم (ع) من دخل في الايمان بعلم ثبت فيه و نفعه إيمانه، و من دخل فيه بغير علم منه خرج منه كما دخل.

(سادسها) ما دل على وجوب العلم كقوله تعالى خطابا لنبيه (ص):

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لٰا إِلٰهَ إِلَّا اللّٰهُ. فيجب على الأمة أيضا لوجوب التأسي به (ص) المستفاد من قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّٰهُ و لأنها لم تكن أول آية نزلت عليه (ص) فلا بد أن يكون المقصود بها الأمة و بالإجماع على عدم القول بالفصل بين التوحيد و غيره من أصول الدين يتم المطلوب. و كمثل ما ورد أن المؤمن و الكافر يجيبان في القبر عن مسألة الرب و النبي و الدين و الامام عند ما يسألان عن علمهم بذلك فيقول المؤمن أمر هداني اللّه اليه و ثبتني عليه فيقال له نم نومة العروس و يفتح له باب من الجنة يدخل اليه من روحها و ريحانها و يقول الكافر سمعت الناس يقولون فيضرب بمرزبه. فلو كان التقليد مجزيا لاكتفى من الكافر بذلك و ما

دل من الأخبار على أن الايمان ما استقر في القلب و الاستقرار لا يتحقق إلا بالنظر لا بالتقليد و لأن قول المجتهد لو أفاد العلم لزم اليقين بالمتناقضين في المسائل الخلافية كحدوث القرآن و قدمه و لأن قول المجتهد لو أفاد العلم لكان العلم بكونه صادقا، أما بالبداهة و هو باطل، أو بالنظر و الاستدلال و هو خلاف الفرض. (و الجواب عنه) مضافا الى ما تقدم من أن المراد بالعلم و المعرفة هو التدين القلبي و هو لا ينافي التقليد ما سيجي ء إنشاء اللّه من أن التقليد قد يحصل به العلم بل كثيرا ما يحصل به العلم فهو لا دلالة له على حرمة التقليد المفيد للعلم و منه يظهر الجواب عن مسألة القبر فإنه لا دلالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 108

للرواية على العقاب عليه مضافا إلى أن المراد بالاستقرار هو الثبوت على وجه الدوام و هذا قد يحصل بالتقليد كما انه قد لا يحصل مع الدليل و قد عرفت انه تابع لصفاء النفس و كدورتها.

(سابعها) إنا لو سلمنا أن العلم يحصل بالتقليد لكنه في معرض الزوال فصاحبه غير مأمون من زواله فيجب أن يثبته بالنظر و الاستدلال دفعا للضرر المظنون. (و جوابه) ان العلم الحاصل بالدليل أيضا في معرض الزوال و إلا لما تجددت الاعتقادات و تبدلت الآراء بل العلم الحاصل بالتقليد في الغالب يكون ثابتا كما نشاهد في العوام. سلمنا لكن اعتبار الاستقرار في حقيقة الايمان لا دليل عليه و إلا لما تصور انقلاب المؤمن كافرا إذ يكشف انقلابه عن عدم الاستقرار المذكور و عن عدم إيمانه رأسا و التحقيق ان ثبوت العقائد و رسوخها تابع لصفاء النفس و كدورتها

و هو يحصل بالعبادة و كسر الشهوة.

(ثامنها) إن بالتقليد يحتمل خلاف الواقع فيما قلد به فيستحق العقاب فهو يحتمل الضرر و هو استحقاق العقاب فلا بد له من التماس الدليل على ما قلد به. (و جوابه) ان التقليد في أصول العقائد إذا قام على اعتباره الحجة كما يدّعى أن الحجة عليه ارتكازية في الأصول و الفروع فهو معذور لا يعاقب فيما لو خالف الواقع. فالحق إن التقليد المذكور إن قام الدليل عليه فلا مانع منه لا شرعا و لا عقلا و إن لم يقم عليه الدليل أو قام على عدمه الدليل فهو غير جائز و لا يكفي فلا بد من النظر في ذلك. نعم لا يمكن إثبات حجية التقليد تعبدا في معرفة اللّه و النبي لتوقفها على معرفتهما.

(تاسعها) ما دل على وجوب النظر كقوله تعالى. انْظُرُوا مٰا ذٰا فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا تُغْنِي الْآيٰاتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لٰا يُؤْمِنُونَ. فإنها تدل على وجوب النظر و كقوله تعالى أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 109

(عاشرها) انه لا يجوز تقليد غير المحق و إنما يعلم المحق من غيره بالدليل في أن ما يقوله حق أم لا و حينئذ فلا يجوز له التقليد إلا بعد النظر و الاستدلال فاذا صار مستدلا امتنع كونه مقلدا فامتنع التقليد في المعارف الإلهية.

(و جوابه) بالنقض بالشرعيات و حله أن التقليد للمجتهد إن كان حجة فيكفي معرفة اجتهاده فقط هذا (و قد ذهب بعضهم إلى حرمة النظر في أصول الدين) و الظاهر إنه ليس المراد حرمة النظر حتى بالنسبة لمن اعتقد خلاف الحق أو تردد فيه و إلا لصح تقليد

النصارى لأحبارهم و اليهود لخاخاماتهم بل الظاهر أن المراد منه أن الشيعة الاثنى عشرية الذين حصل لهم الاعتقاد و التدين بأصول مذهبهم بطريق التقليد أو النظر أو بالفطرة يحرم عليهم الخوض بعد ذلك في البراهين الفلسفية و الأدلة الكلامية خوفا عليهم من حصول التشكيك لهم في عقائدهم الحقة أو تبدلها بغيرها مدعيا بعضهم إن الاعتقاد الحق إذا حصل بالتقليد فلا داعي إلى تكلف البراهين الفلسفية و الأدلة الكلامية الموجبة غالبا لطرو الترديد و التزلزل للعجز و القصور عن دفع الشبهات و عن رد التشكيكات و عن إتمام الأدلة و لعل أهل المذاهب الباطنية كلهم على ذلك كالصورتية و اليزيدية و نحوهم.

[الأدلة على كفاية التقليد في العقائد]

و كيف كان فقد نسب كفاية التقليد في أصول الدين للحر العاملي و الأمين الأسترابادي و لبعض الاخبارين و لعبد اللّه بن الحسن العنبري و الحشوية و التعليمية كما حكي عن الكعبي و ابن عباس و جماعة أخرى من المعتزلة وجوب التقليد على العوام و ذهب الشيخ الأنصاري إلى كفاية التقليد إذا حصل منه الجزم و الذي يمكن أن يستدل به أو استدل به على كفاية التقليد في العقائد وجوه.

(أحدها) ان حرمة التقليد و عدم كفايته إنما هو من جهة وجوب النظر شرعا و وجوب النظر شرعا باطل لأن وجوب النظر و الاستدلال شرعا موقوف على ثبوت الشرع فلو ثبت الشرع بالنظر دون غيره لتوقف ثبوت الشرع على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 110

النظر دون غيره. و أجيب عنه بالنقض بجواز التقليد في أصول العقائد فإنه موقوف على ثبوت الشرع إلخ و بالحل بأنا لا نقول بوجوب النظر شرعا و إنما نقول بوجوبه عقلا نعم يصلح ردا على مذهب الأشاعرة القائلين

بوجوب النظر شرعا.

(و الأولى) أن يقال في الجواب انه لا دور لأنه إنما يثبت توقف ثبوت وجوب النظر و حرمة التقليد على ثبوت الشرع و توقف ثبوت الشرع على نفس حصول النظر بنفسه أو بواسطة حكم العقل به أو من جهة الخوف لا على وجوبه شرعا فاختلف الموقوف و الموقوف عليه.

(ثانيها) المكلف إن لم يكن عالما باللّه تعالى استحال أن يكون عالما بأمره لأن العلم بالأمر فرع العلم بالآمر و حال امتناع كونه عالما بأمره يمتنع أن يكون مأمورا من قبله و إلا لزم تكليف ما لا يطاق و إن كان المكلف عالما به تعالى استحال أيضا أمره بالعلم به لاستحالة تحصيل الحاصل. (و جوابه) انه ليس عالما باللّه و لكن العقل حاكم عليه بالاستدلال و النظر خوفا من الضرر.

(ثالثها) إن النبي (ص) كان يكتفي في الإسلام بالشهادتين من دون تكليف المسلم بالاستدلال و النظر. (و جوابه) ان ذلك لا يدل على اكتفائه بالتقليد و ذلك لأن شهادة التوحيد يدل عليها ما هو المرتكز في الأذهان من الدليل الإجمالي و هو انه لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا، و شهادة النبوة تدل عليها المعجزات المتواترة و الآيات البينة فليس ذلك إقرار و تدين بلا برهان و الحاصل ان معجزاته كانت أدلة واضحة و براهين قاطعة للمشاهدين لها و أما الغائبين فبواسطة التواتر يحصل لهم العلم بها. و القرآن الشريف حجة على الجميع لأنه المعجزة الدامغة الخالدة.

(إن قلت) إنه (ص) كان يقبل إقرار المنافقين (قلنا) هذا مشترك الورود مع انه (ص) كان مأمورا مثلنا بالمعاملة على الظاهر و العلم العادي و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 111

صلّى اللّه عليه و آله

بحسب العلم العادي لم يحصل له العلم بانكارهم و إنما حصل له العلم الغيبي بذلك و هو غير مكلف به.

(و رابعها) السيرة المستمرة من زمان النبي (ص) و الأئمة و التابعين و العلماء الى زماننا هذا من ترتيب أحكام الإسلام علي من اعتقد بمثل معتقدهم و تدين بدينهم و إن علموا بعدم استناده الى دليل و نظر. (و جوابه) ان للخصم أن يمنع هذه السيرة و يدعي وجود دليل إجمالي لأبسط العوام إلا من هو غير قادر على النظر و الاستدلال كسذج العوام فيكون من المستضعفين الذين لا يقدرون على الاستدلال و هؤلاء لا كلامنا لنا في عدم وجوب الاستدلال عليهم لعدم قدرتهم عليه.

(خامسها) عدم سؤال العلماء لمن يحضر الشهادة على الطلاق و نحوه من انه يعتقد الإسلام عن دليل أم لا فلو كان الاستدلال معتبرا لسألوه عن ذلك (و جوابه) هو من جهة أصالة الصحة كما هو الشأن في سائر أمورهم.

(سادسها) إن مسائل أصول الدين أغمض من مسائل الفروع فاذا جوزنا التقليد في الفروع فنجوزه في الأصول بالطريق الأولى لأنها أسهل منها (و جوابه) ما تقدم من الجواب الثاني ص 33 من منع الأغمضية لكون مسائل الأصول المطلوب فيها التدين مبنية على قواعد بديهية واضحة بخلاف مسائل الفروع خصوصا مع قلة تلك و كثرة هذه مع أن الدليل على جواز التقليد في الفروع و الدليل على عدم جوازه في الأصول هو المفرق بينهما.

(سابعها) عموم فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* فإنها تشمل سؤالهم عن مسائل الفروع و مسائل الأصول. (و جوابه) إنها مخصصة بما تقدم من الأدلة على حرمة التقليد في الأصول مضافا الى انا لو أخذنا بعمومها للزم دلالتها على جواز أخذ أهل الملل من علمائهم

لأنهم أهل الذكر عندهم فتأمل فإن هذا يرجع الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 112

الدليل الثاني ص 104.

(ثامنها) ان المقلد في أصول الدين يقال له مؤمن لأن الإيمان هو التصديق و المقلد مصدق بذلك فيدخل في قوله تعالى وَعَدَ اللّٰهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ الآية. (و جوابه) انه للخصم أن يمنع أن يكون بالتقليد الإنسان مؤمنا.

(تاسعها) إن معرفة أصول الدين لا يتمكن منها كل أحد بل تستحيل في حق أكثر الناس من العوام البله و أكثر النساء و الأطفال في أوائل البلوغ (و جوابه) ان الغير القادر منهم غير مكلف بالنظر و الاستدلال و عليه أن يرجع الى التقليد فيما هو المتبانى عليه بين أرباب الدين و هؤلاء هم المستضعفون و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيهم.

(عاشرها) ما روي عنه (ص): (عليكم بدين العجائز) فإن دينهن بطريق التقليد لعدم اقتدارهن على النظر. و لفظ عليكم اسم فعل بمعنى ألزموا و ذلك يقتضي حرمة النظر. (و أجيب عنه) إن دينهن بالاستدلالات الإجمالية الجلية فهذه الرواية ناظرة إلى كفاية ذلك من دون خوض في لجج بحار الشبهات التي تجعل العقول حيارى و الأفكار صرعى. و قد أنكر بعضهم هذه الرواية و زعم انها قول سفيان حين أثبت منزلة بين الكفر و الايمان. فقالت عجوز في رده:

هو الذي خلقكم فمنكم كافر و منكم مؤمن. فقال: عليكم بدين العجائز و لكن الإنصاف أنه ذلك لا يمنع صدور الرواية من أهلها.

(الحادي عشر) ان الاستدلال على أصول الدين لم ينقل مع توفر دواعي نقله عن الصحابة و لقضاء العادة. (و جوابه) أن في القرآن ما يدل على وقوعه كقوله تعالى وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و كيف ينكر وقوع

الاحتجاجات من الرسول (ص) و الصحابة و الأئمة الأطهار (ع) و من أراد

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 113

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 113

زيادة الاطلاع فليراجع كتب الأخبار. و في احتجاج الطبرسي غنى و كفاية مع أن البراهين الإجمالية و نقلهم وقوع المعجزات كافية في ذلك.

(الثاني عشر) إن الاستدلال و النظر مظنة الوقوع في الشبهات و التورط في الضلالات أو الخروج عن الدين و المروق عن الصراط المستقيم فيجب تركه لخوف الضرر بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك و أقرب للسلامة فيكون أولى.

(و جوابه) المنع من ذلك كيف و بالنظر تدرك الحقائق فإنها لا زالت تبرق من تصادم الأفكار مضافا الى أن في التقليد احتمال ذلك لاحتمال عدم اطلاع المجتهد على الواقع مضافا الى أن هذا الدليل لو تمَّ إنما يمنع من التعمق في المطالب الفلسفية مع أن الأدلة المتقدمة الدالة على ذم التقليد و وجوب النظر تمنع من هذه الحرمة العقلية مع ان اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد المقلد لزم التسلسل و إن كان عن تقليد المجتهد لزم المحذور المذكور فتأمل فإنه لقائل أن يقول انه يقلد فيما هو ضروري من ضروريات الدين و المتسالم عليه من العقائد الواجبة عند المتدينين.

(الثالث عشر) ما روي انه (ص) خرج على أصحابه فرآهم يتكلمون في القدر فغضب حتى احمرت و جنتاه (ص) و قال: إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا عزمت عليكم أن لا تخضوا فيه. و قال (ص): إذا ذكر القدر فأمسكوا.

(و أجيب عنه) إنا لو سلمنا صحة هذه الرواية فإنما تدل على الخوض في القدر فقط لا على حرمة الاستدلال و النظر على أن مسألة القدر ليست من الأصول الاعتقادية التي يجب الاعتقاد فيها فلعل الخوض فيها فيه مظنة الوقوع في الشبهات التي لا يرجى الخلاص منها.

(الرابع عشر) ما رواه الصدوق (ره) بإسناده في التوحيد عن محمد ابن عيسى قال: قرأت في كتاب علي بن هلال الى العالم يعني أبا الحسن (ع) قد روى أصحابنا عن آبائك (ع) انهم نهوا عن الكلام في الدين فتأول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 114

مواليك المتكلمون بأنه إنما نهي من لا يحسن أن يتكلم فيه فأما من يحسن أن يتكلم فيه فلم ينهه فهل ذلك كما تأولوا أم لا؟ فكتب (ع) المحسن و غير المحسن لا يتكلم فإن إثمه أكبر من نفعه. و نظير هذه الرواية ما في الكافي بإسناده عن أبي بصير تكلموا في خلق اللّه و لا تتكلموا في اللّه فان الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلا تحيرا. و عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد اللّه (ع): إن اللّه تعالى يقول وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهىٰ. فاذا انتهى الكلام الى اللّه فأمسكوا. فإن ظاهر هذه الروايات النهي عن الاستدلال على الأمور الاعتقادية فلو كان النظر و الاستدلال عليها واجبا لأوجب التكلم فيها ليعرف كل أحد منهم ذلك: و حكي عن الشيخ الحر العاملي الطعن على المتكلمين بهذه الرواية أعني رواية الصدوق. و الجواب عن ذلك انها لو دلت على المنع عن الاستدلال و النظر و أغمضنا عن ظهورها في خصوص المجادلة و التكلم بالأدلة فهي ظاهرة في خصوص التكلم في كنه

ذات اللّه و حقيقته كما في أحاديث أخر فقد روى أبي بصير عن أبي عبد اللّه انه قال: تكلموا في حق اللّه و لا تكلموا في اللّه. و في حديث آخر تكلموا في كل شي ء و لا تكلموا في ذات اللّه. و لعل ذلك من جهة أنه مزلقة للوقوع في الشبهات التي لا يرجى الخلاص منها إلا لذوي النفوس القدسية مضافا الى أنها منافية لما دل على المعرفة و التعلم مع أنها منافية لما دل من الآيات على المجادلة بالتي هي أحسن كقوله تعالى وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و قوله تعالى وَ لٰا تُجٰادِلُوا أَهْلَ الْكِتٰابِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و ما روي عن الحسن العسكري (ع) قال: قال جعفر بن محمد (ع):

علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس و عفاريته يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا و عن أن يتسلط عليهم إبليس و شيعته النواصب ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم و الترك و الخزر ألف ألف مرة لأنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 115

يدفع عن أديان محبينا و ديننا و ذلك يدفع عن ابدانه. و ما روي في الاحتجاج ان أبا محمد الحسن العسكري (ع) قال: انه ذكر عند الصادق (ع) الجدال في الدين و إن الرسول (ص) قد نهى عنه. فقال الصادق (ع): لم ينه عنه مطلقا و لكنه نهى عن الجدال بالتي هي غير أحسن أما تسمعوا قول اللّه وَ لٰا تُجٰادِلُوا أَهْلَ الْكِتٰابِ إِلّٰا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و قوله تعالى ادْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و في الكافي ان الصادق عليه السلام

قال ليونس بن يعقوب: لو كنت تحسن الكلام كلمت الشامي؟ قال يونس: فيا لها من حسرة. قلت: جعلت فداك إني سمعتك تنهى عن الكلام و تقول ويل لأصحاب الكلام فقال (ع): إنما قلت ويل لهم ان تركوا ما أقول و ذهبوا الى ما يريدون. و عن الصادق (ع) إنه قال لهشام مثلك من يكلم الناس. و عن الامام موسى بن جعفر (ع) انه قال لمحمد بن حكيم كلم الناس و بين لهم الحق الذي أنت عليه و بين لهم الضلالة التي هم عليها. و روى عن الصادق عليه السلام انه نهى رجلا من الكلام و أمر آخر به فقال له بعض أصحابه:

نهيت فلانا عن الكلام و أمرت هذا به فقال هذا أبصر بالحجج و أوفق منه. و عنه عليه السلام لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم (ع) من العلماء و الداعين اليه و الدالين عليه و الذابين عن دينه بحجج اللّه و المنقذين لضعفاء عباد اللّه من شباك إبليس و مردته و من فحاج النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن اللّه عز و جل و لكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها أولئك هم الأفضلون عند اللّه عز و جل الى غير ذلك من الروايات و الأخبار الدالة بدلالة الاقتضاء على طلب مزيد المعرفة و التعلم لأصول المذهب بأدلتها و براهينها و دفع الشبهات عنها. و قد حمل تلك الرواية صاحب عماد الإسلام على التقية لما هو معلوم في زمان أبي الحسن (ع) المروي عنه تلك الرواية إنه كان زمان تقية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 116

شديدة حتى في باب التسمية باسمه (ع) لا سيما

في المكاتبات فان مراعاة التقية فيها أهم و القرينة على ذلك هي ما في الكشي أن هشام قال ليونس إن أبا الحسن عليه السلام بعث اليه أن يكف في هذه الأيام عن الكلام فإن الأمر شديد و بهذا المضمون روايات أخرى.

(الخامس عشر) ما روي من أنه هلك المتكلمون و نجى المسلمون.

و عن الصادق (ع) إنه نهى عن الكلام فقيل له إنا نحتاج إليه لإلزام الخصوم فقال (ع): خاصموهم بما بلغكم من علومنا فان خصومكم قد خاصمونا و أيضا روى الكشي عن المشرقي إنه قال للصادق (ع): و اللّه ما نقول إلا بقول آبائك (ع) و إنما نتكلم عليه فأقبل أبو جعفر (ع) فقال: إذا كنتم لا تتكلمون بكلام آبائي فبكلام أبي بكر و عمر تريدون أن تتكلموا. فان هذه الروايات تدل على عدم النظر و الاستدلال مطلقا كما هو المدعى و ان على المكلف أن ينظر و يستدل بما روي عنهم (ع). و الجواب إن ظاهر الرواية الاولى أن المتكلمين المخالفين للإسلام من الهالكين بقرينة المقابلة و هذا لا ينكره أحد.

(و أما الرواية الثانية) فعلى تقدير صحتها فالظاهر ان المراد أن الموارد التي فيها استدلال منا لا تذكروا غيره فإنه أصح الاستدلالات إذ عليهم السلام لا يذكرون إلا ما هو الصحيح. و يمكن أن يراد بها أنكم لا تخاصموهم إلا في عقائدنا دون غيرها من مسائل الكلام كبساطة الأفلاك و كون الوجود خير محض و العدم شر محض و نحو ذلك.

(و أما الرواية الثالثة) فالغرض منها إنا ننظر و نستدل على عقائدنا لا على عقائد غيرنا.

(السادس عشر) من أدلتهم على عدم وجوب النظر بل حرمته قوله تعالى مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اللّٰهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.

و النظر و الاستدلال يفتح باب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 117

الجدل فيحرم. و أجيب بأن المراد الجدل بالباطل كما في قوله تعالى وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ. لا الجدال بالحق لقوله تعالى وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. و الأمر بذلك يدل على أن الجدال في العقائد مطلقا ليس منهيا عنه.

و الاولى أن يقال إن ظاهر الآية هو الجدال في البراهين القطعية باعتبار نسبة الآيات للّه تعالى و هذا لا يصدر إلا من الجاحدين المعاندين المستهزئين بها. كيف و قد ورد الإنكار على تارك النظر في قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا خَلَقَ اللّٰهُ. و قد أثنى على فاعله في قوله تعالى وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ.

(السابع عشر) من أدلتهم أنه من العقائد الواجبة ما لم يمكن تحصيل النظر و الدليل القطعي عليها كالاعتقاد بإمامة الأئمة عليهم السلام و نص بعضهم على بعض إذ ليس في الكتب ما يحصل به التواتر و لا الخبر المحفوف بالقرائن نص بعضهم على بعض و لا بمعجزاتهم بل غاية الأمر حصول التواتر المعنوي لبعض أهل العلم مع أن تمييزان ذلك معجزة أو سحر ليس يقدر عليه كل أحد. (و جوابه) ما تقدم منا أنه توجد أمارات و أخبار صحيحة معتبرة و هي حجة و إن لم تفيد العلم و لكنها لما كانت جامعة لشرائط الحجية وجب التدين بها و هو المطلوب نظير من يتدين و يعقد قلبه على ما قامت عليه البينة من ثبوت الهلال و نحوه و يؤيد ذلك تقرير المعصومين (ع) في اعتقاد إمامتهم بمجرد اخبار الرواة فهم لم يظهروا المعجزة لكل أحد يعتقد بهم و لم يحضروا

جماعة يحصل بهم التواتر عند النص على امام بعدهم كل ذلك اكتفاء بأخبار الرواة الموثوقين مع ان جماعة من أصحاب الأئمة (ع) يستفهمون عن العقائد و الأئمة (ع) يخبرونهم عنها و هم يأخذون بظاهر الكلام و ينقلونه لغيرهم فلو لم تكن الأمارات المعتبرة حجة عندهم و يتدين بها لما نقلوها لغيرهم و لما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 118

أخذوا بظاهرها.

(الثامن عشر) من أدلتهم انه يلزم أن يخلد في النار و يكون كافرا من اشتغل بالنظر و مات قبل أن يحصله لأنه لم يعتقد بالعقيدة عن دليل قطعي.

(و جوابه) انه لا ريب في انه معذور للزوم التكليف بالمحال و هو ليس بكافر و قد عرفت أنه يرتب عليه آثار الإسلام ما لم يظهر الجحود في هذه الحال.

(التاسع عشر) من أدلتهم ان الايمان كما في الأخبار على قسمين مستقر و مستودع و لا بد أن الايمان المستودع ناشئ عن المظنة و التقليد لا عن الأدلة اليقينية و الا يصير مستقرا لا يزول و الأئمة (ع) كانوا يعاملون الجميع معاملة واحدة فلو كان يعتبر النظر لكانت معاملتهم تختلف في ذلك. (و جوابه) إن للخصم أن يقول إن الايمان المستودع هو غير الثابت و يمكن أخذه من الأدلة اليقينية و تطرأ عليها الشبهة فتزلزلها.

(العشرون) إن الكثير من الشيعة مقلدة في أصول عقائدهم مع حكم الأئمة (ع) بدخولهم الجنة. فعن الحجة (ع) ان جماعة يقال لهم الحقية و هم الذين يقسمون بحق علي (ع) لمحبتهم إياه و لا يدرون حقه و فضله يدخلون الجنة (و جوابه) كما ذكره القمي (ره) من حملهم على الغفلة، أو لعله لوجود دليل إجمالي عندهم على اعتقادهم

و ينبغي التنبيه على أمور:
اشارة

من يجب عليه التدين

بأصول العقائد

(أحدها) [وجوب المعرفة و التعلم على الصبي المميز]

في من تجب عليه المعرفة بأي معنى فسرناها و الظاهر انها تجب على كل قادر إجماعا و إنما الكلام في وجوبها على الصبي المميز فالمحكي عن المفيد رحمه اللّه و السيد نور اللّه التستري صاحب إحقاق الحق و ابن أبي جمهور الأحسائي وجوبها على المميز و إن كان وجوب التكاليف الشرعية الفرعية على البالغ و الدليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 119

على ذلك ان التكاليف المتعلقة بأصول الدين هي تكاليف عقلية لا شرعية فإذا كمل الصبي عقله و صار مميزا وجب عليه امتثالها شأن سائر التكاليف العقلية كما يؤيد ذلك قصة يحيى بن زكريا (ع) فقد آتاه اللّه الحكم صبيا. و قصة عيسى (ع) فقد آتاه الكتاب و جعله نبيا حينما كان صبيا و عليه فلو سلمنا ان أمير المؤمنين (ع) كان عند المبعث سبع سنين لم يدل ذلك على أن أيمانه كان على سبيل التلقين لا على سبيل المعرفة و اليقين و ذلك لأن صغر السن لا ينافي كمال العقل و وجوب التكاليف العقلية عليه. و المحكي عن السيد المرتضى (ره) و الشهيد الثاني في المسالك في كتاب الجهاد، و عن العلامة في النهاية عدم تكليف الصبي بذلك و استدل على ذلك بالحديث المشهور بين الخاصة و العامة من قول النبي (ص) رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، و عن النائم حتى يستيقض، و عن المجنون حتى يفيق، و بأن المميز قاصر الفهم لا يعرف ما يعرفه كامل العقل من وجود اللّه تعالى و بيان صفاته مضافا الى أنه لو قارب البلوغ بحيث لم يبق بينه و بين البلوغ سوى لحظة واحدة و كان فهمه كفهم البالغ

إلا أنه لما كان العقل و الفهم خفيا و ظهوره يقع على التدريج و لم يكن له ميزان يعرف به كمال عقله و فهمه جعل الشارع له ضابطا و هو البلوغ و أسقط التكليف عنه قبله تخفيفا عليه. و التحقيق أن يقال إن الصبي المميز إن كان عرض عليه الخوف في ترك ذلك وجب عليه بحكم العقل و إن كان في الواقع الشارع لا يعاقبه على تركه. و من هنا يظهر حال زمان الفترة في ما بين الرسول (ص) و بين عيسى (ع) فإنهم مكلفون بما يحكم عقولهم من أصول الدين.

عقد القلب لازم قبل المعرفة و بعدها

(ثانيها) انه يجب على العبد الملتفت الالتزام بالواقع بما هو واقع إجمالا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 120

في أصول الدين قبل المعرفة لاقتضاء ذلك الطباع بنفس ذاتها فإنها في كل شي ء التفت اليه لمعرفته تجدها ملتزمة بواقعة و ما هو الحق فيه و لذا تبحث عن معرفته مضافا لخوف الضرر بترك الالتزام. و أما بعد المعرفة فللأدلة المتقدمة على وجوب عقد القلب مضافا إلى أن عدم الالتزام يدخل معه الإنسان في الجحود الذي يستحق عليه العقاب.

حقيقة الإيمان

(ثالثها) إن الايمان لغة هو التصديق كما هو المنقول عن أهل اللغة
اشارة

و الظاهر إن مرادهم بالتصديق ليس هو اليقين و المعرفة بل عبارة عن التسليم و الإذعان بدليل اشتقاقه من الأمن الذي هو سكون النفس و اطمينانها لعدم ما يوجب الخوف و لما ذكروه من أنه يتعدى بالباء نحو (آمنت باللّه و برسله) باعتبار معنى الإقرار و التسليم و يتعدى باللام نحو (ما أنت بمؤمن لنا) باعتبار الإذعان و القبول و عليه فيرجع الايمان لغة إلى عقد القلب. و أما شرعا فالظاهر انه لم ينقل عن معناه اللغوي المذكور و إنما قيد متعلقه باللّه و برسله و غير ذلك دون مطلق الأشياء و يدلك على ذلك ما عرفته من دلالة الآيات و الروايات من ان المطلوب شرعا هو عقد القلب في العقائد دون شي ء آخر فيكون هو الايمان المطلوب شرعا و يؤيد ذلك من أنه عند الشرع مستعمل في معناه اللغوي و إنما يختلف في متعلقه ما روي أنه سئل النبي (ص) عن الايمان فقال (ص):

(الأيمان أن تؤمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله) الحديث. حيث اكتفى الرسول بمعناه اللغوي دون أن يفسر له الإيمان بشي ء آخر و إنما ذكر متعلقه.

و مما يدل على ذلك هو أن أكثر المسلمين على أن الايمان الشرعي هو التصديق و الإذعان

باللّه وحده و صفاته و نبوة نبينا محمد (ص) و بما علم بالضرورة مجيئه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 121

من اللّه تعالى لا ما وقع الخلاف فيه. و زاد المعتزلة التصديق بالعدل. و زاد الإمامية التصديق بالعدل و التصديق بإمامة الأئمة (ع) ثمَّ انه بقي الكلام في مقامين:

(أحدهما) [الإقرار بالشهادتين داخل في حقيقة الإيمان]

إن الإقرار باللسان بالشهادتين داخل في الايمان لما ذكره الشهيد الثاني (ره) من كون ذلك عليه أكثر الإمامية و أكثر المسلمين بل حكي عن بعضهم إجماع المسلمين عليه. و لإطباق علمائنا على عدم إيمان أهل الكتاب بأجمعهم مع أن منهم من يعرف نبوة نبينا (ع) كمعرفة أبنائهم كما أخبر اللّه تعالى بذلك عنهم مع ما تقدم ص 97 من الأخبار الدالة على أن الايمان أعلى درجة من الإسلام، و الإسلام قد تقدم ص 98 يعتبر فيه الإقرار باللسان بالشهادتين و لما روي بعدة طرق في كتاب عيون أخبار الرضا (ع) الإيمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان و لما رواه علي بن إبراهيم بسنده عن عجلان بن أبي صالح قال: قلت لأبي عبد اللّه أوقفني على حدود الايمان؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و صلاة خمس، و أداء الزكاة، و صوم شهر رمضان، و حج البيت، و ولاية ولينا، و عداوة عدونا، و الدخول مع الصادقين. الى غير ذلك من الأخبار المذكورة في الكافي. و لقوله تعالى قُولُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا و لقوله (ص):

«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه». و لما عن الصادق (ع) و فرض اللّه على اللسان القول

و التعبير عن القلب بما عقد عليه و أقر به.

(إن قلت) إن الظاهر من الروايات ان شرط الايمان عدم الجحد دون الإقرار باللسان كما دلت عليه رواية محمد بن مسلم المتقدمة ص 88 لقوله (ع) فيها: «إنما يكفر إذا جحد» إذ ظاهرها بواسطة مفهوم الشرط إن مع عدم الجحد ليس بكافر سواء أقر أم لم يقر. (قلنا) ظاهر الرواية إن آثار الكفر إنما تترتب عليه إذا جحد و إنها لا تترتب عليه إذا لم يجحد. أما ان آثار الايمان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 122

تترتب عليه إذا لم يجحد فلا دلالة للرواية عليه.

(إن قلت) انه على هذا من حصل له التصديق بالمعارف الإلهية ثمَّ عرض له الموت قبل الإقرار أن يموت و هو كافر و ليس بمؤمن و يستحق العقاب و لا نظن أن أحدا يلتزم بذلك كما ذكره الشهيد الثاني (ره). (قلنا) إن كان تركه الإقرار عن تعمد فنلتزم بذلك و إن كان عن غفلة أو عدم قدرة لتقية أو لنوم أو نحوه فهو معذور فلا يعاقب على تركه للايمان و (بالجملة) فالظاهر لزوم الإقرار مع استمرار عقد القلب عليه و لا ينافيه السكوت المجرد الواقع بعده و إنما ينافيه الجحد لزوال الإقرار به.

(إن قلت) فعلى هذا يلزم ثبوت الواسطة بين الايمان و الكفر و هو الذي لم يجحد و لم يقر إذ مقتضى عدم جحده انه ليس بكافر للروايات المتقدمة ص 88 كرواية محمد بن مسلم. و مقتضى عدم إقراره أنه ليس بمسلم و لا مؤمن لاعتبار الإقرار في الإسلام المعتبر في الايمان كما تقدم ص 97. (قلنا) ظاهر جملة من الأخبار ثبوت الواسطة و يسمى ب (الضال) منها ما

تقدم من رواية محمد بن يحيى ص 95 و 96. و منها ما في رواية الكافي في باب أصحاب الأعراف عن زرارة إنه قال أبو جعفر (ع): و اللّه ما هم بمؤمنين و لا كافرين. و نظيرها رواية الكافي عن زرارة أيضا عن أبى جعفر (ع) في المستضعفين إنهم ليسوا بمؤمنين و لا كافرين. و منها ما في رواية الكافي عن عمر بن أبان عن أبي عبد اللّه في المستضعفين هم ليسوا بالمؤمنين و ليسوا بالكفار و منهم المرجون لأمر اللّه.

(المقام الثاني) [عدم دخول فعل الأركان من فعل الواجبات و ترك المحرمات في الايمان]

إن العمل بالأركان من فعل الواجبات و ترك المحرمات داخل في الايمان أم لا و الحق عدم دخوله لقوله تعالى طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا. فإنه أثبت الإيمان لمرتكب المعصية و هو القتل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 123

و دعوى أن تسميتهم بالمؤمنين باعتبار ما كانوا كما هو مذهب المعتزلة في المشتق (فاسدة) لأن المشتق ليس كذلك و لقوله تعالى بعد ذلك إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ. فإنه أمر بالإصلاح بينهم حال إخوتهم و هي لا تكون إلا بالايمان و للإجماع المنقول على أن الايمان شرط لصحة العبادات و إن فساد العبادة لا يوجب فساد الايمان و لما ذكره بعضهم من اتفاق أهل الحق على أن المؤمن لا يدخل النار و إن ارتكب الكبيرة فلو كان العمل جزءا من الايمان لكان بارتكابه الكبيرة يخرج عن كونه مؤمن و لقوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً. و لا ريب أن الأمر بالتوبة إنما يكون لمرتكب الذنب.

(ان قلت) قد روي أن الزاني لا يزني و هو مؤمن و هذا يدل على اعتبار ترك المحرمات في الايمان و

لما تقدم من رواية عيون أخبار الرضا (ع) من أن الايمان معرفة بالقلب، و إقرار باللسان، و عمل بالأركان (قلنا) بعد صريح الآية لا بد من حمل هذه الأخبار على إرادة الايمان الكامل و بدرجته العالية. و أما الاستدلال بمثل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ* على أن الايمان لا يعتبر فيه العمل بالأركان لأن العطف يقتضي المغايرة فمردود إذ للخصم أن يقول ان الصالحات يشمل الواجبات و المستحبات، و المستحبات ليست بجزء من الايمان فيصح عطفها لحصول المغايرة.

حقيقة الإسلام و عدم كفر المخالفين

(رابعها) ان الإسلام هو الانقياد و الإذعان بإظهار الشهادتين و الإقرار بهما

سواء اعترف بباقي أصول الدين أم لا و لذا يكفي في تحققه شرعا الإقرار بهما سواء علم من المقر التصديق بذلك أم شك فيه كما صرح العلماء بذلك في كتب الفروع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 124

و غيرها. و تقتضيه الآية الشريفة. قٰالَتِ الْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا. و لما تواتر عن النبي (ص) و الصحابة إنهم كانوا يكتفون بالإسلام بإظهار الشهادتين ثمَّ بعد ذلك ينبهون المسلم على بعض المعارف الدينية التي يتحقق بها الايمان و بهذا المقدار يرتب عليه آثار الإسلام الدنيوية من الطهارة و جواز النكاح و الدية التامة. و لذا حكم علماء الإمامية بإسلام أهل الخلاف. و حكى الإجماع صاحب كشف اللثام، و صاحب الروض على عدم احتراز الأئمة (ع) و أصحابهم عنهم في شي ء من الأزمنة، و للنصوص الدالة على حلية ما في سوق المسلمين مع ندرة سوق مخصوص بالإمامية. و المحكي عن مفتاح الكرامة انه حكى الإجماع على طهارتهم عن أستاذه مضافا الى ما في رواية حمران بن أعين أو صحيحه عن أبي جعفر (ع) المتقدمة ص

99 و رواية سفيان السمط المتقدمة ص 98، و رواية سماعة ص 99، و ما هو المحكي عن الكافي في باب ارتداد الصحابة من رواية زرارة عن الباقر (ع) و فيها فأما من لم يصنع ذلك و دخل فيما دخل فيه الناس على غير علم و لا عداوة لأمير المؤمنين فإن ذلك لا يكفره و لا يخرجه عن الإسلام. و المنقول عن شرح المفاتيح للأستاذ الوحيد (ره) إن الأخبار بذلك متواترة و هي مؤيدة بالشهرة و الإجماعات المنقولة. نعم من كان من المخالفين منكرا لما هو مقطوع به من الدين و لو لم يكن ضروريا بأن كان قاطعا بأنه من الدين و أنكره كمن حضر بيعة غدير خم و أنكرها فهو كافر لأنه يرجع لإنكار النبوة و لما جاء به النبي (ص) و لذا حكم الأصحاب بكفر النواصب الذين نصبوا العداوة لأهل البيت (ع) لأنهم أنكروا الولاية التي هي مقطوع بها أنها من الدين.

(إن قلت) أن هناك ما يدل على كفر المخالفين كبعض الروايات الدالة على أن الناصب من نصب العداء لشيعتهم (ع) و لا ريب أن المخالفين كذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 125

و الأخبار الدالة على كفر من أنكر إمامة الأئمة (ع) كقوله (ع): من مات و لم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية. و من لاحظ كتاب تفسير الإمام العسكري (ع) و تفسير الصافي في الآيات الواردة في حقهم (ع) يجد الكثير من تلك الأخبار. و كالأخبار الدالة على بناء الإسلام على خمس منها الولاية و مقتضى ذلك انه بانتفائها ينتفي الإسلام لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء و ما حكي من نقل عدم الخلاف في كفرهم كما عن السرائر و

الشيخ بن نوبخت في فص الياقوت. و لا أقل من كفر المجسمة منهم و المفوضة منهم لما روي عن الرضا (ع) من أن القائل بالجبر كافر و القائل بالتفويض مشرك و عن الرضا (ع) إن الناس في القدر على ثلاثة أوجه رجل يزعم ان اللّه تعالى أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم اللّه في حكمه فهو كافر، و رجل يزعم ان الأمر مفوض إليهم فهذا قد أوهن اللّه في سلطانه فهو كافر الحديث. (قلنا) مضافا الى أن الأخبار المذكورة الدالة على إسلامهم أقوى و أظهر دلالة و أكثر موافقة للمشهور فتوى و عملا و لحكاية الإجماع عن كشف اللثام و الروض و مفتاح الكرامة على ما يدل على إسلامهم و عدم كفرهم و سيرة الأئمة (ع) على ذلك و هذا ما يوجب ترجيحها على الأخبار الدالة على كفرهم. فإنه مضافا الى ذلك أن أخبار الناصب إنما هي ظاهرة في من نصب العداوة للشيعة من جهة حبهم لأهل البيت و هذا داخل في الناصب لأهل البيت و هو يرجع لجحد النبوة لكون حبهم من ضروريات الدين و نص عليه القرآن الكريم بقوله تعالى قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ و أما من نصب العداوة للشيعة لا من الجهة المذكورة فلا تدل الأخبار على انهم من النصاب و إنما ادعينا ظهورها في ذلك لما فيها من التعليل بقوله (ع): «لأنك لا تجد رجلا يقول أنا أبغض محمدا و آل محمد و لكن الناصب من نصب لكم و هو يعلم انكم توالوننا و أنتم من شيعتنا» و لو سلم فهي إنما تدل على أنهم نصاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 126

و

لا تدل على أنهم كفار نجسين فان ظاهر الأخبار الدالة على نجاسة النصاب ظاهرة في الذي نصب العداوة لأهل البيت و في بعضها (لنا). و أما الأخبار الدالة على كفر من أنكر الولاية فالظاهر بقرينة الأخبار المتقدمة ان الكفر فيها نظير الكفر الذي هو موجود في الأخبار بالنسبة لتارك الصلاة و في قوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعٰالَمِينَ. فان المراد بذلك هو الفسق و الحاصل أن في الأخبار يكثر إطلاق الكافر على من هو مسلم قطعا كتارك الصلاة أو الحج أو الزكاة فيكون إطلاق الكافر غير موجب لنفي الإسلام مع ما عرفت من أن إنكار الولاية باعتبار نص القرآن عليها بقوله تعالى قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبىٰ. و لقيام ضرورة الدين عليها يكون إنكارها إنكارا للنبوة و هو موجب للكفر. و أما خبر (من مات) فلا يدل على الكفر بل هو ظاهر في التنظير بالميتة الجاهلية و هو إنما يقتضي أنه ضال. و أما أخبار بناء الإسلام على خمس فلا بد من أن يراد به الإسلام الحقيقي الذي يوجب دخول الجنة لا الإسلام الظاهري بدليل عد إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة منها.

و أما ما حكي من نفي الخلاف ففيه ان الشهرة و الإجماعات المحكية تنفي ذلك.

و أما الخبران الدالان على كفر المجبرة و المفوضة فمضافا الى عدم ثبوت صحتهما و وهنهما بعدم عمل المشهور بهما حيث لم يفتي بمضمونهما أحد سوى ما يحكى من أن الشيخ (ره) وجدنا كاشف الغطاء قد أفتيا بنجاسة المجبرة. و الحاصل ان المخالفين و غيرهم إن أنكروا ما يقطعون به من الدين

فهم كافرون لأنه يرجع إنكارهم إلى إنكار ما جاء به النبي (ص) و هو يرجع لإنكار النبوة كما هو ظاهر رواية عبد الرحيم القصير لقوله (ع): و لا يخرجه الى دار الكفر إلا الجحود و الاستحلال بأن يقول للحلال هذا حرام و للحرام هذا حلال و دان بذلك و قوله تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ. فان الظاهر هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 127

قول من يعتقد الحكم الشرعي و يقول بخلافه و إلا لزم كفر المجتهد المخطئ و من هذا الباب حكم على المستخف بالدين كافر كالملقي للقرآن في القاذورات و المهدم للمساجد و المستهزء بالمؤدين للواجبات الدينية استنكارا لها و تعصبا و عنادا (و بعضهم أضاف) إلى الإقرار بالشهادتين الإقرار بما جاء به النبي (ص) و لكن لا حاجة له لأنه يلازم الإقرار بالرسالة. و لو ذهب ذاهب الى عدم الملازمة فنقول: انه لا دليل على ثبوت اعتباره في الإسلام، و اشتمال بعض الأخبار عليه لا ينفع لأنه لم يعهد من المسلمين اعتباره فان الرسول (ص) كان يكتفي بالشهادتين فلم يعمل بهذه الأخبار مضافا لمعارضتها برواية محمد بن مسلم المتقدمة ص 88.

احكام الواسطة بين الإسلام و الكفر

(خامسها) قد عرفت في مبحث الايمان وجود الواسطة بين الإسلام و الكفر

و مقتضى القاعدة عدم ترتيب أحكامهما عليها فلا يحكم بالنجاسة لأن النجاسة من آثار الكفر و عليه فتكون طاهرة و لا يجوز النكاح و التوارث لأنها من أحكام الإسلام. و بالجملة إن ذلك تابع للدليل فما دل عليه الدليل إنه من آثار أحدهما لا يحكم به عليها.

الدليل الذي يطلب تحصيله في المعارف الإلهية

(سادسها) قد عرفت عدم جواز التقليد في المعارف الإلهية التي يتوقف حصول الايمان عليها

و انه لا بد من الدليل عليها و الكلام هنا في المراد بالدليل فنقول إن المراد به هو الدليل الذي يحصل به اطمئنان النفس بحسب استعدادها و يسكن اليه القلب بحيث ينقاد اليه و يسلم بالمعارف لديه و ليس يراد منه الدليل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 128

المشتمل على مقدمات تفصيلية و استقصاء للشبه الالحادية و الدليل على ذلك هو سيرة المسلمين عليه كيف و الأدلة التي ذكرها القرآن الشريف و اشتملت عليها الأخبار كانت كلها إجمالية لا تفصيلية.

الامارة المعتبرة إذا قامت على المعارف الإلهية

(سابعها) ان المعارف الإلهية إذا قامت عليها الأمارات الظنية المعتبرة
اشارة

بعد الفحص عما يعارضها و يخالفها و لم يظفر به إذ مع عدم الفحص لا حجية لها هل يجب التدين بها و عقد القلب عليها أم لا، فلو قام الخبر الجامع لشرائط الصحة على كيفية المعاد فهل يجب التدين بمضمونه أم لا و هكذا لو كان ظاهر لفظي للكتاب أو للسنة المتواترة أو للخبر المحفوف بالقرائن القطعية يدل مثلا بعمومه على حشر الدود يوم القيامة فهل يجب التدين به أم لا فقد يقال بوجوب التدين به لأن هذا نوع من العمل بالأمارة الظنية و لذا تمسك جملة من العلماء في بعض العقائد بأخبار الآحاد المعتبرة بل كان القوم في عصر المعصومين (ع) يأخذون بظواهر القرآن و كلماتهم (ع) في عقائدهم مضافا الى ذلك لزوم لغوية الاخبار بأحوال المحشر و الأمور العلوية و السفلية و أحوال الأنبياء و الأمم السالفة و نحو ذلك و لا وجه لاهتمام العلماء بحفظها و تدوينها و لا يمكن إثبات أحوال واقعة كربلاء و مظلومية الزهراء (ع) و نحو ذلك فالحق أن يقال إن الأمارات المعتبرة في الأحكام الفرعية الشرعية يكون المطلوب هو

العمل و في الحوادث الكونية و العقائد الدينية يطلب فيها الالتزام و عقد القلب غاية الأمر الموارد التي يجب فيها الالتزام و عقد القلب يجب فيها ذلك عند قيام الامارة المعتبرة و الموارد التي لا يجب فيها الالتزام و عقد القلب لا يجب فيها ذلك عند

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 129

قيامها و لكن لا يصح عقد القلب على خلافها إلا بدليل أقوى منها و يؤيد ذلك التجاء بعضهم إلى تأويلها في بعض الموارد دون أن يردّ عليها بأنها أمارات ليست بحجة في العقائد. و يؤيد ذلك أيضا قوله (ع): «من أخذ دينه من الكتاب و السنة زالت الجبال و لم يزل». و هو إن لم يكن ظاهرا في العقائد فلا أقل من شموله لها

(و قد يستدل على وجوب تحصيل الظن بالعقائد)
اشارة

و التدين بمؤداه عند انسداد باب العلم بها و اليأس من اليقين بها بأن العقل يحتمل قيام الظن مقام العلم عند الانسداد فيحكم بلزوم تحصيله لاحتمال الضرر بتركه عند الانسداد كما ذكروه في صورة الانفتاح و إن. (شئت قلت) انه عند الانسداد يدور أمر الجاهل بين البقاء على الشك و بين تحصيل الظن و يحتمل تعيين الثاني عليه فلا محالة يحكم عقله بتعيين الثاني من باب الاحتياط، و حيث انه يجب التدين بالواقع و قد ثبت الواقع بهذا الظن فيجب التدين بمؤداه و يرد عليه:

(أولا) بأن التدين بالمظنون لا يجوز لمكان احتمال تخلفه عن الواقع.

(و جوابه) انه لما كان لا طريق للواقع إلا الظن و التدين به مطلوب فيدور الأمر بين إهمال التكليف كلية و لا يتدين بشي ء أو يتدين بالمظنون لظنه بمطابقته الواقع و لا شك أن الثاني أرجح في نظر العقل و لقاعدة الميسور.

(إن

قلت) إنه يمكنه أن يتدين بالواقع بما هو واقع على إجماله من دون تعيينه فيمكنه امتثال التكليف من دون احتمال المخالفة للواقع. (قلنا) المطلوب للشارع هو التدين بالواقع على سبيل التعيين فمثلا المطلوب هو التدين بكون خالق الخلق هو اللّه تعالى لا الواقع بما هو واقع فاذا فرض إنه انسد عليه اليقين باللّه فالظن به يكون حجة له و يتدين به إذ لا طريق للواقع المعين إلا هو. و هذا هو مسلك العقلاء في سائر شؤونهم الحيوية فيجب تحصيل الظن بالواقع في العقائد الدينية التي يطلب فيها تحصيل التدين بها. (و دعوى) أن التدين بالمظنون لا يخلو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 130

من محذور مخالفة الواقع. و العقل لمحذور مخالفة الواقع يحكم بعدم جواز التدين بالمظنون (مدفوعة) بأن التدين بالمعلوم أيضا لا يخلو عن محذور مخالفة الواقع فالمحذور موجود فيه فيقتضي أن لا يجوز التدين به غاية الأمر انه لا احتمال بالخلاف للعالم بخلاف الظان (و الحاصل) ان الظاهر جواز التدين لمن قامت عنده أمارة معتبرة بحسب نظره و حالها حال العلم و لعل ذلك ثابت حتى في الموضوعات ألا ترى أن البينة إذا قامت على أن الدار لزيد تدين بذلك و عقد عليه القلب على أن في التدين بالمظنون مخالفة احتمالية و التدين بالواقع على إجماله مخالفة قطعية لعدم التدين به تفصيلا.

(و يرد عليه ثانيا) ان الالتزام بالمظنون تشريع محرم مولويا أو عقليا و توضيح ذلك أن الحاكم بحجية الظن الانسدادي هو العقل و هو لا يحكم بها إذا كان محذور آخر في البين كما في المقام فان التدين مخالفة قطعية بالنسبة إلى حرمة التشريع و موافقة احتمالية ظنية بالنسبة إلى

وجوبه و العقل لا يجوّز المخالفة القطعية لمراعاة الموافقة الاحتمالية و لو كانت ظنية و هذا بخلاف الفروع فإنه يمكن اتباع الظن فيها من دون التزام في البين حتى يعارض بحرمة التشريع و (لا يخفى ما فيه) فان التدين بالواقع إذا كان مطلوبا بعنوان خاص فيكون عاصيا بتركه مع وجود الطريق الى الواقع بحسب حكم العقل من دون فرق بين الفروع و الأصول و لا تشريع في البين مع وجود الحجة على الواقع. مضافا الى أنه عند الانسداد يجي ء ملاك وجوب المعرفة في الظن من خوف الضرر بتركه و إن به أداء الشكر و احتمال الوقوع في خلاف الواقع بالتدين به جاري في العلم غاية الأمر لا يحتمله العالم و هو غير صالح للفارق على أن التشريع إنما يكون في الأحكام الشرعية لا في الأمور الواقعية و قد قرر المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ره) دليل الانسداد في المقام بوجه أبسط و ألطف اطلعنا عليه بعد كتابتنا هذه الأسطر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 131

و حاصله إن الواجب إذا كان هو عقد القلب على المعلوم بما هو المعلوم بنحو الواجب المطلق أو المشروط فلا مجال لإجراء دليل الانسداد لأنه عند الانسداد لا يتمكن العبد من الامتثال و لا مجال لحجية الظن بالخصوص فيه إذ لا أثر للواقع حتى يترتب على المؤدى تنزيلا له منزلة الواقع و أما إن كان الواجب عقد القلب على الواقع فالعلم منجز للتكليف و طريق لامتثاله و الأثر يكون للواقع فعند انسداد باب العلم و تمامية سائر المقدمات تصل النوبة إلى حجية الظن و لزوم عقد القلب على المظنون عقلا من باب التنزل عن الإطاعة العلمية إلى الإطاعة

الظنية لانسداد باب العلم و عدم جواز إهمال الامتثال للتكليف رأسا و عدم التمكن من الاحتياط التام لعدم إمكان عقد القلب على الطرفين لعدم إمكان الالتزام الجدي بالشي ء و نقضيه و لا وجه لعقد القلب بنحو التخيير و لا بنحو الاجمال لفرض أن الواجب هو أحد الطرفين بخصوصه شرعا فيحكم العقل بالرجوع الى الظن و قد أجاب (ره) عن هذا الدليل بأن الأمر يدور بين الاحتياط الناقص بعقد القلب على الواقع إجمالا و إلغاء الخصوصية و بين عقد القلب على المظنون بخصوصه و الأول أولى من الثاني لأن عقد القلب على الواقع إجمالا فيه موافقة قطعية بمقدار جزئي بخلاف الالتزام بالمظنون فإنه يحتمل معه ترك الالتزام بأصل الواجب الواقعي و العقل يحكم بالأول دون الثاني انتهى «و لا يخفى ما فيه» فان في عقد القلب على الواقع مخالفة قطعية لترك تعيين أحد الطرفين بخلاف عقد القلب على المظنون فان فيه مخالفة احتمالية و العقل يرجح الثاني على الأول مضافا الى ما عرفت من قيام السيرة على العمل بالروايات و بالعمومات و الظواهر في الأصول الاعتقادية التي لا طريق لها إلا النقل فيكون ذلك مرجحا للتدين بالظن مضافا الى ما يمكن أن يقال إن كثرة الأدلة و الطرق على الأصول الاعتقادية حتى ادعى بعضهم حصول العلم بها لكل أحد تجعل الظن الحاصل بالفحص أو بالعقل يطابق الواقع لأن الأدلة على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 132

الواقع أكثر و أوضح من الأدلة على خلافه في الأصول الاعتقادية.

(و قد ذهب أكثر علمائنا الى عدم الوجوب)

لأن التدين و عقد القلب و إن سلم كونه نوع عمل بالظن المعتبر لكن الأدلة التي دلت على حجية الظنون إنما تدل عليها بالنسبة إلى آثار الواقع

لا الآثار المترتبة على الواقع بوصف انه مظنون أو معلوم، و وجوب التدين و عقد القلب على الواقع من آثار الاعتقاد الجزمي بالواقع لا من آثار نفس الواقع بما هو واقع فاذا لم يعلم بالواقع و لو لانسداد العلم به ينتفي وجوب عقد القلب لانتفاء موضوعه. و لا يخفى ما فيه فان موضوع وجوب التدين و عقد القلب هو الواقع لا العلم به و لا الظن به لأن وجوب التدين إن كان من باب حكم العقل فالعقل إنما يحكم بملاك خوف الضرر و من المعلوم إنه إنما يخاف الضرر بترك التدين بالواقع بما هو واقع لا بما هو معلوم و هكذا الآيات و الأخبار المتقدمة ص 86 ظاهرة في ترتب عقد القلب على ما هو الواقع.

مضافا الى أن المعلوم بما هو معلوم قد ينطبق على خلاف الواقع فكيف يأمر الشارع بالتدين به. و التحقيق أن يقال انه إن حصل القطع بالمعارف الإلهية من الامارة وجب الالتزام به. و إن لم يحصل القطع منها فان كان مما يجب الالتزام بواقعة تفصيلا كأصول الايمان حيث يجب التدين بها مشخصا للواقع كان عند قيام الامارة المعتبرة عليه يجب الالتزام به لثبوت الواقع بها فيلتزم بما قامت عليه لأنه من آثار الواقع و ليس من آثار الاعتقاد به. و حيث كان المطلوب التدين بالمعارف الإلهية تفصيلا لا إجمالا فعند انسداد باب العلم يتعين الرجوع الى الظن المعتبر لعدم إمكان الاحتياط و لا امتثال الواقع إلا بذلك. و أما التدين بالواقع على إجماله فهو ليس فيه امتثال للتكليف لأن المطلوب التدين بها تفصيلا كما هو الفرض. (نعم) من أصول الإيمان ما يتوقف ثبوت الشرع على ثبوتها كوجود الباري و نبوة

الأنبياء فإن وجوب التدين بها لما كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 133

عقليا لا شرعيا كما تقدم في ص 108 مرتبا على واقعها بحكم العقل. و لا ريب انه بالأمارة لا ينكشف واقعها و انما يثبت في الظاهر فلا يرتب وجوب التدين على ثبوتها بالأمارة لأنه ليس بأثر شرعي لواقعها. و أما مثل إمامة الأئمة (ع) فإنه يجب التدين بها عند قيام الامارة المعتبرة عليها. هذا كله فيما يجب التدين بواقعة تفصيلا. و أما ما كان من المعارف الإلهية مما لا يجب الالتزام بواقعة تفصيلا كأحوال الحشر و النشر و أحوال الأنبياء و الأوصياء فإن حصل القطع من الامارة به وجب الالتزام به و إذا لم يحصل القطع به من الامارة فظاهر الأكثر عدم وجوب الالتزام به و التدين به و ان الامارة المعتبرة ليست بحجة عليه بحيث يصح نقله بدون الرواية كما في الحكم الشرعي فإنه يذكره المفتي عند قيام الامارة عليه بغير الرواية.

و لكن الحق أن السيرة العملية على الالتزام به و التدين به عند قيام الامارة المعتبرة عليه و لذا كان الأصحاب يحتج بعضهم على بعض بالأخبار. و يرشدك الى ذلك اعتماد علماء الكلام عليها. و ذكر أرباب كتب الاخبار لها كالكافي و في ديباجته ما يشعر بالاعتماد على الحجة منها. و لذا تجد ديدن الواعظين يعتمدون عليها في نقل أحوال الحشر و النشر و وقائع الطف فلو لا صحة التدين بها المستتبع للإقرار باللسان لما صح ذلك. كيف و انك لتجد ديدن شعرائنا الصالحين نظم أحوال الأئمة (ع) و حوادثهم و تدوين مقاتلهم مع انه لا دليل لهم على ذلك. إلا الأخبار و الامارات. بل في بعض الأخبار

تجد الامام (ع) يستشهد بقول من سبقه في بعض العقائد كمسألة القضاء و القدر. و الغريب من استاذنا المشكيني (ره) انه أنكر جواز التمسك بالظن المعتبر في ذلك مع انه تمسك في خلود المعاندين من الكافرين ببعض فقرات دعاء كميل.

(إن قلت) على هذا لا بد من إثبات وجوب التدين بالشي ء أولا حتى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 134

يكون قيام الامارة عليه موجبا للتدين به. و مع ثبوت وجوب التدين به لا حاجة لقيام الامارة عليه. (قلنا) قد يثبت وجوب التدين بواقع الشي ء و لكن تشخيص الواقع يكون بالأمارة مثلا يجب التدين بالإمام الحاضر من جهة قيام الإجماع بل ضرورة المذهب على ذلك فاذا قام الظن المعتبر على ان الامام الحاضر هو الحجة ابن الحسن (ع) وجب التدين به و نحو ذلك.

المقدار الذي يجب معرفته أو التدين به من المعارف الإلهية

(ثامنها) قد عرفت ماهية الإسلام و حقيقة الإيمان بقي الكلام في المقدار الذي يجب معرفته و التدين به
اشارة

عن نظر و استدلال من المعارف الإلهية الذي يتحقق به الإسلام الحقيقي و الايمان الواقعي بحيث معه لا يخلد في النار و ان ارتكب الكبيرة سواء تاب منها أو لم يتب و هو خمسة:

(الأول) وجود الباري و قدمه و ديموميته و جمعه لصفات الفضائل و تنزيهه عن النقائص و لو بنحو الاجمال و من هذا الباب عدله و انما أفرده القوم بالبحث عنه و جعلوه أصلا من الأصول الخمسة لمزيد الاهتمام به.

(الثاني) وحدانية الباري و عدم الشريك له و المثيل له و الشبيه به.

(الثالث) نبوة النبي محمد (ص) و لازمها التدين و التصديق بجميع ما جاء به تفصيلا فيما علم انه جاء به و إجمالا فيما لم يعلم به.

(الرابع) المعاد الجسماني.

(الخامس) إمامة الأئمة (ع) من بعد النبي (ص) الى حد عصر المكلف

بترتيبهم كأن يعرف من كان في عصر الحسين (ع) إن إمامة الحسين (ع) بعد أخيه الحسن (ع) و ان الحسن (ع) بعد أبيه علي (ع). و لازمها البراءة من أعدائهم. و الدليل على ذلك كله الإجماع بل ضرورة المذهب. و لا يجب معرفة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 135

أزيد من ذلك و لا التدين بأكثر منه فلا يلزم عليه معرفة باقي صفات الباري على التفصيل أو باقي صفات النبي (ص) أو الأئمة (ع) أو أحوال المعاد أو تفاصيل الحشر و النشر لأصالة البراءة من وجوبه و لقوله (ع) في شؤون أصول الدين:

«إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به و إذا جاءكم ما لا تعلمون فها» (و أهوى بيده الى فيه).

نعم الجاهل إن رجع الى مقلده في تعيين المقدار فهو و إلا فكل ما احتمل إنه من المعارف الإلهية وجب عليه معرفته و التدين به بالنظر و الاستدلال و ذلك لحكم العقل بدفع الضرر المحتمل إلا أن يجتهد و يؤدي نظره الى مقدار معين منها و يجري أصل البراءة عن الباقي.

(إن قلت) كيف ترجع لأصل البراءة مع وجود آيات و روايات تدل بعمومها على وجوب المعرفة لكل المعارف الإلهية بتفصيلها إلا ما أخرجه الدليل مثل قوله تعالى مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلّٰا لِيَعْبُدُونِ و قوله (ص):

«ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات». و كذا آية التفقه في الدين و كذا عمومات طلب العلم كما ذكر ذلك الشيخ الأنصاري (ره). (قلنا) قد ذكر المرحوم الآخند المنع من ذلك أما الآية فلأن العبادة فيها و إن فسرت بالمعرفة إلا أن الظاهر إن المراد بها خصوص معرفة اللّه تعالى و لو سلمنا عدم ظهورها

في ذلك فهي لا إطلاق لها لأن الآية مسوقة لبيان حكم آخر و هو حصر غاية الخلق بالمعرفة لا لبيان حكم المعرفة و العبادة حتى يتمسك بإطلاقها.

و هكذا الرواية المذكورة فإنها واردة في مقام بيان فضيلة الصلوات الخمس و ليست مسوقة لبيان حكم المعرفة حتى يتمسك بإطلاقها.

و أما آية التفقه فهي بصدد بيان الطريق الذي يتوصل به الى معرفة الواجب لا لبيان ما يجب معرفته و استشهاد الامام (ع) بها إنما هو لبيان أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 136

النفر طريق تحصيل المعرفة في هذا الموضوع لا لبيان وجوب معرفة الإمام (ع) حيث ان الظاهر إنه كان مفروغا عنه لكونه مركوزا في ذهن السائل و إنما كان الغرض من السؤال هو الاهتداء الى طريق تحصيل المعرفة به، و حذف المتعلق إنما يفيد العموم إذا كان في مقام بيان حكم ذلك الشي ء المحذوف متعلقه، و أما ما دل على طلب العلم إنما كان في مقام التحريض و الترغيب الى العلم لا في مقام بيان ما كان العلم فيه مطلوبا. كيف و إلا لزم تخصيص الأكثر و هي آبية عن أصله كما لا يخفى على من لاحظها فالعبرة فيما لا يستقل به العقل و لا يدل عليه النقل هو الرجوع لأصل البراءة.

(و الحاصل) أن الزائد على ذلك كباقي صفات الباري تعالى أو صفات النبي (ص) أو الأئمة أو أحوال المعاد لو حصل العلم بها وجب التدين بها للسيرة العملية على ذلك أو لوجوب الإقرار و التدين بما جاء به النبي (ص) الذي دلت عليه الأخبار المتقدمة فإن من علم مجي ء هذا الشي ء عن النبي (ص) بالضرورة أو التواتر أو نحو ذلك و لم يتدين

به لم يكن قد صدق النبي (ص) على ما جاء به فيكون إنكار العالم به كفرا، و أما لو قامت عليه أمارة معتبرة فالأكثر على عدم وجوب التدين به لعدم كون وجوب التدين من آثاره و إنما يجب أن يتدين بالواقع لكن الظاهر من سيرة العلماء في مقام المحاجات هو صحة التدين بمدلول الامارة المعتبرة لا وجوبه و لعل ذلك يستفاد من بعض الأخبار. و قد يدعي الإجماع على وجوب معرفة تفاصيل التوحيد و النبوة و الإمامة و المعاد و إن الجاهل بها عن نظر و استدلال خارج عن ربقة الإيمان مستحق للعقاب الدائم كما هو المحكي عن العلامة (ره) في باب الحادي عشر و فيه أنه يلزم كفر أكثر الناس لعدم التمكن إلا للأوحدي من الناس من المعرفة المذكورة. مع إمضاء النبي (ص) و باقي المعصومين (ع) السيرة على خلاف ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 137

(و قد يستدل على تعيين المقدار) بالأخبار الكثيرة المفسرة للإسلام و الايمان

كخبر محمد بن سالم المتقدم ص 88، و كرواية الفتح بن يزيد المتقدمة ص 89 و رواية سليم بن قيس المتقدمة ص 91، و رواية إسماعيل المتقدمة ص 91 و رواية عيسى بن السري ص 94، و رواية علي بن إبراهيم ص 94، و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) قال: جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترضه اللّه تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله و لا يقبل منهم غيره ما هو؟ فقال: أعده علي فأعاد عليه. فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة، و حج البيت من استطاع اليه سبيلا، و صوم شهر رمضان. ثمَّ سكت قليلا ثمَّ قال:

و الولاية

و الولاية مرتين الخبر. و رواية ابن اليسع قال: قلت لأبي عبد اللّه:

أخبرني عن دعائم الإسلام التي لا يسع أحد التقصير عن معرفة شي ء منها التي من قصر عن معرفة شي ء منها فسد عليه دينه و لم يقبل منه عمله و من عرفها و عمل بها صلح دينه و قبل عمله و لم يضق به ما هو فيه لجهل شي ء من الأمور جهله.

فقال: شهادة أن لا إله إلا اللّه و الايمان بأن محمدا رسول اللّه و الإقرار بما جاء به من عند اللّه و حق في الأموال الزكاة و الولاية التي أمر اللّه تعالى بها ولاية آل محمد. و رواية محمد بن يحيى في الكافي بسنده عن إبراهيم بن عمر قال:

سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول: إن أمر اللّه كله عجيب إلا أنه قد احتج عليكم بما قد عرّفكم من نفسه. و يمكن أن يورد على الاستدلال بها عدة إيرادات (منها):

اختلاف مفادها فان في بعضها الاقتصار على الشهادتين و هما التوحيد و النبوة.

و في بعضها اعتبارهما مع الإمامة دون غيرها من المعاد و العدالة. و في بعضها على اعتبار الثلاثة مع الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج المعلوم عدم اعتبارها في الإسلام و الايمان. و في بعضها اعتبار الثلاثة مع الإقرار بما جاء به النبي (ص) إجمالا مع الزكاة التي من فروع الدين و غير ذلك من الاختلافات في مؤداها جدا مع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 138

ورودها في مقام التحديد الآبي عن التخصيص فتكون من المتعارضات المحتاجة إلى التوجيه إما بحملها على اختلاف مراتب الايمان و الإسلام شدة و ضعفا أو بحملها على اختلاف حقائق الايمان و الإسلام و اختلاف

الآثار الدنيوية و الأخروية باختلافها من الطهارة و جواز النكاح و الدية التامة و النجاة من النار و الدخول في جملة الأبرار. و كيف كان فلا يصلح شي ء منها للمدعي حتى لنفي ما عدى المذكورات فيها لأن من العقائد العدل و المعاد و هما غير مذكورين فيها نعم بضميمة الإجماع أو الضرورة يمكن استفادة عدم اعتبار ما لم يذكر فيها ما عدى ما قام الإجماع و الضرورة على اعتباره كالمعاد و العدل.

العاجز من اليقين بالمعارف الإلهية

(تاسعها) ان غير المتمكن من العلم بالمعارف الإلهية الواجبة

سواء كان عدم تمكنه من جهة قلة إدراكه و قصور عقله بحسب خلقته كما نراه في بعض الناس الضعاف العقول و أما من جهة مهلة النظر و أما أن يكون غافلا غير ملتفت لكونه بعيدا عن بلاد الإسلام أو لعدم احتماله كون دين الإسلام حقا كبعض شباب النصارى و اليهود في أوائل بلوغهم و أما يكون ملتفتا غير غافل لكن لا يمكنه بذل جهده لتحصيل حقية دين الإسلام أما لكونه في بلاد يخشى على نفسه من ذلك أو في بلاد لا يتيسر له فيها ذلك و قد يكون متمكنا من بذل الجهد و ملتفتا و قد بذل جهده و لكنه لم يكن النظر و الاستدلال يفيده الجزم بذلك لكثرة الشبه الحادثة في نفسه و المدونة في الكتب التي رجع إليها كما يشاهد ذلك في بعض المتعمقين في كتب الفلسفة من غير دراسة صحيحة لها و كيف كان فينبغي الكلام في العاجز الغير المتمكن من اليقين بالمعارف الإلهية الواجبة من جهات ثلاثة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 139

(الاولى) في وجوده في الخارج و تحققه فيه.

(و الثانية) في حكمه التكليفي و هو وجوب تحصيل الظن عليه.

(و الثالثة) في

حكمه الوضعي من كونه كافرا أم لا.

(أما الجهة الأولى) فقد تقدم الكلام فيها تفصيلا ج 1 ص 213 و إن الحق هو وجود مثل ذلك.

(و أما الجهة الثانية) فقد ذهب المشهور إلى انه يجب عليه أن يتدين بالواقع بما هو واقع من دون تعيينه و يسقط عنه وجوب اليقين تفصيلا لعدم قدرته عليه فالتكليف به يكون تكليفا بما لا يطاق و لا يجب عليه تحصيل الظن بذلك لأن المطلوب هو اليقين بها و التدين بها و الفرض عدم قدرته عليه و ليس المطلوب هو الظن بها. (و التحقيق أن يقال) ان المطلوب هو التدين بالمعارف الإلهية و عقد القلب عليها عن دليل، فان تمكن من تحصيل الدليل الصحيح في نظره بحسب جهده و طاقته عقد قلبه على مؤداه سواء حصل الظن بها أم لا و إذا لم يتمكن من تحصيل الدليل عليها المعتبر بحسب نظره لم يجب عليه أن يتدين بها و لا يعقد قلبه عليها و إنما يجب عليه أن يعقد قلبه بما هو الواقع إجمالا و يتدين بالواقع إجمالا، و من هنا ظهر لك أن الميزان هو التمكن من تحصيل الدليل الذي هو صحيح عنده بحسب قدرته حتى لو كان الدليل أمارة شرعية معتبرة عنده في المقام، و أما الآيات الناهية عن الظن كقوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. فالجواب عنها هو الجواب عنها في الأحكام الفرعية.

(و أما الجهة الثالثة) فيرتب عليه آثار الإسلام إن أقر بالشهادتين و لم ينكرهما مع احتمال مطابقة اعتقاده لما أقر به فيرتب عليه آثار الإسلام، و أما إذا لم يقر بهما أو أقر بهما و لكن يعلم أنه ليس عن عقيدة فلا يرتب

عليه آثار الإسلام و لا آثار الكفر إلا إذا جحد و أنكر و ذلك لما تقدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 140

من رواية محمد بن مسلم ص 88 و للأخبار ص 93. و رواية محمد بن يحيى ص 95، و قد تقدم ثبوت الواسطة بين الإسلام و الكفر ص 127 (و الجحود يتحقق) بإظهار الجزم بعدم الثبوت أو التشكيك في الثبوت بعنوان الجحود و الإنكار، و أما لو كان بعنوان الاستفهام و طلب المعرفة و اليقين كمن يستفهم عن الدليل فيكون ذلك من قبيل البحث و النظر فهو جائز و لا يقتضي الكفر، نعم يكون من أهل الواسطة بين الكفر و الإسلام.

الخطاب المولوي لا يكون في بعض المعارف الإلهية

(عاشرها) إن من المعارف الإلهية ما لا يمكن أن يتعلق بمعرفتها أو التدين بها التكليف الإلهي

و الخطاب المولوي كوجود الباري و النبوة لأنه قبل معرفتها و التدين بها لا يكون الخطاب و التكليف محركا و باعثا على ذلك لعدم ثبوت مولوية المشرع كي يكون خطابه باعثا على الامتثال فيكون لغوا و بعد معرفتها و التدين بها يكون الخطاب بها من قبيل تحصيل الحاصل فيكون باطلا.

و أما غيرها كالامامة و المعاد و نحو ذلك فيمكن أن يوجه التكليف و الخطاب المولوي بوجوب التدين بها و معرفتها علما أو ظنا.

المتمكن من اليقين بالمعارف الإلهية و إن نظره له دخل في إيمانه

(الحادي عشر) إن المتمكن من تحصيل الدليل الذي يفيد اليقين و العلم بالعقائد الإلهية

يتكلم فيه في مقامين:

(أحدهما) في جواز تركه الدليل المذكور و الرجوع الى الأدلة الظنية.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 141

(و الثاني) في حكمه الوضعي لو ترك تحصيل الدليل المذكور.

أما الكلام في المقام الأول فنقول: انه يجب عليه التفحص بمقدار ما يحصل له الدليل المفيد لليقين و العلم، و لا يكفي ما يفيد الظن و الدليل على ذلك ما تقدم ص 107 من ما دل على وجوب النظر فإنه ظاهر في النظر المفيد للعلم لأنه مع التمكن منه و الاكتفاء بالنظر المفيد للظن كان نظره ليس بنظر، و ما دل على وجوب العلم ص 107 و ما دل على ذم اتباع الظن بل حتى لو كان الظن مما قام الدليل على اعتباره لم يجز اتباعه لأن الامارة المعتبرة إنما يصح الاعتماد عليها بعد الفحص و عدم الظفر بالدليل المخالف لها و الفرض انه متمكن من العلم بالواقع فلا بد له من الاطلاع على الدليل المفيد للقطع لاحتمال انه مخالف للأمارة فاذا اطلع عليه كان العمل به لا محالة.

(و أما الكلام في الثاني) فهو مسلم إذا لم يظهر انه ظان و

انه يحتمل الخلاف مع إقراره بالشهادتين لأنه لو أظهر أنه ظان و محتمل للخلاف كان جاحدا، و أما انه مؤمن أم لا، فالظاهر عدم إيمانه لأنه لم يفحص حتى يعقد قلبه من دليل معتبر و لعدم حجية الظن لانفتاح باب العلم له. و من هذا ظهر أن النظر و الاستدلال له دخل في الايمان باعتبار أن الايمان هو التدين القلبي عن دليل لا عن تقليد كما تقدم ص 103.

ما علم عدم الفتوى به فعلا

(الثامن من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) هو ما علم عدم فتوى المجتهد به بالفعل

كما لو علم برجوعه عن فتواه بالحكم أو أنه لم يعمل نظره في الحكم و إن كان يعلم بأنه لو نظر فيه لأدى نظره الى ذلك لعدم شمول أدلة التقليد لذلك إذ لم يكن حينئذ المجتهد عالما بالحكم و أدلة التقليد ظاهرة في رجوع الجاهل الى العالم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 142

مضافا الى الإجماع على عدم جواز التقليد في ذلك. نعم لو علم بكونه مفتي بهذا الحكم بالفعل و لو بمعونة الاستصحاب صح تقليده فيه، و أما اشتراط العلم بكونه متذكرا لمستند الحكم حال أخذه منه فقد تقدم عدم اعتبار ذلك فيه ج 1 ص 265.

الأمور الثابتة عند العامي بالدليل المعتبر

(التاسع من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الأحكام الثابتة عند العامي بطريق آخر غير التقليد

كالامارة المعتبرة عنده حتى لو كان من باب الانسداد و حتى لو كان من جهة التقليد كما لو قلد من يقول بجواز التجزي في الاجتهاد فإنه إذا اجتهد المتجزي في الحكم و حصل الامارة المعتبرة عليه عنده لم يجز له تقليد الغير فيما قامت الامارة عليه عنده. و الدليل على ذلك هو ما ذكرناه من عدم جواز تقليد العارف بالمسألة لغيره ج 1 ص 173 و ما ذكرناه في مسألة التجزي ج 1 ص 187.

الأمور الثابت فسادها عند العامي بالدليل

(العاشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الاحكام الثابت عنده فسادها بالدليل المعتبرة

حتى من باب الانسداد لما تقدم ج 1 ص 173 و ج 1 ص 177 و لا عبرة بالظن بالفساد إذا كان الظن غير معتبر لأنه بمنزلة العدم. (نعم) من قال باعتبار التقليد من باب الظن لا بد من اعتباره عدم الظن بالفساد بل يلزمه وجود الظن بالحكم إذ لو لم يحصل له الظن من الفتوى لم يكن ينفعه التقليد لعدم حصول ملاك حجيته و هو الظن بالحكم عنده.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 143

مسائل التقليد

(الحادي عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) مسائل التقليد
اشارة

و لا بد أن يرجع للاحتياط أو الاجتهاد فيها كنفس مسألة جواز التقليد و لزوم تقليد الأعلم، و عدم جواز تقليد الميت، و جواز العدول، و جواز البقاء على تقليد الميت، و غيرها. أما المجتهد فيها أو من له ملكة الاجتهاد فيها فعدم جواز تقليده للغير فيها واضح لما تقدم من عدم جواز تقليد من كان مجتهدا أو له ملكة الاجتهاد لغيره. و أما عدم جواز تقليد العامي فيها لغيره، فلأنه لو جاز التقليد فيها لزم الدور و ذلك لأن جواز التقليد في مسائل التقليد موقوف على أن يقلد في مسألتنا هذه و هي مسألة جواز التقليد في مسائل التقليد إذ لو لا ثبوتها عند العامي لما جاز له أن يقلد في تلك المسائل. و مسألتنا هذه إنما تثبت عند العامي إذا ثبت عنده جواز التقليد في سائر المسائل التي منها مسألتنا فيلزم الدور.

(إن قلت) فعليه ما ذا يصنع العامي؟ (قلنا) إن مسألتنا هذه ثابتة عند العامي بالضرورة و انسداد باب العلم إن تمَّ عنده و السيرة إن كانت حجة لديه، فالعامي مجتهد في مسألتنا هذه و إذا ثبت اجتهاده و معرفته لهذه المسألة أعني جواز التقليد

في سائر المسائل فقد ثبت عنده جواز التقليد في سائر مسائل التقليد. و عليه فينبغي تخصيص عدم جواز التقليد في نفس مسألة جواز التقليد في المسائل دون سائر مسائل التقليد الأخرى.

(إن قلت) إذا كان مجتهدا في هذه المسألة فهو له قوة الاجتهاد في باقي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 144

مسائل التقليد فلا يجوز له التقليد فيها (قلنا) لو تمَّ ذلك لما صح التقليد أصلا لحصول القوة له على ذلك فالإشكال مشترك الورود و (الحل له) إن مسألة أصل جواز التقليد بديهية واضحة نظير مسائل العقائد الدينية فالاجتهاد فيها سهل و إن أبيت فقل العلم بها سهل بخلاف باقي المسائل فإنه من الصعوبة بمكان و طالما زلت به الاقدام.

[البحث عن أن مسائل التقليد أصولية أم فرعية]

(إن قلت) إن مسائل التقليد مسائل أصولية لأن مسائل كل علم ما يبحث عن عوارض موضوعه و موضوع علم الأصول هو الدليل الفقهي و لا ريب أن قول المجتهد و فتواه دليل على الحكم الفرعي. و مسائل التقليد تبحث عن عوارض فتوى المجتهد و رأيه. (قلنا) لا دليل على المنع من جواز التقليد في المسائل الأصولية و أدلة التقليد تشملها إلا إذا حصل ما يمنع من ذلك كما لو كان العمل بها يتوقف على الفحص كالأصول العملية في الشبهة الحكمية و مسألة حجية الخبر. و فيما نحن فيه لم نجد مانعا من التقليد.

(إن قلت) إن أدلة جواز التقليد مجملة لا يمكن التمسك بعمومها لمثل هذه المسائل (قلنا) لا نسلم ذلك. و لو سلمنا، فالمسائل المذكورة هي من القدر المتيقن دخولها كمسائل الأحكام الفرعية لعدم قدرة العامي على الاجتهاد فيها و صعوبة مأخذها و انحصار الطرق لمعرفتها به. و ما كان من هذا القبيل فهو

قدر متيقن دخوله.

جواز العدول عن تقليد المجتهد لغيره

(الثاني عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الأحكام التي يكون العامي مسبوقا بتقليد مفت آخر فيها
اشارة

فإنه لا يجوز العدول عنه لمجتهد آخر إلا إذا تبدل رأي المجتهد فيها أو مات أو كفر أو فسق. و لا بد لنا في توضيح المقام

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 145

و تحقيقه من ذكر الصور له و بيان الحكم فيها فنقول:

[صور العدول من مجتهد لآخر]
اشارة

(الأولى) هي أن تكون المسألة التي قلد فيها قد عمل بها على طبق تقليد صحيح عنده يعدل فيها الى تقليد مجتهد آخر بالنسبة إلى نفس العمل المتحقق سابقا نظير ما إذا قلد مجتهدا في جواز الوضوء بالمضاف فتوضأ و صلى به ثمَّ عدل الى مجتهد آخر في حكم ذلك الوضوء و تلك الصلاة، و كذا لو أوقع عقدا أو إيقاعا على رأي مقلده الذي قلده تقليدا صحيحا في نظره ثمَّ عدل الى مجتهد آخر في ذلك العقد و الإيقاع الذي أوقعه سابقا.

(الثانية) هي أن يعدل الى مجتهد آخر بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة التي أوقع الماضي منها على طبق قول مفتيه الذي قلده تقليدا صحيحا في نظره نظير ما تقدم من الأمثلة بالنسبة للأعمال المستقبلة كأن يعدل لمجتهد آخر في مسألة الوضوء بالمضاف بالنسبة إلى وضوءاته و صلواته الآتية و هكذا في العقود و الإيقاعات.

(الثالثة) أن يعدل عن تقليد مجتهد لآخر بالنسبة إلى مسائل أخرى و أعمال أخرى نظير من قلد مجتهدا في الصلاة ثمَّ قلد مجتهدا آخر في الزكاة ثمَّ هذه الصور الثلاثة تكون على قسمين: (أحدهما) أن يكون العدول في زمان حياة المجتهد الأول. (و ثانيهما) أن يكون العدول بعد وفاته فتكون هذه الصور ستة و كل من هذه الصور الستة تارة تكون مع تبين عدم صلاحية الأول للتقليد أو أفضلية الثاني بأن تبين فساد تقليده للمجتهد الأول بالعلم

أو الدليل المعتبر كأن قامت الامارة على انه فاسق أو غير مجتهد أو مخطئ في فتواه أو الثاني أفضل منه أو مع عدم تبين ذلك له فتبلغ الصور اثنى عشر و كل هذه الصور مع عدول المجتهد الأول عن رأيه أو مع عدم عدوله فتبلغ الصور إلى أربع و عشرين صورة و يتضح الحال في هذه الصور في التكلم في مسائل:

(الأولى) مسألة جواز العدول مع التساوي من جميع الجهات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 146

(الثانية) مسألة جواز العدول عن تقليد المجتهد الذي مات بعد تقليده له و تسمى بمسألة البقاء على تقليد الميت و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيها في ما يعتبر في المفتي.

(و الثالثة) مسألة جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيها فيما يعتبر في المفتي.

(و الرابعة) مسألة تبدل رأي المجتهد و قد تقدم الكلام فيها مفصلا.

(و الخامسة) مسألة تبين فساد تقليد العامي و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى الكلام فيها في أحكام التقليد فينحصر الكلام هنا في مسألة جواز العدول مع التساوي من جميع الجهات فنقول:

جواز العدول مع التساوي من جميع الجهات

ذهب غير واحد إلى حرمة العدول عن التقليد من مجتهد الى مجتهد آخر مساوي له في جميع الشروط، فاذا قلد العامي مجتهدا في مسألة لا يجوز الرجوع الى غيره مساوي له و قد نقل الإجماع على ذلك عن الحاجبي و العضدي و صاحب النتائج و هذا كله فيما إذا لم تكن فتوى المجتهد الثاني موافقة للاحتياط فإنه يجوز العدول عن الأول الى الثاني لأن الاحتياط حسن على كل حال (و في الحقيقة) لا يكون هذا رجوع اليه و إنما هو عمل بالاحتياط كما أن محل الكلام هو صورة الاختلاف في الفتوى،

أما مع الاتفاق فيها فلا إشكال في جواز الاعتماد على فتوى الثاني لكونها لم تخرج عن الحجية إذا عرفت ذلك فنقول: انه لا كلام لهم في الأعمال الماضية فإنه لا يجوز العدول عندهم فيها إجماعا مضافا لما تقدم منا في مسألة تبدل رأي المجتهد ما يدل على صحة الأعمال الماضية و إنما الكلام في الأعمال المستقبلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 147

فنقول: إن الكلام تارة في وظيفة العامي و أخرى في حكم الواقع الشرعي، أما وظيفة العامي حيث انه عاجز عن الفحص عن الأدلة فيرجع لعقله و عقله لا يجوّز له العدول لحصول اليقين بالبراءة بتقليد الأول و الشك في البراءة بالتقليد الثاني و العقل حاكم بوجوب الأخذ بما يفيد براءة الذمة و الخروج عن عهدة التكليف و المنع عما لا يفيد ذلك لاحتمال الضرر معه و هو العقاب و إن شئت قلت الأمر دائر في المقام بين ما هو مقطوع الحجية و هو قول المجتهد الأول و بين مشكوك الحجية و هو قول المجتهد الثاني. و الشك في الحجية كما قرر في محله كاف في عدم جواز الأخذ بها لأن الأصل عدم جعل الحجية له و لأنه لا يوجب العمل بها الأمن من العقاب. (نعم) بعد رجوعه للأول لو أفتى له المجتهد الأول بجواز العدول عنه الى غيره جاز له العدول لكون فتواه حجة عند العامي و هكذا لو أفتى له المجتهد الثاني جاز له تقليده فيها فيعدل إلا إذا احتمل عدم جواز تقليده للثاني في هذه الفتوى أو كان الأول قد أفتى بحرمة العدول و قد قلده العامي في هذه الفتوى فلا يجوز له العدول.

(إن قلت) قد تقدم أنه لو

قام عند العامي الدليل المعتبر في نظره على الحكم الشرعي لا يجوز له التقليد فيه و في هذا المقام قد دل عقله على عدم جواز العدول فلا يعدل و لا يجوز له تقليد المجتهد الأول في هذه المسألة لما عرفت مما تقدم أنه لا يجوز للعامي أن يقلد المجتهد فيما ثبت عنده بالدليل الصحيح (قلنا) هذا صحيح فيما لم تكن الفتوى واردة على الدليل الذي عنده و الدليل عند العامي فيما نحن فيه هو دوران الأمر بين التعيين و التخيير و الفتوى بجواز العدول ترفع عنه هذا الدوران و تعين أن حكمه هو التخيير. (أما الحكم الشرعي للعدول عن مجتهد الى آخر) فقد ذهب بعضهم الى جوازه كما حكاه صاحب الفصول عن بعض معاصريه و حكي ذلك عن المحقق الثاني و الشهيد الثاني و العلامة في الجعفرية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 148

و المقاصد العلية و النهاية و حكى القول به السيد أحمد الحسيني عن الشيخ أسد اللّه الشوشتري. و ذهب بعضهم الى عدم الجواز و هو المشهور، و المحكي عن ظاهر التهذيب و شرحه و الذكرى، و عن الشيخ الأنصاري (ره).

[أدلة المجوزين للعدول من مجتهد لآخر]
اشارة

و استدل المجوزون للعدول بوجوه:

(أحدها) استصحاب بقاء التخيير

فإنه كان للعامي التخيير بأخذ أي الفتويين شاء قبل التقليد لأحدهما و بعد الأخذ بإحدى الفتويين يشك في بقاء هذا التخيير فيستصحب بقائه.

و أجيب عن الاستصحاب (أولا): بمعارضته بقاعدة الاشتغال المقتضية لتعيين الأخذ بقول من قلده أولا بتقريب أنه القدر المتيقن في براءة ذمته لدوران الأمر بين التعيين بأخذ قول من قلده أولا و التخيير بينه و بين قول المجتهد الثاني الذي يريد العدول اليه و (قد تقرر قاعدة الاشتغال) بوجه آخر و هو إنا نعلم بحجية فتوى المجتهد الذي اختاره المقلد و نشك في حجية قول الآخر و في مثله يبنى على عدم حجية من شك في حجيته (و بتقرير ثالث) أن الواقع منجز عليه للعلم الإجمالي بالأحكام فيجب عقلا إما إتيانه أو إتيان ما جعل امتثالا له و مبرئا للذمة منه و الآتي بالفتوى للمجتهد الثاني لم يكن محرزا للإتيان بالواقع و لا بما جعله الشارع امتثالا له. (و فيه أن) الاستصحاب مقدم على قاعدة الاشتغال لأنه باستصحاب التخيير يزول الدوران المذكور و يثبت التخيير.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثانيا): بعدم تماميته فيما لو كان المجتهد الأول حال تقليده له منحصرا به التقليد ثمَّ وجد بعد هذا مجتهد آخر فان التخيير لم يكن ثابتا له أولا حتى يستصحب (و فيه). أن وجوب التقليد الثابت له كان بنحو يقتضي التخيير بمعنى أنه لو وجد مجتهد في عرض ذلك المجتهد لجاز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 149

تقليده فهذا الوجوب بهذا النحو هو المستصحب لأنه هو المتيقن و هذا نظير ما إذا وجب عليه أحد خصال الكفارة لانحصار الأمر به فإنه لو تمكن من فعل الآخر فعله و

لا يستصحب الوجوب التعيني له لأن وجوبه كان ثابتا له بنحو يقتضي التخيير لو تمكن من الفرد الآخر.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثالثا) بأنه معارض باستصحاب الحجية الفعلية التعيينية لفتوى من قلده أولا و استصحاب وجوب العمل بها لأنها قد صارت حجة فعلية تعيينية بعد تقليده له فيها. (و لا يخفى ما فيه) فأنا لا نسلم أنها صارت تعيينية بعد التقليد فيها لأنه لا دليل على أن الاختيار لها موجب لتعيينها و يكون بمنزلة المرجح لها على غيرها و استصحاب فعليتها لا ينافي بقاء الفتوى الأخرى على الفعلية التخييرية. (و الحاصل) إنا لا نسلم ثبوت التعيينية للحجة المختارة إذ ليس هناك موجب للتعيين إلا الاختيار لها و لا دليل على أن الاختيار موجب للتعيين بل الأصل عدم التعيين كما سيجي ء إنشاء اللّه في تقليد الأعلم.

و رد هذا الجواب الثالث بوجوه أخرى: (منها) ما عن المرحوم الشيخ الأنصاري بأن استصحاب التخيير حاكم على استصحاب الحجية التعيينية لأن الشك في كونه حجة متعينة عليه مسبب عن الشك في ثبوت التخيير بين الحجتين.

و أجاب عن هذا الرد بعض أساتذة العصر بأنه لا حكومة بينهما لأن الملازمة بين الحجية التخييرية و بين عدم الحجية التعيينية عقلية لا شرعية من باب أن وجود أحد الضدين يستدعي نفي الآخر عقلا و الحجة التخييرية تضاد الحجة التعيينية فعدمها لم يكن من الآثار الشرعية لبقاء الحجية التخييرية فلا يكون استصحاب الحجية التخييرية حاكما على استصحاب الحجية التعيينية لأن الحكومة إنما تكون على الآثار الشرعية لا العقلية. و عليه فيكون استصحاب كل منهما معارضا لاستصحاب الآخر. و لا يخفى ما فيه فان احتمال الحجية التعيينية إنما نشأ من جهة

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 2، ص: 150

كون التخيير الثابت بين الفتويين المتعارضين تخييرا ابتدائيا لا استمراريا فالحجية التعيينية عبارة عن كون التخيير المستفاد من الأدلة ابتدائيا و عدمها عبارة عن كون التخيير استمراريا و التعيينية المحتملة إنما هي من آثار التخيير لأن المحتمل منها هو التعيين بعد التخيير و ليس المحتمل منها هو التعيينية ابتداء حتى يكون احتمالها في عرض احتمال الحجية التخييرية و (بعبارة أخرى) إنا إنما نرجع الى استصحاب التخيير بعد فرض أن الأدلة الدالة على التقليد في حد ذاتها تقتضي التخيير و نشك في أنها تقتضي التخيير ابتداء أو استمرارا فنستصحب التخيير و يرتب عليه عدم التعيين لأن عدم التعيين على هذا الفرض من آثاره الشرعية لأن الشك فيه إنما كان من جهة أن الشارع رتب على هذا التخيير التعيين بعد اختيار أحدهما أم لم يرتب ذلك.

و (منها) ما رده به بعض المحققين بأنه لا معارضة بينهما لأن الحجية كانت ثابتة لما اختاره و لم تكن تمنع من حجية الآخر ابتداء فكيف تمنع نفس تلك الحجية عنها بقاءا. و (بعبارة أخرى) أن سنخ حجية ما اختاره لم يكن مانعا عن حجية الآخر فاستصحاب بقائها بل القطع ببقائها لا يمنع من حجية الآخر و لعله يرجع الى ما ذكرناه. (نعم) للخصم أن يقول إنا نحتمل أنه بعد اختياره لهذه الفتوى قد جعل الشارع لها حجية تعيينية بحيث لا يرضى الشارع بالعدول لغيرها و حينئذ فاستصحاب حجية ما اختاره ثابتة. و حجية الآخر مشكوكة و الأصل عدمها، و بذلك يثبت التعيين لما اختاره. (لا يقال) إن الأصل هو حجية الآخر لأنه قد كانت الحجية ثابتة له قبل الاختيار لأحدهما فالأصل بقائها بعد الاختيار. (قلنا) لا يجري الاستصحاب

لعدم إحراز الموضوع لأنا نحتمل أن موضوع الحجية هو من لم يتخذ طريقا للواقع.

(و أجيب رابعا عن استصحاب التخيير). إن التخيير بين الفتويين إن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 151

كان شرعيا يستفاد من الإجماع كما ذكره بعضهم أو من السيرة كما ذكره آخر أو من أدلة التخيير بين الأخبار المتعارضة كما ذكره ثالث فالموضوع للتخيير غير محرز لأنه مردد في الواقع بين ما هو مقطوع الارتفاع فيما إذا كان التخيير ابتدائيا و بين ما هو مقطوع البقاء فيما إذا كان استمراريا. و إن شئت فقل إن موضوع التخيير إن كان هو المتحير في وظيفته الشرعية فهو قد ارتفع باختيار احدى الفتويين لأنه يزول تحير العبد بذلك و إن كان الموضوع له من تعارض عنده الحجتان فالموضوع للتخيير باقي بعد اختيار أحدهما، فاستصحاب نفس التخيير لا يصح لعدم إحراز موضوعه. و لا استصحاب موضوع التخيير يصح لأن الاستصحاب الشخصي لا معنى له لتردده بين فردين قصير و طويل و استصحاب الفرد المردد بما هو مردد غير معقول و استصحاب الكلي لا أثر له حيث أن المفروض أن التخيير الاستمراري مرتب على أحد الفردين بخصوصه فاذن لا وجه لاستصحاب التخيير.

(إن قلت) نستصحب نفس التخيير و نقول قد حقق في محله أن المعتبر بقائه في الاستصحاب هو الموضوع العرفي لا الموضوع الشرعي، و الموضوع عند العرف للتخيير هو الفتويان المتعارضان و هو باقي بعد اختيار أحدهما. (قلنا) إنا لم نعرف الموضوع لهذا الحكم حتى ندرك بقائه عند العرف و عدم بقائه عندهم لتردده عندنا بين مقطوع البقاء و بين مقطوع الارتفاع، و لو سلمنا معرفته فهو موضوع لحكم أصولي من نوع الأمور الشرعية لا يدركه

العرف حتى يمكننا أن نجزم بأن العرف يرى بقائه.

(إن قلت) نستصحب موضوع التخيير بمعنى إنا نقول إن الموضوع الذي ثبت له التخيير سابقا نشك في بقاء شخصه فعلا فنستصحب بقائه. (قلنا) إنا نشك في بقائه لا من جهة الشك في بقاء شخصه بل من جهة عدم معرفته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 152

و تعيينه إنه من الأمور الباقية بعد اختيار إحدى الفتويين أو من الأمور الزائلة بعد الاختيار لها.

(إن قلت) إنا نتمسك بإطلاق أدلة التقليد فإنها تدل على حجية الفتوى سواء أخذ بمعارضها أم لا. (قلنا) هذا رجوع عن التمسك باستصحاب التخيير و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى بيانه في تعداد أدلة المجوزين للعدول و ستعرف إنشاء اللّه الجواب عنه هذا كله بناء على أن التخيير بين الفتويين ابتدائي شرعي.

و أما بناء على انه عقلي باعتبار أن الحاكم به هو العقل لأن أدلة التقليد تشملهما ابتداء و ليس المطلوب العمل بهما معا و ترجيح إحداهما بعينها على الأخرى بلا مرجح و الاحتياط ليس بواجب للسيرة و الإجماع و لاتفاق الفتويين المتعارضين على رفعه فيحكم العقل بالتخيير بينهما كما سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في تقليد الأعلم فنقول أيضا لا يجري الاستصحاب و لا في الحكم الشرعي المستند إليه لأن مجرد الشك فيه معناه ان العقل غير حاكم به فيقطع بارتفاعه حيث انه إن كان موضوعه موجودا فالعقل يستقل بحكمه و إن لم يكن موضوعه موجودا فهو مرتفع بارتفاع موضوعه و إن كان مشكوكا فهو لا يحكم به بعدم إحراز موضوعه.

(إن قلت) ان التخيير العقلي إنما يكون بملاحظة الحجية الثابتة لهما بواسطة عموم أدلة الحجية لهما و هكذا بعد اختيار إحداهما تكون ثابتة لهما، أما

ثبوتها للفتوى المختارة فواضح و أما ثبوتها للفتوى الأخرى فباستصحاب الحجية الثابتة لها قبل اختيار إحداهما و مقتضى ذلك ثبوت التخيير بينهما بحكم العقل كما في صورة ثبوته قبل اختيار إحداهما و هذا نظير استصحاب الوجوب أو الحرمة و ثبوت استحقاق العقاب عليهما بحكم العقل أو استصحاب عدمهما و ثبوت عدم الاستحقاق بحكم العقل. (قلنا) إن الاستصحاب لحجية الفتوى الأخرى غير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 153

جار لعدم إحراز بقاء الموضوع عند العرف لأن الحجية كانت ثابتة لها عند عدم الاعتماد على حجية أخرى أما بعد الاعتماد على حجية غيرها فيكون ممن يعلم بالواقع و لو تعبدا. (و قد يرد استصحاب التخيير على تقدير كونه عقليا) بأن العقل إنما أثبت التخيير للمتحيز في الطريق للواقع و عند عدم معرفته. و بعد الأخذ بإحدى الفتويين زال موضوعه و صار العبد غير متحير فكيف يستصحب التخيير مع زوال موضوعه المقوم له. (و لا يخفى ما فيه) فان موضوع حكم العقل للتخيير هو تعارض الحجتين فان العقل بعد أن رأى إنهما حجتان لشمول أدلة التقليد لهما و ليس لأحدهما أرجحية على الأخرى ليأخذها بعينها و لا يجب الاحتياط حكم بالتخيير بينهما فحكمه لم يكن من جهة تحيره و عدم معرفة الطريق للواقع فإنه عارف بأنهما كلاهما طريق عنده للواقع بل من جهة عدم مطلوبية العمل بهما معا. (نعم) يمكن أن يقال إن العقل إنما يحكم بالتخيير بين الحجتين المتعارضتين من جهة عدم اتخاذه طريقا للواقع فلو اتخذ طريقا للواقع لم يحكم بذلك و حينئذ فيكون الموضوع للتخيير العقلي هو تعارض الحجتين مع عدم اتخاذ طريق للواقع فلا يكون باقيا بعد اختيار إحداهما.

(و أجيب عن استصحاب

التخيير خامسا) كما يستفاد من تقريرات المرحوم آغا ضياء بأن التخيير الثابت في المقام ليس تخييرا في المسألة الفقهية كالتخيير بين خصال الكفارة فإنه يكون التخيير معه استمراريا و إنما هو تخيير في المسألة الأصولية لأنه تخيير في الأخذ بإحدى الحجتين طريقا للواقع و هذا يقتضي كون المأخوذ حجة تعيينية يتعين العمل بها بعد الأخذ بها و من هنا يعلم بأن التخيير ليس حكما مولويا يترتب العقاب عليه بل هو إرشاد إلى حكم العقل بوجوب الأخذ مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية على الواقع كما هو الحال في وجوب الفحص مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية. (و جوابه) إن هذا مصادرة على المطلوب فإنه نحتاج

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 154

الى الدليل على كون ذلك يقتضي كون المأخوذ حجة تعيينية لا يجوز العدول عنها في الوقائع المستقبلة.

(و أجيب عن استصحاب التخيير سادسا) إنه استصحاب في الشبهات الحكمية الكلية و لا نقول بجريانه فيها (و رده) إنا قد قلنا بجريانه فيها في محله.

(و أجيب عن استصحاب التخيير سابعا) بأنه بعد الالتزام بإحداهما صارت هي الحجة الفعلية و سقطت فتوى الثاني عن الحجية كما التزم به غير واحد في الخبرين المتعارضين فيكون الاختيار لإحداهما نظير المرجح لأحد الخبرين على الآخر و يمكن أن يستدل على ذلك بأن الفتويين المتعارضين لم يتساقطا رأسا و يرجع لغيرهما لكونه خلاف الإجماع و السيرة مع أنهما حجة في رفع ما عداهما بلا معارض لهما في ذلك و ليس كل منهما حجة لتكاذبهما و تنافيهما و لا أحدهما المبهم كما هو واضح و لا المعين لبطلان الترجيح بلا مرجح و لم يعين الشارع ما هو حجة فلا بد أن يكون الشارع قد أوكل

أمر الحجية لما يختاره المكلف من الفتاوى فتكون الحجية مشروطة بالاختيار للفتوى. (و فيه) انه سيجي ء إنشاء اللّه في بحث تقليد الأعلم إن أدلة التقليد تشمل كلا منهما و إن التخيير بينهما يحكم به العقل من جهة عدم مطلوبية الجمع في العمل بهما معا قطعا فتكون الفتوى الثانية باقية على حجيتها و لا دليل عندنا على أن الاختيار لأحدهما مسقط لحجية الفتوى الأخرى بالنحو المجعول لها بل هو عين المتنازع فيه.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثامنا) ان استصحاب التخيير استصحاب معلق لأن مرجع التخيير الثابت سابقا إلى أنه لو اختار إحدى الفتويين كان حجة عليه فحجية فتوى المجتهد الثاني معلقة على الاختيار. (و فيه) انه سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 155

تقليد الأعلم من ان الحجية ثابتة للفتويين معا نعم يتم هذا على مسلك من يذهب الى أن الاختيار من قبيل المرجح.

(و أجيب عن استصحاب التخيير تاسعا) انه معارض باستصحاب الحكم الفرعي الذي ثبت في حقه من جهة الأخذ بفتوى المجتهد الذي قلده أولا.

(و فيه) ان استصحاب التخيير حاكم عليه لأن الشك في بقاء الحكم الفرعي المأخوذ مسبب عن الشك في بقاء التخيير. (و قد أجاب) المرحوم الأصفهاني عن استصحاب الحكم الفرعي أنه لا حكم فرعي على بعض وجوه الطريقية. (و فيه) انه لو تمَّ لما صح استصحاب كل حكم قامت الامارة عليه على بعض تلك الوجوه مضافا إلى أن اليقين المأخوذ في الاستصحاب يعم اليقين التعبدي سلمنا لكن أدلة التنزيل للظن منزلة اليقين تثبت هذا الأثر للظن المعتبر و هو استصحاب مؤداه.

(و أجيب عن استصحاب التخيير عاشرا) ان التخيير الثابت في المقام حدوثا ليس تخييرا في المسألة

الفرعية واقعا كما في التخيير بين خصال الكفارة و المواطن الأربعة لأنا نعلم إجمالا بعدم ثبوت أحدهما واقعا، و أيضا ليس هو تخييرا ظاهريا لأن موضوع الحكم الظاهري هو الشك في ثبوت الحكم واقعا و نحن لا نحتمل في صورة اختلاف الفتاوى، إننا مخيرون بين القصر و الإتمام كي يثبت في حقنا التخيير الظاهري بل الثابت هو التخيير بين الحجج الذي نسميه بالتخيير في المسألة الأصولية و هو يقتضي إناطة فعلية الحجة باختيار المكلف و هذا من خصائص التخيير في الحجج و إلا فالحجية في غير مورد المعارضة لا تناط فعليتها باختيار المكلف بل بنفس الوصول تكون فعلية إذا عرفت ذلك ظهر لك انه قبل الاختيار لإحداهما كانت كل منهما حجة شأنية و بعد الاختيار لإحداهما صارت المختارة حجة فعلية و يشك في زوال الحجية الشأنية عن الأخرى بحيث بالاختيار لا تكون حجة فعلية فمقتضى استصحاب التخيير ثبوت ذلك لها و يعارضه أمران

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 156

استصحاب الحجة الفعلية للفتوى التي اختارها في الأول و استصحاب الحكم الشرعي الذي قد دلت عليه الفتوى المختارة في الأول. و لا يخفى ما فيه لما عرفته من أن الحجة الفعلية ثابتة لكلا الفتويين المختلفتين و إن الاختيار لإحداهما ليس بمرجح و قد عرفت ان استصحاب التخيير حاكم على استصحاب الحجية الفعلية و على استصحاب الحكم الشرعي، بل قد تقدم عدم المنافاة بين استصحاب التخيير و استصحاب الحجة الفعلية لأن المستصحب الحجة الفعلية التخييرية لا التعيينية لأنها هي المتيقنة سابقا. (نعم) الجواب هو عدم تمامية استصحاب التخيير لعدم إحراز بقاء الموضوع عرفا كما تقدم في الجواب الرابع عن استصحاب التخيير.

(و أجيب عن استصحاب التخيير

حادي عشر) بأن الأدلة الدالة على التخيير إنما توجب التخيير. و الوجوب إنما يقتضي تحقق الطبيعة و هي تتحقق بفرد واحد فاذا اختار إحداهما. فقد امتثل الأمر و إذا امتثل الأمر فقد سقط فيحتاج بقاء التخير إلى أمر جديد و الأصل عدمه فلا مجال لاستصحاب التخيير بل الاستصحاب جار في وجوب العمل بما اختاره في الزمان الأول. (و لا يخفى ما فيه) لأن وجوب التخيير موضوعه كلما وجد توجه الأمر به و موضوعه تعارض الحجتين و هو يوجد كلما تجددت الواقعة فإنه عند الابتلاء بالواقعة مرة ثانية أيضا تتعارض عنده الحجتان.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثاني عشر) ان التخيير هنا عقلي حكم به العقل و هو إنما يثبت للمتحير و قد زال تحيره باختياره احدى الفتويين لأنه صار له حجة و طريق للواقع و ليس للتخيير دليل لفظي حتى يرجع لإطلاقه و لو كان لم يكن له إطلاق مسوق لذلك كذا استدل استاذنا الشيخ كاظم أعلى اللّه مقامه على عدم جواز العدول. (و لا يخفى ما فيه) فإنه من استند في التخيير للإجماع أو السيرة أو لأدلة التخيير في الأخبار المتعارضة يكون التخيير عنده شرعيا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 157

و من استند في الحكم بالتخيير الى أن أدلة التقليد تشمل الفتاوى المتعارضة فتكون دالة على حجيتها و العقل يحكم بالتخيير فيها لعدم إمكان العمل بها نظير المتزاحمين فيكون العقل إنما يثبت التخيير لمن تعارض عنده الحجتان لا للمتحير و هو باقي لم يزول باختيار المكلف احدى الحجتين. نعم الأولى أن يقال أنه بناء على أن التخيير قد حكم به العقل، فالعقل إنما يحكم في المقام بالتخيير عند تعارض الحجة مع عدم اتخاذ

طريق للواقع. و العبد لما اختار إحداهما صار عنده طريق للواقع فلم يكن الموضوع موجودا.

(و أجيب عن استصحاب التخيير ثالث عشر) ما ذكره السيد أحمد الحسيني النجفي (ره) و حاصله أن التخيير إنما يكون في العلم بالحكم قبل الأخذ بقول المجتهد و العمل به فهو مخير في أخذ قول أيهما شاء و جعله طريقا لعلمه و معرفته بالحكم لأن العامي المقلد إذا اختار قول أحد المجتهدين و أخذ منه الفتوى حصل له صغرى و هي هذا ما أفتى به المفتي ثمَّ يضم إليها كبرى قام عليها الإجماع و الأدلة و هي كلما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقي فيصير باختياره أحد القولين عارفا و عالما بالحكم الشرعي فيتعين عليه العمل بما علم و يحرم عليه تركه للأدلة الدالة على وجوب العمل بالعلم على وجه العموم و الإطلاق الشامل للمجتهد و المقلد و عليه فلا يجوز العدول عنه لأنه لازمه عدم العمل بما علم. (و دعوى) أن العلم الذي دلت الأدلة على وجوب العمل به هو العلم الحقيقي و علم العامي المقلد علم تنزيلي فلا تشمله تلك الأدلة. (فاسدة) إذ لو لم يصدق العلم على مثل علم المقلد و لم تشمله إطلاقات العلم لزم عدم شمولها لعلم المجتهد لأنه أيضا علم تنزيلي يحصل من الامارات الظنية فمن يقول بذلك لزمه أن لا يعد نفسه من العلماء و لا يتم له القول بأن مداد العلماء كدماء الشهداء و يكذب كل من عرف الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية و لا يسمى هذا الفقه علما و إن أبيت عن ذلك فنقول إن العامي المقلد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 158

بعد ترتيبه القياس المذكور يحصل

له العلم بحكمه الظاهري كالمجتهد يحصل له العلم بالحكم الظاهري باستفادته من الامارة و يكون أخذ العامي بفتوى المجتهد كأخذ المجتهد للرواية فظهر أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالعلم تشمل العامي المقلد بعد أخذه لقول المجتهد و حينئذ فيحرم أن يأخذ بغيره و يعمل به و لا يجوز له التخيير.

(إن قلت) إن التخيير هنا يكون كالتخيير بين خصال الكفارة ألا ترى ان المجتهد إذا تعارض عنده الدليلان على تعيين القراءة أو التسبيحات في الأخيرتين مثلا و كان الدليلان متساويين ليس لأحدهما مرجح كان بالخيار في الأخذ بأيهما شاء فلو قرأ الفاتحة في صلاة يجوز له التسبيح في الأخرى كما هو الفتوى فهكذا حال العامي المتردد بين المجتهدين المتساويين. (قلنا) إن التخيير إن كان من جهة قيام نص خاص عليه كما في خصال الكفارة فيثبت منه تكليف خاص فيكون مخيرا تخييرا استمراريا و أما إن كان التخيير من جهة حكم العقل فالتخيير ابتدائيا فما اختاره يكون الحكم في حقه و لا يجوز العدول عنه للاستصحاب و لما ورد من أن حلال محمد (ص) حلال الى يوم القيامة و حرامه حرام الى يوم القيامة و لا دليل على تخصيص هذا العموم الاستمراري بل الضرورة الإسلامية حاكمة بأن الحكم الشرعي مطلقا أوليا كان أو ثانويا لا يتغير و لا يتبدل و لا يرفع و لا ينسخ بعد انقطاع الوحي كما هو الحال في زمان الغيبة بل هو باق انتهى ملخصا بتوضيح منا ثمَّ بعد هذا ذكر المستدل المذكور السيد أحمد الحسيني انه اجتمع بالمرحوم الفقيه الفاضل الشيخ أسد اللّه الشوشتري و كان يذهب الى جواز العدول فأورد الشيخ (ره) عليه بما حاصله إن ما ورد من أن

حلال محمد (ص) حلال و ما قامت عليه الضرورة ان الحكم واحد لا يتغير هو ناظر الى حكم اللّه الواقعي النفسي الأمري و بعد حدوث سقيفة بني ساعدة انقطعت يدنا عنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 159

و حدث حكم اللّه الظاهري و هو دائر مدار العناوين و الاعتبارات ألا ترى إن المجتهد إذا أدى نظره الى حكم شرعي جاز له تجديد النظر فإذا أدى نظره الى خلاف الأول فهل يمكن أن يقال إن الحكم الثاني فاسد لأن حلال محمد (ص) حلال و لأن الضرورة قامت على أن الحكم واحد فكذا الحال هنا فإن العامي المقلد إذا اختار تقليد المجتهد في مسألة كانت فتواه حكم اللّه في حقه ما دام باقيا عليه فاذا عدل عنه و رجع الى الآخر و اختار قوله صار ذاك حكم اللّه في حقه فالتخيير هنا استمراري نظير التخيير في أمارات القبلة بعد تعارضها و تساويها فان المكلف إذا اختار أحدها في صلاته جاز له اختيار الأخرى في صلاة أخرى بل في تلك الصلاة لو أبطلت فكما جاز التخيير الاستمراري في أمارات الموضوعات فليجز في أمارات الأحكام. و أجاب السيد (ره) عنه بما حاصله ان العقل لما كان حاكما بالتخيير بين القولين ابتداء فيكون اختيار أحدهما مرجحا شرعيا فاذا اختار أحدهما حصل له صغرى القياس و هي هذا ما أفتى به المفتي فيضمه الى الكبرى المذكورة فينتج هذا حكم اللّه في حقي و لا يصح بعده أن يضم هذا المرجح و هو الاختيار لقول المجتهد الثاني لأنا مأمورون بحكم اللّه الواقعي النفسي الأمري و تحصيله بأي نحو كان و إنما عدلنا إلى أخذ قول المجتهد للضرورة و هي تقدر

بقدرها و قد ارتفعت الضرورة باختيار قول المجتهد الأول و حصل العلم بالتكليف و هو يجب العمل به لما تقدم من أن الأدلة تدل على وجوب العمل بالعلم و حينئذ فلا يبقى تكليف بوجوب تعلم الحكم حتى يرجع للمجتهد الأخر بل مقتضى وجوب العمل بقول المجتهد الأول هو المنع عن العمل بقول المجتهد الثاني انتهى بتوضيح و تنقيح منا. (و الجواب عنه) ان كلامه يرجع الى الاستدلال بأمور ثلاثة:

(الأمر الأول) انه يجب العمل بالعلم و لازم ذلك المنع من العمل بغيره و العامي قد حصل له العلم بتقليده المجتهد الأول فيجب أن يعمل بقوله و لازمه المنع عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 160

العمل بقول غيره، و لا يخفى ما فيه فان وجوب العمل بالعلم هو أمر عقلي لأنه عبارة عن حجية العلم و هي بحكم العقل لا بجعل جاعل و من المعلوم أن العقل لا يمنع من التماس طريق يحصل العلم بالحكم غير الطريق الأول بدليل انه يجوز للمجتهد أن يجدد رأيه في المسألة مع انه قد حصل العلم بها و وجب العمل به.

و بدليل أنه يجوز للعامي المقلد أن يجتهد و يحصل العلم الحقيقي أو التنزيلي بالمسألة فالعقل حاكم بجواز تحصيل العلم مرة أخرى بالمسألة نعم لا يوجب ذلك و الخصم في المقام يقول بجواز الرجوع للمجتهد الثاني هذا مع أن حكم العقل بوجوب العمل بالعلم مقيد بما دام العلم موجودا و لم يحكم العقل بوجوب إبقاء ذلك العلم فالخصم يدعي ان العلم الأول الحاصل من تقليد المجتهد الأول لا يجب إبقائه و يجوز العدول الى علم آخر حاصل بتقليد المجتهد الثاني.

(الأمر الثاني) ان حلال محمد (ص) حلال ليوم القيامة

و هذا العامي بتقليده للمجتهد الأول صار الحكم في حقه هو ما دل عليه فتواه فيبقى ليوم القيامة و العدول الى الغير ينافي بقاء الحكم مستمرا، و لا يخفى ما فيه فان حلال محمد (ص) إنما هو في الحكم الواقعي النفسي الأمري لا الحكم الظاهري و بالتقليد أو الامارة المعتبرة لم يحصل العلم بأنه الحكم الواقعي النفسي الأمري و لو فرضنا انه حصل له العلم ثمَّ التمس المكلف طريقا فانقلب علمه الى العلم بحكم آخر فيرى أن حلال محمد (ص) هو هذا الحكم الآخر لا الأول فالمكلف العامي عند رجوعه للمجتهد الآخر يكون تقليده الأول باطلا و طريق الحكم هو قول المجتهد الثاني و يرى أن حلال محمد (ص) هو مؤدى قول الثاني مضافا الى انه لو تمَّ للزم عدم صحة الاجتهاد بعد التقليد و عدم صحة تجديد النظر.

(الأمر الثالث) هو ان الضرورة تقدر بقدرها و قد ارتفعت الضرورة بالرجوع للأول، و فيه ما لا يخفى انه أي ضرورة في البين و إنما الشارع جعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 161

طريقا للعامي و هذا الطريق موجود هنا و هناك و كان ترجيح أحدهما على الآخر باختياره فللمكلف أن يختار أيهما شاء عند الابتلاء بالواقعة إلا إذا ثبت المنع من اختيار الآخر.

(الدليل الثاني للمجوزين للعدول) هو استصحاب صحة تقليد الثاني

الذي يريد أن يعدل إليه فإنه قبل اختيار أحدهما كان تقليده لمن يريد أن يعدل اليه صحيحا فيستصحب هذه الصحة و هكذا استصحاب جواز تقليده و هكذا أصالة عدم اعتبار المزية و المرجحية في تقليده للأول بالعمل بفتواه و أصالة البراءة من حرمة العدول و أصالة البراءة من التعيين لفتوى المجتهد الأول و أصالة عدم مانعية فتوى المجتهد الأول عن حجية

فتوى الثاني.

(إن قلت) انه باختيار أحدهما صار ذا مزية على الآخر و محتمل الأهمية فيكون مقطوع الوجوب و الآخر مشكوك الوجوب و الأصل عدم وجوبه فيتعين وجوب ذي المزية. (قلنا) إن حجية الفتوى إن كانت من باب السببية فيكون المقام من قبيل دوران الأمر بين المتزاحمين. و احتمال التعيين الناشئ من احتمال الأهمية بسبب الأخذ بالفتوى لا يوجب إلا احتمال فعلية الطلب بعينه و ذلك لا يوجب تعيين وجوب الأخذ به لجريان البراءة العقلية عنه لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. و بعبارة أخرى انه بناء على السببية فالطلب الخطابي بالنسبة لكل واحد ثابت و فعليتهما معا بنحو التنجيز غير معقول لعدم القدرة على امتثالهما و أصالة البراءة عن العقوبة على ترك كل منهما بالخصوص محكمة فيحكم العقل بالتخيير و جواز العدول.

(إن قلت) إنا نقطع بفعلية الخطاب في فتوى الأول لأن مانعيتها عن الأخرى محتملة دون مانعية الأخرى لها فإنها غير محتملة كما هو الفرض، و إذا قطعنا بفعليتها بعينها لم يجري أصل البراءة عنها و جرى أصل البراءة في الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 162

للمجتهد الآخر. (قلنا) القطع بفعلية الخطاب في فتوى الأول لا يوجب القطع بتعيينها فيجري أصل البراءة عن تعيينها لحكم العقل بقبح العقاب على مخالفتها بالخصوص سواء قلنا ان الحكم و تعيينه عبارة عن الإرادة أو هو البعث الاعتباري المنتزع من الإنشاء بداعي جعل الداعي هذا كله بناء على السببية، و أما بناء على الطريقية فاستصحاب كون الثاني مبرئا للذمة من أول الأمر يوجب أن يكون معلوم الحجية شرعا فلا يتعين وجوب ما اختاره أولا.

(و جوابه) إن استصحاب صحة تقليد الثاني أو جواز العدول اليه أو جواز

تقليده أو حجية فتواه غير جاري لما عرفت من عدم إحراز بقاء الموضوع عرفا في الجواب الرابع عن استصحاب التخيير. و أما باقي الأصول التي ذكرها المستدل فهي لا تثبت حجية فتوى المجتهد الثاني الذي يريد أن يعدل اليه فلا بد من التماس دليل على ذلك و هو اما الاستصحاب لحجيتها و قد عرفت ما فيه و أما إطلاق أدلة التقليد و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى ما فيها عند التعرض للدليل الرابع للمجوزين للعدول.

(الدليل الثالث للمجوزين للعدول) انه بالعدول قد تحصل الموافقة القطعية

فيما لو كان حكم الواقعة منحصرا بين حكم المجتهد الأول و حكم المجتهد الثاني. (و جوابه) انه مضافا الى عدم لزوم ذلك في سائر الموارد انه قد يلزم المخالفة القطعية و هي محرمة بحكم العقل لحصول القطع بالعصيان معها بخلاف الموافقة القطعية فإنها غير واجبة في المقام إذ لم يذهب أحد إلى وجوب العدول.

(الدليل الرابع لهم)

و الذي يظهر من المرحوم الأصفهاني اعتماده عليه أن أدلة التقليد أما (اللفظية منها) فهي مطلقة و عامة بالنسبة إلى سائر أقوال المجتهدين الجامعين للشرائط بمعنى أنها تدل على جواز الأخذ بقول المجتهد الجامع للشرائط مطلقا سواء أخذ بقول غيره من المجتهدين الجامعين للشرائط أم لا و مقتضى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 163

ذلك جواز العدول أما وجه الإطلاق في الأدلة اللفظية فهو أن مثل آية النفر تدل على وجوب العمل بقول الفقيه على القوم سواء عمل القوم قبل هذا بفتوى مجتهدا آخر أم لا و نظير هذه الآية قوله (ع): فللعوام أن يقلدوه و هكذا قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ*. فان موضوعها عدم العلم بالواقع و هو موجود بعد الأخذ بإحدى الفتويين. و أما (الأدلة اللبية منها) كالفطرة و السيرة و دليل الانسداد فلأن موضوعها الجاهل المتحير الذي لا يعرف الواقع النفس الأمري و لا ريب أن العامي بتقليده للمجتهد الأول باقي على تحيره بالنسبة للواقع إذ لم يحصل له العلم بالواقع و إنما صار منقادا لما يراه مجتهده فالأدلة المذكورة تقتضي جواز أخذه بقول المجتهد الثاني الجامع للشرائط و جواز العدول عن الأول. (و جوابه) ان الأدلة اللفظية للتقليد ليس لها إطلاق من هذه الجهة فإن آية النفر ناظرة إلى وجوب التفقه

و الى وجوب الحذر عند الإنذار أما انه يجب الحذر مرة أخرى من شخص مساوي للمنذر الأول و يترك الحذر من المجتهد الأول فالآية بعيدة عنه. و أما رواية: «فللعوام أن يقلدوه». فهي ناظرة إلى وجوب التقليد من دون نظر لصورة ما إذا قلد سابقا أم لم يقلد و أما آية فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* فإنه من الواضح انها ليست ناظرة إلى صورة ما إذا سأل أهل الذكر بحيث تدل على سؤالهم مرة أخرى في نفس المسألة التي سئل عنها أولا. هذا مضافا الى إمكان دعوى ان المستفاد من أدلة التقليد اللفظية ان الموضوع فيها و لو بمناسبة الحكم للموضوع هو المتحير لا من قلد أولا و عرف الواقع بالتقليد أو بالحجة المعتبرة بل لعل ذلك هو المتبادر و المنصرف اليه من سائر الامارات و يؤيده أن قوله تعالى إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* ظاهر في عدم العلم كلية بالواقع و هو من لم تكن حجة له معتبرة على الواقع حتى بالسؤال منهم سابقا لوضوح أن هذه الآية لا تأمر بالسؤال مرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 164

ثانية في نفس المسألة لمن سأل عنها و عرف حكمها و إلا لزم وجوب تكرر السؤال عن المسألة الواحدة من أهل الذكر الى أن يحصل العلم و هذا لا يلتزم به المستدل و أما الأدلة اللبية فالقدر المتيقن من موضوعها هو المتحير في الوظيفة الشرعية و بعد الأخذ بإحدى الفتويين زال تحيره في وظيفته الشرعية. فلا تدل على جواز تقليد العامي مرة ثانية في المسألة، و دليل الانسداد في باب التقليد إنما يوجب حجية الظن مع عدم الطريق للواقع و انسداد الواقع على المكلف و العبد بتقليده

المجتهد الأول كان الواقع عنده منفتحا فلا يصح الأخذ بقول المجتهد الثاني من جهة دليل الانسداد و لا تجري مقدمات الانسداد في حقه مرة أخرى.

(إن قلت) ما ذا تقول في حجية الخبر من باب الانسداد فان من عمل بالخبر من هذا الباب تجري فيه مقدمات دليل الانسداد مرة ثانية بالنسبة للخبر المعارض المساوي. (قلنا) لا نسلم جريانها بعد الأخذ بمعارضة.

(إن قلت) بناء على السببية يكون المقام من قبيل تزاحم الواجبين و يكون مقتضى القاعدة استمرار التخيير لأن حكم العقل بالتخيير في أول الأمر إنما هو من جهة وجود المصلحة المأمور بها في العمل بكل منهما و عدم رجحان احدى المصلحتين على الأخرى عند الشارع و هذا المناط موجود فيهما بعد الأخذ بإحداهما. (قلنا) إنه إذا كان دليل الحجية لا يعلم شموله لما بعد الأخذ بإحداهما فلا يحرز المناط إلا بالاستصحاب كما تقدم توضيحه. و بعبارة أخرى احتمال التعيين في الفتوى المأخوذة موجود لا يرفعه إلا استصحاب التخيير و قد تقدم الكلام فيه في الدليل الأول و قد أجاب بعضهم عن هذا الدليل الرابع بأن المعارضة بين الفتاوى موجبة لسقوط أدلة التقليد في موردها فلا إطلاق لها بالنسبة إليها و فيه انه سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في مبحث تقليد الأعلم عدم سقوطها في مورد المعارضة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 165

(الدليل الخامس لهم) [إطلاق أخبار التخيير العلاجية]

إن التخيير إنما يستفاد من الأخبار العلاجية و هي مطلقة تشمل التخيير ابتداء و استمرارا لأن موضوعها من جاءه خبران متعارضان. (و جوابه) إنا لو سلمنا استفادة ذلك منها و إلحاق تعارض الفتويين بتعارض الخبرين فهي إنما تدل على ثبوت التخيير اما انه بدوي أو استمراري فليست ناظرة إليه.

(الدليل السادس لهم) [ابتدائية التقليد في كل واقعة ابتلى بها]

ان التقليد و قول المجتهد المقلد ليس يوجب ثبوت الحكم الشرعي و إنما يوجب جواز العمل به بالنسبة إلى الوقائع الخاصة فيكون التقليد في كل واقعة ابتلى بها تقليدا ابتدائيا فيتخير فيها في الرجوع الى أي مفت شاء لعدم ثبوت حكم معين في حقه بالنسبة إليها ظاهرا و بعبارة أخرى ان الجاهل إذا شك في حكم واقعة لم يجب عليه الرجوع الى المجتهد إلا في حكم تلك الواقعة الجزئية من دون اعتبار أن يقلده في نظائرها مما هي أفراد للمسألة الكلية لأن محل ابتلائه هي هذه الواقعة الجزئية الخاصة و الواقعة الثانية قبل الابتلاء بها لا دليل على تأثير التقليد فيها و لا على شرعيته بالنسبة إليها بل الدليل قائم على عدم مشروعيته بالنسبة إليها لأن التقليد إنما هو مقدمة للعمل و إذ لا عمل فلا أمر به حتى تجب مقدمته و من هنا التزم بعضهم بأن من قلد مجتهدا يجوّز العقد بالفارسية فاعتمد عليه و عقد فلا يجوز له العدول لغيره ممن لا يجوّز ذلك بأن لا يرتب آثار الزوجية من الاستمتاع و النفقة و القسمة و نحوها و إنما يجوز له العدول لغيره في عقد امرأة أخرى فلا يعقد عليها بالفارسية و قد نسب بعضهم هذا القول لصاحب الجواهر. (و الجواب عنه) إن قول المجتهد المقلد نظير الامارة المعتبرة يثبت به الحكم الشرعي و

يكون مؤداه هو حكم اللّه في حقه فيكون بأخذه لقول المجتهد قد قلده في سائر الوقائع التي هي جزئيات لموضوع الحكم الشرعي الذي دل قول المجتهد عليه كما هو ظاهر أدلة التقليد و لقيام الإجماع على عدم لزوم تجديد تقليده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 166

بالنسبة لكل واقعة واقعة من مصاديق موضوعه و أيضا يلزم من ذلك جواز تقليده لمجتهدين مختلفين في الفتاوى دفعة واحدة في واقعتين من مورد واحد مثلا عنده مائان مضافان بماء الورد و كان مجتهدان أحدهما يفتي بجواز الوضوء من ماء الورد و الآخر يمنع منه فهو يقلد أحدهما في هذا الماء الورد و الآخر في ذاك الماء الورد دفعة واحدة فيتوضأ من أحدهما و يتيمم مع الآخر عند فقدان الماء لأن كل منهما تقليد مستقل مع أن أدلة التقليد لا تساعد على ذلك و لا يلتزم به أحد.

(الدليل السابع لهم)

و هو ما ذكره المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني رحمه اللّه. و حاصله ان حجية فتوى المجتهد إن كانت من باب الطريقية فتكون منجزة للواقع عند الإصابة و معذّرة عند المخالفة و مع فرض التعارض لا معنى لمنجزية كل منهما لمخالفة إحداهما للواقع قطعا فتزول لكن كون كل منهما معذرة عن الواقع بمعنى مسقطة للعقاب لا مانع منه و لا موجب لرفع اليد عنه بل لا بد من الالتزام به للإجماع على عدم سقوط الفتويين و عدم الرجوع الى غيرهما عند فرض انحصار الطريق للعامي بالرجوع للفتوى بل لا مانع من استفادته من نفس دليل الحجية لأن التعارض يمنع عن تصديق دليل الحجية من حيث منجزية الطريقين للواقع و لا يمنع التعارض من تصديق دليل الحجية من حيث معذرية

كل من الطريقين و كون كل واحد منهما مبرئ للذمة إذا ظهر لك ذلك و إن معنى حجيتهما كون كل منهما معذرة مع دوران العقاب على مخالفتهما فاذا شك بعد العمل بإحدى الفتويين في تعيين ما أخذ به عليه أم كل من الفتويين باقية على معذريتها شرعا كان مقتضى الاستصحاب بقائهما و منه تعلم أن استصحاب الحكم المأخوذ سابقا لا يوجب تعيينه لأنه كان ثابتا سابقا و لم يكن ثبوته مانعا من ثبوت الآخر فكيف يمنع عن ثبوته بقاء بل بناء على الطريقية كما هو فرض الكلام ليس هناك حكم شرعي فعلي بل الثابت منجزية الفتويين و معذريتهما و من المعلوم أن منجزية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 167

الفتوى المعمول على طبقها و معذريتها لا تمنع عن منجزية الأخرى و معذريتها و كل منهما في عرض الآخر و ليس هناك حكم بنحو التخيير من الشارع غير هذين الحكمين أعني الحجية الثابتة لكل منهما بل حتى لو قلنا بأن الطريقية جعل الحكم المماثل على طبق الموافق للواقع فمع فرض بقاء هذا الحكم في صورة التعارض يكون مرجع الأمر بالتخيير بقوله (ع): «اذن فتخير» الى جعل الحكم على طبق كل من الخبرين تخييرا كما أن مرجع الأمر بالأخذ بالراجح الى جعل الحكم على طبقه فعلا. و عليه فاستصحاب الحكم المختار لا يوجب تعيينه على المكلف لأن الحكمين المجعولين على طبق الفتويين لا يعقل أن يكونا بنحو التعيين فعليا لمكان المعارضة فلا محالة تحقيقا للالتزام بهذا أو ذاك يجب أن يكون الحكمان فعليين تخيريين هذا كله على القول بحجية الفتوى من باب الطريقية، و أما إن كانت من باب الموضوعية بجعل الحكم المماثل على طبق

كل من الفتويين فحال الحكمين حال الواجبين المتزاحمين فان فرض تخيير من الشارع كان مولويا لا إرشاديا الى ما حكم به العقل فالصحيح منه جعل الحكم المماثل على كل منهما بنحو التخيير فيجب القصر و الإتمام مثلا بنحو التخيير فاستصحاب الحكم المختار بل القطع به لا ينافي استصحاب الحكم الغير المختار و القطع به. و إن لم يكن تخييرا من الشارع فلا مجال لاستصحاب التخيير العقلي و لا يمنع استصحاب الحكم المأخوذ عن ثبوت الحكم الآخر لأن كل منهما ثابت بنحو لا ينافي ثبوت الآخر و حكم العقل بالتخيير بين تطبيق العمل على هذا أو ذاك لا يوجب تصرفا في الحكم الشرعي و لذا صح تطبيق العمل على كل منهما. (و الجواب عن ذلك) إن هذا يرجع لاستصحاب التخيير و قد تقدم الكلام فيه و كان اللازم عليه هو تصوير ثبوت الحجية للمتعارضين في عرض واحد و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى بيانه منا في تقليد الأعلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 168

أدلة المانعين من العدول عن تقليد مجتهد الى آخر
اشارة

و أما الذين منعوا من العدول فقد استدلوا بعدة أدلة:

(أحدها) الإجماع المنقول

عن ابن الحاجب و العضدي و العميدي و المحقق القمي. (و فيه) ان هذه المسألة على ما ذكره صاحب المناهج لم تر في كتب أصحابنا إلا في كتاب العلامة و قليل من المتأخرين منه و محض اختيارهم لا يثبت الإجماع مع حكاية الخلاف عن المحقق الأول و الثاني و عن العلامة في النهاية و عن الشهيد الثاني حيث حكي عنهما جواز العدول مع أن ثبوت الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم (ع) في هذه المسألة التي لم يكن في عصر الامام (ع) لها عين و لا أثر مما لا سبيل اليه.

(الثاني) إنا لو جوّزنا العدول لاختل النظام

و يكون الحكم الشرعي كيفي باختيار العبد فيقلد ما وافق هواه في كل حين و دواعي الناس تختلف آنا فآنا. (و أجيب عنه) ما حاصله أن جواز العدول لو كان يوجب اختلال النظام لأوجبه في صورة موت المجتهد أو تجدد رأيه أو كفره أو فسقه مع انهم أفتوا بجواز العدول في هذه الموارد. و أورد عليه بأن في هذه الموارد لا يوجب الاختلال لوقوعها قهرا و نادرا بخلاف ما نحن فيه فإنه يكون بالدواعي النفسانية. و الحق في الجواب أن يقال إن ذلك لا يوجب الاختلال في النظام لأنه لا شك ان كل مجتهد يرجع له جماعة في فتواه مع عدم اختلال النظام و لو كان بالعدول يختل النظام لكان الواجب تقليد الناس شخصا واحدا.

(الثالث) [الأخبار]

ما تقدم من مقبولة بن حنظلة ص 31 فإنها من أدلة جواز التقليد و هي ظاهرة في عدم جواز الرد. و العدول نوع من الرد و هكذا سائر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 169

أدلة القضاء الدالة على عدم جواز رد حكم الحاكم إذا قلنا بأنها تدل على التقليد فهي تدل على عدم جواز العدول. (و فيه) انها لو دلت لاقتضى ذلك عدم جواز رد الفتوى من كل أحد كالحكم.

(الرابع) الاستصحاب لحجية فتوى المجتهد الأول

و استصحاب وجوب العمل بقوله و استصحاب الاحكام الفرعية المأخوذة منه دون الفتوى للمجتهد الثاني فإنه لا يجري فيها الاستصحابات المذكورة لعدم إحراز بقاء الموضوع عرفا كما تقدم في جواب أدلة المجوزين فالأصل عدم حجيتها بل لا نحتاج الى الأصل لأن مجرد الشك في الحجية كافي في رفعها. (و جوابه) كما قيل معارض باستصحاب التخيير. و لكنك قد عرفت عدم جريان استصحاب التخيير في الجواب عن أدلة المجوزين فيكون الاستصحاب لحجية فتوى المجتهد الأول جاري بلا معارض. و فتوى المجتهد الثاني مشكوكة فالأصل عدمها بل مجرد الشك في الحجية كاف في نفيها.

(الخامس) قاعدة الاشتغال

للتردد بين تعيين العمل بقول المجتهد الأول و بين التخيير بينه و بين قول المجتهد الثاني و الاحتياط واجب في مثله لدوران الأمر بين التعيين و التخيير. (و الجواب) عنها كما قيل ان استصحاب التخيير مقدم عليها و لكنه قد عرفت عدم تمامية الاستصحاب للتخيير لعدم إحراز بقاء الموضوع.

(السادس) لزوم المخالفة القطعية

فيما لو قلد مجتهدين في واقعة يذهب كل منهما الى خلاف الآخر بحيث بالعمل بالثاني يحصل له العلم بمخالفة الواقع كما لو قلد من يقول بأن المسافة أربعة فراسخ فصلى الظهر قصرا ثمَّ عدل الى من يقول بأن المسافة ثمانية فراسخ فصلى الظهر في ذلك المكان تماما فيلزم من ذلك المخالفة القطعية و هي محرمة فإذا لم يجز العدول في بعض الموارد لهذا المحذور فلا يجوز في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 170

الباقي لعدم القول بالفصل. (و جوابه) إنه لو أوجب لزوم ذلك في بعض الموارد المنع كلية للزم عدم جواز العدول عن الميت إلى الحي أو عند تبدل الرأي أو التمكن من الأعلم أو عند فسق المجتهد أو كفره أو جنونه أو نحو ذلك مضافا الى أن المخالفة القطعية التدريجية لا محذور فيها إذا قام الدليل على جوازها.

(السابع) إن الآيات و الأخبار الناهية عن التقليد

خرج عنها الأخذ بقول المجتهد الأول فيبقى الأخذ بقول المجتهد الثاني داخلا فيها فلا يجوز.

(و جوابه) إنا لا نسلم بقائه داخلا فيها بل هو أيضا خارج عنها بالعنوان الذي خرج به تقليد المجتهد الأول إلا إذا قلنا بعدم شموله له كما سيجي ء في الدليل التاسع لهم.

(الثامن) إن التقليد يتعلق بالمسألة الواحدة الكلية

لا بجزئياتها المتعددة لأنه أمارة معتبرة على ذلك و طريق للواقع و إلا لكان لكل واقعة جزئية تقليدا مستقلا و من المعلوم ان المسألة الواحدة لها حكم كلي واحد و حينئذ بعد عمل المكلف في تلك المسألة بقول من قلده إذا عدل الى المجتهد الثاني فأما أن يقلده في كلي المسألة فيلزم نقض آثار الوقائع الجزئية الماضية لهذه المسألة و هو باطل بالإجماع و أما أن يقلده في خصوص الوقائع المستقبلة فيلزم التبعيض في التقليد و لا دليل على جوازه. (و جوابه) أولا: بالنقض بالتبعيض في التقليد بالنسبة إلى الوقائع المستقبلة فإنه أكثر من أن يحصى كما في موت المجتهد أو كفره أو نحو ذلك. و ثانيا: بالحل فانا لو سلمنا أن مقتضى التقليد هو ذلك و إن الرجوع الى المجتهد الثاني يقتضي ذلك لكنا نمنع من تأثيره في الوقائع الماضية بواسطة الأدلة التي قامت على عدم تأثيره في الوقائع الماضية كالإجماع و نحوه.

(التاسع) [عدم شمول أدلة التقليد مرة ثانية للعامي الذي اختار إحدى الفتويين]

انه بعد أن اختار العامي إحدى الفتويين صار ممن له طريق و حجة على الواقع و خرج عن التحير و الجهل الذي هو موضوع أدلة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 171

التقليد و المنساق منها فلا تشمله أدلة التقليد للغير بالنسبة لهذه المسألة مرة ثانية و بذلك تسقط فتوى المجتهد الثاني عن الحجية.

(العاشر) إن التقليد في حكم ينافي جواز العدول

لأن مقتضى جواز العدول ارتفاع حيثية الحكم الإلزامي فإن من قلد في وجوب شي ء لو جوزنا له العدول فمعناه إن الشي ء ليس بواجب و إنه غير ملزم به و هكذا من قلد في الحرمة لو جوزنا له العدول فمعناه ان الشي ء ليس بحرام عليه. (و قد أجاب عنه) الشيخ الأنصاري (ره) بما حاصله انه واجب ما لم يختر غيره و يعدل اليه. و فيه انه ما دام الأمر يرجع للاختيار فقد زال الإلزام عنه الذي هو حقيقة الحكم الإلزامي (و الحق أن يقال) إن جواز العدول يرجع الى تبدل الموضوع فلا ربط له بحيثية الحكم فان جواز العدول عبارة عن تبديل الأخذ من المجتهد بالأخذ من مجتهد آخر نظير المسافر يتبدل بالحاضر و لعل جواب الشيخ (ره) يرجع لما ذكرناه فتلخص ان الحق عدم جواز الرجوع عن المجتهد الأول في المسألة التي قلده فيها للدليل الرابع و الخامس و التاسع.

[الموارد التي يجوز العدول فيها من تقليد مجتهد لآخر]
اشارة

نعم ما يمكن أن يقال أو قيل فيه بجواز العدول موارد:

(أحدها) جنون العامي المقلد أو صغره

من الموارد التي يجوز العدول عن المجتهد الأول إذا أصاب العامي المقلد شيئا يوجب عدم تكليفه كما لو قلد العامي مجتهدا ثمَّ جن العامي ثمَّ عاد عقله له و هكذا لو قلد الصبي و قلنا بصحة تقليده لصحة عباداته ثمَّ بلغ فيجوز لهما العدول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 172

لأن التكليف يسقط عنهما فيكونان غير مكلفين بحرمة العدول و يتوجه إليهما من جديد وجوب التقليد فيثبت لهما التخيير ابتداء فيجوز أن يعدلا لغيره و لكن مقتضى الدليل الثالث للمنع من العدول و الخامس هو المنع من عدوله عنه مضافا الى أن الجنون عذر عقلي لا أنه رافع للتكليف فلو أوجب صحة العدول لكان النوم و الاغماء و الغفلة كذلك. و من هنا يعلم أن الطوارئ التي تطرأ على الإنسان فتوجب عدم تكليفه لا تقتضي جواز عدوله عن تقليده الأول بعد ارتفاعها عنه لأنها أعذار عقلية ترفع تنجّز التكليف عليه و عدم لزوم امتثاله لا انها تزيله عن أصله. و إن شئت قلت ان الأعذار العقلية لا ترفع الأحكام الوضعية فحجية فتوى مقلده تكون باقية بالنسبة إليه لأنها حكم وضعي و هكذا بالنسبة إلى الصبي مضافا الى جريان استصحاب حرمة العدول بنحو التعليق، و أما استصحاب التخيير فهو لا وجه له لان حال الجنون و حال عدم البلوغ ليس بمكلف بالتخيير لأن معنى التخيير هو الإلزام بالأخذ بأحدهما و عدم تركهما معا و قد تقدم ص 37 ما ينفعك هنا.

(ثانيها) فقد الشرائط المعتبرة في المفتي أو الفتوى أو المستفتي

من الموارد التي توجب العدول هو أن يفقد المفتي أو المستفتي أو الفتوى الشروط المعتبرة في صحة التقليد التي تقدم الكلام فيها و التي سيجي ء إن شاء اللّه تعالى الكلام فيها و لكن

هذا إنما يوجب العدول بالنسبة إلى الأعمال الآتية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 173

لا بالنسبة إلى الأعمال الماضية، اما انه يوجب العدول بالنسبة للأعمال المستقبلة فلأنه لا يصح تقليده فيها لفقد الشروط و إنما لا يوجب العدول بالنسبة للأعمال الماضية فلما تقدم في تبدل رأي المجتهد (ثمَّ إنه لو اعتقد فقد الشرائط) و عدل للغير ثمَّ ظهر اشتباهه و ان الشرائط موجودة في من قلده أولا وجب عليه الرجوع اليه و لا يبقى على الثاني لأن اعتقاد الخلاف عذر عقلي و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى إن الأعذار العقلية يجب معها الرجوع الى الأول عند زوالها.

(ثالثها) تبدل رأي المجتهد

و من الموارد الموجبة للعدول تبدل رأي المجتهد فيما قلده فيه كما تقدم فإنه يوجب العدول عنه في الأعمال المستقبلة دون الماضية فراجع مبحث تبدل رأي المجتهد.

(رابعها) ظهور عدم جامعية المفتي للشرائط من أول الأمر

و من الموارد الموجبة للعدول ظهور عدم جامعية المجتهد للشرائط من أول الأمر فإنه عليه يكون تقليده غير صحيح لعدم توفر الشروط المتوقف عليها صحة التقليد و يكون حكم العامي المقلد له حكم الجاهل القاصر إذا كان قد تفحص عن أمر تقليده لهذا المجتهد بمقدار اللازم أو حصل له العلم أو قامت عنده الامارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 174

المعتبرة على جامعيته للشروط كالبينة و الشياع. و حكم الجاهل المقصر لو لم يتفحص بالمقدار اللازم و لم تكن عنده أمارة معتبرة على جامعيته للشروط و قد تقدم حكم الجاهل القاصر و المقصر و إن كان التحقيق أن يقال انه حكمه حكم الجاهل في المعذورية و عدمها، و أما في مسألة الأجزاء و عدمه فان استند إلى أمارة مجعولة شرعا في الرجوع إليه كالبينة و نحوها كان عمله مجزي و إلا فلا لعين ما ذكرناها في وجه الاجزاء إذا تبدل رأي المجتهد، و لو اعتقد فقده للشرائط من أول الأمر فعدل الى غيره ثمَّ ظهر له الخلاف و انه كان جامعا للشرائط وجب رجوعه اليه و لا يبقى على تقليد الثاني كما تقدم في الأمر الثاني.

(خامسها) موت مقلده

و من الموارد الموجبة للعدول موت من قلده فقد ذهب الى ذلك جماعة و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى تحقيق هذا المقام عند الكلام في اشتراط الحياة في المفتي و لكن إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة اشتراط الحياة في المفتي فلا وجه لعده من الأمور الموجبة للعدول في مقابل الثاني و الرابع و إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة أدلة خاصة فهي غير موجودة فلا وجه له.

(سادسها) نسيان فتوى المجتهد

و من الموارد الموجبة للعدول نسيان فتوى المجتهد الأول و لا طريق له لمعرفتها فإنه يجوز العدول لفتوى المجتهد الآخر لشمول أدلة التقليد له في هذه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 175

الحال. (و توضيح الحال) إنه عند نسيانه لفتوى من قلده فيها يجب عليه الفحص لوجوب العمل بمؤداها عليه و هو يتوقف على معرفتها و هي تتوقف على الفحص عنها أما مقدار الفحص فالظاهر وجوبه الى حد الحرج حيث أن الحرج منفي في الشريعة فلا يجب عليه الفحص إلا بمقداره أو يحصل عنده اليأس من الظفر به و حينئذ فيجب عليه الرجوع في تلك المسألة، أما الى الاحتياط أو الى فتوى غيره و مقتضى أدلة التقليد هو رجوعه الى المجتهد الآخر لأن موضوعها من لم يتخذ طريقا للواقع و إنما كان لا يرجع له لأنه قد اتخذ طريقا للواقع و بعد نسيانه له لم يكن له طريق للواقع فلا تجي ء أدلة حرمة العدول المعتمد عليها و هي الرابع و الخامس و التاسع و لا يجب عليه الاحتياط لجواز تقليد الثاني له.

(إن قلت) انه إذا علم بأن فتوى الآخر كانت منافية للفتوى المنسية و كان تكاذب بينهما و قد تقدم الكلام

ان الفتوى المنسية كانت هي الراجحة بالاختيار لها فهي تكون مشمولة لأدلة التقليد دون الفتوى الثانية فالمقام نظير ما لو نسي فتوى الأعلم فإنه يرجع للاحتياط لا الى غير الأعلم، و هكذا لو نسي فتوى الحي المنحصر به الاجتهاد فإنه لا يرجع لفتوى الميت لخروجها عن أدلة التقليد، و هكذا مع الشك في منافاتها أيضا لا يجوز التمسك بأدلة التقليد لأنه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية إلا (اللهم) أن يدعى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط إلا أن المحصل منه في هذه المسألة غير حاصل لقلة من تعرض لها و المنقول منه ليس بحجة (فإنه يقال) لو سلمنا أن الترجيح يتحقق بالاختيار لها فعند النسيان زال الاختيار لها نظير الأعلم إذا زالت عنه الأعلمية أو الحي إذا زالت عنه الحياة فإنه يرجع للفتوى المعارضة لفتواه إذا كان صاحبها أعلم منه في الصورة الاولى و إذا كان صاحبها حي في الصورة الثانية. و السر في ذلك هو وجود ما يخرجها عن أدلة الحجية لها فتزول مانعيتها فتدخل الأخرى فيها لعدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 176

المانع عن دخولها فيها.

(إن قلت) إن الاختيار إنما كان مرجحا ابتداء لا استمرارا لأن القدر المتيقن منه هو ذلك فاستصحاب حجية ما اختاره أولا جارية في المقام.

(قلنا) بعد نسيانه و عدم الظفر به بعد الفحص لا وجه للجعل لحجيته و طريقيته لكونه غير ممكن الكشف به عن الواقع. و لو سلمنا فالاستصحاب فيها لا يجري لأن الاستصحاب إنما يجري فيما هو متمكن من العمل به ليصح التكليف بعدم نقض اليقين بالشك فيه لا فيما لا يمكن العمل به و حينئذ فتزول مانعية الفتوى الاولى عن الفتوى الثانية فتدخل فتوى

الثاني في أدلة الحجية بلا مانع.

(إن قلت) إن اللازم حينئذ هو الرجوع الى الظن بفتوى المجتهد الأول لا الرجوع الى غيره لأن الظن بأن هذه هي فتوى المجتهد الأول يوجب الظن بأنه مبرئ للذمة فلا يجوز التنزل الى فتوى المجتهد الثاني المشكوكة الحجية لأرجحية الظن على الشك. (قلنا) هذا الظن إن كان حجة صح ما ذكر و أما إذا لم يكن حجة فلا دليل على اعتباره. نعم الاشكال فيما لو قلد المجتهد الآخر و عمل بفتواه بعد ما أيس من الظفر بفتوى المجتهد الأول ثمَّ ظفر بعد ذلك بفتوى المجتهد الأول التي قلده فيها فهل يبقى على الثانية أو يرجع للأولى قد يقال إنه يرجع الى الفتوى الأولى لأن النسيان عذر عقلي لا يغير الحكم و لا يزيله من أصله و إنما هو مانع من تنجزه نظير الغفلة و نظير نسيان الأمارة التي كانت حجة عليه و عدم ظفره بها فإنه بعد الظفر يرجع إليها و يفتي بمضمونها و (بعبارة أخرى) إن الأعذار العقلية لا ترفع الأحكام الوضعية فإن الفتوى الأولى كانت حجة عليه فنسيانها أو الغفلة عنها أو الجنون أو النوم لا يرفع حجتها عنه. (نعم) لا يتنجز مؤداها في حقه و نظير ذلك ما لو اعتقد موت مفتيه أو فسقه أو غفل عن تقليده له ثمَّ انكشف له الحال أو غير ذلك من الموانع لتقليده إياه (و لكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 177

التحقيق أن يقال) ان المولى تارة يكون التقييد في مراده كأن يكون مراده إكرام العلماء العدول و أخرى لم يكن التقييد في مراده و لكن التقييد إنما كان لحكم العقل بوجوب العمل بمراده كما لو قال إكرام

العلماء و لكن لم يتمكن العبد من إكرام العدول أو جهلهم أو نسيهم فالارادة الجدية متحققة بالنسبة إليهم و لكن لا يحكم العقل بوجوب امتثال التكليف بالنسبة إليهم. و المخصص من هذا القبيل إذا زال توجه الحكم اليه و لا معنى لاستصحاب عدم الحكم فيه لأن الإرادة الجدية متعلقة به فالأعذار العقلية كلها من هذا القبيل فبمجرد زوالها عاد الحكم إليها و لكن فيما نحن فيه لا يجي ء ذلك لأن النسيان أوجب خروج الاولى عن الأدلة و دخول الثانية فيها لما عرفت من أن المرجحية كانت بالاختيار و قد زال الاختيار لها و دخلت الثانية في الأدلة فعود الاولى يحتاج الى دليل. و من هنا ظهر لك صحة ما حكي عن الشيخ الأنصاري (ره) من انه في صورة ما إذا أخذ رسالة المجتهد و بنى على العمل بها بناء على كفاية ذلك في التقليد فتعذرت عليه مسائل تلك الرسالة فإنه يرجع الى الغير و لا يعود إلى الأول بعد رفع العذر.

(سابعها) أعلمية المجتهد الثاني و أورعيته

و من الموارد الموجبة للعدول هو صيرورة المجتهد الثاني أعلم أو أورع و سيجي ء إن شاء اللّه تحقيق ذلك في اشتراط الأعلمية و الأورعية في المفتي:

و لكن إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة ان المفضولية في العلم و الورع مانعة من التقليد للأقل علما و ورعا و انه يتعين تقليد الأعلم و الأورع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 178

فلا وجه لعده من موجبات العدول في مقابل الثاني و الرابع و إن جعل ذلك من موجبات العدول من جهة أدلة خاصة فهي غير موجودة.

(ثامنها) الأخذ بالفتوى بدون العمل بها

و من الموارد الموجبة للعدول ما لو قلد المجتهد و التزم بفتواه و لكنه لم يعمل بها فإنه يجوز له العدول الى غيره. و استدل على ذلك بعضهم بأن التقليد يكون عبارة عن العمل بقول الغير أو مجرد الأخذ بقول الغير و لكن العمل موجب للالتزام به فمع عدم حصول العمل لم يحصل الملزم بالتقليد فيجوز العدول و قد أجاب عنه بعضهم بأن أدلة المنع عن العدول لم يؤخذ في عنوانها التقليد فلا بد من ملاحظتها فنقول ظاهر بعضها اعتبار العمل مثل لزوم المخالفة القطعية. و لزوم اختلال النظام و لزوم نقض الآثار للأعمال السابقة و مثل الإجماع حيث انه دليل لي فيؤخذ بالقدر المتيقن منه و هو صورة حصول العمل. و ظاهر البعض الآخر عدم جواز العدول و لو لم يعمل مثل الاستدلال بمقبولة بن حنظلة. و الاستصحاب لحجية فتوى المجتهد الأول. و كون التخيير موضوعه من لا حجة له و قاعدة الاشتغال و هكذا الدليل السابع و التاسع (و الحاصل) ان الذي أخذ فتواه اما أن يكون هو الأعلم فهو الحجة في حقه على القول

بالترجيح بالأعلمية. و اما أن يكون مساويا لغيره فاختياره يوجب ترجيحه على غيره و حجية قوله في حقه بناء على أن الاختيار لأحد المتساويين موجب للترجيح و أما أن يكون أدنى فيجوز له العدول الى غيره إن قلنا بجواز العدول من الأدنى إلى الأعلى و أما مع الشك فلا يجوز له العدول لأنه شك في الطريق فمقتضى القاعدة هو الاشتغال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 179

و لم يحرز التخيير حتى يستصحبه. و أما مع الشك في صدور الفتوى منه عند اختياره لفتاويه على سبيل الإجمال بأن احتمل انه لم تصدر فتوى منه في هذه المسألة عند ما اختار فتاويه إجمالا بل كان له ملكة أو لا ملكة له فيجوز العدول الى غيره في هذه الواقعة لعدم ثبوت حجية فتواه فيها بالنسبة إليه فيكون شاكا في الطريق.

(تاسعها) الأخذ بالفتوى من باب الاحتياط

من الموارد المبيحة للعدول ما لو قلد المجتهد في فتواه بالاحتياط بأن كان المجتهد أفتى له بالاحتياط فإنه يجوز العدول الى غيره في الشبهة الحكمية خلافا للمحكي عن الشيخ الأنصاري (ره) و ذلك لأنه لم تشمله أدلة التقليد حيث أن المجتهد لم تكن له فتوى بحكم الواقعة و ليس هو من أهل العلم بحكمها حتى يجي ء وجوب رجوع الجاهل الى العالم و لا من أهل الذكر حتى يسأل عنها و (الحاصل) إن أدلة التقليد لا تشمل الفتوى بالاحتياط في الشبهة الحكمية فلا تكون حجة عليه و إنما صح له العمل بها لأنها مبرئة للذمة فهو و المقلد على حد سواء في عدم العلم بالحكم و عدم معرفته و لذا ترى أرباب الفتوى يجوزون الرجوع لغيرهم في موارد الاحتياطات من غير تفصيل بين العمل بها أو عدمه.

(نعم) في الشبهة الموضوعية كالجهل بالقبلة و تردد الماء النجس بين الإنائين لو قلده لا يجوز له العدول لأن حكم الواقعة هو ذلك فهو عارف بحكمها من الأدلة بخلاف الشبهة الحكمية فإنه لم يعرف الحكم لتعارض الأدلة أو لفقدها أو لإجمالها فهو يعمل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 180

بالاحتياط من جهة كونه مؤمّنا له لا من جهة قيام الدليل عليه و لعله الى ذلك يشير ما ذكره بعضهم من انه لم يجعل الشارع حكما مماثلا في مورد الاحتياط في الشبهة الحكمية حتى يتعبد به العامي و يكون موردا للتقليد بل غاية الأمر ان المجتهد لم يعرف حكم الشارع الظاهري و لا الواقعي فيحكم عقله بأن المبرإ هو الاحتياط بعين ما يحكم به المقلد (و إن شئت قلت) إن المبرئية بالاحتياط معلومة حتى للمقلد فلا وجه للتقليد فيها.

(إن قلت) إنه يحتمل أن الاحتياط محرم لأن الامتثال به إجمالي (قلنا) المجتهد قد أفتى له بعدم حرمته أما مبرئيته فهي معلومة لديه فلا وجه لتقليده فيها مع انها ليست بحكم شرعي و إنما هي حكم عقلي و قد سبق انه لا يجوز التقليد في أحكام العقل، بخلاف الشبهة الموضوعية كالصلاة عند اشتباه القبلة فإن وجوب الاحتياط فيها حكم شرعي ظاهري و بهذا ظهر لك انه يجوز العدول عن فتوى المجتهد إذا عمل بها من باب الاحتياط إذ لا دليل على حرمة العدول.

و الأدلة الدالة على حرمة العدول لا تجي ء في المقام إذ لا تقليد للمجتهد بمجرد ذلك. و هكذا ظهر لك جواز العدول و لو عمل بفتوى الاحتياط و لكن لم يدر إنها فتوى إلزامية أو استحبابية من المجتهد.

التبعيض في التقليد

(الثالث عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها) الأحكام الشرعية التي يكون العامي قد قلد مفت آخر في بعضها
اشارة

بأن يأخذ ببعض الأحكام

الشرعية من مجتهد و بعضها من مجتهد آخر كما هو الظاهر من العامة و يسمى ذلك بمسألة التبعيض في التقليد و هي غير المسألة السابقة المسماة بمسألة العدول و الكلام يقع في مقامات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 181

(المقام الأول) في الفرق بين المسألتين [مسألة العدول و مسألة التبعيض]

و هو واضح فإن مسألة العدول هو أن يقلد المجتهد في حكم لموضوع سواء عمل به أو لم يعمل به ثمَّ يعدل عنه الى مجتهد آخر في نفس ذلك الحكم لذلك الموضوع فلا بد فيها من التعاقب في التقليد و مسألة التبعيض أن يقلد المجتهد في حكم لموضوع و يقلد الآخر في حكم لموضوع آخر سواء كان حكمين لمسألة واحدة كأن قلد أحد المجتهدين في استحباب القنوت في الصلاة و قلد الآخر في وجوب جلسة الاستراحة في الصلاة أو حكمين لمسألتين مختلفتين كأن قلد أحدهما في الصلاة و قلد الآخر في الزكاة و سواء كان التقليد لهما دفعة واحدة أو كان على التعاقب و من هنا ظهر لك أنه لو كان عنده مائان للورد فقلد القائل بجواز الوضوء في أحدهما و قلد القائل بعدم صحة الوضوء في الآخر فان هذه المسألة تكون من مسألة العدول لو كان التقليد للآخر بعد التقليد للأول على سبيل التعاقب و تكون من مسألة التبعيض لو قلد المجتهدين فيهما دفعة واحدة.

(المقام الثاني) إن محل الكلام في مسألة التبعيض في التقليد

هو صورة ما إذا أمكن العمل بكلا الفتويين كأن أفتى أحد بوجوب الصلاة و الآخر بوجوب الزكاة أما فيما إذا لم يمكن ذلك كما لو أفتى أحدهما باستحباب الشهادة الثالثة في الأذان و الآخر بحرمتها فهو خارج عن محل الكلام كما أن محل الكلام إنما هو في المجتهدين المتساويين أما إذا كان أحدهما أفضل أو أحدهما حي و الآخر ميت و قلنا بعدم جواز تقليد المفضول أو الميت فلا إشكال في عدم جواز التبعيض و لزوم الرجوع الى الحي و لزوم الرجوع الى الأفضل. و أما إذا كان أحدهما أفضل في قسم من الأحكام و الآخر أفضل في قسم

آخر من الأحكام فالحق وجوب التبعيض فيقلد كل منهما فيما هو أفضل من الآخر فيه في المسائل المختلف فيها بينهم بناء على سقوط حجية المفضول مع فتوى الأفضل إلا إذا لزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 182

من التبعيض المخالفة القطعية للواقع فلا يجوز التبعيض كما سيتضح لديك إن شاء اللّه تعالى.

(المقام الثالث) [الصور الثلاثة للتبعيض في التقليد]
اشارة

إن الكلام يقع في صور ثلاثة

(إحداها) التبعيض في التقليد في أحكام مختلفة لموضوعات مختلفة
اشارة

في أعمال مختلفة كأن يقلد مجتهدا في أحكام الصلاة و يقلد الآخر في أحكام الصوم و ظاهر العامة المنع منه خصوصا في هذا العصر و ظاهر الأصحاب الجواز

[أدلة المانعين من التبعيض]

و قد استدل القائلون بالمنع:

(أولا) بأصالة عدم جواز التقليد في هذه الصورة أعني صورة التبعيض (و جوابه) إن أدلة التقليد لو كانت منحصرة بالإجماع أمكن المنع و الأخذ بالقدر المتيقن و لكن منها السيرة و بناء العقلاء و الأدلة اللفظية و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى وجه دلالتها على ذلك.

(و ثانيا) بأصالة عدم جواز العمل بما وراء العلم خرج منها صورة الرجوع لمجتهد واحد و بقي الباقي و هو صورة التبعيض تحت الأصل (و جوابه) يعلم من الجواب عن الأول.

(و ثالثا) بقاعدة الاشتغال لدوران الأمر بين تعيين الأخذ بفتاوى أحدهم فقط و بين الأخذ بفتوى بعضهم في بعض المسائل و فتوى الغير في بعضها الآخر. (و جوابه) انه لا مجال لقاعدة الاشتغال مع وجود الأدلة على صحة التقليد في هذه الصورة.

(و رابعا) ما ذكره بعض محشي العروة في التعليق على مسألة ثلاثة و ثلاثين على قوله: «و يجوز التبعيض» بأنه مع اختلاف المجتهدين في الفتوى تسقط إطلاقات أدلة الحجية عن المرجعية و ينحصر المرجع بالإجماع فمشروعية التبعيض تتوقف على عموم الإجماع على التخيير بينهما لصورة التبعيض لكن لم يتضح عموم الإجماع و لم أقف على من ادعاه بل يظهر من أدلة بعض المانعين عن العدول في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 183

غير المسألة التي قد قلد فيها المنع عن التبعيض و مثلها دعوى السيرة عليه في عصر المعصومين (ع) فالتبعيض إذن لا يخلو عن اشكال. نعم بناء على كون التقليد هو الالتزام بالعمل

بقول مجتهد معين لا مانع من التبعيض لإطلاق أدلة الحجية إذ قد أشرنا في أوائل الشرح الى أن اختلاف المجتهدين في الفتوى لا يوجب سقوط أدلة الحجية على هذا المبنى انتهى. و الظاهر أن مراده إن الإجماع القدر المتيقن منه قيامه على التخيير بين المجتهدين المتساويين في الأخذ بجميع فتاويهم لا في التخيير في بعض فتاويهم. و لا يخفى ما فيه فإنه ستجي ء إن شاء اللّه تعالى أدلة المجوزين غير الإجماع ثمَّ ان الإجماع على جواز التبعيض قد ادعاه غير واحد كصاحب الضوابط و غيره. ثمَّ ان السيرة موجودة في عصر المعصومين عليهم السلام فان عوام الشيعة لم يكونوا في عصرهم (ع) يأخذون الأحكام من أحد أصحابهم (ع) فقط بل إذا أخذوا من واحد بعض الأحكام لم يختصوا به و رجعوا لغيره في غيرها. ثمَّ إنك قد عرفت ان التبعيض لا يلزم فيه الاختلاف في الفتوى فإنه يرجع الإنسان للمجتهد في مسائل و يرجع لآخر في مسائل أخرى سواء كانوا متخالفين أم متوافقين. مع انه قد عرفت في مسألة العدول عدم توقف ثبوت التخيير على الإجماع. مع ان التبعيض قد ثبتت مشروعيته عنده فيما كان أحدهما أعلم في العبادات و الآخر أعلم في المعاملات كما صرح به في مسألة 47 من مسائل العروة.

أدلة المجوزين للتبعيض

و استدل القائلون بجواز التبعيض:

(أولا) باستصحاب التخيير و يمكن أن يقال عليه إنا نشك في ان الجائز أولا هو أخذ كل واحد واحد من الأحكام عمن يريد و يختار منهم أم الجائز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 184

أخذ جميع الأحكام من أيهم شاء وحده و على الأخير فالاستصحاب لا يقتضي التبعيض و إذا شك في أن المقام من قبيل

الأول أو الثاني فلا ينفعنا التمسك بالاستصحاب لاحتمال كونه من الأخير. (و جوابه) إنا نعلم بأن التخيير ليس موضوعه أخذ جميع المسائل من أحدهم فإنه اما من جهة العقل و هو يحكم بالتخيير في كل مورد يختلف فيه الفتاوى أو من جهة النقل فإنه ظاهر في ذلك كما هو مورد قوله: «إذن فتخير» أو من جهة الإجماع فإن الإجماع إنما قام على عدم وجوب الاحتياط و عدم الرجوع للأصل و عدم الرجوع لفتوى الغير الفاقد للشرائط و هو يقتضي أن متعلق التخيير هو كل واحد من الفتاوى لا جميع الفتاوى فاذن موضوع التخيير هو أخذ كل واحد من الأحكام عمن يريد و يختار.

(و ثانيا) بالإجماع محققا و منقولا و لم يوجد مخالفا في ذلك. (و الجواب عنه) ان المحصل غير حاصل لإهمال جملة من العلماء التعرض لهذه المسألة و المنقول منه ليس بحجة.

(و ثالثا) بناء العقلاء فان بناءهم في مقام الرجوع الى أهل الخبرة ليس على الرجوع الى واحد منهم فقط في الأمور المتعددة.

(و رابعا) إطلاق ما دل على لزوم التقليد مثل آية السؤال فإنها تدل على جواز السؤال من واحد أو متعدد، و آية النفر و غيرهما من أدلة التقليد.

(إن قلت) هذا إنما يدل على جواز التبعيض في غير المسائل المختلف فيها، أما المسائل المختلف فيها فهي لتكاذبها لا تشملها أدلة التقليد. (قلت) لا نسلم ذلك و لو سلمناه فعلى القول بأنها تشمل ما اختاره من الأقوال يكون الاختيار هو المرجح و مقتضى ذلك جواز التبعيض فإنه لما رجع المرجح الى اختياره فهو إن شاء اختار في هذه الفتوى هذا الشخص المجتهد أو ذاك الآخر. هذا كله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص:

185

ما لم يلزم من ذلك المخالفة القطعية بتبعيضه للتقليد بأن علم بأن واحدا من هذه الأحكام التي قلد فيها مخالف للواقع كأن قلد أحدهما في التقصير في الصلاة على على أربعة فراسخ و قلد آخر في الصوم على وجوب الإفطار على ثمانية فراسخ و لكن هذا خارج عن محل البحث فإنه حتى لو قلد شخصا و علم بمخالفة أحد أحكامه للواقع إجمالا يجي ء هذا الكلام و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى الكلام في أن لزوم المخالفة القطعية الإجمالية تمنع من التقليد أم لا و أما لو لزم المخالفة القطعية لرأي كل من المجتهدين كما في صورة ما إذا أفتى أحدهما بجواز الصلاة بسقوط القرص و حرمة الإفطار بسقوط القرص حتى ذهاب الحمرة المشرقية و الآخر بالعكس فأفتى بحرمة الصلاة بسقوط القرص و جواز الإفطار بسقوطه فقلد كل منهما في فتواه في الجواز فصلى و أفطر بسقوط القرص فالظاهر أيضا لا مانع من التبعيض للأدلة المذكورة الدالة عليه و دعوى ان هذا نظير خرق الإجماع المركب. مدفوعة بأن كل قول من الإجماع المركب ليس بحجة و إنما الحجة هو ما اتفق عليه القولان من نفي الثالث بخلاف ما نحن فيه فان كل من الفتويين حجة و يصح العمل بها.

(الصورة الثانية) من صور التبعيض هي التبعيض في التقليد في أحكام مختلفة لموضوعات مختلفة في عمل واحد

فتارة لا يلزم من ذلك مخالفة لمن قلده كأن قلد زيدا في عدم وجوب القنوت في الصلاة، و قلد عمرا في عدم وجوب الإقامة في الصلاة، فالصلاة التي يأتي بها بدون اقامة و بدون قنوت ليست مخالفة لأحدهما و تارة يلزم من ذلك المخالفة القطعية للواقع بأن يقطع بأن عمله مخالف للواقع قطعا كما لو فرض كثرة المجتهدين الأحياء و قلد في مثل الصلاة في كل

جزء مختلف فيه و كل شرط مختلف فيه بقول من يقول بعدم الوجوب و في كل مناف من المنافيات المختلف فيها بقول من لا يراه منافيا بحيث يقطع أن صلاته بهذه الصورة ليست من الدين كأن قلد من قال بعدم وجوب السورة و قلد آخر يقول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 186

بعدم وجوب التشهد، و قلد ثالث بعدم وجوب القنوت، و قلد رابع بعدم مانعية الفعل الكثير، و قلد خامس بعدم مانعية قول آمين الى غير ذلك. و قد عرفت في الصورة الاولى أن مثل هذا خارج عن محل البحث فإنه لو قلد مجتهدا واحدا و كان يفتي بذلك فعمله باطل أيضا لأن التقليد طريق للواقع و مع العلم بعدم تحصيل الواقع به تبطل طريقيته و تارة يلزم من ذلك المخالفة القطعية لكل من قلده مثلا كان مجتهدان أحدهما يفتي بوجوب السورة و جواز جلسة الاستراحة و الآخر يفتي بالعكس أعني بوجوب جلسة الاستراحة و جواز السورة و هو قلد كل منهما فيما أفتى بالجواز به فصلى بلا سورة و بلا جلسة استراحة فإن هذه الصلاة و إن احتمل مطابقتها للواقع لكنها فاسدة عند كل واحد ممن قلده و الظاهر الصحة لأن فساد الصلاة على فتوى كل منهما إنما يضر إن كان مقلدا فيها و أما ان قلد أحدهما في بعضها و الآخر في البعض الآخر ففتوى كل بفسادها لا يوجب فساد صلاته لأنه ليس مقلدا لهما في فسادها و صحتها فلا تضره فتواهما بفسادها. (نعم) إن حصل له العلم بفساد صلاته واقعا لعلمه القطعي بمطابقة أحدهما للواقع لم يجز له القناعة بهذه الصلاة في مقام تحصيل البراءة لعلمه القطعي بفسادها و

الامارة لا تكون حجة مع العلم القطعي. و لكن هذا خلاف ما هو المفروض في المقام مع انه قد عرفت لا ربط له بالتبعيض لأنه مع علمه بالوجوب لواحد من السورة أو الجلسة لا يجوز له تركهما حتى لو أفتى له مجتهد واحد بعدم وجوبهما.

(إن قلت) إن العمل الواحد يجب أن يكون مطابقا لفتوى مجتهده يعني يجب أن يكون له مجتهد يفتي بصحة عمله أو فساده. (قلنا) لا منشأ لهذا الوجوب. نعم في صورة ما إذا قلد في الأجزاء و الشرائط و الموانع و كان أحد المجتهدين يفتي بجزئية شي ء و مانعية آخر، و المجتهد الثاني يفتي بعكسه بأن يفتي بجزئية ما كان مانعا عند ذلك المجتهد و بمانعية ما كان جزء عنده فقلدهما في جزئية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 187

كل من الشيئين فإن العمل الذي يأتي به لم يكن مطابقا لفتوى كل منهما لأن كلا منهما يقول بجزئية الشي ء للمركب الفاقد للآخر و إن المركب الواجد لهذا الشي ء الآخر ليس ذلك الشي ء جزءا له و أيضا التقليد في الموضوع يرجع الى التقليد في الحكم فاذا قلد من يقول بجزئية هذا الشي ء للصلاة فقد قلده في وجوب هذا العمل المركب من هذا الجزء و الواجد للجزء الثاني ليس بواجب عند هذا المجتهد فلم يأتي بما قلده فيه.

و أورد على الدليل الأول ان شرطية كل شرط و جزئية كل جزء لها مدرك خاص و دليل لا ربط له بالآخر فالفتوى تابعة لذلك الدليل فهي تتعدد بتعدده و فيه ان ظاهر الفتوى هو الجزئية لمركب فاقد لذلك الشي ء فاذا أتى بالشي ء مع الجزء فلم يأتي بمؤدى الفتوى كما ان الظاهر ان ذلك يستند

لدليل و مدرك واحد كما اعترف بهذا الظهور نفس المورد و يرد على الدليل الثاني أنه لا نسلم الرجوع الى ذلك و إنما يرجع الى التقليد بوجوب الصلاة التي هذا الشي ء جزء لها فقط نظير ما إذا قامت امارة على جزئية شي ء للصلاة و نظير ذلك ما إذا أفتى أحد المجتهدين بوجوب صلاة الجمعة و وجوب السورة في كل صلاة و أفتى الثاني بعدم وجوب السورة في كل صلاة و حرمة صلاة الجمعة فقلد كل منهما في فتواه الاولى فصلى الجمعة بدون سورة و أما في صورة ما إذا اختلف المجتهدان في جواز الترك كالمثال المتقدم فيكون المقلد بترك السورة و ترك جلسة الاستراحة قد أتى بما أفتى به المفتي لأن الترك غير مقيد بشي ء.

(إن قلت) ان الإجماع قد قام على عدم صحة هذه الصلاة و لو بالإجماع المركب. (قلنا) لا نسلم وجود الإجماع المركب في هذه الموارد و لو وجد عمل به المجتهد دون المقلد الذي لا يعلم به و قد قامت الحجة على صحة صلاته.

(إن قلت) لا نسلم شمول أدلة جواز التبعيض لهذه الصورة ألا ترى أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 188

بناء العقلاء ليس على ذلك و الإجماع يؤخذ بالقدر المتيقن منه. (قلنا) يكفينا في المقام استصحاب التخيير و إطلاق الأدلة اللفظية للتقليد.

(إن قلت) إن العامي يشك في صحة هذه الصلاة فلا يحرز بها المبرئية عن الواقع فلا بد له من الرجوع لأحد المجتهدين في صحتها و فسادها.

(قلنا) لا يشك بعد رجوعه في كل جزء و شرط لمجتهد نظير المجتهد الذي تقوم الأدلة عنده على أجزاء العبادة و شروطها. (و الحاصل) إن اللازم هو مطابقة العمل بأجزائه و شرائطه

لفتاوي صحيحة و ليس بلازم مطابقته بجملته لفتوى خاصة.

(الصورة الثالثة) من صور التبعيض في التقليد

هي التبعيض في التقليد في أحكام مختلفة لموضوع واحد باعتبار جزئياته كأن عنده مائا ورد فقلد أحد المجتهدين في عدم صحة الوضوء بماء الورد في أحدهما فترك الوضوء به و قلد آخر في صحة الوضوء بماء الورد في الآخر أو قلد أحد المجتهدين في وجوب التقصير على أربعة فراسخ في صلاة الظهر من هذا اليوم و قلد آخر في وجوب التقصير على ثمانية فراسخ في صلاة الظهر من اليوم الآخر، و من المعلوم فساد هذا التبعيض لأنه إن كان تقليده للآخر بعد تقليده للأول كان من العدول و الكلام في صحته و فساده قد تقدم في مسألة العدول و إن كان في دفعة واحدة فهو يعلم بكذب إحدى الفتويين و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى انه لا يجوز له الأخذ بهما دفعة واحدة

و يتضح من الكلام في هذه الصور الكلام في فروع ذكرها القوم:
[الفرع الأول لو قلد مجتهدا في الفتوى العامة للعمل بها في مورد خاص فهل يجوز له تقليد آخر في فردها الآخر]

(أحدها) ما لو أخذ الفتوى بعنوان عام للأخذ بها في مورد خاص كلي بأن أخذ مسألة نجاسة الكافر عن مجتهد للأخذ بها في خصوص الوثني فهل يجوز له تقليد مجتهد آخر في فرد آخر كالنصراني و هذا كثير ما يتفق فيجي ء العامي إلى المجتهد فيسأله عن أمر فيجيبه المجتهد بأمر كلي يشمله أو يرجع الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 189

الرسالة في معرفة حكم ذلك الأمر فيطلع على فتوى عامة تشمله كأن أراد في صلاته آية فرجع للمجتهد أو الى رسالته فقال له المجتهد: يجب سجود السهو لكل زيادة و نقيصة فهل له أن يرجع لمجتهد آخر في زيادة بعض ألفاظ التشهد بتكراره و الفرق بين هذا الفرع و بين ما سبقه من الصورة الثالثة من مسألة ماء الورد هو أن في هذا الفرع يكون الفرد ان للفتوى

من قبيل الكليين لعموم الفتوى و فيما سبق يكون الفردان للفتوى من قبيل الشخصين لعموم الفتوى.

(و يمكن أن يقال) ان الحق في هذا الفرع أن يرجع الى المجتهد في معرفة ان هذه الفتوى العامة منتزعة من أدلة متعددة لموضوعات متعددة بأن قام الدليل على نجاسة النصراني و دليل آخر على نجاسة الوثني و دليل ثالث على نجاسة المجوسي فانتزع منها المجتهد نجاسة الكافر أو انها مأخوذة من دليل واحد عام بأن قام الدليل عند المجتهد على نجاسة الكافر بهذا العنوان العام فعلى الأول يجوز التبعيض لأنها تكون فتاوى متعددة عبر عنها بمفهوم جامع انتزع منها و على الثاني لا يجوز التبعيض لأنها تكون فتوى واحدة فعلى المقلد أن يرجع لمجتهده في توضيح الحال و مع عدم التمكن من الرجوع لمجتهده في توضيح الحال لا يجوز له التبعيض لعدم إحراز موضوعه. مضافا الى ما ادعاه غير واحد من العلماء من ظهور كلام المجتهد في كون الفتوى مأخوذة من دليل واحد لظهورها في مطابقة الدليل لا أنها منتزعة من أدلة متعددة و إن كان يمكن المناقشة فيها بأنها دعوى بلا دليل فان المجتهدين طالما يعتمدون على الفتوى بعنوان عام من أدلة متعددة.

[الفرع الثاني في جواز التبعيض مع التنافي بين الفتويين]

(الفرع الثاني) ما إذا كان الأخذ بالفتوى لهذا المجتهد في مسألة يتنافى مع الأخذ بالفتوى للمجتهد الآخر في المسألة الأخرى و هذا التنافي تارة يكون لذاتيهما و أخرى بواسطة فتوى أخرى لهما أما الأول فلا يجوز التبعيض في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 190

التقليد فيه لعدم إمكان إتيان العمل على طبقهما معا كما إذا أفتى أحد المجتهدين باستحباب صلاة الغفيلة بين المغرب و العشاء و الآخر بحرمة إيقاع الصلاة غير النوافل المرتبة

في وقت الفريضة فالأخذ بالفتوى الأولى ينافي الأخذ بالفتوى الثانية لأن الأخذ بالفتوى الأولى يقتضي جواز إيقاع الصلاة التي هي غير النافلة المرتبة في وقت الفريضة و هو العشاء و الأخذ بالثانية في صلاة الغفيلة بأن يصليها في غير ذلك الوقت ينافي الأخذ بالأولى لأن الأولى تقتضي مشروعيتها بين المغرب و العشاء لا في وقت آخر ففي هذه الصورة لا يصح التبعيض لأنه لا يمكن الأخذ بكل واحدة من الفتويين و قد عرفت في المقام الثاني خروج هذه المسألة عن محل الكلام.

(و أما الثاني) فنظير ما إذا أفتى أحدهما بفتويين إحداهما وجوب صلاة الجمعة و الثانية فتواه بوجوب السورة في كل صلاة و المجتهد الآخر أيضا أفتى بفتويين إحداهما عدم وجوب السورة في كل صلاة و الثانية حرمة صلاة الجمعة ففي هذه الصورة كان بين الفتويين الأوليين للمجتهدين المذكورين تنافي بواسطة الفتويين الثانيين لهما لأنه لو قلدهما في الأوليين بأن أتى بصلاة الجمعة بنية الوجوب بدون سورة كان مخالفا للمجتهد الأول بواسطة فتواه الثانية و هي وجوب السورة و مخالفا للثاني بواسطة فتواه الثانية و هو حرمة صلاة الجمعة و قد عرفت الحكم في هذه المسألة من الكلام في الصورة الثانية في التبعيض.

[الفرع الثالث التبعيض في التقليد بين الحكم و موضوعه بان يرجع في الحكم لمجتهد و في موضوعه يرجع لآخر]

(الفرع الثالث) هو انه لو قلد المجتهد في الحكم هل يجوز له أن يقلد المجتهد الآخر في موضوع الحكم كأن قلد زيدا في حرمة الغناء و قلد عمرا في موضوع الغناء هكذا مثل القوم و الاولى التمثيل بالموضوعات المجعولة شرعا كأن شخص قلد مجتهدا بوجوب صلاة الخسوف و قلد آخر في تشخيص صلاة الكسوف لأن الموضوعات العرفية كما تقدم منا لا يجوز التقليد فيها بخلاف

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص:

191

الموضوعات الجعلية الشرعية و كيف كان فقد استدل على المنع من ذلك بوجوه:

(أحدها) إن الحكم لما كان متقوما بموضوعه فلو رجع في موضوع الحكم لمجتهد آخر كان ذلك منافيا لتقليده للأول في حكم هذا الموضوع لأن الحكم إنما كان لهذا الشي ء عند المجتهد الأول لا لغيره و بالرجوع للمجتهد الثاني صار الحكم لغير ما عنده و المجتهد الأول لا يقول بهذا الحكم لهذا الموضوع فيكون الفرع المذكور من قبيل ما ذكرناه في صدر المقام الثاني من عدم إمكان التبعيض. و أجاب عنه بعضهم بما ربما يرجع الى أن التقليد في الحكم يرجع الى التقليد في قضية موضوعها ماهية الموضوع و محمولها الحكم و التقليد في الموضوع يرجع الى قضية موضوعها الذات الخارجية و محمولها الموضوع و بين القضيتين لا يوجد تنافى فإن الأولى الذي ينافيها هو التقليد في سلب الحكم عن ماهية الموضوع و الذي ينافي الثانية هو التقليد في سلب ماهية الموضوع عن الذات الخارجية.

(الوجه الثاني للمنع) إن المجتهد إنما أفتى بالحكم لذلك المعنى الخارجي لا لكل ما قدر انه معنى للموضوع في متن الواقع حتى يصح أن يرجع في تعيين معنى الموضوع لمجتهد غيره. و أجاب عنه المرحوم الأصفهاني بما ربما يرجع الى أن المجتهد إنما أفتى بالحكم لهذا المعنى الخارجي من جهة مطابقته لمفهوم الموضوع لا بما هو هو فلو فرض أن المعنى الخارجي لمفهوم الموضوع غير ذلك لأفتى بثبوت الحكم له و لذا لو تبين له ان الموضوع غير الأول لم يكن قد عدل عن حكمه السابق و إنما يكون قد عدل عما طابق مفهوم الموضوع و ماهيته.

(الوجه الثالث للمنع) إنا سلمنا تعلق الفتوى بالحكم بمفهوم لفظ الموضوع لكن تعيين

المفهوم ليس مما يجوز فيه التقليد لأن التقليد في مفهوم اللفظ راجع الى التقليد في الحكم و المفروض انه مقلد في الحكم فيلزم تقليد مجتهدين في حكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 192

واحد. (و الجواب عنه) بأنا نسلم أن تقليد الشخص في موضوع لا يصح إلا باعتبار انتهائه إلى حكم شرعي مرتب عليه و لكن لا نسلم انه يجب ترتيب الحكم على ذلك الموضوع بنظر المفتي بحقيقة الموضوع نظير متابعة قول اللغوي في معنى الصعيد لترتيب حكمه الشرعي الكلي المأخوذ من الامام (ع) أو من المفتي كما أفيد، و قد تقدم منا أن المقلد لا يجوز له تقليد مفتيه في موضوع الحكم فلو أفتى له بوجوب الصلاة الى القبلة و كان المجتهد يرى القبلة إلى الشرق و المقلد يراه الى الغرب صلى للغرب فلو كان التقليد في الموضوع ينافي التقليد في الحكم لكان الاجتهاد في الموضوع أيضا ينافي التقليد في الحكم مع أن الخصم لا يقول بذلك.

[الفرع الرابع ما إذا اختلف اعتقاد المقلد مع فتوى المفتي من حيث العموم و الخصوص]

(الفرع الرابع) إذا اختلف اعتقاد المقلد مع فتوى المفتي من حيث العموم و الخصوص فله صورتان:

(إحداهما) ما إذا اعتقد المقلد خصوص موضوع الفتوى مع عمومه في الواقع كما إذا اعتقد أن فتوى المجتهد هي نجاسة خصوص الملحد فقلده في ذلك و عمل به ثمَّ تبين له بأن فتواه نجاسة مطلق الكافر فهل يجوز له التبعيض بأن يرجع لغيره في النصراني أم لا ربما يقال بجواز التبعيض، لأنه لم يقلد المجتهد في فتواه أصلا لأن ما قلده فيه و هو خصوص الملحد ليس بفتوى للمجتهد و إنما فتوى المجتهد كانت متعلقة بالكافر بما هو كافر فأخذه لم يكن لفتوى المجتهد واقعا و ما أخذه ليس بفتوى

للمجتهد مضافا الى عدم مشروعية التقليد في خصوص مورد لفتوى بموضوع عام و لذا في صورة ما إذا اعتقد عموم الفتوى لا يجوز له أن يقلد في خصوص بعض مواردها دون بعض كما تقدم في الفرع الأول و عليه فيجوز له التبعيض فيرجع لغيره في باقي الأفراد بل يجوز له العدول عن خصوص ما اعتقده و هو نجاسة الملحد لأنه لم يقلده فيه. سلمنا انه قلده في فتواه لكنه إنما قلده في فتواه في بعض مصاديقها و لم يقلده في البعض الآخر فيجوز له الرجوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 193

لغيره في مصاديقها الأخرى. و لا يخفى ما فيه فان فتواه بنحو العموم تكون فتوى بالخصوص ففتواه بنجاسة الكافر تكون فتوى بنجاسة الملحد لتضمنها إياها. (نعم) لو كان المقلد أخذ بالفتوى بعنوان انها متعلقة بخصوص الملحد بحيث لو كانت متعلقة بما هو أعم منها لم يأخذ بها ففي هذه الصورة لم يكن قد عمل بفتوى المجتهد و لم يكن قد التزم بها فلم يقلده في فتواه. و أما دعوى عدم المشروعية لمثل هذا التقليد ففاسدة لأنه لو قلد بنحو الخصوص بحيث لو كانت متعلقة بالعموم لقلده فيها فهو يكون قد قلد المجتهد في فتواه لأن هذا الخصوص كانت متضمنة له. (نعم) لو قلده بنحو الخصوص بحيث لو كانت بنحو العموم لما قلده فيها كان هذا التقليد فاسدا لعدم فتوى المجتهد بذلك و لهذا قلنا لو كانت الفتوى عامة و أخذ بها في مورد خاص بما هو خاص و لم يأخذ بها في مورد آخر لها كان هذا التقليد غير مشروع لكونها عامة و المجتهد لم يفت بالخصوص فان ما أفتى به لم

يأخذه و ما أخذه لم يفتي به. و أما دعوى أن التقليد كان لبعض مصاديقها فيجوز أن يقلد في البعض الآخر لمجتهد آخر ففاسدة أيضا لأنه لما كان قد عمل بالفتوى في بعض مصاديقها و أخذ بها في بعض مصاديقها لا من جهة الخصوص بل من جهة اعتقاد انها خاصة كان أخذه كذلك أخذا للفتوى بعمومها و عملا بها فلا يجوز العدول عنها لغيرها و لو في الأفراد الأخرى. و بعبارة أخرى ان أخذ العامي ببعض الأفراد لما كان لا بعنوان انه بخصوصه بل بعنوان أنه ما أفتى به مقلده و إن أخطأ في التعيين من حيث العموم و الخصوص فيكون قد قلده في فتواه العامة و كان أخذه أخذا بالفتوى العامة ففي الحقيقة لو قلد في الأفراد الأخرى يكون عدولا منه لا تبعيضا في الفتوى.

(الصورة الثانية) ما إذا اعتقد المقلد العكس بأن اعتقد أن فتوى مجتهده عامة مع أنها خاصة في الواقع كما إذا اعتقد أن مجتهده قد أفتى له بنجاسة مطلق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 194

الكافر و قد عمل بها ثمَّ تبين له أن فتواه نجاسة خصوص الملحد فهل يجوز له التبعيض بأن يرجع للغير في النصراني أم لا الظاهر جواز التبعيض بل جواز العدول لأنه لم يقلد المجتهد في فتواه لكون فتواه بالخاص بما هو خاص لا بما هو عام و العامي إنما أخذ بالعام بما هو عام و هو لم يكن متعلقا لفتوى المجتهد كما عرفت في الصورة الاولى من أن الالتزام بالخاص بخصوصه ليس التزاما بالعام بعمومه فان الفتوى بنجاسة الملحد بما هو ملحد و بقيد انه ملحد غير الفتوى بنجاسة الكافر بما هو كافر فإنه

على الأول لا يعمل بها في النصراني و نحوه بخلافه على الثاني.

و ذهب الشيخ (ره) إلى أنه تقليد في الخاص لأن الأخذ بالفتوى العامة أخذ بالفتوى الخاصة لاشتمالها عليها. و لا يخفى ما فيه لأن الأخذ بالفتوى العامة انما يتحقق بتحقق الموضوع للأخذ و هو الفتوى بالعام و هي لم تصدر من المجتهد فيكون ما افتى به مقلده و هو الخصوص لم يأخذ به و ما أخذه لم يفتي به و لذا لا تصح نسبة الفتوى بالعموم لمن يفتي بالخصوص بخلاف العكس فإنه يصح نسبة الفتوى بالخصوص لمن يفتي بالعموم.

(إن قلت) قد أخذه بعنوان انه مفتي به فيكون هذا العنوان مقيدا له بخصوص مورد الفتوى. (قلنا) هذا العنوان لم يأخذه العامي بعنوان التقييد للفتوى بل إنما أخذه من جهة تخيل انه قد أفتى بالعموم فتكون إرادته الجدية و أخذه إنما تعلق بالعموم لا بالخصوص و مجتهده لم يفتي به.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 195

الجهة الثالثة فيما يعتبر في المفتي الذي يرجع له العامي
اشارة

اعلم إن شروط المفتي الذي يصح الرجوع اليه تبلغ السبعة عشر شرطا أو أزيد و الأصل في هذه الشروط و محل التعرض لها في كلام الفقهاء المتقدمين (ره) عند ذكر شرائط القضاء من جهة بنائهم على ان ما كان شرطا في الحاكم هو شرط في المفتي مع ما في هذه الملازمة من الاشكال لعدم دليل عليها و ان حكي عن الشهيد عن ظاهر الروضة توافقهما في الشرائط لكن الظاهر انه لم يوافقه على ذلك أحد و ربما وجهت عبارته أو حملت على سهو القلم. (نعم) لا يبعد العكس نظرا الى استلزام القضاء للفتوى دون العكس و قد حكي ذلك عن العلامة في كتابيه الإرشاد و القواعد و المحقق

في الشرائع و الشهيد في الروضة في باب الأمر بالمعروف و هو المحكي عن صاحب الدروس و في الضوابط دعوى الإجماع على ذلك إلا أن التحقيق منع ذلك بناء على جواز القضاء بفتوى الغير. (و الحاصل) ان ما ذكروه الفقهاء سندا للشروط الموجودة في باب القضاء لو تمَّ لم يدل على شرطيتها في باب الفتوى مع ان هناك لم يقيموا دليلا وافيا إلا على بعضها و على البعض الآخر بالإجماع و بعض منها بقي خاليا عن الدليل. نعم بناء على كون الدليل على أصل التقليد الإجماع و انه ليس له إطلاق في معقده كان احتمال الخلاف في الاشتراط فضلا عن وجوده قادحا في حجية فتوى من لم يكن متصفا بذلك الشرط فلا بد من أخذ القدر المتيقن في مقام الامتثال. و لكن من رجع الى أدلة التقليد وجد فيها مطلقا يمكن التمسك به على حجية تلك الفتوى إذا لم يوجد دليل على الاشتراط. نعم بناء على حجية الفتوى من باب الظن المطلق و إن الدليل عليها هو دليل الانسداد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 196

فلا عبرة بالشروط بل المدار على حصول الظن (إلا اللهم) أن يقال انه لا يحصل الظن من فاقدها و المقصود من ذكرها بيان موارد حصول الظن بها أو يقال أن الفاقد لها مما قام الدليل على عدم اعتباره نظير القياس و الاستحسان و كيف كان فنحن نذكر ما ذكروه شروطا للمفتي بمعنى انها شروط لعمل المستفتي بالفتوى فهي شروط لصحة الاستفتاء و جواز العمل بالفتوى و ليست شروطا لتحقق إفتائه و لا لصحة إفتائه بالذات فإنه قد يجوز الإفتاء بغير هذه الشروط فان المجتهد و لو كان فاسقا

يجوز له أن يفتي و يكتب كتب استدلال فتسمية هذه الشروط بشروط المفتي فيه نوع تسامح إذا ظهر لك ذلك فاعلم إن مقتضى الأصل هو اعتبار تلك الشروط في المفتي بل اعتبار كلما احتمل اعتباره للعلم ببراءة الذمة معه فالأمر دائر بين التعيين و التخيير و بين مقطوع الحجية و بين مشكوكها و الوظيفة هو الأخذ بمقطوعها هذا هو مقتضى الوظيفة للعاجز عن معرفة الواقع كالعامي و كالمجتهد الذي لم يعرف الواقع. نعم في بعض الصور التي ستجي ء إن شاء اللّه تعالى يتردد الأمر بين الطرفين و حينئذ فالمرجع هو التخيير للإجماع على عدم وجوب الاحتياط.

هذا كله هو مقتضى الأصل و أما مقتضى الأدلة فنقول إن:

(الشرط الأول) للعمل بفتوى المفتي

(الشرط الأول للعمل بفتوى المفتي هو الاجتهاد) فإنه يعتبر في مرجع التقليد أن يكون مجتهدا و اعتباره من ضروريات المذهب فإنه إذا لم يكن مجتهدا لم يكن عالما بالحكم الشرعي حتى يرجع اليه فيه. و يكفي دليلا على ذلك ما روي عن الشيخ رحمه اللّه في الصحيح عن الباقر (ع) من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 197

لعنته الملائكة و لحقه وزر من عمل بفتياه و غير ذلك من الأدلة الدالة على حرمة الفتوى بغير علم.

(إن قلت) انه بالتقليد قد علم. (قلنا) ظاهرها العلم عن غير طريق التقليد و قد تقدم ج 1 ص 537 و ص 576 ما ينفعك في المقام. نعم محل الكلام هنا في مقامات:

(أحدها) انه اعتبر بعضهم أن يكون المجتهد مطلقا و لم يجوز تقليد المتجزي و قد تقدم ج 1 ص 204 تجويز تقليده في المسائل التي اجتهد فيها.

(ثانيها) أن يكون مستنبطا لقدر

معتد به من الأحكام بحيث يعد فقيها و عارفا بحلال أهل البيت (ع) و هذا هو القول المنسوب لجدنا كاشف الغطاء (ره) و قد تقدم الكلام فيه ج 1 ص 184.

(ثالثها) اعتبار أن يكون المجتهد فتواه غير مستندة للعمل بمطلق الظن من باب الانسداد أو للأصول العملية عند الانفتاح فان الآخند (ره) و تبعه بعضهم على المنع من تقليده و قد تقدم الكلام في ذلك ج 1 ص 175.

و بهذا ظهر أنه لا يجوز للعامي أن يفتي بالحكم الشرعي من نفسه و إن أخذه من مقلده. نعم له أن يحكيه عنه و هكذا لا يجوز للمجتهد أن يفتي بفتوى مجتهد آخر لأنه فتوى بما لم يعلم نعم له حكاية ذلك عنه (ثمَّ) انه لو صار المجتهد عاميا لم تبطل حكوماته و جعلياته و صح البقاء على تقليده السابق فقط للاستصحاب لأن فتاواه السابقة كانت جامعة لشرائط الحجية نعم لا يعمل بآرائه المتجددة منه حين ما صار عاميا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 198

(الشرط الثاني) العقل

(الشرط الثاني، العقل) لأنه لو جنّ المجتهد لم يسمع منه للإجماع.

و لفقده الاجتهاد. و لبناء العقلاء على ذلك. و لاعتبار العدالة و الايمان. و لعدم نفوذ أمره على نفسه فبالطريق الاولى على غيره.

و قد ذهب صاحب الضوابط و غيره الى أن المجنون الأدواري يسمع منه حال إفاقته لشمول أدلة التقليد له و حكي ذلك عن صاحب المفاتيح و الإشارات.

و قد ذكر بعضهم انه لو كان المجنون مجتهدا عارفا بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية و كان جنونه في غير هذا فان الجنون فنون لم يقبل منه مستدلا على ذلك بالإجماع على عدم جواز تقليد المجنون و بأصالة الاشتغال. و لا يخفى

ما فيه فان أدلة التقليد تشمله إذا كان عقله صحيحا من هذه الجهة و كان يصح تكليفه و الإجماع القدر المتيقن منه هو من كان يسلب عقله من جميع النواحي و الجهات و الأصل لا مجال له بعد شمول الأدلة. (و في تقريرات بعض الاساتذة المعاصرين) ان المجنون لا يليق بمنصب الفتوى الذي هو فرع من فروع منصب الإمامة و كذا من التحق بالصبيان و النسوان فان الشارع لا يرضى بزعامة المجنون و كونه مرجعا للمسلمين و لو من جهة فتواه السابقة. (و لا يخفى ما فيه) فان التقليد ليس منصبا من المناصب و إنما هو طريق لمعرفة الواقع نظير الرواية. نعم الزعامة الدينية لا تصلح لذلك لأن فيها الولاية على رقاب المسلمين و الإدارة لشؤونهم و هي التي تكون منصبا من فروع الإمامة. و لا يصغي لدعوى الإجماع إذ لعل المجمعين ناظرون للمسائل المتجددة لا السابقة على أن إجماعهم ينافيه الإجماع على حرمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 199

العدول لأن إجماعهم على حرمة تقليد المجنون يشمل الابتدائي و الاستمراري و إجماعهم على حرمة العدول يشمل حالة طرو الجنون و غيرها، و بهذا ظهر لك أن المجتهد لو جنّ جاز البقاء على تقليده فيما قلده فيه و لا يصغى لمحكي الإجماع على المنع و هكذا لو نصب قيما أو وليا و هكذا لا تبطل احكامه السابقة من الخصومات للاستصحاب. و دعوى الإجماع في هذه المسألة المستحدثة غير مقبولة كيف و لعله من جهة عدم جريان الاستصحاب عندهم أو من جهة كون العاقل هو القدر المتيقن عندهم.

(الشرط الثالث) البلوغ

(الشرط الثالث. البلوغ) فلا يعمل بقول الصبي الجامع لبقية الشرائط و إن كان مميزا قد حان

بلوغه بل و إن كان أعلم من البالغ بمراتب شتى بل لو كان حيا و المساوي له أو الأدنى منه ميتا فإنه لا يقلد في جميع هذه الحالات لانصراف أدلة التقليد عنه. و لأنه لا تقبل روايته فلا تقبل فتواه بطريق أولى لأن الرواية عن حس و الفتوى عن حدس فاذا لم يقبل منه القول في الحس فبالطريق الاولى أن لا يقبل منه في الأمور الحدسية. و لأنه لا تقبل شهادته فلا تقبل فتواه بطريق اولى لعين ما ذكرناه في الرواية.

(إن قلت) إنه لو كانت الأولوية المذكورة صحيحة لاقتضت عدم قبول فتوى الواحد لأن الشهادة لا يقبل فيها الواحد مع انها في الأمور الحسية فبمقتضى الأولوية أن لا تقبل فتوى الواحد لأنها في الأمور الحدسية. (قلنا) ذهب غير واحد الى عدم القبول و لذا يعبرون عنها بالفتوى الشاذة. على أن عدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 200

القبول من الصبي من جهة احتمال تعمده الكذب فتجي ء الأولوية بالنسبة إليه بخلاف عدم القبول في شهادة الواحد فإنها ليست من جهة تعمده الكذب لفرض عدالته و لعله من جهة ان الانفراد في الخبر عن الأمر الحسي يوجب الريب، و لذا روي في الهلال عند صفاء السماء إذا رأته عين فقد رأته عيون مضافا الى أن الأولوية يرفع اليد عنها عند قيام الدليل القطعي على خلافها كما في المقام. و لأن المستفاد من حديث رفع القلم عن الصبي مع ما دل على عدم نفوذ أمره و كونه مولّى عليه مع ما دل على أن عمده خطأ هو عدم الاعتداد برأيه و فتواه. بل ان عدم نفوذ أمره في نفسه يستفاد منه بطريق الأولوية عدم نفوذ أمره

على غيره.

و لاعتبار العدالة و الايمان في المفتي و هما لا يكونان في الصبي لعدم ثبوت الواجبات و المحرمات في حقه. و لأنه لا تقبل الفتوى من المجتهد الفاسق فبالأولى أن لا تقبل من الصبي لأن الفاسق قد يكون له خشية من اللّه تعالى فلا يكذب في فتواه و لا يقصر في اجتهاده بخلاف الصبي العالم فإنه يعلم برفع القلم عنه فلا تكون له هذه الخشية من اللّه تعالى، و دعوى بأنا نفرض الكلام فيما نعلم ان الصبي عنده تلك الخشية من اللّه تعالى فاسدة لأنه مع عدم شعوره بالمسؤولية من اللّه تعالى لا تكون تلك الخشية رادعة له عن الكذب إذا اقتضاه شهوته إلا إذا وجدت عنده العصمة و هي لا توجد إلا عند النبي أو وصيه و قد ذهب المرحوم الشيخ محمد حسين (ره) الى جواز تقليد الصبي حيث قال (ره) إن عمدة أدلة حجية الفتوى قضية الفطرة و سيرة العقلاء و الكل على رجوع الجاهل الى العالم بالغا كان أو لا و قوله (ع): «انظروا الى رجل منكم» في باب القضاء وارد مورد الغالب لا أنه كونه رجلا في قبال كونه غلاما له خصوصية و من الواضح ان أمر الفتوى من حيث المنصب ليس بأعظم من النبوة و الإمامة فليس شمول الأدلة مع وجود سائر الشرائط أمرا مستبشعا و تبعه على ذلك بعض المعلقين على العروة و يمكن أن يستدل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 201

لهم بأن في النبوة و الإمامة اللتين هما أعظم من الفتيا لا يشترط فيهما ذلك فإن يحيى (ع) صار نبيا و هو صبي و الحجة (ع) صار اماما و هو صبي فيجوز في المفتي

أن يكون كذلك. (و جوابه) انه لا وجه للأولوية لأن النبي و الامام مأمونون من الخطأ بخلاف الصبي فإن استعداده و طاقته و نقصان عقله لا تؤهله لذلك و إن شئت فقل إن العصمة هي الفارقة و لا يهمنا تحقيق الحال في ذلك و صحة هذه الوجوه أو سقمها لعدم وجود صبي جامع للشرائط و له اجتهاد يتفوق به على جميع المجتهدين. نعم لو فرض انحصار الفتوى من المجتهدين الأحياء و الأموات به صح الرجوع له بحكم العقل من باب انسداد باب العلم و العلمي و لكن الفرض بعيد جدا.

هذا و انه ليكفي البلوغ حال الفتوى و إن اجتهد حال كونه صبيا لوجود المقتضي و هو كونه حال الفتوى جامعا للشرائط و انتفاء المانع و هو الصغر و عدالته تمنعه أن يفتي بما لم يؤدي اجتهاده اليه.

(الشرط الرابع) عدم السفه

(الشرط الرابع. عدم السفه) فلو صار سفيها لم يصح تقليده و يمكن أن يستدل على ذلك بأن السفه هو عدم المبالاة و الشخص إذا كان لا يبالي في أموره فهو لا يبالي بالفتوى و بالرأي. و العقلاء لا يعتمدون على مثله و الفطرة لا تقتضي الرجوع اليه فلا تشمله أدلة التقليد لأن العمدة فيها هو بناء العقلاء و الفطرة و الأدلة النقلية منصرفة عنه بل يمكن أن نقول انها إرشاد الى ما بنى عليه العقلاء و اقتضته الفطرة في هذا المقام و دليل الانسداد لو تمَّ فهو يقتضي الرجوع لغير السفيه لعدم حصول الظن من فتوى السفيه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 202

(الشرط الخامس) أن يكون إماميا
اشارة

(الشرط الخامس. أن يكون إماميا اثنى عشريا أصوليا) فلا يصح تقليد الكافر و لا المسلم المخالف و لا الشيعي الغير الاثني عشري و لا الشيعي الاثني عشري الغير الأصولي و هذا الشرط هو الذي عبر عنه القوم بالإسلام و الايمان و الدليل عليه الإجماع كما هو المحكي عن صريح مجمع الفائدة و لأن غير الإمامي لا يجوز الاقتداء به في الصلاة و لا تقبل شهادته فعدم جواز التقليد أولى لا سيما إذا قلنا بوجوب تقليد الأعلم لأنه مفضول بالنسبة لمن عداه و إلا لما اعتقد خلاف الحق و أخذ به في الواضح من الأحكام الشرعية و المعارف الإلهية و قد استدل بعضهم على ذلك بأن غير الإمامي ليس محلا للأمانة فليس يحصل الوثوق بفتواه و لأن فتواه بحسب مذهبه انه حكم بغير ما أنزل اللّه فهو غير عالم بها و لأنه فاسق ظالم و الفاسق لا يقبل قوله لوجوب التثبت فيه. و الظالم لا يركن اليه لقوله تعالى وَ لٰا

تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا و العمل بفتواه ركون اليه. و لقوله تعالى وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا و الإفتاء نوع من السبيل عليه خصوصا إذا أعملها في الرئاسة. و لهتك حرمة المذهب بالرجوع لغير أهله في مسائله. و لما روي عن الحجة (ع) في الاحتجاج و أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه و ذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم فان من ركب القبائح و الفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم شيئا و لا كرامة. و لأن اعتبار العدالة يقتضي عدم جواز تقليده. و بأن أبي الحسن (ع) قال فيما كتبه لعلي بن سويد: لا تأخذن معالم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 203

دينك عن غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين الذين خانوا اللّه و رسوله (ص) و خانوا أماناتهم إنهم إئتمنوا على كتاب اللّه تعالى فحرفوه و بدّلوه.

و بأن أبا الحسن الثالث (ع) قال فيما كتبه لأحمد بن حاتم بن ماهويه و لأخيه فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء اللّه تعالى.

(إن قلت) إن العصابة قد أجمعت على تصحيح ما يصح من أبان مع انه كان ناووسيا. (قلنا) لو سلمنا ذلك فهو لا يدل على صحة فتواه و إنما يدل على صحة رواياته و مع هذا فالبحث عن هذا الشرط قليل الجدوى لأن الكافر و المخالف إن كانا يفتيان حسب مذهبهما فلا يجوز تقليدهما قطعا و ليس ذلك محل الكلام و إن أوهمه عبارة بعضهم و إن كانا يفتيان بحسب مذهبنا باحاطتهما بالأدلة

المعتبرة بحسب أصول مذهبنا و تمكنا من الاستنباط منها مع الوثوق بهما بهذا نادر الوجود و لعله الى الآن لم يحصل مثل هذا الفرد و إن حصل فلا يجوز تقليده لما تقدم من الأدلة و قد يظهر من المرحوم الأصفهاني جواز تقليد غير المؤمن إذا قطع بأن كيفية اجتهاده و استنباطه على طريقة أهل الحق و قطع بأنه لا يخبر إلا عما هو رأيه و معتقده لأنه قد أمن خيانته. و لا يخفى ان الأدلة المتقدمة تمنع من تقليده، ثمَّ أنه يظهر من صاحب الفصول جواز تقليد فتوى المخالف و الكافر في المباحث اللغوية التي لا سبيل لنا الى معرفتها سوى التقليد مع حصول الظن بصحتها كما يجوز التعويل على نقلهما في ذلك كله. و لكن هذا خارج عن محل البحث لأن محله هو الأحكام الشرعية و إن أراد به ان المفتي يجوز له أن يقلد في المباحث اللغوية التي تقع في طريق فتواه المراد عمل الغير بها فهو غير صحيح و إلا لزم أن يكون في فتواه مقلدا للغير لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات و إنما يلزم أن يحصل له العلم بذلك بالاستقراء و التتبع أو إجماع اللغويين أو نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 204

إذا صار المفتي غير امامى

إذا صار المجتهد المفتي الاثني عشري كافرا أو مخالفا فمقتضى ما تقدم لا يجوز تقليده في المسائل المستحدثة و لكن هل يبقى على تقليده فيما قلده فيه سابقا أم لا يجوز مقتضى الاستصحاب الجواز و ليس هذا من قبيل تبدل رأي المجتهد فإن رأيه لم يبدل بالنسبة لهذه الفتوى و ذهب المشهور بل ادعى عليه الإجماع الى عدم جواز البقاء على التقليد و استدلوا على

ذلك بإطلاق ما دلّ على اعتبار الإسلام و الايمان. و فيه ان الظاهر منها هو اشتراطها زمن الفتوى.

و استدلوا أيضا بالإجماع من المشترطين فإنه ليس في كلام المشترطين لذلك ما يظهر منه اختصاص الاشتراط بابتداء التقليد بل ظاهر الشرطية كونه مطلقا. و فيه ان دعوى الإجماع على ذلك تنافيها دعوى الإجماع على عدم جواز العدول. و استدلوا أيضا بما عن كتاب الغنية بسنده الصحيح الى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ أبي القاسم بن روح الذي هو أحد النواب الأربعة حين سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني بعد ارتداده؟ فقال الشيخ: أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني الفضال حيث قالوا: ما نصنع بكتبهم و بيوتنا منها ملأ. فقال:

خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا فإن النهي عن الأخذ بآراء بني الفضال مع ترك الاستفصال بين الأخذ الابتدائي و الاستمراري يدل بعمومه على اعتبار الايمان مطلقا. و المناقشة في سندها بعبد اللّه الكوفي بأنه مجهول الحال. مدفوعة بأنه يكفي في مدحه كونه خادم الشيخ فيكون حسنا. و المناقشة في دلالتها بأن المراد بما رأوا الاعتقادات الفاسدة يدفعها الإطلاق فيشمل الفتوى مع انه خلاف الظاهر إذ لا يتوهم وجوب الأخذ بالعقائد الفاسدة. (و الجواب عن ذلك) ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 205

ظاهر الرواية هو النهي عن الأخذ ابتداء حيث يسأله عن الصنع بكتبهم و صحة الرجوع إليها عند الحاجة. مضافا الى أن القرينة الحالية و هو كونهم ممن اعتنقوا الآراء الفاسدة في العهد القريب توجب انعقاد الظهور في الآراء الفاسدة نظير ما إذا قيل اترك آراء اليهود. و ليس من المعلوم إن كتبهم كانت تشتمل عليها و لكن الشيعة احتملوا ان ذلك

موجب لطرح العمل برواياتهم فيها فيسألوا عن ذلك فأجاب الإمام (ع) بالعمل بها و لما كان قد يتخيل بسطاء الشيعة من ذلك صحة الأخذ بآرائهم الفاسدة أمر بالتجنب عن آرائهم و تركها و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى في مبحث اشتراط الحياة توضيح المقام و تنقيحه.

(الشرط السادس) الرجولية

(الشرط السادس. الرجولية) و قد حكى الإجماع على اعتبارها عن الشهيد (ره) و الرياض و الغنية و مجمع الفائدة و غيرها و لكن الظاهر ان نساء الأئمة عليهم السلام كان يأخذ منهن الأحكام الشرعية فلو كانت الذكورية شرطا لما صح ذلك إلا اللهم أن يدعي إنما يأخذون من ذوات العصمة أو يؤخذ منهن الرواية لا الفتوى. و قد ناقش المرحوم الشيخ محمد حسين في اعتبارها بأن حال الفتوى كحال الرواية و لذا يستدل بأدلة حجية الرواية على حجية الفتوى.

و لا ريب ان الرواية لا يعتبر في حجيتها أن يكون الراوي لها ذكرا انتهى.

(إن قلت) قد روي في المحكي عن الكشف و المفتاح و غيرهما عن جابر عن الباقر (ع) انه قال و لا تولى المرأة القضاء و لا تولى الامارة. و في خبر آخر محكي عن الخلاف عن النبي (ص) لا يصلح قوم ولتهم امرأة. و في نسخة الضوابط دللتهم امرأة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 206

فتكون الرواية صريحة في المطلوب. و في المحكي عن الفقيه بإسناده عن حماد بن عمر و أنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه في وصية النبي (ص) لعلي انه قال يا علي ليس على المرأة جمعة الى أن قال و لا تولى القضاء. (قلنا) هذا مخصوص بالقضاء و الامارة و لا يقتضي المنع عن العمل بفتواها. نعم

قد يستفاد عدم العمل بفتواها من مرسلة التهذيب الموجودة في المستند يا معاشر الناس لا تطيعوا النساء على حال و لا تأمنوهن على مال. و من روايات أبناء نباتة و أبي المقدام و كثير، لا تملك المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، و من رواية الحسين حيث فيها و كونوا من خيارهن على حذر و إن أمرنكم فخالفوهن كيلا يطمعن منكم في المنكر.

و في خبر آخر أخروهن من حيث أخرهن اللّه تعالى. فمن قلدها فقد أخر الرجل عنها. و لما في الأخبار من نقصان عقلها و دينها و قيام اثنين منهن مقام رجل في الشهادة. و لما في المحكي عن خبر الطبرسي عن رسول اللّه (ص) إن شر الناس الذين يكون كلامهم عن رأي النساء.

(الشرط السابع) طهارة المولد

(الشرط السابع. طهارة المولد) و قد حكي الإجماع على اعتبارها و قد ناقش فيها المرحوم الشيخ محمد حسين بأنه لا نص على اعتبارها في المفتي و لا في القاضي و إنما ورد في إمامة الجماعة و الشهادة في الأمور الجليلة لزومها، فإن أمكن الاستدلال بالفحوى فهو و إلا فملاك قبول رأي الغير كونه عالما و ملاك قبول الخبر كونه ثقة. و لا يخفى ما فيه فان ما ورد في ابن الزنا من الأخبار الدالة على ضعته يستفيد منها المتبصر عدم قبول فتواه مضافا الى أن أولوية عدم قبول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 207

فتواه تستفاد من عدم صلاحيته لإمامة الجماعة و عدم قبول شهادته في الأمور الجليلة.

(الشرط الثامن) كونه ضابطا

(الشرط الثامن. أن يكون ضابطا) فلا عبرة بفتوى من يكثر عليه السهو و النسيان بحيث يكون سهوه و نسيانه أغلب من ذكره إلا مع الأمن منه فيما يرجع اليه و يمكن أن يستدل على ذلك ببناء العقلاء على عدم الرجوع لمن يغلب سهوه على ذكره مع انهم قد أجمعوا على اعتبار هذا الشرط في الراوي. و الفتوى إن لم تكن نوعا من الرواية فيستفاد بطريق الأولوية اعتباره فيها. و لقوله (ع) في موثقة عمر بن حنظلة المعروفة (و أصدقهما في الحديث). و لا يخفى انها واردة في القضاء.

(الشرط التاسع) أن يكون اجتهاده مطلقا

(الشرط التاسع. أن يكون اجتهاده مطلقا) فلا عبرة بالمتجزي و المقلد و القاطع بالحكم و قد تقدم ج 1 ص 204 البرهان على جواز تقليد المجتهد المتجزي في المسائل التي اجتهد فيها و تعرضنا للكلام فيه أيضا في الشرط الأول من شروط المفتي. و أما القاطع بالحكم فان كان عن تقليد فهو غير مجتهد أصلا فلا يجوز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 208

تقليده و إن كان عن اجتهاده فهو متجزي. و أما المقلد فقد عرفت في الشرط الأول عدم جواز تقليده.

(الشرط العاشر) أن يكون كاتبا

(الشرط العاشر. أن يكون كاتبا) و قد ادعى عليه الإجماع و عللوا ذلك أيضا بأنه لا يتيسر له ضبط الفتوى بدون الكتابة. و لا يخفى ما فيه فان الظاهر إن من ادعى الإجماع إنما خصه بخصوص القضاء و هو غير الفتوى و التعليل المذكور مجرد استحسان و خلاف الفرض لأن الفرض انه عادل فلا يفتي إلا بما علم به من الأدلة الشرعية فلا تصدر منه الفتوى بدون ضبطها و قد استدل على عدم اعتبار الكتابة بأن النبي (ص) كان أميا فلم يكن كاتبا فبالطريق الاولى أن لا يعتبر ذلك في المفتي. (و جوابه):

(أولا) إن الأخبار قد قامت على ان النبي (ص) يكتب و يقرأ و إن تسميته بالأمي باعتبار نسبته إلى أم القرى و ما يستظهر منه من الآيات و الروايات بأنه لم يكن كاتبا إنما هو باعتبار ما قبل البعثة.

(و ثانيا) سلمنا انه ليس بكاتب لكن لا وجه لدعوى الأولوية فإن النبي (ص) ضابط لا ينسى بخلاف المفتي. نعم لا يبعد توقف العلم بالأحكام في هذه الأزمنة على معرفة قراءة الكتابة لأن الأدلة على الأحكام قد اشتملت عليها الكتب المدونة.

النور

الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 209

(الشرط الحادي عشر) أن يكون مبصرا

(الشرط الحادي عشر. أن يكون مبصرا) فلا يصح العمل بالفتوى من الأعمى و استدل على ذلك بما استدل به على اعتبار الكتابة إذ مع العمى لا يتمكن من الكتابة لكن قد عرفت عدم اعتبار الكتابة و بعضهم استدل على عدم اعتبارها بأن شعيب النبي (ص) كان أعمى و هكذا يعقوب و إسحاق و يستصحب جواز ذلك الى هذا الزمان بناء على جواز استصحاب الشرائع السابقة. و لا يخفى ما فيه فإنه إنما يقتضي جواز النبوة للأعمى و هو لا يستدعي جواز التقليد للأعمى إذ النبوة إنما تكون مع العصمة، و قد يستدل على اعتبار البصر بأن الأعلمية لا تحصل بدون البصر لأنها تحتاج إلى شدة التأمل في أطراف المسألة و أدلتها و جمعها بين يديه و هذا إنما يحصل على الوجه الأتم بالمطالعة المتوقفة على البصر.

و لا يخفى ما فيه فان قوة الإدراك قد تحصل بدون ذلك و قد يستدل أيضا بدوران الأمر في المقام بين التعيين و التخيير. و فيه انه سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في مبحث اعتبار الأعلمية عدم الاعتماد على هذا الأصل.

(الشرط الثاني عشر). أن يكون متكلما

(الشرط الثاني عشر. أن يكون متكلما) فلا يصح تقليد الأخرس و لعله لعدم فهم الفتوى منه فلا يحصل الاطمئنان برأيه. و فيه إمكان ذلك بالكتابة أو الإشارة منه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 210

(الشرط الثالث عشر) أن يسمع

(الشرط الثالث عشر. السمع) فلا يصح تقليد الأصم لأنه لا يستطيع أن يفهم السؤال حتى يجيب عنه فيضيع الحق. و فيه انه يمكن السماع بالآلة و يمكن السؤال بالكتابة و لو فرض عدم إمكان السؤال فهو لا يضر بإمكان أن يبين الفتوى باللسان و البنان فيرجع له فيها.

(الشرط الرابع عشر) الحرية

(الشرط الرابع عشر. الحرية) فلا يجوز تقليد المملوك بجميع أقسامه و قد استدل على اعتبارها بأنه لا ولاية له على نفسه فكيف يكون له الولاية على المسلمين. و لنقل الإجماع. و لأنه منصب خطير فلا يعطي لمثل العبد.

و لعدم نصبهم (ع) أحدا من عبيدهم للفتوى كما نصبوا يونس و غيره. و لقوله تعالى ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ. و الفتوى شي ء من الأشياء فمقتضى الآية عدم القدرة عليها. و لعدم قبول شهادته مطلقا كما عن بعضهم. و لا يخفى ما في ذلك.

أما في الأول فلأن نفي الولاية لا يستدعي نفي جواز العمل بالفتوى و إنما يستدعي عدم صحة ولايته على المجانين و القاصرين و نحوهم.

و أما الثاني فلأن نقل الإجماع إنما هو مختص بالقضاء لو سلمنا حجيته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 211

و أما الثالث فإن الإفتاء ليس منصبا و إن كان على ما ببالي أن المرحوم الشيخ أحمد كاشف الغطاء (ره) يراه منصبا إلهيا. نعم الولاية على المسلمين منصب من المناصب و بهذا ظهر الجواب عن الثالث.

و أما الرابع فالظاهر انه في مقام عدم نفوذ تصرفاته لا نفي معرفته بالأشياء و عدم اطلاعه بالأحكام الشرعية.

و أما الخامس فهو غير مسلم و من أراد معرفة ذلك فليراجع كتاب الشهادات

(الشرط الخامس عشر) أن لا يكون مقبلا على دنياه

(الشرط الخامس عشر. أن لا يكون مقبلا على الدنيا) و طالبا لها و مكبا عليها مجدا في تحصيلها، و هذا الشرط غير العدالة فإن العدالة توجد في تجار المال مع انه مقبل على الدنيا و طالبا لها و مكبا عليها و يدل على هذا الشرط المروي عن تفسير الحسن العسكري (ع) من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه

مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه. و هذا الخبر و إن كان ضعيفا إلا أن اعتماد الفقهاء عليه و استنادهم إليه أوجب الوثوق بصدوره مضافا الى ما دل على ذم حب الدنيا و الانكباب عليها و التفاني في سبيلها فإنها تدل بفحواها إن من تلبس بذلك لا يصلح للمرجعية في التقليد و لم ينال المرتبة العالية من العلوم الدينية فإنها منحة إلهية لا تعطى إلا لمن أخلص للّه و أزال حب الدنيا عن قلبه و هواه فإنه سبب كل ظلمة و غشاوة و رأس كل خطيئة و معصية و قد ورد بعدة طرق عنهم (ع) انه ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رعاؤها هذا في أولها و هذا في آخرها بأفسد فيها من حب المال و الشرف في دين المسلم، و في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 212

الكافي في رواية علي بن إبراهيم بسنده عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السلام كيف يكون من أهل العلم من هو في مسيره إلى آخرته و هو مقبل على دنياه و ما يضره أحب إليه مما ينفعه. و ما في الكافي أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) في مناجاة موسى (ع) إن عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم و سائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم.

(الشرط السادس عشر) العدالة
اشارة

(الشرط السادس عشر. العدالة) فلا يجوز تقليد الفاسق مطلقا و لو كان مجتهدا، للإجماع المحكي عن ظاهر جماعة مثل التهذيب للعلامة، و المبادي لفخر الإسلام، و لأن غير العدل لم يكن أمينا و العقلاء لا يقبلون غير الأمين في اخباره و لأن غير العدل لا تقبل شهادته و لا يجوز الاقتداء به

فعدم جواز تقليده أولى فإن من كان منحطا عن رتبة قبول الشهادة منه فالأولى أن ينحط عن رتبة قبول الفتوى منه و لأن غير العادل ظالم لنفسه فلا يركن اليه لقوله تعالى وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، و لآية النبإ و هي قوله تعالى إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ.

و لقول الصادق (ع) في تفسير العسكري (ع): و أما من كان من الفقهاء حافظا لنفسه صائنا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه و ذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا كلهم فان من ركب من القبائح و الفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منه شيئا و لا كرامة. و لما هو المحكي في المستند في كتاب القضاء عن الخصال فاتقوا الفاسق من العلماء. و قد يستدل على اعتبار العدالة بالترجيح بالأعدلية في موثقة عمر بن حنظلة بتقريب أن أصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 213

العدالة لو لم يكن معتبرا لكانت هي من المرجحات لا الأعدلية. و فيه ان الموثقة ظاهرة في القضاء. و قد يستدل بما في التوقيع الشريف من قوله (ع) فإنه حجتي عليكم في مقام السؤال عن المرجع فإنه (ع) جعلهم حجة في الرواية و الفتوى و لا شك ان الرواية مقيدة بالعدول فالفتوى تكون كذلك إلا اللهم أن يقال أنا نمنع من تقييد الرواية بالعدول و قد ناقش المرحوم الأصفهاني (ره) في الأدلة على اعتبار العدالة في الفتوى فذكر في رواية العسكري (ع) انها لا تدل على أزيد من اعتبار الأمن من الكذب و الخيانة و إن آية النبإ بمناسبة الحكم للموضوع لا تستدعي أزيد من اعتبار الوثوق مضافا الى ما ثبت من أن أدلة حجية

الخبر و الفتوى واحدة و لا يعتبر في الخبر إلا الوثوق و عليه عمل الأصحاب فلا وجه لاعتبار الزيادة في الفتوى. و لا يخفى ما فيه أما الرواية فهي ظاهرة في اعتبار العدالة فإن الصفات المذكورة فيها تستلزم العدالة بل الورع.

و آية النبإ و أدلة حجية الخبر ليست وحدها هي المستند بل قد عرفت أن غيرها أيضا من المستند. و أما مناقشة بعض محشي العروة في رواية العسكري (ع) بأنها ضعيفة و إن موردها أصول الدين فلا يخفى ما فيها فان ضعفها منجبر باعتماد المشهور عليها اعتمادا يوجب الوثوق بها مضافا لنقل احتجاج الطبرسي لها و قرائن الصحة تلوح عليها لما فيها من الخدش بعلماء الفريق الثاني و كون تفسير العسكري غير معلوم الصحة لا يقتضي عدم صحة الرواية إذا كان هناك ما يوجب الوثوق بها. و أما كون موردها أصول الدين فقد تقرر في محله أن المورد لا يخصص الوارد و لا يقيده مضافا الى أنه كيف يحكم الامام (ع) بالتقليد في أصول الدين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 214

ما يشترط فيه العدالة

و ينبغي التنبه في المقام على أمور:
(أحدها) ان العدالة شرط لقبول اخباره بفتواه أو شرط لجواز العمل بفتواه أو شرط للجميع

قالوا و تظهر الثمرة فيما لو كان فاسقا و علم بصدقه في اخباره بفتواه أو أخبر بها حال عدالته أو علم بفتواه من غير جهة أخباره فإنه على الأول تقبل فتواه دون الثاني و الثالث، و الظاهر هو الأول فإن مقتضى الاستدلال بآية النبإ هو اعتبار العدالة في قبول الخبر و هكذا مقتضى الاستدلال بالأولوية من عدم قبول شهادته كما ان الثاني هو الظاهر من معاقد إجماعاتهم على عدم جواز استفتاء غير العادل و من قول العسكري (ع) المتقدم فللعوام أن يقلدوه.

عدم اعتبار العدالة في عمل المجتهد بفتواه

(ثانيها) انه لا يعتبر في عمل المجتهد بنفسه في فتواه هذا الشرط

لما تقدم من وجوب عمل الإنسان باجتهاد نفسه في أحكام المجتهد.

حقيقة العدالة

(ثالثها) إن العدالة قد اختلف فيها القوم على أقوال
اشارة

و لا بد لنا من البحث في ذلك لاشتراط الأصحاب لها في مواضع كثيرة

: (منها) عدالة الشاهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 215

و المقلد و الراوي و القاضي و الكاتب و المترجم و عامل الصدقة و المقوّم للمال و المقسّم و النائب في العبادات و أمين الحاكم على مال الأيتام و الغائبين و المجانين و على قبض الحقوق المالية و المنصوب من قبل الحاكم على نظارة الوقف أو الوصايا و الوصي بالوصاية العهدية على مال الأطفال و المجانين و تفريق الحقوق المالية و امام الجماعة و الودعي الذي يوضع عنده مال الغير و نحو ذلك.

[بيان معنى العدالة عند اللغة و العرف و الشرع]
اشارة

و قبل الخوض فيها لا بد لنا من بيان معناها اللغوي و إنها مستعملة في لسان الشرع فيه أو في معنى جديد يكون حقيقة شرعية للفظ العدالة. فنقول قد ذكروا لها معاني لغوية خمسة:

(منها المساواة) مثل قولهم: هذا المقدار عدل لهذا المقدار. و هذه الكفة من الميزان عدل لهذه الكفة. (و منها) خلاف الظلم كما يقال سلطان عادل أي غير ظالم. (و منها الإحسان) كما في قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ. بناء على أن عطف الإحسان على العدل عطف تفسير. (و منها التوسط) كما يقال فلان عادل في معيشته أي متوسط فيها بين طرفي الإفراط و التفريط. (و منها المثل) كما يقال فلان عديم العدل أي المثل و لكن التحقيق ان معناها لغة الاستواء و الاستقامة كما هو المحكي عن المدارك و غيره. و في المحكي عن المبسوط و السرائر ان العدالة لغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال و متساويا فيها. و في المجمع العدل القصد في الأمور و خلاف الجور و الجميع يرجع الى المساواة و عدم الانحراف عن الطريق المستقيم و هو المتبادر منها و ما ذكروه من المعاني

الأخرى لعلها من قبيل المصاديق أو المعاني المجازية و قد حكى صاحب الضوابط اتفاق اللغويين على ان معناها الحقيقي هو المساواة. و كيف كان فالظاهر من إطلاقها ثبوت ملكة تستدعي ذلك لأن المصادر للأوصاف التي تكون على هذا الوزن الظاهر منها و المتبادر منها وجود ملكات لها كالبلاغة و الفصاحة و الشجاعة و السخاوة مضافا الى أن سائر الأوصاف الحسنة تستدعي وجود

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 216

ملكات لها و إلا فمجرد صدور أفعالها من الشخص لا يوجب اتصافه بها على سبيل الإطلاق فإن الشخص لا يقال له شجاع بقول مطلق بمجرد صدور الشجاعة منه آنا ما و لا يقال سلطان عادل بمجرد صدور العدل مرة واحدة منه و عليه فالعدالة ظاهرها بحسب معناها اللغوي هو الاستواء و الاستقامة عن ملكة و حيث ان الشارع المقدس يكون الاستواء و الاستقامة عنده بسلوك الصراط المستقيم الذي جعله للعباد و هو إنما يكون بترك المحرمات و فعل الواجبات كان إطلاق العدالة في لسانه المقدس يقتضي وجود ملكة تلازم فعل الواجبات و ترك المحرمات و حيث أن الأشياء المنافية للمروة كالأكل في الأسواق و المشي بدون وقار تنافي الاستقامة و الاستواء للشخص عند العرف العام فكان إطلاق العدالة في لسان الشرع يفهم منه الملكة المذكورة الملازمة للاستقامة عند الشارع و عند العرف نظير ما إذا أطلق لفظ (الكامل) بدون قيد في لسان الشارع فإنه يفهم منه الكامل عند الشارع و عند العرف و بهذا ظهر لك فساد ما يظهر من غير واحد من انها لو وجدت في كلام الشارع أو أحد أوصيائه (ع) لم تحمل على ملكة فعل الواجبات و ترك المحرمات و منافيات المروة

إلا أن تثبت الحقيقة الشرعية فإنه قد عرفت انها تحمل على ذلك بمجرد إطلاقها إلا أن تقوم قرينة من الشارع على عدم ارادة هذا المعنى منها كما ظهر ان الشارع لم ينقلها لمعنى خاص غير المعنى اللغوي.

(إن قلت) إن الظاهر لمن تتبع الأخبار و لاحظها ان معنى العدالة عند الشارع و أوصيائه (ع) غير معناها عند أهل اللغة ألا ترى إلى صحيحة ابن يعفور حيث سأل الراوي فيها الامام (ع) بقوله بم تعرف العدالة فإن العدالة لو كانت عند الشارع هي معناها عند أهل اللغة. و إن الشارع قد استعملها في ذلك لما سئل الراوي عنها. (قلنا) السؤال لم يكن عن معنى العدالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 217

و إنما هو عن طرق معرفتها كما يسأل السائل عن طرق معرفة الهلال و القبلة و نحو ذلك من الموضوعات الخارجية. و مقتضى ذلك ان معناها معلوم للسائل و إلا لكان عليه أن يسأل عن معناها لا عن طرق معرفتها، بل عدم سؤاله عن معناها مع أن الشارع لم يعرف عنه لها معنى عنده يقتضي ان السائل كان يرى أن معناها العرفي و الشرعي واحد. (و الحاصل) ان العدالة في لسان الشارع مستعملة في معناها اللغوي غاية الأمر ان الاستقامة عند الشارع هو بفعل الواجبات و ترك المحرمات بواسطة ما فهمناه من الآيات الشريفة و الأخبار الجلية و الاستقامة عند العرف هي عدم منافيات المروة فإذا أطلقت في لسانه (ع) حملت على الاستقامتين و حيث ان ظاهر الوصف هو وجود ملكة عليه لذلك كان المفهوم من إطلاقها هو وجود ملكة على الاستقامتين الشرعية و العرفية و يؤيد ذلك و يؤكده الإجماعان اللذان نقلهما الفاضل

المقداد، و شارح الإرشاد ففي الأول ان العدالة عبارة عن الملكة بإجماع العلماء. و في الثاني على ما حكاه صاحب الرياض ان المعروف بين العامة و الخاصة ان العدالة بمعنى الملكة. و بعد أن عرفت ما هو الحق في العدالة و المعنى المراد منها في لسان الشارع ننقل لك الأقوال في ذلك تنويرا للذهن و تكميلا للفائدة و إيضاحا للحقيقة فنقول: إن الفقهاء قد اختلفوا في معناها الشرعي.

(فالقول الأول) أنها ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق

و هو المحكي عن ابن جنيد و الشيخ الطوسي في الخلاف و المفيد في كتاب الأشراف و الشهيد الثاني و قد نسب لبعضهم ان مراد القائلين بهذا القول هو الحكم بالعدالة من باب الأصل لا أنه نفس حقيقتها كما حكي ذلك عن التبيان و الدروس و الذكرى و المسالك و الجعفرية و الكفاية و المستند و كيف كان فقد احتجوا لهذا القول بالإجماع المحكي عن الشيخ (ره) في الخلاف حيث قال (ره) إن البحث عن عدالة الشهود ما كان في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 218

أيام النبي (ص) و لا في أيام الصحابة و لا في أيام التابعين و إنما هو شي ء أحدثه شريك ابن عبد اللّه القاضي و لو كان شرطا ما أجمع أهل الأمصار على تركه انتهى. و يمكن الجواب عن الإجماع.

(أولا) بأنه لا يدل على المدعى و إنما يدل على عدم اعتبار العدالة في الشهود لا أن العدالة معناها ذلك إلا اللهم أن يستفاد ذلك بضميمة الآية و الإجماع على اعتبار العدالة في الشهود فان هذا لو ضم الى الاكتفاء بظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق في الشهود يثبت منه أن العدالة هو ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق.

(و ثانيا) بأنه

موهون بمصير الأكثر على خلافه و معارض بالإجماع المنقول عن المسالك على خلافه. و المنقول في الرياض عن المحقق (ره) إجماع الأمة على عدم كون العدالة المعتبرة هي ظهور الإسلام و عدم ظهور الفسق. و المنقول عن الشيخ الأنصاري (ره) انه في درسه قال ان الشيخ الطوسي (ره) في بعض كلماته دلالة على أن العدالة خلاف ذلك. و في المحكي عن الوسائل عن الحسن العسكري في تفسيره ان النبي (ص) إذا شهد عنده من لا يعرف حاله بعث برجلين من أصحابه الأخيار لمعرفة حال الشهود إلى قبائلهم و محلاتهم. و عليه فلا وجه لما حكي عن الشيخ من عدم الفحص عن الشهود في عصر النبي (ص) و احتجوا بالأخبار أيضا. (منها) ما رواه الكليني في الصحيح عن حريز عن أبي عبد اللّه (ع) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدّل منهم اثنان و لم يعدّل الآخران قال فقال (ع) إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعا و أقيم الحد على الذي شهدوا عليه انما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا و على الوالي أن يجيز شهادتهم جميعا إلا أن يكونوا معروفين بالفسق. و هذه الرواية دالة على المطلوب إلا أنها مختصة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 219

بالشهادة. (و منها) رواية العلاء بن سيابة قال: سألت أبا عبد اللّه عن شهادة من يلعب بالحمام؟ قال (ع): لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق و هذه أيضا مختصة بالشهادة. (و منها) رواية سلمة بن كهيل قال سمعت عليا (ع) يقول لشريح في حديث و اعلم ان المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلود في حد لم يتب

منه أو معروف بشهادة زور أو ظنين، و المراد بالظنين المتهم كما ذكره أهل اللغة. (و منها) صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عما يرد من الشهود؟ قال: الظنين و المتهم و الخصم. قال: قلت: و الفاسق و الخائن؟

قال (ع): كل هذا يدخل في الظنين، و في معنى هذه الرواية رواية عبد اللّه ابن سنان، و سليمان بن خالد، و صحيحة الحلبي. و هذه أيضا مختصة بالشهادة (و منها) ما حكي عن أمالي الصدوق (ره) و عن من لا يحضره الفقيه بسند فيه صالح بن عقبة (الذي ذكر العلامة في شأنه انه كذاب غال لا يلتفت اليه) عن علقمة قال: قلت للصادق يا بن رسول اللّه أخبرني عمن تقبل شهادته و عمن لم تقبل شهادته فقال: يا علقمة كل من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته قال:

فقلت له: تقبل شهادة مقترف الذنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة مقترف الذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء و الأوصياء لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنبا الحديث. و هذا أيضا مختصة بالشهادة. (و منها) حسنة البزنطي عن أبي الحسن (ع) فان فيها انه (ع) قال: من ولد على الفطرة أجيزت شهادته. و هي أيضا مختصة بالشهادة.

و الجواب عن هذه الروايات:

(أولا) انها مختصة بالشهادة ما عدى الثالثة منها و هي ضعيفة إلا أن يلتزم بعدم الفصل بين الشهادة و غيرها مما يعتبر فيه العدالة و لكن المحكي عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 220

الشيخ (ره) في العدة

انه فرق بين عدالة الشاهد و الراوي فاشترط في عدالة الشاهد الايمان و لم يشترطها في الراوي و اشترط في الشاهد عدم فسق الجوارح الظاهرة و لم يشترط ذلك في الراوي و ظاهر كلامه (ره) كون طريقة الأصحاب على ذلك.

(و ثانيا) انها مخصصة بما دل على اعتبار حسن الظاهر و ظهور الصلاح أو الملكة و على فرض عدم أخصيتها فهي أرجح بكونها أكثر عددا و أصح سندا و أظهر دلالة و أشهر فتوى و لأهل الخلاف مخالفة و لذا جعل هذه الأخبار بعضهم محمولة على التقية حيث ان العامة لا يعتبرون في الشهادة غير ذلك.

(و ثالثا) مخالفة لظاهر القرآن المجيد حيث يقول سبحانه وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فان ظاهر الآية اعتبار أمر آخر وراء الإسلام لأن قوله تعالى:

«مِنْكُمْ». اشارة للمسلمين فيكون دالا على إسلام الشاهد فلو كانت العدالة هي ظهور الإسلام لكان قوله (ذَوَيْ عَدْلٍ) زائدا. و يمكن الجواب عنه انه من المحتمل أن يكون المخاطب هم الناس لا خصوص المسلمين مضافا الى احتمال أن المراد عدم ظهور الفسق.

(القول الثاني في العدالة) انها اجتناب المعاصي

سواء الكبائر و الصغائر و حكي ذلك عن المفيد (ره)، و ابن البراج، و أبي الصلاح، و ابن إدريس، و الطبرسي و هو ظاهر الكفاية و استدل لهم بما في رواية صالح بن علقمة فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا و لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل العدالة ص 219. و لا يخفى ما فيه فإنه بملاحظة صدرها تكون ظاهرة في ان ارتكاب الذنب في نفسه غير مانع من العدالة (و قد ذهب هؤلاء) الى أن الذنوب كلها كبائر و إنما سمي بعضها بالصغائر بالإضافة الى ما هو أكبر منه و بعضها كبيرا بالإضافة

الى ما هو أصغر منه و قد خالفهم في ذلك جمهور المتأخرين فذهبوا الى أن المعاصي نوعان كبائر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 221

و صغائر و هو المحكي عن الشيخ في المبسوط و ابن حمزة و الفاضلان و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك في تنبيهات العدالة. و قد استدل لهذا القول في العدالة أيضا بروايات القول الثالث الذي سيجي ء إن شاء اللّه تعالى. و الجواب عنها عين الجواب عنه. ثمَّ لا يخفى انه ليس المراد لهؤلاء القائلين بهذا القول هو مجرد الترك للمعاصي آنا ما بل المراد المداومة عليها كما هو الظاهر من كلامهم قدّست أسرارهم.

(القول الثالث في العدالة) انها في الشرع عبارة عن حسن الظاهر

و ظهور الصلاح بأن يكون الرجل متصفا بحسن ما يظهر منه بحسب المعاشرة الظاهرية كملازمة الجماعة و الزيارة و صلة الإخوان وبر الفقراء و الفرق بينه و بين القول الثاني ان هذا يرجع الى الظاهر في مقابل الواقع فلا يلزم البحث عن الباطن و القول الثاني بالعكس فيلزم ذلك و بهذا يظهر لك فساد ما حكى عن صاحب الحدائق من لزوم البحث على القول الثالث و بعضهم أرجع هذا القول الى القول بأن حسن الظاهر طريق العدالة لا انه بنفسه هو العدالة. و كخيف كان فقد ذهب الى هذا القول جمع من المتأخرين كصاحب الجواهر (ره)، و العلامة الجليل عبد اللّه بن السيد محمد رضا الحسيني (ره)، و صاحب المدارك، و الذخيرة و الحدائق، و البهبهاني و غيرهم و حكي عن الشيخ (ره) في النهاية، و الحلي في السرائر. و قد استدل له بعدة روايات: (منها) معتبرة عبد اللّه بن مغيرة قال: قلت للرضا (ع) رجل طلق امرأته و أشهد شاهدين ناصبيين قال (ع)

كل من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته. (و منها) ما رواه المشايخ الثلاثة كل بإسناده إلى يونس بن عبد الرحمن عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أ يحل للقاضي أن يقضي بقول البينة إذا لم يعرفهم؟ فقال (ع) خمسة أشياء يجب على الناس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 222

الأخذ بها بظاهر الحكم الولايات و التناكح و المواريث و الذبائح و الشهادات فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه. و في رواية الفقيه الأنساب مكان المواريث كما ان في رواية الشيخ ظاهر الحال مكان ظاهر الحكم و رواه في الخصال عن محمد بن الحسن عن الصفار عن إبراهيم بن هاشم عن أبي جعفر المقري رفعه الى أبي عبد اللّه (ع) عن آبائه عن علي (ع) انه قال:

خمسة أشياء يجب على القاضي الخبر. و المراد بظاهر الحكم هو ما ظهر من الحكم من كون فلان واليا. و في القضاء فلأنه زوجة فلان أو بالعكس، و فلان وارث فلان. و الشهرة الروائية و الفتوائية لهذا الخبر تجبر ضعفه بالإرسال. (و منها) رواية ابن أبي يعفور عن أخيه عبد الكريم بن أبي يعفور عن أبي جعفر (ع) قال: تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر و العفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذاء و التبرج للرجال في أنديتهم.

(و منها) صحيحة ابن أبي يعفور المتفق على العمل بها و التي رواها الصدوق بسند صحيح في من لا يحضره الفقيه و الشيخ في الاستبصار و التهذيب بسند غير صحيح لوقوع محمد بن موسى في

سندها و قد ضعفه ابن الوليد، و النجاشي، و العلامة و وقوع الحسن بن علي و حاله مهمل في الرجال بخلاف سندها في الفقيه فلذا اعتمدنا على نقلها عن الفقيه دون غيره و إن كان التفاوت بينهما في بعض الألفاظ يسير. قال: ابن أبي يعفور: قلت لأبي عبد اللّه (ع) بم تعرف عدالة الرجل من المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان و تعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار من شرب الخمر، و الربا، و الزنا، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف و غير ذلك و الدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و يجب عليهم تزكيته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 223

و إظهار عدالته في الناس و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته. قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك ان الصلوات ستر و كفارة للذنوب الحديث. و الظاهر من قوله أن يعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن هو كون هذه المعرفة يثبت بها العدالة فتكون العدالة عبارة عن هذه الأمور التي هي عبارة عن حسن الظاهر. كما ان الظاهر من معنى كونه ساترا لعيوبه انه

حسن الظاهر مستور الحال. و لا ينافي ذلك قوله فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته. قالوا: ما علمنا منه إلا خيرا. فإن السؤال عنه لا يراد به التفتيش و البحث و التنقير بل المراد به السؤال عن حسن الظاهر عند عدم معرفته بقرينة الاكتفاء بجواب ما علمنا منه إلا خيرا و لا بد من توضيح هذه الرواية لصحتها و العمل بها فنقول: إن ظاهر السؤال ان السائل يعرف المعنى للعدالة و إنما يجهل طرق معرفتها فذكر (ع) الطريق الأول هو وجود الستر و العفاف الخلقيين الذين هما من صفات الكمال في حد ذاتهما مع قطع النظر عن الشرع. و كذا كف الجوارح الأربع عما ينقص الإنسان مع قطع النظر عن الشرع فان المتدين إذا وجد فيه ذلك يكون دليلا على عدالته و استقامته في أموره الشرعية فتكون هذه الملكات دليلا على ملكة خاصة التي هي العدالة. ثمَّ ذكر الطريق الثاني اجتناب الكبائر و كف النفس عن المعاصي الكبيرة الشرعية فالطريق الأول طريق عرفي و الثاني طريق شرعي ثمَّ لما كان هذان الطريقان قد يصعب على الإنسان معرفتهما في رجل لاقتضاء ذلك معاشرته معاشرة تامة و هذا لا يتفق لأغلب الناس جعل الشارع ستر الإنسان عيوبه بأجمعها من الصغيرة و الكبيرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 224

بين الناس دليلا على تحقق ذينك الطريقين و امارة عليهما فيكون من قبيل الامارة على الامارة ثمَّ جعل طريقا ثالثا للعدالة و هو التعاهد للصلوات. و الضمير في قوله و يكون منه عائد لما يعرف به العدالة أي و يكون من الذي يعرف به العدالة هو ذلك فظهر من هذا ان الرواية دالة على أن حسن

الظاهر امارة على العدالة لا ان نفسه عبارة عن العدالة. (و منها) ما رواه الصدوق (ره) في الخصال عن الرضا (ع) عن آبائه عن علي (ع) قال: قال رسول اللّه (ص): من عامل الناس فلم يظلمهم و حدثهم فلم يكذبهم و وعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجبت اخوته و حرمت غيبته. و عن أصول الكافي في باب المؤمن و علاماته في الموثق عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (ع) نحو ذلك بتقديم و تأخير. (و منها) ما عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (ع) قال ثلاث من كن فيه أوجبت له أربعا على الناس إذا حدثهم لم يكذبهم و إذا وعدهم لم يخلفهم و إذا خالطهم لم يظلمهم وجب أن يظهروا في الناس عدالته و يظهروا فيه مروته و أن يحرم عليهم غيبته و ان تجب عليهم أخوته. (و منها) موثقة أبي بصير عن أبي عبد اللّه (ع) قال: لا بأس بشهادة الضيف الضيق خ ل إذا كان عفيفا صائنا. (و منها) رواية العلاء بن سيابة عن أبي عبد اللّه (ع) في المكاري و الملاح و الجمال قال: لا بأس بهم تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء. (و منها) صحيحة عمار بن مروان في الرجل يشهد لابنه و الابن لأبيه و الرجل لامرأته قال: لا بأس بذلك إذا كان خيّرا. (و منها) حسنة إبراهيم بن هاشم عن أبي الحسن (ع) قال: من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يعرف منه خيرا. (و منها) المروي في الأمالي بسنده عن الصادق (ع) من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنوا به

خيرا و أجيزوا شهادته و هذه الأخبار مقدمة على أخبار القول الأول لأنها موافقة لظاهر الكتاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 225

و مخالفة للعامة على انها أخص من تلك. (و الجواب) عن هذه الأخبار هو ما يأتي من الأدلة على القول الرابع لا سيما صحيحة ابن أبي يعفور حيث دلت على أن حسن الظاهر أمارة على العدالة و دليل عليها مضافا الى ما قيل من أن حسن الظاهر لو كان بنفسه عدالة للزم الحكم بعدالة من كان ظاهره الصلاح و ان علمنا في مستسر السر انه يرتكب الكبيرة و لم يقل بذلك أحد.

(و قد يستدل أيضا لهذا القول) بأن معرفة الواقع متعذرة فإذا أمر المولى عبده بشي ء أراد منه الظاهر فاذا قال أكرم هاشميا فالمراد به ما كان بحسب الظاهر هاشميا لا الهاشمي الواقعي الذي لا سبيل إلى إحرازه عادة فهكذا العدالة (و جوابه) ان هذا لا يقتضي أخذ الموضوع بحسب ظاهره و إنما هو مأخوذ بحسب واقعه و الظاهر يكون طريقا له و لذا لو انكشف الخلاف أعاد العمل.

(القول الرابع في العدالة) انها في الشرع عبارة عن ملكة نفسانية تبعث على ملازمة التقوى

و المروة و ليست عبارة عن نفس الملكة المجردة الغير الملازمة لفعل الواجبات و ترك المحرمات كما هو الظاهر من عبارة السيد (ره) في العروة في مسألة (23) من مسائل التقليد. و في المحكي عن رسالة الشيخ الأنصاري (ره) منع القول بأنها مجرد الملكة من أقوال المسألة قائلا أنهم متفقون على أن العدالة تزول بارتكاب الكبيرة و يحدث الفسق الذي هو ضدها، و حينئذ فأما أن تبقى الملكة أو تزول فان بقيت ثبت اعتبار فعل الواجبات و ترك المحرمات في العدالة و إن زالت ثبت ملازمة الملكة للفعل و الترك المذكورين. و

يؤيد ذلك انهم فسروا العدالة بالملكة الباعثة على ملازمة التقوى. و ظاهره الملازمة الفعلية. هذا مضافا إلى عدم مساعدة الدليل على انها نفس الملكة كما سيجي ء إن شاء اللّه كما انها ليست بالملكة الباعثة على التقوى و إنما تبعث على ملازمة التقوى و تجعل الخوف من اللّه تعالى أو الخوف من العقاب أو الحب لذات اللّه تعالى تؤثر في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 226

النفس و هذا القول هو المحكي عن المختلف و القواعد و الإرشاد و التحرير و المهذب و نهاية الأصول و المنية و الدروس و الذكرى و التنقيح و الروضة و الروض و جامع المقاصد و المعالم و الرياض و نسبه المولى الأردبيلي (ره) إلى المشهور في الفروع و الأصول و الفاضل الهندي (ره) إلى المشهور بين الخاصة و العامة و عن الذخيرة نسبته إلى المتأخرين و في التنقيح نسبته إلى الفقهاء مشعرا بدعوى إجماعهم عليه، و اليه ذهب جماعة من محققي العامة فقد حكي انه ذهب إليه الغزالي و الحاجبي و العضدي و الآمدي و عن الكفاية ان تفسير العدالة بالملكة نشأ من العلامة اقتفى به العلامة و لا أثر للملكة في الأخبار و لا في كلام المتقدمين من الأخيار، و عن الذخيرة و الحدائق دعوى تفرّد العلامة و من تأخر عنه بتفسيرها بالملكة و خلو كلمات المتقدمين من ذلك. (و لا يخفى ما فيه) فان كلمات المتقدمين و ان كانت لا تصريح فيها بلفظ الملكة إلا انهم ذكروا في تعريفها ما لا يتم بدون الملكة نحو المنقول عن المفيد (ره) ان العدل من كان معروفا بالدين و الورع عن محارم اللّه تعالى. و عن الشيخ في النهاية

أن يكون ظاهر الايمان ثمَّ يعرف بالستر و العفاف إلى آخر ما في صحيحة ابن أبي يعفور الدالة على اعتبار الملكة في العدالة و عن ابن البراج العدالة تثبت في الإنسان بشروط: البلوغ. و كمال العقل.

و الحصول على ظاهر الايمان. و الستر. و العفاف. و اجتناب القبائح. و نفي التهمة و الظنة و الحسد و العداوة. و مثله عن أبي صلاح إلى غير ذلك من عبارات المتقدمين الدالة علي اعتبار أشياء في العدالة لا تحصل غالبا إلا من ذوي الملكات هذا مع ان ثمرة النزاع هو مراعاة الاختبار و الفحص على القول بالملكة و عدمه على القول بغيرها. و لا ريب ان ما ذكره القدماء يتعذر معرفته بدون الاختبار فيكون قولهم متحدا مع القول بالملكة في الثمرة، و إنما لم يعبروا القدماء بالملكة لأنهم يقتصرون غالبا على متون الأخبار فيتسامحون في التعبير. و أرادوا بالملكة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 227

الصفة الراسخة في النفس التي يعسر زوالها و احترزوا بها عن الحالة المنتقلة بسرعة كحمرة الخجل و صفرة الوجل بمعنى ان صدور التقوى منه و المروة لا بد أن يكون عن صفة نفسانية راسخة يعسر زوالها. و اختلفوا في تفسير التقوى فقيل انها اجتناب الكبائر و الصغائر و هو المحكي عن المفيد (ره) و أبي الصلاح و ابن إدريس و الطبرسي و قيل انها اجتناب الكبائر و من جملتها الإصرار على الصغائر دون الصغائر و قالوا ان فعل المكروهات و ترك المستحبات غير قادح بالعدالة ما لم يبلغ درجة التهاون و الاستخفاف بالدين فيدخل في المحرمات. و فسروا المروة بأنها اتباع محاسن العادات و اجتناب مساويها و اجتناب ما ينفر عنه من

المباحات و يؤذن بخسة النفس و دناءتها كلبس الفقيه لباس الجندي و البول في الشوارع أمام الناس و الإفراط في المزاح و الضحك أمام الناس و غير ذلك مما يدل على خسة النفس و عدم حيائها و دناءة الهمة و عدم المبالاة و يختلف ذلك بحسب الأحوال و الأوقات. (و كيف كان) فالأصل يقتضي انها بمعنى الملكة لأصالة عدم تحقق المشروط بها إلا بعد اليقين بتحققها و لا يقين بدون الملكة. هذا و الذي يمكن أن يستدل به أو استدل به على هذا القول أمور:

(الأول) ما ذكرناه سابقا ص 215 من أن معنى العدالة هو ذلك لغة و عرفا و شرعا.

(الثاني) صحيحة ابن ابي يعفور المتقدمة في أدلة القول الثالث ص 222 حيث دلت على ان حسن الظاهر دليل على العدالة فلا بد أن تكون العدالة معنى نفسانيا يقتضي و يلازم حسن الظاهر و إلا لانفك عنها و أيضا قد جعل فيها الستر و العفاف دليلا على العدالة فإنه يستفاد منها ان العدالة قوة نفسانية تدل عليها هذه الأمور.

(الثالث) ما تقدم من رواية الخصال ص 224 فإنها دلت على أن حسن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 228

الظاهر يدل على العدالة و تظهر به العدالة فلا بد أن تكون العدالة أمرا واقعيا يظهر بذلك.

و رواية عبد اللّه بن سنان المتقدمة ص 224 و معتبرة عبد اللّه ابن المغيرة ص 221 التي دلت على أن الصلاح يتحقق به العدالة. و رواية ابن أبي يعفور الثانية ص 222 و رواية العلاء ص 224 اللتان دلتا على أن الستر يتحقق به العدالة. و موثقة أبي بصير ص 224 التي دلت على تحقق العدالة بالعفة و الصون

للنفس. و رواية عمار. و حسنة إبراهيم المتقدمتان ص 224 الدالتان على أن كون الشخص من أهل الخير يقتضي تحقق العدالة. و من المعلوم ان الظاهر منها ان هذه الصفات ملكات تقتضي التجنب عن المعاصي و ترك منافيات المروة فلا يصغي الى قول المرحوم الأصفهاني قدس سره من أن هذه الأمور عناوين انتزاعية من الأعمال و الأخلاق و ليست من القوى النفسانية.

(الرابع) ما ربما يقال من أن الأقوال كلها ترجع لهذا القول فيكون هذا القول مجمعا عليه فان القول الأول يرجع الى أن الإسلام طريق للعدالة و القول الثاني لا بد فيه من المداومة على اجتناب المعاصي لإجماعهم على أن فعل المعصية ينافي العدالة و أن يكون الترك من جهة الدين لا لعدم المقتضي أو وجود المانع الخارجي كترك الأعمى النظر للأجنبية أو ترك العنين الزنا و لا يكون الترك من جهة أخرى كالرياء و السمعة أو مصلحة دنيوية فأذن مرادهم لا بد أن يكون الترك عن مبدأ في النفس باعث على ذلك و هو لا يكون إلا الملكة و القول الثالث يرجع لدعوى ان حسن الظاهر طريق للعدالة. (و جوابه) ان للخصم أن يمنع من ذلك كله. و قد رد على هذا القول:

«أولا» ان أصالة الصحة في أفعال المسلمين و أقوالهم مستلزمة للحكم بأنه لم يقع منه ما يوجب الفسق فيكون عدلا لعدم الواسطة بينهما. (و جوابه)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 229

ان للخصم أن يدعي انا لو أخذنا الفسق بمعنى عدم العدالة فأصالة الصحة لا تستلزم الحكم بأنه لم يقع منه ما يوجب الفسق لأنها لا تثبت وجود الملكة و لا تثبت عدم صدور منافيات المروة منه و ان أخذناه بمعنى

صدور المعصية فنلتزم بالواسطة و هو الذي لم يصدر منه معصية و لم تكن عنده ملكة كالإنسان أول بلوغه أو كان عنده ملكة و لكنه لم يترك المنافيات للمروة.

«و ثانيا» دعوى الإجماع على خلافه من جملة من المحققين منهم الفاضل السبزواري صاحب الذخيرة حيث حكي عنه انه قال لم أجد ذلك في كلام من تقدم على العلامة (ره) و ليس في الأخبار منه أثر و لا شاهد و كأنهم اقتفوا في ذلك أثر العامة حيث يعتبرون الملكة في مفهوم العدالة و يوردونه في كتبهم و في المحكي عن الصدر الشريف في شرح الوافية ان اشتراط هذا المعنى في الواقع حيث اعتبر الشارع العدالة لم أطلع على دليل ظني لهم عليه فضلا عن القطعي و صحيحة ابن أبي يعفور عليهم لا لهم كما قيل (و لا يخفى) ما فيه فإنه قد عرفت انها عند الشرع و العرف و اللغة يعتبر فيها الملكة فلا أثر لعدم وجدان ذلك في كلام من تقدم على العلامة بعد قيام الدليل عليه. مضافا لما عرفت من إمكان استفادته من كلمات المتقدمين.

«و ثالثا» ان حصول الملكة المذكورة لا يوجد إلا في الأوحدي من الناس لأن الملكة المذكورة يحتاج حصولها الى مجاهدات شاقة مع تأييد رباني و الاحتياج إلى العادل أمر عام لازم في كل طائفة من كل فرقة من سكان البر و البحر حيث اعتبر في أغلب الأحكام كالشهادة في الحقوق و الطلاق و القضاء و إمامة الجماعة و الوصايا و مراجع التقليد فلو كان الأمر كما يقولون لزم الحرج و اختل النظام.

(إن قلت) ان الشارع اعتبر حسن الظاهر طريقا إليها و هذا يحصل في

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا

بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 230

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 230

أكثر الناس. (قلنا) أن القائل بالملكة ان اعتبر معرفتها بذلك فلا ثمرة للنزاع بأن العدالة حسن الظاهر أو انها ملكة لأن مع استلزامها لذلك فأي فائدة في جعل العدالة ملكة و حسن الظاهر دليلا عليها. (و الجواب) عن ذلك ان العدالة بمعنى الملكة ليست بعزيزة الوجود فإنها عبارة عن حالة مرتكزة في النفس حاصلة من خشية اللّه تردعه عن الخروج عن جادة الشرع الشريف بارتكاب الجرائم الكبيرة أو الخروج عن الطرق المستقيمة العرفية بارتكاب منافيات المروة و هذه الحالة المذكورة غير عزيزة في الناس فإن أهل الحياء و الستر نوعا يتصفون بها هذا و في جعل حسن الظاهر طريقا إليها أوجب سهولة الأمر جدا. (و دعوى) ان حسن الظاهر لو كان طريقا إليها فأي فائدة في جعل العدالة الملكة و أي ثمرة تترتب عليه (فاسدة) فإن حسن الظاهر لا ينافي التكتم بالمعاصي فهو يجتمع مع الفسق الواقعي الذي هو ضد العدالة بخلاف الملكة و بهذا تعرف بأن الإجماع على أن مرتكب الكبيرة فاسق يقتضي ان حسن الظاهر ليس عبارة عن العدالة لأن حسن الظاهر يجتمع مع التكتم بالمعصية مضافا إلى أن حسن الظاهر قد يجتمع مع عدم الملكة (و الحاصل) ان كثرة الطرق التي جعلها اللّه تعالى لمعرفة العدالة كما سيجي ء إنشاء اللّه بيانها ترفع هذا الاشكال.

و «رابعا» أن البحث عن عدالة الشهود لم يكن في أيام النبي (ص) و لا أيام الصحابة و لا أيام التابعين و إنما هو شي ء

أحدثه شريك بن عبد اللّه القاضي و لو كانت العدالة ملكة لما أجمعوا على ترك البحث عنه. (و جوابه) انا لو سلمنا عدم البحث في زمن النبي فإنما هو لمعرفته (ص) بحال المؤمنين إذ كانوا قليلين مع ان إسلامهم و تركهم لدين آبائهم يكشف عن وجود الملكة المذكورة و لم يكن في المدينة غالبا إلا من أسلم طوعا أو كان معروفا حاله. هذا مع انه لم يثبت عدم فحص النبي (ص) عن عدالة الشهود. بل عن مولانا الحسن العسكري (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 231

في تفسيره و عن هداية الحر العاملي مرسلا ان النبي إذا جاءه شهود لا يعرفهم بعث من خيار أصحابه رجلين إلى قبيلة الشهود يبحثان عن حالهم. و اما الصحابة و التابعين فالصالحون منهم لا يختلفون معه (ص).

و «خامسا» انه لو كانت العدالة الملكة لم يوجد عادل أصلا سوى المعصومين كما نطقت به رواية صالح بن علقمة ص 219 و في ذلك حرج شديد و مشقة عظمى و تعطيل للأحكام الشرعية و تضييع للحقوق و تفويت للمنافع الدينية و الدنيوية و هو خلاف الشريعة السمحة السهلة. (و جوابه) ان العدالة بمعنى الملكة أمر (للّه الحمد) شائع منتشر تسهل معرفته بحسن الظاهر و لزوم الجماعات و الاستغفار عند الزلات و شهادة العدول و نحو ذلك مما سيجي ء إنشاء اللّه. و اما الرواية فهي مع ضعفها ظاهرة في عدم اعتبار العصمة لا العدالة بمعنى الملكة فان العصمة لا تزول فلا يعقل صدور الذنب من صاحبها بخلاف العدالة فإنها ملكة قابلة للزوال و ناظرة إلى ان حسن الظاهر كاف في ثبوت العدالة. و لو تنزلنا فهي معارضة بما عداها من الروايات كصحيحة

ابن أبي يعفور و نحوها مما هو معتضد بالشهرة و أكثر عددا و مطابق للكتاب.

و «سادسا» انه حكى غير واحد الإجماع على عود العدالة بمجرد التوبة إذا زالت بفعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة أو ما ينافي المروة و هذا ينافي كون العدالة بمعنى الملكة لأن الملكة إن كانت لا تنافي فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة أو ما ينافي المروة فالعدالة لم تكن زائلة بذلك فلا يصح القول بعودها بالتوبة عنه إذ هي لم تذهب حتى تعود مضافا إلى انه خلاف إجماعهم على زوالها بالكبيرة و إن كانت تنافي ذلك و لم تبق عند ذلك فهي لا تعود بمجرد التوبة بل لا بد في عودها من الاستمرار على الصلاح و المواظبة على الواجبات و ترك المحرمات بخلاف ما لو قلنا بأنها ترك المحرمات فإنه بفعل التوبة قد ترك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 232

المحرمات و هكذا لو قلنا بأنها الإسلام مع عدم الفسق فإنه بالتوبة يحصل ذلك و هكذا لو قلنا بأنها حسن الظاهر فإنه يتحقق بالتوبة و إظهارها (و جوابه) ان الإجماع المذكور منقول و هو ليس بحجة مع مخالفة بعض المحققين في ذلك حيث التزم بعدم عودها بمجرد التوبة إلا إذا عادت إليه الملكة المذكورة و عود الملكة يعرف بالطرق الآتية لمعرفة العدالة كالمداومة على الصلاح و الاختبار مدة يغلب الظن بإصلاح السريرة فيها و سيجي ء إنشاء اللّه توضيح ذلك و تنقيحه.

و «سابعا» ان ما اشتهر بينهم من تقديم الجارح على المعدل عند التعارض لا يتم على تفسير العدالة بالملكة لأن كلا منهما يشهد بأمر وجودي ينافي الآخر بخلاف ما إذا قلنا بحسن الظاهر فان ظهور حسن الحال لا

يمنع من صدور الفسق فيجمع بين الشهادتين و يحكم بالفسق. (و جوابه) ان الشهرة ليست بكاشفة عن ذلك إذ لعلها استندت إلى أمر آخر كدعوى تقديم الموافق للأصل على غيره و ان الأصل عدم العدالة و ان الفسق عبارة عن عدم العدالة و لو تمت فهي ليست بحجة.

و أجاب الشيخ الأنصاري (ره) ما حاصله ان عدم الكبيرة مأخوذ في العدالة إجماعا و المعدل إنما يعرف هذا الأمر العدمي بأصالة العدم أو أصالة الصحة أو قيام الإجماع على أن العلم بالملكة يكون علما بحسن الظاهر الذي هو طريق للعدالة و لا يعتبر علمه أو ظنه بعدم صدور الكبيرة منه الى زمان أداء الشهادة. فأحد جزئي الشهادة و هو تحقق الأمر العدمي ثابت بالطريق الظاهري و من المعلوم ان شهادة الجارح حاكمة على هذا الطريق لان من يعلم حجة على من لا يعلم (و يمكن أن يقال عليه) ان الملكة المأخوذة في العدالة ملازمة لترك الكبيرة فالشاهد يستند الى العلم بوجودها الملازم للعلم بعدم الكبيرة.

و «ثامنا» ما عن مفتاح الكرامة من اطباق الفقهاء إلا السيد و الإسكافي على صحة صلاة من صلى خلف من تبين كفره و فسقه بعدها فلو كانت العدالة هي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 233

الملكة لأمر بالإعادة لعدم تحققها فلا بد أن تكون عبارة عن حسن الظاهر.

(و الجواب) ان الدليل على الصحة لو كان مستندا لاعتبار العدالة صح الاستدلال لكن المستند هو التعبد من الشارع بذلك. للأخبار الموجودة الدالة على الاجزاء

تقسيم الذنوب الى الكبائر و الصغائر

(رابعها) ان الذنوب تنقسم إلى كبائر و صغائر.
اشارة

و قد عرفت في الكلام في القول الثاني في العدالة انه ذهب جماعة من المتقدمين الى عدم الفرق بينهما و ان الذنوب كلها

كبائر و إنما تختلف شدة و ضعفا بنسبة بعضها الى بعض و قد استدلوا بالإجماع المحكي عن ابن إدريس و ظاهر الطبرسي و الشيخ في العدة. و بما دل على أن كل معصية شديدة و ان كل معصية توجب لصاحبها النار لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ و لقوله تعالى مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ*. و بما روي عنه (ع) لا تحتقروا شيئا من الذنب و ان صغر في أعينكم و لا تستكثروا شيئا من الخير و ان كان كبر في أعينكم فإنه لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار (و لا يخفى ما فيه) فان الإجماع موهون بمخالفة الكثير من أصحابنا و الأخبار لا تدل على المطلوب إذ اشتراك الذنوب في الشدة و استحقاق النار لا ينافي كون بعض الذنوب صغائر كما ان عدم استصغار الذنب لا ينافي كون الذنب صغيرا يكفّره ترك الكبيرة و المحكي عن الشيخ (ره) في المبسوط و ابن حمزة و الفاضلين و جمهور المتأخرين أن المعاصي نوعان: كبائر و صغائر و عن الصيمري و البهائي الإجماع عليه و هو الموافق للكتاب و السنة. قال تعالى:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ و قال تعالى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ و قال (ع): ان الأعمال الصالحة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 234

تكفر الصغائر. و عن الصادق (ع) قال: من اجتنب الكبائر كفر اللّه عنه جميع ذنوبه.

و قد اختلف العلماء في الكبائر على أقوال شتى و الأخبار في تعدادها مضطربة متصادمة و المشهور بينهم أن الكبيرة كل ذنب توعد اللّه عليه النار أو العقاب في كتابه و ما عداه صغيرة

و ان أوعد عليه بالنار في الأخبار (و قيل) كل ما أوعد عليه بالنار في الكتاب أو الأخبار و ما عداه صغيرة (و قيل) هي كل ذنب رتب عليه الشارع حدا أو صرح فيه بالوعيد (و قيل) هي كل ذنب يؤذن بقلة اكتراث فاعله بالدين. (و قيل) هي كل ذنب علم حرمته بدليل قاطع من إجماع أو كتاب أو تواتر (و قيل) هي كلما توعد اللّه عليه توعدا شديدا في الكتاب أو السنة (و قيل) ان الكبيرة عبارة عن المعاصي التي نهى اللّه عنها في سورة النساء من أولها إلى قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ. و ما عداها صغيرة و ان كان مذكورا في الكتاب (و قيل) هي سبع (و قيل) سبعمائة الى غير ذلك من الأقوال.

(و يدل على القول الأول) صحيح أبي بصير في بيان من يؤتى الحكمة قال معرفة الإمام (ع) و اجتناب الكبائر التي أوعد اللّه سبحانه عليها النار.

و صحيح محمد: الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمدا، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و التعرب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البينة، و كلما أوجب اللّه عليه النار. و ما رواه الكليني في الصحيح عن الحسن ابن محبوب قال: كتب بعض أصحابنا الى أبي الحسن (ع) يسأله عن الكبائر كم هي و ما هي؟ فكتب (ع): الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفر عن سيئاته و السبع الموجبات قتل النفس الحرام و عقوق الوالدين و أكل الربا و التعرب بعد الهجرة و قذف المحصنة و أكل مال اليتيم و الفرار من الزحف. و الظاهر ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 235

قوله (ع) و السبع الموجبات من عطف الخاص على العام فكأنها أكبر الكبائر كما أن الظاهر من قوله: ما وعد اللّه هو وعده في القرآن الشريف. و عن الحلبي عن أبي عبد اللّه في قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ قال (ع): الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار. و مثله عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى. و بمعناه عن الصدوق. و صحيحة ابن أبي يعفور حيث فيها و باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار. و رواية عبد العظيم التي ستجي ء حيث ان الامام (ع) علل فيها في مقام تحديد الكبائر بإيعاد النار عليها في الكتاب و هذه الروايات الضعيفة منها منجبرة بالشهرة كما ان الظاهر من قوله «أوجب اللّه أو وعد اللّه» هو الإيجاب و الوعد في القرآن الشريف. و عليه فيحمل ما دل من الأخبار على حصرها في عدد مخصوص من كونها سبعة أو أكثر على ضرب من المثال أو على الأعظمية و الأشدية من غيره فترتفع المنافاة، و حكي ان بعض الأفاضل قطع بكون الكذب من الكبائر التي اعتبر الاجتناب عنها في العدالة و ان خلت الأخبار عن ذكره لأن الغرض الأصلي من اعتبار العدالة تجنب الكذب ليحصل الوثوق في الراوي و الشاهد و حاكم الشرع و لو فرض كونه من الصغائر و عدم قدحه في العدالة كان منافيا للغرض المقصود. (و لا يخفى ما فيه) فان الكذب قد ذكر في الصحيح أو الحسن المروي عن الرضا (ع) في تعداد الكبائر الذي سيجي ء. ثمَّ لا بد أن يكون مراد المشهور ان الدلالة على العقاب بنحو الخصوص لا بنحو العموم مثل قوله تعالى فَلْيَحْذَرِ

الَّذِينَ يُخٰالِفُونَ الآية. و مثل قوله تعالى وَ مَنْ يَعْصِ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً و لا من جهة دلالة الأمر و النهي و إلا كانت المعاصي كلها كبيرة. كما انه يدخل تحت ما أوعد اللّه عليه العقاب ما هو أكبر عقلا أو نقلا من بعض ما أوعد اللّه تعالى عليه لأنه قد أوعد عليه بمفهوم الأولوية مثل حبس المحصنة للزنا فإنه أعظم من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 236

القذف و كدلالة الكفار على عورات المسلمين فإنها أعظم من الفرار من الزحف و كالفتنة أشد من القتل. ثمَّ انه لو دل دليل معتبر على أن المعصية كبيرة و ليس في الكتاب ما يدل عليه بنظرنا على العقاب فلا بد من الالتزام به من باب التخصيص أو دعوى وجود دلالة على ذلك في الكتاب و قد خفيت علينا كما ورد النص في ترك الصلاة متعمدا و محاربة أولياء اللّه. قيل و هكذا لو دل النص على عدم قبول شهادته أو الصلاة خلفه أو غير ذلك مما يعتبر فيه العدالة كما ورد النهي عن الصلاة خلف العاق لوالديه. و فيه ان هذا مبني على أن الصغيرة لا تضر بذلك و هو أول الكلام و لان منافيات المروة تمنع من ترتب آثار العدالة على مرتكبها مع انها ليست من الكبائر

و لا بأس بذكر خبرين ذكرهما الشيخ

الأنصاري في رسالته في العدالة اشتملا على تعداد الكبائر.

(أحدهما) الحسن كالصحيح المروي عن الرضا (ع) فإنه كتب إلى المأمون من محض الايمان اجتناب الكبائر و هي قتل النفس التي حرم اللّه و الزنا و السرقة و شرب الخمر و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و أكل مال اليتيم

ظلما و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير اللّه به من غير ضرورة و أكل الربا بعد البينة و السحت و الميسر و هو القمار و البخس في المكيال و الميزان و قذف المحصنات و اللواط و شهادة الزور و اليأس من روح اللّه و الأمن من مكر اللّه و القنوط من رحمة اللّه و معونة الظالمين و الركون إليهم و اليمين الغموس و حبس الحقوق من غير عسرة و الكذب و الكبر و الإسراف و التبذير و الخيانة و الاستخفاف بالحج و المحاربة لأولياء اللّه و الاشتغال بالملاهي و الإصرار على الذنوب.

(ثانيهما) صحيحة عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني المروية في الكافي عن أبي جعفر الثاني عن أبيه عن جده (ص) يقول دخل عمرو بن عبيد على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 237

أبي عبد اللّه (ع) فلما سلم و جلس تلا هذه الآية الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ* ثمَّ أمسك فقال له أبو عبد اللّه (ع) ما أمسكك قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عز و جل فقال (ع): يا عمرو أكبر الكبائر الإشراك باللّه يقول اللّه مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ و بعده اليأس من روح اللّه لأن اللّه تعالى يقول لٰا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكٰافِرُونَ ثمَّ الأمن من مكر اللّه لأن اللّه عز و جل يقول فَلٰا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّٰهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخٰاسِرُونَ (و منها) عقوق الوالدين لأن اللّه تعالى جعل العاق جبارا شقيا و قتل النفس التي حرم اللّه بالحق لأن اللّه تعالى يقول فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا الاية. و قذف المحصنة لأن اللّه

تعالى يقول لُعِنُوا فِي الدُّنْيٰا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ و أكل مال اليتيم لان اللّه تعالى يقول إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً و الفرار من الزحف لأن اللّه تعالى يقول:

وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلّٰا مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و أكل الربوا لان اللّه تعالى يقول الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبٰا لٰا يَقُومُونَ إِلّٰا كَمٰا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطٰانُ مِنَ الْمَسِّ و السحر لان اللّه عز و جل يقول وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلٰاقٍ و الزنا لان اللّه تعالى يقول وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً يُضٰاعَفْ لَهُ الْعَذٰابُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً و اليمين الغموس الفاجرة لأن اللّه تعالى يقول الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولٰئِكَ لٰا خَلٰاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ و الغلول لأن اللّه عز و جل يقول وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ و منع الزكوات المفروضة لأن اللّه عز و جل يقول فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأن اللّه عز و جل يقول وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ و شرب الخمر لان اللّه عز و جل نهى عنه كما نهى عن عبادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 238

الأوثان، و ترك الصلاة متعمدا و شي ء مما فرضه اللّه لأن رسول اللّه (ص) قال: من ترك الصلاة متعمدا فقد برء من ذمة اللّه و ذمة رسول اللّه (ص) و نقض العهد و قطيعة الرحم لان اللّه تعالى يقول لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ

سُوءُ الدّٰارِ قال فخرج عمرو و له صراخ في بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه و نازعكم في الفضل و العلم.

[قاموس المحرمات]
اشارة

و لجدنا الهادي أعلا اللّه مقامه كتاب سماه قاموس المحرمات مرتبا على الحروف الهجائية ننقله هنا حرفيا إتماما للفائدة و حفظا له من الضياع و ان كنا لا نوافقه في بعضها و لعل نظره قدس سره أن يذكر فيه حتى ما قيل بحرمته و ان لم يذهب (ره) إلى حرمته و سنتعرض لتحقيق الحق فيها في كتاب التجارة في مبحث المكاسب المحرمة.

و قد قسم (ره) المحرمات الى قسمين: القسم الأول الأفعال المحرمة و القسم الثاني الأعيان المحرمة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 239

القسم الأول في الأفعال المحرمة
(حرف الهمزة)

الإباق، الابداع في الدين، إبطال العمل، إبطال الصدقة، إتباع الهوى المخالف للشرع، اتخاذ الكافرين أولياء، اتخاذ القبور مساجد، إتيان البهائم، اجارة المحرمات عليها و لها، الإجباء (ذكره المرتضى في أماليه)، اجتماع شخصين مجردين تحت إزار واحد، الاجتهاد في مقابل النص، الاحتكار، احتقار المؤمن، إحصاء عثراته و عوراته، إحراق القراطيس المكتوبة، إحراق الموتى، الإحلاف بغير اسم اللّه، الاختيال، اختتال الدنيا بالدين، الاختلاس، أخذ الأجرة على المحرم، أخذ المساجد أو بعضها في طريق أو ملك، إخراج الحصى من المساجد، إخراج الدم من المحرم، الإخسار، (ثمَّ كتب (ره) أخذ الأجرة على الضراب و على الواجب العبادي و على القضاء و أخذ الأجرة على المحرم، ثمَّ ضرب عليه بالقلم)، إدخال النجاسة إلى المساجد، الادفان، إذاعة الحق مع الخوف و التقية، إذاعة سر المؤمن، إذاعة ما يشين المؤمن، إذلال المؤمن، الأذان الثاني يوم الجمعة، إرادة العلو في الأرض و الفساد فيها، الارتداد، الإزراء بالمؤمن، إزعاج المؤمن، إزالة المحرم شعره، الاستبداد،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 240

الإسراف، الاستهزاء بالمؤمن، استحقار بعض الأشياء، استقبال القبلة عند التخلي، استدبار القبلة للمتخلي، الاستمناء باليد (قال (ره) في

التذكرة في أحكام الخلوة، و أقول في الجواهر أيضا في الحدود). الاستنجاء بالمحترمات و بالعظم، الاستخفاف بالمؤمن، استماع الغيبة، استظلال المحرم، الاستخفاف بالحج، الاستخفاف بالدين، إسقاط الحمل، استحلال البيت الحرام، استحلال المحرمات، الاستيكال بالعلم (قال (ره) في كتاب معاني الأخبار)، الاستقسام بالأزلام، استماع الغناء و صوت الأجنبية، إسخاط الخالق، إسخاط المرأة لزوجها، الاستدانة مع نية عدم الوفاء أو العلم بعدم القدرة عليه، استمتاع المحرم بالنساء، استعمال أواني الذهب و الفضة، الاستغفار للمشركين (قال (ره) في سورة التوبة)، إشاعة الفاحشة، الأشر، الأصر، الإصرار على المعصية و صغار الذنوب، الإضلال، إضاعة الصلاة، إضمار السوء للمؤمن، الإضرار بالنفس و بالغير، إعجاب المرء بنفسه، الاعتداء، الإعانة على الإثم، إعانة الظالم على الظلم، الإغراء بالجهل، الاغلوطات، إفراط الأكل، إفضاء المرأة قبل التسع، الافك، الإفتاء بغير ما أنزل اللّه تعالى و بغير العلم، الافتراء، اكتحال المحرم، الإكراه، إكراه الفتيات على البغاء، أكل ما يحرم أكله كالميتة و الدم و لحم الخنزير و نحوها، الأكل من مال الغير بدون إذنه، أكل مال اليتيم ظلما، أكل النجس و المتنجس، الأكل على مائدة يشرب عليها الخمر (قال (ره) آخر كتاب الأطعمة في الشرائع)، أكل الطين، أكل المال بالباطل، أكل الربا، التزام الأجنبية و مصافحتها، الأمن من مكر اللّه تعالى و عذابه، الامارة الباطلة، آمين بعد الفاتحة، الانتفاء من النسب (قال (ره) في نكاح الوسائل)، الانتحار و قتل النفس، الإنفاق من الخبيث، إنكار الحق و ما أنزل اللّه تعالى، إنكار ضروري الدين و المذهب، إنكار المعروف و الحق، إهانة المحترم، إهانة المؤمن،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 241

إيذاء المؤمن، إيذاء رسول اللّه (ص) (قال (ره) في سورة التوبة).

(حرف الباء)

البخس في الكيل و الوزن

و غيرهما، البخل، البدعة، بذاءة اللسان، بطر المعيشة، البغي، البغاء، البغض، بيع آلات اللهو و الهياكل المحرمة، بيع أم الولد، بيع الجارية المغنية لغناءها، بيع السلاح لأعداء الدين، بيع الخمر أو المسكرات، بيع المصحف، بيع الدراهم المغشوشة، بيع الوقف، البيع لغاية محرمة، بيع الأعيان النجسة، البيع وقت النداء في يوم الجمعة، البهتان.

(حرف التاء)

تأخير الحج عن عام الوجوب، تبرج الجاهلية، تبديل الوصية، التبختر، التبذير، التثويب، تثليث الغسلات، تحقير المؤمن، تحريم الحلال، تحليل الحرام، تحمل الضرر، تحريم الطيبات، التحريش بين البهائم (قال (ره) في التذكرة في السبق و الرماية)، تختم الرجال بالذهب، التخنث، التخصر في الصلاة، التخلي في جملة من المواضع و جملة من الأحوال. تختم المحرم للزينة، التدليس و منه تدليس الماشطة المرأة التي يراد تزويجها و الجارية التي يراد بيعها، التداوي بالمحرم مع المندوح عنه، ترك الأمر بالمعروف، ترك الواجبات و منها ترك الصلاة الواجبة و الحج الواجب، ترك معاونة المظلوم مع القدرة، ترك معونة المؤمن، ترك وطئ الزوجة أكثر من أربعة أشهر، ترك جميع المستحبات، ترك رد التحية، ترك سجود التلاوة، الترجيع في الأذان، التزوج بالأمة على الحرة، التزوج ببنت أخ الزوجة أو أختها بدون إذنها، التزوير، تزين الشخص بما يحرم عليه، التسليم على الكافر، التسخير، تسمية إمام العصر (ع)، التسميع، التسمية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 242

بأمير المؤمنين لغير أمير المؤمنين، التشريح، التشريع، تشبه المرأة بالرجل و بالعكس، التشبيب بالمرأة المعروفة المعينة، التصرية، التصعير، تصوير ذوات الأرواح، التصفيق، التصدية، التصوف، التضليل، التطفيف، التطفل، تطيب المرأة لغير زوجها، التظاهر بالمعاصي، تظليل المحرم سائرا، التعرب بعد الهجرة، التعذيب بالنار، التعصب لغير الحق، تعير المؤمن، تعشر المصاحف، التغوط في بعض المواضع، تغطية المحرم

رأسه، تغطية المحرمة وجهها، تقبيل الغلام بشهوة، تقليد الأموات، التقليد في أصول الدين، التقصير، تقصير المحرم شعره أو أظافره، التكبر، التكذيب بالآيات، تكذيب الرسل، التكسب بما يجب فعله عينا، التكسب بما يحرم فعله، التمسك بعصم الكوافر، التكفير، التمكك على الغريم، التمثيل و لو بالكلب العقور، التنابز بالألقاب، التنجيم، التنكيل، تهمة البري ء، التهاون بالواجب، تلقين الخصم ما يضر به خصمه، التجسس التحسس.

(حرف الثاء)

ثلب المؤمن، الثناء بغير الحق، الثنيا، الثرثرة، الثورة.

(حرف الجيم)

الجدال على المحرم و المعتكف، جز المرأة شعرها، الجزع، الجفر، الجلد الجلوس على مائدة الخمر، الجمع بين الأختين، جماع الحائض، الجنف، جوائز الظالم، الجور في الأحكام.

(حرف الحاء)

حب بقاء الظالم لظلمة، حب الدنيا الباطلة، حب الرئاسة الباطلة، حبس الحقوق الواجبة، حب شياع الفاحشة، حب الجاه، الحرص، الحسد، حفظ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 243

كتب الضلال لغير الرد عليها، الحقد، الحكم بغير ما أنزل اللّه، الحكم بالآراء و المقاييس، حلق اللحا، حلق المحرم رأسه، حلق المرأة رأسها في المصاب، الحلف كاذبا، الحلف بالبراءة، الحنث، الحيف، الحيلة.

(حرف الخاء)

الخب، الخديعة، خذلان الحق و المحق، الخرص، خصاء الإنسان و الحيوان، الخصومة، الخضخضة، الخطاب بإمرة المؤمنين لغير أمير المؤمنين، الخلوة بالأجنبية (قال (ره) في الوسائل مقدمات النكاح أقول و في المسالك في الطلاق الرجعي و مسكنها)، الخيانة، الخيلاء، الخلاط، الخلسة. (أقول):

و خلف الوعد راجع مرآة العقول في خلف الوعد.

(حرف الدال)

دخول البيوت بلا إذن، دخول المجنب و الحائض أحد المسجدين، الدخول بالمرأة قبل التسع، الدس في الأخبار، الدسيسة، الدعوة في النسب، الدعارة، الدياثة (قال (ره) في نكاح الوسائل).

(حرف الذال)

ذم من لا يستحق الذم أو يستحق المدح، ذكر المؤمن بما يكره، ذبح المحرم الصيد.

(حرف الراء)

الربا، الردة، الرد على العلماء، الرشوة، الرضا بالظلم، الروغ، الرفث في الحج، الرقص، الركون الى الظالمين، الرمل، الرياء، رطانة الأعاجم في المساجد، في باب أحكام المساجد في الوسائل محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي عبد اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 244

جعفر بن محمد (ع) قال نهى رسول اللّه (ص) عن رطانة الأعاجم في المساجد و رواه عنه الشيخ في التهذيب.

(حرف الزاء)

الزجر، زخرفة المساجد و نقشها، زكاة غير الهاشمي على الهاشمي، الزفن، الزنا، الزندقة، الزور، الزمر، الزمارة، الزيغ.

(حرف السين)

السب، السجود لغير اللّه تعالى، السحر، السحاق، المساحقة، السخرية بالناس، سد باب الاجتهاد في الأحكام، السفاح، السفور، السعي بالفساد، السعاية، السرقة، السكر، السلب، سلوك ما فيه العطب، السمسرة المحرمة، السمعة، سوء الظن، السؤال من غير حاجة، سوء الخلق، السيمياء.

(حرف الشين)

الشتم، الشح المطاع، شراء المصحف الشريف، شرب المسكر، شرب النجس، الشرك، شرب الدواء لإسقاط الجنين، الشرطية للظلمة، الشطارة، الشطط، الشعبذة، الشعر الباطل، الشغب، الشغار، الشقاوة، شق عصى المسلمين، الشقاق، شق الثوب في المصاب، الشك، الشماتة بالمؤمن، الشهادة بغير علم، شهادة الزور، الشهرة.

(حرف الصاد)

صحبة الظالم، الصد عن المسجد الحرام و. و. الصد عن سبيل اللّه، الصفير، الصلب أكثر من ثلاثة أيام و بغير ما يبيحه، صلح أحل حراما أو حرم حلالا، الصلوات المبتدعة كالضحى و التراويح و خلف الفاسق و صلاة الغائب،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 245

صوم الوصال، صوم العيدين، صوم يوم الشك بنية انه من رمضان، الصوم في السفر، صياغة أواني الذهب و الفضة، الصيد لهوا، صيد الحرم و المحرم.

(حرف الضاد)

ضربة الغواص، ضرب اليتيم لغير صلاحه، ضرب النساء بأرجلهن، ضرب الدابة على وجهها، الضرر و الضرار، الضلال.

(حرف الطاء)

الطبالة، الطعن، الطغيان، طلب الرئاسة الباطلة، الطلاق البدعي، التطيب للمحرم.

(حرف الظاء)

الظلم، الظهار، ظاهر الإثم، ظن السوء.

(حرف العين)

العار، العتو، العجب، عداوة المؤمن، العرافة، العزف، العزل عن الحرة في الجماع، العسس، العسف، العشق، عصيان من تجب طاعته، العضل، عقر الحيوان، عقص الشعر في الصلاة، عقد النكاح في الإحرام، العقوق (قال (ره) في نكاح الوسائل) العلو في الأرض، العهر، العيافة.

(حرف الغين)

الغرور، غبن المسترسل، الغدر، الغش، الغصب، الغلو، الغل، الغلوطات، الغلول، غمط الحقوق، الغناء، الغواية، الغيبة، الغيلة، الغموس.

(حرف الفاء)

الفال، الفتنة، الفتوى بالباطل و بغير العلم، الفجور، الفحش، الفحشاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 246

الفخر، الفرك، الفارك، الفرار من الزحف، الفرية، الفراسة، الفسق و الفسوق الفساد.

(حرف القاف)

قتل المحرم الصيد، قتل النفس المحترمة، قتل الهرة، قتل البهائم إلا كلب الهراش، القتال في الأشهر الحرم، القتاتة، القت. قتال أهل الحق. قتل الإنسان نفسه، قتل المحرم هوام الجسد، القدح في المؤمن، القذف، قذف المحصنات، قراءة الجنب و الحائض شيئا من العزائم، قراءة سورة من العزائم في الفرائض (قال (ره) في الجزء الأول من الوسائل في القراءة) قراءة سورة يفوت وقت الصلاة بقراءتها، قرض يجر نفعا، القصاصة، القصف، القضاء من غير أهله، قطيعة الرحم، قطع شجر الحرم، قطع الفريضة، القمار، القنوط، قول الزور، قول علم اللّه في أمر باطل، قول لا و اللّه و بلى و اللّه للمحرم قراءة آمين بعد الفاتحة في الصلاة، القهقهة في الصلاة، القيافة، القيادة، القياس.

(حرف الكاف)

الكبر، كتمان العلم، كتمان الشهادة، الكتابة بغير الأحرف العربية، الكذب، كشف عورة المؤمن، الكفر، كفران النعم، الكلام في ذات اللّه تعالى، الكلام في الصلاة، كلام المرأة للأجنبي بلا ضرورة، كون الإنسان ممن يتقى شره، الكهانة، الكيمياء، الكيد.

(حرف اللام)

لباس الشهرة و الجندي و الكفار، لبس الحرير و الذهب للرجال، لبس خواتيم الذهب، لبس المخيط للمحرم، لبس السلاح في الإحرام، لبس ما يستر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 247

القدم في الإحرام، لبس المرأة الحلي للزينة في الإحرام، لبس المرأة لباس الرجل و بالعكس، لعن من لا يستحق، اللعب، اللغو، اللصوصية، اللطم، لقطة الحرم، اللمز، اللواط، اللهو.

(حرف الميم)

مجالسة أهل البدع، المثلة، المحاربة لأولياء اللّه (قال (ره) تذكر في الحدود) المحاكاة، مخالطة العصاة و مجالستهم، المخامرة، مدح من لا يستحق المدح أو يستحق الذم، المداهنة، المراء، مراودة الأجنبية، مس المحدث كتابة القرآن أو أسماء اللّه تعالى، مصاحبة الكذاب، معونة الظالمين، مقاربة الحائض و النفساء، المكاء، المكر، منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه، المشي في الأرض مرحا، المجازفة، المن (قال (ره) في الوسائل آخر الزكاة).

(حرف النون)

نبش الأموات، نتف الشعر في المصاب، النجش، النزغ، نسخ كتب الضلال، النسي ء، النشوز، النظرة بعد النظرة، النظر إلى العورة، نظر المحرم في المرآة، نفي النسب الصحيح، نقض العهد و الوصية، نكث العهود، نكث الصفقة، النكر، نكاح المشركات، نكاح البهائم (قال (ره) في الوسائل حدود) النكاح في الإحرام، النميمة، النوح بالباطل، نهر اليتيم، النهب، النهي عن المعروف، نية السوء، النيزرجيات.

(حرف الواو)

الوأد، وطي البهائم، وطي الزوجة بعد موتها، وطي الأموات (قال (ره) في حدود الوسائل) وطي المحارم، وطي الحائض و النفساء، ولاية الجائر، الوشاية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 248

(حرف الهاء)

هتك المؤمن، هتك الحرم بالصيد و نحوه، هجر كتاب اللّه، الهجر، هجاء المؤمن، الهذر، الهزء. الهمز. الهوى اتباعه.

(حرف الياء)

اليانصيب. اليمين الغموس (قال (ره) في المسالك آخر كتاب الايمان عند قول المحقق: و تتحقق الكراهة في الغموس). اليمين الكاذبة. يمين الصبر اليأس من روح اللّه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 249

القسم الثاني في الأعيان المحرمة
اشارة

قال (ره) و هي التي تعلق التحريم بذواتها و أعيانها و ورد النهي عنها بأنفسها في الكتاب أو في السنة أو في كتب فقهاء الإسلام، و الظاهر كما هو المشهور انه لا إجمال في التحريم المتعلق بالأعيان و ان المقصود به تحريم الفعل المقصود من تلك الأعيان كالأكل في حرم عليكم لحم الخنزير و نذكر أمور هذا المقصد في فصول.

فصل في المحرمات على الرجل

الأخت النسبية و الرضاعية، الام النسبية و الرضاعية، أمهات نسائكم، أم المزني بها و بنتها على الزاني، أم المدخول بها شبهة، البنات، بنات الأخ، بنات الأخت، حلائل الأبناء، الخالات الربائب، العمات.

فصل في المحرم من الحيوان

ابن أوى، ابن عرس، أرنب، أسد، الانقليس و هو المارماهي، بأشق باز، ببغاء، بحيرة، بنات وردان، البراغيث، البرغوث، البعوض، البق، البوم، تمساح، ثعلب، ثعبان، جرّي، جريث، جلال، جرذ، حرذون، حرباء، حشار، حيات، الحيوان الموطوء، خبائث، خفاش، خز، خنافس،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 250

خنزير، خلد، الدب، الدبا، الدود، ذئب، ذباب، ذبيحة أهل الكتاب، الربيثا، الرخمة، الرفش، الرق، الزنابير، الزمير، الزرافة، الزاغ، الزهر، سام أبرص، السائبة، السباع، السرطان، السلحفاة، السلابيح، السمندل، السمور، السنجاب، السنونو، الشاهين، الصقر، الصراصر، الصلور (الجري)، ضبع، ضفدع، ضب، طاوس، الطافي، الظليم، العقرب، العظاية، العقاب، العقعق، العلجوم، العنكبوت، العلق، الغراب، الفار، الفقمة، فرس المائة، الفيل، الفهد، القرد القراد، القط، القمل، القنفذ، كركدن، كلب البحر، كل حيوان لا فلس له، الكنفر، الكوسج، اللبوة لبن الحيوان المحرم، اللقلق، اللحكة، المارماهي، ما أكل السبع، ما ذبح على النصب، ما أهل به لغير اللّه، المتردية، المسوخ، الموقوذة، المنخنقة، الميتة، ما لا قشر له من حيوان الماء، ما كان ذا مخلاب من الطير، ما كان صفيفه أكثر من دفيفه، ما ليس له قانصة و لا حوصلة، المجثمة (خزانة الأدب ج 1 ص 61)، المصبورة، النحل، النسر، النسناس، النطيحة، النمل، النمر، النعامة، النيص، الدلدل، الوزغ، الورل، الوطواط، الوصيلة، الوبر، الهدهد، الهرة، اليربوع، اليعسوب.

فصل في المحرمات من الذبيحة

الأنثيان و هما البيضتان، الحدق، خرزة الدماغ، الدم، ذات الأشاجع الطحال، العلباء، الغدد، الفرث و هو الروث، الفرج، القضيب و هو الذكر، المثانة، المرارة، المشيمة، النخاع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 251

فصل في المحرمات من أمور شتى

الإثم (ترتب الإثم)، الأعيان النجسة، الأفيون، البتع، الترياق أو الدرياق، جوائز الظلمة (مكاسب)، الخمر، السقمونيا (شرائع) شحم الحنظل (شرائع)، الشوكران، الطعام النجس، الطين الا قدر الحمصة، العصير إذا غلا، العنبر، عسيب الفحل، الفقاع، الفضيخ، كل مسكر، الكحول، لحم الخنزير النبيذ.

إحصاء الواجبات الشرعية [و قاموس الواجبات]
اشارة

و لما كان الكلام يجر الكلام ننقل هنا أيضا ما كتبه قدس سره في هذا المقام من تعدد الواجبات الإلهية و إحصاء المطلوبات الحتمية الشرعية مع ما في ذلك من إتمام المقصود و بيان لقسم آخر من الموضوع لان ترك الواجبات من المحرمات بالمعنى الأعم و من الذنوب و الآثام بالمعنى الأخص قال نور اللّه مضجعه بعد ان عنون كلامه بقاموس الواجبات.

(حرف الهمزة)

الايمان باللّه، و الأمر بالمعروف، اطاعة اللّه و رسوله و اولي الأمر، الإنفاق على الإنسان و الحيوان، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، الإحرام للحج و العمرة، اجتناب الكبائر، الإمساك للزوجة بمعروف، إزالة النجاسة عن المحرمات، استقبال القبلة في بعض الأحوال، إزالة النجاسة عن مسجد الجبهة، اعتداد المراءة، استبراء الأمة، الإخفات في القراءة، الإدغام في القراءة، إنقاذ الغريق إطفاء الحريق، الإطعام في الكفارة، إتمام الصيام إلى الليل، الإفطار في السفر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 252

و المرض، إتمام العبادة بعد الشروع فيها، أداء ما أخذته اليد، إحراق البهيمة الموطوئة، أداء الشهادة، إظهار العالم علمه، اجتناب الكبائر، الإمساك عن المفطرات، إعلام المشتري بنجاسة الدهن، اطاعة الوالدين، الإرشاد.

(حرف الباء)

البر بالوالدين، بيع البهيمة الموطوئة، البيع بأسباب، البعد بين البئر و البالوعة.

(حرف التاء)

التعليم، التعلم، تطهير البدن للصلاة، التأديب، التربية، التوجه إلى القبلة توجيه الشخص إلى القبلة في حالة الاحتضار و غيره، تغسيل الميت، تكفين الميت، التفقه، التشهد، تعظيم شعائر اللّه، التولي، التبري، التوبة، تحمل الشهادة، التقصير في الحج، التجارة التيمم.

(حرف الثاء)

الثناء على اللّه.

(حرف الجيم)

الجهاد، الجهر في القراءة.

(حرف الحاء)

الحج، حسن الظن باللّه، الحكم بما انزل اللّه، الحجاب، حفظ الفروج الحداد، الحضانة، الحلق.

(حرف الخاء)

الختان، الخوف من اللّه، الخمار.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 253

(حرف الدال)

الدفاع، الدفن.

(حرف الذال)

الذب عن بيضة الإسلام، الذكر في الصلاة، ذبح الهدي، ذبح البهيمة الموطوئة، ذكر اللّه عند الغضب.

(حرف الراء)

الركوع، رمي الجمار، ردّ السلام، رد الامانة، رد المظالم، رد جواب الكتاب

(حرف الزاء)

الزكاة.

(حرف السين)

السعي في الحج، ستر العورة، السجود.

(حرف الشين)

شكر المنعم، الشهادة على الحق.

(حرف الصاد)

الصلاة، الصوم، الصدقة، الصبر، الصناعات.

(حرف الضاد)

ضرب الصعيد للتيمم، الضمان.

(حرف الطاء

الطهارة، الطواف.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 254

(حرف الظاء)

الظهر.

(حرف العين)

العمرة، العدة، العتق في الكفارة.

(حرف الغين)

غض البصر، غسل الوجه و اليدين للوضوء، الغسل.

(حرف الفاء)

فك الرقبة.

(حرف القاف)

قصر الصلاة في السفر، القيام للصلاة، القراءة، القسم بين النساء.

(حرف الكاف)

الكفارة، الكسب، الكسوة.

(حرف اللام)

لبث المعتكف في اليوم الثالث، لبس ثوبي الإحرام.

(حرف الميم)

المعرفة، مسح الرأس و الرجلين، المضاجعة، متابعة الإمام في الجماعة، مقدمة الواجب، الموالاة في أفعال الوضوء.

(حرف النون)

النظر الى الهلال ليلة الصيام و الفطر، النظرة إلى ميسرة، النية في العبادات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 255

نصرة المظلوم مع القدرة، النكاح لمن تتوق نفسه، الندم على الذنوب، النهى عن المنكر.

(حرف الواو)

الوفاء بالعقود و النذور، الوقوف بعرفة، الوقوف بالمشعر، الوصية للوالدين، وطي الزوجة في كل أربعة أشهر، الوضوء، الوعظ.

(حرف الهاء)

الهوي إلى الركوع، هدم بعض الركعات عند الشك، الهدي.

(حرف الياء)

اليقين باللّه. انتهى ما أردنا نقله عنه قدس سره.

عدم اعتبار اجتناب الصغائر في العدالة

(خامسها) في أن العدالة تدور مدار اجتناب الكبائر بخصوصها

كما هو ظاهر الأصحاب أو مدار اجتناب مطلق المعاصي بحيث يقدح في العدالة فعل الصغيرة و لو نادرا كما هو المحكي عن المفيد و الحلبي و الحلي و الأول هو الحق لأنه لو كان فعل الصغيرة قادحا في العدالة لزم الضيق و العسر و الحرج المنفيان عقلا و نقلا لتعذر الانفكاك عنها إلا في المعصومين أو من يقرب منهم كسلمان و أبي ذر. و للأخبار المذكورة في القول الأول في العدالة لا سيما رواية علقمة فإنها مقتضى الجمع بينها و بين غيرها هو عدم منافاة فعل الصغيرة. و هكذا أخبار القول الثالث فان حسن الظاهر و ظهور الصلاح لا ينافي فعل الصغيرة لا سيما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 256

صحيحة ابن أبي يعفور حيث عرّف فيها العدالة باجتناب الكبائر و لو كان اجتناب الصغائر معتبرا فيها لما صح التقييد بالكبائر فيها، و يؤيد ذلك ما دل على تكفير الصغائر باجتناب الكبائر فإنه يفهم منه ان الصغيرة تكون في حكم العدل و تسقط عن كونها معصية فلا يضر وجودها في العدالة. نعم يمكن أن يقال ان خروجها عن المعصية لا ينافي اضرارها بالعدالة فان منافيات المروة ليست بمعاصي و مع هذا تنافي العدالة.

(ان قلت) ان صدر صحيحة ابن أبي يعفور يدل على أن العدالة تعرف بالستر و العفاف و المرتكب للصغيرة ليس كذلك (قلنا) ان الستر و العفاف إنما جعل امارة عليها لا انه نفسها و الامارة قد يعتبر فيها مالا يعتبر في مؤداها.

(ان قلت) ان ذيلها يدل على أن العدالة تعرف بستر العيوب أجمع و بفعل الصغيرة لم

يستر عيوبه أجمع (قلنا) هذا دليل على العدالة و الدليل قد يعتبر فيه ما لا يعتبر في المدلول.

(ان قلت) ان الآية إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ تدل على اعتبار اجتناب الصغيرة في العدالة. (قلنا) لا نسلم صدق الفاسق بمجرد ارتكاب الصغيرة بل الفاسق هو ما ليس بعادل فمفهومه تابع لمفهوم العدالة ان لم يكن واسطة بينهما و الا فالأمر واضح (ان قلت) ان ما تقدم من رواية ابن ابي يعفور في شهادة النساء «ص 222» قد جعل فيها الامام (ع) ترك التبرج دليلا على العدالة مع انه ليس معدودا من الكبائر فهذه الرواية تدل على اعتبار ترك الصغيرة في العدالة. (قلنا) الذي ينظر للرواية و يتأمل في أطرافها يجدها خالية من الدلالة على ذلك لأنه (ع) جعل الدليل على العدالة فيها أمور بعضها ليست بمتعلق للتكليف ككونها من ذوي البيوتات، فالإمام (ع) بصدد جعل امارة على العدالة فمجموع تلك الأمور المذكورة التي ترجع الى حسن الظاهر تكون دليلا عليها لأنها تلازم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 257

الملكة بحسب الغالب. و قد عرفت ان ما يعتبر في الدليل لا يلزم أن يكون معتبرا في المدلول و مضافا الى أن اجتناب الصغائر يلازم اجتناب الكبائر عادة فيمكن أن يكون ترك الصغائر دليلا على العدالة. و بهذا يظهر الجواب عن الاستدلال برواية الخصال ص 224 حيث جعل فيها الامام (ع) عدم خلف الوعد من أدلة العدالة و وجه ظهور الجواب هو ان مجموع تلك الأمور تقتضي بحسب العادة وجود العدالة مضافا الى أن المذكور فيها كمال المروة و وجوب الاخوة مع العدالة فلعل عدم خلف الوعد له دخل في وجوب الاخوة و كمال المروة.

(ان قلت) ان فعل

الصغيرة تعدي عما حدده اللّه و المتعدي ظالم لقوله تعالى وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ و الظالم لا تقبل شهادته لقوله تعالى وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فان الركون مطلق الاعتماد. (قلت) نمنع كون كل تعدي ظلما، و الآية إنما تدل على صدق الظالم بالتعدي على جميع حدود اللّه تعالى. مضافا الى منع صدق الركون على مجرد قبول الشهادة.

الإصرار على الصغائر كبيرة

(سادسها) بعد ما عرفت ان المعتبر في العدالة هو اجتناب الكبائر
اشارة

فهل الإصرار على الصغائر من الكبائر أم لا؟ و هل يضر بالعدالة على التقدير الثاني أم لا؟

ظاهر الأكثر ان الإصرار ليس من الكبائر حيث يعطفون (الإصرار على الصغائر) على الكبائر في تعريف العدالة فيقولون (اجتناب الكبائر و الإصرار على الصغائر) و العطف يقتضي المغايرة و يظهر من بعض الأصحاب انه من الكبائر بل قال الأردبيلي (ره) انه لا خلاف في ذلك و استدل على ذلك بما رواه الصدوق (ره) في كتاب العيون في الصحيح عن الفضل بن شاذان عن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 258

الرضا (ع) فيما كتبه للمأمون حيث عد فيه (ع) الإصرار على الذنوب من الكبائر. (و دعوى) انها غير مذكور فيها الصغائر بل مطلق الذنوب مدفوعة (أولا) ان الشيخ الأنصاري (ره) قد ذكر فيها لفظ صغائر الذنوب. و لعله ظفر بذلك عند كتابته لهذه الرواية في رسالة العدالة و في مشارق الاحكام للنراقى ان ذلك في بعض النسخ و (ثانيا) ان الذنوب فيها عامة لأنه جمع محلى باللازم فتعم الصغائر و (ثالثا) انه لا بد أن يراد منها الصغائر لأنه لا وجه لعد الإصرار على الكبائر من الكبائر فإن فعل الكبيرة من الكبائر فبالأولى الإصرار عليها اللهم إلا أن يقال انه لا منافاة

بين أن تكون المعصية كبيرة و الإصرار عليها كبيرة أخرى بواسطة انطباق عنوان آخر عليه كالأمن من مكر اللّه. و استدل بما روي عنهم (ع) من أنه لا صغيرة مع الإصرار و لا كبيرة مع الاستغفار بدعوى ظهور كلمة (لا) في نفي الجنس و بما روي عنهم (ع) «الإصرار على الذنب أمن من مكر اللّه» بضميمة ما روي من أن الأمن من مكر اللّه من الكبائر. و بما في قوله (ع) في معتبرة أبي بصير لا و اللّه لا يقبل شيئا من طاعته على الإصرار على شي ء من معاصيه (و يمكن أن يقال) انه ليس من الكبائر و ذلك لعدم وجود ملاك الكبيرة فيه و هو وعد اللّه عليه بالعقاب في كتابه المجيد فلا بد من تأويل ما ذكر بالحمل على أن حكمها حكم الكبيرة في الآثار كاخلالها بالعدالة و عظمة العقاب و نحو ذلك إلا إذا قام الدليل على استثناء بعض الآثار. و أيضا يمكن أن يستدل على انه ليس من الكبائر بما يدل على أن الإصرار على الصغائر يكفر باجتناب الكبائر كظاهر قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ.

و كقوله (ص): من اجتنب الكبائر غفر اللّه جميع ذنوبه حيث دلّا على أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير السيئات و غفران الذنوب و ان بلغت حد الإصرار فيفهم أن الإصرار ليس من الكبائر التي نهينا عنها. و برواية الأعمش

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 259

عن الصادق (ع) فإنها فيها «الكبائر محرمة و هي الشرك باللّه و قتل النفس» و في آخرها «و الملاهي التي تصد عن ذكر اللّه مكروهة كالغناء و ضرب الأوتار و الإصرار على صغائر الذنوب»

فإنه (ع) لم يعده من الكبائر (و كيف كان) فالإصرار على الصغائر مضر بالعدالة لأنه اما أن يكون من الكبائر حقيقة أو من الصغائر التي في حكم الكبائر و يرتب عليها آثار الكبائر (ثمَّ لا يخفى) ان المشهور فيما بين القائلين بأن الإصرار على الصغائر كبيرة أن الكبيرة هو نفس الإصرار لا ان الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار فالعقاب يترتب على نفس الإصرار.

معنى الإصرار على الصغائر

(بقي شي ء) و هو انه وقع الخلاف في معنى الإصرار على الصغائر في انه هو الإكثار من فعل الصغيرة كحلق اللحية على القول بحرمته أو فعلها مع العزم على المعاودة عليها و ان لم يداوم عليها أو فعلها مع عدم التوبة منها و إن لم يعزم على المعاودة عليها، ثمَّ على القول بأنه الإكثار من فعل الصغيرة فهل هو الإكثار من نوع واحد منها أو الإكثار و لو من أنواع متعددة منها كأن يحلق لحيته و ينظر للأجنبية و يخلو بها و يمسها (التحقيق) ان معناه هو فعل الشي ء مع العزم على فعله مرة أخرى. و تكرر الفعل منه إنما يسمى إصرارا بهذا الاعتبار لوجود العزم منه على الفعل بعد وقوعه منه. و الدليل على ذلك هو ان المتبادر من الإصرار هو هذا المعنى لغة و عرفا فتحمل الأخبار الواردة في الإصرار على الصغائر على هذا المعنى مضافا إلى نقل بعضهم إجماع الإمامية على ان المراد بالإصرار هو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 260

(ان قلت) انه قد روي عن جابر عن الباقر (ع) في تفسير قوله تعالى:

وَ لَمْ يُصِرُّوا من أن الإصرار هو أن يذنب و لا يستغفر و هي حجة في هذا الباب. (قلنا) الرواية ضعيفة لا جابر لها

مضافا الى أنه من المحتمل كون ذلك كناية على العزم على العمل مضافا الى أنه من المحتمل انها تفسير للإصرار في هذا المورد الخاص و لا يلزم من ذلك كون معنى الإصرار مطلقا هو ذلك نظير ذلك ما روى عنهم (ع) في قوله تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ من أن الباء فيه للتبعيض فإنه لا يقتضي كون الباء مطلقا ظاهرة في التبعيض و لو سلمنا بأن الأخبار تدل على (ان من أذنب ذنبا و لم يندم عليه كان مصرا) و لم نجعل عدم الندم كناية عن العزم. فهي انما تقتضي ثبوت حكم الإصرار في هذه الصورة بمعنى تنزيل عدم الندم منزلة الإصرار لما عرفت من ان معنى الإصرار لغة و عرفا هو فعل الشي ء مع العزم على إتيانه لا فعله مع عدم التوبة و عدم الندم فهذا نظير ان يقال الزبيب تمر و الإكثار من المدح ذم و نحو ذلك في كل مورد ألحق بطبيعة اخرى تنزيلا. هذا و قد حكي عن التحرير للعلامة (ره) الإجماع على ان الإكثار من أنواع الذنوب المختلفة و لو مع عدم المداومة على نوع منها من غير توبة قادح في العدالة و على هذا فلا ثمرة في تحقيق كونه داخلا في الإصرار أم لا

المعاصي المعتبر الاجتناب عنها ما كان معصية عنده

(سابعها) هل المعاصي التي يعتبر الاجتناب عنها في العدالة ما كان معصية بحسب ضرورة الدين

أو ما كان معصية عند المرتكب أو ما كان في نفسه معصية و تظهر الثمرة فيما لو كانت عند المرتكب ليست بمعصية و عند الغير معصية فهل يحكم الغير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 261

بفسقه أم لا. الظاهر انه ما كان يستحق العقاب عليه من المعاصي في نظر المرتكب فلو كان مجتهده ادعى نظره الى

جواز استعمال بعض الأشياء و قد ارتكبها لا يجوز تفسيقه كما انه يفسق لو ارتكب ما هو كبيرة يستحق عليها العقاب في نظره و ذلك لان الظاهر من الأدلة المتقدمة في العدالة هو توجه النهي الفعلي اليه، و الذي لم تقم الحجة عنده على ان هذا العمل معصية لم يتوجه النهي الفعلي اليه.

(ان قلت) على هذا يكون غير الإمامي إذا عمل بمذهبه عادلا (قلنا) حيث انه قد قصر في معرفة الحق فالنهي الفعلي متوجه اليه و لذا يستحق العقاب.

(و الحاصل) ان الميزان هو ما استحق العقاب عليه من المعاصي و ان لم يكن معصية عنده كما لو كان جاهلا مقصرا أو ما كان معصية عنده و ان لم تكن معصية في الواقع لمنافاته للملكة.

(ان قلت) على هذا يكون المرتكب لما يعتقد أنه كبيرة مع انها ليس بكبيرة في الواقع فاسقا و غير عادل مع انه مجتنب للكبائر في الواقع و المجتنب للكبائر بمقتضى صحيحة ابن أبى يعفور عادل ليس بفاسق.

(قلنا) انه فاسق و ليس بعادل لأن ذلك هو مقتضى الروايات الناطقة بكونه من أهل الصلاح و كون ظاهره ظاهرا مأمونا و كونه معروفا بالستر و العفاف و كونه صائنا لنفسه و كونه صالحا و كونه خيرا فان هذه العناوين لا تصدق على شخص يقدم على العمل الذي هو كبيرة عنده. و أما صحيحة ابن أبي يعفور فهي غير دالة على ذلك فان مقتضى جعل اجتناب الكبائر معرّفا للعدالة الباطنية هو أن تكون الكبائر التي في نظره أنها كبائر قد وعد اللّه تعالى عليها بالنار فان اجتناب ذلك هو الكاشف عن العدالة و الملكة المذكورة و المعرّف لها لا اجتناب الكبائر مع عدم علمه بأنها كبيرة.

النور

الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 262

اعتبار المروة في العدالة

(ثامنها) ذهب جملة من المتأخرين إلى اعتبار المروة في العدالة
اشارة

كما هو المحكي عن المحقق البهبهاني في شرحه للمفاتيح. و عن الشيخ في المبسوط و الحلي و الفاضل في كتبه في الفروع و الأصول و الشهيد الأول و المحقق الثاني و صاحب المعالم و عن البحار و الرياض انه المشهور و عن الذخيرة و المدارك نسبته إلى المتأخرين و حكي إنكاره عن آخرين كالشيخ المفيد (ره) و الشيخ في العدة و صاحب الرياض و الفاضل الأردبيلي (ره) و السيد في المدارك و اليه ذهب المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني و حكي عن المحقق في الشرائع و العلامة في الإرشاد انهما لم يذكرا اعتبار المروة في العدالة و انه لم يجد اعتبارها في كلام من تقدم على العلامة و إنما هو مذكور في كتب العامة و تبعهم العلامة (ره) على ذلك و تبعه جماعة ممن تأخر عنه و بعضهم فصل بين الشهادات و بين غيرها فاعتبرها في الشهادات دون غيرها.

(و مرادهم بالمروة)

التي هي محل البحث كما فسرها جلهم به هو اتباع محاسن العادات و اجتناب ما ينفر عنه من المباحات و يؤذن بخسة النفس (و بعبارة أخرى) ان المراد بالمروة هو تخلق الشخص بخلق الأمثال و الأقران بمقتضى العبادة فمن خلاف المروة لبس الفقيه لبس الجندي و البول في الشوارع أمام الناس و نحو ذلك مما يكشف عن دناءة الطبع و عدم المبالاة و يختلف ذلك باختلاف الأمكنة و الأزمنة و الحالات فهي عبارة عن الاستقامة بحسب الموازين العرفية و لا ينافي ذلك ما روي عن أمير المؤمنين (ع) من أن المروة إصلاح المعيشة و في الخبر عنهم (ع) انها استثمار المال و في آخر أن يضع الرجل خوانه في داره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2،

ص: 263

و غير ذلك من الاخبار فإنها غير مقصودة للفقهاء من لفظ المروة الذي أخذوه في تعريف العدالة لتصريحهم بذلك مضافا الى أن تلك الأخبار لا بد من حملها على التنزيل أو بيان مصاديق المروة الخفية لكون المروة معناها و حقيقتها هو الاستقامة بحسب الموازين العرفية كما هو الواضح. و قد عرفت ان الاستقامة معتبرة في العدالة ص 216 عرفا و شرعا فتكون المروة معتبرة فيها.

(و كيف كان) فقد استدل على اعتبار المروة في العدالة بوجوه أخرى:

(أحدها) ان المعظم قد ذهب الى اعتبارها فيها و هو يفيد الظن و الظن حجة في تشخيص معاني الألفاظ و لذا قيل بحجية قول اللغوي (و جوابه) انه معارض بذهاب آخرين الى عدم الاعتبار، مضافا الى عدم حجية الظن المذكور و لذا يرجعون الى علامات الحقيقة لا الى قولهم. و لو قلنا بحجية قول اللغوي فالمذكورون ليس من علماء اللغة و لعلهم اعتبروها في العدالة لوجوه فاسدة.

(ثانيها) ان من لا مروة له لا ثقة به فلا يجوز الاستفتاء منه (و جوابه) انه يحصل الوثوق به مما عنده من ملكة اجتناب الكبائر الموجبة لاجتنابه الفتوى بدون اجتهاد أو الفتوى بخلاف ما أدى اليه رأيه لأن ذلك من أعظم الكبائر (ثالثها) بما في صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222 من قوله (ع) أن يعرفوه بالستر و العفاف و كف البطن و الفرج و اليد و اللسان حيث تدل هذه الفقرة على وجود حالة عفة في النفس بها يقدر الشخص على التحفظ عن القبائح مطلقا الشرعية أو العرفية دون خصوص القبائح الشرعية لوجود الإطلاق. بل لعل من عطف اجتناب الكبائر يستفاد ان المراد منها هو الستر و العفاف عن القبائح العرفية الذي هو عبارة عن المروة، مضافا إلى ان ارتكاب

خلاف المروة عيب لم يستر و كل عيب لم يستر فهو مضر بالعدالة. أما الصغرى فبالعرف.

و اما الكبرى فلقوله (ع): «و الدليل على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه»

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 264

الشامل للعيوب الشرعية و العرفية لكونه جمعا محلى باللام و هكذا قوله (ع) السابق «أن يعرفوه بالستر» (سلمنا) انه ليس بعيب إلا أنه كاشف عن عدم كونه ساترا لعيوبه و قد دلت الرواية على اشتراط ستر العيوب (و جوابه) ان المذكور في الرواية كاشف عن العدالة فهو لا يدل على اعتبار ذلك في العدالة إذ المكشوف قد يوجد بدون الكاشف. و لم يكن الظاهر من سؤال السائل و لا من جواب الامام (ع) حصر الكواشف عن العدالة.

(إن قلت) لو لم يكن ترك منافيات المروة داخل في العدالة لاقتصر الامام (ع) على جعل الكاشف اجتناب الكبائر فإنه طريق أسهل (قلنا) لا نسلم أسهلية ذلك فان اجتناب الكبائر ليس بالسهل الاطلاع عليه بخلاف ترك منافيات المروة فإنه من السهل الاطلاع عليها لابسط الناس.

(رابعها) ما روي عن الكاظم (ع) في حديث هشام من أن من لا مروة له لا دين له و من لا عقل له لا مروة له، فإنه لا ريب ان من لا مروة له ليس بخارج عن الدين، فلا بد من حمل الرواية على نفى الكمال الحاصل بالعدالة لأنه أقرب المجازات الممكنة. (و جوابه) مضافا الى ضعف الرواية انا لا نسلم ذلك فان المراد منها الحض و الحث على المروة.

(خامسها) ما روي عنهم (ع) من أن من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له و عن أبي عبد اللّه (ع): لا ايمان لمن لا حياء له. و روي عن

الصادق (ع) من لم يبالي ما قال و ما قيل فيه فهو شرك الشيطان. و غيرها من الأخبار الواردة في هذا المضمون فان عدم المبالاة و عدم الحياء عبارة عن عدم المروة أو ملازم له فاذا كان يجوز الغيبة معه فالمروة معتبر في العدالة لأن العادل لا تجوز غيبته (و جوابه) ان العادل إذا تجاهر بشي ء جازت غيبته فيجوز أن يكون عادلا و لكنه لما ارتكب خلاف المروة بفعل شي ء غير مستحي من الناس جاز غيبته في ذلك الشي ء لتجاهره به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 265

و اما رواية «لا ايمان لمن لا حياء له» و ما بعدها فهي نظير «لا دين لمن لا مروة له».

و استدل النافون لاعتبار المروة في العدالة بوجوه:

(أحدها) عدم ورود نص صريح أو مؤذن باعتبار المروة في العدالة فعدم الدليل دليل العدم. (و جوابه) انك قد عرفت ان المروة معتبرة في حقيقة العدالة ص 216.

(ثانيها) انه قد نقل ان النبي (ص) كان يركب الحمار عاريا و يأكل الطعام ماشيا. (و دعوى) عدم كون شي ء منها منافيا للمروة (مدفوعة) بقوله تعالى حكاية عنهم مٰا لِهٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْوٰاقِ (و جوابه) انا لا نسلم صدور ذلك منه بنحو ينافي المروة و حاشاه صلوات اللّه عليه أن يرتكب ذلك، و قولهم ذلك لتخيلهم ان الرسول يجب أن يكون حكمه حكم الملائكة في عدم اتصافه بصفات الإنسانية.

(ثالثها) ان ارتكاب الصغيرة مع كونها من المعاصي غير مناف للعدالة إلا مع الإصرار عليه فارتكاب خلاف المروة أيضا كذلك بالأولوية (و جوابه) ان الأولوية لا تتم عند من يقول بأن خلاف المروة من المعاصي و عند غيره لا اعتبار لهذه الأولوية لقيام الدليل عنده على أخذ

المروة في العدالة كما عرفت.

(رابعها) ان مرتكب خلاف المروة إذا لم يكن عادلا فيقتضي أن يكون فاسقا مع انه لا يسمى فاسقا بمجرد ذلك. (و جوابه) ان الفاسق ان كان غير العادل فلا نعبأ عن تسميته بالفاسق. و ان كان معناه مرتكب الذنب فلا نسميه بالفاسق و نلتزم بالواسطة بين العدالة و الفسق.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 266

ترك المندوبات لا يقدح بالعدالة

(تاسعها) حكي عن جماعة من الأصحاب بأن ترك المندوبات أو فعل المكروهات لا يقدح بالعدالة

إلا إذا بلغ حدا يؤذن بالتهاون بالدين و قلة المبالات بكمالات شريعة سيد المرسلين فيقدح بالعدالة كما عن صريح الشرائع و الدروس و الروضة و مثل له بعضهم بما إذا التزم بترك المندوبات بأجمعها أو فعل المكروهات بأجمعها. و يحكى عن الشهيد الثاني (ره) انه قال لو ترك صنفا منها كالجماعة و النافلة و نحو ذلك فهو نظير ترك الجميع للاشتراك في العلة المقتضية لذلك و لو تركها أحيانا لم يضر و قد استدل على ذلك بعض المتأخرين بأن ترك المستحبات و فعل المكروهات مخالفة للمروة عند من اعتبرها لما في ذلك من الخروج عن العادات المستحسنة شرعا و عرفا (و لا يخفى ما فيه) فان الكلام في اعتبار ذلك من حيث هو لا باعتبار انطباق عنوان آخر عليه و إلا فالمتبع هو ذلك العنوان. و يمكن أن يستدل له بجملة من الاخبار:

(منها) ما رواه الشيخان في الكافي و التهذيب عن حنان في الموثق حيث فيه: ان اللّه يعذب على ترك السنة و هو ظاهر في حرمة ترك المسنونات.

(و منها) ما في التهذيب في الصحيح عن أبي جعفر (ع): ان تارك الفريضة كافر و ان تارك النوافل ليس بكافر و لكنها معصية.

(و منها) ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيد فيها الصحيح

في ترك صلاة الليل لشغله بالدنيا، ان عليه القضاء و إلا لقي اللّه مستخفا متهاونا مضيعا لسنة رسوله.

(و منها) ما دل على أن ترك صلاة الجماعة مضر بالعدالة كما دلت عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 267

صحيحة ابن أبي يعفور.

(و منها) ما دل على أن ترك الصلاة في المسجد حرام (و الجواب) عن ذلك انها معارضة بما يدل على عدم الوجوب من الاخبار المرجحة عليها بأقوائية الدلالة و الإجماع فتحمل تلك على المبالغة و شدة التأكد. و يمكن أن يستدل على عدم قدح ذلك في العدالة أيضا:

(أولا) بأن الحكم بمنافاة ذلك للعدالة ان كان من جهة كونه معصية كبيرة فهو فاسد لأن مقتضى كونها مستحبة هو جواز تركها و مقتضى كونها مكروهة جواز فعلها و ان كان من جهة كونه في نفسه منافيا للعدالة كمنافاة خلاف المروة للعدالة فهو لا دليل عليه.

و (ثانيا) ان جملة من الروايات قد دلت على ان العباد إذا أتوا بما افترض عليهم لا يسئلون عما سوى ذلك.

(منها) ما رواه في الكافي عن عابد في الصحيح قال دخلت على أبي عبد اللّه و أنا أريد أن أسأله عن صلاة الليل، الى أن قال: فقال من غير أن أسأله:

إذا لقيت اللّه بالصلوات الخمس المفروضات لم يسألك عما سوى ذلك. و روى الشيخ بإسناده عن الصادق (ع) في حديث قال فيه: من أتى اللّه بما افترض عليه لم يسأله عما سوى ذلك. و روى الصدوق في العلل عن ذريح عن الصادق (ع) قال: قال رجل: يا رسول اللّه يسأل اللّه عما سوى الفريضة؟ قال: لا. الى غير ذلك من الاخبار التي يستفاد منها جواز ترك السنة. و هذه الاخبار أقوى

دلالة من التي دلت على أن ترك السنة معصية و أرجح منها بموافقتها للإجماع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 268

عدم قدح الصنائع المكروهة و الدنية في العدالة

(عاشرها) حكي عن جماعة من العامة بأن العدالة يقدح فيها الصنائع المكروهة

كالحجامة و الحياكة و الحرف الدنية ككنس الشوارع و نزح القاذورات. و ذهب جماعة من الأصحاب الى عدم قدحها لأنها أمور مباحة و الناس في حاجة إليها و لو ردت شهادتهم لم يؤمن تركها لهم فيعم الضرر كيف و هي واجبة كفاية لتوقف النظام عليها و لم يدل دليل على قدح ذلك في العدالة (و دعوى) ان ذلك يؤذن بخسة النفس و قلة المروة (فاسدة) فإنها غير مسلمة و لو سلمت في بعضها فيكون ذلك من باب اعتبار المروة في العدالة لا من جهة خصوصيتها.

توقف العدالة على الإسلام و الايمان

(الحادي عشر) يعتبر في العدالة الإسلام و الايمان

كما هو المحكي عن العلامة و صاحب المعالم في المنتقى لأن الكفر و عدم الايمان من الكبائر للتواتر من الكتاب و السنة في خلود المتصف بهما في النار. مضافا لما هو المحكي عن روايتي أبي الصامت في التهذيب و عبد الرحمن بن كثير في الفقيه من عد إنكار حقوقهم (ع) من الكبائر السبع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 269

عود العدالة بالتوبة

(الثاني عشر) قد عرفت ان العدالة تزول بارتكاب الكبيرة
اشارة

كما في ص 225 أو الإصرار على الصغيرة كما في ص 257 أو فعل ما ينافي المروة كما في ص 262 فلا وجه لمناقشة المرحوم الأصفهاني في ذلك و الظاهر انه لا خلاف بينهم في أنه بالتوبة يزول الفسق للأخبار الكثيرة كقوله (ع): التائب من الذنب كمن لا ذنب له. و لكن وقع الخلاف في عود العدالة بالتوبة و تحقيق الحال يقتضي أن يتكلم في مقامين:

(أحدهما) في ثبوت التوبة و انه هل يكفي في ثبوتها مجرد إظهار التوبة

بقوله: تبت، أو: أستغفر اللّه و أتوب اليه. أو لا بد في ثبوتها من العلم بتحقق شرائطها القلبية من الندامة على المعصية و العزم على عدم الإتيان بها في القابل بظهور آثارها في الخارج. (و بعبارة أخرى) انه لا بد في ثبوتها من انكشاف صدق التائب و ان توبته واقعية، ظاهر الشيخ في المبسوط على ما حكي عنه الاكتفاء بمجرد إظهار التوبة حيث اكتفى في قبول الشهادة بإظهار التوبة عقيب قول الحاكم له: تب أقبل شهادتك. و قد يتمسك له بما تقدم من قوله (ع): التائب عن الذنب كمن لا ذنب له. و فيه انا لا نسلم ان هذا الشخص بمجرد قوله تبت أنه تائب عن الذنب. و قد يتمسك بما روي عن علي (ع) انه أقام الحد على قاذف و بعد اقامة الحد عليه أتاه لأداء الشهادة فقال (ع) تب حتى أقبل شهادتك فتاب و قبل. و فيه مضافا لضعف الرواية انها قضية في واقعة، و قد برهن في مقامه ان قضايا الأحوال إذا تطرق إليها الاحتمال لبست ثوب الاجمال. و قد يتمسك بقاعدة الصحة و هي حمل فعل المسلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 270

على الصحة. و أجيب عن ذلك بأنه لا يكتفى به

في مثل المقام إذ هي من باب بناء العقلاء و العقلاء لم يبنوا على ذلك و إلا لا كتفي في الشاهد بقوله: أنا عادل و لم نجد من صرح بذلك. و ذهب الى الثاني جملة من المتأخرين كصاحب مشارق الاحكام و الضوابط و يمكن أن يستدل لهم بأن التوبة متقومة بالندامة و العزم القلبيين و هما من الموضوعات الخارجية فلا يثبتان إلا بالعلم أو بالطريق الذي اعتبره الشارع و اعتراف المذنب لا دليل على حجيته في ذلك.

(المقام الثاني) في أنه بعد ثبوت التوبة و تحققها و كون الشخص نقطع بتحقق التوبة منه فهل تعود له العدالة

و يكون عادلا بمجرد ذلك أو لا بد له من الاستمرار و المواظبة مدة من الزمن على ترك المحرمات و فعل الواجبات ذهب جماعة إلى الأول. و ادعى غير واحد من أنه لا خلاف في عود العدالة بالتوبة إذا كانت العدالة قد زالت بفعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة أو ما ينافي المروة بل عن مجمع الفائدة انه لا يبعد أن يكون إجماعيا و يدل عليه المعتبرة المستفيضة المصرحة بقبول شهادة القاذف و السارق و المحدود بعد التوبة و رواية السكوني عن الصادق (ع) ان أمير المؤمنين شهد عنده رجل و قد قطعت يده و رجله بشهادة فأجاز شهادته و قد كان تاب و عرفت توبته و يتم المطلوب بعدم القول بالفصل. و في المحكي عن الأردبيلي انه يمكن التعميم بتنقيح المناط. و ذهب الى الثاني جماعة و قال بعضهم لا بد من إصلاح العمل بعد إظهار التوبة بفعل الواجبات و ترك المحرمات و رفع اليد عن الأعمال السيئة و قيل و لو بمجرد ذكر أو تسبيح لقوله تعالى وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ

أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا و يشهد لذلك رواية قاسم بن سليمان قال سألت أبا عبد اللّه عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدا ثمَّ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 271

يتوب و لا يعلم منه الا خيرا أ يجوز شهادته؟ فقال: نعم، ما يقال عندكم؟ قلت يقولون توبته فيما بينه و بين اللّه لا تقبل شهادته، قال: بئسما قالوا كان أبي يقول إذا تاب و لم يعلم منه الا خيرا جازت شهادته. فهذه الآية الشريفة مع هذه الرواية أيضا في الشهادة فتقيد تلك المستفيضة مع رواية السكوني بصورة الصلاح في خصوص الشهادة و فيما عدا الشهادة لا بد لمن يعتبر الملكة في العدالة أن لا يكتفى في عود العدالة بالتوبة إلا مع المداومة على الصلاح و الاختبار مدة يعلم بإصلاح سريرته و عود الملكة له و هكذا من اعتبر حسن الظاهر الا أن يقال أن بالتوبة يحسن الظاهر. و كيف كان فالحق ان مقتضى الأدلة ان العادل إذا صدر منه ما ينافي العدالة ففي الشهادة يكفي صدور التوبة منه مع الإصلاح للأدلة المتقدمة و القول بعدم الفصل غير مسلم و التعميم من جهة تنقيح المناط غير تام، و اما فيما عدى ذلك من التقليد و نحوه فلا بد من إحراز تحقق العدالة بأي معنى كانت.

ما كان الفسق فيه مانعا لا يشترط فيه المروة

(الثالث عشر) قد عرفت ان ما يشترط فيه العدالة يشترط فيه المروة

و ترك منافياتها اما ما كان الفسق مانعا منه أو عدمه شرط له فهل ارتكاب منافيات المروة تمنع منه أو عدمه شرط له كما لو قلنا بأن خبر الواحد يمنع من قبوله الفسق أو عدم الفسق شرط له فهل ارتكاب منافيات المروة مانع منه

أو عدمه شرط له، الحق عدم ذلك، فلا يشترط فيه ترك منافيات المروة و لا يكون ارتكابها مانعا لعدم ملازمة عدم الفسق للمروة فيجوز تحقق عدم الفسق بدون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 272

تحقق المروة، إلا اللهم أن يقال ان العادة قاضية بملازمة ارتكاب منافيات المروة للفسق لأنها تؤذن بخسة النفس و دناءتها و قلة المبالاة و ذلك يقتضي بحسب العادة عدم التقوى و ارتكاب المعاصي. و لكن الظاهر ان الملازمة غالبية لا دائمية فلا يمكن الاعتماد عليها.

الذي يضر بالعدالة هو الإصرار على ارتكاب منافيات المروة

(الرابع عشر) بعد ما عرفت ان فعل ما ينافي المروة مخل بالعدالة فهل يخل بها فعله و لو بدون الإصرار عليه

أو المخل بها هو الإصرار عليه استظهر الثاني (عمنا الأعلى الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة) في شرحه لمقدمة والده كاشف الغطاء. و الظاهر انه لا وجه لما ذكره قدس سره الا من جهة ان المنافي للمروة انما يكون منافيا لها لو أصر عليه الإنسان اما لو صدر منه مرة بدون الإصرار فلا ينافيها لأنه لا يقتضي ارتفاع الاستقامة العرفية. و عليه لو فرض ان العمل و لو بدون إصرار يقتضي ارتفاع الاستقامة العرفية و تزول به المروة فهو مضر بالعدالة و لو أتى به بدون الإصرار.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 273

ترك الصلاة جماعة يقدح بالعدالة

(الخامس عشر) أنه يستفاد من بعض الأخبار إن ترك الصلاة جماعة يضر بالعدالة

كما في خبر عبد اللّه ابن أبي يعفور عن الصادق (ع) من ان رسول اللّه (ص) قال: لا غيبة إلا لمن صلى في بيته و رغب عن جماعتنا و من رغب عن جماعة المسلمين وجب على المسلمين غيبته و سقط عندهم عدالته و وجب هجرانه و إذا رفع الى امام المسلمين أنذره و حذّره فان حضر جماعة المسلمين و إلا أحرق عليه بيته و من لزم جماعتهم حرمت غيبته و ثبتت عدالته. و كما في المحكي عن البحار عن الشهيد الثاني (ره) عن الباقر (ع) قال أمير المؤمنين (ع) من سمع النداء فلم يجبه من غير علة فلا صلاة له. و قال رسول اللّه (ص):

لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة و لا غيبة إلا لمن صلى في بيته و رغب عن جماعتنا و من رغب عن جماعة المسلمين سقطت عدالته و وجب هجرانه و إذا رفع الى امام المسلمين أنذره و من لزم جماعة المسلمين حرمت عليهم غيبته و ثبتت عدالته.

و يؤيد هذين الخبرين خبر إبراهيم بن زياد عن أبي عبد اللّه (ع) قال: من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة في جماعة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته. و حكي عن الكفاية للسبزواري (ره) و مجمع الفائدة للمقدس الأردبيلي (ره) و البحار للمجلسي (ره) العمل بالخبرين المذكورين.

و الحق عدم قدح ذلك في العدالة و ان حصل الإصرار عليه ما لم يبلغ حد الاستهانة بالدين و الاستحقار للمسلمين و ينطبق عليه عنوان من عناوين الكبائر.

و ذلك لوجوه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 274

(أولا) الأخبار المتقدمة المبينة للعدالة حيث انها كانت في مقام تحديد العدالة فتدل بمفهومها على عدم اعتبار ذلك فيها. و فيه ان هذه الاخبار أخص منها.

(و ثانيا) إن معظم الأصحاب من المتقدمين و المتأخرين على ان ترك الجماعة ليس بقادح في العدالة لأنهم في مقام التحديد للعدالة لم يذكروه و لا في باب الجماعة تعرضوا له و لا في باب الشهادات بينوه. و لعل ذلك يكون إجماعا ممن تقدم على المذكورين و ممن تأخر عنهم كيف و قد صرح الكثير منهم على أن ترك السنن ليس بقادح في العدالة من دون استثناء لترك الجماعة و لعل هذا يكون من قبيل إعراض الأصحاب عن العمل بها الموهن لحجيتها و إن كانت صحيحة السند.

(و ثالثا) ثبوت السيرة القطعية من المتدنين على عدم معاملة من ترك الجماعة معاملة غير العادل.

(و رابعا) ضعفها سندا فإن الرواية الثانية مرسلة و الثالثة لم يعلم صحة سندها و الاولى كان في طريقها الحسن بن علي عن أبيه و الظاهر ان المراد منهما ابنا فضال الحسن و أبوه و لا أقل من احتمال ذلك فيهما و هو

كاف في ضعف السند و فيه أيضا محمد بن موسى و هو مشترك بين جماعة فيهم الضعيف و فيهم الثقة (نعم) قد روى هذا الخبر الصدوق في الفقيه بطريق صحيح و لكن ليس فيه تلك العبارة و إنما فيه ان رسول اللّه (ص) همّ بأن يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور في جماعة المسلمين و قد كان فيهم من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك و كيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من اللّه عز و جل و من رسول اللّه (ص) فيه الحرق في جوف البيت و قد كان يقول رسول اللّه (ص)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 275

لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة، و لا ريب في عدم دلالة هذه العبارة على المطلوب لأنها إنما تدل على فعل رسول اللّه (ص) ذلك و لعله قضية في واقعة لأسباب خاصة فلا تعم جميع الأحوال. و أما قوله: (لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة) فهو محمول على الكمال هذا مضافا الى ما يقال من ان اختلاف متن الرواية يوجب ضعفها. و لكن للخصم أن يقول إن استشهاد الامام (ع) بفعل رسول اللّه (ص) يوجب انعقاد ظهوره في العموم و إلا لما صح الاستشهاد.

(و خامسا) انها ظاهرة في ترك الجماعة الواجبة كجماعة صلاة الجمعة و صلاة العيدين و ذلك لأن الجماعة في الصلاة اليومية لا إشكال في استحبابها و عدم وجوبها فلا يستحق تاركها العقاب بالنار إذ المستحب لا يكون تاركه محكوما من اللّه و رسوله بالحرق و العذاب فهي ظاهرة في ترك الجماعة الواجبة خصوصا بإضافتها

إلى المسلمين. و دعوى ان الجماعة الواجبة غير معلوم تحققها في زمن الصادق (ع) بل الظاهر عدمه فتعين إرادة الجماعة المستحبة. فاسدة لأنه لو سلم فعدم وجودها لا ينافي بيان حكمها فكم بينوا الأئمة (ع) أحكاما لأمور ليست موجودة في عصورهم على أن القرينة المذكورة أدل دليل على إرادة الجماعة الواجبة فلا يزيل دلالتها مثل هذا الاستظهار.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 276

ليس كل ما يوجب عدم قبول الشهادة يوجب عدم العدالة

(السادس عشر) ان بعض الأمور و ان كانت توجب عدم قبول الشهادة كالسؤال بالكف

إذا اتخذه الشاهد صنعة و حرفة أو جرت الشهادة نفعا للشاهد أو دفعت ضررا عنه أو كونه غير ضابط ككثير النسيان و الغفلة و السهو نظير عدم قبول شهادة الولد على والده و العبد المملوك لمالكه عند بعضهم فان ذلك لا يقتضي عدم العدالة و من هنا يظهر لك فساد ما توهم من ان السؤال بالكف مخل بالعدالة لإخلاله بالشهادة و يظهر لك صحة قول بعضهم من أن ولد الزنا لا تقبل شهادته و ان كان عادلا.

الأصل في المسلم العدالة

(السابع عشر) ذهب جماعة من الأصحاب الى أن الأصل في المسلم العدالة

كما هو المحكي عن ابن جنيد في البحار و عن خلاف الشيخ و مبسوطه و عليه بعض العامة و يمكن دعوى انه يقول بذلك كل من قال بكفاية مجرد الإسلام و الايمان مع عدم ظهور الفسق في ثبوت العدالة و عليه فيكون مجهول الحال من المسلمين محكوما بالعدالة و يرتب عليه آثار العدالة. و يمكن أن يستدل لهذا الأصل.

(أولا) بما تقدم من الأدلة على القول الأول في العدالة ص 217 و قد تقدم ما فيه هناك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 277

(و ثانيا) بما ذكره صاحب المسالك من أن الظاهر من حال المسلم العدالة إذا الظاهر من حاله انه لا يترك الواجبات و لا يفعل المحرمات و لذا لو نسبه أحد إلى خلاف ذلك يفسق و يعزر. و فيه انه لا دليل على حجية هذا الظهور و لو سلمناه فلا نسلم حجيته على وجود الملكة على ذلك و لو سلمناه فلا نسلم حجيته على وجود ملكة ترك منافيات المروة.

نعم إنما يقتضي ثبوت إسلامه و إيمانه و يرتب عليه آثار ذلك من عدم جواز غيبته و انه لو نسب إلى المعاصي أو الموبقات كان

الناسب له فاسقا يستحق التعزير و نحو ذلك و بعبارة أخرى ان ما ذكره المستدل إنما هو من آثار إسلامه.

(و ثالثا) بأصالة الصحة. و فيه ما عرفته غير مرة من ان هذا الأصل إنما يثبت صحة اعماله لا وجود ملكة العدالة عنده.

(و رابعا) بأن الإسلام ملكة رادعة لصاحبه و الأصل عدم الفسق.

و فيه ان الإسلام ليس بملكة رادعة فإن ارتكاب المعاصي من المسلمين أكثر من أن تحصى. نعم التقوى و القوة القدسية رادعة و الإسلام لا يدل عليها.

(و خامسا) بما دل على حسن الظن بالمسلم و فيه أن حسن الظن في المسلم انما يقتضي عدم حمل فعله على الباطل و الفساد فهو يرجع الى أصالة الصحة و لا يقتضي ثبوت العدالة له.

(و سادسا) بأن الصحابة قد أجمعوا على ترتيب آثار العدالة على المسلم إذا لم يعرف بالفسق و لذا كانوا يأخذون بأخبار العبيد و النساء إذا عرفوهم بالإسلام و لم يعرفوا منهم الفسق و قد أقرهم رسول اللّه (ص) على ذلك حيث قبل شهادة الأعرابي على رؤية الهلال و أمر بالنداء بالصوم مع انه لم يظهر من الأعرابي إلا الإسلام و فيه إنا لا نسلم. ذلك و قبول رسول اللّه (ص) لو سلمناه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 278

فهو فعل في واقعة لا نعلم وجهه و لو سلمنا ذلك فهو يدل على قبول الخبر منهم و لعله من جهة الوثوق به لا من جهة اعتبار العدالة فيه.

و قد ذهب المشهور إلى إنكار هذا الأصل و الحق معهم لعدم الدليل عليه و ظهور رواية ابن أبي يعفور و نحوها على نفيه فإن الأصل لو كان هو العدالة لما ذكر الامام (ع) الطرق المذكورة

في الرواية لمعرفتها و لاكتفى (ع) بالإسلام دليلا عليها.

اعتبار العدالة في باقي وظائف المجتهد

(الثامن عشر) ان العدالة كما هي معتبرة في تقليد المجتهد تعتبر في قضاء المجتهد

و نفوذ حكمه و باقي تصرفاته في الأمور العامة الثابتة للولاة و في ثبوت الولاية على الأوقاف، و الوصايا و أموال القصر و الغيّب، و ذلك للإجماع مع ان الفاسق لا يؤمن منه على الأموال و النفوس و الأعراض و يدل عليه أيضا رواية ابن أبي خديجة (إياكم أن تحاكموا إلى هؤلاء الفساق). حيث علق حرمة المحاكمة على وصف الفسق و لرواية الخصال (اتقوا الفساق من العلماء) و استدل أستاذنا كا.

على اعتبار العدالة في القضاء بالأولوية لأنه إذا اعتبرت في الفتوى و الرواية فبالطريق الأولى في القضاء لأهميته منها. و لرواية الفقيه اتقوا الحكومة فإنها للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين و منه يظهر اعتبارها في نفوذ حكمه فإن الذي ينفذ حكمه هو المجعول للقضاء و قد عرفت ان المجعول هو المجتهد العادل دون الفاسق، و أما اعتبارها في تصرفات المجتهد العامة و ولايته على الأموال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 279

الخاصة كأموال القصر فللإجماع، و لأن أغلب الأدلة المتقدمة في اعتبار العدالة في المقلد جارية في المقام و لأنها انما ثبتت للمجتهد بأدلة النيابة عن الامام و هي منصرفة إلى المجتهد العادل.

فيما لو عرض الفسق على المجتهد العادل

(التاسع عشر) أن المجتهد العادل لو صار فاسقا و العياذ باللّه فهل يجوز العدول عنه أو يبقى على تقليده

فيما قلده فيه سابقا الظاهر كما عرفت الحال فيما لو جن المجتهد أو صار عاميا فإنه يبقى على تقليده له في المسائل السابقة و لا يقلده في المسائل اللاحقة و لا يصغى لدعوى الإجماع على عدم جواز التقليد للفاسق إذ لعلهم ناظرون لتقليده في المسائل المتجددة لا للمسائل التي سبق التقليد بها مضافا الى أن هذا الإجماع معارض بإجماعهم على حرمة العدول مضافا الى احتمال استناد المجمعين الى تولاهم دلالة الأدلة على ذلك

مع انها انما تدل على اعتبار العدالة زمن الفتوى و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى في مبحث العدول تنقيح ذلك.

ثمَّ ان جعلياته كجعل شخص قيّما و حكوماته تبقى للاستصحاب مع ظهور الإجماع في ذلك و للسيرة عليه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 280

الشك في بقاء العدالة

(العشرون) إذا ثبتت عدالة الشخص ثمَّ مضت مدة يمكن فيها زوال العدالة

فهل يحكم ببقائها أو لا يجوز الا بعد الفحص عنه و معرفة عدالته.

الحق هو الأول لأن العدالة موضوع من الموضوعات الخارجية و هي يجري فيها الاستصحاب عند الشك في بقائها مضافا الى أن سيرة المسلمين على استصحاب بقاء العدالة حتى يعلم ارتفاعها.

طرق معرفة العدالة الطريق الأول الاختبار و المعاشرة

(الحادي و العشرون) تعرف العدالة بأمور:
(أحدها): بالعلم و القطع بأي سبب حصل سواء كان حصل بالتواتر أو الشياع المفيدين للقطع بالعدالة

أو بالاختبار الحاصل من الصحبة المتأكدة الموجبة للاطلاع على الحال و لا يكفي فيها المرة كما في الجرح بل لا بد من البحث و التفتيش ليميز بين الخلق و التخلق و الطبع و التكلف حتى يحصل العلم بها و ذلك لأن القطع حجة بالذات من أي سبب حصل لما تقرر في محله من حجية القطع مطلقا (إن قلت): إن البحث عن ذلك لا يكون إلا بالمعاشرة الاختبارية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 281

الامتحانية و هي عبارة عن التجسس المحرم لقوله تعالى وَ لٰا تَجَسَّسُوا مضافا الى الأخبار المتظافرة المتكاثرة الواردة عن الأئمة (ع) الدالة على حرمة التفحص و التفتيش و لأمرهم (ع) بوضع أمر أخيك على أحسنه و عدم اتهام أخيك. (و جوابه) ان ذلك مخصص بالنسبة لمعرفة العدالة لترتيب الأحكام عليها بذيل صحيحة عبد اللّه ابن أبي يعفور و هو قوله (ع): «فإذا سئل عنه أهل محلته و قبيلته قالوا ما رأينا منه إلا خيرا». و بما روي عن النبي (ص) انه كان يبعث رجلين لتحقيق حال الشهود من أهل محلتهم و قبيلتهم. مضافا لرواية جابر في القابلة إذا سئل عنها فعدلت. مضافا الى الإجماع العملي على ذلك و قد ألفت كتب الرجال في ذلك.

الطريق الثاني قيام البينة على العدالة
اشارة

(ثانيها): البينة بشهادة عدلين على عدالة الشخص فإنه تثبت بذلك عدالته شرعا أما في مقام الخصومة فلا اشكال فيه و لا ارتياب، و أما فيما عدى ذلك كما في مورد التقليد لمعرفة المجتهد العادل كي يقلده و نظائره فلما في موثقة مسعدة بن صدقة (و الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيره أو تقوم به البينة). و لا وجه للمناقشة في الرواية بضعف (مسعدة) فإن

هذه الرواية قد تمسك بها العلامة و من تأخر عنه على أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية. مضافا لما هو المحكي عن المجلسي الأول بأن مسعدة بن صدقة ممن عملت الطائفة برواياته و الظاهر كذلك فهي موثوق بها: و لا ريب ان ظاهرها كون البينة كالاستبانة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 282

و انها تقوم مقامها و الاستبانة حجة في الجميع فكذا البينة على أن الاستبانة الرافعة للحل أعم من الاستبانة في الموضوع أو الحكم أو لوازمهما فكذا البينة و لا ريب ان البينة معناها الشاهد المتعدد في مصطلح الشرع كما يؤكد ذلك توصيفها بالجمع في رواية منصور عن الصادق (ع) حيث قال: و أقام البينة العدول. (و الحاصل) انه يفهم من رواية مسعدة أن كفاية البينة في مقام إثبات موردها من المسلمات و ان لم تكن مشتملة على عموم أو تعليل يستفاد منه عموم الحجية في غير موارد الحل و الحرمة إلا انه يستفاد من قوله أو تقوم به البينة ان ثبوتها بالبينة كثبوتها بالاستبانة من باب انها من طرق إثبات المشتبهات.

و يدل على حجية البينة أيضا خبر عبد اللّه بن سليمان في الجبن عن الصادق (ع) المروي عن الكافي و التهذيب (كل شي ء حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان عندك ان فيه ميتة). و قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ. بناء على أن تخصيصه بمورده خلاف الظاهر. و إن الأمر بالاستشهاد يقتضي كونه مقبولا و إلا فلا ثمرة في الاستشهاد. و لما في حسنة إبراهيم بن هاشم بل في صحيحته الموجودة في الكافي و في الوافي في باب من أدان ماله بغير بينة من كتاب المعايش و المكاسب عن أبي عبد اللّه

بعد ما أعاب على ولده إسماعيل في دفعه دنانير له بضاعة الى رجل بلغه انه شارب الخمر (فاذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم).

فإنه لا ريب في عدم ارادة العموم الجمعي من المؤمنين لعدم إمكان شهادة جميع المؤمنين عنده فلا بد ان يراد منه الجنس و قد خرج شهادة الواحد بالدليل كما سيجي ء إن شاء اللّه تعالى فيشمل شهادة الاثنين فصاعدا و سيجي ء الكلام فيها في حجية الشياع إن شاء اللّه تعالى. و قد استدل بعضهم بالإجماع و بالضرورة الفقهية على حجة البينة في الموضوعات مطلقا و هو لا وجه له لوجود المخالف كما هو المحكي عن ظاهر السيد في الذريعة و المحقق الأول في المعارج و المحقق الثاني في الجعفرية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 283

و صاحب الوافية حيث حكى انهم حكموا بعدم ثبوت الاجتهاد بشهادة العدلين لعدم الدليل على اعتبارها. و قد يستدل على حجية شهادة العدلين في المقام بذيل صحيح ابن أبي يعفور (فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا). و فيه ما لا يخفى فان المراد بالخير بقرينة ما سبق على الفقرة و تأخير عنها هو غير العدالة من الأعمال الطيبة كملازمته للصلاة و ليس ذلك يستدعي الثبوت شرعا بل هو موجب لثبوت كون ظاهره حسنا الذي هو أحد الطرق التي تثبت بها العدالة. و قد استدل الشيخ الأنصاري (ره) فيما حكي عنه بما في رواية جابر عن أبي جعفر (ع) شهادة القابلة جائزة على انه استهل أو برز ميتا إذا سئل عنها فعدّلت و فيه إنما تدل على ثبوت عدالتها و أما كيفية الثبوت بالقطع من جواب السؤال عن العدالة أو بشهادة عدلين

أو واحد أو بالشياع فهو مسكوت عنه في الرواية. و قد يستدل أيضا بما في رواية علقمة من لم تره بعينك يرتكب معصية و لم يشهد عليه شاهدان فهو من أهل الستر و العدالة بالفحوى أو بضميمة عدم القول بالفصل بين الفسق و العدالة. و فيه ما لا يخفى فإنه لا فحوى و لا دلالة على اعتبار الشهادة في الفسق بل غاية ما تدل عليه ان الشهادة بالفسق مانعة من ثبوت العدالة. و أما ما استدل به من إرسال النبي (ص) للفحص عن عدالة الشهود فللخصم أن يقول انه لعله على وجه القطع. مضافا الى أنه مختص بصورة المرافعة و قد استدل بعض المعاصرين على عموم حجية البينة ببناء العقلاء على العمل بها مطلقا و عدم ثبوت الردع عنها شرعا إلا في بعض الموارد كالزنا. و أنت خبير ان بناء العقلاء دليل لبي و كيف يمكن إثبات عمومه حتى في غير مورد المرافعة و حتى عند الظن بالخلاف و حتى إذا لم يكن الشاهد من أهل الخبرة إلا بالاستقراء التام لجميع الموارد عند أغلب العقلاء و دون ذلك خرط القتاد. و قد استدل أيضا بقوله (ص): «إنما أقضي بينكم بالبينات و الايمان». بأن ظاهره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 284

مفروغية حجية البينة المصطلحة. و لا يخفى ما فيه فإنه إنما يقتضي حجيتها في خصوص مورد القضاء و المنازعة و هذا من ضروريات المذهب بل الدين و إنما محل الكلام في ثبوت الموضوعات بها في غير مورد المنازعة كما هو محل الكلام فهذه الرواية لا تنفع المستدل بنفسها و لا من جهة إمضائها لبناء العقلاء إذ هي على تقدير الإمضاء إنما هي تمضيه

في خصوص مورد النزاع.

و قد أورد على حجية البينة في الموضوعات الغير المحسوس بها. كالعدالة و الاجتهاد و الأعلمية بأن الشهادة عليها شهادة عن حدس إذ الشاهد لا يعرف و لا يشاهد الملكة و انما يحدسها بالاختبار و الشهادة لا تقبل في الحدسيات و قد تقدم منا الجواب بأن الأمور الحدسية القريبة الواضحة الآثار لا فرق بينها و بين الأمور الحسية في قبول الشهادة فيها. و قد أورد على الاستدلال برواية مسعدة بن صدقة (أولا) بضعف سندها و قد عرفت ما فيه.

(و ثانيا) بعدم ظهور البينة في التعدد و قد عرفت ما فيه.

(و ثالثا) بعدم دلالتها على العموم كما هو المطلوب فإنها انما تدل على ثبوت الحلية في مورد كانت الحلية فيه ثابتة بالأمارة أو بالاستصحاب. و أما غيره فالرواية أجنبية عنه و الا لزم تخصيص الأكثر لثبوت الحرمة بالاستصحاب و اخبار ذي اليد و حكم الحاكم. و لا يخفى ما فيه فإنه لو كان ذلك ينافي العموم لكانت عمومات أصل البراءة لا يتمسك بها لأنها يلزم تخصيصها بالأكثر مع ان أدلة الاستصحاب و اخبار ذي اليد و حكم الحاكم و غيرها من الامارات حاكمة أو واردة على هذا الدليل فلا يضر الكثرة، مع أن الكثرة المخلة بالعموم غير مسلم وجودها بل متيقنة العدم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 285

فوائد تتعلق بالمقام
اشارة

و هاهنا فوائد:

(الاولى) ان البينة يثبت بها العدالة

و سائر الموضوعات حتى مع الظن بالخلاف لظهور الأدلة المذكورة في حجيتها مع عدم تقييدها بعدم الظن بالخلاف.

(الثانية) ان الشهادة العملية كالشهادة القولية في ترتيب آثار العدالة

فيكون اقتداء العدلين بشخص شهادة عملية بعدالته فنثبت به عدالته كما هو المحكي عن الشهيد (ره) في الدروس و ذلك لأن الأدلة التي تدل على حجية الشهادة تدل على حجية الشهادة العملية بتنقيح المناط بل بالطريق الأولى فإن العمل أقوى من القول في الدلالة على الواقع.

(الثالثة) هل يشترط في الشاهدين كونهما من أهل الخبرة أم لا؟

بل يقبل شهادتهما حتى لو كانا عاميين مقتضى إطلاق الأدلة هو الثاني و مقتضى الاحتياط هو الأول.

(الرابعة) هل تقبل شهادة النساء أم لا؟

يظهر من بعضهم قبولها و من الآخرين عدمها. و الحق ان العدالة موضوع من الموضوعات الخارجية فكما تقبل فيها شهادة النساء تقبل في العدالة ذلك، نعم في شهادتهن على الجرح محل إشكال إذا كن منفردات لعدم ثبوت حقوق اللّه تعالى بهن منفردات و الشهادة بالفسق ترجع الى ذلك.

(الخامسة) انه يكفي الإطلاق عند الشهادة بالعدالة كأن يقول هو عدل أو لا بد من ذكر السبب و التفسير

كأن يقول هو عدل لوجود الملكة عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 286

و يعبرون عن ذلك بالتعديل و التزكية سواء ذكر السبب أم لا و قد اختلف الفقهاء و الأصوليون من الخاصة و العامة في ذلك على أقوال:

(الأول) أنه يجوز الاكتفاء في التعديل بالإطلاق مطلقا و حكي القول به عن الشيخ و العلامة و الشهيد و المقدس الأردبيلي و ابن البراج و ابن حمزة و ابن إدريس و نسب القول به للقاضي أبي بكر و الشافعي.

(الثاني) انه لا يجوز الاكتفاء بذلك بل يجب بيان السبب و التفسير و هو المحكي عن ابن جنيد و عن العلامة في المختلف.

(الثالث) إن المعدل إن كان عالما بأسباب العدالة كفى الإطلاق و إلا وجب ذكر السبب و حكي القول به عن العلامة. و الظاهر ان مرادهم أن يكون عالما بأسباب العدالة عند المشهود له.

(الرابع) الاكتفاء بالإطلاق في العدالة حيث يعلم عدم المخالفة فيما يتحقق به العدالة و مع انتفاء ذلك يكون القبول موقوفا على ذكر السبب و هو المحكي عن المعالم و المنية.

(الخامس) إن المعدل إن كان مبالغا في الاحتياط كفى الإطلاق و الا فلا. و يستدل للقول الأول بوجوه: (منها) أن قول العدلين فلان عدل و نحوه مما لم يشتمل على ذكر السبب شهادة العدلين بالعدالة فيجب قبولها لعموم ما دل على حجية البينة و لما في

صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. (و منها) إن أسباب الفسق غير محصورة الأنواع و لا متناهية الأفراد و يكفي في الجرح ذكر فرد منها و لا تحصل العدالة إلا بالتحرز عنها و عن منافيات المروة جميعا فلو لزم التفسير في الشهادة بالعدالة لوجب ذكر جميعها و هي كثيرة يعسر ضبطها و يتعذر عدها. (و منها) ما ذكره المرحوم الشيخ حسن في شرح مقدمة والده لكشف الغطاء من أن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 287

سيرة العلماء على الأخذ بقول المعدل من دون سؤال و بحث مع العلم بالاختلاف في كفاية الواحد في العدالة و عدمها أو في معنى العدالة أو في عدد الكبائر أو في معنى الإصرار على الصغائر أو في معرفة منافيات المروة أو في الألفاظ الدالة على ذلك أو غيرها مما لا يكاد اتفاق فقيهين فيها و لو لا ذلك لما قام للتعديل و الجرح سوق.

احتج للقول الثاني بأنه ربما كان الشي ء سببا للجرح عند الحاكم لا عند الشاهد فيشهد بالعدالة بناء منه على عدم تأثير ذلك الشي ء فيه و بعبارة أخرى ان الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة فإن الاختلاف مثلا في عدد الكبائر يوجب أن يكون بعضها غير قادح في العدالة عند الشاهد و قادح عند العامل بها فإذا أطلق الشاهد الشهادة بالعدالة مع احتمال العامل فيها ذلك كان اقدامه على العمل بها اقدام على أمر يحتمل عدم اطلاع الشاهد عليه و فيه ان ذلك إنما يتم لو كان البناء في الشهادة على تحصيل العلم أو الظن بالمشهود به و هو باطل إذ البناء فيها على مجرد السببية و صدق

الاسم و لذا لم يجب على الشهود في الطهارة و النجاسة و الطلاق و النكاح و البيع و الصلح و سائر المعاملات ذكر السبب مع تحقق الاختلاف في الأسباب فإن الشاهد قد يشهد بوقوع البيع لوقوعه بالمعاطاة مع أن الحاكم لا يرى صحة بيع المعاطاة و أمثال هذا أكثر من أن تحصى، نعم يشترط في قبول الشهادة عدم العلم بالمخالفة للواقع لما عرفته منا من أن الشهادة من قبيل الامارة و الامارة ليست بحجة مع العلم بالخلاف مضافا الى انه لو لم تقبل الشهادة بدون ذكر السبب لاحتمال استناد الشاهد إلى أمر لا يصح الاعتماد عليه عند السامع لما جاز الاعتماد على الشهادة في أغلب الموارد و أكثرها و هو مخالف لسيرة المسلمين قديما و حديثا. (نعم) الحق أن يقال انه إذا احتمل السامع إن الشاهد أراد بالعدالة معنى غير المعنى الذي هو عنده و لم يكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 288

هناك أمارة تنفي هذا الاحتمال لا يجوز الاعتماد على الشهادة كما لو كانت العدالة عند السامع هي الملكة و احتمل انها عند الشاهد الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو مجرد ترك المحرمات و فعل الواجبات أو عدم اعتبار المروة فيها. لكن قد عرفت فيما سبق ان المعنى العرفي و اللغوي هو الملكة فاذا أطلقها الشاهد حملت عليه و لا يلزم الاستفسار و باقي الأقوال في التعديل و الجرح لم أظفر بحجة لها عند كتابتي لهذه الأسطر (فتلخص) ان الشاهدين لو شهدا و قالا فلان عدل أو ما دل عليه كفى و لا يحتاج أن يقولا متصف بالملكة التي تمنعه من الاقدام على الكبائر و الإصرار على الصغائر أو منافيات المروة

أو يقول اشهد أنه مؤمن يصلي و يصوم و يزكي و يحج و محافظ على دينه و لا يحتاج أن يقول أن فلانا عدل عليّ ولي كما هو المنسوب لابن جنيد أو يأتي مع قوله عدل أما ب (عليّ) أو (لي) أو (مقبول الشهادة) كما هو المحكى عن أكثر المتأخرين. ثمَّ لا يخفى انه لا يشترط في الشهادة بالعدالة أن يأتي بلفظ أشهد و ما يشتق منه بل يكفي كلما يدل على انه في مقام الشهادة لعمومات أدلة الشهادة المعتضدة بذهاب معظم الأصحاب الى ذلك. و هكذا لا يشترط العربية و عدم اللحن كما يشترط في القراءة في الصلاة بل يجزي كل لغة لما ذكرناه من العمومات المعتضدة بذهاب معظم الأصحاب الى ذلك. و يكفي ظهور اللفظ في المشهود عليه و لا يلزم الصراحة لحجية الظهور. و يجوز الاعتماد على كتابة المزكي و إشارته خلافا للشهيد في الدروس و ذلك إذا حصل العلم بأن الخط خطه و انه قاصد للتزكية، و هكذا الإشارة لصدق الشهادة على ذلك. و لا يشترط في المزكي الحياة فلو زكى أحدا ثمَّ مات قبلت تزكيته لما تقدم من العمومات. و قد رجع علماء الإسلام الذين يعتبرون العدالة في الراوي إلى أقوال أهل الرجال الذين ماتوا في التزكية و الجرح و هكذا لا يشترط في المزكي و الجارح أن يكون من أهل الفن في الجرح و التعديل لما ذكرناه من العمومات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 289

لا تصح الشهادة بالعدالة و الجرح الا باعتبار ما يراه المشهود عليه كبيرة

(السادسة) قد عرفت في الأمر السابع ص 260 ان الميزان في عدالة الشخص و عدمها هو ما كان معصية و كبيرة في نظره

اجتهادا أو تقليدا حكما أو مصداقا. فلو شرب الخمر و لم يعلم انه خمر أو استمع الغناء في الرثاء أو

شرب العصير لفتواه أو فتوى مقلده بحلية ذلك لم يضر ذلك بعدالته. و هكذا لو عكس الأمر بأن علم ان هذه المرأة محرمة عليه وطئها لرضاعها معه عشر رضعات و قد وطئها فان للشاهد أن يشهد بعدم عدالته و إن كان لا يرى الشاهد ان ذلك محرم لدلالته على انتفاء ملكة العدالة عنه. و عليه فالشاهد لا يجوز له أن يشهد بالعدالة إلا بإحراز الملكة الموجبة لاجتناب ما هو معصية و كبيرة عند المشهود عليه و لا يجوز له أن يشهد بالفسق و الجرح و عدم العدالة إلا إذا أحرز صدور ما هو معصية و كبيرة عند المشهود عليه، و لو شك فيما صدر منه انه كان في نظره معصية أم لا؟ أو كان كبيرة في نظره أم لا؟ حمل عمله على الصحة.

(ان قلت) ان كون المعصية كبيرة أو صغيرة من الأحكام الوضعية فلا يؤثر فيها اعتقاد الفاعل، فنفس المعصية و ان كانت دائرة مدار اعتقاد الفاعل لكن اتصافها بالكبيرة و الصغيرة ليس بنابع لاعتقاد الفاعل بل هو من أحكام الوضع يرتب الأثر عليه كل من يعتقد وجوده فاذا اعتقد الشاهد ان هذا الفاعل يعلم بأن فعله معصية و لكنه يراه صغيرة و الشاهد يراه كبيرة رتب الشاهد عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 290

آثار الكبيرة و شهد بجرحه كما في تقريرات الآشتياني (ره) في كتاب القضاء (قلت) تأثير الكبيرة في الجرح باعتبار ملازمتها لعدم ملكة العدالة و الذي يلازم عدم الملكة في الشخص هو ما كان كبيرة في اعتقاد ذلك الشخص فان ذا الملكة لا تمنع ملكته صدور ما ليس بكبيرة في نظره بل و هكذا حسن الظاهر يلازم ذلك و

بعبارة أخرى الملاك الذي جعل الميزان هو المعصية عند الفاعل بنفسه يقتضي أن تكون المعصية كبيرة عند الفاعل. (فتلخص) ان الشاهد إذا رأى معصية من شخص فلا يجوز له أن يشهد إلا بما رآه منه فلو رآه يشرب العصير شهد بشر به العصير و إذا رآه ينكح الأجنبية شهد بنكاحه للأجنبية و لا يجوز له أن يشهد بأنه عاصي أو فاسق أو غير عادل إلا إذا علم بأنه معتقد لحرمة ما صدر منه و معتقد بأنه كبيرة فإنه حينئذ له أن يشهد بأنه عاصي و فاسق و غير عادل.

و هكذا الحال في منافيات المروة كما أنّه لا يشهد بعدالة الشخص إلا إذا علم بأن له ملكة ملازمة لفعل الواجبات في اعتقاده و ترك الكبائر في اعتقاده و ترك الإصرار على الصغائر في اعتقاده و ترك منافيات المروة في اعتقاده أما المشهود عنده فعليه العمل بظاهر الشهادة. و الاختلاف بينه و بين الشاهد في العدالة و الجرح لا أثر له لأن الميزان ما كان جرحا عند المشهود عليه فإنه هو الذي يكون اجتنابه لازما في عدالته و فعله موجبا لفسقه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 291

الطريق الثالث خبر العدل الواحد بالعدالة

(ثالث الأمور التي يثبت بها العدالة شهادة العدل الواحد): كما عن ظاهر التذكرة و المحكي عن الحدائق و الأردبيلي (ره) و تردد فيه بعضهم كالشهيد الثاني (ره) حيث يقول و في قبول خبر الواحد وجه منشأه الشك في شمول أدلة حجية خبر الواحد و كيف كان، فالحق عدم ثبوت العدالة به لسيرة الفقهاء على ذلك في مقام التزكية و لموثقة مسعدة ص 271 و لرواية عبد اللّه و الآية الشريفة ص 282. فإنه لو كان يكفي خبر الواحد

لما كان وجه لاعتبار البينة و لما في هداية الحر العاملي و في تفسير العسكري (ع) من ان رسول اللّه (ص) إذا لم يعرف الشهود بعث برجلين من خيار أصحابه يسألان عنهم في قبائلهم و محالهم فاذا أثنوا عليهم قضى (ع) على المدعى عليه و لعدم تمامية ما استدلوا به على كفاية خبر الواحد فيها فقد استدلوا على ذلك بوجوه:

(أحدها): ما ورد عنهم (ع) المؤمن وحده حجة و فيه انها غير معلومة الاعتبار و ليست معلومة الدلالة إذ ليست ظاهرة في كون قوله حجة بل لعله مثل الإطلاق حجة الإسلام على الفقيه.

(ثانيها): مفهوم آية النبإ: فإن مفهومها يدل على قبول خبر العدل الواحد في الموضوعات قطعا لكون موردها الموضوع لا الحكم و قد أوضحنا ذلك في الأصول و جوابه ما ذكرناه و ذكره علماء الأصول من عدم دلالتها على حجية الخبر الواحد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 292

(ثالثها): بناء العقلاء على قبول خبر العدل في الموضوعات و الأحكام من دون وجود الرادع عنه. (و جوابه) ان الامام (ع) قد ردع عنه بما دل على اعتبار البينة في الموضوعات من موثقة مسعدة بن صدقة و رواية عبد اللّه ابن سليمان و الآية الشريفة المتقدمات فإنه لو كان يكفي خبر الواحد لما كان وجه لاعتبار البينة.

(رابعها): ما ورد في أبواب الفقه في الموضوعات التي يقبل فيها الخبر الواحد الثقة كعزل الوكيل و دخول الوقت و كون المرأة زوجته و خبر البائع في استبراء الأمة، فإذا جاز قبول خبر الثقة جاز قبول خبر العدل. (و جوابه) ان الدليل إنما قام على قبول خبر الواحد الثقة في هذه الموارد بخصوصها و هذا لا يقتضي حجية خبر الثقة

في الموضوعات بأجمعها و لا حجيته في العدالة بخصوصها مع انه معارض بما ورد في الفقه في الموضوعات التي لا يقبل فيها إلا شهادة عدلين مثل رؤية الهلال. و مثل الشهادة على الشهادة، و مثل الشهادة على الطلاق، و مثل الشهادة على الموضوعات في مقام المنازعات و المرافعات المشترط فيها التعدد، و مثل الشهادة على الذنوب.

(خامسها): عموم صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222 حيث فيها ان ذلك يجيز شهادته فإنه يشمل الشاهد الواحد. (و جوابه) ان من لاحظ الرواية يرى أنها ناظرة للصحة الشأنية لا الفعلية فإن محل الكلام في الرواية هو ذاك، و بعبارة أخرى إنها تدل على اعتبار شهادة الواحد اما انه بنحو الكفاية وحده أو منضما للغير فلا دلالة لها على ذلك.

(سادسها): صحيحة الحلبي و فيها الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ قال: صلى فيها حتى يقال لك أنها ميتة بعينها. و فيه إنما تدل على أن القول يمنع من الصلاة فيها لا انه يثبت كونها ميتة مضافا الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 293

ظهورها في قول ذي اليد و هو غير ما نحن فيه سلمنا دلالتها على اعتبار خبر الواحد لكنها ساكتة عن كونه تمام السبب في الثبوت أو جزء السبب. ألا ترى إلى مرسلة الفقيه فان فيها (شهادة الرجل على شهادة الرجل مقبولة و هي نصف شهادة) مضافا الى معارضتها برواية الجبن التي هي أشهر منها. ثمَّ ان بعضهم بنى الخلاف في ذلك على أن التزكية إن كانت من باب الشهادة فيعتبر فيها التعدد و ان كانت من باب الرواية و الظنون الاجتهادية فيكفي فيها الواحد. و أجاب بعضهم ان الشهادة و

الرواية ليستا من الموضوعات الشرعية المتغايرة المحكوم في أحدهما بقبول الواحد و الآخر بلزوم التعدد و انما يسمى عندهم ما يعتبر فيه التعدد بالشهادة و ما يكتفى فيه بالواحد بالرواية و ليس بينهما فرق لأن كل منها أخبار و لذا يقال للشاهد انه صادق أو كاذب. كما يقال للراوي ذلك.

نعم شهادة الواحد بالعدالة تقبل في الراوي دون الشاهد بناء على كفاية الظن في الخبر كما انه ذهب جمع من الأصحاب إلى قبول اعتراف المدعى عليه بعدالة الشاهد لترتب القضاء و نسب ذلك الى التحرير و الإيضاح و التنقيح لأنه إقرار من المدعى عليه بموجب الحكم فيصح الأخذ بإقراره. و في ذيل المروي عن هداية الحر العاملي من فعل النبي (ص) إذا تخاصم اليه رجلان و لم يعرف للشهود قبيلة. سئل عنهما الخصم فان قال ما علمت منهما الا خيرا أنفذ شهادتهما. و في المروي عن تفسير العسكري (ع) و عن وسائل الحر العاملي عن النبي (ص) و ان كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون أقبل على المدعى عليه فقال: ما تقول فيهما؟ فان قال ما عرفنا الا خيرا غير أنهما غلطا فيما شهدا عليّ أنفد شهادتهما. و ذهب الفاضل العميدي إلى المنع من ذلك و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام فيه عن قريب.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 294

الطريق الرابع حسن الظاهر

(رابع الأمور التي يثبت بها العدالة حسن الظاهر): و المقصود منه الظاهر الحسن بأن لم يطلع على معصية منه و لا على عمل قبيح منه و كان متصفا بلزوم الطاعات و ترك المحرمات. و الدليل عليه الروايات المتقدمة في القول الثالث بل و القول الأول فإن مقتضى الجمع بينها و بين القول بالملكة

الذي هو الحق كون حسن الظاهر طريقا للعدالة. و صحيحة محمد لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه الخير مع يمين الخصم في حقوق الناس. و صحيحته الأخرى يسلم الذمي و يعتق العبد أ يجوز شهادتهما على ما كانا أشهدا عليه قال:

نعم إذا علم منهما بعد ذلك خيرا. و رواية القاسم بن سليمان في القاذف التائب إذا تاب و لم يعلم منه إلا خيرا جازت شهادته، بل هو مقتضى صريح رواية عبد اللّه ابن أبي يعفور حيث فيها (و الدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك).

و قد يورد (أولا) على جعل حسن الظاهر طريقا شرعيا للعدالة بأنه له مراتب يتصل مبدؤها بمجهول الحال و ينتهي آخرها بالعصمة فأي مرتبة قد جعلها الشارع طريقا و مع الشك يسقط الجميع عن الطريقية. (و جوابه) ان المراد هو أن يكون ما يظهر من أفعاله و أقواله ليس بمحرم و لا بمناف للمروة فهذه هي المرتبة المرادة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 295

و يورد عليه (ثانيا) ان الظاهر أمر إضافي فإن الذي يظهر لأهله منه باطن بالنسبة لغيرهم و الذي يظهر لأهل محلته منه باطن بالنسبة لغيرهم و الذي يظهر لأهل بلدته منه باطن بالنسبة لغيرهم و الذي يظهر لزوجته منه باطن بالنسبة لغيرها فأي ظاهر يكون حسنه طريقا إليها و مع الشك فيسقط الجميع عن الحجية (و جوابه) ان المراد ان ظهور ذلك بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يعرف عدالته و هذا يحتاج الى مقدار من المعاشرة التي يعرف معها ان ظاهره حسن.

و قد يورد عليه (ثالثا) بما عن احتجاج الطبرسي و تفسير

العسكري عليه السلام عن الرضا (ع): إذا رأيتم الرجل قد حسن سمته و هديه و تماوت في منطقه و تخاضع في حركاته فرويدا فما أكثر من يعجزه تناول الدنيا و ركوب المحارم بها لضعف بنيته و مهانته و جبن قلبه فنصب الدين فخا لها فهو لا يزال يختل الناس بظاهره فان تمكن من حرام اقتحمه الحديث. لكنه مع عدم وضوح سنده قاصر عن معارضة الأخبار المتقدمة دلالة و سندا و قد حمله في الوسائل على أعلا مراتب العدالة و انه مخصوص بمن يؤخذ منه الأحكام. ثمَّ ان المتحصل من الأخبار ان حسن الظاهر و صلاحه يعرف بأمور:

(أحدها) أن يعرف بالستر و العفاف و كف الجوارح الأربع.

(و ثانيها) باجتناب الكبائر و هذان الأمران لما كانا من الأمور الواقعية النفس الأمرية التي يصعب العلم بها فطريقة معرفتهما هي ساترية الإنسان لجميع عيوبه حتى الصغير منها بأن يتصف بصفة الحياء و لا يرضى بظهور أي نقص عليه حتى ارتكاب الصغيرة على حد يحرم على المسلمين التفتيش لما وراءه و على باطنه و هذا هو المسمى عند الناس بالمحافظة على الشرف. و لا ريب ان المسلم المؤمن إذا كان كذلك فيعرف بالستر و العفاف و اجتناب القبائح و الكبائر (و ثالثها) المحافظة على الصلوات الخمس بمواقيتها و هذا يعرف بالاطلاع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 296

على تعاهد هذا الشخص بصلاة الجماعة في الأوقات الخمسة أو بالسؤال عنه في محلته أو قبيلته و إجابتهم بأنه ملازم للصلاة في أوقاتها و هذه الأمور تستفاد من صحيحة ابن أبي يعفور. و المروي في المجالس: من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته.

(و رابعها)

في النساء ان يكن مستورات بالمشاهدة أو معروفات بالستر و العفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذاءة و التبرج للرجال في أنديتهم و هذا يستفاد من رواية ابن أبي يعفور الثانية.

(خامسها) عدم الظلم في المعاملة مع عدم الكذب في الحديث مع عدم الخلف في الوعد و هذا يستفاد من رواية الخصال ص 224 و رواية عبد اللّه بن سنان: و الظاهر من مجموع الأخبار هو معرفة صلاحه و أمانة ظاهره و هذه المذكورات من قبيل الأمثلة للأسباب الموجبة لمعرفة ذلك بقرينة اختلاف الأخبار مع اشتمال بعضها على الصلاح و الخير و أمانة الظاهر فيعرف ان الميزان هو ذلك بأي سبب كان. ثمَّ أن حسن الظاهر طريق للعدالة سواء أفاد الظن بحسن باطنه أم لا، و سواء حصل الظن بخلافه أم لا، لإطلاق الأدلة و عدم تقييدها بذلك.

(إن قلت): إن قوله (ع) في مرسلة يونس: «إذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا» معناه ان ظاهره يأمن منه بأن باطنه صحيح فتكون الرواية دلت على اعتبار الظن بالباطن فتقيد الإطلاقات الواردة في حسن الظاهر.

(قلنا): مضافا الى انها مرسلة ان المراد منها ان ظاهره مأمون من الخيانة بمعنى أنه لا يظهر منه الخيانة و يأمن منه بحسب مقتضى أوضاعه و أفعاله.

(ان قلت): ان مثل قوله (ع): لا تصل الا خلف من تثق بدينه و ورعه) يقيد الإطلاقات الواردة في حسن الظاهر بحصول الوثوق منه بالباطن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 297

(قلنا): ان إطلاقات حسن الظاهر كأدلة الامارات حاكمة عليه لأنها تدل على تنزيل حسن الظاهر منزلة الوثوق و العلم هذا ان اعتبر الوثوق بالإمام من باب الطريقية و ان اعتبر من باب الموضوعية فهو خارج عن محل الكلام لأنه

يكون معتبرا بنفسه موضوعا للحكم و نحن كلامنا في مورد يكون حسن الظاهر طريقا لا موضوعا للحكم.

الطريق الخامس الشياع
اشارة

(خامس الأمور التي يثبت بها العدالة الشياع): قال جدي الهادي (ره) و قد يسمى بالاستفاضة و هو في الموضوعات بمنزلة الشهرة في الأحكام اه. و قد ذهب الى حجيته في العدالة جماعة من الأصحاب كما هو المحكي عن الشهيد في الذكرى و الدروس و الجعفرية و ابن فهد في الموجز و صاحب المعالم و كيف كان فالظاهر ان محل الكلام هو أن يخبر جماعة بالعدالة و كلهم معلوموا الفسق أو مجهولو الحال بحيث يبلغ اخبارهم حد الشياع و الشهرة الذي هو أدنى مرتبة من التواتر و لم يفد اخبارهم القطع و إنما قيدناه بذلك لأنهم لو كانوا عدولا فهو داخل في البينة فيكون حجة و هكذا لو أفاد العلم و القطع فهو حجة أيضا لأن القطع حجة بذاته من أي سبب حصل و الحاصل ان محل كلامنا هو الشياع و الشهرة بقطع النظر عن افادته للعلم و كون المخبرين عدولا و الكلام يقع فيه في مقامين:

(أحدهما) في حجية الشياع في الموضوعات مطلقا العدالة أو غيرها فإنه إذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 298

ثبت ذلك ثبتت حجيته في العدالة.

(و ثانيهما) في حجيته في خصوص العدالة.

أما الكلام في المقام الأول [و هو حجية الشياع في الموضوعات مطلقا]

فنقول قد استدل على حجية الشياع في الموضوعات مطلقا بأمور:

(أحدها) الإجماع: ففي المحكي عن الرياض انه يثبت بالشياع الموت و الملك المطلق و الوقف و الزوجية و الولاء و العتق و الرق و العدالة بلا خلاف أجده إلا من الإسكافي فخص الثبوت به بالنسب. و فيه ما لا يخفى فإنه يظهر من كلمات جماعة انه يشترط في الثبوت بالشياع افادته القطع كما هو المحكي عن الدروس و الكشف.

(ثانيها) بناء العقلاء على العمل بالشهرة و الشياع و السيرة المستمرة

على ترتيب آثار العدالة بمجرد الشهرة و الشياع فان الكثير من الناس يقتدون بالشخص بمجرد اشتهار عدالته دون أن يشهد عندهم عادلان. (و جوابه) ان ذلك غير مسلم و لذا اشتهر «رب مشهور لا أصل له» و اشتهر فيما بينهم عدم حجية الشهرة التي يكون نقله الخبر فيها لا يوثق بهم كما هو محل البحث. و أما اقتداء الناس بمشهور العدالة فلعله من جهة الاكتفاء في ثبوت العدالة بحسن الظاهر، أو كان يحصل اليقين لهم بمجرد الشياع أو لأجل التسامح و قلة المبالاة بالدين.

(ثالثها) الأولوية بدعوى اقوائية الظن الحاصل من الشياع من الظن الحاصل من البينة. (و جوابه) ان البينة لم تكن حجيتها من جهة الظن بل من باب التعبد و قيام دليل خاص بها مضافا الى انا لا نسلم ذلك فإنك قد عرفت ان محل الكلام هو الشياع من مجهولي الحال أو المعلوم فسقهم.

(رابعها) ما في مرفوعة زرارة من قوله (ع): خذ بما اشتهر بين أصحابك و دع الشاذ النادر حيث دل على الأخذ بالمشهور و الشائع و ترك ما يقابله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 299

(و جوابه) انها مختصة بالرواية حيث سئل الراوي فيها عن الخبرين المتعارضين فأجاب (ع) بذلك.

(خامسها) ما في مقبولة ابن حنظلة بعد فرض السائل تساوي الراويين في العدالة من قوله (ع): ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به و يترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه الى أن قال الراوي: قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات. الخبر بناء على ان المجمع عليه في الموضعين هو

المشهور بقرينة إطلاق الإمام (ع) المشهور عليه في قوله و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور. مضافا الى أن التعليل بقوله فان المجمع عليه لا ريب فيه يقتضي أن المشهور كالمجمع عليه لأن المشهور أيضا لا ريب فيه. (و جوابه) انه مختص بالرواية مع عدالة الراوي كما هو فرض السائل فيكون أجنبيا عما نحن فيه.

(سادسها) ما في آية النبإ من التعليل بقوله تعالى أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ بتقريب ان المراد من الجهالة هي السفاهة و الاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه و الشهرة لا يكون العمل بها سفاهة و لا اعتمادا على ما لا ينبغي الاعتماد عليه. (و جوابه) ان الآية إنما تقتضي عدم جواز الأخذ بما يكون الأخذ به سفاهة اما انه يجوز الأخذ بغيره فلا دلالة فيها عليه على ان المشهور الذي نقله الفساق أو مجهولو الحال يكون الأخذ به من الجهالة و السفاهة.

(سابعها) ما رواها المشايخ الثلاثة كل بإسناده إلى يونس بن عبد الرحمن عن بعض رجاله عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أ يحل للقاضي ان يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ فقال عليه السلام: خمسة أشياء يجب الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، و المناكح، و الذبائح و المواريث، و الشهادات. فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 300

و لا يسأل عن باطنه و في (رواية الفقيه) الأنساب مكان المواريث كما انه حكي عن بعض نسخ التهذيب (ظاهر الحال) بدل ظاهر الحكم. و رواه في الخصال عن محمد بن الحسن عن الصفار عن إبراهيم بن هاشم عن أبي جعفر المقري رفعه الى أبي

عبد اللّه عن آبائه عن علي (ع) انه قال: خمسة يجب على القاضي و ذكر نحو ما مر و تقريب الاستدلال بهذه الرواية ان اضافة ظاهر الى الحكم من قبيل إضافة الصفة لموصوفها مثل (جرد قطيفة) فالمراد هو الحكم الظاهر و الحال الظاهر و المراد بالحكم هو النسبة الخبرية و المراد بظهورها هو وضوحها بين الناس و هو يكون بشياعها فيكون المعنى انه يجب الأخذ بالنسبة الظاهرة بين الناس في هذه الأمور و هو يكون بشيوعها.

و يورد عليه بأن المراد منه بيان حكم قبول الشهادة و لا يخفى ما فيه فإنه خلاف ظاهر صدره و ذيله مع فهم الأعاظم خلاف ذلك مع ان الشهادة لا يقتصر فيها على الخمسة المذكورة.

و يورد عليه أيضا ان ظهور النسبة غير ظهور الأخبار عنها فإنه قد تكون النسبة واضحة و ظاهرة دون ان يظهر الخبر عنها و يشيع مثل ظهور ان هذه البناية مسجد لوجود أمارة المسجدية فيها مع عدم اطلاع الناس على ذلك و مثل ظهور ان هذه المرأة زوجة لهذا الرجل مع عدم اطلاع الناس عليها و ربما يكون العكس كما لو أخبر عن أمر كثير من الناس و لكن ليس بظاهر التحقق و الثبوت كما اتفق في هذا العصر من اخبار جماعة بارتشاء أحد السادة الصلحاء مع استبعاد تحقق هذا الشي ء منه لمكان صلاحه و تقواه و استدل المستشكل على ارادة ظهور تحقق النسبة لا ظهور الخبر من الرواية بقوله (ع) بعد ذلك: (فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه) فان ظاهر هذه الفقرة هو ظهور الأمان منه للقاضي بما يتحلى و يتجلى فيه من الصفات من السيماء

النور الساطع في

الفقه النافع، ج 2، ص: 301

و الصلاح و التقوى لا ظهور ذلك للناس و إلا لقيده الامام (ع) بذلك.

(ثامنها) صحيحة حريز أو حسنته بابن هاشم المروية في فروع الكافي في باب حفظ المال انه كانت لإسماعيل دنانير و أراد رجل من قريش أن يخرج الى اليمن فقال إسماعيل يا أبه ان فلانا يريد الخروج الى اليمن أ فترى أن أدفعها له يبتاع لي بضاعة فقال (ع): يا بني أما بلغك إنه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل هكذا يقول الناس، فقال: يا بني لا تفعل! فعصى أباه و دفعها اليه فاستهلكها و لم يأت بشي ء منها و في تلك السنة حج أبو عبد اللّه (ع) و حج إسماعيل فجعل إسماعيل يطوف بالبيت و هو يقول: أجرني و اخلف علي فلحقه أبو عبد اللّه (ع) و قال له: مه يا بني فلا و اللّه مالك على اللّه هذا و لا لك أن يؤجرك و لا يخلف عليك و قد بلغك انه يشرب الخمر فائتمنته. فقال إسماعيل: يا أبه إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت الناس يقولون. فقال (ع): يا بني ان اللّه يقول في كتابه:

يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. و يقول: يصدّق اللّه و يصدّق للمؤمنين فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم و لا تأتمن شارب الخمر الخبر. و في بعض النسخ المنقولة عن الكافي (المسلمون) بدل المؤمنون و تقريب الاستدلال به هو ان الامام (ع) أمر ابنه أن يصدّق المسلمين فيما يقولون و يرتب آثار الواقع على ذلك و لا ريب انه لا يريد الاستغراق من (المسلمين) لعدم تحقق ذلك فلا بد أن يريد به الاستغراق العرفي و هو الشياع. (و بعبارة) أخرى ان الامام (ع) وبخ

ولده إسماعيل على عدم عمله بالشياع ثمَّ أمره بالعمل به بقوله فاذا شهد عندك المسلمون فصدقهم. و نظيرها رواية حماد بن بشير عن أبي عبد اللّه عليه السلام المروية أيضا في فروع الكافي في باب شارب الخمر قال أبو عبد اللّه (ع) إني أردت أن أستبضع بضاعة إلى اليمن فأتيت أبا جعفر (ع) فقلت له: إنني أريد أن أستبضع بضاعة. فقال (ع) لي: أما علمت انه يشرب الخمر. فقلت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 302

قد بلغني من المؤمنين إنهم يقولون ذلك. فقال لي: صدقهم فان اللّه تعالى يقول يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. ثمَّ قال: إنك إن استبضعته فهلكت أو ضاعت فليس لك على اللّه تعالى أن يأجرك. و أجاب عنه المرحوم الأصفهاني بأدنى توضيح منا انه (ع) لم يرتب جميع آثار الواقع بل خصوص ما ينفع السامع و لا يضر المخبر عنه لموافقته للاحتياط و هو عدم إعطائه الدنانير كما فعل خلاف ذلك في خبر آخر حيث قال (ع): «كذّب سمعك و بصرك عن أخيك المؤمن فإذا شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا و قال لم أقله فصدقه و كذبهم).

فإنه (ع) أمر بتكذيب خمسين بينة عادلة فيما يضر المخبر عنه و لا يجدي المخبر اليه فكيف يأمر بتصديق ما هو أدون من بينة عادلة واحدة في ترتيب جميع آثار الواقع انتهى، و لا يخفى ما فيه فان الاستدلال بالرواية من جهة أمره (ع) بتصديق المؤمنين في شهادتهم مضافا الى ظهورها في ترتيب آثار الواقع التي من جملتها عدم الائتمان بالمخبر عنه بأنه يشرب الخمر إذ ليس المراد صرف تصديق المؤمنين فيما ينفعهم و هو إظهار الموافقة لهم بل المراد الارتداع

عن دفع المال الى من أخبروا عنه بأنه يشرب الخمر. و لذا عقب الامام (ع) كلامه بأحكام شارب الخمر من انه لا يزوج الحديث. و أما رواية الخمسين قسامة فحيث انها تعارض أدلة البينة فلا بد من حملها على ما لا يترتب عليه أثر شرعي. و يمكن أن يجاب بأن يقال ان ظاهر الآية الشريفة التي استدل بها الإمام في الروايتين المذكورتين اعني قوله تعالى في سورة البراءة وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ. ان من الناس من يؤذي النبي (ص) بقوله: هو أذن يصدق و يقطع بكل ما يسمع و هذه صفة نقص تنافي كمال النفس فرد اللّه تعالى عليهم و خطأهم فيما اعتقدوه و أبان انه (ص) اذن خير لا الاذن التي اعتقدتموها ثمَّ فسر اللّه عز و جل اذن الخير بأنه يصدّق اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 303

تعالى بكل ما أخبره قاطعا و يظهر التصديق للمؤمنين و ان قطع بكذبهم بأن لا يرتب آثار العقوبة أو التفسيق أو التعزير أو إظهار القطع بالخلاف و هذه صفة لا ينال المؤمنون منها إلا الخير فيكون المراد بالتصديق هو عدم ترتيب آثار التكذيب من العقوبة و التفسيق و التعزير و إظهار القطع بالخلاف و هذا المعنى هو ظاهر الآية بل هو صريحها لأن هذا معنى اذن الخير. و لعل هذا هو المعنى المراد من رواية الخمسين قسامة بل هو الظاهر منها فان المراد بالتصديق للمؤمن هو ذلك اعنى عدم إظهار تكذيبه بواسطة شهادة خمسين قسامة عليه و ان قطع بصدق قول الخمسين و كذب المؤمن، كما ان المراد بتكذيب

الخمسين قسامة بقرينة المقابلة عدم إظهار تصديقهم بأن يرتب الآثار على قول الخمسين التي توجب تكذيب المؤمن و إن قطع بصحة شهادتهم و لذا نسب في صدر الرواية التكذيب الى السمع و البصر فان المراد عدم إظهار صدق السمع و البصر فلا منافاة في الرواية بين الأمر بتصديق المؤمن و تكذيب خمسين قسامة أصلا و رأسا. و عليه فيتضح معنى رواية إسماعيل لأن ائتمان الذي شهد المؤمنون عليه بشرب الخمر يكون تكذيبا لهم علانية و هو خلاف ما جاءت به السنة من لزوم إظهار تصديقهم لكونهم مؤمنين. (و الحاصل) ان المعنى المقصود من التصديق في الرواية بقرينة الاستشهاد بالآية هو عدم التكذيب للمؤمنين بإظهار آثار التكذيب كالإئتمان أو الصلاة خلفه جماعة و ليس المراد به ترتيب آثار الصدق على قولهم بحيث يحد على شربه و يلعن على شربه و يعزر على شربه بواسطة شهادة المؤمنين. فالرواية لا تدل على حجية الشياع و انما تدل على عدم تكذيب الشياع. و قد أجيب عن هذه الرواية بأن المراد بها التواتر و هو حجة. (و جوابه) انها ظاهرة في الشياع للفظ (الناس) الصادق على العدد الذي يحصل به الشياع.

(تاسعها) ما رواه في الكافي و التهذيب بطرق عديدة أكثرها صحيحة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 304

عن أبي عبد اللّه (ع) في باب اختلاف الزوجين أو ورثة أحدهما مع الآخر في متاع البيت فان فيه قال (ع): لو سألت ما بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذ بمكة لأخبروك أن الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها فهي التي جاءت به و هذا المدعي ان زعم انه أحدث فيه شيئا فليأت عليه البينة

و وجه الاستدلال انه (ع) حكم بالمتاع للمرأة من غير يمينها لاستفاضة ذلك بحيث لو سئلوا لأخبروا بذلك. (و جوابه) ان الامام (ع) تمسك بالسيرة لا بالشياع فان المسؤول لم يذكر في الرواية و انه من هو فغرض الامام (ع) انك لو سألت من هو حجة لأخبرك بالسيرة المذكورة المفيدة للعلم هذا لو كان المراد لو سألت أي شخص ممن هو موجود بين لابتيها. و اما ان كان المراد المجموع الذي بين لابتيها فهذا من الشياع المفيد للعلم و هو خارج عن محل الكلام.

(و أما المقام الثاني) و هو الكلام في حجية الشياع في العدالة بخصوصها

فنقول استدل على ذلك بأمور:

(أحدها) ما في آخر صحيحة ابن أبي يعفور ص 222 و هو قوله عليه السلام: فإذا سأل عنه أهل محلته و قبيلته قالوا: ما رأينا منه الا خيرا.

و أجاب عنه بعضهم بما توضيحه منا بأن اللازم ذكر تمام الفقرة حتى يتضح الحال قال (ع): «و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن و حفظ مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين و أن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاه الا من علة. فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته و محلته قالوا: ما رأينا منه الا خيرا مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلاه فان ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين» فان ظاهر هذه الفقرات ان الامارة على العدالة هو التعاهد لصلاة الجماعة في الأوقات الخمس تعاهدا الى حد بحيث لو سئل عنه في قبيلته و أهل محلته. قالوا: ما رأينا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 305

منه إلا خيرا. فان كونه كذلك هو الذي يجيز شهادته و يحقق عدالته بين المسلمين فتكون هذه الفقرة نظير قولنا إذا مرض

زيد فإذا سئل عنه قالوا طريح الفراش فزره) فجواب قوله: «فاذا كان كذلك لازما لمصلاه» هو قوله: «فان ذلك يجيز شهادته». و عليه فيكون المستفاد من الفقرة المذكورة ان الامارة و الدليل على العدالة هو الملازمة للصلاة جماعة ملازمة تستدعي الشياع عنه بالخير و ليس نفس الشياع هو امارة و لا أقل من احتمال ذلك في الفقرة و الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل فيه الاستدلال هذا غاية ما أمكن من تقريب رد هذا الخصم. و لكن يمكن أن يقال ان قوله (ع): (فإذا سئل عنه) لا يصلح إلا أن يكون شرطا ثانيا بعد قوله: فاذا كان كذلك. و قوله: فان ذلك يجيز شهادته يكون جوابا لهما أو للأول منهما و يكون جواب الشرط الثاني محذوفا لدلالته عليه أو بالعكس. نعم لو كانت العبارة بحيث إذا سأله عنه كان الحق مع الخصم لكنه من باب تعدد الشرط و وحدة الجزاء و لازم ذلك كفاية كل منهما في تحقق الجزاء فتكون الرواية ظاهرة في كفاية الشياع غاية الأمر الشياع عند أهل قبيلته أو أهل محلته لا مطلقا و لعل ذلك من جهة كونهم أهل الخبرة به دون من عداهم و عليه فلا تدل الرواية على حجية نفس الشياع و إنما تدل على حجية قول أهل الخبرة به و لكن الرواية في ما ذكره الخصم أظهر لمكان الفاء في (فإذا) دون أو.

(ثانيها) ما روي أن النبي (ص) كان يبعث رجلين لتحقيق حال الشهود في قبائلهم و محلاتهم فاذا أثنوا عليهم قضى للمدعي على المدعى عليه فان في ذلك دلالة على كفاية الشياع في تزكية الشهود و عدالتهم. و فيه مع الشك في صحة الرواية انه يحتمل ان الضمير

عائد في (أثنوا) إلى الرجلين المرسلين لا إلى قبائلهم و أهل محلاتهم فتكون أجنبية عن الشياع مضافا الى احتمال انه من باب الرجوع الى أهل الخبرة و الظاهر ان هذه الرواية هي الرواية التي رواها صاحب الوسائل عن تفسير الحسن العسكري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 306

عليه السلام و الاولى نقلها ليتضح لك حقيقة الحال و لا أقل من شرحها لفعل النبي (ص). قال كان رسول اللّه (ص) إذا تخاصم اليه رجلان قال للمدعي:

أ لك حجة؟ فان أقام بينة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه و إن لم تكن بينة حلف المدعى عليه باللّه ما لهذا قبله ذلك الذي ادعاه و لا شي ء منه و إذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير و لا شر. قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان أين سوقكما فيصفان، أين منزلكما فيصفان ثمَّ يقيم الخصوم و الشهود بين يديه ثمَّ يأمر فيكتب أسامي المدعي و المدعى عليه و الشهود و يصف ما شهدوا به ثمَّ يدفع ذلك الى رجل من أصحابه الخيار ثمَّ مثل ذلك الى رجل آخر من خيار أصحابه ثمَّ يقول ليذهب كل واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما و أسواقهما و محالهما و الربض الذي ينزلانه فيسأل عنهما فيذهبان و يسألان فإن أتوا خيرا و ذكروا فضلا رجعوا الى رسول اللّه (ص) فأخبراه أحضر القوم الذي أثنوا عليهما و احضر الشهود فقال للقوم المثنين عليهما هذا فلان بن فلان و هذا فلان بن فلان أ تعرفونهما فيقولون: نعم فيقول: ان فلانا و فلانا جاءاني عنكما فيما بيننا بجميل و ذكر صالح إن كما قالا؟ فان قالوا نعم قضى حينئذ بشهادتهما على

المدعى عليه. فان رجعا بخبر شي ء و ثناء قبيح دعا بهم فيقول أ تعرفون فلانا و فلانا؟ فيقولون: نعم. فيقول: اقعدوا حتى يحضروا فيقعدون فيحضرهما فيقول للقوم أ هما هما؟ فيقولون: نعم. فاذا ثبت عنده ذلك لم يهتك سترا بشاهدين و لا عابهما و لا وبخهما و لكن يدعو الخصوم الى الصلح فلا يزال بهم حتى يصطلحوا لئلا يفتضح الشهود و يستر عليهم و كان رؤوفا رحيما عطوفا على أمته فإن كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون و لا قبيلة لهما و لا سوق و لا دار أقبل على المدعى عليه فقال: ما تقول فيهما؟ فان قال ما عرفنا إلا خيرا غير انهما قد غلطا فيما شهدا عليّ أنفذ شهادتهما و إن جرحهما و طعن بهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 307

أصلح بين الخصم و خصمه و احلف المدعى عليه و قطع الخصوم بينهما. و الحاصل ان هذه الرواية إنما تدل على جواز الشهادة بحسن الظاهر عند علم الشاهد به و لو لم يكن هناك شياع.

(ثالثها) قوله (ع) في معتبرة عبد اللّه ابن المغيرة ص 221 كل من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح و قوله (ع) في حسنة إبراهيم ص 224 بعد أن يعرف منه خيرا. و فيه ما لا يخفى فإنه من المحتمل ان المراد بالمعرفة هو العلم و اليقين فيكون ذلك أجنبيا عما نحن فيه لأنه كما تقدم المراد إثبات حجية الشياع الذي يفيد الظن و إلا فالذي يفيد العلم لا حاجة لإثبات حجيته لأنه حجة بنفسه.

مضافا الى أن معرفة الصلاح و الخير غير معرفة الخبر عنهما فلو كان لسان الروايتين معرفة الخبر عنهما لكان فيهما دلالة

على حجية الشياع لكن معرفة الصلاح و الخير عبارة عن معرفة حسن الظاهر. و هذا نظير ما تقدم في مسألة الفرق بين ظهور النسبة و ظهور الاخبار عنها ص 300 فراجع ذلك حتى يتضح لك حقيقة الحال.

الطريق السادس الوثوق بالعدالة
اشارة

(سادس الأمور التي يثبت بها العدالة الوثوق بالعدالة و الاطمئنان بها) الذي هو العلم العادي في نظر العرف و العقلاء و لعله هو المراد لجدي (ره) في كشف غطائه حيث جعل الطريق الثاني لمعرفة العدالة الظن لشياع يفيد الظن المتاخم للعلم و هو الذي يظهر من الشيخ الأنصاري (ره) اعتباره في مطلق الموضوعات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 308

[حجية الوثوق في مطلق الموضوعات]

و الكلام فيه (أولا) في حجيته مطلقا. (و ثانيا) في حجيته في خصوص العدالة.

أما الكلام في الأول فنقول: ان محل البحث هو الوثوق الحاصل من غير الطرق المعتبرة كالبينة و حسن الظاهر و إلا لو حصل من الطرق المعتبرة فلا إشكال في حجيته بواسطة حجية ذلك الطريق كما انه في غير الموضوعات المعتبر فيها العلم لإمكان ان يدعى بأن العلم و المعرفة المتبادر منهما عند العرف ما يعم الوثوق و الاطمئنان إذا عرفت ذلك فمقتضى القاعدة عدم حجيته لما قرر في محله من ان حجية غير القطع تحتاج الى جعل و الأصل عدم الجعل.

و قد استدل على حجية الوثوق في سائر الموضوعات:

(أولا) بالسيرة المستمرة على ترتيب آثار الواقع على ما يوثق به و بناء المتشرعة على المعاملة مع الوثوق و الاطمئنان معاملة العلم الحقيقي. و فيه منع اتفاق العقلاء في جميع الأعصار و الأمصار على الاعتماد في أمورهم على الوثوق و الاطمئنان من أي سبب حصل فإن أحدا لم يرفع يده عن أمواله و إعراضه بمجرد حصول الوثوق من دون أن ينظم له سند معتبر و لا يدفعون لمدعي الوكالة بمجرد الوثوق. و أما بناء المتشرعة فهو لو كان ثابتا للزم القول بحجية الوثوق في جميع الموارد فيكتفى به في تنجز كل حكم

لم تقم عليه حجة شرعية أو عقلية و يكتفى به في الخروج عن عهدة التكاليف المنجزة و لو مع التمكن من العلم الحقيقي و الظاهر ان ذلك لا يلتزم به أحد.

(و ثانيا) بدليل الانسداد لأن باب العلم منسد في أغلب الموضوعات و قلة الطرق المعتبرة كالبينة العادلة و نحوها فيها و لزوم الوقوع في خلاف الواقع من الرجوع الى الأصول في موردها لأن نوعها عدمية كأصالة عدم النسب و عدم الزوجية و عدم التذكية و عدم الوقف و عدم البيع و نحو ذلك و هو خلاف المصلحة فلا يرضى به الشارع، و تعذر الاحتياط و تعسره و الوثوق أقرب الطرق للواقع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 309

بعد العلم. (و جوابه) ما سبق من عدم انسداد باب العلم و العلمي في الموضوعات لما تقدم ص 68.

[حجية الوثوق في خصوص العدالة]

و اما الكلام في الثاني و هو حجية الوثوق في خصوص العدالة فقد استدل بأمور:

(أحدها) رواية أبي علي بن راشد لا تصل إلا خلف من تثق بدينه و أمانته و في نسخة المكاسب (و ورعه) بدل (أمانته) و قول الصادق (ع) في خبر البصري: إذا كنت خلف امام تتولاه و تثق به فإنه يجزيك قراءته و مثله عن الفقه الرضوي. و فيه انه مختص بصلاة الجماعة فلا دليل على اعتبار الوثوق في جميع موارد اعتبار العدالة.

(ثانيها) ما في مرسلة يونس المتقدمة ص 221 (فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته و لا يسأل عن باطنه). و فيه انها إنما تدل على كفاية حسن الظاهر لا اعتبار الوثوق بالعدالة فقد يكون الظاهر مأمونا و لكن لا يحصل منه الوثوق بملكة العدالة.

(ثالثها) رواية الصدوق (ره) في الخصال المتقدمة ص

224 و هي من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروته و ظهرت عدالته و وجبت اخوته. و وجه الاستدلال بها يكون في فقرتين:

(إحداهما) قوله (ع): «ظهرت عدالته» حيث يدل على أن المذكورات توجب الوثوق بعدالته فتكون ظاهرة في اعتبار الوثوق. (و جوابه) ان تلك الأمور تكون موجبة لحسن الظاهر فتثبت العدالة بها سواء حصل الوثوق أم لا.

(ثانيهما) قوله (ع): «و وجبت اخوته» بتقريب ذكره الشيخ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 310

الأنصاري (ره) حكي عنه من كتاب الصلاة في باب الجماعة و هو انه لا تجب اخوة غير الثقة المعتمد المظنون به حسن حال الباطن. (و جوابه) واضح انه لا دليل على ما ذكره فإنه أي مانع ان يوجب الشارع اخوة من كان بتلك الصفات المذكورة التي لها الدخل في حسن المعاشرة.

(رابعها) ما ورد في تفسير قوله تعالى مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ عن أمير المؤمنين (ع) قال: ممن ترضون دينه و أمانته و صلاحه و عفته و تيقظه فيما يشهد به (و جوابه) مضافا لضعف الرواية بإرسالها ان كون الشاهد مرضيا لا يلازم الوثوق بوجود الملكة الباطنية للعدالة عنده فإن الذي ظاهره حسنا يكون مرضيا مع انه قد لا يحصل الوثوق به.

الطريق السابع الظن بالعدالة

(سابع الأمور التي يثبت بها العدالة الظن بها) و الكلام فيه تارة في اعتباره في مطلق الموضوعات و قد تقدم ذلك ص 68 و تارة في خصوص العدالة و استدل على ذلك بوجوه:

(أحدها) دليل الانسداد و تقريبه ان العلم بالعدالة متعسر و لو رجعنا للأصول في موارد الجهل بها لزم تضييع الحقوق و تعطيل الجماعات و الأسواق لأن الأصل عدم العدالة

فلا بد من العمل بالظن كما في نظائره من الموضوعات بل الأحكام الشرعية عند بعضهم. (و جوابه) ما عرفته غير مرة من وجود طرق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 311

لمعرفة العدالة سهل التناول كحسن الظاهر و البينة العادلة فلا يلزم من عدم جعل الظن في موارد الجهل تضيع الحقوق و تعطيل الجماعات و الأسواق بل لعل العمل بالظن فيها قد يوقع الإنسان في خلاف الواقع فتبطل الحقوق و يصلي خلف غير العادل.

(ثانيها) الأصل لأن وجوب الأخذ بقول المجتهد العادل زيادة على الظن به مشكوك و الأصل عدمه. و فيه انه لا يثبت اعتبار الظن مضافا الى ان وجوب الأخذ بقول المجتهد العادل ثابت بالأدلة فلا بد من إحرازه إما بالعلم أو العلمي.

(ثالثها) ما تقدم من رواية الأمالي ص 224 من صلى خمس صلوات في اليوم و الليلة جماعة فظنوا به خيرا و أجيزوا شهادته. و وجه الاستدلال انه ليس المقصود ظن الخير إذ ليس هو تحت قدرة الإنسان فلا بد أن يكون المراد به ترتيب آثار الخير بعد الظن به و معنى هذا كون الظن بالخير حجة و بتقريب آخر أن أمر المولى بترتيب آثار الواقع بلسان تحصيل الظن به يستفاد منه أن الظن بذلك الواقع حجة فيه و إلا لما كان معنى للتعبير بهذا اللسان. و فيه ما لا يخفى فان ذلك كناية عن عدم اتهامه نظير قولهم أحسن فيه الظن و كثير ما تستعمل كلمة (ظن الخير) في ألسنة العرب بهذا المعنى فيكون معناه المراد نظير ما روي عنهم (ع): «ضع أمر أخيك على أحسنه» سلمنا ذلك لكن لما كان المراد ليس هو الظن الوجداني و إنما المراد ترتيب آثار

الواقع بالسبب المذكور في الرواية و هو الصلوات في اليوم و الليلة جماعة، فالرواية إنما تكون دالة على ان السبب المذكور و هو الصلوات الخمس جماعة موجب لترتيب آثار الخير نظير ما اشتمل عليه ذيل صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 312

الطريق الثامن حكم الحاكم بالعدالة

(ثامن الأمور التي يثبت بها العدالة حكم الحاكم) بناء على تعميم حكم الحاكم لمثل ذلك أو لأنها كانت مورد النزاع، و الحاصل ان الموضوعات الخارجية و ان كان القول بثبوتها بحكم الحاكم محل إشكال إلا ان الظاهر انه يثبت به مثل هذه الموضوعات التي غالبا ينسد فيها باب العلم كالهلال و الاجتهاد. و قد نقل الآشتياني الإجماع على ثبوتها كما ذهب الى ذلك عمنا الأعلى الشيخ حسن في شرح مقدمة كشف الغطاء.

الطريق التاسع دعوى العدالة

(تاسع الأمور التي يثبت بها العدالة دعوى العدالة) بأن يخبر الشخص عن نفسه بأنه عادل كما ذهب بعضهم الى مثل ذلك في الاجتهاد فقبل دعوى الاجتهاد فيه و يمكن أن يستدل لذلك بوجوه:

(أحدها) ان العدالة من الملكات الخفية التي لا يطلع عليها إلا صاحبها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 313

كاحتلام الصبي و حيض المرأة و طهرها. و فيه ما لا يخفى فإنه يمكن الاطلاع عليها بالمعاشرة مع انه يوجد الفارق بين مثل احتلام الصبي و العدالة فإنه قد يشتبه الشخص فيتخيل انه عادل بخلاف الاحتلام. سلمنا لكن لا دليل على قبول قول ما لا يعلم إلا من قبله مطلقا بنحو الكلية و انما التزم بذلك في موارد خاصة.

(ثانيها) عموم آية النبإ و آية السؤال للأخبار عن نفسه بأنه عادل و فيه انها منصرفة عن اخباره عن نفسه بالعدالة كيف لو تمَّ ذلك للزم قبول قول المدعي العادل في عموم الدعاوي و هو كما ترى.

(ثالثها) انسداد باب العلم و العلمي فيها فلو رجع الى الأصل فيها ضاعت علينا أغلب الأحكام. لأن الأصل عدم العدالة. و فيه ما عرفته غير مرة من عدم تمامية هذا الدليل.

الطريق العاشر تصريح المشهود عليه بعدالة الشهود

(عاشر الأمور التي يثبت بها العدالة) هو ما لو صرح المشهود عليه بعدالة الشهود فان على الحاكم ان يقبل شهادتهما عليه و يحكم بها. و حكي القول بذلك عن التحرير و الدروس و التنقيح و الإيضاح و لكن ظاهر الأكثر عدمه و هو المحكي عن العميدي و قد تقدم منا الكلام في ذلك في الطريق الثالث للعدالة و الإعادة لا تخلو عن الإفادة فنقول: قد استدل على ذلك في الإيضاح بأن المشهود عليه قد أقر بوجود شرط الحكم

عليه و كل من أقر على نفسه بشي ء نفّذ عليه و فيه ان الحكم انما يرجع للقاضي و عند استناده إلى البينة قد اشترط عليه الشارع أن تكون عادلة و ليست كونها عادلة حقا محضا للخصم حتى يسقطه و لعله الى ذلك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 314

يشير من قال بأن شرط الحكم انما هو العدالة المعلومة للحاكم لا العدالة الواقعية و ان لم تكن معلومة له و لا ريب انه لم يحصل له العلم بالعدالة من قول المدعى عليه و (الحاصل) ان البينة و إن كان يثبت بها المشهود به إلا انه فيما نحن فيه بالنسبة إلى المشهود عليه لا يثبت بها ذلك لعلمه بغلطها و عدم مطابقتها للواقع و بالنسبة إلى الحاكم لم يحرز جامعيتها لشرائط الحجية حتى يحكم على طبقها.

و أيضا رد عليه في المستند بالمنع من كونه إقرارا على نفسه لأنه لا يلزم من وجوده الوجود، و لأن كونه إقرارا على نفسه موقوف على كونه مقبولا عند الحاكم و قبوله عند الحاكم موقوف على كونه إقرارا على نفسه و هو دور.

و استدل عليه صاحب المستند تبعا لبعض معاصريه بما روي في تفسير الإمام العسكري (ع) و عن هداية الحر العاملي و وسائله ان رسول اللّه إذا تخاصم اليه رجلان في حق قال للمدعي أ لك بينة؟ فان أقام بينة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه الى أن قال (ع): فاذا كان الشهود من أخلاط الناس لا يعرفون و لا قبيلة لهما و لا سوق و لا دار أقبل على المدعى عليه و قال: ما تقول فيهما فان قال ما عرفت إلا خيرا غير انهما قد غلطا

فيما شهدا عليّ أنفذ عليه شهادتهما. و لا يخفى ما فيه فإنه مضافا الى الشك في صحة سنده و اختصاصه بصورة العجز عن الفحص عن الشهود لعدم معرفة القبيلة و السوق و الدار لهما انه أعم من المدعى لأن المدعى التصريح بالعدالة لا التصريح بعلم الخير فيهم و قد حمل بعضهم هذا الخبر على صورة حصول العلم له (ص) من قول المدعى عليه باعتبار ان الغالب حصول العلم من ذلك. و فيه ما لا يخفى لوضوح عدم حصول العلم منه.

و يمكن أن يستدل للحكم المذكور بقوله تعالى في سورة البقرة:

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدٰاءِ فإنه يفهم منها الحكم المذكور باعتبار ان الميزان الذي جعله

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 315

الشارع هو ما يرضى به الطرفان من الشهود لا الحاكم و فيما نحن فيه قد رضي بالشهود الطرفان المدعي و المدعى عليه بل لعل التعبير (بترضون) دون (المرضيين) اشارة و إرشاد الى أن المعتبر في الشهادة هو المرضي عندنا لا من هو مرضي في الواقع و عند اللّه عز و جل.

و يمكن أن يستدل له بأن اشتراط الفحص عن عدالة الشهود على الحاكم من باب المنة على المشهود عليه و الإرفاق به فاذا هو أسقطه كان سبب الحكم للحاكم قد تمَّ فله الحكم بالشهود الذين اعترف المشهود عليه بعدالتهم.

الطريق الحادي عشر الاستصحاب

(الحادي عشر من الأمور التي تثبت بها العدالة) الاستصحاب و هو انما يكون فيما لو علم بالعدالة سابقا أو قام دليل شرعي على ثبوتها سابقا و لم يعلم بعد ذلك بزوالها فإنه يستصحب بقائها للسيرة و لأدلة الاستصحاب و قد تقدم ذلك منا

عدة مرات.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 316

طرق معرفة الجرح

(الثاني و العشرون) من تنبيهات هذا المبحث انه قد عرفت الطرق الموجبة لمعرفة العدالة.
اشارة

و اما الفسق فالطرق الموجبة لمعرفته يمكن معرفتها بملاحظة ما ذكرناه في الطرق الموجبة لمعرفة العدالة باعتبار كونها موضوعا من الموضوعات الخارجية فإن الجرح و فسق الشخص أيضا من الموضوعات الخارجية، و بعبارة أخرى أن الطرق المتقدمة ما ثبت كونه طريقا للموضوع الخارجي كما يكون طريقا للعدالة يكون طريقا لغيرها من الفسق و غيره من الموضوعات الخارجية كالبينة حتى انه وقع الخلاف فيما بينهم في جواز الاكتفاء في الجرح بالواحد كالتعديل. و في المحكي عن المعالم ان طرق معرفة الجرح كالتعديل، و الخلاف في الاكتفاء بالواحد و اشتراط التعدد جار فيه و المختار في المقامين واحد آه.

و أما ما كان منها طريقا للعدالة فقط كحسن الظاهر فهو ليس بطريق للفسق لأن طريقيته انما ثبتت للعدالة فقط.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 317

فوائد تتعلق بالمقام

«أحدها» كفاية الإطلاق في الشهادة بالجرح
اشارة

و هنا فوائد:

(أحدها) انه قد تقدم في مبحث إثبات العدالة بالبينة كفاية الإطلاق في التعديل، و أما الجرح ففي كفاية الشهادة به بنحو الإطلاق من دون ذكر السبب أو لا بد من ذكر التفسير و السبب محل خلاف بين الفقهاء و الأصوليين على أقوال:

(الأول) الاكتفاء بالإطلاق من دون ذكر السبب و التفسير كأن يقول هو فاسق و هو المحكي عن النهاية عن قوم.

(الثاني) عدم الاكتفاء بالإطلاق و لزوم ذكر سبب الجرح و تفسيره و هو المحكي عن الإسكافي و الشيخ و ابن البراج و ابن حمزة و ابن إدريس و أكثر الأصحاب و استدل للأول بما استدل به لكفاية الإطلاق في التعديل.

و لا وجه لدعوى معارضتها بالعمومات المانعة من العمل بغير العلم لأنها حاكمة عليها شأن سائر أدلة الأمارات و استدل للثاني بالأصل أعني أصالة عدم الحجية و

بالعمومات المانعة عن العمل بغير العلم. و لا يخفى ما فيه فان الأصل لا يجري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 318

بعد قيام الدليل على الحجية و هو حاكم على العمومات المانعة من العمل بغير العلم شأن سائر أدلة الامارات. و استدل أيضا بأن الناس يختلفون فيما به الجرح و ما هو المضر بالعدالة فإذا كانت الشهادة بالجرح مستندة لما هو خلاف رأي الحاكم لا يقبلها الحاكم. و مع إطلاق الشهادة يدور أمرها بين المقبولة و غيرها و الشك في الشرط يستلزم الشك في المشروط. و فيه ما ذكرنا في جواب من منع من إطلاق التعديل مضافا لما تقدم ص 289 من عدم العبرة برأي الحاكم و المزكي و انما العبرة برأي المزكى

و قد يستدل له بأن الأخبار عن الجرح من دون ذكر السبب اخبار عن أمر حدسي

من حيث اختلاف المذاهب فيما يوجب الجرح و لا دليل لنا على وجوب تصديق العادل في الأخبار عن الأمور الحدسية الاجتهادية و ذلك لان الأدلة الدالة على وجوب تصديق العادل انما هي تنفي احتمال تعمد الكذب منه و لا تنفي احتمال الخطأ منه لان الصدق الذي تأمر به هو الصدق الذي هو تحت اختياره و هو الصدق من جهة عدم تعمده الكذب و أما الصدق من جهة عدم خطأه و اشتباهه فهو ليس تحت اختياره. و عليه فاذا كان في اخبار العادل عن شي ء ما يدل على نفي خطئه و اشتباهه نأخذ بخبره و نعمل به كما في اخباره عن الحسيات حيث ان بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ فيها لندرة وقوع الخطأ فيها و إذا لم يكن في اخبار العادل عن شي ء ما يدل على نفي الخطأ عنه فلا نأخذ به كما في اخباره عن الأمور الحدسية

الاجتهادية حيث ان العقلاء لم يكن بنائهم فيها على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ فأصالة عدم الخطأ غير جارية فيها فلا يعمل بتلك الأخبار. و لا يخفى ما فيه لما حققناه في محله من أن الأخبار عن الأمور الحدسية التي قريبة الى الحس لابتنائها على مقدمات واضحة جلية يبنون العقلاء على أصالة عدم الخطأ و الاشتباه فيها لعين ما ذكر في الأخبار عن الأمور الحسية من ندرة وقوع الخطأ فيها و لذا تراهم يقبلون الأخبار عن الاجتهاد في العلم و عن الأفضلية فيه، و عن العدالة،

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 319

و عن الطهارة، و عن النجاسة بل و عن الملكية و الزوجية و الرقية و نحو ذلك.

و العجيب من المرحوم الاشتياني في كتاب القضاء اعتمد على الدليل المذكور و لم يتفطن لما ذكرناه من الجواب. و الأغرب من ذلك انه أورد على نفسه بالشهادة بالملكية و الزوجية و أجاب (ره) عنه بأن ذلك خارج عن محل الفرض لوجود أصل يحرز به الواقع و هو أصالة الصحة في المشهود به فيكون حال هذا الأصل في المقام حال أصالة عدم الخطأ الجارية في الأخبار عن الحسيات. و وجه الفساد هو ان أصالة عدم الخطأ من المخبر إذا كانت لا تجري في الأخبار عن الحدسيات فهنا أيضا لا تجري فلا نأخذ باخباره. و أصالة الصحة لا تخرج الشي ء عن كونه حدسيا قد يخطأ فيه المخبر فهنا نحتاج إلى أصلين أصالة الصحة و أصالة عدم الخطأ (و الأول) جاري في مقدمات المخبر عنه و هي أسباب الملكية و الزوجية (و الثاني) جاري في نفس الشخص المخبر.

[الفائدة] «الثانية» التعارض بين الجرح و التعديل
اشارة

(الثانية) إذا قامت البينة على عدالة شخص و قامت بينة أخرى

على جرحه. كقول المفيد (ره) في محمد بن سنان انه ثقة و قول الشيخ انه ضعيف و كقول ابن الغضائري في داود الرقي انه فاسد المذهب لا يلتفت اليه و قول غيره انه كان ثقة. قال فيه الصادق (ع): أنزلوه مني منزلة المقداد من رسول اللّه (ص) فهنا صور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 320

(الاولى) وقوع التعارض بينهما مع عدم المزية لإحداهما على الأخرى
اشارة

لا باعتبار حال المزكي و الجارح كأن كان إحداهما أعدل و لا باعتبار كلامهما كأن كان كلام أحدهما أظهر و لا باعتبار أمر خارج ككون إحداهما أكثر فذهب جماعة إلى التوقف بمعنى لا يحكم بالفسق و لا بالعدالة كما في مجهول الحال و هو المحكي عن الخلاف و التهذيب و المختلف و المنية و الدروس و المسالك و الكفاية و الظاهر انه المشهور بين الأصحاب بل بين علماء الإسلام. و استدلوا على ذلك بان الشهادات قد تقابلت و لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فيتوقف عن الحكم على طبق إحداهما. و فيه انهم إن أرادوا بالتوقف هو سقوطهما و فرض المقام كما لو لم تكن بينة أصلا فهو مبني على تساقط الحجتين عند التعارض و نحن قد قررنا في محله ان مقتضى القاعدة عند التعارض هو التخيير و سيجي ء ان شاء اللّه في التنبيه في آخر هذه الصورة ما يوضح الحال. قالوا: و تظهر الثمرة بين القول بالتوقف و بين القول بالجرح انه على القول بالتوقف يرجع الى الحالة السابقة من العدالة أو الفسق إن كانت معلومة و إلا فيكون من قبيل مجهول الحال لتساقط البينتين و أما على القول بتقديم الجرح فيؤخذ به و لا يعتني بالحالة السابقة و أيضا على القول بالتوقف لو قام دليل آخر

على العدالة أخذ به لسقوط البينتين و جعلهما كالعدم للتوقف فيكون الدليل بلا معارض بخلاف ما لو رجحنا الجرح و ذهب آخرون الى تقديم شهادة الجرح كما عن الشرائع و عن المبسوط للشيخ (ره) و عن المعالم نسبته الى أكثر الناس و استدلوا له.

(أولا) بأن بتقديم الجرح جمعا بينهما إذ غاية قول المعدل انه لم يعلم فسقا و الجارح يقول انا علمته فلو حكمنا بالعدالة كان الجارح كاذبا، و إذا حكمنا بفسقه كانا صادقين و الجمع اولى ما أمكن، و لذا لو ظهرت عدالته بالاختبار ثمَّ قامت البينة على فسقه عملنا بقول البينة. و جوابه ان الفرض ان العدالة تنافي الفسق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 321

و تضاده فالذي يشهد بالعدالة يعلم بعدم الفسق و لذا فسرت العدالة بالملكة اللازمة لفعل الواجبات و ترك المحرمات فتقديم كل منهما يوجب كذب الآخر. و في صورة الاختبار إذا حصل العلم بالعدالة طرحنا البينة و عند عدم حصول العلم فهو ليس بحجة و لا بد من الأخذ بالبينة.

(و ثانيا) إن الظن الحاصل من قول الجارح أقوى. و فيه انا لو سلمنا ذلك فلا دليل لنا على حجية هذا الظن.

(و ثالثا) بما رواه الكافي و التهذيب عن أبي عبد اللّه (ع) ان أمير المؤمنين (ع) كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان و شهد له ألف بالبراءة جازت شهادة الرجلين و أبطل شهادة الألف لأنه دين مكتوم فإنه من التعليل يفهم ان البينة إذا قامت على أمر خفي ترجح على البينة المعارض لها و لا ريب ان الفسق أمر خفي و لذا علل بعض الأصحاب وجه تقديم الجرح بأنه مما يخفى و فيه

ان الرواية ضعيفة. و لو تنزلنا فهي مخصوصة بالدين الخفي كالزندقة.

(و رابعا) ما روي عنهم (ع) «من أن الغائب على حجته إذا حضر» فإنه لو لا تقديم الجرح على التعديل لم يكن لذلك وجه. و فيه انه انما يقتضي سماع رد الغائب إذا حضر و هو لا يقتضي تقديم جرحه بل قد يتوقف في الحكم عند تقديمه البينة الجارحة.

(و خامسا) انه يجب تقديم بينة الجرح لأنها تدل على ما لا تنفيه بينة التعديل و كانت ساكتة عنه فيجب الأخذ بها تصديقا لهما و عملا بهما من دون تصرف فيهما كالبينتين الغير المتعارضتين و ذلك ان بينة الجرح تدل على صدور الكبيرة منه و ساكتة عن وجود ملكة العدالة عنده كما ان بينة التعديل تدل على وجود الملكة المذكورة عنده و ساكتة عن عدم صدور الكبيرة منه غاية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 322

الأمر أنها تعرف عدم صدور الكبيرة من المشهود عليه بواسطة أصالة عدم صدورها منه أو اليقين بعدم صدورها منه أو اليقين بالتوبة منها بعد صدورها منه. فتكون هذه محتملات في بينة التعديل من غير دلالة لها على أحدها.

و إذا كان الأمر كذلك فالواجب هو الأخذ بما دلت عليه كل من بينة التعديل و الجرح و طرح ما سكتت عنه كما هو الشأن في سائر الأدلة و مقتضى ذلك أن يكون للمشهود عليه ملكة (كما هو مدلول بينة التعديل) و ان يكون قد صدرت منه الكبيرة (كما هو مقتضى بينة الجرح). و لا يخفى ما فيه فان العدالة تنافي الفسق و تعانده. و قد عرفت فيما تقدم ص 225 من انها الملكة الملازمة لفعل الواجبات و ترك المحرمات فهي لا ينفك

عنها عدم الكبيرة كيف و لو كان ينفك عنها ذلك لما كان فائدة باشتراط العدالة في الشاهد و غيره لعدم الامانة به و استوى هو و الفاسق في احتمال تعمد الخيانة فالشهادة بالعدالة غير ساكتة عن الدلالة على عدم صدور الكبيرة و عدم صدور منافيات المروة بل هي دالة على ذلك.

و الشهادة بالجرح دالة على عدم الملكة المذكورة أعني الملازمة لعدم الكبيرة و لعدم منافيات المروة. و أما الملكة التي تجتمع مع صدور الكبيرة فهي ليست بالعدالة فلم تكن مشهودا بها هذا على تفسير العدالة بالملكة و أما على تفسيرها بحسن الظاهر فالفسق الذي ينافيها هو فعل ما ينافي حسن الظاهر فالشهادة بالجرح تدل على عدم حسن الظاهر و هكذا على تفسيرها بأنها فعل الواجبات و ترك المحرمات أو ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق و الحاصل ان دعوى السكوت عما ذكر في شهادة التعديل أو الجرح لا وجه لها و العجب من مدعيها.

(و سادسا) ان الأخبار بالعدالة إخبار بأمر وجودي و هو الملكة و عدمي و هو عدم صدور الكبيرة و منافيات المروة و لا ريب ان الأخبار بالأمر العدمي مستنده عدم العلم و الأصل. فلا يعارض ما هو بمنزلة الدليل بالنسبة إليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 323

أعني أخبار الجارح بوجود الكبيرة أو منافيات المروة كما لا يعارض الأصل الدليل. و (الحاصل) ان الحاصل من قوله (فلان عادل) هو العدالة الظاهرية و الحاصل من قوله (فلان فاسق) هو كونه غير عادل واقعا و من المعلوم انه لا تنافي بين العدالة الظاهرية و الفسق الواقعي كما لا تنافي بين الطهارة الظاهرية و النجاسة الواقعية فيما إذا قامت البينة عليهما بحيث علمنا

كون البينة على الطهارة من جهة الأصل. و بهذا يظهر ان الأخذ بشهادة الجارح ليس طرحا لشهادة المعدل لأن رفع اليد عن الأصل بعد قيام الدليل على خلافه ليس بطرح له.

و ان الجمع فيما نحن فيه ليس من قبيل الجمع بين الروايتين المتعارضتين حتى يقال انه جمع لا دليل عليه بل لا يعقل من حيث عدم إمكان أن يصير كلام متكلم قرينة على المراد من كلام متكلم آخر. و ذلك لأن مرجع الجمع فيما نحن فيه الى العمل بأدلة البينة في كل منهما و (بعبارة أخرى) ان الامارة إذا كانت بحيث يزول ذاتها بالعلم بالخلاف كانت نسبتها الى كل امارة على خلافها كنسبة الأصل إلى الدليل في عدم المعارضة و انما تصلح الامارة للمعارضة إذا لم يكن العلم بخلافها رافعا لذاتها و انما يرفع حكمها كالخبر مثلا فان العلم بخلافه يكذبه و لا يزيل ذاته و لا يخرجه عن كونه خبرا و إنما يزيل اعتباره و حجيته و هذا بخلاف عدم الوجدان و عدم البيان و عدم الدليل و نحوها من الامارات العدمية بعد الفحص و التتبع و كأصل البراءة و الاستصحاب. فان العلم بالوجود و الدليل و البيان يضادها بذاتها و يوجب زوال نفسها لا انه يوجب عدم اعتبارها و فيما نحن فيه ان العلم بالجرح و الدليل عليه يزيل موضوع التعديل و ذاته لأنه عبارة عن الأخبار بالملكة مع عدم ثبوت صدور الكبيرة منه و هذا الاستدلال الظاهر انه للشيخ الأنصاري (ره) و قد آمن به عدة من تلاميذه المحققين (ره) و لكن يمكن أن يجاب عنه من جهات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 324

(الاولى) إن العدالة كما عرفت هي

الملكة الملازمة لترك الكبائر و الإصرار على الصغائر، و أما الملكة الغير الملازمة لها فليست من العدالة شأن سائر الأمور ذات الملكات. و عليه فالشاهد بالعدالة لا بد من استناده إلى الملكة التي يعلم بملازمتها لذلك فهو يعلم بعدم صدور الكبيرة منه إن كان مستند شهادته هو العلم و إن كان مستند شهادته هو الامارة الشرعية كحسن الظاهر فهو يكون ممن قامت عنده الامارة الشرعية على عدم صدور الكبيرة منه و ليس يكون الأصل الذي ذكره هو المستند أبدا فان الأصل المذكور إنما يجري مع الملكة الغير الملازمة لعدم صدور الكبيرة لأن الملكة الملازمة له يعلم معها بعدم الكبيرة فلا يجري الأصل. فإذا كان الأصل المذكور انما يجري مع الملكة الغير الملازمة و الملكة الغير الملازمة ليس هي بالعدالة فتكون دائما بينة التعديل تعارض بينة الجرح.

(الثانية) انا لو سلمنا ذلك لكنا لا نعلم استناد بينة التعديل الى الأصل فلعلها استندت الى العلم بعدم الكبيرة أو استندت إلى التوبة بعد الفسق لا إلى أصالة عدم الكبيرة فلا يكون الجرح بالنسبة إليها من قبيل الدليل بالنسبة الى الأصل بل ربما يكون الأمر بالعكس فيكون الجرح بمنزلة الأصل و التعديل بمنزلة الدليل فيما لو كان مستند الجرح هو صدور الكبيرة و أصالة عدم التوبة و مستند التعديل هو العلم بالتوبة نعم لو كان دائما و أبدا التعديل مرجعه الى عدم العلم بالكبيرة و الجرح مرجعه الى العلم بها اتجه تقديم الجارح أما مع قيام الاحتمال المزبور في كل جرح و تعديل فلا وجه لتقديم الجرح لأن نسبة الأصلية و الدليلية الى كل منهما على حد سواء (و دعوى) ان ذلك الاحتمال أمر خارج عن مدلول قول المعدل لأن

حاق معنى التعديل لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي و هي الملكة و عدم العلم بالفسق كما أن حاق معنى الجرح لا يزيد عن الأخبار بأمر وجودي و هو فعل الكبيرة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 325

و عدم العلم بوجود أمر آخر بعده و هو التوبة فيؤخذ بكل منهما في معلومه و هو الأمر الوجودي فقط دون مجهوله بل يرجع في المجهول منهما الى الأصل إذا لم يعارضه قول الآخر. و مقتضى الأخذ بقول المعدل في معلومه تصديقه في وجود ملكة العدالة. و لا يصح الرجوع في مجهوله و هو الفسق الى الأصل بأن يقال الأصل عدم الفسق لأن قول الجارح في معلومه يثبت الفسق و حينئذ يرجع في مجهول قول الجارح و هو التوبة الى الأصل و هو أصالة عدم التوبة.

فيكون الحاصل من التصديقين هو ثبوت الفسق و الثابت من الأصلين هو أصالة عدم التوبة. و اما احتمال استنادا المعدل الى العلم بالتوبة بعد الفسق الذي شهد به الجارح. فلا يدل ظاهر لفظ التعديل عليه لان العام لا يدل على الخاص بل على القدر المشترك فإن الأخبار بالرجل لا يرتب عليه أحكام مجي ء زيد بل أحكام مجي ء الرجل ففيما نحن فيه الاخبار بالتعديل لا يرتب عليه آثار العدالة الحاصلة بالتوبة بعد المعصية لأن العدالة قد تحصل بالملكة الابتدائية مع عدم تحقق الفسق في الخارج كما قد تحصل بالتوبة بعد الفسق و القدر المشترك بينهما هو الملكة مع عدم الفسق فاذا أخبر المعدل وجب تصديقه في ذلك القدر المشترك لا في الملكة الحاصلة بالتوبة.

(فاسدة) لأنه لو سلمنا ما ذكره من عدم دلالة التعديل على عدم الفسق و تنزلنا له عما قررناه من

ان التعديل هو شهادة بالملكة الملازمة لعدم الفسق فنقول ان مجهول الجارح هو العدالة فلا يجري الأصل فيها لأنها معلومة من قول المعدل فكما ان مجهول المعدل و هو الفسق الأصل لا يجري فيه للمعلوم من قول الجارح و هو الفسق فكذلك مجهول الجارح و هو العدالة لا يجري فيه الأصل للمعلوم من قول المعدل و هو العدالة.

(إن قلت): ان العدالة المجهولة للجارح هي العدالة بنحو التوبة من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 326

الكبيرة لأنها هي التي تزيل الفسق و هي لا يدل عليها قول المعدل لأن العام لا يدل على أحد أفراده فيجري الأصل في عدمها. (قلت): هكذا نقول في طرف المعدل فان الفسق المجهول له هو الفسق بالكبيرة بعد العدالة و الأخبار بالفسق اخبار بالعام لأن الفسق قد يكون قبل العدالة و قد يكون بعدها و قد يكون بدون تحققها أصلا فهو عام لا يدل على رفع هذا الفرد (فتلخص) ان الأصل في كل منهما على حد سواء فلا يمكن أن يحكم بعدالة المشهود عليه فعلا و لا بفسقه فعلا و إنما يحكم بأنه قد صار عادلا و صار فاسقا و لا يعلم المتأخر منهما حتى يستصحب بقائه أو عدم حدوث ما يضاده.

(الثالثة) ان صدور الكبيرة له أفراد ثلاثة منه ما هو قبل العدالة و منه ما هو بعدها و منه ما هو بدونها و الفسق إنما يكون أثرا للفردين الآخرين دون الأول و من المعلوم ان الشهادة بالجرح لما كانت مطلقة كما هو محل الكلام فإنما يثبت بها القدر المشترك بين الثلاثة و هو ليس من آثاره فسق المشهود عليه فعلا بعين ما ذكره الخصم في الشهادة بالعدالة من

أنها انما تثبت القدر المشترك بين الملكة قبل المعصية أو الملكة بعدها و القدر المشترك ليس من آثاره العدالة فعلا (الرابعة) ان احتمال استناد المعدل الى العلم بالتوبة و ان كان ما ذكره الخصم فيه صحيحا لكن لما كان اخبار المعدل يحتمله كان الثابت بقول المعدل هو العدالة التي هي القدر المشترك بين العدالة الواقعية و الظاهرية و لا ريب انها لا تثبت لها آثار العدالة الظاهرية لأنها من أفرادها فلا يكون الثابت بالتعديل بمنزلة الأصل و إنما تكون بمنزلة الأصل لو كان الثابت به خصوص العدالة الظاهرية فهو نظير ما إذا ثبت بالشهادة الطهارة أعم من الظاهرية و الواقعية فإن الثابت بها حينئذ لا يرتب عليه آثار الطهارة الظاهرية و لا يحرز حينئذ في الشهادة على النجاسة انها بمنزلة الدليل بالنسبة إليها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 327

(الخامسة) انا لو سلمنا ان التعديل اخبار بالعدالة الظاهرية و ان الاخبار بالعدالة الظاهرية و إن كان يجتمع مع الاخبار بالفسق الواقعي لكن دليل حجية الشهادة يقتضي وجوب الالتزام بالمضمون سواء كان حكما ظاهريا أو واقعيا

[معنى صدق العادل في الإخبار عن الحكم الظاهري كما لو أخبر عن الطهارة الظاهرية]

فمعنى وجوب تصديق المخبر بالعدالة الظاهرية هو الالتزام بآثارها و لو في مرحلة الظاهر. و هكذا معنى وجوب تصديق الخبر بالفسق الواقعي هو الالتزام بآثار الفسق الواقعي و حينئذ فيكون دليل حجية الشهادة يقتضي الالتزام بكل منهما و هو محال فالعمل بشهادة الجارح يكون ترجيحا لها على شهادة المعدل لا انه جمعا بينهما و بعبارة أخرى انه لو كان مفاد أدلة حجية الشهادة بالأمر الظاهري و مفاد أدلة حجية خبر العادل بالأمر الظاهري هو الحكم ظاهرا بثبوت ذلك الأمر الظاهري لارتفع بمجرد قيام الدليل على الحكم واقعا فتكون

العدالة الظاهرية يرفعها الأخبار بالفسق الواقعي و لكن التحقيق ان مفادها هو ترتيب الأثر الشرعي واقعا على هذا الأمر الظاهري. فالمخبر به و ان كان أمرا ظاهريا إلا ان الحكم بثبوته و ترتيب الأثر عليه ليس ظاهريا. (توضيح ذلك) ان الشخص إذا أخبر بأمر ظاهري كالعدالة و انحصار الوارث و الطهارة و كل ما يشتمل على أمر عدمي ففي تصديقه يحتمل أمران: (أحدهما) الالتزام الواقعي بالحكم الظاهري و (الثاني) الالتزام الظاهري بالحكم الواقعي و على الأول يقع التعارض مع الأخبار بضده دون الثاني إلا ان التحقيق هو الأول لأن ليس معنى (صدّق) إلا الالتزام بمضمونه و ترتيب الآثار عليه لا ان معناه أن المضمون ثابت لك على نحو ثبوته للمخبر حتى يرتفع عند قيام الدليل على ضده كما كان الأمر كذلك في المخبر و ذلك لأن الحكم الظاهري بظاهريته و بحدوده و بما هو حكم ظاهري غير قابل لأن يثبته الشارع بما هو شارع في حق الغير بعنوان التصديق لأن الغير إن كان شاكا في الحكم الواقعي فهو ثابت في حقه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 328

الحكم الظاهري من غير حاجة لإثباته لذلك الغير بعنوان التصديق للمخبر و إن كان عالما بالواقع فيجب عليه العمل بعلمه لا بالأخبار بالحكم الظاهري فلا بد ان يكون مورد التصديق بالأخبار بالحكم الظاهري هو ما لا يكفي مجرد الشك في الحكم به كالطهارة فإن الذي لا يكفي فيه مجرد الشك الابتدائي و لا بد فيه من الفحص كانحصار الوارث فاذا شهد به الشاهد صدقه الحاكم في الفحص الذي امتاز به الشاهد عن غيره.

(ان قلت): ان ما دل على وجوب تصديق المخبر لا يجعل المخبر له اولى

من المخبر و أقوى منه في العمل بخبره و اعتقاده و الا لزم زيادة الفرع على الأصل. فكما ان المخبر يرفع اليد عن عدالة الشخص الظاهرية المستندة لثبوت الملكة و أصالة عدم صدور الكبيرة منه إذا قام الدليل على صدور الكبيرة من ذلك الشخص كذلك المأمور بتصديق المخبر يرفع اليد عن العدالة الظاهرية لذلك إذا قام الدليل على صدور الكبيرة منه. فالأصل و الدليل و ان لم يوجدا في حق المأمور بالتصديق حقيقة الا انه وجدا حكما. (قلنا): ليس في ذلك زيادة و انما هو مقتضى الأمر بالتصديق فان معنى تصديق المخبر في خبره هو ترتيب آثار الواقع على وجوده و تنزيله منزلة الموجود فاذا أخبر بانحصار الوارث بهذا الشخص و أمرنا الشارع بتصديقه فمعناه ترتيب آثار ارث هذا الشخص للميت مع الفحص اللازم عن وارث غيره و عدم وجوده فلو عمل بأمارة تدل على وجود وارث غيره لم يكن قد صدقناه في خبره ألا ترى انه لو شهدت البينة بملكية الدار لزيد من جهة يده عليها فإنها تعارضها البينة على نفي ملكيته لها. مع انه نفس الشهود بالملكية من جهة اليد لو قامت عندهم البينة بنفي الملكية لقدموها على اليد.

(و سابعا) ما حكاه المرحوم الاشتياني عن بعضهم من انه يرجح بينة الجرح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 329

على بينة التعديل من حيث كون مستند الاولى قطعيا، و الثاني ظنيا فان الشاهد بالجرح يستند إلى رؤية الكبيرة كالزنا و نحوه و الشاهد بالتعديل يستند الى الظن بعدم صدور الكبيرة. و قد تقرر في محله انه ترجح الرواية المعلومة الصدور عن الامام (ع) بالسماع أو بغيره على غيرها في صورة التعارض. و فيه

مضافا الى انا لا نسلم ان مستند المعدل ظنيا لا قطعيا فان المعدل يعلم بالملكة الملازمة لترك الكبائر أو تقوم عنده الحجة على ذلك كالجارح و لو سلمنا ذلك فهو قياس على الرواية لا يصح الاعتماد عليه.

[ترجيح احدى البينتين على الأخرى بالقرعة]
اشارة

هذا و قد يرجح احدى البينتين على الأخرى بالقرعة لأن القرعة لكل أمر مشكل و لبعض الأخبار المتضمنة للقرعة عند تعارض البينات. و لا يخفى ما فيه لوهن عمومها لما نحن فيه لعدم القائل بها في المقام.

[عند عدم الترجيح لإحدى البينتين على الأخرى هل يرجع الى الأصول أو تقف الدعوى]

(تنبيه) انه بناء على عدم الترجيح لإحدى البينتين على الأخرى فهل يرجع الى الأصول فيستصحب الحالة السابقة من العدالة أو الفسق أو يتخير بينهما و على تقدير أن يرجع الى الأصول و كان الأصل يقتضي عدم العدالة فهل تقف الدعوى أو يرجع الى ميزان آخر في حلها كاليمين و بعبارة أخرى انه يتوقف عن الحكم مطلقا أو عن الحكم بمقتضى البينة فقط كما لو لم تكن بينة أصلا. مقتضى ما بنينا عليه من التخيير عند تعارض الحجتين هو أن يختار في العمل بأيهما شاء و عليه فلا وجه لطرح البينتين و الرجوع الى ميزان آخر أو التوقف عن الحكم مطلقا. (نعم) يمكن أن يقال انه في باب الدعاوي يؤخذ ببينة التعديل لأن صاحبها مدعي لعدالة الشهود و لا يؤخذ ببينة الجارح لأنه منكر لعدالة الشهود لأن البينة على المدعي و اليمين على من أنكر و إن أبيت عن ذلك و قلت لا نسلم جريان هذه القاعدة هنا فالمستفاد من الأخبار الواردة في تعارض البينات بواسطة تنقيح المناط هو أن يستحلف كل من الذي أقام بينة التعديل و الذي أقام بينة الجرح فان امتنع أحدهما عن اليمين

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 330

حلّف الآخر و حكم على طبق بينته و إن لم يمتنع كل منهما عن اليمين أقرع بينهما في اليمين فكل من خرجت القرعة له حلف و ان امتنعا عن اليمين معا أقرع بينهما و

إن كان في غير مقام الدعوى كمعرفة عدالة الراوي أو اجتهاد المجتهد أو عدالة المجتهد تخير في الأخذ بأحدهما إلا اللهم أن يدعى الإجماع على عدم جواز التخيير. و عليه فلا بد من تساقطهما و الرجوع الى الأصل من العدالة أو الفسق و مع عدم الأصل فيتوقف و يكون مجهولا لأن البينة إذ ذاك بمنزلة المعدومة

(الصورة الثانية) أن يقع التعارض بين الجرح و التعديل و يكون لأحدهما مرجح داخلي

كأن يكون أحدهما أعلم من الآخر أو أورع منه أو أضبط منه أو أدق منه أو نحو ذلك و بعبارة أخرى يكون أحدهما أرجح من الآخر بحسب المرجحات السندية و قد ذهب الى الترجيح بذلك جماعة و ينسب ذلك لصاحب النهاية و التهذيب و المنية و المعالم. و يظهر من إطلاق كثير من الكتب الفقهية كالخلاف و الكفاية و المسالك و غيرها لزوم التوقف هنا و عدم الترجيح و يكون المشهود عليه بمنزلة مجهول الحال بل ينسب إلى الشرائع و المعارج لزوم تقديم الجارح هنا و يمكن أن يقال انه لا دليل على الترجيح بذلك.

(إن قلت): قوة الظن بصدق من كانت المرجحات معه. (قلنا):

لا دليل على حجية هذا الظن و لا على الترجيح به.

(إن قلت): إن قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ. يدل على ترجيح العالم على الجاهل و هو يقتضي ترجيح شهادته على غيره و إلا لزم المساواة بينهما و يتم في الباقي بضميمة عدم الفصل. (قلنا):

مضافا الى انصراف إطلاق الآية الشريفة الى غير محل البحث معارضتها بالعمومات المانعة من العمل بغير العلم تعارض العامين من وجه.

(إن قلت): ان الاخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات في باب تعارض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 331

الاخبار تدل على الترجيح بها في باب الشهادات.

(قلنا): هي مختصة بتعارض الروايات أو القضاء. لا بتعارض البينات في الموضوعات الصرفة كالعدالة و الفسق.

(إن قلت): انه قام الإجماع على الترجيح بالمرجحات المورثة للظن عند التعارض بين الحجتين. (قلنا): قد عرفت عدم تحقق الإجماع لوجود المخالف في المسألة.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 331

(إن قلت): انه لا يجوز الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح لقبح ذلك عقلا فلا بد أن يأخذ بالراجح. (قلنا): انا ننكر تحقق الرجحان بذلك عند الشارع مضافا الى وجود القائل بأنا نطرحهما و لا نأخذ بأحدهما فلا يلزم ترجيح المرجوح على الراجح (نعم) يظهر من بعض الروايات الترجيح بالأعدلية عند التعارض و في الكافي و التهذيب و الفقيه عن أبي عبد اللّه (ع) انه إذا شهد رجل على رجل فجاء الرجل فقال لم أشهد تجوز شهادة أعدلهما و سيجي ء إن شاء اللّه انه في التهذيب و الاستبصار و الفقيه يقدم الأعدل عند تعارض البينات و ان كانت البينة الأخرى أكثر عددا.

(الصورة الثالثة) أن يقع التعارض بين الجرح و التعديل و لكن يكون أحدهما أرجح من الآخر بالشياع

و الاستفاضة، أو كثرة العدد و نحو ذلك و الذي يظهر من المحكي عن التهذيب و الاستبصار هو الترجيح بالأكثرية مع الحلف عند التساوي في العدالة و الا لأعدلهما شهودا و هو الذي يظهر من الصدوق (ره) و الذي يظهر من المحكي عن العلامة (ره) في الخلاصة الترجيح بالأكثرية عددا حيث انه (ره) في ترجمة إبراهيم بن سليمان رجح تعديل الشيخ و النجاشي له على جرح ابن الغضائري لكثرة العدد، و كذا في ترجمة إسماعيل بن مهران و لكن في نهاية الأصول خالف

ذلك و لم يعتبر الترجيح بزيادة العدد. و السيد رحمه اللّه في ملحقات العروة قد ذكر ان الجرح و التعديل إذا تعارضا و كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 332

شهود الجرح اثنين و شهود التعديل أربعة يمكن ان يقال بتساقط اثنين باثنين و بقاء اثنين للتعديل و كذا العكس، و الأولى من ذلك إذا كان كل منهما اثنين و بعد التساقط وجد اثنان آخران لأحدهما و فيه ان ذلك لما كان في عرض واحد أوجب التساقط. و لكن يمكن أن يقال بتقديم البينة التي هي أكثر عددا للروايات الدالة على الأخذ بها مع حلف الذي أقامهم على مدعاه.

(الصورة الرابعة) إذا كان المتعارضان يمكن الجمع العرفي

المعتبر بين كلاميهما و الحكم بصدقهما كأن يكون أحدهما كالخاص بالنسبة إلى العام الذي قبله و المقيد بالنسبة للمطلق قبله و المبين بالنسبة للمجمل قبله و الناسخ بالنسبة للمنسوخ قبله كأن شهد المزكي بالعدالة مطلقا أو مفصلا من دون ضبط وقت معين و شهد الجارح بفعل ما يوجب الجرح في وقت معين قدم الجرح لحصول الشهادتين من دون تعارض بينهما أصلا. و لو قال الجارح رأيته يرتكب يوم كذا كبيرة. و قال المزكي: لقد تاب بعد ذلك و هو فعلا ذو ملكة قدم قول المزكي و ذلك للزوم الجمع العرفي لبناء العقلاء عليه و قد أمضاه الشارع و للإجماع على ذلك. و من هنا اشتهر الحكم بتقديم مدعي الزيادة على غيره لأن شهادته بالنسبة إليها خالية عن المعارض لأن الآخر معترف بجهله بها و معه لا يتحقق التنافي بينهما نظير ما لو شهد الجارح بصدور الكبيرة عن زيد مع اعترافه بعدم علمه بتوبته عنها و شهد المعدل بعدالته مدعيا توبته عنها أو شهد المعدل

بعدالته مع اعترافه بعدم علمه بصدور كبيرة منه و شهد الجارح بفسقه مدعيا علمه بصدور معصية منه و نحو ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 333

(الثالثة) صحة الشهادة بالعدالة أو الفسق إذا قامت الامارة المعتبرة عليهما
اشاره

(الثالثة) انه لا إشكال في جواز الشهادة بالعدالة أو الفسق فيما لو علم بهما من تكرار المعاشرة و كثرة الصحبة أو من البراهين القطعية كالبراهين على الوحدانية أو نحو ذلك من الأمور الموجبة للعلم بهما، و اما لو قام عنده طريق معتبر و حجة شرعية على العدالة أو الفسق كأن شهد عنده شاهدان بعدالة زيد أو فسقه أو نحو ذلك من طرق معرفة العدالة أو الجرح أو قام الاستصحاب عليهما فهل يجوز له الشهادة بهما أم لا؟ الحق جواز أن يشهد بالسبب المثبت للعدالة أو الفسق كأن يشهد بأن فلانا قامت البينة على عدالته أو فسقه أو استفاضت عدالته أو فسقه أو أن هذا الشخص كان عادلا بالأمس و هو الى الآن مستصحب العدالة أو ما يؤدي هذا المعنى نحو قوله و لا أعلم مزيلا لها أو لا أدري زوالها عنه لان جميع ذلك مشهودة و معلومه و على الحاكم أن يرتب الأثر على السبب المذكور إذا قامت البينة العادلة عليه فلو شهد عدلان بحسن ظاهر زيد عند الحاكم و كان الحاكم يرى ان حسن الظاهر طريق للعدالة حكم بعدالة زيد و هكذا لو شهدا بكونه عادلا أو فاسقا في اليوم الذي قبل هذا اليوم و كان الحاكم يرى حجية الاستصحاب استصحب عدالته أو فسقه لان دليل البينة يدل على ترتيب جميع الآثار الشرعية للمشهود عليه و من جملتها ثبوت العدالة به كما ان دليل البينة ينزلها منزلة العلم. و من جملة آثار العلم استصحاب المعلوم الى

الزمن الحاضر. و يدل على ذلك أيضا الأخبار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 334

الدالة على قبول الشهادة على الشهادة. و أما جواز الشهادة بنفس العدالة و الفسق عند عدم العلم بهما فالظاهر انه لا تجوز بلا خلاف للأدلة التي قامت على عدم جواز الشهادة على شي ء إلا عند العلم به كما في روايتي علي بن غياث و علي بن غراب لا تشهدن بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك. و في النبوي و قد سئل عن الشهادة. هل ترى الشمس؟ فقال: نعم فقال: على مثلها فاشهد قال في السرائر: و ما روي عنهم (ع) في هذا المعنى أكثر من أن يحصى و يجبر ضعف هذه الروايات عمل المشهور بها. و يدل عليه أيضا ان الشهادة بالشي ء إخبار عنه و ظاهر الأخبار عن الشي ء أنه يخبر عن الواقع المنكشف له فلو أخبر عنه بدون العلم به لزم التدليس و التغرير بالغير. و الحاصل انه لا اشكال عندهم في قيام الأدلة على عدم جواز الشهادة بغير العلم إلا ما أخرجه الدليل و الفسق و العدالة لم يخرجهما الدليل فلا تجوز الشهادة بهما بدون العلم و أما عند قيام الدليل المعتبر عليهما فيجوز الشهادة بهما فهنا مقامان:

(المقام الأول) في جواز الشهادة بالعدالة إذا قام عليها الدليل المعتبر

و الدليل على ذلك:

«أولا» ان في الاقتصار على صورة العلم بالعدالة حرجا شديدا موجبا لاختلال أمور المسلمين لانسداد باب العلم بها غالبا مع كثرة الاحتياج لمعرفتها.

«و ثانيا» قيام السيرة على ذلك لتعديل علماء الرجال في كتبهم لمن قامت البينة عندهم على عدالته.

«و ثالثا» إن ما دل على اعتبار الامارات يدل على ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه و من آثار الواقع جواز الشهادة به، و ببالي اني رأيت

هذا الاستدلال لبعض العلماء الأعلام و لكن لا يخفى ما فيه فان موضوع جواز الشهادة قد أخذ فيه العلم بالواقع فجوازها ليس من آثار الواقع و إنما هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 335

من آثار العلم به و أدلة الأمارات إنما تجعلها تقوم مقام العلم الطريقي لا العلم الموضوعي.

«و رابعا» الأخبار الكثيرة الدالة على ذلك (منها) ما تدل على جواز الاكتفاء بحسن الظاهر في مقام الشهادة كصحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة ص 222 (و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته في الناس). و لا ريب ان التعديل إظهار للعدالة. و نظيرها ما في رواية عبد اللّه بن سنان المتقدمة ص 224 (وجب أن يظهروا في الناس عدالته) و (منها) ما يستفاد منها ان كلما يجوز الاستناد إليه في مقام العمل يجوز الاستناد إليه في مقام الشهادة كرواية حفص (المنجبر ضعفها لو كان برواية المشايخ الثلاثة لها و موافقتها لفتوى المشهور و الإجماع المنقول) عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال له رجل إذا رأيت شيئا في يد رجل أ يجوز لي أن أشهد انه له قال (ع) نعم. قال الرجل: أشهد انه في يده و لا أشهد انه له فلعله لغيره. فقال (ع): أ فيحل الشراء منه؟ فقال الرجل نعم. فقال (ع): فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكا لك ثمَّ تقول بعد الملك هو لي و لا يجوز أن تنسبه الى من صار ملكه من قبله إليك ثمَّ قال (ع): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق فإنه يفهم من هذا التعليل انه يجوز الشهادة بالشي ء إذا قامت عليه الحجة الشرعية حيث (ع) جعل الشي ء المصحح

للشهادة هو الشي ء المصحح للبيع و الشراء. و هكذا يجوز الشهادة بالعدالة بواسطة استصحابها للإجماع على الشهادة على الموضوعات كالملك و الدين و نحوهما بواسطة الاستصحاب و للتعليل في رواية حفص المتقدمة. و لصحيحة ابن وهب و لموثقتيه المرويات في كتاب الشهادات. و هكذا يجوز الشهادة بالعدالة عند قيام شاهدين عدلين عليها و قد حكي عن الشيخ (ره) كفاية السماع عن العدلين فصاعدا في مطلق الحقوق فيصير بسماعه شاهد أصل و متحملا للشهادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 336

و يمكن أن يستدل له بالتعليل في رواية حفص المتقدمة. و بمكاتبة الصفار الصحيحة و فيها فهل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرضين التي فيها إذا يعرف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولا فوقع (ع) نعم يشهدون على شي ء معروف إن شاء اللّه. و قد ذهب بعضهم الى جواز الشهادة بالعدالة بواسطة الاستفاضة كما جوّز الشهادة بأمور أخرى بواسطة الاستفاضة و هي النسب و الملك و الوقف و الزوجية و الولاء و العتق و الموت و الولاية للقاضي و الرق و المحكي عن بعض المتأخرين عدم حصرها بتلك الأمور و جوّزها في كل ما يتعذر فيه المشاهدة في الأغلب و استدلوا على ذلك بالإجماع.

و لا يخفى ما فيه لمخالفة الإسكافي في ذلك ما عدى النسب. و المحكي عن الشهيد الثاني بمنع ذلك في الموت. و يمكن أن يقال ان الاستفاضة ليست بمعتبرة شرعا إلا في النسب لأنه لو لا ثبوت النسب بالاستفاضة و صحة الشهادة به لم يثبت نسب غالبا و لأن السيرة على ذلك. و دعوى ان الموت يتعذر مشاهدته للشهود في

أكثر الأوقات. و الوقف و العتق و الملك و الرقية و الولاية و العدالة و غيرها لو لم يجز في الشهادة عليها الاكتفاء بالاستفاضة لبطلت أكثر تلك الحقوق بتطاول الزمان و الدهور. فاسدة لأنها لو تمت لاقتضت جواز الشهادة بالاستفاضة في غير تلك الموارد، و للأخبار المعتبرة للعلم في الشهادة و للآيات و الروايات المانعة من اتباع غير العلم و قد تقدم منا عدم حجية الاستفاضة ص 297 فكيف يصح الاعتماد عليها في الشهادة و هكذا لا يجوز الشهادة بالعدالة بواسطة الظن بالشي ء حتى الظن المتاخم للعلم المعبر عنه بالاطمئنان لعدم حجيته للأخبار المعتبرة للعلم في الشهادة و للآيات و الروايات المانعة من اتباع غير العلم و لما تقدم ص 307 من عدم حجيته. و من هنا ظهر لك انه لا وجه لما في قضاء الاشتياني رحمه اللّه و غيره من جواز الاعتماد على الظن أو الاطمئنان بالعدالة في الشهادة بها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 337

لعدم الدليل على ذلك. و دعوى لزوم العسر و الحرج لا وجه لها لعدم لزومه عند الاعتماد على ما هو الطريق الشرعي للعدالة.

(و أما المقام الثاني) و هو جواز الشهادة بالجرح إذا قام الدليل المعتبر عليه
اشارة

فالظاهر ان مذهب الأكثر عدم جوازه. و قد نقل بعضهم عدم الخلاف في ذلك و لكن يمكن أن يستدل للجواز بالتعليل في رواية حفص و الاستدلال بأن ما دل على اعتبار الدليل يدل على ترتيب آثار الواقع على ما قام عليه و من آثار الواقع جواز الشهادة به فاسد لما تقدم ص 334 و هكذا يجوز الشهادة به للاستصحاب و لقيام البينة عليه.

[حكم الحاكم إذا قامت الشهادة عليها]

(ثمَّ هذا الذي ذكرناه) إنما هو في بيان وظيفة الشاهد في أداء الشهادة بالعدالة أما الحاكم فهل يجب عليه الحكم بها أو يجوز له أو يحرم عليه إلا مع بيان السبب فان الوجوه المتقدمة إنما تدل على جواز الشهادة بواسطة قيام الدليل المعتبر و ليس لها دلالة على وجوب قبول الحاكم لها. فإنه يمكن التفكيك بينهما ألا ترى انه لا إشكال في جواز الشهادة بالجرح و التعديل المطلقين للعالم بهما و لكن عند الأكثر انه لا يجب على الحاكم بل لا يجوز الحكم بها إلا مع بيان السبب أو اتفاق الشاهد مع الحكم في أسبابهما. (و كيف كان) فقد استدل صاحب المستند على عدم كفاية الإطلاق في الشهادة و انه لا بد من بيان المستند لها من انه الحس أو اليد أو الاستصحاب أو البينة و نحو ذلك مما هو مستند الشهادة بوجهين:

(أحدهما) إن الشهادة اختلفوا في المستند لها، فبعضهم خصه بالحس و لم يكتفي بغيره و المكتفون بغيره اختلفوا فيما بينهم منهم من اكتفى بالاستفاضة الظنية، و منهم من اكتفى بالاطمئنان الى غير ذلك من وجوه الاختلافات فيما بينهم، و مع هذا الاختلاف و تشتت الآراء كيف يعلم الحاكم يتحقق ما هو الشهادة الصحيحة عنده بمجرد الشهادة المطلقة حتى يجوز له

أو يجب عليه الحكم بها.

و الأصل تحقق عدمها و عدم تحقق الشهادة المقبولة. و (دعوى) ان العدالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 338

مانعة من الشهادة المطلقة مع الاختلاف في المستند فمع إطلاق الشهادة يعلم انه أراد ما هو المجمع عليه أو المقبول عند الحاكم.

(فاسدة) لأن العدالة لا تستلزم الاطلاع على هذه الاختلافات و لا تنافي البناء على مذهبه أو مذهب مجتهده مع انه قد لا يوافق رأي الحاكم. و لا يخفى ما فيه فان عموم ما دل على حجية البينة يقتضي قبول الحاكم ذلك لأنها من أجلي أفراد البينة و لما في صحيحة حريز عن أبي عبد اللّه (ع) إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم. نعم للحاكم أن يستفسر من الشاهد عن مستند شهادته و يتفحص عن الواقعة كما يظهر من أحوال أمير المؤمنين (ع) في قضائه.

(الثاني) إن الشهادة إخبار عما شاهده و عاينه و لم يعلم شمولها لما كان مستندها غير الحس فلا يدل عمومات قبول الشهادة على وجوب قبول الخبر الكذائي في ترتيب الحكم عليه و الأصل عدمه. و فيه ان الأدلة التي دلت على جواز الشهادة بواسطة تلك الأمور كانت تدل على ان تلك الأمور بمنزلة الحس و المشاهدة فهي توسّع موضوع قبول الشهادة نظير أصل الطهارة الموسع لموضوع الطهارة على انا لا نسلم عدم شمول أدلة قبول الشهادة للشهادة المستندة للأدلة المعتبرة. كيف و قد أطلق الإمام (ع) الشهادة على ذلك أو أمضي إطلاقها عليه كما تقدم في رواية حفص ص 335 و مكاتبة الصفار الصحيحة المتقدمة ص 336 و صحيحة ابن وهب أو حسنته قال قلت له ان ابن ابي ليلى يسألني الشهادة على ان هذه الدار مات

فلان و تركها ميراثها و انه ليس له وارث غير الذي شهدنا له فقال: اشهد فإنما هو على علمك. قلت: ان ابن أبي ليلى يحلفني الغموس قال احلف انما هو على علمك. فان ترك الميت للدار ميراثا و انتفاء وارث آخر له ليس إلا باستصحاب الوجود في الأول و العدم في الثاني. و موثقته الأخرى الرجل يكون له العبد و الأمة قد عرفت ذلك فيقول: أبق غلامي أو أمتي فيكلفونه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 339

القضاة شاهدين بأن هذا غلامه أو أمته لم يبع و لم يهب فنشهد على هذا إذا كلفناه قال (ع): نعم فإنه أطلق الشهادة على الأخبار بأن هذا غلامه و هذه أمته و هو إنما يكون بالاستصحاب لبقاء العبودية و الامام (ع) أمضى هذا الإطلاق الى غير ذلك مما يعلم منه إن الاخبار عن الشي ء بواسطة الاستناد لدليل معتبر يسمى شهادة مضافا الى أن كون الشهادة بمعنى المعاينة لا يوجب عدم شمول أدلتها لما استند الى الدليل المعتبر فإن أدلتها منها ما هو بلسان البينة و منها بلسان اخبار ذي العدل و نحو ذلك لا بلفظ الشهادة.

[الفائدة] (الرابعة) كفاية الواحد في تزكية الراوي

قد تقدم ص 291 عدم طريقية الخبر الواحد للعدالة و لكن القوم حتى القائلين بعدم حجية خبر الواحد في العدالة اختلفوا في عدالة الراوي و جرحه هل يكفي فيهما الواحد أو لا بد من التعدد؟ المشهور بين الأصحاب بل أكثرهم ذهبوا الى الاكتفاء بالعدل الواحد في تزكية الراوي و جرحه دون الشاهد و نحوه مما يعتبر فيه العدالة و هو المحكي عن الشيخ و العلامة (ره) و سائر المتأخرين و ذهب القليل الى خلافه فاشترطوا في التزكية و الجرح شهادة عدلين

و الذي استدل به على ما ذهب إليه الأكثر وجوه:

«الأول» ما ذكره العلامة (ره) في كتبه الأصولية و حاصله ان الرواية تثبت بخبر الواحد و شرطها تزكية الراوي و شرط الشي ء لا يزيد على أصله و بعبارة أخرى انه كيف يحتاط في الفرع بأزيد مما يحتاط في الأصل. (و أجيب عنه) بعدم الدليل على نفي زيادة الشرط على المشروط و انها مجرد دعوى لا برهان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 340

عليها مضافا الى كثرة وقوع ذلك في الأحكام الشرعية فإن عدالة الشاهد الواحد شرط لشهادته مع انها لا تثبت إلا بشاهدين و الايمان شرط لصحة الصلاة مع أن الايمان لا بد فيه من الاجتهاد و الصلاة يكفي فيها التقليد بل قيل ان شرط الشي ء يكون هو الأصل للشي ء لتوقف الشي ء عليه. و عليه فيجوز أن يكون الأمر فيه أهم.

«الثاني» آية النبإ و هي قوله تعالى إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فكما دلت على التعويل على رواية الواحد كذلك دلت على التعويل على تزكيته و فيه انه قد أثبتنا في الأصول عدم دلالتها على قبول خبر الواحد العدل.

«الثالث» بما دل على قبول خبر الواحد العدل فإنه كما يدل على قبول خبره في الأحكام الشرعية يدل على قبول خبره في العدالة. و فيه أنها إنما تدل على قبوله في الأحكام الشرعية لا في الموضوعات الخارجية كالعدالة و لو سلمنا عمومها للموضوعات الخارجية فهي مخصصة بأدلة البينة فإنه مقتضى اعتبارها في الموضوعات هو عدم اعتبار الشاهد الواحد فيها و إلا لاكتفى الشارع به من دون حاجة لاعتبار البينة على انه في شمولها للأخبار العادل بعدالة شخص مشكل نظير ما إذا قال قول المجتهد حجة فان

في شموله لأخبار مجتهد باجتهاد شخص محل اشكال و ذلك لأن الظاهر ان الاجتهاد يكون ثابتا للمخبر في حد ذاته لا من جهة ثبوت هذه الحجية فهكذا الأدلة الدالة على حجية خبر العدل فإنها إنما تدل على حجية خبر الشخص الثابت له العدالة لا من جهة هذه الحجية.

«الرابع» ان المدار في أمثال زماننا بتزكية الشيخ (ره) و النجاشي و الكشي و العلامة و أمثالهم و هم ينقلون تعديل أكثر الروايات عن غيرهم و لم يعلم نقلهم لها عن اثنين عادلين. فالقول باشتراط التعدد في أمثال زماننا لازمه عدم معرفة عدالة الراوي لأن هؤلاء المذكورين لم يعرفوا العدالة بالمعاشرة و لم يعلم نقلهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 341

لها عن شاهدين عادلين قال الشيخ البهائي فيما حكي عن كتابه مشرق الشمسين و لقد بالغ بعض المعاصرين قدس سره و عنى به صاحب المعالم في الإصرار على اشتراط العدلين في المزكي نظرا الى أن التزكية شهادة و لم يوافق على تعديل من انفرد الكشي أو الشيخ الطوسي أو النجاشي أو العلامة مثلا بتعديله و جعل الحديث الصحيح عند التحقيق منحصرا فيما يوافق اثنان فصاعدا على تعديل رواته و يلزمه عدم الحكم بجرح من تفرد أحد هؤلاء بجرحه و هو يلتزم بذلك و لم يأت على هذا الاشتراط بدليل عقلي يعوّل عليه أو نقلي يركن اليه و لعلك قد أحطت خبرا بما يتضح به حقيقة الحال و مع ذلك فأنت خبير بأن علماء الرجال الذين وصلت إلينا كتبهم في هذا الزمان كلهم ناقلون تعديل أكثر الرواة عن غيرهم. و توافق اثنين منهم على التعديل لا ينفعه في الحكم بصحة الحديث إلا إذا ثبت أن مذهب

ذينك الاثنين عدم الاكتفاء في تزكية الراوي بالعدل الواحد و دون إثباته خرط القتاد بل الذي يظهر خلافه. كيف لا و العلامة مصرح في كتبه الأصولية بالاكتفاء بالواحد و الذي يستفاد من كلام الكشي و النجاشي و الشيخ و ابن طاوس (ره) و غيرهم اعتمادهم في التعديل و الجرح على النقل عن الواحد كما يظهر لمن تصفح كتبهم فكيف يتم لمن يجعل التزكية شهادة أن يحكم بعدالة الراوي بمجرد اطلاعه على تعديل اثنين من هؤلاء انتهى. (و فيه) انه لا بد و أن تكون تزكيتهم على وجه المعاشرة أو الاطلاع على حسن الظاهر المبيح للشهادة بالعدالة و نحو ذلك من الطرق المبيحة للشهادة بها المتقدمة ص 333 لئلا يلزم التدليس على من تأخر عنهم (و التحقيق) كما يقتضيه النظر الدقيق هو أن المعتبر في الراوي عند الأكثر هو الوثوق به أو الظن بعدالته حتى استدل بعضهم على ذلك بأن معظم الأحكام مستفاد من أخبار الآحاد و أغلب أحوال رجالها مظنونة فلو لم يعمل بالظن فيها لزم هدم الشريعة و بطلان أحكام الشيعة، و لعل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 342

بعضهم أراد بعدالة الراوي هو ذلك و من المعلوم ان الوثوق يحصل بذلك بل بالأدنى منه. و أما العدالة عند من يعتبرها في الراوي فلا مناص له من الالتزام في ثبوتها بشهادة عدلين كما هو الشأن في سائر الموضوعات الخارجية. و ذلك لأن الأخبار عنها إنما يكون حجة من باب الشهادة و الشهادة على الموضوعات الخارجية بمقتضى القاعدة لا بد فيها من تعدد الشاهد.

(إن قلت): انه يكون من باب أخبار أهل الخبرة كأخبار الطبيب بالمرض فيكفي فيها الواحد. (قلنا): مع انه يمكن المناقشة

في اعتبار الواحد من أهل الخبرة و لذا اعتبر التعدد في الشهادة على إنبات اللحم و شد العظم في الرضاع مع كون المرجع فيه أهل الخبرة. و أما مثل اخبار الطبيب المبيح للإفطار أو التيمم فهو إنما يكون من باب حصول الظن بالضرر للإجماع على اعتبار مطلق الظن بالضرر، سلمنا ذلك لكنه لو كان من باب اخبار أهل الخبرة لما كان وجه لاشتراط العدالة في المخبر فإن أهل الخبرة يشترط في قبول خبرهم المعرفة و الوثوق، سلمنا ذلك لكن كان عليهم أن يقيدوا خبر الواحد بكونه من أهل المعرفة و الاطلاع بالعدالة. سلمنا ذلك لكن يمكن للخصم أن يقول إنما يكون اخبار أهل الخبرة حجة في الأمور الخفية التي يختص الاطلاع عليها بطائفة مخصوصة و العدالة ليست منها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 343

(الشرط السابع عشر في المفتي) الحياة
اشارة

(الشرط السابع عشر في المفتي الحياة) فلا يجوز تقليد الميت نقل والدي المرحوم الحجة الشيخ محمد رضا شبل المرحوم الحجة الشيخ هادي كاشف الغطاء عن شيخه (ره) (و لعله الحجة النائيني) انه قال لي بعض العلماء ان وجوب تقليد الأعلم و عدم جواز تقليد الميت مسئلتان مسلمتان عند الإمامية و اني لا أرى فيهما دليلا قاطعا فقلت له ان اساسهما مسئلة الإمامة فإن الإمامية أوجبوا في الإمامة ان لا يكون المفضول اماما مع وجود الفاضل و أوجبوا أيضا ان يكون الامام حيا و هاتان المسئلتان يرتضعان من ذلك الثدي فقال كشفت عني كربة أقول و نعم ما قال شيخنا (ره) انتهى أقول لعل نظرهم الى ان المجتهد نائب عن الامام (ع) فاذا كان الأصل لا يجوز فيه ذلك فبالطريق الاولى الفرع و من يقوم مقامه: و سيجي ء ان شاء

اللّه توضيح ذلك و تحقيقه منافي الأدلة الدالة على المنع من تقليد الميت (ثمَّ ان وظيفة العامي) في هذه المسألة ان ادى نظره و اجتهاده المعتبر في نظره الى شي ء أخذ به و الا قلد فيها من هو متيقن عنده صحة تقليده فيها مع تمكنه من الرجوع اليه و لا يصغي لما ذكره بعض المعاصرين من رجوعه إلى الحي لأنه قدر متيقن عنده إذ من المحتمل انه لم يكن قدرا متيقنا عنده فالحق انه يلزم اجتهاده فيها بنحو يرى تقليد الميت صحيحا و ان عجز رجع لمن يعتقد بصحة تقليده فيتبع فتواه كما هو شأن سائر المسائل و سيجي ء ان شاء ا؟؟ ه في اشتراط الأعلمية في هذا المقام ما ينفعك، و اما حكم هذه المسألة الذي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 344

يفتي به المفتي لو رجع له العامي فيها فقد اختلف القوم في ذلك على أقوال:

[الأقوال في هذه المسألة أعني مسألة تقليد الميت]
(أولها) القول باشتراطها

و هو المعروف عن الإمامية حتى ادعى المحقق النراقي في المناهج الإجماع المحقق عليه و استدل عليه في المفاتيح بظهور اتفاق الإمامية عليه و عن الشهيد الثاني (ره) في المسالك عدم وجود المخالف في ذلك و عن المعالم الإطباق من الأصحاب على عدم الجواز.

(و ثانيها) القول بعدم الاشتراط و جواز تقليد الميت

و هو المعروف عند المخالفين بل في المحكى عن المنهاج إجماع العامة على جواز تقليد الميت و لذا صار بنائهم على تقليد أئمتهم الأربعة و على الاجتهاد في أقوالهم و خالفهم في ذلك الإمام الرازي فمنع من تقليد الميت لأنه لا بقاء لقول الميت و قد ذهب اليه من أصحابنا المحقق القمي (ره) فجوز تقليد الأموات كما هو المحكي عن أجوبة مسائله و هو المحكي عن جماعة من الأخباريين و في المحكي عن منية الممارسين للمحدث السماهيجي حيث ذكر في جواب من سأله عن الفرق بين المجتهدين و الأخباريين ثلثة و أربعين فرقا و عد من جملتها اختلافهم في هذه المسألة الا ان التحقيق ان الأخباريين لم يخالفوا الأصحاب في هذا المقام و ذلك لأن الأخباريين منعوا من الاجتهاد و أنكروا الفتوى التي هي من فروعه فيكون العمل عندهم بها باطل من غير فرق بين حياة المفتي و مماته فهم لم يخالفوننا في هذا المقام و انما خالفوننا في أصل التقليد و العمل بالفتوى و اما رجوعهم للعلماء انما هو في العمل بالرواية المنقولة بألفاظها أو بمعناها لأنهم أطبقوا على عدم العمل بالفتوى و جعلوه قولا بالرأي الممنوع عنه في الاخبار فمعنى جواز تقليدهم للأموات هو العمل برواياتهم و هذا المعنى لا ينكره الأصحاب فالجواز لتقليد الأموات الذي يقول به الأخباريون يقوله الأصحاب و لا ينكره أحد منهم فمن الغريب عد

الأخباريين من المخالفين في هذا الباب و اللّه العالم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 345

(ثالثها) القول بالتفصيل بين وجود الحي و إمكان التوصل له، فالمنع

و بين صورة فقده أو عدم إمكان التوصل اليه فالجواز. و هذا القول محكي عن العلامة (ره) نقله عنه ولده السعيد فخر المحققين و استبعده و حمله على محمل آخر كما حكي استبعاده عن المفاتيح. و أيضا حكي هذا القول عن المقدس الأردبيلي رحمه اللّه و الشيخ سليمان البحراني و الشيخ علي بن هلال. و ربما يقال ان هذا ليس تفصيلا في المقام فان الكلام إنما هو في الجواز عند التمكن من استعلام حال الواقعة من الحي و أما عند عدمه فللكلام محل آخر. و لكن لا يخفى ان من أصحاب القول الأول من صرح بالمنع حتى عند عدم التمكن من الحي لفقده أو تعذر الوصول اليه كما هو المحكي عن الشيخ علي (ره) في حاشيته على الشرائع و عن صاحب الرياض و عن بعض شراح الجعفرية.

(رابعها) القول بالتفصيل بين من علم من حاله انه لا يفتي إلا بمنطوقات الأدلة

و مدلولاتها الصريحة أو الظاهرة الواضحة كالصدوقين (ره) و من شابههما من القدماء فالجواز و بين من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل بالإفراد الخفية للعمومات أو اللوازم الغير البينة اللزوم للملزومات فالمنع و هذا القول هو المحكي عن الفاضل التوني (ره) في الوافية و لكن الظاهر ان الفاضل التوني قد منع من تقليد المفتي المذكور حيا و ميتا فلم يكن ذلك تفصيلا في المقام منه و إنما هو منع من أصل التقليد في الفتوى.

(خامسها) التفصيل بين ما إذا كانت فتوى الحي مخالفة لفتوى الميت فالمنع

و بين صورة ما إذا كانت موافقة فالجواز.

(سادسها) القول بالتفصيل بين التقليد الابتدائي بأن يقلد الميت ابتداء و بين التقليد الاستمراري

بأن يبقى على تقليد الميت بعد أن قلده و هو حي فيمنع من الأول دون الثاني و قد نسب هذا التفصيل لجدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء قدس سره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 346

و لصاحب الفصول و شريف العلماء و السيد في المفاتيح و صاحب الضوابط، و لكن المشهور المنع من تقليد الميت مطلقا ابتداء و استمرارا.

و تحقيق الحق في هذا المقام يستدعي ذكر أدلة الأقوال أو ما يمكن أن يكون دليلا لها و بيان ما قيل فيها أو يمكن أن يقال فيها فنقول و الاستعانة باللّه تعالى. انه عرفت فيما سبق ان العاجز عن الاجتهاد في هذه المسألة يرجع لما يحكم عقله بها و إذا كان عاجزا عن ذلك يرجع لمن يحرز جواز تقليده فيها

[أدلة القول الأول، و هو المنع من تقليد الميت مطلقا]
اشارة

فمحل كلامنا هنا إنما يكون فيما هو مقتضى الأدلة ليفتي به المجتهد عند رجوع العامي إليه في ذلك فنقول: احتجوا للقول الأول و هو المنع من تقليد الميت مطلقا بأدلة كثيرة:

(الأول) أصالة حرمة العمل بالظن

التي دلت الأدلة الأربعة عليها كما في رسائل الشيخ الأنصاري (ره) أو لأصالة حرمة التقليد المستفادة من الكتاب خرج عنها فتوى الحي إجماعا و بقي الموارد المشكوكة تحت الأصل المذكور و منها فتوى الميت. و (دعوى) ان اختصاص الإجماع المذكور بالحي غير صحيح لأن السلف كانوا يعملون بفتاوى علي بن بابويه عند إعواز النصوص.

(فاسدة) لأنه قد صرح الأنصاري (ره) بأن تلك الفتاوى ليست بمنزلة الفتاوى المعمولة عندنا فإن أمثالها من فتاوى أصحاب الأئمة (ع) تكون مضامين الروايات كما يرى الأخباريون ذلك في مطلق الفتاوى التي يعملون بها حيث انها عندهم إخبار منقولة بالمعنى و هي حجة للمجتهد و المقلد إذا جمعت شرائط حجية الرواية عنده و من اطلع على حال السلف و كيفية الاستفتاء و الإفتاء يقطع بذلك، و يكفيك شاهدا في المقام ما قاله العمري بعد ما سئل عن كتب الشلمغاني فإنه قال: أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني فضال خذوا ما رووا و ذروا و ما رأوا فإنه (ره) أفتى بنص الرواية و هذا النحو من الفتيا كان مختصا بزمان الأئمة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 347

عليهم السلام و ما قاربه حيث لم يكن الفقه و الاستنباط بهذه الصعوبة. (و لا يخفى ما فيه) فان هذا الدليل يرجع الى دعوى أن أدلة التقليد مختصة بالحي و الخصم يدعي شمول الأدلة الدالة على حجية التقليد لمطلق الفتوى سواء كانت للحي أو للميت فتكون مخرجة لفتوى الميت عن

أصالة الحرمة فلا بد من النظر في أدلة التقليد. و قد ادعى الأستاذ (كاره) إن أدلته إذا كانت أدلة حجية الخبر فهي فيها إطلاق للحي و الميت انتهى. (إلا اللهم) أن يدعى ان هذا الأصل إنما يقال مع قطع النظر عن الأدلة و يتمسك بالفطرة في حجية التقليد إذ مع إجمال أدلته لا شمول لها و يكون الأصل هو الجاري.

(الدليل الثاني) ان الأمر دائر بين التعيين و هو الأخذ بقول الحي و بين

التخير بينه و بين الأخذ بقول الميت و العقل حاكم بوجوب الأخذ بما احتمل تعينه للقطع بفراغ الذمة به.

(إن قلت): إن هذا الأصل إنما يتم على مذهب من يبني على الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين التعيين و التخيير في مثل خصوص الرقبة المؤمنة أو مطلق الرقبة و أما على مذهب من يبني على البراءة من الكلفة الزائدة فلا يتم هذا الأصل كأن نقول انا نعلم بوجوب التقليد و نشك في الزائد و هو خصوص الحي. (قلنا): فرق بين الطريق و غيره فإن الأصل في الطرق الغير العلمية هو الحرمة إلا ما خرج بالدليل و أما في التكاليف فالأصل هو البراءة. و ذلك لأن عدم وجوب الكلفة الزائدة في مثل الرقبة المؤمنة يقتضيه أصل البراءة و فيما نحن فيه يرجع الى الشك في التخصيص الزائد لعمومات النهي عن العمل بغير العلم فانا نشك انها خصصت بفتوى العالم الميت كما خصصت بفتوى الحي أم لا و هو شك في زيادة التخصيص المنفصل. و لا ريب انه يتمسك فيه بأصالة العموم و ينفى الزائد المشكوك من التخصيص.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 348

(إن قلت): إن الشك هنا يرجع الى أن الحياة من المرجحات لفتوى الحي على الميت عند التعارض بينهما أم لا؟ و الأصل عدم

المرجحية لأن المرجحية أمر توقيفي كالحجية و الأصل عدمه. (قلنا): إن هذا الأصل لما كان يرجع الى زيادة التخصيص للعمومات الناهية عن العمل بغير العلم. و قد عرفت ان زيادة التخصيص منفية بأصالة العمومات المذكورة فيكون دليلا لفظيا على نفيها فكيف يرجع لأصالة عدم المرجح.

(ان قلت): ان هذا الأصل يعارضه الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل و ذلك انه في صورة ما إذا قلد شخصا ثمَّ مات فيستصحب جواز تقليده و بضميمة عدم الفصل يتم المطلوب. (قلنا): مضافا الى أن عدم الفصل لا يتم فيما أثبته الأصل كما قرر في محله ان القول بالفصل غير ثابت لكثرة من قال بجواز تقليد الميت بقاء لا ابتداء.

(ان قلت): ان الاحتياط في هذه المسألة ربما يعارض بالاحتياط في المسألة الفرعية كما إذا كان قول الميت موافقا للاحتياط. (قلنا):

ان الاحتياط في المسألة الأصولية مقدم على الاحتياط في المسألة الفرعية بقاعدة المزيل و المزال.

(ان قلت): قد يكون الميت أعلم فحينئذ يحتمل تعيين الأخذ به و لا يقطع بفراغ الذمة بالأخذ بقول الحي. (قلنا): قام الإجماع على عدم وجوب تقليد الميت الأعلم فلا يحتمل تعيين وجوب الأخذ به. (و الجواب عن هذا الدليل الثاني) ان هذا الأصل معارض بالاستصحاب الذي سيجي ء بيانه في أدلة المجوزين في الدليل الثالث لهم و باطل فيما إذا كان قول الميت موافقا للأصل إلا اللهم ان يقال انا نتكلم مع قطع النظر عن الأدلة و نقول ان الضرورة اقتضت حجية قول المجتهد و قد دار الأمر بين قول الحي و بين قول الميت و حيث ان العقل قام عنده احتمال الترجيح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 349

للحي فلا يحكم بالتخير لأن الذمة مشتغلة بالتكليف

فلا بد أن يرجع لما هو مقطوع البراءة به عن التكليف عنده و هو قول الحي. إلا ان هذا لا يتم في الميت إذا كان فيه مزية محتملة للترجيح على الحي كما إذا كان الميت أعلم أو كان الحي أعمى أو نحو ذلك و لا يتم في الميت الذي كان العامي قد قلده لعدم القطع حينئذ بترجيح الحي على الميت.

و الإجماع المدعى على ترجيح الحي على الميت حتى في هذين الصورتين مضافا الى انه خروج عن محل البحث لأن الكلام مع قطع النظر عن كل دليل انه غير مسلم في الصورتين المذكورتين.

(الدليل الثالث) الإجماع من الإمامية على حرمة العمل بقول الميت

و يمكن استعلامه من كلمات علمائهم فقد نقل عدم الخلاف في ذلك عن المحقق الثاني في شرح الألفية و عن المسالك و نقل الإجماع على ذلك عن المعالم و آداب المعلم و المتعلم و عن ابن أبي جمهور الأحسائي، و عن الوحيد البهبهاني (ره) في فوائده و قد تمسك به جملة من علماء العصر، قال عمنا الأعلى الشيخ حسن في شرح مقدمة كشف الغطاء ان الإجماع المنقول مع الشهرة العظيمة المحصلة و السيرة المستمرة و الطريقة المستقيمة من أقوى الأدلة على المنع من تقليد الأموات و قال الشيخ الأنصاري رحمه اللّه. و أما ما ذكره الشهيد الأول في الذكرى من خلاف بعض العلماء فهو كما يراه الشهيد الثاني من أن العلماء يعم العامة و الخاصة فلعل نظره الى العامة و أما مخالفة الأخباريين فقد عرفت ان ذلك بواسطة تخيلهم أن الجائز من الفتوى هو الرواية المنقولة بالمعنى و لا ريب ان الرواية المنقولة بالمعنى يجوز العمل بها و ان كان الراوي ميتا، و أما مخالفة القمي (ره) فالظاهر انها من جهة تخيله الانسداد

على ان الإجماع متحقق قبل زمانه فلا تضر مخالفته. و أما دعوى مخالفة الصدوق (ره) كما أشار إليها في الوافية حيث قال و أيضا ابن بابويه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 350

صرح بجواز العمل بما في كتابه من لا يحضره الفقيه مع انه كثيرا ما ينقل فتاوى أبيه. (فاسدة) لأنه لم يعرف ذلك عن الصدوق و تجويزه العمل بفتاوى أبيه (ره) لأنها مضامين الروايات المعتبرة عنده لا أنها فتاوى كما هو الحال في كتاب الهداية لشيخنا الصدوق (ره) فإنه مأخوذ من متون الأخبار و هذا هو الذي بعث صاحب البحار على إدراج فتاويه في ضمن ما جمعه من الأخبار و هكذا يقال مثل ذلك في كتاب المقنع للصدوق (ره) أيضا، و في المحكي عن السرائر، ان كتاب نهاية الشيخ الطوسي (ره) كتاب خبر لا كتاب بحث و نظر. و لا يخفى ما فيه فإنه من المحتمل ان هؤلاء المجمعين قد استندوا الى دليل لو اطلعنا عليه لم يكن معتبرا عندنا: مع ان حمل ما ذكره الشهيد الأول على العامة لا دليل عليه بل هو خلاف الظاهر: مع ان ما حكي عن الجعفرية و شرح الإرشاد للأردبيلي من انه قول الأكثر يظهر منه وجود المخالف من عندنا و إلا فقول الإمامية ليس بأكثر من العامة إلا اللهم أن يكون صاحب الجعفرية و شرح الإرشاد لم يتفحصا فعبرا بما هو المتيقن لهما: و عن شرح الجعفرية للفاضل الجواد ان جواز تقليد الميت قول بعض علمائنا و لعله أراد الأخباريين، و يؤيد ذلك ما ذكره صاحب المعالم و غيره من تقليد المتأخرين للشيخ الطوسي (ره) في الفتوى الى أن فتح الحلي باب الاجتهاد. و دعوى

إن هذه المسألة مستحدثة إذ لم يكن المعروف في زمان الأئمة (ع) التقليد بين أتباعهم و إنما كانوا يعملون بالروايات فالإجماع فيها غير معتبر. (فاسدة) فإن الفتوى كانت موجودة بينهم كما تدل عليه أخبار التقليد التي نقلناها في مبحث التقليد كيف و التقليد كان في عصر الأئمة (ع) فإن أهل المذاهب من أهل السنة كانوا في عصرهم عليهم السلام.

(الدليل الرابع) ما احتج به المحقق الثاني في حاشية الشرائع تبعا للعلامة و هو مؤلف من مقدمتين:

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 351

(إحداهما) ان المفتي إذا مات سقط قوله بموته بحيث لا يعتد به.

(و ثانيهما) ان ما هذا شأنه لا يجوز الاستناد اليه و لا العمل به شرعا.

«أما الأولى» فللإجماع على أن خلاف الفقيه الواحد لسائر أهل العصر يمنع من انعقاد الإجماع اعتدادا بقوله فاذا مات و انحصر أهل العصر بالمخالفين له انعقد الإجماع و صار قوله لا يعتد به و لا يعتنى به شرعا.

«و أما الثانية» فظاهرة. (و جوابه) ان هذا إنما يوجب عدم الاعتداد بقوله في الصورة المذكورة أما لو فرض ان أهل عصره مختلفون في الفتوى بحيث يكون موته غير موجب لانعقاد الإجماع فلا دليل حينئذ على عدم الاعتداد بقوله. مضافا الى ان هذا مبني على طريقة خاصة في استفادة رأي المعصوم من الإجماع و لعلها قريبة من طريقة اللطف في الإجماع و هي طريقة قد قرر في محله عدم صحتها فلا تصلح دليلا على عدم الاعتداد بقول الميت.

(الدليل الخامس) ما احتج به أيضا المحقق الثاني في حاشيته على الشرائع من ان دلائل الفقه لما كانت ظنية

لم تكن حجيتها إلا باعتبار الظن و الفهم الحاصل منها و هذا الظن و الفهم يمتنع أن يبقى بعد الموت لضعف الإدراكات بضعف الأبدان و لذا يذهب الظن و يزول العلم بضعف البدن بهرم أو مرض أو حال النزع و قد أخبر بذلك اللّه تعالى في محكم كتابه وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لٰا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً و عليه فتبقى الفتوى خالية عن السند بعد الموت فكما انه تزول حجية الفتوى بتبدل نظر المجتهد لأنه يزول مستندها فكذا إذا مات زال مستندها فتزول عنها الحجية و تخرج عن كونها معتبرة شرعا و لا ينقض بالغفلة و الاغماء و النوم لوجود الظن في خزانة

النفس. و فيه انه منقوض بصورة النسيان للمستند فإنه عند النسيان تبقى الفتوى معتبرة شرعا مع ذهاب الظن عن خزانة النفس عند النسيان و قد تقدم ذلك في مبحث وجوب تجديد النظر على المجتهد. ثمَّ انه منقوض بالرواية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 352

أو نقل رأي لشخص. فإنها يقال فيها انها لا تكون حجة إلا باعتبار العلم بصدورها أو الظن المعتبر كما لو رآها مكتوبة بكتابه مع ذهاب العلم أو الظن المعتبر بموته. (وحلة) ان المستند لفتوى المجتهد نظير سائر الآراء في سائر العلوم هو الدليل الذي اعتمد عليه حال صدورها فبقاؤها أمر اعتباري يستند الى ذلك الدليل الذي كان في وقته. و الأمور الاعتبارية حدوثها يحتاج الى سبب و علة و أما بقائها فهو يستند الى اعتبار المعتبرين ألا ترى ان إعطاء المنزلة لشخص أو جعل صفة اعتبارية له كالزوجية يحتاج في حدوثه لسبب ثمَّ يكون بقائها تابع لاعتبار المعتبرين، فالفتوى نظير الشهادة و الإقرار و اخبار ذي اليد في أن إبقائها إنما يكون بمجرد قيام الدليل عليها في نفس المفتي مع عدم تبدل رأيه فيها حتى لو نسي الاستدلال عليها أو ذهل عنه نظير العقد الذي هو سبب للزوجية فتنسب الفتوى للمفتي و الرأي لصاحبه بمجرد صدورهما منهما علي سبيل اليقين دون أن يبطلهما و يعدل عنهما. و لذا ترى العقلاء ينسبون الفتاوي للمجتهدين الأموات و يقولون أن فتواه كذا و ينسبون الآراء للأموات من العلماء و الفنيين و يقولون رأيهم كذا. و ليس ذلك إلا من جهة ان بقائهما أمر اعتباري و ليس بحقيقي و إلا فهما يعدمان بمجرد صدورهما و الغفلة عنهما. و الأمور الاعتبارية تابعة لمقدار اعتبار

المعتبرين. و العقلاء هم يعتبرون بقاء الرأي و الفتوى بمجرد صدورهما عن عقيدة مع عدم العدول عنهما. و عليه فيرتب آثار الوجود للفتوى لأن وجودها إنما يكون بهذا النحو كما يرتب الآثار على الوجود الاعتباري للزوجية بمجرد العقد من دون إبطاله و إفساده سواء كانت آثار شرعية كجواز العمل شرعا بالفتوى أو عقلية كالتناقض مع غيرها أو عرفية كتسمية صاحبها بالفقيه أو المجتهد أو المتبحر لأن وجودها الواقعي إنما يكون بهذا الحد و هذا النحو شأن سائر الاعتباريات. و إنما لم يرتب الأثر عليها إذا كان المعتبرون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 353

لا يعتبرونها و يرونها معدومة كما إذا عدل عنها صاحبها. و أما بالموت فهم يرون البقاء لها و لذا تنسب للمفتي بعد موته. و (الحاصل) ان مستند بقائها هو ذلك لا ظنون المجتهد و العالم. و أما الدليل عليها فلا يلزم استحضاره في صحة العمل بها فان العمل بها مرتب على نفسها لا على دليلها كما هو ديدن العقلاء في العمل بآراء الأطباء و أصحاب الفن. و لعل ذلك هو المراد من قول والدي الرضا (ره) في حاشيته على الكفاية ان بقاء الرأي ليس عبارة عن استحضاره و الالتفات اليه فعلا و إلا لكان النائم و الغافل ليس له رأي و إنما المناط في بقاء الرأي عدم التردد فيه و العدول عنه كان ذو الرأي حيا أو ميتا و لا نسلم تقومه بالحياة حتى في نظر العرف فإن الرأي رأي فلان ما لم يعدل عنه حيا كان أو ميتا، و لذا تنسب الآراء إلى الأموات. (نعم) الكلام في حجية الرأي فقد يقال انه بالموت نشك في حجيته فنقول: ان دليل

التقليد اما العقل و الفطرة و هو لا يفرق بين الحي و الميت. و أما النقل فلاشتراك الأدلة بين التقليد و الرواية و لا ريب ان الرواية لا يشترط فيها ذلك انتهى. مضافا الى ان للخصم أن يطلب البرهان من المستدل على المقدمة المذكورة في دليله و هي خروج الفتوى عن الحجية عند الشرع عند ذهاب المستند بالموت.

(و الحاصل) ان مقدمته القائلة بأن الفتوى قد ذهب مستند بقائها بالموت غير صحيحة لأن مستند بقائها ليس إلا اعتبار المعتبرين و هو موجود بعد الموت سلمنا ذهاب المستند لكن للخصم أن يقول لا نسلم عدم اعتبارها شرعا بذهاب مستندها بالموت (و دعوى) انها يزول مستندها بالعدول فكذا بالموت (فاسدة) فإن بالعدول يبطل المستند و يكون فاسدا بخلاف الموت فإنه لا يفسده و لا يبطله و لذا تعتبر انها رأي للميت و لا تعتبر انها رأي للذي عدل عنها و هذا نظير الرواية فإنه لو اعترف الراوي بخطئه في روايته لا تقبل منه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 354

(إن قلت) ان الفتوى تزول حجيتها بالجنون أو الهرم أو الإغماء بالإجماع و ما ذلك إلا لكون الرأي موضوعا لها و هو يزول بتلك الأمور فكذا يزول بالموت. (قلنا) لا نسلم زوال حجيتها بذلك، نعم لا يقلد في آرائه المستحدثة بعد عروض تلك الأمور عليه، و أما نفس فتواه السابقة فلا تزول حجيتها بذلك. و دعوى الإجماع في مثل هذه المسائل التي يقل التعرض لها و مستحدثة غير مقبولة مضافا الى احتمال استناد المجمعين الى ما ذكره الخصم من تخيل ذهاب الرأي بذلك فلا يكون الإجماع كاشفا عن رأي المعصوم عليهم السّلام.

(الدليل السادس) انه لو جاز تقليد الميت مع انه يجب تقليد الأعلم لزم التكليف بما لا يطاق

إذ أنه حينئذ يجب أن نقلد

الأعلم من العلماء الأحياء و الأموات مع انه لا نتمكن من معرفة الأعلم في الأزمنة السابقة. (و أجيب عنه) بأن معرفة الأعلم في الأموات ليس بأشكل من معرفته في الأحياء بل لعله أسهل، و لو سلمنا ذلك فنقول بسقوط التكليف بتقليد الأعلم لعدم التمكن منه لا انه يوجب حرمة تقليد الميت. و أجاب عنه المرحوم الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة في شرحه لمقدمة جدنا كاشف الغطاء (ره) بأن معرفته ممكنة و مع عدم المعرفة فالأصل عدم التفاضل، انتهى. و لكن لا يتم هذا الأصل بناء على ان الأفضلية شرط و إنما يتم بناء على انها مانعة.

(الدليل السابع) إن وجوب تقليد الأعلم مع جواز تقليد الميت يوجب عدم جواز تقليد الاحياء

في الغالب إذ قل ما يتفق أن يعلم الأعلم في الاحياء حتى بالنسبة إلى الأموات فالإجماع على وجوب تقليد الأعلم في الاحياء دليل على ان الأموات لا عبرة بأقوالهم و هذا الدليل قد حكي عن رسالة الشهيد (ره) المعمولة في هذه المسألة بعبارة أخرى حاصلها لو صح تقليد الميت يلزم من ذلك التزام شنيع و هو وجوب الرجوع الى الأعلم من الاحياء و الأموات و عدم الرجوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 355

الى الأعلم من الاحياء و هو خلاف الإجماع، انتهى. و دعوى كما عن المرحوم السيد نعمة الجزائري إن هذا الفرض خارج بالإجماع فيبقى الكلام فيما لا إجماع عليه فان مثل ذلك كاف في تخصيص العام و التمسك بما عدى المخرج بالدليل.

(فاسدة) لأن هذا أمر باطل محال لزم من جواز تقليد الميت من حيث اتفق أو على وجه مخصوص و كل حكم لزم منه المحال فهو محال فيكون جواز تقليد الميت على ذلك الوجه محالا و به يتم المطلوب (و دعوى) منع لزومه من جواز

تقليد الميت و لعله لزم من وجوب تقليد الأعلم (مدفوعة) بأن وجوب تقليد الأعلم عندهم مفروغ عنه فالإجماع المحكي على وجوب تقليد الأعلم لا بد من تخصيصه بالاحياء على وجه يظهر منه عدم الاعتداد بتقليد الأموات (و الجواب عنه) انه لا يتم عند من لا يرى وجوب تقليد الأعلم مضافا الى ان هذا رجوع الى التمسك بالإجماع على وجوب تقليد الأعلم من الاحياء و هو لا يسلمه الخصم و الكلام فيه عين الكلام في الإجماع المدعى على عدم جواز تقليد الميت (و بعبارة أخرى) ان الإجماع إن كان موجودا فهو يمنع من وجوب الرجوع الى الميت و إن لم يكن موجودا فلا ضير فيه مضافا الى ان وجوب تقليد الأعلم إذا كان من دوران الأمر بين التعيين و التخيير فهو لا يجي ء في المقام لاحتمال التعيين في المفضول من جهة انه حي و قد تمسك بهذا الدليل أيضا (بعض علماء العصر) و جعل اللازم الفاسد هو انحصار التقليد بشخص واحد من عصر المعصوم عليهم السّلام الى زماننا هذا و هو باطل بضرورة المذهب (و لا يخفى ما فيه) فإنه لا يلزم ذلك لجواز التساوي في العلمية أو التردد في الأعلمية، أو كان كل يرى الأعلمية في مجتهد غير ما يراه الآخر من الأعلمية في المجتهد الآخر، فان كل ذلك مصحح لتعدد مرجع التقليد حتى على القول بوجوب الرجوع الى الأعلم و جواز الرجوع للميت.

(الدليل الثامن) ما عن المحقق (ره) انه يجب العمل بالفتوى المتأخرة للمجتهد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 356

عند تعددها و اختلافها بالإجماع و في الميت لا يميز فتواه السابقة عن المتأخرة.

(و جوابه) كما ذكره بعضهم انه ان أريد انه لا يمكن العلم بالتقديم و التأخير مطلقا فهو غير سديد ضرورة

إمكان العلم بذلك في كثير من الموارد كما إذا علم تأخير تأليف الكتاب الموجود فيه الفتوى أو لم يصدر منه كتاب في الفتوى غيره و ان أريد منه انه قد لا يمكن ذلك فهو لا ينهض مانعا من التقليد فإن الحي قد لا يمكن العلم بذلك في فتواه أيضا. و الحاصل ان المقام يكون من قبيل تعارض الفتاوى و الرجوع في ذلك أما الى تساقطها و العمل بغيرها، و أما الى التخيير بينها.

(الدليل التاسع) ان اجتهاد الحي أقرب الى الواقع من اجتهاد الميت

لأن الحي يقف غالبا على فتوى الميت و على ما هو مستنده فيها فإذا أفتى بخلافها علم انه قد بلغ نظره الى ما لم يكن قد بلغ اليه نظر الميت، و لا ينافي ذلك كون الميت أفضل و أحوط من الحي بالمدارك لأن أثر الفضل إنما يظهر في الأفكار الابتدائية فيمكن ظهور خطأه في الدليل للمفضول و لو من جهة الإصابة بالمعارض الذي خفي على الفاضل. قال المرحوم الشيخ ملا جواد كتاب في منزوحات البئر أنه اشتهر ان المتأخرين أدق نظرا من المتقدمين. (و جوابه) إن هذه الأغلبية لو سلمناها فهي لا توجب الرجوع الى الحي فيما لو فرض ان الميت أقرب للواقع من الحي أو مساوي له مضافا إلى أن الميت لقربه إلى زمان الأئمة (ع) يتوفر القرائن الحالية و المقالية لديه فيكون أقرب للواقع من الحي مضافا الى أن الميت قد يكون أفضل و أفقه من الحي بمراتب و أحوط منه في الاجتهاد و التأمل في المدارك و أعرف منه بوجوه الاستدلال فيصل إلى نهاية ما لا يصل الحي إلى بدايته فيكون قوله أقرب للواقع من الحي مضافا الى ما سيجي ء ان شاء اللّه تعالى من أن حجية التقليد من

باب التعبد لا من باب الوصف فليست دائرة مدار الظن فلا يجب ملاحظة الأقربية مضافا الى أن فتوى الميت قد تكون أقرب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 357

للواقع من جهة موافقتها للاحتياط أو للمشهور أو لبعض القرائن.

(الدليل العاشر) ان الرجوع من الخطأ الى الصواب ممكن في حق الحي دون الميت

فيكون الأخذ بقول الحي أوثق لأن عدم رجوعه مع إمكانه يوجب تأكد الظن بالواقع (لا يقال) أن الرجوع من الفتوى قد يكون من الحق إلى الباطل فان الميت إذا كان قد أصاب الواقع كان أبعد عن الخطأ لعدم إمكان الرجوع في حقه بخلاف الحي فإنه إذا أصاب أمكن أن يرجع لشبهة يصادفها و الحاصل إن احتمال الرجوع من الحق إلى الباطل منسد بالنسبة إلى الأموات بخلاف الأحياء فلا تكون في إمكان الرجوع دلالة على أقربية القول من الواقع إذا لم يرجع لأن عدم الرجوع مع إمكانه إنما يقتضي تأكد الظن بالواقع إذا كان الرجوع دائما عن الخطأ الى الصواب و حيث يمكن أن يكون الأمر بالعكس فلم يكن فيه زيادة الظن. (فإنه يقال) ان المدار على ما هو الغالب في رجوع المجتهدين و لا ريب أن أغلب موارد رجوعهم إنما يكون عن الباطل إلى الحق و أما الرجوع عن الحق ففي غاية الندرة (و جوابه) ان عدم الرجوع مع الإمكان لا يوجب تأكد الظن بالواقع و الأوثقية بقوله إذ لعله لتوهم عنده أغفله عن الواقع أو لانشغاله عن مراجعة المسألة مرة ثانية كما يتفق ذلك للأحياء حتى ماتوا مضافا الى أن ذلك لو كان موجبا لتأكد الظن بالواقع لأوجب تأكده في الميت أيضا لأنه قد بقي على رأيه حتى مات. مضافا لما عرفته في جواب الدليل التاسع.

(الدليل الحادي عشر) [ظهور أدلة حجية فتوى المجتهد اعتبار الحياة في المفتي]

ما تمسك به بعض علماء العصر من ان ظاهر ما دل على حجية فتوى المجتهد ظاهر في اعتبار الحياة في المفتي لأن الدليل على التقليد أما الإجماع و هو لبي يؤخذ بالقدر المتيقن منه و هو تقليد الحي و هكذا بناء العقلاء و هكذا السيرة، و أما الكتاب

فالسؤال في قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* حقيقة في الاستعلام من الحي. و الإنذار في قوله تعالى لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 358

لا يكون إلا من الحي. و أما الأخبار فقوله (ع): انظروا في خبر أبي خديجة و قوله (ع): و ينظران في حديث عمر بن حنظلة ظاهران في الحي لأنه إن أريد بالنظر معناه الحقيقي فهو لا يتحقق إلا بالنسبة إلى الحي و إن كان المراد معناه المجازي فهو متعدد مثل اسألوا و ارجعوا فيحتمل عدم الشمول للميت و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال و قوله (ع): من الفقهاء صائنا لنفسه في تفسير العسكري فهو ظاهر في الحي لأن الظاهر هو اتصاف المقلد الذي ترجع اليه العوام بكونه من الفقهاء و صائنا لنفسه و حافظا لدينه و من الظاهر عدم صدق هذه العناوين على الميت. (و جوابه) إن غاية ما يقتضي ذلك عدم الدلالة على تقليد الميت لا على اعتبار الحياة فيه فإنه لو سلم ما ذكره الخصم فهي تدل على جواز تقليد الحي من دون تعرض فيها لتقليد الميت فللخصم أن يتمسك بأدلة أخرى على جواز تقليد الميت من دون معارضة هذه الأدلة لها كأن يتمسك بدليل الانسداد و بالفطرة الدينية و الاستصحاب فهذا الدليل لا يتم إلا بعد إبطال أدلة المجوزين لتقليد الميت و مع ابطال أدلتهم لا نحتاج الى ذلك لأن مجرد الشك في الطريق كاف في عدم اعتباره مضافا الى عدم تسليم اختصاصها بالحي فإن الرجوع الى الأئمة (ع) يصدق عليه انه سؤال لأهل الذكر مع موتهم (ع) و العناوين تصدق على ذواتها وقت الحياة فإن المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في حينه.

(الدليل الثاني عشر) ان الإجماع قد ينعقد على خلاف قول الميت فيكون قوله معلوم البطلان

و العامي لا خبرة له بمواقع الإجماعات فتقليده للأموات قد يؤدي الى التقليد في أمر معلوم البطلان و خلاف الإجماع فيجب عليه التحرز عن تقليد الميت حذرا عن العمل بخلاف ما قام عليه الإجماع. (و جوابه) بالنقض بأن الحي قد تكون فتواه خلاف ما قام عليه الإجماع في العصر السابق عليه، و حلّه ان الدليل إذا قام على حجية التقليد الشامل للأموات فلا يضر هذا الاحتمال و هل هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 359

إلا كاحتمال أن يكون هناك دليل على خلاف رأيه أو أن رأيه خلاف الواقع.

(الدليل الثالث عشر) ما يظهر في مطاوي كلمات بعض أساتذة العصر ان المرجع في باب التقليد هو المفتي

فلا بد أن يكون حيا حين الرجوع إليه لأن باب الفتوى بخلاف باب الرواية فإن المرجع فيه هي الرواية لا الراوي فإن المستفاد من الآيات و الروايات الدالة على حجية الفتوى أن المرجع الفقهاء و رواه الأحاديث و العارف بالأحكام بخلاف أدلة حجية الرواية، فإن المستفاد منها وجوب الرجوع الى الرواية لا الراوي ألا ترى أن المستفاد من قوله تعالى إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ إن الموضوع هو النبإ لا المنبئ، و كذا قوله (ع): «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» فان موضوع عدم جواز التشكيك ما يرويه الثقات لا الثقات.

و لا يخفى ما فيه فان أدلة جواز التقليد كالإجماع و دليل الانسداد و الفطرة و السيرة دالة على أن المرجع هو قول المفتي لا نفس المفتي و هكذا لو قلنا أن أدلة حجية الخبر تدل على حجية الفتوى كما هو رأي أستاذنا المرحوم الشيرازي فإنه على هذا تكون الأدلة على حجية التقليد و الرواية واحدة، و هكذا لو استدللنا له بآية النفر فإنها تدل على الحذر من الإنذار الذي تشتمل عليه الفتوى

لا من نفس المنذرين. و هكذا ما تقدم من قوله عليه السلام لأبان بن تغلب: «و أفتي الناس» فإنه يدل على أن المرجع هو الفتوى و قوله (ع): و بقول العلماء فاتبعوا الى غير ذلك مما يدل على أن التقليد هو المرجعية في الفتوى. و لو سلمنا أنه ورد نص بذلك فلا بد من حمله بدلالة الاقتضاء على أن المرجع في باب التقليد هو الفتوى إذ لا معنى للرجوع الى نفس المفتي.

(الدليل الرابع عشر) [عدم إمكان التمسك بأدلة التقليد عند اختلاف فتوى الحي مع الميت]

ما ذكره بعض المعاصرين إن أدلة التقليد من الآيات و الروايات لا مجال للتمسك بها فيما إذا اختلفت فتوى الحي مع الميت كما هو المهم في محل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 360

الكلام لتكاذبهما المانع من شمول الدليل لهما أو لأحدهما فلا بد في إثبات الحجة من رأي الميت أو الحي من الرجوع الى دليل آخر من إجماع أو بناء العقلاء أو سيرة المتشرعة أو الأصل. و الثلاثة الأول يشك في تحققها بالنسبة إلى تقليد الميت فلا بد من الرجوع الى الأصل العقلي عند الدوران بين التعيين و التخيير حيث يعلم بجواز الرجوع الى الحي و يشك في الميت فان الحكم في مثله بالرجوع الى معلوم الحجية. و لا يخفى ما فيه فان التحقيق أن التعارض بين الطرق لا يمنع من شمول دليل الحجية لها و إن مقتضى ذلك هو التخيير بينها كما تقدم منا ذلك (و توضيح الحال و تنقيحه) إن أدلة التقليد لا يخلو الحال فيها إما أن يكون فيها إطلاق أو مجملة و على كلا التقديرين أما أن نقول بالطريقية في الأمارات أو بالسببية فإن كان فيها إطلاق. (و قلنا):

بالطريقية كان في صورة التعارض بين الفتويين هو

التخيير لعدم وجود مرجح ثابت شرعا لأحدهما فيكون الفتويان متساويي الإقدام بالنسبة لأدلة التقليد و مجرد احتمال الأرجحية لا يوجب الأخذ بها مع إطلاق الأدلة فإن هذا الإطلاق يقتضي جواز الأخذ بأيهما شاء و العمل بأيهما أراد كما تقدم منا ذلك.

(و لو قلنا) بالسببية مع إطلاق أدلة التقليد فكذلك، و أما إذا لم يكن فيها إطلاق، فإن قلنا بالطريقية فنقول إنا نعلم بدخول قول الحي لأنه قدر متيقن و نشك في شمولها لقول الميت و هكذا بناء على السببية فالحق عدم حجية قول الميت للشك في دخولها في أدلة الحجية على هذا القول و لكنك قد عرفت ان الحق وجود إطلاق و لم يثبت وجود مرجح لأحدهما على الآخر مضافا الى جريان الاستصحاب الذي سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في ثالث الأدلة للمجوزين المقدم على هذا الأصل حتى على القول بإجمال أدلة التقليد مضافا الى انه غير تام في صورة ما إذا كان الميت أعلم من الحي لعدم اليقين بحجية الحي مضافا الى أن الخصم كما سيجي ء إن شاء اللّه عنده أدلة خاصة على جواز تقليد الميت مثل لزوم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 361

الحرج مضافا الى أنه لو تمَّ فإنما يصلح دليلا للمفصل بين صورة التوافق في الفتوى و بين عدمها.

(الدليل الخامس عشر) [توقف حل مشكلات الناس كالأمور الحسبية و المسائل المستحدثة على الرجوع إلى المجتهد الحي]

و لم أر من تعرض له و هو أن المجتهد له الولاية على الأمور الحسبية من محافظة أموال القاصرين و الغائبين و له القضاء و له تغليظ الدية و الولاية على الأيتام و المجانين و السفهاء و الغيب و الأوقاف التي لا والي لها و وارث من لا وارث له و يقوم بوصية من لا وصي له و يدفع له

الحقوق الشرعية من حق الامام (ع) و الأنفال و يجري الحدود و التعزيرات و يأخذ أرش الجنايات و يقوم بالقضاء بين الناس لفصل الخصومات و أخذ الحق من الممتنع و نحو ذلك مما يتوقف على مراجعة المجتهد الحي و لا يمكن الرجوع فيه الى الميت و من ذلك المسائل المستحدثة التي لم تكن في زمان الميت و من ذلك أيضا جواز تقليد الميت أو وجوب البقاء عليه لما سيجي ء إن شاء اللّه من عدم جواز الرجوع للميت في مسألة تقليد الميت، فالناس في حاجة الى المجتهد الحي يرجعون اليه و يحلون مشكلات أمورهم لديه و يعرفون حكم المسائل المستحدثة منه و هو الزعيم الديني لهم و النائب عن الامام المنتظر فيهم للقيام بتلك الاعمال فلا يجوز جعل الميت هو الزعيم الديني و النائب عن حجة آل محمد (ع) و بضميمة عدم القول بالفصل يتم المطلوب. (و جوابه) إن هذا إنما يثبت وجوب حياة الزعيم الديني و لزوم الرجوع الى الحي في تلك الأمور المذكورة و لا يمنع من تقليد الميت نعم لو قلنا بعدم جواز التبعيض في التقليد أو عدم القول بالفصل بين المسائل المستحدثة و غيرها أمكن أن يجعل ذلك دليلا على المسألة. لكن في كلا الأمرين نظر بل الحق خلافه فإن جملة من العلماء من جوزوا التبعيض في التقليد و جملة منهم من جوزوا التقليد ابتداء. و لا بد لهم أن يلتزموا في المسائل المستحدثة من تقليد الحي.

(إن قلت): انه إذا كان المجتهد نائبا عن الامام (ع) و من المعلوم ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 362

إمام كل عصر لا بد و أن يكون موجودا، فالنائب عنه بالطريق الاولى أن

يكون موجودا بل الميت لا يصلح للنيابة عن أحد فضلا عن أن يكون نائبا عن الامام (ع). (قلنا) إن نيابته إنما هي في الولاية و شؤون الإمامة لا في معرفة الأحكام الشرعية منه و إنما الدليل على معرفة الاحكام من المجتهد هو التعبد الخاص لا من جهة نيابته.

(الدليل السادس عشر) [أولوية عدم جواز تقليد الميت من عدم جواز البقاء على تقليد الحي الزائل رأيه بهرم أو بمرض]

ما يظهر من الآخند (ره) في كفايته انه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي بسبب الهرم أو المرض إجماعا لم يجز حال الموت بنحو أولى قطعا. و لا يخفى ما فيه و ذلك لأن محل كلا منا هو الفتاوى التي صدرت منه حال حياته و جامعيته لشرائط المرجعية و نحن نلتزم من ان الفتاوى الصادرة من الهرم أو المريض حال صحته و نشاطه و جامعيته للشرائط حجة بل قد يقال انه لا يجوز العدول عنها و إنما الإجماع قائم على عدم الرجوع لهما في الفتاوى التي تصدر منهما حال الهرم و المرض كيف و الإجماع المدعى خصوصا في مثل هذه المسألة المستحدثة لا يكشف عن رأي المعصوم لاحتمال استناد المجمعين الى أن غيرهما يكون هو القدر المتيقن و إن الاستصحاب لحجية قولهما غير جاري و قد تقدم منا الكلام في ذلك في الشرط الثاني لجواز تقليد المجتهد، و لو سلمناه فلا وجه للأولوية فان عروض ذلك للمجتهد موجب لسقوطه عن المنصبية لهذا المقام الكريم و هو النيابة عن الامام (ع) بخلاف الموت فإنه لا يسقطه عن المنصبية كما في الإمام (ع) فان الموت لا يسقطه عن منصبيته فيكون قوله حجة حتى بعد موته (ع).

(الدليل السابع عشر) ما روي من أن العلم يموت بموت حامليه.

و فيه عدم تسليم صحة سنده و معارضته بما دل على أن أهل العلم أحياء من جهة علمهم كقوله (ع) و العلماء باقون ما بقي الدهر: فإنه ظاهر في أن جهة بقائهم هو العلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 363

فلا بد أن يكون باقيا. مضافا الى انه كناية عن مطلوبية انتشار العلم و عدم حبسه و بذله إلى أهله.

(الدليل الثامن عشر) [الروايات الدالة على لزوم الرجوع إلى المجتهد الحي]

الصحيح الذي رواه الصدوق (ره) في علل الشرائع عن ابن محبوب عن يعقوب السراج قال لأبي عبد اللّه (ع) هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم فقال (ع) إذا لا يعبد اللّه يا أبا يوسف. فدل هذا الحديث على لزوم الرجوع للعالم الحي و سيجي ء إنشاء اللّه الكلام في هذا الخبر في الأدلة على المنع من جواز البقاء على تقليد الميت و يظهر بذلك عدم دلالته.

(الدليل التاسع عشر) ما نقله الشيخ حسن في شرحه لمقدمة أبيه جدنا كاشف الغطاء بأن العامي لا يجوز له الأخذ بفتوى المجتهد مع العدول.

و احتمال العدول قائم في الميت فلا يجوز تقليده، و أجاب عنه (ره) بأن مع احتمال العدول يجب التمسك بأصالة عدمه و مع يقينه فيؤخذ بمجهول التاريخ و إلا فيطرح.

(الدليل العشرون) الأخبار

الدالة على الرجوع في معالم الدين الى يونس بن عبد الرحمن و زرارة و محمد بن مسلم و أمثالهم و لو جاز الرجوع الى الميت لارجعهم الامام (ع) الى الأصول الصادرة من بعض الرواة الأموات، و فيه ما لا يخفى فإنه الأدلة المذكورة لم تكن فيها منع من الرجوع لغير المذكورين كيف و الوجوب الموجود فيها ليس وجوب عينيا قطعا لجواز الرجوع لغيرهم من الاحياء قطعا فلا بد أن يكون الوجوب تخييريا مضافا الى أنها قضايا في وقائع خاصة مضافا الى أن أصول الروايات للأموات يجوز الرجوع لها لأنها روايات لا فتاوى.

(الدليل الواحد و العشرون) ان تقليد الميت أما أن يكون بتقليد الميت فيلزم الدور

أو بتقليد الحي و هو رجوع إلى الحي، و فيه إن تقليد الميت يمكن أن يكون بحكم عقله و اجتهاده كما لو كان عمله بالتقليد من جهة الانسداد و كان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 364

قول الميت يفيد الظن الأقوى أو كان مراهقا للاجتهاد و أدى نظره الى حجية الاستصحاب و تمَّ في نظره استصحاب التخيير و نحو ذلك و يمكن أن يكون برجوعه إلى الحي. و دعوى الخصم أن هذا يكون رجوعا للحي لا معنى لها لأنه إن أراد أنه رجوع له في فتاواه فهو باطل لأنه إنما يعمل بفتاوى الميت و إن أراد انه رجوع له في مسألة جواز تقليد الميت فنحن لا نمنع من ذلك و لا محذور فيه.

(الدليل الثاني و العشرون) السيرة المستمرة

من بدء الشريعة إلى الآن على تقليد الأحياء دون تقليد الأموات ابتداء. (و جوابه) إن العوام لما كانوا لا يفهمون كتب الأموات لذا كانوا لا يرجعون إليهم على أن السيرة لم يعلم منها أنها على وجه الإلزام أم على وجه الاستحسان أم للسهولة أو للاحتياط.

أدلة القائلين بجواز تقليد الميت مطلقا
اشارة

استدل القائلون بجواز تقليد الميت مطلقا ابتداء و استمرارا أمكن التوصل للحي أم لا أفتى الميت بمضمون الأخبار أم لا، بالأدلة الأربعة العقل و الكتاب و السنة و الإجماع و إليك بيانها.

(الدليل الأول) [حجية قول الميت لإفادته الظن]

ما عول عليه المحقق القمي (ره) و حاصله ان قول الميت مفيد للظن و كل ما يفيد الظن فهو حجة، أما الصغرى فوجدانية، و أما الكبرى فلتمامية مقدمات دليل الانسداد من كون التكاليف باقية و باب العلم بها منسد على العامي في هذه الأزمنة و ليس له طريق شرعي إليها لأن الدليل على التعبد بالتقليد مفقود بالنسبة إلى العامي إذ الأدلة اللفظية من الكتاب و السنة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 365

غير واضحة الدلالة لديه لما فيها من المناقشات الى ما شاء اللّه تعالى و عدم معرفته الصحيح منها من الفاسد: و الأدلة اللبية من الإجماع و الضرورة و السيرة غير ثابتة لأن السلف المعاصر للإمام (ع) كان باب العلم في حقهم مفتوحا و كانوا يعملون به و الإجماع موهون بخلاف جملة من الأصحاب كفقهاء حلب و الأخباريين و الاحتياط على العامي يستلزم العسر و الحرج المعلوم انتفائهما عن الشريعة بالضرورة فلا مناص للعامي بعد هذا إلا الاعتماد على الظن في الخروج من عهدة التكاليف فالتقليد يكون اعتباره في حق العامي من باب الظن الثابت اعتباره من باب الانسداد و لا فرق فيه في نظر العقل بين الحاصل من قول الحي أو الميت إذ المناط واحد بل قد يكون الظن الحاصل من الثاني أقوى و عليه فيجب اتباعه لأنه أقرب الى الواقع. و دعوى ان الإجماع المحكي و الشهرة على عدم جواز تقليد الميت يفيدان الظن بعدم جواز الاعتماد على

قول الميت في الفروع. (فاسدة) إذ بعد تسليم انعقاد الإجماع في مثل هذه المسألة التي لم تكن متداولة في زمان المعصوم و إفادة المنقول منه كالشهرة الظن. لا ترجيح لهذا الظن بالنسبة إلى الظن الحاصل في المسألة الفرعية لو لم نقل بأن الظن بالواقع أقوى لأن المقصود هو الوصول الى الواقع.

و الجواب عنه أولا: إن منعه السيرة استنادا الى انفتاح باب العلم للموجودين في عصر الامام (ع) إن أراد بالانفتاح إمكان وصولهم الى الواقع علما فهو ممنوع جدا و إن أراد بالانفتاح ما هو الأعم من العلم و الطرق الشرعية المعلومة الاعتبار فهو حق لكنه لا ينفعه إذ من تلك الطرق قول العالم للجاهل و فتواه في غير مورد الرواية المنقولة لفظا و معنى. و أما منعه الإجماع بخلاف الحلبيين و الأخباريين فليس في محله لانقطاع الأول و انقراضه و رجوع خلاف الثاني إلى الخلاف في الموضوع بواسطة حسبانهم ان الفتوى مغايرة لما هو جائز

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 366

عندهم و لذلك لو لم يكن العمل بالفتوى عندهم عمل بالرأي لم يكونوا مانعين منها.

(و ثانيا): إن وجوب التقليد على العامي ليس من باب الانسداد بل هو أمر ضروري و ليس علمه بوجوبه عليه أدنى من علمه بوجوب الصلاة عليه لمسيس الحاجة و توفر الدواعي إليه هذا بالنسبة لأصل مشروعية التقليد و أما بالنسبة إلى الخصوصيات من أنه هل يجب تقليد الحي أو الميت أو الأصولي أو الاخباري أو الأعلم الى غير ذلك من الموارد المختلف فيها فان قدر على الترجيح فهو و إلا أخذ بالقدر المتيقن و إلا فحكمه التخيير و إن التفت الى وجوب التقليد فيها لأنها مسألة شرعية قد

اشتبه عليه الحال فيها و لم يتمكن من الاجتهاد المعلوم اعتباره فيها رجع للمجتهد، فالثمرة من عقد هذه المسألة و نظائرها إنما هي للمجتهد إذا رجع العامي إليه فيها.

(و ثالثا): ان لازم كون الظن طريقا للعامي أما انهدام بنيان الشرع أو كون العامي مجتهدا إذ لا اختصاص لدليل الانسداد بالتقليد بل يعم سائر الأمارات التي تفيد الظن.

(و رابعا): أنه قد اشتهر في السنة الأصوليين ان الظن المانع يقدم على الظن الممنوع عند التعارض مطلقا حتى لو كان المانع أضعف من الظن الممنوع، و الظن الحاصل من حكاية الإجماع و فتوى المشهور بحرمة تقليد الميت مانع من العمل بالظن الحاصل من قول الميت في المسألة الفرعية و لو سلمنا الأخذ بالأقوى منهما فلا نسلم أن الظن من قول الميت بالمسألة الفرعية أقوى من الظن الحاصل بعدم حجيته.

(و خامسا): إن التقليد لو كان حجة من باب حجية الظن المطلق فاما أن يكون المعتبر هو ظنه قبل الفحص عن أمارة أخرى تعارض قول المجتهد من خبر أو إجماع أو نحو ذلك و هو باطل لأنه يلزم أن يكون ظن العامي أقوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 367

من ظن المجتهد ضرورة انه لا عبرة بظن المجتهد قبل الفحص فكيف يجوز للعامي أن يعمل بظنه قبل الفحص، و أما أن يكون المعتبر هو ظنه بعد الفحص و هو باطل لقيام السيرة على خلاف ذلك و لم نر من المجتهدين من أفتى بوجوب الفحص على العامي في كل مسألة مع انه يلزم العسر و الحرج العظيم على العامي فالتحقيق أن حجية التقليد من باب التعبد.

(ثاني الأدلة لهم) [استلزام المنع من تقليد الميت شراكة المجتهد للشارع في الأحكام الشرعية]

ما حكي عن السيد الجزائري في منبع الحياة و هو أن قضية المنع

من تقليد الميت صحة إحدى صلاتي العامي و بطلان الأخرى إذا مات المجتهد المقلد بين الصلاتين و لازم ذلك أن يكون المجتهد شريك الشارع في الأحكام الشرعية و هذا لا ينطبق على أصولنا لأن علمائنا يحكون كلام المعصومين و يعملون به من دون تفاوت بين حياتهم و مماتهم.

و الجواب عنه (أولا): بالنقض بصورة ما إذا عرض للمجتهد الحي ما يوجب العدول كالفسق أو الجنون أو الكفر أو تبدل رأي.

(و ثانيا) بالحل بأن هذا ليس فيه شركة للشارع في الاحكام و إنما هو بيان لأحكام الشرع غاية الأمر أن ذلك البيان سقط عن الحجية و صار غيره حجة.

(ثالث الأدلة لهم) الاستصحاب

و هو يقرر على وجوه ثلاثة:

(أحدها) استصحاب حكم نفس الواقعة التي يريد التقليد فيها نظير استصحاب أحكام الشرائع السابقة و أحكام الحاضرين في زمن الخطاب بالنسبة للموجودين فعلا كأن يقال ان الواقعة كان حكمها كذا لفتوى المجتهد الميت به فالأصل بقائه.

(ثانيها) استصحاب الحكم الشرعي الفرعي الثابت لفتوى المجتهد الميت كأن يقال إن فتوى المجتهد الفلاني كان ثابتا لها جواز الأخذ بها و الأصل بقائه.

(ثالثها) استصحاب الحكم الوضعي و هو حجية قول المجتهد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 368

(و الحاصل) إن الاستصحاب فيما نحن فيه يتصور تارة في حكم نفس الواقعة و أخرى في حكم الأمارة التي قامت عليه أعني فتوى المجتهد الميت و الثاني يتصور بنحوين فإنه تارة يتصور بالنسبة لحكمها التكليفي و هو جواز الأخذ بها و تارة لحكمها الوضعي و هو حجيتها. و لكن لا يخفى انه لا يصح الاستصحاب الأول من جهة عدم اليقين السابق إذ ليس عنده علم سابق بأن الواقعة حكمها ما أفتى به المجتهد الميت و هكذا ليس عنده أمارة

معتبرة إذ ليس عنده إلا فتوى الميت بذلك و هي غير معلومة الحجية لديه لأن الكلام في حجيتها بخلاف أحكام الشرائع السابقة فإنه قد قامت الحجة عليها بأخبار نبيهم الصادق الأمين.

(إن قلت) إن فتوى المجتهد أمارة معتبرة على حكمها بواسطة أدلة التقليد الدالة على حجيتها و إنما الكلام ان الحكم الذي هو مدلول الفتوى يثبت للمكلفين بعد موت المجتهد. نظير أحكام الشرائع السابقة فإن الشك في ثبوتها للمكلفين بعد نسخ الشريعة السابقة (قلت): نحن نشك في بقاء الفتوى على حجيتها بعد موت المفتي بها بحيث يكون الموت مسقطا لحجيتها حتى في ظرفها أو مزيلا لحجيتها بعد موته فلم يكن للمكلف بعد موت مفتيها إحراز حجة على الحكم الذي تضمنته.

(إن قلت): انه يستصحب الحجية للفتوى. (قلنا): هذا رجوع الى الاستصحاب بالوجه الثالث. ثمَّ ان الاستصحاب الثاني يرجع للثالث إذا قلنا بأن الأحكام الوضعية مجعولة بالذات فان جواز الأخذ بقول المجتهد عبارة عن حجية قوله أو منتزع منها كما يرجع الثالث للثاني لو قلنا بأن الأحكام الوضعية مجعولة بالتبع فإنه حينئذ معنى جعل الحجية عبارة عن جعل جواز الأخذ بقول المجتهد. و كيف كان فالجواب عن الاستصحابين المذكورين:

(أولا) أنه لا يقين للعامي الحي سابقا بثبوت الحجية و جواز الأخذ بقول المجتهد الميت لا وجدانا كما هو واضح و لا تعبدا إذ لا دليل للعامي عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 369

إلا فتوى المجتهد الميت و هي مشكوكة الحجية بالنسبة للعامي فعلا كما ذكره بعض محشي العروة (و لا يخفى ما فيه) فان الفتوى حجة في ذلك الزمان بواسطة أدلة التقليد. ففي زمان حياة المجتهد متيقن ثبوت الحكم المذكور أعني حجية قوله (إن قلت) ان

أدلة التقليد إنما تثبت حجية قول المجتهد لمن أخذ به و رجع اليه و هذا لم يكن آخذا به حتى يكون حجة عليه سابقا (قلنا) هي تثبت حجيته مطلقا من دون القيد المذكور فلا وجه للتقييد به.

(و أجيب ثانيا) عن الاستصحابين المذكورين بأنهما باطلان لأنهما تعليقيان لأن العامي إنما يكون قول المجتهد حجة عليه أو يجوز له الأخذ به لو كان موجودا في زمان المجتهد أو كان بالغا في زمانه أو عاقلا في زمانه فهما استصحابان لأمرين معلقين على وجود الموضوع و هو العامي أو على صفة من صفاته كبلوغه أو عقله لو كان موجودا في زمان المجتهد و لكن المجتهد مات قبل بلوغ العامي أو عقله و قد بنى على ذلك على ما ببالي المرحوم استاذنا المشكيني و بعض محشي العروة (و لا يخفى ما فيه) فان المستصحب هو حجية قول المجتهد الميت و جواز الأخذ به بنحو القضية الحقيقية بمعنى ان قوله حجة على العامي المكلف باعتبار أفراده المحققة و المقدرة الوجود فإنه كل فرد عامي مكلف سواء كان موجودا أو يوجد في زمن ذلك المجتهد يجوز له الأخذ بقوله و يكون قوله حجة عليه على سبيل التعيين إذا لم يكن مجتهد غيره أو التخيير لو وجد مجتهد مساويا له فهذه القضية هي المتيقنة تعبدا في زمان حياة المجتهد بواسطة أدلة التقليد و نشك في بقائها بعد موته فنستصحبها نظير استصحاب أحكام الشريعة السابقة بل و نظير استصحاب سائر الأحكام كصلاة الجمعة عند حضور الامام عليه السّلام فان المتيقن سابقا ليس الحكم لخصوص الأشخاص السابقين بخصوصية وجودهم بل المتيقن هو الحكم للإنسان المكلف بما هو إنسان متحقق في ضمن أفراده و نشك في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 370

اختصاص هذا الحكم بالسابق أو أنه باقي هذا الحكم للأزمنة اللاحقة و هكذا استصحاب أحكام الحاضرين بالنسبة للموجودين بعد زمانهم فنشك ان زمن الحياة له مدخلية في الحكم، كما نشك في أن زمن الشريعة له مدخلية في الحكم، كما نشك ان زمن الحضور له مدخلية في الحكم فنستصحب بقائه بعد ذلك الزمن (و بعبارة أخرى) ان المتيقن السابق تعبدا بواسطة أدلة التقليد هو الحكم بالحجية و جواز الأخذ لكل مكلف شأن سائر الأحكام الشرعية و لكن نشك في بقائه لاحتمال أن الحياة لها دخل في تحققه كما نشك في بقاء وجوب صلاة الجمعة بعد زمن حضور الامام (ع). (و الحاصل) ان مقتضى الأدلة ان الحياة ظرف للحجية و ليست من مقومات موضوعها لعدم تقييدها بها و لو سلمناه فالعرف يراها ظرفا لا أنها من مقومات الموضوع.

(و أجيب ثالثا) عن هذين الاستصحابين في الكفاية ما حاصله انه لا مجال للاستصحاب لعدم بقاء موضوع المستصحب عرفا الذي هو شرط في جواز الاستصحاب، فان الموضوع للحجية و جواز الأخذ هو رأي المجتهد بدليل انه إذا تبدل رأيه لا يجوز تقليده في الرأي المتبدل و من المعلوم ان الرأي غير باق بنظر العرف بعد الموت و ان لم يكن واقعا ينعدم لكن العرف يرى ان الموت ينعدم به الإنسان و آرائه لبنائه على تقوّم ذلك بالحياة التي زالت بالموت، و لذا يرى ان حشره يوم القيامة من باب اعادة المعدوم، و قد تقرر في باب الاستصحاب ان المدار في بقاء الموضوع و عدمه على نظر العرف لا العقل و لا الواقع.

(إن قلت) فعلى هذا كيف يستصحب بعض الأحكام الثابتة حال الحياة

كطهارته و نجاسته و جواز نظر زوجته له (قلنا) ان ذلك لما كان في نظر العرف غير متقوم بحياته و إنما يرى انه متقوم ببدنه و جسمه الباقي بعد موته، فيكون العرف يرى ان الموضوع لها باقي بعد الموت و إن احتمل ان الحياة لها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 371

دخل في عروضها واقعا (و لا يخفى ما فيه) لما تقدم في جواب الدليل الخامس من أدلة المانعين ص 351 من أن الفتوى بقائها أمر اعتباري لا عيني خارجي و يكون منشأ اعتبارها هو حدوث الرأي مع عدم إفساده من المفتي بها أو نقول ان نفس حدوث الفتوى موضوع لحجيتها نظير حدوث الشهادة فإنه موضوع للحجية على التمليك و نظير حدوث الحد فإنه موضوع لحرمة الاقتداء بالمحدود و أما عدم جواز تقليده في الرأي المتبدل فلظهور فساد الرأي و خطأه مضافا إلى ان الفرق موجود هو وجود دليل خاص على ذلك.

(و أجيب رابعا) عن هذين الاستصحابين بما ذكره بعض أساتذة العصر ما حاصله ان الشك إنما هو في حدوث التكليف بجواز الأخذ بالفتوى بعد موت المفتي لأن مرجع الشك إلى الشك في سعة التكليف و ضيقه بالنسبة لمن يوجد بعد موت المفتي فانا نحتمل أن تكون حجية فتوى المجتهد مختصة بمن عاصره و كان من وظيفته الرجوع اليه، و أما العامي الموجود بعد موته فلا علم بحجية فتواه في حقه و لا علم بجعل الحكم في حقه و لو بنحو القضية الحقيقية حتى يجري الاستصحاب و يثبت به بقاء الحكم بل الذي يجري في حقه استصحاب عدم الجعل بلا معارض (و الحاصل) انه لا يقين سابقا بحجية فتوى المجتهد الميت بالنسبة لمن

وجد بعده و إنما ثبت اليقين بالحجية بالنسبة إلى الموجودين في زمانه كما قد ذكره عند البحث عن جريان الاستصحاب في أحكام الشرائع السابقة من أن مرجع الشك في نسختها إلى احتمال ضيق دائرة الجعل و عدم سعتها بالنسبة إلى من يوجد في زمان التشريع للشريعة اللاحقة فيكون المراد بالنسخ بيان أمد الحكم بحسب الجعل الأول لا رفعه لكونه مستلزم للبداء المستحيل في حقه تعالى. و (بعبارة أخرى) إن الحجية المستصحبة إن أريد بها الحجية الفعلية فاستصحابها يكون من الاستصحاب التعليقي و ذلك لفرض دخول الحياة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 372

و البلوغ في تنجز الإحكام إذ لا يعقل ثبوت الحجية الفعلية للمكلف قبل وجوده و إن أريد بها الحجية في مرحلة الإنشاء و الجعل فالاستصحاب في هذه المرحلة و إن لم يكن من الاستصحاب التعليقي إلا أنه لا يقين في هذه المرحلة بالثبوت ليكون الشك شكا في البقاء بل الشك إنما هو في جعل الحجية لمن يوجد بعد المجتهد لاحتمال تقييد موضوع الجعل بحياة المجتهد فيشك في سعة موضوعه و ضيقه فالمعدوم في عصر المجتهد أو الذي لم يكن بالغا أو عاقلا يشك في شمول الجعل بالنسبة اليه و معه يرجع إلى استصحاب العدم الأزلي. قال: و بهذا يشكل استصحاب الأحكام للشرائع السابقة و في استصحاب عدم النسخ في شريعتنا المقدسة لوجود القدر المتيقن في الموردين و في الزائد يرجع إلى استصحاب العدم الأزلي لعدم العلم بانتقاضه ففي المقام القدر المتيقن جعل الحجية لفتوى المجتهد حال حياته. و أما جعل الحجية لفتواه بعد موته فهو مشكوك فيه فيرجع إلى أصالة عدمه و لا يعارضه استصحاب الحجية الثابتة حال حياته. (و لا

يخفى ما فيه) فانا نختار الشق الأول و نستصحب الحجية الفعلية بنحو القضية الحقيقية فإن المستفاد من أدلة التقليد حجية الفتوى فعلا لكل مكلف فهذا الحكم في حد ذاته نستصحبه للمكلف بعد وفاة المجتهد فنقول ان فتوى المجتهد كانت حجة فعلية على كل مكلف حين حياة المجتهد فهكذا بعد حياته فليس ذلك من الاستصحاب التعليقي و قد تقدم توضيح ذلك في ص 369 في جواب الإيراد الثاني على الاستصحابين، و انا نختار الشق الثاني، و دعوى عدم اليقين بالثبوت لاحتمال تقيد موضوع الجعل إلخ. فهي في منتهى الغرابة لأن لازمه إنكار الاستصحاب في كل مورد يكون الشك من جهة عروض حالة على الموضوع كما لو شك في كرية الماء المسبوق بالكريه أو إضافته بعد ما كان مطلقا أو في بقاء اجتهاد المجتهد أو عدالته فان الشك إنما يكون من جهة الشك في بقاء الموضوع الحقيقي له لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 373

الموضوع الحقيقي علة تامة لتحقق المحمول و حينئذ فلا يتصور الشك في المحمول إلا مع الشك في الموضوع، و عليه فيكون الشك لدى الحقيقة ليس شكا في البقاء و المتيقن السابق غير المشكوك اللاحق فالمجتهد المذكور بعد عروض المرض أو احتمال عروضه له بحسب الدقة غير المجتهد الذي تيقن ثبوت الاجتهاد له و إلا لما كان متيقن الاجتهاد سابقا و الآن قد شك في اجتهاده، و هذا يرجع للإشكال المعروف في استصحاب الأحكام من عدم اتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة في استصحابها لأنه مع اتحادهما لا يعقل الشك في الحكم لكون الموضوع علة تامة لثبوت الحكم إلا على البداء الممتنع على الشارع المقدس، ففي الآن الثاني الذي يشك في ثبوت

الحكم ان كان الموضوع السابق موجودا فلا يشك في الحكم و إن كان غير موجود أو مشكوك الوجود فلا مجال للاستصحاب لعدم اليقين بالحكم سابقا لهذا الموجود فعلا بعين ما ذكره الخصم، و قد أجاب عنه القوم بما حاصله: انا نختار عدم بقاء الموضوع على الوجه الذي كان علة لثبوت الحكم و ليس المتيقن السابق عين المشكوك اللاحق بحسب الدقة العقلية إلا أن ذلك لا يضر بالاستصحاب لأن الميزان فيه هو نظر العرف، فاذا كان العرف يرى بأن المشكوك اللاحق عين المتيقن السابق صح الاستصحاب لصدق البقاء ففي ما نحن فيه ان الحكم لما كان متيقن الثبوت لماهية المكلف باعتبار أفراده و بعد موت المجتهد يشك في ثبوته لها لاحتمال دخل حياة المجتهد في موضوعه و لكن العرف يرى ان هذا شك في بقائه لها لا شك في حكم جديد لها و ان حياة المجتهد من قبيل الظرف للحجية كانت أدلة الاستصحاب تقتضي استصحاب ذلك الحكم لماهية المكلف باعتبار أفراده هذا مضافا إلى انه لو بنينا على ذلك لم يتم استصحاب حجية الرواية بعد موت الراوي، و لا الشهادة بعد موت الشاهد، و لا اليد بعد موت ذيها (و الحاصل) ان التكليف بالأخذ بالفتوى و حجيتها لما كان بنحو العموم للمكلف باعتبار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 374

ما يوجد له من الأفراد بمعنى انه حجة على كل مكلف وجد أم لم يوجد بنحو القضية الحقيقية و لكن نشك في أن زمان المفتي قيد للتكليف بالأخذ بالفتوى أو ظرف له فيكون الشك في وجود التكليف فيما بعد ذلك الزمان شك في بقائه في نظر العرف الذي هو الميزان في صدق الشك في البقاء

و عدمه في باب الاستصحاب فيكون نظير الشك في وجوب صلاة الجمعة فإنه في عصر الامام (ع) التكليف بها عام لكلي المكلف سواء كان موجودا أو يوجد في زمانه و لكن يشك في بقاء هذا التكليف بعد غيبة الإمام (ع) للشك في أن حضوره كان من قبيل الظرف للتكليف المذكور أو من قبيل الشرط، و حينئذ فيستصحب ذلك الحكم و هو وجوب صلاة الجمعة إلى الزمان الثاني، و أيضا نظير استصحاب أحكام الحاضرين بالنسبة للموجودين بعدهم، و لعل الخصم تخيل ان الحكم المذكور للافراد الخارجية لا للكلي باعتبار ما له من الأفراد فذهب به الوهم الى أن الشك إنما كان في الحدوث لا في البقاء، و لو تمَّ ما ذكره لزم عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المشكوك فيها من جهة الزمان فلا يصح استصحاب مثل وجوب صلاة الجمعة بالنسبة إلى الموجودين في زمان الغيبة للاحتمال المذكور.

(و أجيب خامسا) عن الاستصحابين كما عن بعض أساتذة العصر بأن الاستصحاب إنما يجري عند عدم الدليل، و قد دل الدليل على اشتراط الحياة في المفتي بالإجماع على ذلك و ظهور الآيات و الروايات الدالة على حجية فتوى المجتهد في ذلك، أعني في اعتبار الحياة في المفتي (و لا يخفى ما فيه) فان المستدل بالاستصحاب إنما يستدل به على فرض عدم وجود دليل شرعي على ذلك مضافا الى ما عرفت من عدم تمامية الإجماع ص 349 و عدم تمامية دلالة الآيات و الروايات على ذلك ص 358 و 359.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 375

(و أجيب سادسا) عن الاستصحابين بأن الموضوع لجواز التقليد هو رأي المجتهد و ظنه و هو غير باقي قطعا بعد موته لزواله بزوال

الحياة. و جوابه ما عرفته من أن الرأي حدوثا مع عدم إفساده من صاحبه هو الموضوع لجواز التقليد و ان بقائه أمر اعتباري لا عيني خارجي و العقلاء يعتبرون بقائه بعد موته و لا يرون الموت يرفعه عن صاحبه بخلاف ما إذا أفسده صاحبه كما تقدم ص 351.

و قد أورد بعض أساتذة العصر على هذا الجواب بما حاصله انه إنما يتم ذلك إذا كان الموضوع للحجية هو الرأي بما هو فإنه يمكن أن يقال ان حدوثه كاف في ثبوت الحجية له حدوثا و بقاء و لو فرضنا ارتفاعه خارجا، و أما إذا كان الواجب على العامي هو الرجوع الى الفقيه و العالم و الناظر في الحلال و الحرام و أهل الذكر و غير ذلك من العناوين الغير القابلة للانطباق على الميت كما استظهرناه من الأدلة اللفظية فلا تتحد القضية المتيقنة و المشكوك فيها، فان الظاهر من من أدلة التقليد أن يكون المرجع متصفا بهذه الأوصاف حين ما يرجع له العامي و لا عبرة باتصافه فيما مضى و بذلك يظهر الفرق بين المقام و مسألة حجية الخبر، فإن الحجية في تلك المسألة إنما تثبت للخبر بما هو فالمرجع هو نفسه فلا عبرة بحياة المخبر، و هذا بخلاف المقام، فان المرجع فيه عنوان العالم و الفقيه و نحو ذلك.

انتهى. (و لا يخفى ما فيه) لما تقدم في جواب الدليل الثالث عشر من أدلة المانعين ص 359 من أن أدلة التقليد تدل على حجية الفتوى إذا كان المفتي بها حين إفتائه بها متصفا بالصفات المعتبرة في المفتي نظير المستفاد من أدلة حجية الخبر فإنها إنما تدل على حجية الخبر إذا كان المخبر حال اخباره به متصفا بالصفات المعتبرة

في المخبر فان كل من الأدلة نظرها لنفس الفتوى و الرواية و ليست أدلة التقليد تدل على الرجوع لنفس الشخص المتصف بالصفات المذكورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 376

فإنه لا معنى له فلو دلت لا بد من حملها على الرجوع الى فتواه و رأيه صونا للكلام عن اللغوية مضافا الى أنه منها ما اشتمل على الفتوى كيف و من أدلته الانسداد و الفطرة و الإجماع و السيرة و هي موضوعها الفتوى، ثمَّ كيف يفرق بين الخبر و الفتوى مع ان الأدلة لكلا البابين واحدة عند الكثير فلو لم يفهم القوم ذلك لما استدلوا على حجيتها بأدلة لفظية واحدة فإذا كان موضوع الحجية هو الرأي بما هو رأي لكن بشرط أن يصدر حال اتصاف صاحبه بالصفات المطلوبة في المفتي نظير الرواية كان الموضوع للحجية موجودا بعد الموت لان الموضوع هو نفس الفتوى و نفس الرأي نظير الرواية فإن وجودهما اعتباري منشأه صدورهما مع عدم الصدور من صاحبهما ما يدل على فسادهما أن نقول ان الموضوع للحجية نفس حدوث الرأي و الرواية نظير حدوث الحد الموجب لحرمة الصلاة خلف المحدود كما التزم به بعضهم.

(و أجيب سابعا) عن الاستصحابين بأن قاعدة الاشتغال تعارضهما لأن المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و هو الأخذ بقول المجتهد الحي و بين التخيير بين الميت و الحي، فالفراغ اليقيني إنما يحصل بالأخذ بالحي (و فيه ما لا يخفى) فإن قاعدة الاشتغال لا تعارض الاستصحاب كما قرر في محله من انه مقدم عليها لحصول الفراغ اليقيني التعبدي به.

(و أجيب ثامنا) عن الاستصحابين انه ان أريد الاستصحاب للحكم الواقعي فلا يقين به في السابق لأن الأحكام الواقعية لا يقطع بها

إلا من ضرورة أو إجماع أو خبر محفوف بالقرائن القطعية أو تواتر و إن أريد استصحاب الحكم الظاهري فموضوعه ظن المجتهد الحي لأنه من جهة وجوب العمل بظن المجتهد و الظن قد زال بالموت قطعا (و لا يخفى ما فيه) فإنه منقوض بكل حكم قامت الامارة المعتبرة عليه إذا شك في بقائه لأن الحكم الواقعي لا يقين به سابقا و الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 377

الظاهري موضوعه الظن و قد زال و بالحل انا نستصحب الحكم الواقعي و اليقين الحاصل به هو اليقين التعبدي فإنه قد حقق في محله أن لا تنقض اليقين بالشك يشمل اليقين التعبدي، سلمنا نستصحب الحكم الظاهري و موضوعه الظن لكن الموضوع لا يزول بالموت لأن حدوث الظن هو الموضوع نظير الحد يثبت بمجرد حدوث الجريمة، نعم إنما يزول لو أفسد هذا الظن نفس الظان كما تقدم تفصيل ذلك ص 371 فعند حصول الظن تثبت الحجية و بعد الموت نشك في زوالها من جهة احتمال اعتبار الحياة في حجيته أو كون الموت مانعا منها فنستصحب بقائها و استصحاب الحكم الظاهري أكثر من أن يحصى فإنا لو أجرينا البراءة أو أصالة الطهارة ثمَّ شككنا فيها استصحبنا ذلك الحكم الظاهري (و أجيب عن الاستصحابين تاسعا) بأن الاستصحاب إنما ينفع في المقام إذا كان الميت أعلم من جميع المجتهدين الاحياء أو أنه لم تعلم المخالفة بينه و بينهم، و أما في صورة العلم بالمخالفة و كان في الاحياء من هو أفضل منه أو مساويا له لم يكن قوله حجة أما مع وجود الأعلم فالوجه ظاهر و اما مع التساوي فلأن دليل الحجية لا يشمل المتعارضين و القائل بالتخيير إنما استند

للإجماع، و من الظاهر انه لا إجماع في المقام فالأمر يكون في المقام دائر بين التعيين و التخيير في الحجية و المرجع فيه أصالة الاشتغال لأن الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها فتحصل ان الاستصحاب بعد موت المجتهد اما أن لا يتم في نفسه و اما أن لا يفيد القائل بجواز تقليده ابتداء (و لا يخفى ما فيه) أولا انا نتكلم في حجية فتوى المجتهد الميت مع قطع النظر عن الأمور الأخر من كونه فاسقا أو مفضولا أو نحو ذلك فان الكلام فيه مع فرض المساواة من جميع الجهات ما عدى الحياة.

(و ثانيا) مع جريان الاستصحاب و قطع النظر عن الأدلة كما هو المفروض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 378

لا أثر لأعلمية الاحياء عند من يرى الرجوع الى الأعلم من جهة قاعدة الاشتغال لأن الاستصحاب حاكم عليها، و أما دعوى عدم شمول دليل الحجية للمتعارضين فغير صحيحة لما سيجي ء إنشاء اللّه في مبحث اشتراط الأعلمية شموله لهما و ان مقتضى القاعدة هو التخيير، و قد أطلنا الكلام هناك في هذا المقام نظرا لأهميته بين العلماء الاعلام.

(و أجيب عن الاستصحابين عاشرا) ان الاستصحاب ان كان للحكم الواقعي فلا يقين به في السابق كما هو واضح و ان كان للحكم الظاهري فأيضا لا يقين به لان اليقين به فرع وجود المكلف في زمان حياة الميت و رجوعه اليه و المفروض عدم وجود المكلف في حياة المجتهد و عدم تحقق الرجوع إليه في وقت من الأوقات فأين له اليقين بالحكم الظاهري، و اما أصل الشرطية و هي انه «لو كان في زمان حياته لكان حكمه كذا» فهي معلومة و لم يقع فيها شك أصلا لكن

اليقين بها لا يجدي في إثبات حكم ظاهري للمكلف لصدق الشرطية مع امتناع طرفيها و في المقام لم يوجد المكلف في حياة المجتهد فامتنع ثبوت الحكم الظاهري له فكيف يستصحب، و اما استصحاب أحكام الشرائع السابقة فلا ريب فيه لتمامية أركان الاستصحاب فيها، للعلم بثبوت الحكم الشرعي الواقعي في الزمان السابق على نهج القضايا الحقيقية فأين هذا مما نحن فيه، و قد ظهر لك ما في هذا الجواب مما ذكرناه في الأجوبة السابقة، فإن أدلة التقليد تدل على حجية الفتوى من دون تقييدها بالرجوع للفتوى كما تقدم و هل هو الا عين المتنازع فيه، ثمَّ انه على تقدير التقييد يثبت عدم حجية الفتوى للمكلف الموجود بعد موت المفتي لعدم حصول القيد و هو الرجوع له زمن حياته فلا نحتاج الى هذا الكلام، ثمَّ قد عرفت ان المستصحب هو الحكم الواقعي المتيقن بواسطة قيام الامارة عليه و هي دليل التقليد، و المستصحب ليس بقضية شرطية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 379

و إنما هو قضية فعلية فراجع ما ذكرناه في الأجوبة عن الاستصحابين يتضح لك الحال إنشاء اللّه.

(رابع الأدلة للمجوزين) لتقليد الميت مطلقا آية النفر في سورة البراءة

و هي قوله تعالى فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ فإن الآية ظاهرة في وجوب التفقه و وجوب الإنذار و هما يستتبعان وجوب الحذر و القبول الشامل بإطلاقه لفتوى الحي و الميت فإنه يصدق على الميت بلحاظ زمان حياته انه أنذر بهذه الفتوى و حصل لمقلده التخوف و لو بعد مماته فيجب اتباعه و لو أبيت عن ذلك فلنفرض ان المجتهد قد أنذر في حال حياته و لم يتبعه العامي عصيانا ثمَّ بدا

له بعد موته اتباعه فهل ترى عدم صدق الإنذار في مثله و يتم المدعى في الباقي بضميمة عدم القول بالفصل. (و أجيب عن ذلك) ان ظاهر الآية اختصاص الحكم بإنذار الأحياء لأن الحياة لها مدخلية في حقيقة الإنذار. و الأمر بالتفقه و الإنذار متوجهان الى الاحياء (و لا يخفى ما فيه) لوضوح عدم مدخلية الحياة في حقيقة الإنذار و بقائه بعد الموت ألا ترى يصدق عرفا و لغة الإنذار على تهديد الميت و تحذيره لقومه أو أولاده بشي ء يقع بعد مماته، و الغريب ان هذا المورد استدل بهذه الآية تبعا للقوم على حجية الرواية فلو تمَّ ما ذكره لم يصح منه و منهم الاستدلال بها على حجية الرواية في هذه العصور لأنه لا بد و أن يكون في سلسلتها راوي ميت.

(خامس الأدلة للمجوزين) آية الكتمان

و هي قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ و قد تقدم تقريب الاستدلال بها على جواز التقليد في أدلته و إذا تمَّ الاستدلال بها على ذلك فهي غير مختصة بالإحياء بل تدل على وجوب القبول من الأموات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 380

و الاحياء فراجع ذلك (و دعوى) انه لا إطلاق لها بالنسبة إلى الميت إذ لا يعقل في حقه الكتمان (مدفوعة) بأنه يتصور فيه الكتمان باعتبار زمان حياته فهي حيث دلت على ان هذا الميت يحرم عليه الكتمان حال حياته فتدل على وجوب قبول ما صدر منه حال حياته و لو بعد مماته ألا اللهم أن يقال انه لا إطلاق في المداليل الالتزامية بالنسبة إلى شي ء من الأحوال لأن الاستلزام أمر معنوي كما ينسب ذلك للشيخ الأنصاري (ره).

(سادس الأدلة للمجوزين) آية السؤال

و هو قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ* بتقريب ان المراد بالسؤال هو الرجوع لهم لوضوح عدم ارادة خصوص الاستفهام بقرينة مناسبة الحكم للموضوع و الكلام فيها مثل الكلام في الآية السابقة عليها. و قد يقرب الاستدلال بها بأنه لو سئل ثمَّ مات المسؤول قبل عمل السائل و أخذه بالسؤال فإن الآية تدل على جواز العمل بقوله و يتم في الباقي بضميمة عدم القول بالفصل.

(سابع الأدلة للمجوزين) إطلاق ما دل على الرجوع لمثل زكريا بن آدم

و زرارة و محمد بن مسلم كما تقدم في 31 في أدلة التقليد فإنه بإطلاقه يشمل الرجوع لهم أحياء أو أمواتا و لذا استدل بذلك على حجية رواياتهم على من كان بعد زمانهم.

(ثامن الأدلة) [إطلاق ما جاء في التوقيع الشريف من الرجوع إلى رواه الحديث أحياء أو أمواتا]

ما رواه المشايخ الثلاثة في الغيبة و إكمال الدين و الاحتجاج في التوقيع الشريف لإسحاق بن يعقوب الذي قال فيه المرحوم الشيخ محمد طه نجف: انه مقطوع به أو كالمقطوع (و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة اللّه) و وجه الاستدلال انه (ع) أمر بالرجوع إليهم سواء كانوا أحياء أو أمواتا لا سيما و قد شبه حجية قولهم بحجية نفسه الزكية (ع) و لذا استدل به على حجية الرواية حتى إذا كان الراوي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 381

ميتا، و قد أوردنا عليه و أجبنا عنه عند ما ذكرناه في أدلة التقليد ص 32

(تاسع الأدلة لهم) [رواية: فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه.]

ما حكي عن الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري من قوله (ع) في حديث طويل: «فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه». و وجه الدلالة ان الامام (ع) كان في مقام بيان صفات المفتي و لم يذكر فيها الحياة و ذلك يقتضي عدم اعتبارها و لكن الخبر ضعيف إنما يصلح للتأييد به لا التمسك به و يمكن أن يقال انه موثوق الصدور لأن أمارات الصدق ظاهرة عليه مع اشتهاره و اعتماد جملة من العلماء عليه فيصح التمسك به، و قد تقدم الكلام فيه ص 29 في أدلة التقليد فراجع. و نظير ذلك قوله (ع): «من عرف أحكامنا و نظر في حلالنا و حرامنا» فإنه يشمل الحي و الميت إلا انه لا يخفى ان ذلك في المخاصمة و هي لا تكون إلا عند الحي لا الميت فراجع الرواية.

(عاشر الأدلة لهم) قول العسكري (ع) في كتب بني فضال: «خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا»

فإنه لو كان تقليد الميت حرام لما احتاج الامام (ع) الى هذا الكلام لأنه يحرم على من كان بعدهم أن يأخذ برأي كل أحد مضافا الى أن تخصيص عدم الأخذ برأيهم فقط دون من عداهم يدل على جواز الأخذ برأي من عداهم بعد موتهم و إلا لمنع الامام (ع) من الأخذ بكل رأي أحد بعد الموت. (و دعوى) ان المراد المنع من آرائهم الاعتقادية لا وجه لها بعد عموم المنع و عدم تقييده (و لا يخفى ما فيه) فإنه مضافا الى انه من المحتمل ان بعضهم كانوا في زمن العسكري (ع) كما قيل ذلك في علي بن الحسن الفضال و وجود الشلمغاني عند السؤال. أن حرمة تقليد الميت ليست من المسائل البديهية حتى الامام (ع) يعتمد عليها في بيان

عدم الأخذ بآراء بني الفضال. و اللقب و الوصف ليس بحجة حتى تدل الرواية بمفهومها على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 382

جواز الأخذ برأي صحيح العقيدة، و قد تقدم الكلام في هذه الرواية ص 204

(الحادي عشر من أدلتهم) [رواية: هذا ديني و دين آبائي]

ما ورد في كتاب يونس بن عبد الرحمن المسمى بيوم و ليلة عن أبى الحسن (ع) بعد أن نظر فيه و تصفحه قال هذا ديني و دين آبائي. قال الفاضل التوني: و الظاهر انه كتاب فتوى فحصل تقرير الامام (ع) على تقليد يونس بعد موته، و بأن الصدوق صرح بجواز العمل بما في الفقيه مع انه كثيرا ما ينقل فيه فتاوى أبيه، و بما روي من أمرهم بالرجوع الى محمد بن مسلم و يونس بن عبد الرحمن و الفضل بن شاذان كما هو المحكي عن تراجمهم في الكشي و تخصيص ذلك بحال الحياة دون الممات يحتاج الى دليل، و أجيب بأن الكتاب المذكور كان كتاب اخبار و لهذا عد من الأصول الأربعمائة و هذا هو الغالب في مؤلفاتهم و لم يتحقق الى الآن ان أحد من أصحاب الأئمة ألف في زمانهم (ع) كتاب فتوى إلا أن يشتمل عليها مع أدلتها سلمنا ذلك و لكن شهادة الإمام (ع) بصحته وجب كونه بمنزلة الخبر الواحد الصادر عنهم (ع) إلا انه ليس يجوز للعامي العمل به فإنه يكون نظير الخبر المقطوع الصدور فإنه لا يجوز للعامي أن يأخذ به و إنما يجوز ذلك للمجتهد و اما الصدوق فلعله من جهة ان فتاوى أبيه بمنزلة متون الاخبار عنده و اما الأمر بالرجوع الى ابان بن تغلب و غيره فقد أجيب عنه بأن ظاهره الرجوع إليهم في زمان الحياة دون الممات

لا سيما بقرينة السؤال (و لا يخفى ما فيه) فإنه لا ظهور في ذلك، و لذا تمسك بعضهم على حجية الخبر به مع انه حجة حتى بعد الممات

(الثاني عشر من أدلتهم) قوله (ع): «حلال محمد حلال الى يوم القيامة و حرامه حرام الى يوم القيامة»

فإن موت المجتهد لو كان مؤثرا في عدم جواز الأخذ بفتواه كان ذلك موجبا لتحريم ما أحل اللّه تعالى و تحليل ما حرم اللّه تعالى، و هل هذا إلا مضحكة للنسوان و ملعبة للصبيان (و لا يخفى ما فيه) فان الخصم يدعي ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 383

ما أحله اللّه هو الأخذ بالحي فقط و قد حرم الأخذ بالميت و هذا الحكم موجود ليوم القيامة فلو جعل الأخذ يعم الميت و الحي كان تبديلا لحكم اللّه و تحليلا لما حرم اللّه تعالى و هو الأخذ بالميت.

(الثالث عشر من أدلتهم) الأخبار الدالة على أن العلماء ورثة الأنبياء

و ان مدادهم أفضل من دماء الشهداء و ان العلماء أفضل من أنبياء بني إسرائيل.

و وجه التقريب ان تنزيل العلماء منزلة الأنبياء و جعلهم ورثة الأنبياء يقتضي عدم سقوط أقوالهم بعد مماتهم كالأنبياء (و لا يخفى ما فيه) فإنها ظاهرة في فضل العلماء و علو منزلتهم و هذا غير مسألة حجية أقوالهم و اعتبارها عند الشارع ثمَّ ان الرجوع الى الأنبياء ليس من باب التقليد بل من باب حصول القطع من أقوالهم و ليس الرجوع الى العلماء من هذا الباب بل هو من باب التقليد فلا يصح التنزيل من هذه الجهة و جعل قولهم مثل قول الأنبياء بعد موتهم فتأمل لما ذكرناه في مبحث الولاية.

(الرابع عشر من أدلتهم) انا نعلم بسبب الاستقراء و التتبع للحجيات المجعولة من الشارع عدم مدخلية الموت و الحياة فيها

لأنا نرى انه حكم بحجية قول المعصوم و لم يكن للموت و الحياة دخل فيه و نرى انه حكم بحجية قول العدلين إذا شهدا عند الحاكم فماتا قبل صدور الحكم و لم يكن الموت يزيل حجية قولهما و هكذا الروايات لم تبطل بموت رواتها و هكذا قضاء القضاة و حكمهم لم يبطل بالموت و هكذا قول أهل الخبرة و ذي اليد و قول أهل البلد في تعيين القبلة و قول الشخص فيما لم يعلم إلا من قبله و قول المرأة فيما يتعلق بفرجها (و الحاصل) انه إذا استقرئنا أبواب الفقه من أولها إلى آخرها نجد كل من جعل الشارع قوله حجة في حال حياته قد جعله الشارع حجة في حال مماته، فاذا شككنا في قول المفتي الذي جعله الشارع حجة في حال حياته انه حجة في حال مماته حكمنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 384

بحجيته بعد مماته أيضا للاستقراء المذكور و إلحاقا للفرد المشكوك بالأعم الأغلب لأن

القول بأنه ليس بحجة بعد مماته قول عادم النظير في أبواب الفقه (و فيه ما لا يخفى) فان الاستقراء عندنا ليس بحجة إلا إذا أفاد اليقين.

(الخامس عشر من أدلتهم) انه لو لم يجز تقليد الميت لزم الحرج

لأنه أغلب الناس فاقدون للاجتهاد و لا ريب في ان الكثير من الأزمنة و الأمكنة تخلو عن المجتهد و عن إمكان التوصل اليه بخلاف ما لو جوزنا تقليد الميت فإنه لهم في تلك الحال أن يرجعوا اليه (و فيه ما لا يخفى) إذ هذا الفرد نادر إذ الغالب التمكن من تقليد الحي و الرجوع اليه و لو فرض تحقق هذه الصورة فنلتزم فيها عدم وجوب تقليد الحي لما ذكره الخصم و لكن لا يوجب ذلك جواز تقليد الميت لان الحرج إنما يرفع التكليف لا انه يثبت التكليف و حينئذ يكون العامي بمنزلة ما لا دليل عنده ليرجع للاحتياط إن أمكن و إلا رجع للظن لأنه أقرب طرق الواقع لديه.

(السادس عشر لهم) انه لو لم يجز تقليد العالم الميت لكان مساويا للجاهل

الميت في عدم الاعتناء بقوله و عدم تقليده و هو باطل لقوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ (و فيه ما لا يخفى) فإن الآية الشريفة ليست ناظرة للتقليد و عدمه بل هي ناظرة للفضيلة و الكرامة و الشرف.

(السابع عشر لهم) ان العلماء قلدوا الأموات في أخبارهم

عن ان هذه الرواية عن الكتاب الفلاني و التقطيع للأخبار و وضع كل جزء من الرواية الواحدة في باب مناسب له و ان هذا الراوي عدل و ان معنى اللفظ كذا الى غير ذلك، و هو إفتاء منهم مضافا الى انه إذا جاز التقليد في هذه الأمور التي هي أسس الاحكام فليجز في غيرها (و جوابه) ان ذلك ليس بإفتاء منهم بل هي شهادة و اخبار حصل لهم من تتبع الاخبار و تصفح الآثار و النظر في اللوازم لمعرفة الملزومات و لو سلمنا أنها إفتاء منهم لكن الرجوع لهم ليس بتقليد و لذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 385

نفس المجتهدين يرجعون لهم و إنما هو من باب الانسداد أو من باب الرجوع لأهل الخبرة أو من باب حجية الرواية أو لدليل خاص أو غير ذلك، على انا لو سلمنا حجية تقليد الأموات في ذلك فلا نسلم حجية تقليدهم في الأحكام الفرعية للفرق بين الموضوعين لأن ثبوت الحجية في ذلك لا يوجب حجية التقليد.

(الثامن عشر لهم) ان أدلة التقليد إنما هي إمضاء لبناء العقلاء من الرجوع لأهل الخبرة،

و لا ريب ان العقلاء لا يفرقون بين الحي و الميت كما هو الحال في سائر موارد الرجوع الى أهل الخبرة (و جوابه) ان هذا مبني على فساد ما أقامه المانعون و إلا فيكون ردعا للعقلاء عن تقليد الأموات.

(التاسع عشر) قياس فتوى الميت على فتوى الغائب

(و جوابه) انه قياس مع الفارق لوجوده في قيد الحياة و تمكنه من البحث و الفحص و إظهار رأيه بخلاف الميت.

(العشرون) اعتبار فتوى الميت في إجماع السابقين

فلو لم تقبل فتواه لم تقدح مخالفتها و لم تعتبر موافقتها (و جوابه) ان حكم الإجماع غير حكم التقليد و يمكن عكس الدليل عليهم بأن يقال انه لو كانت فتواه ميتا معتبرة لاعتبرت في إجماع اللاحقين.

(الواحد و العشرون) ان الأمر بالكتابة و حفظ الكتب و توريثها

و السيرة المستمرة على ذلك دليل على اعتبار ما فيها (و جوابه) كما في شرح مقدمة كشف الغطاء للمرحوم عمنا الأعلى الشيخ حسن ان ما ذكر ان كان بالنسبة إلى كتب الرواية فهو لحفظ الرواية و لا كلام لنا فيه و ان كان لكتب الفتاوى فهو لتعرف الإجماع و المشهور و ما عليه المعظم و الجمهور و لمعرفة كيفية الاستنباط و الاستدلال و الانتقال الى الفحص عن المعارض عند تعدد الأقوال و للتنبيه على الفروع و الانتقال الى الافراد الخفية و ضبط الأبواب و بيان ما عند الأصحاب.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 386

(الثاني و العشرون) الأخبار الواردة في أجور المعلمين و المتعلمين

و طلب التعلم فإنها شاملة للأحياء و الأموات (و جوابه) ان التعلم غير التقليد فإنه يكون في العلوم الغير الشرعية و في العقائد الإلهية و الأصول الفقهية.

(الثالث و العشرون) ان الفتوى رواية في المعنى

فكما يؤخذ بها بعد الموت فكذا يؤخذ بالفتوى (و جوابه) ما تقدم منا من الفرق بينهما لأن الفتوى اخبار عن الرأي و لا تخلو من شائبة الإنشاء بخلاف الرواية.

(الرابع و العشرون) [رواية: علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا عليها]

ما رواه محمد بن إدريس الحلي عنهم (ع) في الطريق الصحيحة و غيرها (علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا عليها) فان ظاهره ان التفريع كالأصل في الأخذ به و كما ان الأصول لا تموت بموت الامام (ع) فهكذا الفروع لأنها مثلها في استناد الحكم إليها (و جوابه) ان التفريع لما كان بحسب نظر المجتهد فجواز العمل به بعد موته يحتاج الى دليل لاحتمال خطأه فيه.

حجة القائلين بالتفصيل بين التمكن من الرجوع الى الحي و بين عدم التمكن

قد عرفت فيما سبق عند تعداد الأقوال في هذه المسألة انه يظهر من المقدس الأردبيلي في مجمع الفائدة، و عن العلامة و غيره التفصيل بين صورة التمكن من الرجوع الى الحي فيحرم تقليد الميت و بين صورة عدم التمكن من الرجوع الى الحي اما لفقده أو لعدم إمكان الوصول اليه فيجوز تقليد الميت و لعل صورة الحرج في إمكان الوصول إليه ملحقة بصورة عدم التمكن من الرجوع الى الحي عندهم، و استدلوا على ذلك بلزوم الحرج و العسر المنفيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 387

في الشرع و استصحاب حجية قول الميت و بأن حكم المسألة قد تحقق و حصل من الدليل و الدليل لم يتغير بموت المستدل، و لا يخفى ان الحرج كما تقدم إنما يرفع التكليف بالرجوع إلى الحي و لا يثبت جواز الرجوع الى الميت و الاستصحاب و ما بعده لو تمَّ لكان يقتضي الرجوع الى الميت حتى مع التمكن من الحي (فالحق أن يقال) ان أدلة اعتبار الحياة ان كانت تثبت كون الحياة شرطا عند التمكن فلا بد عند ارتفاعه يثبت حجية قول الميت و ان كانت تثبت كون الحياة شرطا مطلقا فعند ارتفاعه يرتفع المشروط و لا يصح الرجوع اليه.

و لا ريب ان الظاهر من أدلة الاشتراط كالإجماع و نحوه ان الحياة شرط مطلقا فعند ارتفاعه يرتفع المشروط و هو الحجية. و عليه لا بد للعامي أن يرجع الى ما يحكم به عقله إذ ليس هناك حي يرجع اليه كما هو الفرض و الذي يحكم به عقله هو الرجوع الى ما هو الأقرب فالأقرب للواقع لعدم وجوب الاحتياط عليه لكونه فيه العسر و الحرج و للإجماع و الضرورة الدينية على عدم وجوبه و لعدم معرفته طرق الاحتياط (و الحاصل) انه يجب على العامي في هذا الحال أعني حال عدم التمكن من الرجوع للحي هو الرجوع الى ما يحكم به عقله و الذي يحكم به عقله هو الأقرب للواقع فالأقرب بحسب نظره لأنه لم يكن عنده طريق للواقع قد عبده الشارع به و قد ذكروا القوم ان الأقرب له هو القول المشهور إن أمكن تحصيله للعامي ثمَّ المنقول عن المشهور بشهادة عدلين إن أمكن و إلا فعدل واحد ثمَّ الأخذ بأوثق الأموات و أعلمهم كالشيخ (ره) و العلامة و المحقق و الشهيدين و نظائرهم ثمَّ الأخذ بقول مطلق الأموات ثمَّ الأخذ بمطلق الظن. و لا يخفى ان هذا هو واقع الحال و إلا فقد يحصل له الظن بغير ذلك و هو المتبع لانسداد باب العلم و العلمي عليه، و في مقدمة جدي كاشف الغطاء انه إذا انسد الطريق على العامي لفقد المجتهد أو بعده أو منعت التقية و نحوها عن الوصول اليه أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 388

الكتابة له أو تعسر ذلك و كان الاحتياط لا عسر فيه و لا حرج وجب الأخذ به و إلا اعتمد مع العلم بالتكليف و

إجماله مع قابليته في الجملة على ترجيحه من الأدلة من كتاب و سنة أو إجماع ثمَّ شهرة منقولين أو محصلين و إن لم يكن أهل لذلك رجع الى الكتب المعتمدة المشتملة على فتاوى الأموات الأقرب الى الضبط و الاعتماد فالأقرب ككتب الشهيد و المحقق و نحوهما مباشرة أو بالواسطة، و قد علق على ذلك ولده الحسن بقوله و لا يبعد تقديم هذه المرتبة الأخيرة على سابقتها لأن هذا نوع من التقليد لمن هو أهل للاجتهاد في الجملة بخلاف الأولى لقلة الاعتماد على رأي غير المجتهد، ثمَّ قال جدي كاشف الغطاء (ره): فان فقد القابلية و الواسطة رجع الى بعض الثقات العارفين فيما يفهمونه من الأدلة الأعرف فالأعرف و الأعدل فالأعدل بالمشافهة و بالواسطة و ان تعذر ذلك رجع الى الظنون الحدسية و الاستقرائية و خبر الفاسق و غيرها إلا ما دخل في اسم القياس في وجه قوي، و قد علق على ذلك شبله الحسن بقوله و يقوى الأخذ به (أي بالقياس) لان تحريمه و الحال هذه محل منع و نظر بل الظاهر تقديم الحكم ببقاء التكليف و العمل بالقياس حين لا مندوحة عنه. ثمَّ قال جدي كاشف الغطاء (ره): و إذا تعذر الجميع وجبت الهجرة عن تلك الديار و ربما قيل بالوجوب في جميع أقسام الاضطرار، و قد علق على ذلك شبله الحسن بقوله و هو الحق ان كان المراد به السفر أو شبه السفر مع عدم الضرر لدلالة آية النفر و لقاعدة باب المقدمة القاضية بوجوب التعلم و للأخبار المطلقة الدالة على طلب العلم و ان كان المراد به مفارقة الأوطان و الاعراض عن البلدان و تحمل الضرر الناشي عن ترك المال الذي يضر

تركه بالحال فوجوبه من جهة فوات اختياري الاجتهاد و التقليد يحتاج الى دليل بل الدليل على خلافه لما دل على نفي العسر و الحرج. و ان الشريعة سمحة سهلة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 389

حجة القائلين بالتفصيل بين من علم انه لا يفتي إلا بمنطوق الأدلة و بين غيره

قد عرفت فيما سبق التفصيل بين من علم من حاله انه لا يفتي إلا بمنطوقات الأدلة و مدلولاتها الصريحة كابني بابويه و غيرهما من القدماء فيجوز تقليده حيا كان أو ميتا و بين من لا يعلم من حاله ذلك كمن يعمل باللوازم الغير البينة في الافراد الجزئية الغير الواضحة الاندراج فلا يقلد ميتا، و يظهر من صاحب الوافية القول به، و لعل الوجه في ذلك ان الأول يكون تقليده عبارة عن العمل بالرواية و هو جائز لأن أدلة حجية الخبر تدل على حجيتها سواء كان الراوي حيا أو ميتا و ان الثاني يقتصر فيه على القدر المتيقن و المتيقن من ذلك هو تقليد الحي (و لكن لا يخفى ما فيه) فإنه مضافا الى عدم القول به ممن تقدم على صاحب الوافية فيكون خرقا للإجماع المركب، إن العامي لا يجوز له العمل بالرواية إلا إذا كان مجتهدا كما قرر في محله فلا يجوز للعامي أن يعمل بالقسم الأول من باب جواز العمل بالرواية و إنما يجوز له أن يعمل به من باب التقليد و قد فرض الخصم ان القدر المتيقن منه هو الحي.

حجة المفصلين بين صورة موافقة الميت مع الحي و صورة المخالفة

ذهب بعضهم الى جواز تقليد الميت لو كانت فتواه مطابقة لفتوى الحي و عدم الجواز لو كانت مخالفة و استدل على الدعوى الثانية بالأدلة التي أقاموها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 390

المانعون من تقليد الميت، و استدل على الدعوى الاولى ان العمل لما كان موافقا لرأيهما كان صحيحا لا محالة لحجية أحدهما سواء قلنا ان التقليد التزام بقول الغير أو عمل به لأنه طريق و كاشف عن الواقع لا يترتب على عدم الالتزام به عدم صحة العمل. نعم يحرم من

باب التشريع الالتزام بحجية قول الميت شرعا إذا لم يقم دليل على حجيته شرعا.

حجة القول بالتفصيل بين التقليد الابتدائي و الاستمراري

قد عرفت فيما سبق ان بعضهم من فصل بين التقليد ابتداء للميت فمنع منه و بين التقليد الاستمراري للميت بمعنى بقائه على تقليده فصححه، و لعل أكثر المتأخرين على هذا التفصيل فاذا قلد مجتهدا ثمَّ مات المجتهد بقي على تقليده له. قال العلامة الشبري حفظه اللّه و نسب هذا القول إلى علامة زمانه و نادرة أو انه الشيخ جعفر النجفي كاشف الغطاء. ثمَّ ان القائلين بالبقاء على تقليد الميت اختلفوا في مقامات ثلاثة: (أحدها) في وجوب البقاء و جوازه، فبعضهم قال بوجوب البقاء، و آخرون قالوا بالجواز و ان العامي مخير بين أن يعدل إلى الحي أو يبقى على تقليد الميت.

(ثانيها) في صحة البقاء على سائر المسائل سواء عمل بها أو لم يعمل أو البقاء على خصوص المسائل التي عمل بها أو التي صارت محل ابتلائه و إن لم يعمل بها أو التي التزم بها في تقليده و إن لم تكن عمل بها و لا محل ابتلائه.

(ثالثها) في صحة البقاء بشرط كون الميت أعلم أو صحة البقاء مطلقا حتى لو كان الحي أعلم.

و قد استدلوا على حرمة التقليد للميت ابتداء
اشارة

بما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 391

سبق من الأدلة و على صحة التقليد للميت استمرارا بوجوه:

(أحدها) الاستصحاب

، و قد قرر بوجوه:

(منها) استصحاب الأحكام الشرعية الفرعية التكليفية أو الوضعية التي قلده فيها كوجوب جلسة الاستراحة و نجاسة الماء القليل بالملاقاة و حرمة العصير العنبي و وجوب القصر عند قطع أربعة فراسخ و نحو ذلك لليقين بثبوتها عليه و بعد موت المجتهد يشك في ذلك فيستصحبها.

(إن قلت) ان ثبوت هذه الاحكام لمعروضاتها في حق المقلد متقوم برأي المجتهد و ظنه إذ لولاه لما ثبتت في حقه و إذا كان الرأي له دخل في موضوعها فلا بد في الاستصحاب من إحراز بقائه بعد الموت (قلنا) ان الرأي ليس له دخل في عروض الاحكام لموضوعاتها و إنما هو كسائر الحجج التعبدية واسطة في الكشف و الإثبات فحرمة شرب التتن على المقلد بواسطة كشف فتوى المجتهد لا انه بعنوان أنه أفتى به المجتهد فيجوز استصحابها حتى مع القطع بزوال الرأي بالموت أو النسيان و نحوهما و لا ينتقض ذلك بتبدل الرأي زمان حياة المجتهد لأن شرط حجية الرأي هو كاشفيته عن الواقع و مع التبدل تزول كاشفيته نظير الشاهد إذا ظهر له الخطأ في مستنده، و ليس ذلك من جهة اشتراط حجية الرأي ببقاء الرأي، مع انا نقول باستصحاب بقاء الرأي بعد الموت كما نستصحب بقاء رأي المجتهد في زمن حياته و ترتب عليه آثار الحجية.

(إن قلت) هذا في آرائه القطعية إما آرائه الظنية فحيث بالموت ينكشف له الواقع فهي تزول قطعا (قلنا) لكن نحتمل بقائها بانقلاب ظنه الى القطع فيكون خروجا من حد الضعف إلى القوة و في مثله يجري الاستصحاب لأن الموضوع هو الكاشفية و

هي موجودة في المرتبتين.

و (منها) استصحاب حجية قول المجتهد في حقه أو جواز عمله بقوله.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 392

(و منها) استصحاب حرمة العدول عنه على القول بها.

(و منها) استصحاب وجوب البقاء على تقليده فإنه في زمن حياته يجب البقاء فهكذا بعد مماته.

(و منها) ان تقليده قد صح و انعقد حال حياة المجتهد فيستصحب صحته بعد موته، و هذا كما لو صح البيع و انعقد و شك في صحته من جهة عروض عارض و مزيلية مزيل كما لو فسخ المغبون العالم بالغبن حال العقد و شككنا في تأثير فسخه و انه رافع لصحة العقد أم لا فانا نستصحب صحته. و قد أورد على الاستصحاب (أولا) كما هو في الكفاية انه لا يقين بالحكم شرعا سابقا فان جواز التقليد إن كان بحكم العقل و قضية الفطرة فواضح فان ذلك لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف و العذر فيما أخطأ و إن كان بالنقل فكذلك لما هو التحقيق من أن قضية الحجية شرعا ليس إلا ذلك لا لحكم ظاهري و لا واقعي فلا مجال لاستصحاب ما قلده به لعدم القطع به سابقا إلا على ما تكلفناه في بعض تنبيهات الاستصحاب، انتهى ملخصا و موضحا. (و فيه ما لا يخفى) فإنه لا مانع من استصحاب الحجية التي هي حكم وضعي فكما كانت ثابتة لفتوى المجتهد زمان حياته فهي ثابتة عند موته (و بعبارة أخرى) ان هذه المنجزية عند الإصابة و العذرية عند المخالفة لما كانت مجعولة من الشارع و لو بجعل منشئها و لو بنحو تقرير العرف فنستصحبها بعد موت المجتهد للفتوى، مضافا إلا أن ما تكلفه في ذلك المقام أعني التنبيه

الثاني من تنبيهات الاستصحاب إذا لم يكن هناك ما يقتضي فساده كفى جريانه و لا وجه لرفع اليد عنه من حيث انه جرى بالتكلف، ثمَّ ان ذلك نظير ما لو شك في تبدل رأيه. و أورد على الاستصحاب (ثانيا) كما في الكفاية بما حاصله انه لا بد من إحراز بقاء الموضوع عرفا و لم يحرز في المقام لأن الرأي قيد لموضوع الاحكام التقليدية عرفا و لو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 393

احتمالا و الرأي منتف عرفا بعد الموت فلا يجوز استصحابها لعدم إحراز بقاء موضوعها (و فيه ما عرفت) من ان العرف لا يرى ذلك قطعا و إنما يرى ان حدوث الرأي مع عدم تبدله و إفساده من صاحبه هو الموضوع و ان حياته لا دخل لها في الحجية لأن الحجية من جهة الكاشفية عن الواقع و الحياة لا دخل لها في كاشفية الفتوى عن الواقع فالموت عندهم كالنوم و الغفلة و النسيان.

(ثاني الأدلة) [على صحة تقليد الميت استمرارا]

ما ذكره أستاذنا المرحوم الشيخ كاظم الشيرازي (قده) و حاصله انه يمكن أن يقال انه بعد أن أخذ الحكم من الحي و قام الدليل على حجية فتواه عليه كان ممن يعلم بالوظيفة فلا دليل على جواز رجوعه الى غيره كما يقال مثل ذلك في العدول من الحي إلى الحي فيثبت المطلوب بمقدمتين:

(إحداهما) حجية قول الحي بالنسبة اليه. و (الثانية) عدم جواز رجوع من كان له حجة الى غيره و كلتا المقدمتين ثابتتان. (إن قلت) انا نمنع من حجية قوله حتى بعد موته لأن حجية الفتوى متقومة بالظن و الرأي لأن الفتوى ترجع الى نقل ما يقتضيه نظره في المسألة بعد ضم جهاتها بعضها الى بعض، و من الواضح ان

ذلك قائم برأيه و نظره. بل ما يحكيه المفتي ليس إلا الحكم الظاهري و تقومه بالظن من الأمور الواضحة و لذا يقع وسطا في القضية التي يستنتج منها الوظيفة فيقال هذا ما أدى اليه ظني و كل ما أدي اليه ظني فهو حكم اللّه في حقي و حق مقلدي و اما زوال الرأي و الظن بالموت فلعله مما لا ينبغي الإشكال فيه لأنهما متقومان بالحياة فبعد الموت تزول الحجية بزوال موضوعها فلا تقاس الفتوى بالرواية أو بالشهادة أو بسائر الحكايات التي لا تتقوم بالظن و الرأي (قلنا) نمنع من كلتا المقدمتين، أما المقدمة القائلة بأن حجية الفتوى متقومة بالرأي و الظن فوجه منعها ان المفتي به هو ما يقتضيه القواعد المقررة و رأي المجتهد و ظنه ليس إلا طريقا لاستفادة ذلك فان المجتهد يخبر بأن مقتضى القوانين الشرعية لي و لك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 394

أيها العامي ذلك فان كان هنا خبر دال على المسألة فواضح، فإن حجية الأخبار غير مختصة بالمجتهد فهو يخبره عن مفاد الحجة له و ان كان هناك تعارض و ترجيح فكذلك و ان كان هناك رواية و كان لها معارض بدون ترجيح فالوظيفة بمقتضى اخبار التخيير هو التخيير و هذا أيضا غير مختص بالمجتهد و ان لم تكن هناك رواية و كان المقام مقام الرجوع الى الأصول فيخبره المجتهد ان وظيفته هنا الأصل و مفاد الأصل كذا، و ما عرفنا موضوعية لظن المجتهد في مقام رجوع المقلد اليه فهو كرجوع المريض الى الطبيب في معرفة الدواء (نعم) المجتهد يتكل و يستريح الى فهمه و المقلد يستريح للواقع الذي أخبره به كما ان الراوي يستريح إلى الرواية

بمقتضى ما يسمعه و المروي له يستريح الى ما روي له و ليس لشي ء من الرواية و السماع موضوعية في مقام الوظائف المجعولة فمدخلية الرأي و الظن في الفتوى مثل مدخلية الرؤية و السماع في الرواية و الشهادة من حيث ان المناط بالمرئي و المسموع. و أما المقدمة الثانية و هي ان زوال الرأي بالموت يوجب زوال الحجية عن الفتوى فمنعها من جهة انا نمنع مدخلية الرأي في الحجية بقاءا و إنما له مدخلية فيها حدوثا كما يؤيد ذلك بقاء الحجية و جواز العمل و لو بعد زوال الرأي في حال حياته بالغفلة بل و زواله من رأس ما لم ينته الى توقف أو رجوع عن الرأي إلى دليل و حينئذ فلا مانع من استصحاب حجيته و جواز الرجوع اليه بل يمكن المنع من زوال رأيه بعد الموت. غاية الأمر أن يصير مظنونه معلوما و حدسه حسا.

(ثالث الأدلة) على جواز البقاء على تقليد الميت

ما روي في جواب السؤال عن كتب الشلمغاني ممن كانت بيوتهم منها ملائا و كانوا يعملون بها قبل الردة ظاهرا. من قول الشيخ ابن روح (ره) أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني فضال خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا فإنه يدل على جواز الأخذ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 395

بما رأوا أيضا لو لا الردة. (و دعوى) احتمال ان المقصود بما رأوا نفس الرأي الذي ارتدوا به (فاسدة) ضرورة أن الردة حدثت بعد امتلاء بيوتهم من كتبهم فهي خالية عن آراء الضلال و لا أقل من وجود كتاب واحد منها أخذوا منه قبل الردة خالي عن ذلك بحيث يوجب عدم النهي عن العموم. و بالجملة ظاهر العبارة مع قرائن الحال و

شواهد الاعتبار ان الردة مانعة عن الأخذ بالرأي لاشتراط الايمان دون الأخذ بالرواية لكفاية حصول الوثوق في قبولها من أي شخص كانت. و لا يخدش ذلك ظهورها في جواز الأخذ ابتداء و استمرارا (ضرورة) أن قيام الدليل المخرج لصورة الابتداء لا يوجب سقوط الرواية عن الحجية في الباقي، هذا مضافا الى أن السائل ممن كان عاملا برأيهم لأنه هو موردها و الخطاب و الجواب إنما كانا مشافهة له (و لكن لا يخفى) ما فيه فإنه من المحتمل ان كتبهم كانت مشتملة على الروايات فقط إذ من البعيد جدا اعمال الرأي و النظر في تلك الأعصار من أصحاب الأئمة (ع) فلما ظهرت منهم الآراء الباطلة خشي الشيعة ان ذلك يوجب طرح رواياتهم و لو بواسطة احتمال دس الاخبار المكذوبة بواسطة سوء عقيدتهم فأزال الإمام (ع) الاحتمال المذكور و بين ان خبث آرائهم فعلا لا يضر بما رووه و لما كان قد يتخيل البسيط ان الأخذ بالروايات منهم يصحح الاعتماد عليهم في تلك الآراء الباطلة استدرك الامام (ع) و ابن روح (ره) ذلك و قال: ذروا آرائهم.

و قد تقدم الكلام في هذه الرواية ص 204 و 381.

(رابع الأدلة) على جواز البقاء على تقليد الميت السيرة

على البقاء على تقليد الميت فان الطبيب إذا قال للإنسان إذا كان هذا سمالا تستعمله يبقى على تقليده له و هي عمدة أدلة التقليد و لم يفرق فيها بين الحياة و الموت كيف و الارتكاز الفطري الذي هو مصدر السيرة الذي قد جعلوه هو الدليل على التقليد للعامي لم يكن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 396

فيه ملاحظة للموت و الحياة في كاشفية الفتوى و حجيتها بل السيرة المعلومة من الشيعة في عصر الأئمة (ع) عدم رجوعهم عما

أخذوه تقليدا بعد موت المفتي لهم. و لو كان ذلك لنقل إلينا بواسطة عموم البلوى و مثله يعطي العلم برضاء الامام (ع) و تقريره الشيعة على البقاء، و الإجماع على المنع من تقليد الميت القدر المتيقن منه هو الابتدائي، و الآيات و الأخبار لو دلت على الرجوع للمجتهدين الأحياء فهي مطلقة تشمل من ماتوا بعد الرجوع إليهم احياء فلا رادع عن السيرة. و قد أجيب عن ذلك بأن المعلوم لدينا ان نوع أصحاب الأئمة (ع) في عصرهم يأخذون الأحكام على سبيل الرواية عن المعصومين الأطهار (ع) من دون دخل للرأي فيه و هو ليس بتقليد و لم يعلم الى الآن حال من تعبد بفتوى غيره منهم في عصر الامام (ع) انه كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته، فكيف يدعى السيرة القطعية و يؤيد ذلك ما في تقريرات الشيخ الأنصاري (ره) من الفرق بين ذلك العصر و هذا العصر من أن ذلك العصر لم يكن الاجتهاد فيه مبني على هذه الظنون و الحدسيات بل يحصل من الرواية الواضحة الصدور البينة الوجه لمشافهة الواسطة للإمام (ع). (و لا يخفى ما فيه) فإنه من الواضح الجلي ان الشيعة في عصر الأئمة (ع) لم يكن كلهم يرجعون للأئمة في مسائلهم لبعد المسافة و شدة الخوف من الأعداء فكانوا يرجعون لرواتهم في مسائلهم و هم يفتون لهم بما يظهر لديهم من كلمات الأئمة (ع) و لم يكن ذلك بخفيف المؤنة، بل لعله يكون الاشتباه عليهم أزيد و لذا كانت تخفى عليهم أخبار التقية و يفتي و يعمل بمضمونها و نحن بواسطة ما عندنا من كتب الأخبار يكون الأمر علينا أوضح منهم، سلمنا لكن إذا ثبت جواز البقاء على

تقليد الميت في بعض المسائل يثبت في البعض الآخر بضميمة عدم القول بالفصل سلمنا لكن السيرة العامة و الركيزة الفطرية على ذلك التي هي مصدر العمل بالتقليد و لم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 397

يردعوا الأئمة (ع) عنها.

(و الحاصل) انه لا ريب في وجود التقليد في زمن النبي (ص) و الأئمة (ع) و ليس أمرا مبتدعا في زماننا قطعا و لا شك في اختلاف المذاهب في ذلك العصر المذكور و كثرة المجتهدين في عصر الأئمة (ع) و كان العوام يأخذون من كل مجتهد مسألة فلو كان العدول إلى الحي أمرا لازما لوجب على الأئمة ذكره و اشتهر كالشمس في رابعة النهار لكون المسألة مما تعم بها البلوى فالتقليد كنظائره من الخبر الواحد و الإقرار و اليد و البينة.

(خامس الأدلة لهم) ان الإجماع على المنع من تقليد الميت القدر المتيقن منه هو الابتدائي

فيخرج عن أدلة جواز التقليد و اما الاستمراري فيبقى تحتها (و فيه) ان معاقد الإجماع عامة تشمل الابتدائي و الاستمراري قبل قول المفصل المذكور. هذا و قد عرفت فيما تقدم من أن الإجماع هنا ليس بحجة لوجود المخالف و لاحتمال استناد المجمعين لقاعدة الاحتياط و عدم جريان الاستصحاب عندهم فلا فرق بين الابتدائي و الاستمراري من هذه الجهة.

(سادس الأدلة لهم) التمسك بإطلاق أدلة التقليد

بدعوى ان أدلة التقليد مطلقة تدل على حجية فتوى المجتهد لكل مكلف عامي في زمان حياته سواء مات ذلك المجتهد أم لا، فهي تدل على وجوب الرجوع الى المجتهد و العمل بفتواه سواء مات ذلك المجتهد بعد الأخذ بفتواه أم لم يمت (و بعبارة أخرى) ان أدلة التقليد إذا كانت منصرفة لتقليد الأحياء بمعنى ان ظاهرها هو الأخذ من الحي، فهي لا تشمل التقليد الميت الابتدائي و لكنها تشمل الاستمراري لأنه قد أخذ فيه الفتوى من الحي. و أجاب عنه استاذنا المشكيني (ره) ان الأخذ من الحي صادق بالنسبة إلى الأعمال الماضية و ليس كذلك بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة بل الصادق فيها هو الأخذ بقول الميت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 398

(و لا يخفى ما فيه) فان المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في حينه و هذا يصدق عليه إنه قد أخذ بقول المجتهد حين حياته، و قد أورد المحقق الأصفهاني (ره) على التمسك بالإطلاق على جواز البقاء بأن من شرط التمسك بالإطلاق هو ثبوت المطلق في سائر مراتب الإطلاق، و المفروض ان رأي الفقيه هو الموضوع الذي يراد ثبوت جواز العمل به في حالتي الحياة و الممات مع انه ينعدم في حال الممات بانعدام موضوعه عند العرف (و لا يخفى ما فيه) فان الرأي

له وجود اعتباري بمجرد تكونه في نفس صاحبه و يكون حالتي الحياة لصاحبه و الممات من الطواري عليه.

(سابع الأدلة لهم) انه لو حكم بوجوب العدول في الاستمراري لزم الحرج

و هو منفي في الشرع (و جوابه) انه لا عسر في ذلك فهو نظير أخذه المسائل الشرعية أول تقليده و نظير ما إذا تبدلت آرائه و لا يلزم من العدول اعادة أعماله السابقة حتى يكون عليه عسر و حرج لما تقدم منا في تبدل رأي المجتهد.

(ثامن الأدلة لهم) ان الأمر في المقام يدور بين الأخذ بالميت

لاحتمال تعينه لفتوى بعضهم بوجوب الأخذ به و بين التخيير بينه و بين الأخذ بالحي.

(و جوابه) انه بعضهم أفتى أيضا بوجوب الأخذ بالحي فلو أريد الرجوع الى الاحتياط فلا بد من الأخذ بأحوط القولين من الميت و الحي و إلا فالتخيير بينهما لاحتمال وجوب كل واحد منهما حذرا من الترجيح بلا مرجح و بطلان تساقطها و بقاء المقلد بلا طريق للواقع أو رجوعه لغير الفتوى.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 399

أدلة المانعين من التقليد الاستمراري للميت
اشارة

مضافا الى أدلة القول بالمنع من تقليد الميت مطلقا استدل القوم على المنع من البقاء على تقليد الميت بأمور:

(أحدها) ما في تقريرات الشيخ الأنصاري (ره) من الإجماع على المنع من تقليد الميت مطلقا

كما هو الظاهر من كلماتهم و معاقد إجماعاتهم للمتتبع لكلام القوم و قد حدث هذا التفصيل من بعض المتأخرين كما نص عليه السيد الصدر في المحكي من كلامه و حينئذ فيكون الإجماع منعقد عند المتقدمين على خلاف هذا التفصيل، انتهى ملخصا. و لا وجه لما أجاب به بعض المتأخرين من عدم انعقاده لوجود المخالف أو ان القدر المتيقن هو الابتدائي لما عرفت من أن المخالف هو من المتأخرين لا من المتقدمين و إطلاق معاقد الإجماعات تشمل الابتدائي و الاستمراري (و دعوى) صاحب الفصول ان التقليد الاستمراري ليس بتقليد حقيقة و إنما هو استمرار له فهي فاسدة فإن استمرار الشي ء عبارة عن وجوده في الآن الثاني و إلا لم يستمر وجوده. (و الاولى) أن يجاب عنه بأن هذا الإجماع غير كاشف عن رأي المعصوم لاحتمال استناد المجمعين فيه للاحتياط في نظرهم و عدم جريان الاستصحاب عندهم أو لأدلة غير صحيحة في نظرنا مضافا إلى معارضة إطلاق هذا الإجماع بإطلاق الإجماع على عدم جواز العدول عمن قلده فإنه مطلق يشمل محل البحث و إطلاق إجماعهم على جواز التقليد للمجتهد فإنه يشمل الاستمرار على تقليده حتى بعد موته و الابتدائي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 400

(ثانيها) ان الأخذ بقول الحي أحوط و أولى

كما هو المحكي عن الفاضل الأسترابادي (و فيه ما لا يخفى) فإنه كيف يكون أحوط مع الإجماع المدعى على عدم جواز العدول الذي معقده يشمل ما نحن فيه فنحن كما نحتمل الحرمة في البقاء نحتمل الحرمة في العدول فمقتضى القاعدة التخيير بينهما كما تقدم في ثامن الأدلة للقائلين بصحة البقاء على تقليد الميت.

(ثالثها) ان الدليل على لزوم التقليد للعامي هو الفطرة

فإنه لا دليل له غيرها و القدر المتيقن له هو الرجوع للحي و ما عداه مشكوك الحجية و مع الشك في الحجية لا حجية كما تقرر في محله (و جوابه) ان الفطرة عند العامي لا يفرق فيها بين الحي و الميت إذ لا يرى أن الحياة و الموت له دخل في الكاشفية عن الواقع.

(رابعها) ان العامي إنما يبقى على تقليد الميت بالرجوع إلى الحي

و لا يجوز للمجتهد الحي أن يفتي بالبقاء على تقليد الميت في المسائل المخالفة له لأنها في نظره أحكام بخلاف ما أنزل اللّه تعالى لفتواه بخلافها (و جوابه) انها ليست بخلاف ما أنزل اللّه في حق العامي و هو إنما يفتي للعامي لا لعمل نفسه ألا ترى ان المجتهد يفتي للعامي بأن حكم هذا الماء طاهر له لعدم علمه السابق بنجاسته مع انه بالنسبة إليه يكون نجسا لعلمه السابق بنجاسته.

(خامسها) ان المجتهد بموته ينكشف له خطأه فيما أخطأ به من الفتاوى فيعدل عنه.

و حيث ان موارد العدول غير معلومة فلم يجز الفتوى بالبقاء عليها (و جوابه) انه لا ينافي الجعل للحجية العلم الإجمالي بالكذب كما في الامارات و البينات سلمنا لكن لا علم إجمالي لنا بعلم الميت بأنه قد أخطأ في فتاواه إذ لعلها كانت مطابقة للواقع. و عليه فلا نعلم بعد و له عن بعضها إجمالا، و مع الشك نستصحب بقاء رأيه كما لو شككنا في تبدل رأيه في زمان حياته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 401

(سادسها) [ظهور رواية: هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر.]

الصحيح الذي رواه الصدوق (ره) في علل الشرائع عن ابن محبوب عن يعقوب السراج قال لأبي عبد اللّه (ع) هل تبقى الأرض بلا عالم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم فقال له إذا لا يعبد اللّه يا أبا يوسف. وجه الدلالة هو ان الخبر ظاهر في اعتبار وجود مجتهد يكون هو المرجع في الأحكام الشرعية يفزع اليه. و في البقاء على تقليد الميت لا يكون فزع للحي.

(إن قلت): إن هذا الخبر قد رواه في البصائر بهذا النحو و هو قال:

قلت لأبي عبد اللّه لا تخلو الأرض من عالم منكم حي ظاهر يفزع اليه الناس في حلالهم و حرامهم فقال (ع): لا إن هذا ليتبين في كتاب اللّه تعالى فقال يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا عدوكم ممن يخالفكم وَ رٰابِطُوا إمامكم وَ اتَّقُوا اللّٰهَ فيما يأمركم و فرض عليكم، و هذا يدل على اعتبار وجود الإمام في كل عصر لا لزوم الرجوع لمجتهد حي في كل عصر. (قلنا): لعلهما روايتان من راوي واحد فالأولى تدل على لزوم وجود المجتهد الحي. و الثانية على لزوم وجود الامام (ع) في كل عصر و عدم خلو

زمان منه (ع) و مع فرض المنافاة فالمقدم هي النسخة الأولى لأن الأصل عدم الزيادة مع انه لا يلزم ظهور الامام منهم (ع) فإن امام العصر (ع) غائب عنا. (و جوابه) ان هذه الرواية إنما تدل على لزوم وجود المجتهد الحي و نحن نقول بذلك فان البقاء على تقليد الميت لا بد أن يكون العامي يرجع للحي فيه. مضافا الى أن ظاهر الخبر هو الرجوع إليه في الشؤون العامة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و اقامة الحدود و حفظ الأموال للقاصرين و غير ذلك مما يتوقف على المجتهد الحي و هذا لا يستطيع أحد إنكاره فإن هذه الأمور لا يستطيع الميت القيام بها و قد تقدم انه لا بد من وجود مجتهد حي يفزع فيها اليه و لعل رواية البصائر ناظرة لذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 402

(سابعها) ان جواز البقاء على تقليد الميت يوجب انحصار المرجع في التقليد بواحد

و هو مناف لضرورة المذهب كما هو واضح و (لا يخفى ما فيه) انه لا يلزم منه الانحصار إلا إذا قلنا بوجوب تقليد الميت ابتداء و كان الميت أعلم ممن يوجد بعده و قلنا بوجوب تقليد الأعلم حتى مع الموافقة للمفضول في الفتوى مضافا الى أنا لا نسلم منافاته لضرورة المذهب.

اختلاف القائلين بصحة البقاء في ثلاثة مقامات

ثمَّ ان القائلين بصحة البقاء على تقليد الميت اختلفوا في مقامات ثلاثة:

(أحدها) في وجوب البقاء و جوازه.

(و ثانيها) في صحة البقاء في سائر المسائل أو خصوص ما عمل بها أو ما كانت محل ابتلائه و إن لم يعمل بها.

(و ثالثها) في صحة البقاء مع كون الحي أفضل بناء على وجوب تقليد الأفضل و في هذا المقام الثالث توجد سبعة مذاهب فبعضهم جوّز الأمرين بأن يكون المقلد مختارا بين البقاء على تقليد الميت و بين الرجوع الى الحي سواء كان أحدهما اعلم أم لا. جمعا بين ما دل على لزوم البقاء و بين ما دل على لزوم الرجوع للحي.

و بعضهم أوجب البقاء مطلقا مدعيا على ذلك الإجماع. و بعضهم أوجب البقاء إلا إذا وجد من هو أعلم من الميت فيرجع الى الحي الأعلم. و بعضهم أوجب العدول إلا إذا كان الميت أعلم فيتخير. و بعضهم في هذه الصورة أوجب البقاء إذا كان الميت أعلم. و بعضهم أوجب الرجوع الى الأعلم منهما و مع التساوي يتخير. و بعضهم فصل بما حاصله انه في صورة ما إذا كان جاهلا بمخالفة الميت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 403

للحي الذي هو جائز تقليده في الفتوى فجوز البقاء و في صورة العلم بالمخالفة في الفتوى فان كان الميت أعلم أوجب البقاء على تقليده و ان كان الحي

أعلم أوجب العدول اليه و أما مع العلم بتساويهما أو احتمال أعلمية أحدهما فأوجب الاحتياط.

حجة القائلين بوجوب البقاء على تقليد الميت مطلقا

ذهب مشهور المتأخرين إلى وجوب البقاء مطلقا و إن اختلفوا فيما يجب عليه البقاء هل هو الفتاوى مطلقا أو خصوص الفتاوى التي عمل بها العامي أو خصوص ما إذا كانت محل ابتلائه سواء عمل بها أم لم يعمل و الدليل على وجوب البقاء على التقليد مطلقا ان التقليد إنما يصح إذا لم تكن حجة لديه و هو بتقليده للغير و التزامه بأقواله و فتاويه كانت عنده حجة على الأحكام الشرعية سواء عمل بها أم لم يعمل ابتلى بها أم لم يبتل. نعم مع عدم تقليده له لم تكن فتاواه أحكاما له لعدم صدق الرجوع اليه و أدلة التقليد ظاهرة في ثبوت الاحكام في خصوص من رجع الى المجتهد فان قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* إنما تقتضي حجية الجواب بالنسبة للسائل و الراجع إليهم لا مطلق المقلد إلا إذا قام دليل آخر على وجوب متابعة الغير للسائل في الجواب كما في السؤال من الأئمة (ع) و هكذا مثل قوله (ع) نعم.

عند ما قال له عبد العزيز بن المهدي ربما احتاج و لست ألقاك في كل وقت أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني الى غير ذلك من أدلة التقليد الدالة على الحجية لخصوص الآخذ و الملتزم لا مطلق المقلد. و يمكن أن يقال عليه ان العامي إذا لم يرجع للمجتهد الذي قلده فاستصحابه للحجية أو غير ذلك يقتضي وجوب بقائه و ان الحي إذا رجع إليه العامي لمعرفة احكامه انها هي التي قلد بها الميت أم غيرها يرى أن للعامي حجتين: إحداهما فتوى الميت. و الثانية الأدلة التي

قامت عنده

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 404

على الحكم الشرعي فإنها في نظره حجة عليه و على العامي و قد عرفت أن مقتضى تعارض الحجتين هو التخيير.

الحجة الثانية لهم هو الاستصحاب فإنه يقتضي وجوب البقاء. (و جوابه) انه بعد رجوعه للحي كان رأي الحي حجة عليه فيصح أن يعمل به و لذا يعمل به في البقاء و عدمه و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى في حجة القائلين بالتخيير ما ينفعك هنا

حجة القائلين بالتخيير بين البقاء و العدول

احتج القائلون بالتخيير بين البقاء و العدول بوجوه:

(أحدها) إنا نشك في انه يجب البقاء أو يحرم البقاء و عند دوران الأمر بين الوجوب و التحريم مع عدم وجود أصل أو دليل يعين أحدهما يكون الحكم هو التخيير. (و جوابه) ان الدوران إنما يوجب التخيير في صورة ما إذا كانا في مورد لا يمكن الاحتياط أما في مورد اختلاف الفتاوى فغالبا يمكن الاحتياط فلا يصح التخيير كأن أحدهما يفتي بالجمعة فيبقى على تقليده فيها و الآخر بالظهر فيقلده فيها ثمَّ هو يأتي بهما احتياطا معا إلا اللهم أن يريد انه من قبيل التخيير بين الحجتين فان الحق عندنا هو التخيير بينهما عند التعارض.

(ثانيها) ان مقتضى حجية فتوى الميت هو استمرار حجيتها و مقتضى نظر الحي ان حكم العامي هو ما تقتضيه الأدلة بحسب نظره فيكون التعارض بين الفتويين نظير التعارض بين الروايتين فيتخير بينهما و نظير التعارض بين فتوى المجتهدين الحيين المتساويين.

(إن قلت): انه قد ثبت حجية فتوى الميت في حقه بالاستصحاب فتكون هي المتبعة دون غيرها. (قلنا): برجوعه للحي أيضا صارت فتوى الحي حجة عليه فيتعارض الحجتان للعامي عند الحي و لا يصح إرجاعه للاحتياط

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 2، ص: 405

لأنه قام الإجماع على عدم وجوبه عليه فيتعين التخيير. مضافا الى ما تقدم منا من ان مقتضى تعارض الأمارتين هو التخيير.

(إن قلت): ان حجية فتوى الميت عند الحي بالنسبة للعامي بالاستصحاب لبقائها و حجية فتوى الحي بالنسبة للعامي بالأدلة و الأمارات التي قامت عنده على الحكم الشرعي حيث دلت على ان ذلك هو حكمه و حكم مقلده و الاستصحاب لا يعارض الامارة. (قلنا): أولا ان الأدلة الدالة على حجية فتوى الميت بالنسبة لمقلده لا تنحصر بالاستصحاب لبقاء الفتوى كما تقدم. و ثانيا ان الاستصحاب هنا في عرض أدلة الأحكام لأن موضوعه غير موضوعها فان موضوعه رأي الغير بالنسبة للعامي و موضوعها رأي الحي بالنسبة إلى نفس الحي الذي هو صاحب الرأي و إنما صار حجة بالنسبة إلى العامي بواسطة أدلة التقليد فان المجتهد إنما يقول هذا حكمي بواسطة مؤدى اجتهاده. و يقول و هو حكم مقلدي بواسطة أدلة التقليد. و أدلة التقليد بالنسبة لفتوى الحي الذي يرجع اليه و فتوى الميت التي عمل بها على حد سواء كما تدل على حجيتها تدل على حجية تلك فيكون المجتهد الحي يرى الاستصحاب في بقاء فتوى الميت و يرى ان الواقع هو ما أدى اليه نظره فلذا يصح أن يفتي له بالعمل بالحجة عنده أو بالحجة عند العامي.

(ثالثها) ان العمومات الدالة على جواز التقليد تعم تقليد الميت و الحي خرج منه تقليد الميت ابتداء بالإجماع فيبقى الباقي غاية الأمر ان العامي لا يعلم ذلك إلا بأمر الحي فيلزمه أن يخيره بين تقليده و بين تقليد الميت فيما عمل به في حياته. و أجيب عن ذلك بأن أدلة التقليد لا عموم لها و لا إطلاق و

هي بمنزلة الدليل اللبي المثبت لأصل مشروعية التقليد. (و لا يخفى ما فيه) فقد تقدم عمومها و إطلاقها في مسألة التقليد للميت و لذا التجأ أكثر المحققين الى التمسك بالإجماع على عدم صحة التقليد الابتدائي.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 406

(رابعها) ان السيرة على ذلك. و فيه انا لا نسلم اتصالها بزمان المعصومين (ع) و إمضائهم لها.

حجة القائلين بالتفصيل بين كون الميت أعلم فيبقى و إلا فلا

احتج القائلون بالبقاء في صورة ما إذا كان الميت أعلم. و أما إذا كان الحي اعلم وجب الرجوع اليه و ان تساويا فالخيار إن شاء بقي و إن شاء رجع الى الحي و الدليل على ذلك ان تقليد المجتهد من أول الأمر مقيد بصورة عدم وجود الأفضل فإذا وجد الأفضل لم يصح تقليده و لذا يعدل عنه لو وجد الأفضل في زمان حياته، فبالطريق الاولى بعد مماته و سيجي ء إنشاء اللّه تعالى تحقيق هذا المبحث في اشتراط الأعلمية لأنه مبني على ان أدلة اشتراطها تشمل حتى صورة ما إذا كان تقليده للمفضول صحيحا أم لا.

حجة القائلين بالتفصيل في البقاء بين كون المسائل عمل بها أم لا

احتج القائلون بالتفصيل في البقاء بين ما إذا كانت المسائل التي قلده فيها قد عمل بها العامي فيبقى، و إن لم يعمل بها فلا يبقى بأن التقليد هو العمل فاذا لم يعمل لم يكن قد قلد فيكون رجوعه للميت فيها من التقليد الابتدائي و هو باطل بالإجماع. (و جوابه) انك قد عرفت عدم اعتبار العمل في التقليد، و يكفي فيه مجرد الالتزام و بهذا ظهر لك فساد ما ذكره بعض علماء العصر تبعا لبعض من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 407

تقدم عليه من عدم دوران هذا الحكم و هو جواز البقاء على التقليد على عنوان التقليد لعدم أخذ هذا العنوان في لسان الدليل نفيا و إثباتا، و وجه الظهور انه:

من جملة الأدلة هو الإجماع على بطلان التقليد للميت ابتداء فلو كان التقليد هو الالتزام لم يكن ذلك من التقليد الابتدائي الذي قام الإجماع على بطلانه.

و الغريب انه نفسه اعترف بأن السيرة قد قامت على جواز التقليد للميت ابتداء إلا أنا خرجنا عنها في باب التقليد الابتدائي في

الأحكام الشرعية بالإجماع و الآيات. فقد أخذ الإجماع على عدم جواز التقليد في المقام على ان رواية الاحتجاج المتقدمة ص 381 قد أخذ فيها التقليد.

حجة القائلين بالتفصيل في البقاء بين المسائل التي ابتلى بها و بين غيرها

احتج القائلون بالتفصيل في البقاء بين ما إذا كانت المسائل التي قلده العامي بها قد ابتلى بها سواء عمل بها العامي أم لم يعمل لفسقه أو غفلته أو احتياطه و بين غيرها بأنه بالابتلاء بها قد تنجز التكليف عليه فيستصحب دون المسائل التي لم يبتل بها. (و جوابه) انه بالتقليد له صارت أقواله حجة عليه سواء ابتلى بها أم لا.

حجة القائلين بالتفصيل بين صورة العلم بالمخالفة بين فتوى الحي و فتوى الميت و بين صورة عدمه

احتج من جوز البقاء على تقليد الميت في صورة عدم العلم بالمخالفة في الفتوى بإطلاق الآيات و الروايات الدالة على جواز التقليد و بالسيرة العقلائية على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 408

ذلك و عدم ردع الشارع عنها، و أما في صورة العلم بالمخالفة فالصور ثلاثة:

(إحداها) أن يعلم بأعلمية الميت من الحي و فيها يجب البقاء على تقليد الميت لقيام السيرة العقلائية على العمل بقول الأعلم في مورد المعارضة مع غير الأعلم مضافا الى حكم العقل بالأخذ بقول الأعلم لدوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و محل التعيين هو تقليد الأعلم و لا وجه للتمسك بإطلاق الأدلة لعدم إمكان شمولها للمتعارضين للتكاذب و لا لأحدهما لعدم المرجح فلا بد لنا من الرجوع لما استقرت عليه السيرة العقلائية المذكورة و مع عدم ثبوت السيرة المذكورة نرجع لحكم العقل المذكور.

(ثانيها) ان يعلم بأعلمية الحي من الميت و فيها يجب العدول عن الميت إلى الحي لما تقدم في الصورة الأولى.

(ثالثها) أن يعلم بتساويهما أو يحتمل تساويهما أو يحتمل اعلمية كل منهما و فيها يجب عليه الاحتياط لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ان أمكن الاحتياط و مع عدم إمكانه فالتخيير و لو شك في ثبوت بناء العقلاء فمقتضى الأصل هو الاحتياط للعلم الإجمالي بتنجز الأحكام

الواقعية، و لكون الشبهة قبل الفحص فيلزم العمل بأحوط القولين أو الجمع بينهما إذا كان الاحتياط في الجمع و عند عدم إمكان الاحتياط يتخير، و لا يخفى ما فيه فإنه قد تقدم و سيجي ء إن شاء اللّه في مبحث الأعلمية عدم سقوط المتعارضين عن الحجية و ان أدلة الحجية تشملهما و مع عدم شمول أدلة الحجية يخرج المقام عن دوران الأمر بين التعيين و التخيير لعدم حجيتهما فالقاعدة هي الرجوع الى الأصول العملية أو الى خصوص الاحتياط في الحكم الفرعي. و السيرة العقلائية التي ادعاها الخصم لم يعلم اتصالها بزمن المعصومين (ع) حتى يستكشف منها حجية فتوى الأعلم عند المعارضة و لعلهم كانوا يحتاطون أو يتخيرون أو يرجعون للأصول العملية كما أن دعوى استقرار

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 409

بناء العقلاء على الاحتياط مع التساوي أو احتماله خلاف المشاهد فأنا إلى الآن لم نجد من العوام من احتاط في عمله مع علمهم باختلاف المجتهدين في الفتوى أو الرأي و إنما يتخيرون في الأخذ بأحدهما: ثمَّ انه مع احتمال التساوي قد يكون أحدهما بعينه محتمل الأعلمية فحكم العقل يقتضي الأخذ بفتواه الدوران المذكور و للسيرة المذكورة لو كانت ثابتة في متيقن الأعلمية ففي محتملها لا يستبعد ثبوتها ثمَّ ان مقتضى القاعدة مع عدم الدليل هو العمل بالأصول العملية أو خصوص الاحتياط لا الرجوع الى أحوط القولين أو الجمع بينهما إذ هما يكونان بمنزلة العدم لعدم شمول أدلة الحجية لهما.

(ثمَّ ان الأغرب من ذلك كله) ان المفصل المذكور بعد ذلك ذكر انه في صورة العلم بمخالفة فتوى الميت لفتوى الحي لا يمكن الالتزام بحجية فتوى الميت لعدم شمول أدلة الحجية للمتعارضين و لم يثبت

دليل على التخيير بينهما و عليه فلا بد من الاحتياط في الحكم الفرعي لو لا انا علمنا بعدم وجوب الاحتياط الكلي و حينئذ يدور الأمر بين تقليد الحي تعيينا و التخيير بينه و بين تقليد الميت و في مثله يستقل العقل بلزوم تقليد الحي لدوران الأمر بين التعيين و التخيير انتهى.

(و لا يخفى ما فيه) فان عدم وجوب الاحتياط الكلي لا يوجب عدم الاحتياط في هذا المورد كما في الشبهة قبل الفحص مضافا الى أن ذلك يقتضي الرجوع الى الأصول العملية و لا تصل النوبة إلى الدوران المذكور لعدم ثبوت الحجية لهما و لا لأحدهما مضافا الى أنه ينافي ما سبق منه من استقرار بناء العقلاء على الاحتياط و ان مقتضى الأصل العملي هو الاحتياط دون البراءة لتنجز الأحكام بالعلم الإجمالي بها و لكون الشبهة قبل الفحص و ان اللازم هو العمل بأحوط القولين أو الجمع بينهما. (و دعوى) ان ما سبق إنما هو في التقليد الاستمراري للميت و هذا في التقليد الابتدائي. (فاسدة) لعدم وجود ذلك في كلامه و لأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 410

الدليل في كلامه يشمل كلا المسألتين من دون فرق بينهما.

تنبيهات تتعلق بمسألة البقاء على تقليد الميت
الأول جواز العود الى الميت بعد العدول عنه

(التنبيه الأول) إذا عدل عن الميت إلى الحي فهل يجوز له العود من هذا الحي إلى الميت أم لا. ذهب جماعة تبعا لصاحب العروة إلى المنع من العود للميت و استدل قسم منهم بأنه يكون تقليدا ابتدائيا للميت و قد قام الإجماع على المنع منه و مقتضى هذا أنه لو قلنا بأن التقليد هو العمل لا الالتزام فيكون في صورة الالتزام بقول الحي دون العمل به يجوز العود الى الميت إذ لم ينقطع تقليده بتقليد آخر

إلا أن يقال ان مجرد الالتزام بقول الغير و إن لم يكن تقليدا يكون موجبا لانقطاع استمرار تقليد الميت. (و التحقيق) أن يقال ان الكلام تارة يقع بالنسبة إلى العامي و أخرى بالنسبة الى ما يحكم به المجتهد عند رجوع العامي له.

(أما الكلام في الأول): فهو أن يقال إن العامي إن عرض له التحير في المسألة فإن اجتهد في المسألة و أدى رأيه إلى شي ء فهو المتبع و إلا فالواجب عليه أن يرجع للمجتهد الذي يكون قوله حجة عليه بحسب نظره.

(و أما الكلام في الثاني): فنقول إن عدوله عن الميت إلى الحي إن كان صحيحا فلا يجوز العود الى الميت لقيام الحجة عنده و لحرمة العدول من مجتهد الى آخر و إن كان عدوله عن الميت عدولا غير صحيح لكون الميت أعلم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 411

و قلنا بوجوب تقليد الأعلم أو لذهاب المجتهد الى وجوب البقاء وجب العود الى الميت لكون تقليده للحي فاسدا.

الثاني عدم جواز عمل العامي بفتوى الميت أو فتوى الحي بجواز البقاء و هل يبقى على الأول أو الثاني إذا ماتا كليهما
اشارة

(التنبيه الثاني) انه لا إشكال في ان القائل بصحة البقاء على تقليد الميت يجوّز البقاء على تقليده في غير فتواه بصحة البقاء و عدمها، و أما فتواه بذلك فهل يجوز للعامي البقاء عليها و يستند إليها من دون الرجوع الى الحي أم لا ثمَّ على تقدير عدم جواز الرجوع للميت في هذه الفتوى فهل له أن يقلد الحي فيها بأن يرجع للحي في الأخذ بفتوى الميت بجواز البقاء أو عدمه فيقع الكلام في مقامات ثلاثة:

(أحدها) في تقليد العامي للميت في هذه الفتوى

فنقول في توضيح الحال و تنقيحه انه إذا قلد مجتهدا كان يفتي بجواز البقاء على تقليد الميت أو عدمه فمات ذلك المجتهد فهل يجوز للعامي البقاء على تقليده فيها عملا بهذه الفتوى منه أو يجب عليه الرجوع للمجتهد الحي فيعمل بما يفتي له من جواز البقاء أو عدمه ذهب الأصحاب إلى وجوب الرجوع الى الحي و عدم جواز العمل بفتوى الميت بجواز البقاء على تقليد الميت و عدمه و استدل بعضهم على ذلك بأنه يكون تقليدا ابتدائيا للميت و ذلك لأن التقليد عبارة عن العمل و العامي لم يعمل بهذه الفتوى في زمان حياة المجتهد الميت الذي كان قد قلده بل لم تكن محل ابتلائه في ذلك الزمان أعني زمان حياة مجتهده حتى يتحقق في موردها حكم فرعي أو تصير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 412

حجة فعلية عليه حتى يستصحبها. و لكن هذا الوجه لا يرضى به من كان بنائه على كون التقليد مجرد الالتزام و لو لم يعمل بل و لو لم يبتلي بالمسألة العامي كصاحب عروة الوثقى و غيره. و الاولى أن يعلل ذلك بأن يقال ان العامي أما أن يكون متيقنا بجواز البقاء على

تقليد الميت فلا يجوز له تقليد غيره فيها سواء كان حيا أو ميتا لعلمه بالمسألة و أما أن يكون شاكا فيها فحينئذ لا يجوز له تقليد الميت فيها إذ صحة تقليده فيها مبني على صحة تقليد الميت عنده إذ لو لم يصح عنده كيف يجوز له تقليده فيها و صحة تقليد الميت عنده مبني على صحة تقليده فيها حيث الفرض ان العامي لم يكن له طريق للصحة في تقليده في هذه المسألة إلا نفس هذه الفتوى من الميت فبقاؤه على تقليد الميت استنادا لفتواه بذلك يكون على وجه دائر نظير تقليده للغير في صحة أصل التقليد أو عدمه و حينئذ فلا بد أن يجتهد فان تمكن من الرجوع الى أدلة التقليد و استفاد منها جواز البقاء أو عدمه فهو لأنه يكون مستنده أدلة التقليد لا فتوى مجتهده الذي قد مات (بجواز البقاء على تقليد الميت) و أما ان كان لم يتمكن من ذلك فلا بد له من معرفة حكمه من جواز البقاء أو وجوبه أو حرمته من الرجوع الى القدر المتيقن عنده كالحي الأعلم فان أفتى له بالبقاء بقي و إن أفتى له بعدمه رجع للحي.

عدم جواز رجوع العامي للحي في تقليد الميت في خصوص مسألة جواز البقاء و عدمه

(ثاني المقامات) [عدم جواز رجوع العامي للحي في تقليد الميت في خصوص مسألة جواز البقاء و عدمه]

و هو انه بعد ما عرفت عدم جواز رجوع العامي للميت في الفتوى بجواز البقاء أو عدمه فهل له أن يرجع للحي في خصوص هذه المسألة بأن يقلد الحي في البقاء على فتوى مجتهده الذي قد مات في هذه المسألة أعني

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 413

مسألة البقاء و عدمه فإذا أفتى له مجتهده الذي قد مات بجواز البقاء على تقليد الميت

فيقلد الحي في البقاء على هذه الفتوى و هي جواز البقاء على تقليد المجتهد الميت و حينئذ فيكون عمله بفتاوى مجتهده الميت مستندا لفتوى نفس المجتهد الميت بجواز البقاء لا لفتوى الحي بجواز البقاء لأنه قد رجع للحي في خصوص هذه الفتوى فصارت حجة عليه و هي تقتضي العمل بفتاوى الميت و هكذا إذا أفتى له مجتهده الميت بحرمة البقاء على تقليد الميت فرجع للحي في خصوص هذه الفتوى فأفتى له بالبقاء عليها فحينئذ لا يجوز له العمل بفتاوى مجتهده الميت استنادا لفتواه بعدم الجواز المستندة لفتوى الحي بالبقاء عليها. (التحقيق) أنه لا يجوز أيضا الرجوع الى الحي و تقليده في هذه المسألة أعني مسألة جواز البقاء على تقليد الميت أو عدمه بالنسبة لخصوص هذه الفتوى أعني الفتوى بجواز البقاء أو عدمه كما لا يجوز الرجوع لنفس الميت فيها و لذا اشتهر فيما بين الفقهاء المفتين بجواز البقاء انه لو قلد العامي مجتهدا ثمَّ مات فقلد ثانيا فجوز له البقاء ثمَّ مات فقلد ثالثا فجوز له البقاء فإنه يبقى على تقليد الأول بالرجوع لفتوى الثالث بجواز البقاء لا بالرجوع لفتوى الثاني بجواز البقاء و ذلك لوجوه:

(أحدها) ان فتوى الحي في هذه المسألة بجواز البقاء أو عدمه لو رجع إليها العامي و قلده فيها فحينئذ لا وجه لرجوعه للميت في فتواه بجواز البقاء و عدمه لمعرفته حكمها تعبدا بالرجوع إلى الحي و لا يبقى له شك في الجواز و عدمه فلا تكون فتوى الميت في هذه المسألة حجة عليه نظير ما لو عرف حكم هذه المسألة بالاجتهاد.

(و ثانيها) ما ذكره بعض محشي العروة و سبقه لذلك المرحوم آقا ضياء هو انه إذا رجع الى الحي في

مسألة جواز البقاء على تقليد الميت فالتقليد المأخوذ موضوعا في هذه القضية لا بد أن يكون في غير هذه المسألة لامتناع أخذ الحكم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 414

في موضوع نفسه فيمتنع أن يفتي الحي بجواز البقاء على تقليد الميت في جواز البقاء على تقليد الميت أو بحجية رأى الميت في حجية رأى الميت فلا بد أن يكون موضوع الحجية غير هذه المسألة. (و لا يخفى) ما فيه فان الموضوع هو نفس الطبيعة بوجودها النفس الأمري فيكون الحكم تابعا للموضوع حتى لو تحقق بعد ثبوت الحكم له ألا ترى أنه لو قال الرسول (ص) آمن بكلامي أ ليس يشمل نفس هذا الكلام و هكذا في القرآن الشريف من الآيات الآمرة بالايمان بالكتاب و بما أنزل فان هذا الحكم يشملها نفسها و قد حققنا ذلك في كتابنا (نقد الآراء المنطقية) في شبهة الجذر الأصم. نعم لا يمكن أخذ نقيض الحكم في موضوع الحكم فلو أفتى الحي بجواز البقاء على تقليد الميت في هذه المسألة و كان الميت يفتي فيها بعدم الجواز لا يمكن أن تشمل فتوى الحي لهذه المسألة لأنه يلزم من وجود الحكم عدمه لأنه يلزم من جواز البقاء عدم جواز البقاء و الذي يلزم من وجوده عدمه يمتنع وجوده و لذا قيل في مبحث حجية الخبر عدم شمول أدلة حجية الخبر للأخبار الدالة على عدم حجيته و في مبحث حجية الشهرة ان أدلتها لا تشمل الشهرة على عدم حجية الشهرة و في مبحث حجية الظنون الكتابية انها لا تشمل الظنون الكتابية الدالة على حرمة العمل بالظن الى غير ذلك من النظائر التي يلزم من الحكم باندراج بعض أفرادها فيها خروج بقية

الأفراد فإن ذلك الفرد مما ينبغي القطع بعدم اندراجه تحت إطلاقه أو عمومه.

(ثالثها) ان المسألة الواحدة لا تتحمل الحجتين أما المتحدتان بالنتيجة كما لو كان كل منهما يفتي بجواز البقاء على تقليد الميت فلأنه إذا قامت أحد الحجتين سقطت الحجة الثانية عن حجيتها لأن شرط الحجية أن توجب معرفة ما قامت عليه و إلا لم تكن حجة فإذا قامت الحجة الاولى و حصلت منها المعرفة كانت الحجة الثانية لا تفيد المعرفة و إلا لزم تحصيل الحاصل. و دعوى أنها تؤكد حجية الأولى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 415

لا تنافي سقوطها عن الحجية و صيرورتها مؤكدة فإن التأكيد غير الإفادة و التأسيس، و أما إذا كان الحجتان مختلفتين بالنتيجة كأن أفتى الحي بوجوب البقاء و الميت بوجوب العدول لزم تكاذبهما و سقوطهما عن الحجية مع التساوي و الا قدم الأقوى منهما و سقطت الأخرى و فيما نحن فيه لما أخذنا بفتوى الحي سقطت الأخرى فلا يرجع للحي في فتوى الميت بوجوب العدول.

(إن قلت): هذا فيما إذا كان موضوع الحجتين واحد، أما إذا اختلف موضوعهما صارت كل منهما لمسألة غير مسألة الأخرى فيجوز الرجوع في إحداهما للأخرى كما فيما نحن فيه فان الميت الذي يفتي بوجوب العدول عن تقليد الميت إنما يفتي بالنسبة لمن قبله من المجتهدين ممن قلده العامي. و الحي يفتي بوجوب البقاء بالنسبة لهذا المجتهد الذي أفتى بهذا الفتوى لأن الفرض هو الرجوع إليه في هذه الفتوى فاختلف موضوع الحجتين الأولى بالنسبة لمن سبق. و الثانية بالنسبة للمفتي بهذه الفتوى. (قلنا): ليست الفتوى الاولى تختلف عن الفتوى الثانية في الموضوع فان كل منهما حكم شرعي إلهي لا يختص بشخص دون آخر

فالميت إنما يفتي بوجوب العدول بنحو القضية الحقيقية الكلية من دون خصوصية للأشخاص الذين قبله أو بعده و هكذا الحي إنما يفتي بنحو القضية الكلية الحقيقية من دون خصوصية لشخص دون آخر و لذا كانت الفتوى غير حكم الحاكم فموضوع الفتويين واحد لا متعدد.

(إن قلت): إن هذا نظير ما لو قامت الحجة على حجية الخبر ثمَّ أخبر زيد بحجية اخبار عمر و أخبر عمر بحجية اخبار بكر، فان كلا منهما يكون حجة في مؤداة. (قلنا) ان الموضوع هنا مختلف بخلاف ما نحن فيه كما عرفت.

(هذا غاية) ما يمكن من تقريب هذا الوجه (و لكن لا يخفى ما فيه) فان ما نحن فيه ليس من قبيل الحجتين بل من قبيل الحجة على الحجة فهو نظير فتوى المجتهد الذي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 416

يرجع إليها لقيام رواية أو إجماع على حجيتها بخصوصها كأن قال لك الامام عليه السلام فتوى يونس في هذه المسألة حجة عليك مع أن الموضوع واحد و المسألة واحدة فإنه هنا تكون الحجة على فتوى المجتهد الميت في هذه المسألة هو رأي الحي و فتواه و ان اتحد الموضوع و كانت القضية واحدة فالحق في الاستدلال هو الوجه الأول.

هل يبقى العامي على تقليد المجتهد الأول أو الثاني إذا ماتا كليهما

(ثالث المقامات) [هل يبقى العامي على تقليد المجتهد الأول أو الثاني إذا ماتا كليهما]
اشارة

و هو انه بعد ما عرفت عدم صحة رجوع العامي و تقليده لمجتهده الميت في فتواه بجواز البقاء و عدمه و هكذا عدم صحة رجوعه للحي في تقليد مجتهده الميت في هذه الفتوى و عرفت انه انما يصح أن يرجع للحي في البقاء على غير هذه المسألة من الفروع الفقهية التي قلد الميت فيها.

فهل للعامي أن يبقى على تقليد الميت

الأول في الفروع أو على تقليد الميت الأخير في الفروع في صورة ما لو قلد مجتهدا فمات ثمَّ قلد مجتهدا ثانيا و أمره بوجوب العدول فعدل اليه أو جوز له العدول فعدل اليه فمات ثمَّ قلد ثالثا فأمره بالبقاء على تقليد الميت فهل يبقى على تقليد الأول أو الثاني أو جوز له البقاء فهل يجوز له البقاء على الأول أو الثاني و الكلام تارة في وظيفة العامي. و أخرى في حكم الواقعة ليفتي به المجتهد للعامي إذا رجع اليه فيه. أما وظيفة العامي فهي أن يرجع للمجتهد الحي فما أفتى له به عمل به، فان قال له أبقي على الأول بقي و إن قال له ابقي على الثاني بقي و إن قال له يجوز لك البقاء على كل واحد منهما تخير بينهما. و الحاصل ان العامي يتبع في هذه المسألة نظر الحي إذا لم يجتهد في المسئلة. و أما حكم الواقعة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 417

الذي ينبغي للمجتهد أن يفتي به لمقلده. فبعضهم قال بالرجوع للأول و بعضهم كالسيد في العروة قال بالرجوع للثاني، و بعضهم كالمرحوم آقا ضياء ذهب الى التخيير بين الأول و الثاني، و ذهب بعضهم كأستاذنا السيد أبو الحسن الأصفهاني قدس سره الى أن الأظهر التفصيل بين ما إذا كان مذهب الثالث وجوب البقاء فيبقى على تقليد الأول و بين ما إذا كان مذهب الثالث جواز البقاء فيبقى على الثاني و ان كان ذهب (ره) بعد ذلك الى وجوب مراعاة الاحتياط في هذه المسألة.

حجة القول الأول

يمكن أن يحتج للقول الأول و هو الرجوع الى الميت الأول بأن القائل بالبقاء و هو المجتهد الثالث يرى أن عدوله للثاني كان

تقليدا فاسدا و انه كان على العامي أن يبقى على الأول نظير ما إذا قلد الفاسق أو غير المجتهد فعليه أن يرجعه إلى الأول، (و فيه) ان المجتهد الثالث ان كان يوجب البقاء فالحق كما ذكر و ان كان يجوّز البقاء فيرى أن التقليد للثاني و العدول عن الأول كان صحيحا فيصح البقاء عليه.

حجة القول الثاني

احتج من قال بالرجوع الى الثاني بوجهين:

(أحدهما) ان المجتهد الثالث إنما يقول بالبقاء من جهة الاستصحاب للاحكام أو استصحاب حرمة العدول و هذان الاستصحابان قد انقطعا في الأول بتقليده للثاني الذي عدل اليه و إنما يجريان بالنسبة لتقليده للثاني. (و جوابه) ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 418

المجتهد الثالث ان كان يوجب البقاء فهو يرى ان تقليده الثاني فاسد فيكون الاستصحاب بالنسبة للتقليد الأول و استصحاب حرمة العدول عنه جاريان فيه و لا أثر لتقليده الثاني فعلى المجتهد الثالث في هذه الصورة أن يرجع العامي لتقليد الأول. (و دعوى) انه يكون تقليدا للميت ابتدائيا فهو باطل. (فاسدة) لأن هذا لا يكون تقليدا للميت ابتدائيا لفساد عدوله الى الثاني بل إبقاء للتقليد الأول و لو سلمناه فعمدة أدلة القائلين بفساد التقليد الابتدائي للميت هو الإجماع و هو دليل لبي لا يعلم شموله لهذا المورد. (و إن شئت قلت) إن فتوى الثالث بوجوب البقاء مقتضاها أن يكون ذلك تكليفا للعامي من حين موت المجتهد الأول و إن رجوعه للثاني لم يكن بمحله غاية الأمر يكون معذورا في المخالفة فيجب عليه في نظر المجتهد الثالث بقائه على تقليده الأول.

(إن قلت) ان مقتضى تقليد الثالث و إن كان فساد الرجوع الى الثاني إلا أن فتواه لم تكن حجة في حق العامي حينما

عدل للمجتهد الثاني و كان عدوله صحيحا للثاني حينما عدل اليه لفتوى مجتهد بذلك و فتوى الثالث إنما صارت حجة عليه بعد انقضاء تقليد الثاني فيكون تقليده الثاني تقليدا صحيحا و معه يكون الرجوع الى الأول تقليدا ابتدائيا. (قلنا) ليس الميزان هو نظر العامي و إنما الميزان هو نظر المجتهد الثالث و انه هل يفتي له بالبقاء على الأول أو الثاني و لما كان نظر المجتهد الثالث هو وجوب البقاء فيكون التقليد للثاني في نظره فاسدا فلا يصح له أن يفتي للعامي بالرجوع اليه خصوصا و حجية الفتوى من باب الطريقية و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى تحقيق ذلك في حجية القول الرابع.

(إن قلت): إن ما وقع من التقليد السابق للمجتهد الثاني انعقد و لا يؤثر فيه فتوى المجتهد الثالث و لذا لا يجب إعادة الأعمال التي وقعت على طبقه و لا قضائها و إذا انعقد فقد صار صحيحا. (قلنا): هذا لا يقتضي صحته

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 419

الواقعية فإن عدم التأثير قد يكون من جهة أخرى خصوصا و قد عرفت ان حجية الفتوى من باب الطريقية. نعم لو قلنا أن الفتوى المتأخرة تكون نسخا صح ذلك و لكنه لا يلتزم بذلك أحد و إنما هي أمارة كاشفة ليس إلا.

(و ثانيهما) ما عن الأنصاري (ره) من أن تقليده للثاني و رجوعه عن الأول بالنسبة للمسائل التي رجع فيها في حال حياة الثاني وقع صحيحا. (و جوابه) كما ذكره المرحوم الأصفهاني أن التقليد الأول أيضا كان صحيحا فكل واحد من التقليدين وقع صحيحا فمجرد الصحة مع تساوي النسبة لا توجب الترجيح مضافا الى ما سبق منا من ان الميزان هو رأي الثالث

فلو كان يوجب البقاء على التقليد يرى أن التقليد الثاني هو الفاسد فلا بد أن يرجع العامي للأول كما تقدم في جواب الدليل الأول لهذا القول.

حجة القول الثالث

احتج القائل بالتخيير بينهما ان كلا منهما تقليد صحيح فيصح الإرجاع لكل منهما و يكون العامي مخيرا بينهما فان مستند القائل بالبقاء وجوبا أو جوازا إنما يكون هو الاستصحاب لاحتمال بقاء الأحكام المأخوذة من المجتهد السابق في حق العامي و حيث ان هذا الاحتمال في الأحكام المأخوذة من كل منهما في نظره على السوية بلا ترجيح لأحدهما على الآخر يلزمه التخيير في البقاء على تقليد الأول أو الثاني. (و دعوى) أن تقليده الأول انقطع برجوعه للثاني بتقليد صحيح. (فاسدة) لاشتراكهما في هذه الجهة فإنه كما انقطع تقليد الأول برجوعه للثاني بتقليد صحيح كذلك انقطع تقليد الثاني برجوعه الى المجتهد الحي فالحكم الظاهري في كل من التقليدين تبعا لموضوعه مرتفع قطعا فلا يبقى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 420

إلا احتمال بقاء الأحكام المأخوذة من السابق و إذا كان هذا الاحتمال بالإضافة الى كل من الحكمين السابقين على السوية بلا ترجيح لأحدهما على الآخر يلزمه جريان الاستصحاب في حق مقلده بالإضافة الى كل منهما من غير ترجيح و لازمه تخيير العامي في البقاء على تقليد أيهما شاء. (و لا يخفى ما فيه) فإنه إذا كان المستند هو الاستصحاب فلازمه التساقط لا التخيير و لا بد من الرجوع لأحوط القولين إلا بدعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط و عليه فلا بد له من الرجوع لشخص آخر في الفروع. مضافا لما عرفت من ان القائل بالوجوب لا يرى حجية فتوى المجتهد الثاني للعامي فليس هناك حكم ظاهري له و لا

امارة على الواقع و إنما هو تخيل الأمارية مثل تخيله ان فتوى الفاسق تكون حجة عليه، و اما القائل بالجواز فهو يرى أن فتوى الأول قد انقطعت حجيتها بفتوى المجتهد الثاني فهو نظير تبدل الرأي بالفتوى الثانية فلا مجال لاستصحاب حجيتها و لا الاحكام التي دلت الفتوى عليها لدلالة فتوى المجتهد الثاني على خلافها و هي حجة فيكون نقضها بفتوى المجتهد الثاني نظير نقض مؤدى الامارة بأمارة قامت على خلافها فإنه لا وجه لاستصحاب مؤدى الأولى.

حجة القول الرابع

احتج القائل بالتفصيل بين صورة فتوى المجتهد الثالث بوجوب البقاء فيبقى على تقليد الأول و بين صورة فتواه بجواز البقاء فيبقى على الثاني بأنه في (الصورة الاولى) يكون في نظر المجتهد الثالث أن تقليد العامي للثاني فاسد لأنه يوجب البقاء و العامي لم يكن باقيا على الأول بالرجوع للثاني فيكون التقليد الصحيح في نظره هو الأول فلا بد أن يأمر العامي بالرجوع إلى الأول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 421

(إن قلت): ان تقليد العامي للمجتهد الثاني كان صحيحا جامعا للشرائط و ان تقليده للمجتهد الأول قد زال و المجتهد الثالث قد أوجب عليه البقاء على التقليد الصحيح و هذا التقليد الثاني كان صحيحا (قلنا) الميزان هو نظر المجتهد الثالث لأنه هو المفتي و نظر العامي تابع له و قد عرفت أن نظره وجوب البقاء و هو يقتضي بطلان تقليد العامي للمجتهد الثاني في الفروع و عدم صحته فلا يجوز البقاء عليه عند المجتهد الثالث لأنه ليس بتقليد صحيح في نظره.

(إن قلت): ان الموضوعات للأحكام لا يرجع فيها لنظر المفتي فلو كان العامي يرى القبلة جهة المشرق. و المفتي بوجوب الصلاة للقبلة يرى القبلة جهة المغرب كان على

العامي أن يتبع نظره لا نظر المجتهد كما تقدم في التقليد في الموضوعات و هنا موضوع وجوب البقاء هو التقليد. و العامي يرى التقليد للثاني صحيحا فالمتبع نظره لا نظر المفتي. (قلت): هذا في الموضوعات الخارجية مسلم و لكن في الموضوعات الشرعية غير مسلم كما لو أفتى بوجوب الصلاة على الميت فإن الصلاة يرجع فيها لنظر المفتي لا لنظر العامي و فيما نحن فيه كان الموضوع لوجوب البقاء هو التقليد و هو موضوع شرعي فيكون المتبع نظر المفتي فالحق أن يقال انه إن كان المتبع في مثل التقليد من الموضوعات نظر المفتي فلا يجوز البقاء على الثاني و إن كان المتبع هو نظر العامي فيجب البقاء على الثاني لأنه تقليد صحيح و لا يجوز التقليد للأول لأنه قد زال و لا يجري الاستصحاب بالنسبة إليه فراجع ما كتبناه في التقليد في الموضوعات هذا تمام الكلام في الصورة الاولى و أما (الصورة الثانية) و هي صورة ما إذا أفتى المجتهد بجواز البقاء فنقول ان المجتهد الثالث يرى صحة تقليد العامي للثاني فينقطع استصحاب تقليد الأول. و حرمة العدول عن الأول قد زالت بموته و بتقليد العامي للثاني تقليدا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 422

صحيحا في نظره و نظر المجتهد الثالث الحي الذي رجع له فعلا فيجري استصحاب تقليد الثاني فقط فلا بد للمجتهد الثالث أن يأمره بالبقاء على الثاني.

الثالث

جواز البقاء على تقليد الميت الذي يحرّم البقاء

(التنبيه الثالث) إذا قلد من يحرّم البقاء على تقليد الميت فمات فقلد من يجوز البقاء له على تقليد الميت

جاز له البقاء على تقليد الأول في جميع المسائل إلا مسألة حرمة البقاء أما جواز البقاء في المسائل العملية فمن جهة ان من رجع اليه قد أفتى له بذلك و لا بد من مراعاتها فان كان

أفتى له بالبقاء على خصوص المسائل التي عمل بها بقي عليها دون من لم يعمل بها و ان افتى له بالبقاء على خصوص المسائل التي التزم بها بقي على ذلك فمقدار المسائل العملية التي يبقى عليها تابع لنظر من رجع إليه لأن حجيتها كانت تابعة لنظره. و أما حرمة البقاء على تقليده في مسألة حرمة البقاء فقد قيل في وجهه ان العمل يعتبر في التقليد و هذه المسألة لم يعمل بها العامي فيكون تقليده فيها بعد موته من التقليد الابتدائي و الاولى أن يقال انه حتى لو لم نعتبر العمل في التقليد لا يجوز التقليد في هذه المسألة لاستلزامه المحال إذ يلزم من جواز تقليده إياه في مسألة حرمة البقاء عدم جوازه و كل ما لزم من وجوده عدمه فهو باطل و قد تقدم تحقيق ذلك منا ص 411.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 423

الرابع البقاء على تقليد الميت من دون اجتهاد أو تقليد

(التنبيه الرابع) إذا بقي على تقليد الميت من دون أن يقلد في هذه المسألة كان كمن عمل من غير تقليد إلا إذا اجتهد و أدى رأيه إلى صحة البقاء فان اجتهاده حجة له كما هو الحال في أصل التقليد فإنه إنما يصح منه إذا أدى اجتهاده إلى حجية التقليد و أما إذا لم يجتهد و إنما بقي غفلة أو من جهة عدم المبالاة فيكون بقائه غير صحيح بمعنى أنه إذا التفت ليس له مؤمن من العقاب على تقدير المخالفة لعدم قيام الحجة على صحة عمله نظير من يعمل بدون تقليد و الواجب عليه أن يجتهد في هذه المسألة أو يرجع لمن هو متيقن الحجية عنده أو يحتاط فيأخذ بأحوط القولين للحي و الميت أو بأحوط الاحكام.

(إن قلت): مع

الغفلة و اعتقاده بجواز البقاء يكون معذورا عند العقل و لا يستحق العقاب على مخالفة الواقع. (قلنا) معذوريته لا توجب صحة عمله كمن قلد غير المجتهد أو الفاسق غفلة فان غفلته لا توجب صحة تقليده و الثمرة في ذلك انه مع انكشاف الحال له يجب أن يجتهد في صحة البقاء أو يقلد المتيقن عنده أو يأخذ بأحوط القولين من الحي و الميت و ينظر في صحة أعماله السابقة نظير من عمل بدون تقليد غفلة.

(إن قلت): هذا إذا كان الحي يفتي بعدم جواز البقاء على تقليد الميت أما مع فتواه بجواز البقاء فيكون عمل العامي المذكور صحيحا لمطابقته لفتوى مجتهده الذي يجب عليه أن يرجع اليه. (قلنا) قبل رجوعه اليه و عدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 424

اعتماده عليه لا يصحح عمله لأن المراد بالصحة هنا هو المؤمن من العقوبة عند الالتفات فقبل رجوعه للمفتي ليس له مؤمن من العقوبة بالعمل بفتاوي مجتهده الميت إذا التفت الى ذلك فهو كمن أتى بالعمل مطابقا للواقع بدون تقليد أو اجتهاد أو احتياط فإنه ليس له مؤمن من العقوبة لكن قد عرفت انه قد يقال ان العدول الى تقليد الحي لما كان محتمل المنع كالبقاء على تقليد الميت لم يكن هناك له طريق يقيني فوجب عليه الاحتياط بالأخذ بأحوط القولين. (إلا أن يقال) ان هذا إذا كان قد قلد الميت في مسألة البقاء فإنه حينئذ يكون تقليده للحي عدولا و أما إذا لم يكن قلد الميت فيكون الرجوع الى الحي في مسألة البقاء من المتيقن إذ ليس تقليد الحي في مسألة البقاء عدولا عن الميت حتى يدور أمره بين المحذورين.

(إن قلت): كيف يمكن أن يكون قد

قلد الميت في مسألة البقاء على تقليد الميت. (قلت): لا مانع منه لو قلنا بأن أخذ الرسالة و الالتزام بالعمل تقليدا أو قلده في البقاء على تقليد سابقة زمانا فيكون قلده في مسألة البقاء على تقليد الميت و عليه فيكون أخذ ذلك من الحي عدولا فيخرج عن كونه من المتيقن قال استاذنا (ره) لا إشكال في وجوب كون البقاء على تقليد الميت مستندا الى اجتهاد أو تقليد غير ذلك الميت و إلا كان تقليده بتقليده دورا واضحا و قد عرفت ان الأخذ في ذلك بتقليد الغير أيضا لا يمكن إلا أن يكون الغير من المتيقن و إلا فلا يجوز للعامي تقليده و لا يكون من المتيقن إلا إذا لم يشتمل على عدول من الميت و الا فمع احتمال حرمة العدول عنه كان أمر الرجوع الى الحي دائرا بين المحذورين.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 425

الخامس العدول عن تقليد الميت إلى الحي المخالف له في الفتوى لا يوجب بطلان الأعمال السابقة

(التنبيه الخامس) لو عدل العامي عن المجتهد الميت إلى الحي و كان الحي مخالفا للميت في فتواه فلا يجب عليه إعادة اعماله و لا نقض الآثار السابقة حتى لو قلنا بوجوب نقض الآثار السابقة بتبدل الرأي و إنما يجب عليه العمل فيما يأتي بفتوى المجتهد الحي خلافا للمحكي عن الشيخ الأنصاري (ره) حيث ينقل عنه أن القول بالنقض في صورة تبدل الرأي يستلزم القول بالنقض في صورة العدول من الميت إلى الحي. و قد رد عليه الأستاذ المحقق الأصفهاني (ره) بأن الحق عدم الملازمة لأن وجه النقض في صورة التبدل ان الخبر حجة في مضمونه الذي لا اختصاص له بزمان دون زمان و ان كان يتنجز فعلا لا قبلا إلا أن أثر تنجزه فعلا تدارك ما فات منه

قبلا و عليه يظهر أنه لا وجه لتخصيص تأثيره بالوقائع المتجددة هذا بالنسبة لنفس المجتهد، و أما بالنسبة إلى مقلده فلأن المفروض أن فتواه النقض فيجب على مقلده النقض، و أما وجه عدم النقض في صورة العدول عن الميت إلى الحي أو من الحي إلى الحي الذي هون أفضل منه فهو أن حجية الرأي بالنسبة للعامي ليست تقتضي حجيته عليه من الأول بل هو حجة عليه من حين صحة الرجوع الى صاحبه فلا يؤثر إلا في الوقائع المتجددة فحجية الفتوى الأولى ينتهي أمدها لا أنه تزول و تضمحل حجيتها نظير ما إذا وجد أقوى منها فتكون الفتويان المتعاقبان على حد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 426

الخبرين المتعادلين الذين أخذ بأحدهما تارة و بالآخر أخرى حيث لا موجب لتوهم النقض عند الأخذ بالثاني، و حيث أنا قد أثبتنا ج 1 ص 279 عدم النقض عند تبدل الرأي فكل ما ذكرناه هناك من الأدلة يجي ء هنا لذا تركنا التعرض لهذه المسألة. و إن كان قد ادعي الإجماع و السيرة العملية بل ضرورة المذهب على عدم وجوب الإعادة و عدم نقض الآثار السابقة عند العدول إلى الحي إلا أنه قد حكي الإجماع على خلاف ذلك عن العلامة و العميدي.

السادس هل للعامي العدول إذا أفتى الثاني بجواز البقاء و الحي بوجوبه

(التنبيه السادس) إذا رجع لمجتهد يفتي بجواز العدول عن مجتهد لآخر فقلده في خصوص هذه المسألة و بقي على تقليد المجتهد الأول كما يتفق غالبا ثمَّ مات هذا المفتي الثاني فرجع لمجتهد يوجب البقاء على التقليد فهل لهذا العامي أن يعدل عن الميت الأول باعتبار انه كان مقلدا للثاني في هذه المسألة و هو لا يوجب البقاء عليه و كان يبيح العدول له أو لا يجوز

له العدول عن الميت الأول الذي قلده و عمل بفروعه لأن الحي الذي رجع اليه فعلا قد أوجب عليه البقاء فيحرم عليه العدول عنه. و الحق هو عدم جواز العدول لأنه قد عرفت في المقام الثاني ص 412 من التنبيه الثاني أنه لا يجوز للعامي أن يقلد الحي في البقاء على تقليد الميت في فتواه بجواز البقاء أو وجوبه أو حرمته فلا يصح للعامي المذكور أن يعمل بفتوى المجتهد الثاني الميت بجواز العدول لأنه بعد موته لم تكن حجة عليه و إنما الحجة عليه هي فتوى المجتهد الحي الثالث بوجوب البقاء.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 427

السابع هل المتبع نظر الحي أو الميت إذا اختلفا في حقيقة التقليد

(التنبيه السابع) إذا اختلف الميت و الحي المفتي بالبقاء في حقيقة التقليد من أنه عبارة عن نفس الالتزام أو نفس العمل فهل المتبع نظر الحي أو الميت؟

التحقيق أن يقال ان العامي عليه أن يتبع رأي الحي فيما يأمره به من الرجوع في تحديد التقليد لرأي الميت أو لرأيه، و أما حكم الواقعة الذي ينبغي للمجتهد أن يفتي به فهو أن يقال إن المتبع هو رأي الحي لأن موضوع كل حكم منوط بنظر الحاكم سعة و ضيقا و تعيينا و حيث ان التقليد موضوع لوجوب البقاء الذي حكم به الحي فيكون تحديده و تعيينه بنظره و لا وجه لاتباع غير الحاكم في تعيين موضوع حكمه.

(إن قلت): ان موضوع وجوب البقاء هو التقليد الصحيح و صحة التقليد منوطة بنظر الميت لا بنظر المفتي بالبقاء و لذا لا شبهة في لزوم البقاء بنظر الحي مع مخالفته في الفتوى الميت. (قلنا): إن الحي إن كان يفتي بوجوب البقاء على التقليد من جهة استصحاب التكاليف الثابتة في حق العامي فكل ما

يراه الحي ثابتا في حق العامي يستصحبه سواء صدق عنوان التقليد عليه أم لا كان تقليده صحيحا أم لا، لأن الاستصحاب متقوم بما يراه المستصحب (بالكسر) تام الأركان لديه لا لدى غيره فحينئذ يكون المستصحب (بالفتح) هو الذي يأمر الحي بالبقاء عليه و لو لم يصدق عليه عنوان التقليد.

(و أما إن كان) الحي يفتي بوجوب البقاء على التقليد من جهة أنه تقليد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 428

فلا بد أن يكون ما يراه الحي انه تقليد صحيح و لذا لا يستصحب تقليد المجتهد الفاسق لأنه لا يراه صحيحا و لا تقليد غير المجتهد فالصحة إنما هي بنظر الحي و ذلك لأن معنى وجوب البقاء على تقليد الميت هو البقاء على حجية قوله و رأيه بالنسبة إلى العامي فلا بد أن يكون ما يراه الحي انه حجة على العامي يأمر ببقاء حجيته، فأما الذي لا يراه حجة على العامي فكيف يأمر ببقاء حجيته عليه و لذا لو رأى عدم الحجية يأمر بالعدول عنه، و أما المخالفة في الفتوى فهي لا تنافي صحة التقليد بنظر المخالف لأن مطابقة الفتوى للواقع ليست شرطا لصحة التقليد و إلا لزم الدور.

(إن قلت): إن الميت إذا كان يفتي بأن التقليد معناه كذا فالعامي يبقى في هذه المسألة نفسها على تقليده بواسطة فتوى الحي بالبقاء على تقليد الميت. (قلنا): قد عرفت ان القول بالبقاء إنما هو من جهة رأي الحي ثبوت الأحكام في السابق للعامي فعلا أو من جهة حجية قول الميت في حقه و مع رؤية الحي بأن الأحكام غير ثابتة كيف يستصحب ثبوتها أو أنها ثابتة كيف يستصحب عدم ثبوتها، و هكذا إذا كان قول الميت ليس

بحجة للعامي في بعض المسائل كيف يثبت حجيته في زمان موته، و إذا كان حجة فكيف ينفي حجيته في زمان موته. فاذن لا يصح تقليد الميت في هذه المسألة و لا بد له من الرجوع فيها للحي. (و الحاصل) انه قد عرفت فيما تقدم انه لا يجوز للعامي تقليد الميت في حكم هذه المسألة أعني مسألة البقاء على تقليد الميت، فهكذا لا يجوز تقليد الميت في موضوعها و هو معنى التقليد لأنه معنى الموضوع تابع لرأي الحاكم الذي جعله موضوعا لحكمه و قد عرفت أن الذي يجعله موضوعا لحكمه هو ما كان ثابتا على وجه الصحة في نظره لا نظر الغير مضافا الى الوجه المتقدم في بيان عدم جواز تقليد الميت في مسألة جواز البقاء في المقام الثاني ص 412.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 429

الثامن من قلد في حال صغره ثمَّ مات مقلده

(التنبيه الثامن) لو قلد مجتهدا في حال صغره و قلنا بصحة تقليده لصحة عباداته ثمَّ مات المجتهد قبل بلوغ الصبي فبلغ فهل يجب عليه البقاء على القول المشهور بوجوب البقاء أم لا. قد تقدم الإشارة الى ذلك في شرائط المستفتي ص 37 و هذه المسألة نظير مسألة ما لو قلد الصغير مجتهدا جامعا للشرائط ثمَّ بلغ الصبي فهل يجوز له العدول عنه بناء على حرمة العدول أم لا. و قد تقدم الكلام فيها ص 171 و قد تعرض صاحب الفصول «قده» لهذين المسألتين في مبحث شرائط المستفتي. (و كيف كان) فقد يقال بعدم وجوب البقاء على الصبي إذا بلغ و جواز العدول له لوجهين:

(أحدهما) انه كان مخيرا في تقليد أي شخص كان فيستصحب ذلك الى ما بعد بلوغه. (و جوابه) انه لم يثبت في حقه التخيير، أما

في حال صغره فواضح لأن التخيير هو تكليف إلزامي بالأخذ بأحد الفتاوى و الصغير غير مكلف بذلك و أما بعد بلوغه فهو محل كلامنا.

(ثانيهما) انه في حال صغره يجوز له العدول الى الغير إذ هو ليس بمكلف بحرمة العدول فيستصحب ذلك الجواز الى ما بعد بلوغه. (و جوابه) إن الصغير لم يثبت في حقه حرمة العدول لا انه قد ثبت في حقه شرعا جواز العدول لأن التكليف مرتفع عنه و لا دليل على ثبوت الجواز الشرعي له حتى يستصحب.

(إن قلت): انا نستصحب عدم حرمة العدول فيثبت جواز العدول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 430

(قلنا): لا ينفعنا لأن الجواز لازم له لو سلمنا محالية خلو الواقعة عن حكم شرعي و عليه فيكون أصلا مثبتا على انك قد عرفت ان الصبي لا يثبت في حقه حكم شرعي فتكون الوقائع خالية عن الحكم الشرعي بالنسبة اليه و لو قلنا بعدم خلوها بالنسبة للمكلفين و استدلوا لوجوب البقاء بأن هذا الصبي قد صدر منه تقليد صحيح فيجب البقاء عليه مضافا الى أن التكاليف المعلقة على بلوغه في حال حياة مجتهده ثابتة بعد موته بنحو الاستصحاب التعليقي و مضافا الى الاستصحاب التعليقي لحرمة العدول الثابتة للصبي بنحو التعليق على البلوغ فيحكم بفعلية تحققها عند تحقق المعلق عليه عليه مضافا لاستصحاب حجية قول مجتهده في زمان حياته، (و جوابه) انه لا نسلم أن للصبي حكم إنشائي معلق على البلوغ و إنما الثابت في حقه عدم الحكم الفعلي و هو لا يستلزم ثبوت حكم إنشائي له معلق على البلوغ و بعضهم استدل على ذلك باستصحاب شرعية عباداته و محبوبيتها المستفادة من إطلاق المادة المصححة للعبادة و لا يخفى أن ذلك

لا يوجب وجوب البقاء و لا يهمنا الكلام في هذا المقام لأننا قد بنينا على جواز البقاء لا على وجوبه كما ان الانصاف أن من راجع أدلة جواز البقاء يجد بعضها موجودا في المقام فراجعها فمن تمت عنده جوّز البقاء له و إلا فلا.

التاسع من قلد المجتهد ثمَّ جن و قبل الإفاقة مات مجتهده

(التنبيه التاسع) ما إذا قلد العامي مجتهدا ثمَّ جن ذلك العامي و قبل إفاقته مات مجتهده فهل بعد الإفاقة يجب عليه البقاء على القول بوجوب البقاء أم لا يجب يتضح الكلام في هذه المسألة مما تقدم ص 37 و ص 171.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 431

العاشر عزل وكيل المجتهد و المأذون منه و المنصوب من قبله بعد موته

(التنبيه العاشر) المأذون و الوكيل و المنصوب من قبل المجتهد في التصرف في الأوقاف أو الوصايا أو أموال القاصرين إذا مات المجتهد هل ينعزل بموت ذلك المجتهد أم لا؟ و هكذا سائر تصرفاته هل تبطل بموته أم لا؟ قد تقدم تفصيل هذه المسألة و تنقيحها ج 1 ص 399.

الحادي عشر في صحة البقاء في صورة ما إذا كان الميت مفضولا

(التنبيه الحادي عشر) إذا قلنا بصحة البقاء فهل يصح حتى في صورة ما إذا كان الحي أفضل من الميت أم لا؟ و سيجي ء إن شاء اللّه تعالى التعرض لهذا المسألة في تنبيهات اشتراط الأعلمية في المفتي لأن تحقيقها مبني على معرفة أدلة اشتراط الأعلمية و مقدار دلالتها.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 432

الشرط الثامن عشر في المفتي الأعلمية
[نقل أقوال المسألة]

(الشرط الثامن عشر) فيمن يرجع اليه بالتقليد أن يكون أعلم المجتهدين الموجودين فيما إذا تفاوتوا في الفضيلة، و أما مع التساوي فالعامي مخير بينهم و هو المشهور بين الإمامية و المحكي عن العلامة في النهاية و القواعد و الإرشاد و الفاضل الهندي في كشف اللثام و المحقق في المعارج و العميدي في المنية و الشهيد في الدروس و الذكرى و المحقق الثاني في الجعفرية و جامع المقاصد و الشهيد الثاني في التمهيد و سبطه في المعالم و الشيخ البهائي في الزبدة و صاحب الرياض. و من العامة أحمد بن حنبل و ابن شريح و القفال على ما حكي عنهم و قيل بعدم الاشتراط و ان العامي مخير بين تقليد الأعلم و غيره و هو المحكي عن الشيخ الشريف و المحقق الثالث و النراقي «ره» و الشيخ حسن نجل كاشف الغطاء صاحب أنوار الفقاهة و صاحب الفصول و جمع من متأخري المتأخرين «ره». و من العامة الحاجبي و العضدي و القاضي. و قيل ان هذا القول حدث عند جماعة من الإمامية بعد الشهيد الثاني «ره».

ثمَّ ان الكلام فيه يقع في مقامين:

(أحدهما) في حكم العامي و ما هو وظيفته ابتداء قبل الرجوع لأحد

فنقول اما أن يكون متمكنا من الاجتهاد في هذه المسألة كأن كان مراهقا للاجتهاد و يتمكن من تحصيل دليل نقلي معتبر يقطع باستيفائه لشرائط الحجية أو لم يتمكن و لكنه استقل عقله بجواز الرجوع للمفضول أو وجوب الرجوع الى الأعلم فيتعين عليه الأخذ به لرجوع ذلك الى العمل بقطعه و لا أثر لفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 433

المجتهد الأعلم في حقه لعدم جهله بهذه المسألة و إن لم يتمكن من الاجتهاد في هذه المسألة رجع لمن ثبت عنده حجيته فاذا رجع

له فان جوّز له الرجوع لغير الأعلم فله أن يرجع لغير الأعلم و إلا قلده في باقي المسائل و لا يصح أن يرجع في هذه المسألة لغير الثابت حجيته عنده بأن يقلده في هذه المسألة حتى لو أفتى له بتقليد الأعلم لما عرفت من عدم حجيته رأيه عنده فلا يكون الرجوع إليه مبرئا للذمة. (و إن شئت قلت): انه يلزم الدور و يكون المقام من قبيل إثبات حجية الظن بالظن. و خبر الواحد بخبر الواحد لأن حجية قوله موقوفة على جواز الرجوع له و جواز الرجوع له موقوف على حجية قوله. و لعل نظر صاحب الكفاية «ره» الى ذلك. و عليه فلا وجه لإيراد استاذنا المشكيني «ره» عليه و الأمر سهل واضح. (و الحاصل) انه لا بأس برجوعه الى غير الأعلم إذا استقل عقله أو قام دليل نقلي معتبر عنده بحيث يقطع بحجيته أو أفتى المجتهد المتيقن الحجية له بذلك و بهذا ظهر لك انه لا وجه لجزم الكثير من أساتذة أهل العصر تبعا لجملة ممن تقدم عليهم في هذا المقام بوجوب تقليد الأعلم للعامي لكون العامي عالما بحجية فتوى الأعلم و شاكا في حجية فتوى غيره و الشك في الحجية كاف في الحكم بعدمها في الطرق و الامارات و ذلك لوضوح ان الواجب على العامي بحسب حكم عقله الاجتهاد في المسألة فما أدى نظره فيها فهو المتبع لأنه هو المبرئ للذمة في نظره و إن عجز عن الاجتهاد فيها كما هو الفرض فعقله يلزمه بالرجوع الى من يعتقد حجية قوله و انه مبرئ لذمته لأن اشتغاله اليقيني بالتكاليف الشرعية يستدعي الفراغ اليقيني، و حيث يعتقد من الضرورة و الفطرة و السيرة و العسر و

الحرج حجية التقليد و عدم وجوب الاحتياط عليه و حيث انه متردد فيمن يقلده و يرجع اليه وجب عليه بحكم عقله أن يرجع لمن يعتقد بأن العمل بقوله مبرئ للذمة و من المعلوم انه قد يعتقد ذلك في الأعلم و قد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 434

يعتقد ذلك في من كان غير أعلم و لكن قد قلده سابقا ثمَّ مات و قد يعتقد ذلك بمن يكون غير أعلم و لكنه أورع تنكشف له الحقائق أكثر من الأعلم بواسطة مجاهداته النفسانية و قد يعتقد ذلك في الأعلم الميت لا الحي أو يعتقد ذلك لمطابقته للأصل أو الأمارات الدالة على انه يصيب الواقع أكثر من الأعلم منه لورود توصية من الامام (ع) في حقه. و ان اليوم بعض العوام يعتقدون في بعض بيوتات العلمية في النجف الأشرف ان المجتهدين منهم أوصل للأحكام الشرعية من غيرهم و إن كانوا أعلم منهم لمقام هذا البيت عند اللّه تعالى أو لأن فتوى غير الأعلم موافقة للشهرة أو لمن تقدم من العلماء المعروفين كالشيخ «ره» و العلامة «ره» و المحقق «ره» كما انه لا وجه لما ذكره بعضهم و يظهر من تقريراته من ان المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية مع انه عنده ان المتعارضين لا يشملهما دليل الحجية فإذا كانت فتوى الأعلم معارضة لفتوى المفضول لم يشملهما دليل الحجية أعني أدلة التقليد فلا بد من دليل للعامي يرجع له في حجية فتوى الأعلم عليه. (و الحاصل) ان الميزان هو رجوعه لمن يعتقد بأن العمل بفتواه مبرئ للذمة لا خصوص الأعلم، هذا و قد أورد غير واحد على جواز الرجوع للمفضول بفتوى الأفضل

بأن العامي يرجع للأفضل بحكم عقله المستقل فلا يرى فتوى المفضول حجة فكيف يرجع له.

(و جوابه) ان العامي إنما رجع للأفضل لعدم ثبوت حجية المفضول عنده فإذا أفتى الأفضل بحجية فتواه كانت حجية فتواه ثابتة عند العامي فصح رجوعه له. نعم لو كان العامي قد ثبت عنده عدم حجية فتوى المفضول لم يصح تقليده للأفضل في حجية فتوى المفضول لقيام الحجة عنده على عدم حجيتها.

(المقام الثاني) في تحقيق ما هو الحق في هذه المسألة ليفتي به المجتهد عند رجوع العامي له فيها
اشارة

ثمَّ نتكلم في ملحقاتها من بيان المراد بالأعلم و صورة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 435

الاختلاف و الاتفاق و غير ذلك فنقول

[الأدلة على وجوب تقليد الأعلم]
اشارة

قد ذهب المشهور الى وجوب الرجوع الى الأعلم و استدلوا على ذلك بوجوه:

(الأول) الأصل الذي يقتضي تقليد الأعلم
اشارة

و قد تقدم تحريره في مسألة اشتراط الحياة في المفتي في الحجة الاولى و الثانية على المنع عن تقليد الميت و نتعرض لذلك مرة ثانية لما في الإعادة من الإفادة فنقول ذكر جملة من الأصوليين أن الأصل في المقام حرمة العمل بغير العلم للأدلة من الكتاب و السنة و الإجماع و العقل خرج عن هذا الأصل يقينا تقليد الأعلم للاتفاق من المجوزين و المانعين على صحة تقليده فيبقى غيره تحت هذا الأصل الى أن يثبت المخرج له عن هذا الأصل.

[ما يورد على الأصل الذي يقتضي تقليد الأعلم]
(و قد أورد على هذا الأصل أولا) كما عن صاحب القوانين بما حاصله

أن اشتغال الذمة لم يثبت إلا بوجوب العمل بقول المجتهد و هو متحقق في قول غير الأعلم و الأصل عدم لزوم الزيادة التي هي الأعلمية. فلا وجه لدعوى بقاء قول غير الأعلم تحت أصالة حرمة العمل بغير العلم.

و قد أجاب عنه في التقريرات للمرحوم الشيخ الأنصاري بما حاصله انه ان أراد منع قيام الدليل على حرمة العمل بما وراء العلم فهو باطل لوجود الدليل على ذلك من الكتاب و السنة و الإجماع و العقل و إن أراد أن انسداد باب العلم على العامي إنما يقتضي جواز العمل بالظن فهذا يقتضي أن يكون الأمر دائرا مدار حصول الظن، فربما يحصل من الأعلم و لا يجوز حينئذ الرجوع الى غيره و ربما يحصل من غير الأعلم فلا يجوز الرجوع الى غيره مع أنه لم تكن حجية قول المجتهد على العامي من باب الانسداد حتى يكون الأمر دائرا مدار الظن كما عرفت في مبحث تقليد الميت بل إنما هو من جهة قيام الضرورة الدينية على حجيته و يؤخذ بالقدر المتيقن منها. (و لا يخفى ما فيه) فان للخصم أن يدعي ان الضرورة الدينية لم تكن قائمة على ذلك

لمخالفة جماعة من أهل الدين في حجية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 436

التقليد و إنما هو من جهة الارتكاز الفطري و الأدلة السمعية و العقلية و هي تعم الأعلم و غيره فالدليل الذي أخرج تقليد الأعلم من أدلة حرمة العمل بغير العلم بنفسه يخرج تقليد المفضول منها لعدم أخذ قيد الأعلمية فيه و بعبارة أخرى ان الأعلمية نسبة اعتبارية فالشخص الواحد قد يصير أعلم في زمان و قد يصير مفضولا في زمان و أدلة التقليد لما لم يكن مأخوذا فيها الأعلم و لا عنوانا ملازما للأعلم كانت تعم كليهما بإطلاقها.

(و أورد على هذا الأصل ثانيا) بما يظهر من صاحب الضوابط ان أصالة حرمة العمل بما وراء العلم

قد انقطع بما دل على مشروعية التقليد في الجملة و لا ريب انه إذا كان المجتهدان متساويين في العلم كان كل منهما حجة و كان المكلف مخيرا بينهما، فاذا صار أحدهما أعلم قبل التقليد لأحدهما فإنه يستصحب بقاء التخيير بينهما و مقتضاه عدم وجوب تقليد الأعلم منهما و يتم الأمر في غير هذه الصورة بعدم القول بالفصل و لا أقل من بطلان الأصل المذكور أعني حرمة العمل بفتوى غير الأعلم في هذه الصورة و هكذا ينتقض بصورة ما إذا قلد شخصا لم يوجد أعلم منه ثمَّ بعد هذا وجد من هو أعلم منه فان الاستصحاب يقتضي البقاء على تقليده. و يمكن الجواب بل هو الظاهر من تقريرات الأنصاري «ره» عن الصورة الاولى ان الحاكم بالتخيير هنا هو العقل و موضوع حكمه هو اجتماع أمور:

(أحدها) عدم إمكان الجمع.

(و ثانيهما) عدم إمكان الطرح.

(و ثالثهما) عدم الأخذ بأحدهما على وجه التعيين لانتفاء المعين و استحالة الترجيح بلا مرجح فاذا فرض وجود أمر يحتمل المرجحية كأن يكون أحدهما أعلم يرتفع الأمر الثالث فلا وجه للحكم بالتخيير

لا حقيقة لارتفاع موضوعه و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 437

استصحابا لما قرر في محله من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقلية لاختلاف الموضوع فان العقل لما كان هو الحاكم فعلى تقدير عدم الاختلاف في موضوع حكمه لا يعقل الشك فيه من الحاكم و هو العقل و على تقدير الاختلاف فهو لا يحكم قطعا لأن العقل لا يحكم إلا بعد الإحاطة بحدود موضوعه و أطرافه فالشك في الحكم العقلي غير معقول.

(إن قلت): انا نستصحب جواز تقليد المفضول منهما الثابت قبل وجود الأعلمية للآخر منهما. (قلنا): هذا الجواز يرجع للتخيير العقلي المذكور.

(و أما الصورة الثانية) فنقول أيضا ان التعيين إنما صار بحكم العقل من جهة عدم وجود الأعلم فبعد وجوده زال موضوع حكم العقل فيرجع للقدر المتيقن و هو الأعلم، أقول سيجي ء إن شاء اللّه تعالى ما يوضح لك الحال في التنبيه المشتمل على صورة ما إذا كان مقلدا لميت ثمَّ صار الحي أعلم من الميت هذا مضافا الى أنه قد تحقق في محله أن التمسك بعدم القول بالفصل إنما يتم في مورد يثبت بالدليل فيتمسك في الباقي بعدم القول بالفصل لا في مورد ثبت بالأصل كما فيما نحن فيه.

(و أورد على الأصل المذكور ثالثا)

إن مرجع الأصل المذكور إلى ملاحظة الاحتياط في هذه المسألة و قد يعارض ذلك بالاحتياط في المسألة الفرعية كما إذا كان فتوى غير الأعلم موافقة للاحتياط و الاحتياط في المسألة الفرعية مقدم على الاحتياط في مدركها لأنه يدرك به الواقع. (و لا يخفى ما فيه) لما عرفته غير مرة من انه بعد اعمال الاحتياط في المدرك تقوم الحجة الشرعية على الواقع فتبرأ ذمته و لا يحتاج الى الاحتياط في المسألة الفرعية مضافا

الى أن ذلك إنما ينفع في غير العبادات و أما فيها فحيث يلزم الامتثال الإجمالي مع التمكن من الامتثال التفصيلي و يلزم منه ترك قصد الوجه أو يلزم منه التكرار فإنه خلاف الاحتياط في العبادة عند بعضهم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 438

(و أورد على الأصل المذكور رابعا)
اشارة

ان الأمر دائر في المقام بين التعيين و التخيير فيما علم وجوبه في الجملة و هو التقليد فلا يدري ان المكلف به هو التقليد مطلقا حتى يكون مخيرا بين الأعلم و غيره أو خصوص تقليد الأعلم حتى يكون معينا فيكون من قبيل الشك في أن المكلف به مطلق الرقبة أو خصوص المؤمنة مع انتفاء إطلاق في البين و قد قرر في محله ان الحق هو التخيير لأصالة البراءة من الكلفة الزائدة فلا وجه للرجوع لأصالة حرمة العمل بغير العلم في فتوى غير الأعلم. و أجاب عن هذا الإيراد بعضهم ناسبا له للمرحوم استاذنا آغا ضياء العراقي بأن جعل المقام من صغريات تلك المسألة مبني على جعل التخيير فيه في المسألة الفرعية و هو باطل قطعا لامتناع الوجوب التخييري في العمل في كلية باب التعارض المنتهي فيه الأمر إلى التناقض في المدلول بل التخيير فيه راجع الى التخيير في المسألة الأصولية أعني الأخذ بأحد الفتويين الراجع إلى إيجاب التعبد بكل واحد منهما مشروطا بالأخذ. و عليه فيكون في المقام الأمر دائرا بين حجية فتوى الأعلم و وجوب العمل على طبقها من غير اشتراطها بالأخذ و الالتزام بمؤداها و بين حجية كل منهما مشروطا بالأخذ بها (و من المعلوم) ان لازم ذلك هو عدم اليقين بحجية فتوى الأعلم فإنه قبل الأخذ بها يشك في حجيتها و وجوب التعبد و كذا بعد الأخذ

بفتوى غيره و مع هذا الشك كيف يمكن دعوى اندراج المقام في مسألة التعيين و التخيير المستلزم لليقين بوجوب العمل على طبق المعين على كل تقدير انتهى. (و لا يخفى ما فيه) فان من يجعل المقام من هذه المسألة أعني مسألة دوران الأمر بين التعيين و التخيير فنظره الى أن كلا الفتويين حجة عليه على سبيل التخيير أو خصوص فتوى الأعلم حيث لا حجة غيرهما. (و إن شئت قلت): انه يدور الأمر قبل الأخذ بأحدهما بين وجوب العمل بفتوى الأعلم بعينه لو كانت هي الحجة بعينها و بين وجوب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 439

العمل بها أو بفتوى غيره لو كانت الحجة إحداهما تخييرا إذ لا يجوز العمل بغيرهما.

و قوله: ان لازم ذلك هو عدم اليقين بحجية فتوى الأعلم إلخ. في غاية الغرابة فإنه قبل الأخذ بفتوى أحدهما كما هو فرض البحث يعلم بوجوب العمل بفتوى الأعلم إما وحدها مطلقا أو بإحداهما بشرط الأخذ بها. و كون الأخذ شرطا لها على تقدير التخيير لا يخرجها عن كونها يجب العمل بها أو بفتوى غيره حيث أنه على تقدير التخيير يكون الأخذ واجبا بإحداهما حيث أنه لا يجوز الرجوع لغيرهما لعدم وجود حجة سواهما و الاحتياط فرض الكلام غير واجب. و قوله: و كذا بعد الأخذ بفتوى غيره فأيضا في غاية الغرابة فإنه في كل مورد يدور الأمر بين التعيين و التخيير يكون بالأخذ بالفرد الذي لا يحتمل فيه التعيين احتمال عدم وجوبه و يمكن أن يجاب عن هذا الإيراد أيضا بل لعله هو الظاهر من تقريرات الشيخ الأنصاري «ره» بأن الشك بين التعيين و التخيير يتصور على وجوه:

(منها) أن يكون التخيير شرعيا كالتخيير

بين خصال الكفارة مع احتمال تعيين أحدهما.

(و منها) ان يكون التخيير المشكوك فيه تخييرا عقليا من جهة تعلق الأمر بالطبيعة و احتمال تقييدها بحيث يكون غير المقيد ليس بواجب أصلا مثل ما إذا ثبت وجوب عتق الرقبة و شك في تقييدها بالمؤمنة.

(و منها) أن يكون التخيير عقليا ناشئا من جهة تزاحم الواجبين العينيين مع احتمال تعيين أحدهما كالتخيير بين إنقاذ العالم، و إنقاذ الجاهل مع احتمال تعيين العالم عليه.

(و منها) أن يكون التخيير عقليا بين فعل الشي ء و تركه بواسطة دوران حكمه بين الوجوب و الحرمة مع احتمال ترجيح أحدهما مثل موافقة الشهرة و هذا غير الشك الناشئ من التزاحم. و في القسمين الأوليين لو سلمنا جريان البراءة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 440

عن المكلفة الزائدة لكن في القسمين الأخيرين لا نسلم ذلك لأن الشك ليس في التكليف بالزائد حتى يدفع بالأصل بل إنما هي في تعيين المكلف به المردد بين شيئين و العقل حاكم بوجوب الأخذ بما يحتمل معه الترجيح لأن الاشتغال اليقيني بالتكليف يستدعي الفراغ اليقيني و هو إنما يحصل بالإتيان بما يحتمل معه الترجيح.

ثمَّ انه لا إشكال في أن المقام ليس من القسم الثاني لأنه فيما نحن فيه على تقدير التعيين لو فقد المعين و هو الأعلم يرجع لغيره و في القسم الثاني لو فقد المعين على تقدير انه هو المطلوب و هو المؤمنة فلا يرجع لغيرها و هو الكافرة لعدم التكليف بها. (و الحاصل) ان ما نحن فيه الحكم الشأني و الحجة الشأنية مقطوع بثبوتها لكل من المتعارضين بخلاف هذا القسم فان الحكم و لو شأنا ليس مقطوعا به لكل من الفردين المحتمل تعيين أحدهما. و لا من

القسم الأول لعين ما ذكرناه في القسم الثاني و لعدم الدليل من الشرع يكون مفاده التخيير بين الأعلم و غيره مثل ما ورد في خصال الكفارة فلا بد أن يكون المقام من القسم الثالث أو الرابع. و قد عرفت أن أصل البراءة لا يجري فيهما فيجب الأخذ بما هو محتمل التعيين هذا مضافا الى أن قياس ما نحن فيه مع المثال المعهود من دوران الأمر بين عتق الرقبة المطلقة أو خصوص المؤمنة قياس مع الفارق و الوجه فيه ان عدم وجوب الزائد في مسألة الرقبة يقتضيه أصل البراءة بخلاف المقام فان الشك في الزائد يرجع الى الشك في عروض التخصيص للعمومات الناهية عن العمل بغير العلم بفتوى غير الأعلم و أصالة العموم تقتضي عدم التخصيص بها.

و لا يخفى ما فيه (أولا) أنه يلزم من هذا اشتراط سائر الشروط المذكورة في المفتي التي لم يقم عليها دليل بل و يلزم من ذلك الترجيح حتى بمثل الجفر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 441

و الرمل و النوم و النجوم و نحو ذلك. و ربما يترجح في نظره بواسطة حسبه أو نسبه أو كبره أو اشتهاره بين العوام لأن المناط موجود و الفارق مفقود. و لا يخفى ما يلزم من ذلك من المفاسد العظيمة في هذا الدين و الهرج و المرج في شريعة سيد المرسلين.

(و ثانيا) و هو مبني على مقدمتين.

[تحقيق ان الأصل في الأمارتين المتعارضتين هو التخيير لا التساقط]

(إحداهما) ان الأصل في الأمارتين المتعارضتين هو التخيير. أما بناء على السببية فواضح لأنه يكونان من قبيل الواجبين المتزاحمين المتساويين لأن ملاك جعل الحكم الظاهري هو مجرد قيام الامارة و هذا المعنى موجود في كلا المتعارضين بجميع ما هو دخيل في تحققه نظير إنقاذ الغريقين

فيكون العبد مخيرا في سلوكهما.

(إن قلت) انه على السببية يكون الحال نظير الأصول العملية المتعارضة لأن في كل منها حكم ظاهري فكما أن مورد الأصل موجب لإنشاء حكم ظاهري فكذا قيام الخبر موجب لإنشاء حكم ظاهري و حكم الأصول العملية هو التساقط عند التعارض. (قلنا) إنما نقول في الأصول ذلك لأنها مغياة بالعلم بالخلاف الذي يشمل العلم التفصيلي و الإجمالي و إلا لو قلنا بعدم الشمول يكون مقتضى القاعدة هو التخيير بين الأصلين نظير المتزاحمين.

(إن قلت): إن عدم إمكان العمل بهما معا يوجب التقييد في أدلة الحجية لأن أدلة الحجية إنما تدل على الحجية بشرط القدرة على العمل بهما فيسقط الدليل عن الحجية عند عدم القدرة على ذلك. (قلنا) إن الاشتراط بالقدرة لا ينافي اعتبار الدليل على وجه الإطلاق و إلا لما وجد دليل يكون معتبرا على وجه الإطلاق فلا يوجب عدم القدرة سقوط الدليل عن الحجية المطلقة و ذلك لأن اشتراط القدرة أمر عقلي و هو إنما يقتضي معذورية المكلف عن العمل بهما معا لا سقوطهما عن الحجية و هذا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 442

نظير ما لو كان الخبر بلا معارض و لم يتمكن من العمل به. نعم لو كانت حجية كل منهما مشروطة بعدم قيام مثله على خلافه سقط عن الحجية و لكن الأمر ليس كذلك و إلا لما وقع بينهما تعارض فان التعارض إنما يقع بين الدليلين الذين كان اعتبارهما على وجه الإطلاق من غير اشتراط الحجية أحدهما بعدم المعارض و إلا لما صح إطلاق التعارض عليهما و لذا لا يطلق التعارض على الأصل المخالف للأمارة المعتبرة. (و الحاصل) ان الأمارتين المتعارضتين يكون دليل الحجية قد دل على

اعتبار كل منهما على وجه الإطلاق. غاية الأمر أن العقل (بعد عدم إمكان العمل بهما حال التعارض و المشرّع لم يعين حجية أحدهما) يحكم بأن المشرع قد أو كل أمر العمل بهما الى اختيار العبد في الأخذ بأحدهما.

(إن قلت): ان أدلة حجية التقليد لا إطلاق فيها و لا تشمل المتعارضين لعدم شمول أدلة الامارات للمتعارضين. (قلنا) إن عدم الشمول إن كان من جهة الانصراف فهو باطل بدليل انها تشمل كل منهما في حد نفسه و إن كان من جهة التعارض فهو إنما يوجد بعد الشمول لكل منهما فكيف يمنع من الشمول و إن كان عدم الشمول من جهة عدم صلاحيتهما للحجية فهو باطل للإجماع على عدم سقوطهما معا في الفتوى المتعارضة و للأخبار الدالة على التخيير في تعارض الروايات فلو كانت الامارة تسقط عن الحجية بالتعارض لما دل الإجماع و الأخبار على التخيير بينهما التي هي ظاهرة في بقاء حجيتها لا إنشاء حجية جديدة لها و إن كان المراد عدم شمول أحدهما لا بعينه فهو ليس فردا من أفراد العام حتى يدعى عدم شموله.

(إن قلت): إن التزاحم إنما يكون بينهما فيما إذا كان كل منهما حكم إلزامي أما إذا كان أحدهما حكم لا اقتضائي كما لو دل أحدهما على وجوب شي ء و الآخر على اباحته فلا تزاحم بينهما فلا وجه للتخيير و وجوب تقديم ما دل على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 443

الوجوب. (قلت): إن القائلين بالسببية في حجية الأمارات على ثلاثة وجوه:

(الأول) الوجه الذي ذهب إليه الأشاعرة و هو القول بخلو الواقع عن المصلحة رأسا و إن الحكم تابع لمؤدي الامارة و هذا تصويب باطل.

(الثاني) ما ذهب إليه المعتزلة و هو

أن الواقع مشتمل على المصلحة الموجبة لإنشاء حكم مشترك بين العالم و الجاهل و لكن بقيام الامارة تحدث مصلحة غالبة على مصلحة الواقع توجب إنشاء الحكم على طبقها بحيث يتبدل الحكم الواقعي إلى مؤدى الامارة لو قامت الامارة على الخلاف لأن المصلحة المزاحمة بمصلحة أقوى منها لا تصير منشأ للحكم فلا يعقل أن يقال للكذب النافع انه قبيح واقعا.

(الثالث) ما ينسب الى بعض الإمامية و هو أن قيام الامارة لا يوجب حدوث مصلحة في المؤدى و لا مغيرا لمصلحة الواقع و إنما يكون في سلوك الامارة و تطبيق العمل على مؤداها فيه مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير مخالفتها فلو قامت الامارة على وجوب الجمعة و صلى الإنسان الجمعة ثمَّ انكشف له في الوقت وجوب الظهر لم يتدارك بسلوك الامارة إلا المصلحة التي فاتته بعدم المبادرة لصلاة الظهر أول الوقت و لو انكشف له بعد خروج الوقت تتدارك له مصلحة الوقت. إذا عرفت ذلك فمحل كلامنا هو القول الثالث و أما القولان الأوليان فلا كلام لنا فيهما لقيام الإجماع و ضرورة المذهب على بطلانهما و إذا كان محل كلامنا هو ذلك فحينئذ تعرف ان المصلحة السلوكية تستدعي وجوب السلوك سواء كانت في الامارة القائمة على الوجوب أو في الامارة القائمة على الإباحة فإذا تعارضا كان كل منهما يجب سلوكه لوجود المصلحة السلوكية المقتضية للوجوب فيه و حينئذ فيكون المقام من قبيل المتزاحمين كإنقاذ الغريقين فلا محيص من التخيير بينهما سلوكا.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 444

(إن قلت): من أين نعلم بأن المصلحة السلوكية موجودة في الأمارتين حتى في حال المعارضة. (قلنا) نعرف ذلك من الدليل الدال على اعتبار الامارة

فإنه يدل على أن موضوع الحجية توجد فيه المصلحة السلوكية أين ما وجد و إلا لقيد بحال المعارضة و قد عرفت شمول الدليلين للمتعارضين حال المعارضة.

(إن قلت): انه بناء على السببية يكون المجعول هو المؤدى و جعل المؤدي في المتعارضين يكون فيه التناقض فاذا قام خبر على وجوب الجمعة و آخر على حرمتها و قلنا بالسببية و شمول أدلة الحجية لهما فمعناه ان الشارع جعل وجوب الجمعة و حرمتها و هذا الإيراد يظهر من المرحوم السيد كاظم اليزدي في كتابه التعادل و التراجيح ص 81 و تبعه بعض أساتذة العصر. (قلنا) هذا لا يلزم على القول بالسببية التي ذهب إليها بعض الإمامية و هي محل كلام أصحابنا فإن سلوك كل أمارة موضوع غير سلوك أمارة أخرى فيكون التقابل بين السلوكين نظير التقابل بين الضدين كالغريقين و يكون حينئذ التكليف بهما إنما يتنافى في مقام الامتثال لا في مقام الجعل كما قررناه في المتزاحمين.

(إن قلت) ان المصلحة السلوكية الملزمة إنما تكون في الطريق باعتبار ان سلوكه فيه مصلحة ملزمة فطريقيته تكون بمنزلة الموضوع للمصلحة السلوكية و المتعارضان يتساقطان بالنسبة للمؤدي فلا تبقى طريقية لهما فيه. (قلنا) المصلحة السلوكية قائمة بنفس سلوك الطريق مع قطع النظر عن جعل الشارع له و طريقيته الذاتية لا تزول بالتعارض.

(إن قلت): على هذا يلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد لأن الأدلة دلت على الوجوب العيني عند عدم المعارضة و على الوجوب التخييري عند المعارضة. (قلنا) ما نحن فيه نظير ما إذا خرج عن تحت القدرة بعض أفراد الواجب المخير كخصال الكفارة فإن وجوب الباقي

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 445

يكون تعيينا مع أنه في الأصل تخييريا

و لا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحدا و السر واضح حيث ان التعيينية هنا و التخييرية هناك إنما لزمت من الأمور الخارجية و انحصار القدرة بأحدهما فحكم العقل بالإطاعة و الامتثال بهذا النحو نظير التزاحم بين أفراد الواجب التعيني كإنقاذ الغريق فاللفظ مستعمل في الوجوب التعيني إلا أن التخيير يأتي من جهة حكم العقل بسبب عدم إمكان العمل بالمتعارضين معا فيتخير في تطبيق العمل على أحدهما فكل من المتعارضين واجب تعيينا ثمَّ ان ما ذكرناه بأجمعه جاري حتى في الدليل اللبي كالإجماع فإن الموضوع فيه موجود في المتعارضين كما يوجد في غيرهما فلو لم تكن حجية كل منهما ثابتة بالإجماع لما وقعت المعارضة بينهما و بعبارة أخرى ان التعارض يكون في مرتبة متأخرة عن حجيتهما فهو لا يعقل أن يوجد إلا بعد حجيتهما و إلا فلا تعارض (و بعبارة أخرى) ان الشمول و الانطباق قهري و لو كان معقد الإجماع لا يشملهما بالذات لما كان التعارض بينهما يرتب عليه التعارض بين الحجتين من التخيير بينهما فإن الإجماع قد قام على التخيير بين الحجتين المتساويتين و هكذا الأخبار الدالة على التخيير. و أما (بناء على الطريقية) فلأن المناط في الحجية هو غلبة الإيصال إلى الواقع بأن تكون تلك الغلبة حكمة للجعل و النصب و من المعلوم عدم اعتبار الاطراد في الحكمة كيف و هي بذلك تفارق العلة و قضية ذلك عدم سقوط الدليل عن الاعتبار لو وقع التعارض بين أفراده لوجود مناط الاعتبار فيه بداهة عدم انتفاء الغلبة المذكورة بسبب المعارضة فكل منهما حين المعارضة متصف بتلك الغلبة باعتبار نوعه فلا وجه للحكم بالتوقف فضلا عن الحكم بالسقوط حال التعارض كيف

و التعارض يكون في مرتبة متأخرة عن حجيتهما فلا يعقل أن يوجد إلا بعد حجيتهما و إلا فلا تعارض كيف و لو كان بالتعارض يزول الملاك واقعا لما صح من الشارع أن يجعل التخيير بينهما أصلا كما لو زال ملاك الحجية عنهما فاللازم على المكلف حينئذ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 446

الأخذ بكل منهما عملا بعموم أدلة الحجية و إطلاقها لكن لما كان الفرض عدم التمكن من ذلك فالعقل يحكم بأن المشرع قد أرجع الأمر في سلوكهما الى اختيار العبد كما هو الحال بناء على السببية.

(إن قلت): كيف تدعي عدم التمكن من العمل بهما و الحال أن في بعض صور التعارض يمكن العمل بالدليلين كما لو قام أحدهما على وجوب الجمعة و الآخر على وجوب الظهر مع العلم بكذب أحدهما فلو كان يشملهما دليل الحجية لوجوب العمل بهما مع انه لم يقل بذلك أحد. (قلنا) المراد بذلك عدم إمكان سلوكهما و اتخاذهما طريقا للواقع لا عدم إمكان العمل بهما هذا كله مضافا الى ما نشاهده من ذهاب العلماء طرأ في باب تعارض المجتهدين في الفتوى عند التساوي إلى التخيير و لم يعهد من أحدهم القول بالتوقف أو التساقط مع عدم ورود دليل على التخيير في ذلك كما ورد في الأخبار المتعارضة و ليس ذلك إلا من جهة فهمهم عدم سقوط الحجية بالتعارض و عدم سقوط ملاك الحجية بالتعارض و عدم تقييد حجية أحدهما بعدم المعارض. (و دعوى) أن ذهاب العلماء الى ذلك من جهة كون حجية الفتوى من باب التعبد المحض و السببية الصرفة.

(فاسدة) ضرورة عدم اشتمال العمل بالفتوى على مصلحة غير مصلحة غلبة الوصول الى الواقع كيف و هو من الضروريات

عند المتقدمين فضلا عن قيام الإجماع عليه بل لو لم تشمل أدلة الحجية المتعارضين لما كان هناك دليل على حجية أحد المتعارضين حتى عند أرجحية أحدهما على الآخر. و الغريب ممن يقول بنفي الثالث بهما كيف يقول بعدم شمول دليل الحجية لهما. سلمنا زوال صفة الكشف عنهما عند التعارض فلا يقصر حالهما عن حال ما لو دار الأمر بين الوجوبين كإنقاذ الغريقين فإنه فيما نحن فيه أدلة الحجية تدل على وجوب العمل بكل واحد من المتعارضين و لا ريب ان ظاهرهم الاتفاق على التخيير في مورد دوران الأمر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 447

بين الوجوبين فكيف لا يحكم به في المقام. و توهم الفرق بينهما بأن المفروض هناك قيام الدليل على ثبوتهما بخلافه هنا. (فاسد) لأنه هنا أيضا كذلك بل هو أولى لاشتمال كل منهما على شرائط الحجية. (و دعوى) عدم كون كل منهما طريقا في مؤداة (ممنوعة) فإن مقتضى الأدلة كون كل منهما طريقا في مؤداة بجعل الشارع غاية الأمر أن التعارض يمنع عن السلوك فيهما و مع الأخذ بأحدهما يزول المانع لأنه يصير المأخوذ طريقا يسلك لمؤداه (فظهر) بهذا أن التفصيل بين اعتبار الأدلة من باب الطريقية فالتساقط و بين اعتبارها من باب السببية فالتخيير كما صدر عن المرحوم الشيخ الأنصاري «قده» و تبعه على ذلك جملة من المتأخرين و المعاصرين غير صحيح. نعم بناء على اعتبارها من باب الظن الشخصي و زوال الظن منهما معا حال التعارض يتجه الحكم بالتساقط لكن نحن لا نقول به، (و دعوى) استحالة جعل طريقين متخالفين في المؤدى للواقع لان الواقع واحد فكيف يجعل له طريقين مختلفين يكذّب أحدهما الآخر، (فاسدة) فإن ذلك ليس

أزيد من جعل الطريق الكاذب حجة فان الطرق و الامارات لم تكن بأجمعها صادقة و لكن الشارع قد جعلها بجعل عام باعتبار غلبة المطابقة و لا يضر أن يكون من بين أفراده فرد لم يطابق الواقع كان مجعولا بهذا الجعل تعميما للقانون و هكذا ما نحن فيه يكون كل منهما منجعلا بالجعل العام تعميما للقانون. (و دعوى) ان ما نحن فيه من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة للعلم بكذب أحدهما فيكون الصادق منهما هو الحجة و الكاذب ليس بحجة و في اشتباه الحجة باللاحجة لا يجوز التخيير للزوم جواز العمل باللاحجة. (فاسدة) لأنه لما كان كل منهما مستجمعا لشرائط الحجية و مندرجا تحت العنوان الذي دل الدليل على اعتباره كان كل منهما حجة. و (دعوى) ان العلم الإجمالي بكذب أحدهما مانع عن حجية أحدهما فيسقطان عن الحجية لاحتمال الكذب في كل منهما كما قاله صاحب الكفاية. (فاسدة) لأنه يلزم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 448

أن يكون المقام من اشتباه الحجة باللاحجة مع ان هذا العلم الإجمالي لا يوجب خروج أحدهما عن الحجية حتى في الواقع لأنه ينطبق على كل منهما حقيقة و واقعا العنوان الذي دل الدليل على اعتباره فيكون كل منهما موجودا فيه موضوع الحجية حقيقة، مع ان الموجب لخروجه عن الحجية أما العلم بالكذب تفصيلا أو إجمالا أو وصف الكذب أو غيرهما أما الأول فليس بحاصل لان كل واحد منهما يحتمل صدقة و أما الثاني فلا يعقل أن يكون موجبا للخروج عن الحجية و إلا لزم خروج الامارات عن الحجية للعلم الإجمالي بكذب بعضها و أما الثالث فكذلك لا يعقل أن يكون موجبا للخروج عن الحجية و الا لزم أن يكون

كل امارة تكون حجة بشرط العلم بعدم كذبها. و هذا يقتضي عدم اعتبارها إذ مع العلم بعدم كذبها يكون الواقع معلوما فلا يحتاج إليها و أما الرابع فلفرض كون الأمارتين في الواقع على حد سواء قد جمعت شرائط الحجية فكل منهما حجة واقعا، مع ان العلم بالكذب إن كان مانعا عقليا فعليا فلا يعقل وجود التخيير بين كل أمارتين متعارضتين مع وجوده في الخبرين المتعارضين المتساويين و ان كان مانعا عقليا تعليقيا بمعنى انه مانع إلا إذا ورد من الشارع حجيتهما فنقول ان دليل الحجية هو الوارد من الشرع في حجيتهما.

و (دعوى) ان دليل الحجية لا يشمل مجموع المتعارضين لعدم المصلحة فيه كذلك. لأن المصلحة في الطريق هو التوصل للواقع و مجموعهما لا يوصل له و لا واحدا منهما معينا يوصل له عند المكلف للزوم الترجيح بلا مرجح و لا أحدهما لا على التعيين لأنه ليس فردا ثالثا للعام فيكون دليل الحجية غير شامل لهما. (فاسدة) فإنه شامل لكل واحد منهما على التعيين لوجود المصلحة و هو غلبة الإيصال. (و دعوى) ان التعارض من الحالات المتأخرة بعد عروض الحجية فهو إنما يثبت بعد وجود الدليل على حجيتها أي بعد تحقق الموضوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 449

و حكمه فلا يعقل أن يكون الحكم مطلقا بالنسبة إلى الحالات المتأخرة عنه و لا مقيدا بالنسبة إليها. (فاسدة) لأن المراد و محل البحث هو شموله لذات الدليلين لا بوصف تعارضهما. (و دعوى) كون أدلة الحجية قاصرة عن شمول المتعارضين لاستحالة الجمع بين المتناقضين كما صدرت عن المرحوم ميرزا حبيب اللّه الرشتي (فاسدة) لأن أدلة الحجية إنما هي في مقام الجعل و استحالة الجمع إنما هي

في مرحلة العمل و الامتثال فلا تؤثر المرتبة المتأخرة في المرتبة المتقدمة فلا توجب قصور أدلة الحجية عن الشمول لهما بل لا بد من القول بشمول دليل الحجية لهما حتى يصير بينهما تعارض و إلا فلا تعارض بينهما فلا بد من دليل آخر لاخراجهما عن أدلة الحجية.

(إن قلت): انه لا يمكن اراءة الواقع من طريقين متخالفين مع انه واحد لأنه معناه الحكم بأن الواقع هو مؤدى هذا الطريق و انه هو مؤدى ذلك الطريق و هو تناقض فلا يشملهما أدلة الحجية، ألا ترى انه لا يصح أن يقول صدّق زيد في اخباره بوجوب صلاة الجمعة و صدق عمر في اخباره بعدم وجوبها. (قلنا) مضافا الى تحقق ذلك في الأخبار فإن المتعارضين منهما مع التساوي بينهما قد جعل الشارع كل منهما حجة على سبيل التخيير فلو كان ذلك ممتنعا لما تحقق، انه في القضايا الشخصية إنما قبح الجعل لكون الجاعل لا فائدة له في الجعل بالخصوص بخلافه في الأمور العامة فإنه هناك فائدة في جعل قانون عام لموضوع عام يكون فيه آرائه الواقع المطلوب للجاعل فاذا انطبق على فردين متعارضين في المؤدى و لم يجعل الجاعل مرجحا لأحدهما فيعلم أنه أوكل الأمر إلى اختيار الإنسان في اتخاذ أي منهما كاشفا عن الواقع فان الكشف الناقص ذاتي لهما. و يدلك على الشمول إمكان أن يكون أحد المتعارضين حجة لمجتهد و الآخر حجة لمجتهد آخر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 450

(إن قلت): ان الأدلة منصرفة عن صورة التعارض. (قلنا) قد تقدم و سيجي ء ان شاء اللّه تعالى في أدلة القائلين بجواز تقليد المفضول إنها تشملهما بإطلاقها.

(إن قلت): هذا يتم فيما إذا كان الدليل لفظيا، أما إذا

كان لبيا كالإجماع و نحوه فلا لأن المتيقن منه ما عدا المتعارضين. (قلنا) إنا نقطع بأن المجمعين لم يصدر منهم التقييد له بهذه الصورة فهو مطلق مضافا الى إمكان أن يقال انه لما كان معقد الإجماع موجودا فيهما بالنحو الموجود في غير المتعارضين و انما طرأ عليه في المتعارضين التعارض فقد كان منطبقا عليهما و شاملا لهما فلا وجه للرجوع للقدر المتيقن بل إنما صارا متعارضين بلحاظ الدليل اللبي باعتبار انطباق معقد الإجماع عليهما و إلا لما صارا متعارضين و يجري عليهما احكام التعارض لو كانت له أحكام. كيف و لو كان دليل الحجية لا يدل على حجيتهما لكانا من قبيل اللاحجتين المتعارضتين كقولي غير المجتهدين فإنهما لا يجري عليهما أحكام التعارض. (و إن شئت قلت): ان اجراء المجمعين احكام التعارض أو حكمهم بالتعارض هو أدل دليل على شمول معقد إجماعهم للمتعارضين.

(إن قلت): إن في صورة التعارض نعلم بكذب أحد الطريقين و لا يجب العمل على طبقه واقعا فتكون أدلة الحجية بالنسبة إليهما من قبيل العام المخصوص بالمجمل في سقوطه عن الاعتبار بالنسبة لأطراف العلم الإجمالي فعدم شمول أدلة الحجية ليس من جهة ان الحجة خصوص المطابق للواقع حتى يقال ان الملاك في الحجية وجود الشرائط لا مطابقة الواقع بل إنما هو للعلم الإجمالي المانع من التمسك بالعموم. (قلنا) مخالفة الواقع لا تمنع من حجية الطريق واقعا فان الطريق الكاذب إذا كان جامعا لشرائط الحجية هو حجة واقعا.

و كيف تكون المخالفة مانعة و لازم ذلك اختصاص حجية الطريق بخصوص

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 451

المطابق للواقع و لازمه سقوط الطريق عن الحجية لأنه مع اعتبار ذلك فلا بد من إحراز المطابقة و

مع إحرازها لا حاجة للطريق فاذا ظهر لك ذلك عرفت ان العلم الإجمالي بالمخالفة ليس علما إجماليا بالمخصص حتى يسقط العام عن الحجية في مورده و أما صورة العلم التفصيلي بالمخالفة فإنما تسقط أدلة الحجية معها لانكشاف الواقع و مع انكشاف الواقع لا أثر للطريق و لا جعل له.

(إن قلت): ان دليل الحجية مقيد بعدم العلم بالخلاف لا بنفس عدم الخلاف و في التعارض يوجد العلم بالخلاف كما في الأصول العملية. (قلنا) الدليل الشرعي لم يقيدها بذلك و إنما هو بحكم العقل. و العقل إنما يحكم في خصوص العلم التفصيلي دون الإجمالي و لو سلمنا عدم الشمول للمتعارضين فالمناط موجود فيهما و إلا لما جاز ان يثبت التخيير بينهما بدليل آخر.

(إن قلت): ان المقتضي لجعل الحجية هي المصلحة الواقعية و الامارة تكون بمنزلة الشرط لتأثيرها فلا بد من كون الواقع قابلا للتنجز بها. و المتعارضان المصلحة فيهما واحدة فلا تتنجز بكل منهما فلا يكون كل منهما حجة على الواقع.

(و بعبارة أخرى) ان سنخ المقتضي لا يقبل التعدد لأن تنجز الواقع الواحد على تقدير الإصابة لا يعقل فعليته في كليهما فان المفروض ان الواقع على تقدير ثبوته لا يكون إلا في ضمن أحدهما فهذا الأمر التقديري غير قابل للفعلية إلا في أحدهما فإذن لا بد في الحجية من كون الواقع قابلا للتنجز في كليهما مع انه واحد لا يتنجز إلا في ضمن أحدهما. (قلت) المقتضي للجعل هو احتمال الإصابة للواقع و ليست القابلية لتنجز الواقع هي المقتضية و إلا لما كان الكاذب مجعولا واقعا و لازمه تقييد أدلة الجعل بصورة عدم الكذب و هو لازم باطل لعدم إمكان إحرازه إلا بعدم العلم بالواقع و معه لا

حاجة للجعل.

و من هنا تعرف ما في دعوى مانعية العلم الإجمالي من شمول دليل الحجية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 452

لأن مانعيته إنما ترجع لتلك الأمور المذكورة و قد عرفت فسادها.

[عدم الترجيح بالمزية المحتملة]

(المقدمة الثانية) انه بعد ما كان الأصل في الأمارتين المتعارضتين هو التخيير فاحتمال التعيين بوجود مزية يحتمل الترجيح بها لا أثر له.

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 452

أما بناء على السببية فواضح لوجوب سلوكهما لوجود المقتضي للوجوب في كل منهما فيكونان من المتزاحمين و وجود المزية إنما يوجب الشك في وجوب ترجيحه على الآخر فيدفع بأصل البراءة فلا أثر لوجود مزية يحتمل الترجيح بها.

(إن قلت): إن الأصل عدم حجية المرجوح. (قلنا) إنها معارضة بأصالة عدم التعيين للراجح. و دعوى أن أصالة عدم حجية المرجوح ترجع إلى أصالة الإطلاق في الأدلة المانعة من العمل بغير العلم فهي ترجع لأصل لفظي و هو مقدم على أصالة عدم التعيين للراجح لأنه أصل عملي. (مدفوعة) بأن أصالة عدم التعيين للراجح أيضا ترجع لأصل لفظي لأنها ترجع لأصالة عدم تقييد دليل الحجية بتلك المزية المحتمل الترجيح بها و لا وجه لدعوى إجمال أدلة التقليد لما عرفت من إطلاقها و لو سلمنا إجمالها فهذا المجمل لا بد من إحرازه في كلا المتعارضين و إلا لم يتعارضا أصلا فيكون المخصص لأدلة حرمة العمل بغير العلم موجودا في كليهما على حد سواء و (بعبارة أخرى) ان الشك في الحجية ان كان من جهة المعارضة فهو يقتضي الشك في الحجية في كليهما لوجود

المعارضة بالنسبة إليهما معا و إن كان الشك في الحجية من جهة احتمال تعيين ذي المزية فالأصل البراءة عنه و إن كان من جهة احتمال مانعية المزية فالأصل عدم مانعيتها و هو أصل عقلائي في كل مورد أحرز فيه العلية و تأثيرها فيه و أحتمل مانعية شي ء عنه فان العقلاء يجرون عدمه. و لو أبيت عن إجراء الأصل في عدم المانعية فيرجع الشك فيها الى الشك في التعيين و قد عرفت أن الأصل عدمه. هذا كله مع غض النظر عن انه مع فرض إجمال أدلة التقليد فهي غير شاملة للمتعارضين فمقتضى القاعدة سقوطهما لا ترجيح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 453

الأعلم كما هو مطلوب الخصم.

(إن قلت): إن أصالة عدم تعيين فتوى الأفضل و البراءة منه بخصوصه غير جارية لأن التعيينية عبارة عن شدة الملاك فهي جهة محتملة في الحكم الفعلي المقطوع و الجهة غير قابلة للرفع كما هو الاشكال المعروف على إجراء أصالة البراءة عن التعيين عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير. نعم لو كانت التعيينية بملاك آخر يوجب إنشاء حكم آخر فتجري البراءة عنها إلا أنه غير صحيح للزوم اجتماع حكمين متماثلين في مورد واحد و لا وجه لاستصحاب عدم التعيين لعدم الحالة السابقة كذلك. (قلنا) لو سلمنا ذلك فالبراءة العقلية جارية و هي تقتضي رفع العقوبة على خصوص ترك ذي المزية كما قرر في محله.

(إن قلت): إن العقل لا يحكم بالتخيير إلا بعد إحراز التساوي و مع وجود المزية المذكورة يشك في التساوي فكيف يحكم بالتخيير بينهما. (قلنا) أن حكم العقل بالتخيير يتولد من إحراز الموضوع للحكم في كل منهما و لا يتوقف على إحراز التساوي لأن احتمال عدم

التساوي احتمال للمانع عن وجوب أحدهما و الأصل عدم المانع و عدم وجوب الآخر بعينه فمتى لم يثبت الترجيح للآخر عليه كان وجوب الامتثال ثابتا له كثبوته للآخر المحتمل للأهمية و لازم وجوب كل منهما في حد ذاته استقلال العقل بالتخيير بينهما.

(إن قلت): مع احتمال أهمية أحدهما و هو ذو المزية يكون مقطوع الوجوب و الآخر مشكوك الوجوب فالأصل عدم وجوبه فيتعين وجوب ذي المزية. (قلنا) قد أجاب المرحوم مرزا حبيب اللّه الرشتي عن ذلك بما حاصله ان احتمال أهمية أحدهما لا يجعل وجوب الآخر مشكوكا في نفسه إذ المفروض إحراز مقتضي الوجوب في كل منهما على سبيل القطع و اليقين و إلا خرج المقام من باب التزاحم بل يرجع الى الشك في التكليف فلو وقع التزاحم بين إنقاذ غريقين لم يجز ترجيح أحدهما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 454

باحتمال الأهمية لعلم أو شرف لأن وجوب إنقاذ أصل الغريق الصادق عليهما معلوم و مقتضاه وجوب إنقاذ كل منهما تخييرا بحكم العقل و لا يصرف عنه إلا بعد ثبوت وجوب إنقاذ أحدهما عينا حتى يكون وجوبه العيني الثابت بالدليل مانعا عن إنقاذ الآخر و لما لم يثبت الوجوب العيني كان وجوب القدر المشترك القاضي بالتخيير باقيا بحاله.

(إن قلت): انه بناء على السببية كما هو الفرض يكون المقام من تزاحم الواجبين و تزاحم الواجبين إنما يصحح التخيير بينهما إذا لم يكن ملاك الجعل أقوى في أحدهما و حيث كان ملاك الجعل في التقليد هو فتوى المجتهد كان الأعلم أشد اجتهادا من غيره و أقوى ملاكا. (قلنا) لم يحرز الملاك للجعل و إنما أحرز موضوعه و هو فتوى المجتهد و الجاعل قد اعتبر هذا الموضوع

من دون اعتباره للأزيد منه أو الأشد منه فيكون الموضوع للملاك محرزا في كليهما بهذا كله بناء على السببية.

و أما (بناء على الطريقية) فهكذا لا يجب الترجيح لذي المزية المحتمل رجحانه بها لاشتمال كل منهما على شرائط الحجية و شمول دليل الحجية لكل منهما على حد سواء كما تقدم فالمقتضي لحجية كل منهما موجود و ليس المانع إلا احتمال تعيين ذي المزية للحجية و هو منفي لعدم أخذ تلك المزية في أدلة الحجية فيكون اعتباره بخصوصه منافيا لما يقتضيه إطلاقها فيكون التخيير ثابتا بينهما كما لو لم تكن تلك المزية موجودة مضافا الى أنه لو كان احتمال الترجيح بذي المزية موجبا للترجيح لكان التساوي بين الطريقين في حكم العدم إذ كل طريق يوجد فيه مزية يحتمل فيها ذلك بل بناء على التوقف عند التساوي و الرجوع الى الأصل الموجود كما هو مذهب جماعة يكون الترجيح بذي المزية لم يثبت اعتبارها طرحا للأصل هذا مع تسليم إطلاق أدلة التقليد، و أما مع عدم إطلاقها فالكلام كما تقدم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 455

في صورة البناء على السببية.

(إن قلت): إذا كان اعتبار الامارة من باب الطريقية للإيصال إلى الواقع و وقع التعارض بين فردين منه و كان أحدهما أقرب الى الواقع من الآخر كانت تلك الأقربية مقتضية لإيجاب العمل به لأنها هي الملاك لإيجاب العمل. و المانع عنه الذي هو السبب الموجب للعمل بالمرجوح مشكوك و الأصل عدمه (قلنا) المانع محرز وجوده و هو وجود موضوع الحجية في المرجوح قال المرحوم السيد كاظم اليزدي «ره» انا لا نسلم وجود المقتضي لإيجاب العمل بالراجح بعينه لأن تعلق الغرض بإدراك الواقع كيف كان ممنوع. بل مقطوع

العدم و إلا لم يكن معنى لجعل الأصول بل الأمارات في حال انفتاح باب العلم مع أن مجرد وجود المقتضي لجعل الحكم مع الشك في الحكم لأجل الشك في المانع لا يثمر في ترتب الأثر ألا ترى، انا لو علمنا أن الفضيلة مقتضية لوجوب الإكرام لكن لا ندري ان الشارع أمر بالإكرام أم لم يأمر به لأجل المانع فإنه لا يحكم بوجوب الإكرام كيف و لازم هذا حجية كل ظن لأن كلا من أفراده له كاشفية عن الواقع و المانع عن جعله مشكوك و الأصل عدمه و هذا لا يتفوه به أحد (نعم) لو وصل إلينا من الشارع ما يدل على أن كل كاشف حجة و شككنا في خروج بعض الأفراد عن هذا الدليل تمسكنا بالمقتضي أي العموم و لذا تمسكنا في مسألة المتزاحمين بإطلاق الدليل لا بمجرد وجود المقتضي لإيجاب كل واحد منهما و (الحاصل) أن وجود المقتضي و الشك في المانع لا يثبت الحكم و لذا ترى العقلاء لا يعملون به فإنك لو علمت ان عند مولاك ضيف و هو يقتضي شراء الطعام له و لكنك احتملت المانع فلا تشتري اللحم: هذا مع انا لا نسلم ان المقتضي للجعل مجرد الكاشفية عن الواقع و ان كان جعله من باب الكشف إذ لعل المقتضي للعمل به على وجه الطريقية شي ء آخر غير الطريقية أو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 456

هي مع شي ء آخر سلمنا لكن الشارع اكتفى بهذا المقدار دون الزائد عليه كما اكتفى في صورة جعل الامارات عند الانفتاح.

(إن قلت): ان الإجماع قائم على ترجيح ذي المزية المحتمل رجحانها بها فقد حكي الإجماع عليه عن النهاية و عن غاية المبادي

و عن غاية المأمول و عن الاحكام و عن المختصر. و مخالفة بعض العلماء في مقابل جمهور العلماء لا يعبأ بها و إلا لم يبق للإجماع في غير الضروريات الفقهية مورد. (قلنا) ان هذا معناه رجوع للإجماع لا للأصل كما هو محل كلامنا مضافا الى مخالفة من هم فطاحل في العلم كالسيد المحقق صدر الدين شارح الوافية و المحقق القمي «ره» و لعله الظاهر المحكي عن رئيس المحدثين في أول أصول الكافي. مضافا الى ان المجمعين يحتمل استنادهم إلى أدلة القائلين بالترجيح مضافا الى أن المسألة لم تكن محررة في عصر الأئمة (ع) و عامة البلوى و يرجع فيها للترجيح بذي المزية مطلقا.

(إن قلت): ان ذي المزية أرجح من غيره و العدول من الراجح الى المرجوح قبيح عقلا. (قلنا) قد استدل بهذه القاعدة على المطلوب جملة من فطاحل العلم كما عن النهاية و التهذيب و المبادي و المنية فإن أرادوا إجرائها بالنسبة الى العبد المكلف فالعبد بعد ما يرى ان دليل الحجية متساوي بالنسبة إلى المتعارضين فيرجح ما كان يهوي العمل به فيكون عمله ترجيح للراجح.

و إن أرادوا إجرائها بالنسبة إلى الشارع المكلف فلا بد من دليل آخر يدل على أرجحية صاحب المزية عند الشارع و فرض الكلام عدم وجود الدليل على ذلك و إنما يحتمل الترجيح.

(إن قلت): ان مانعية ذي المزية بخصوصه عن فعلية الآخر محتملة بخلاف الآخر فإنه لا تحتمل مانعيته بالخصوص عن ذي المزية و لازم ذلك القطع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 457

بفعلية طلب ذي المزية و الشك في طلب الآخر. (قلت): لا نشك في طلب الآخر لشمول دليل الحجية له. و احتمال مانعية المزية من شموله له

يرجع الى احتمال التخصيص أو التقييد و الأصل عدمهما. مضافا الى أنا لو قلنا بإجراء أصالة عدم المانع فالأصل يقتضي عدم مانعية المزية من فعلية الآخر، و ان قلنا بعدم جريان أصالة عدم المانع فيكون المقام من الشك في التعيين و الأصل عدمه (إن قلت): ان ذي المزية المحتملة يكون أقوى الدليلين سندا أو دلالة، فلو لم يعمل بذي المزية لزم تعطيل الأحكام الشرعية أو تأسيس أحكام جديدة لأن جل الفقه بل كله ثابت بالترجيح المذكور فإن أغلب أحكام الفقه إنما ثبتت بتقييد المطلقات و تخصيص العمومات و سائر وجوه المجازات و كل ذلك من باب ترجيح أحد المتعارضين على الأخر بالاقوائية من الآخر كما هو المحكي عن صاحب المفاتيح مع الأمر منه بالتأمل و دعوى أن الشيخ الأنصاري «ره» قد ذكر ان التخصيص و التقييد و نحوهما. من وجوه تعارض النص و الظاهر، أو الظاهر و الأظهر خارج عن بحث التعارض لأن العام و الخاص مثلا لا يعدان من المتعارضين. (فاسدة) فإن كلامهم «ره» في وجوب العمل بأقوى الدليلين سندا أو دلالة بدليل ذكرهم المرجحات الدلالية و لا نسلم عدم صدق المتعارضين على العام و الخاص و المطلق و المقيد عرفا. (قلنا) لا يلزم تعطيل الأحكام الشرعية و تأسيس أحكام جديدة لو لم نرجح ذي المزية المحتملة و على المدعي إثباته و أما ترجيح الخاص على العام و نحو ذلك إنما هو لقيام الدليل على الترجيح. (مضافا) الى أن الغالب في الأدلة المتعارضة يكون جمعا دلاليا و مع عدمه يكون الدليل المعارض موهونا بإعراض الأصحاب عنه أو نحو ذلك من المرجحات فالرجوع الى التخيير عند التعارض بين ذي المزية المحتملة و بين غيره لا

يوجب اختلال نظام الفقه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 458

(إن قلت): ان المورد من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير في الحجية و الأصل هو الحكم بالتعيين كما صدر من جملة علماء العصر. (قلنا) ان أدلة الحجية إن كانت مطلقة مقتضى إطلاقها عدم اعتبار تلك المزية التي احتمل الترجيح و التعيين بها و إن كانت غير مطلقة فهي لا يحرز شمولها للمتعارضين و مقتضى القاعدة سقوطهما لا دوران الأمر بين التعيين و التخيير.

(إن قلت): إن العقلاء بنائهم على ترجيح ذي المزية على غيره كما هو المحكي عن كتاب الاحكام. (قلنا) لا نسلم ذلك و تعرف الكلام في ذلك مما ذكرناه في جواب (إن قلت) الاولى فراجع.

(إن قلت): ان العمل بذي المزية يوجب البراءة اليقينية للاتفاق على جوازه فيجب و لا كذلك العمل بالمرجوح فيجب العمل بالأول. (قلنا) بعد تساويهما في وجود موضوع الحجية كان كل منهما حجة و مقطوعية أحدهما في الحجية لا يوجب عدم حجية الآخر بعد وجود موضوع الحجية فيه.

(إن قلت): مع وجود المزية يكون أقوى ملاكا من الآخر بناء على السببية فيكون أهم منه فيقدم عليه. (قلنا) فرض الكلام ان المزية يحتمل الترجيح بها لا أنها مقطوع الترجيح بها و عليه فهي محتمل قوة الملاك بها و محتمل أهمية ذيها لا أنه مقطوع بذلك فلا يحرز معها فعلية الطلب في ذيها بعينه فيجري أصل قبح العقاب على ترك ذيها بخصوصه بلا بيان.

(إن قلت): ان العمل بأحد الدليلين لازم و باب العلم به منسد فيجب تعيينه بالظن. (قلنا) لا نسلم انه يجب تعيينه بالظن لحكم العقل بالتخيير بينهما و لو سلمنا انه يجب أن يعمل بأحدهما المعين فلا نسلم انه

يجب أن يشخص بالظن بل الواجب هو الاحتياط بالعمل بكليهما.

[الإيراد الخامس على الأصل الذي يقتضي تقليد الأعلم]

(و قد رد الأصل المذكور خامسا) بما حاصله أن مقتضى الأصل في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 459

المقام هو التخيير لرجوع الأمر إلى الشك في كون الأعلمية من المرجحات أم لا و الأصل عدم كونها منها و معه يثبت التخيير و هو المطلوب. و أجاب عنه في التقريرات بما توضيحه و حاصله ان الشك المذكور لما كان شكا في حجية المرجوح و الأصل عدمها لعدم قيام دليل من نقل أو عقل عليها أما عدم قيام النقل لعدم شمول دليل الحجية لصورة التعارض للقطع بمخالفة أحد المتعارضين للواقع و تعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح. و أما عدم قيام العقل فلأن العقل لا يذهب الى جواز الأخذ بالمرجوح مع وجود الراجح الظني في التخيرات التي تستند الى حكم العقل و ما قرع سمعك من ان المرجحية كالحجية محتاجة إلى الدليل فإنما هو في التخيير الشرعي الثابت بالدليل. (و بعبارة أخرى) ان التخيير المطلوب إثباته في المقام بين الأعلم و غيره أما شرعي أو عقلي لا سبيل للأول لعدم وفاء شي ء من الأدلة الشرعية بالتخيير بين قول الأعلم و غيره و لا الثاني لأن حكم العقل بالتخيير فرع التساوي في نظره و المفروض حصول الترجيح لأحدهما و لا سبيل الى القول بعدم اعتبار هذا الترجيح حيث ان المدار هو حكم العقل و مع احتمال الترجيح لا حكم للعقل بالتخيير. و أصالة عدم الترجيح لا ترفع نفس الاحتمال الذي من لوازمه العقلية عدم استقلال العقل بالتخيير و هو احتمال الترجيح هذا مضافا الى رجوع أصالة عدم الترجيح في المقام الى تخصيص العموم الذي دل

على حرمة العمل بما وراء العلم بدون مخصص. (و لا يخفى ما فيه) لما عرفت من أن دليل الحجية يشمل المتعارضين. و القطع بمخالفة أحدهما للواقع لا تمنع عن شمول دليل الحجية له لما عرفته في جواب. (الدعوى) ص 447.

و العقل يحكم بالتخيير لما رأى موضوع حكم الشارع موجودا فيهما بتمامه: و رجوع أصالة عدم الترجيح في المقام الى تخصيص العموم الدال على حرمة العمل بغير العلم بلا مخصص معارضة بأن تعيين الأعلم يرجع لتقييد أدلة الحجية بالأعلمية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 460

بلا مقيد و ذلك لأن الشك إنما كان في حجية المفضول حال التعارض لأنه في نفسه تشمله أدلة الحجية و لكن نشك أنه حال معارضته مع فتوى الأفضل حجه أم لا فان الفرض أن أدلة التقليد التي تدل على حجية الأفضل تدل على حجية المفضول في نفسه بحيث لو كانت فتوى هذا المفضول وحدها لما كانت أدلة التقليد قاصرة عن شمولها من دون فرق بينهما و إلا لما وقع التعارض بينهما و لكن نحتمل انه في هذه الحال أعني حال التعارض يسقط المفضول عن الحجية الثابتة له في نفسه و لكن هذا الاحتمال أما أن يكون من جهة أن التعارض هو المانع عن الحجية أو من جهة تقييد أدلة الحجية بالمزية الموجودة في الأعلم. و الاحتمال الأول لا وجه له و إلا لكان موجبا لتساقطهما لأن التعارض قائم بهما.

و الاحتمال الثاني لا وجه له لفرض أن الأدلة تشمل فتوى المفضول في حد ذاتها فليست مقيدة بمزية توجب اختصاصها بأحدهما و إلا لما كانت تشمل فتوى المفضول في حد ذاتها فلا بد لنا من الترجيح بالمزية من دليل خاص يدل

على أرجحية ذيها حال التعارض و مع فقده فأدلة الامارة المتعارضة تقتضي التخيير بينهما. (و بعبارة أخرى) أن الأمارتين المتعارضتين التي في إحداهما مزية لم يقم الدليل على اعتبار ذيها و لكن يحتمل اعتبار ذيها إن كان احتمال اعتبار ذيها من جهة أن نفس التعارض موجب لعدم شمول دليل الامارة لأنه موجب لذهاب الملاك أو موجب للمنع من الحجية فهو يستدعي سقوط كلا الأمارتين عن الحجية لا خصوص الفاقد للمزية لأن التعارض قائم بهما و هما على حد سواء من هذه الجهة مع أنه قد تقدم منا أن التعارض لا يمنع من شمول الأدلة للمتعارضين. و إن كان احتمال ذلك لا من جهة التعارض بل من جهة احتمال مانعية المزية من حجية فاقدها فهذا الاحتمال إن كان من جهة اعتبار المزية في أدلة حجية الامارة فهو باطل لفرض أن أدلة الامارة تشمل الفاقد لتلك المزية عند عدم المعارضة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 461

و تقتضي فعلية حجتها. و ان كان من جهة احتمال قيام دليل خاص على الترجيح بها و لا بد أن يكون هذا بعد فرض اقتضاء دليل الامارة الحجية الفعلية للمتعارضين حتى تصل النوبة إلى الترجيح بالمزية فان الترجيح إنما يكون لما هو الحجة لا لغيرها فهو منفي بالأصل بل ان دليل الامارة يستدعي الحجية الفعلية للفاقد للمزية كذي المزية على حد سواء و يمنع من وجود دليل الترجيح فيكون احتمال الترجيح لذي المزية منفيا به و لعل هذا مستند أصالة عدم المانع عن حجية الفاقد للمزية التي يثبت عدم الترجيح بها و هذا كله حتى لو قلنا بأن أدلة حجية الامارة لا إطلاق فيها فان الالتزام بوقوع التعارض بينهما

مع الترجيح لمحتمل المزية يستلزم ذلك لأنه لا بد أن يكون كل منهما حجة في نفسه حيث أن التعارض بنفسه لا يوجب السقوط من الحجية إذ التعارض فرع كون كل منهما حجة في نفسه. (و إن شئت قلت): إن الإطلاق في أدلة الحجية إن كان موجودا فأصالة الإطلاق تقتضي عدم اعتبار المزية في الحجية و هي حاكمة على أصالة حرمة العمل بالظنون.

و أما مع إجمال الأدلة فإن كان أحد الدليلين هو القدر المتيقن حجيته أخذ به لكنك قد عرفت انه على هذا لا يكون تعارضا بل يكون من قبيل الحجة و اللاحجة و لذا حتى مع عدم التعارض يكون الحجة هو القدر المتيقن.

و الحاصل إن من يقول بعدم شمول أدلة الامارة لمورد التعارض لا مجال له للرجوع لأصالة التعيين و جعل المقام من دوران الأمر بين التعيين و التخيير و من قال بالشمول لمورد التعارض فأصالة الإطلاق و العموم و الشمول تنفي احتمال ترجيح ذي المزية لأنه يرجع الى تقييد أدلة الحجية أو تخصيصها بذي المزية.

[تتمة]
اشارة

(ثمَّ بعد كتابتنا لهذا الفصل) رأينا لبعض أساتذة العصر كلاما في هذا الأصل فأحببنا التعرض له تتميما للفائدة. قال أما المرحلة الثانية فيما هو مقتضى الأصل العملي عند اليأس عن الدليل على كل من القولين، و استقرار الشك في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 462

اعتبار الأعلمية. و الكلام في ذلك إنما يقع بعد الفراغ عن عدم وجوب الاحتياط أما للإجماع أو لأجل بناء العقلاء أو لغير ذلك و عليه فالمرجع قاعدة الاشتغال لأن المقام من الدوران بين التخيير و التعيين في الحجية و قد مرّ أنه لا بد من الأخذ بمحتمل التعيين و هو فتوى الأعلم:

و في كلامه هذا مواقع للنظر

[المناقشة مع بعض المعاصرين]
(أولا) انه لا يرجع الى قاعدة الاشتغال في الطريق عند التعارض

إلا بعد الفراغ عن عدم تساقطهما لا عند عدم وجوب الاحتياط لأنا إذا قلنا بتساقطهما عند التعارض فيرجع الى الأصل العملي في الفروع و لا يكون قول الأعلم متيقن الحجية لسقوطه بالمعارضة و لعله اشتبه عليه الحال بالأخبار فتخيل ان المقام من قبيل الاخبار وفاته أن الأخبار قد قام الدليل على عدم سقوط المتعارضين فيها عن الحجية بواسطة أدلة التخيير. (و كيف كان) فما نحن فيه لا يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير بين الفتويين إلا إذا قلنا بعدم سقوطهما عن الحجية عند التعارض إما بقيام الإجماع على عدم السقوط و إما لشمول أدلة الحجية لهما عند التعارض. لأنا إذا قلنا بإجمال أدلة الحجية فلم يحرز شمولها لفتوى الأعلم عند التعارض لفرض عدم الإطلاق لها بالنسبة لحال التعارض.

و أما إذا قلنا بتقييدها بصورة عدم التعارض فالأمر واضح لخروج المتعارضين حينئذ عن الحجية قطعا، و إذا ثبت بأن ما نحن فيه لا يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير إلا إذا قلنا بعدم سقوطهما معا عن الحجية عند التعارض ظهر لك انه لا وجه لأن يبني قاعدة الاشتغال المذكورة على عدم وجوب الاحتياط و إنه كان عليه أن يبنيها على عدم تساقطهما عن الحجية في باب التعارض فإنه حينئذ يحتمل أن يكون أحدهما حجة أو كليهما حجة كما أنه لا يكون المقام بعد عدم وجوب الاحتياط إلا من قبيل دوران الأمر بين تعيين الأعلم و بين سقوطهما عن الحجية و الرجوع إلى الأصل و بين التخيير

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 463

بينهما و معه لا يقين بالحجية لأحدهما بعينه.

(إن قلت): إن

الإجماع الذي أقيم على التقليد أو بناء العقلاء القدر المتيقن منه هو حجية فتوى الأعلم. (قلنا) أن الإجماع حاله حال الأدلة اللفظية لأنه إن كان لمعقده إطلاق يشمل صورة التعارض فهو يشملهما كليهما و هذا يقتضي التخيير لأن أصالة الإطلاق تقتضي عدم التقييد بالأعلمية و إن كان مجملا لا إطلاق له فهو كما يحتمل اختصاصه بغير المفضول في صورة التعارض يحتمل اختصاصه بغيرهما أعنى بغير المفضول و الأفضل في صورة التعارض لعدم الإطلاق في معقده و ان كان القدر المتيقن منه ذلك فهو رجوع للإجماع لا للأصل و هو خلاف الفرض مع انه يلزم منه عدم حجية فتوى المفضول عند عدم المعارضة و هو لا يلتزم بذلك مع انه إنما يتم إذا لم يكن دليل آخر له إطلاق. و عليه نفيه.

(و ثانيا) إن قوله قد مرّ أنه لا بد من الأخذ بمحتمل التعيين و هو فتوى الأعلم.

قد عرفت ما فيه فإنه قد مر منا عدم وجوب ذلك لما عرفته من عدم وجود قدر متيقن في البين لاحتمال عدم حجيتهما حال التعارض هذا إذا كان كلامه من جهة الرجوع للفطرة مع قطع النظر عن أدلة التقليد و أما مع النظر إلى أدلة التقليد و قطع النظر عن الأدلة على ترجيح الأعلم فإن قلنا بإطلاق أدلة التقليد و شمولها لمورد المعارضة فالأصل هو التخيير لأن الترجيح بالمزية موجب لتقييدها و أصالة الإطلاق تمنع من ذلك و لا تصل النوبة إلى التمسك بعموم أدلة حرمة العمل بغير العلم على عدم حجية المفضول حال المعارضة لأن أدلة التقليد المطلقة قد قيدتها و هي تقتضي حجية كل منهما و إن كانت أدلة التقليد مجملة فهي كما يحتمل عدم إطلاقها بالنسبة لفتوى المفضول حال المعارضة كذلك يحتمل عدم إطلاقها بالنسبة لفتوى الأفضل حال المعارضة فلم يكن

قدر متيقن في البين.

(إن قلت): إن بناء العقلاء قائم على تقليد الأفضل عند التعارض

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 464

مع المفضول. (قلنا) لا نسلم ذلك و إلا لعطل ذوي المهن. نعم هو سبيل الاستحسان عندهم كما تقدم ذلك منا مضافا إلى أن هذا رجوع للأدلة على حجية فتوى الأعلم و هو خلاف الفرض. (ثمَّ قال): نعم هنا شبهة لعلها تختلج بالبال و هي أن مقتضى أصالة البراءة عدم العقاب على مخالفة فتوى الأعلم كما ان مقتضى حديث الرفع عدم اعتبار المزية لفتوى الأعلم إذ اعتبارها كلفة على المكلفين. (ثمَّ دفعها) بما حاصله ان الأمارات لا يعاقب على مخالفتها لأن شأنها الطريقية و ليس العمل على طبقها واجبا نفسيا و لذا لو خالف الامارة و أتى بالواقع اتفاقا لا يعاقب إلا على القول بالعقاب على التجري فالامارات يقطع بعدم العقاب على مخالفتها فلا يجري أصل البراءة فيها! و البراءة عن مخالفة الواقع لو صادفت فتوى الأعلم الواقع غير جارية لتنجز الواقع بالعلم الإجمالي أو بنفس الأمارتين إذ الأصل في كلا الطرفين معارض بالأصل في الطرف الآخر و منه يظهر الجواب عن الأصل بالتقرير الثاني لأن المزية في الحجية لا عقاب على مخالفتها في نفسها. (و لا يخفى ما فيه) فان العقاب على ترك ذي المزية مع فعل فاقدها مرفوع حتى لو كان بترك ذي المزية يكون الواقع قد ترك فالعقاب المرفوع إنما رفع عن ترك الواقع في هذه الحال نظير من شك في وجوب شي ء في حال خاص. فأصل البراءة المدعى في المقام هو أصل البراءة عن الواقع في حال إتيان فاقد المزية و هذا الأصل لا يعارضه أصل البراءة في الطرف الآخر

للقطع بعدم العقاب على ترك فاقد المزية مع فعل ذي المزية. و هذا هو أصل البراءة الذي يقتضي عدم تعيين ذي المزية لا أصل البراءة عن الواقع في ضمن فتوى الأعلم مطلقا إذ هو يرفع التكليف و نحن في المقام نريد رفع التعيين و من هذا يظهر ما في جوابه عن الأصل بالتقرير الثاني (ثمَّ ذكر أنه) قد حقق في بحث الترتب إن التزاحم بين الخطابين يوجب تقييد كل منهما بترك الآخر إذا كانا متساويين لعدم معقولية بقاء الإطلاق بالنسبة إلى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 465

فعل الآخر و تركه لأنه من طلب الجمع بين الضدين. و لا يحضرني كلامه في بحث الترتب و ما ذكره هنا لا يخفى ما فيه فإنه بالتقييد المذكور أيضا يلزم طلب الجمع بين الضدين قبل الإتيان بكل منهما فلا ينفع التقييد المذكور في رفع المحذور (ثمَّ ذكر) انه إذا كان أحدهما أهم يبقى خطابه على إطلاقه و يتقيد خطاب المهم بترك الأهم تحفظا للأهمية. و لا يخفى ما فيه فإنه إن أراد الخطابين المستفادين من أدلة التقليد المتعلقين بالفتويين فهما خطابان سلوكيان لا أهمية لأحدهما على الآخر إذ هما يرجعان الى خطاب واحد قد وقع التزاحم بين أفراده فكيف يتصور الإطلاق بالنسبة لأحد الفردين دون الآخر مع كون الخطاب واحد.

و إن أراد الخطابين الذين تضمنتهما الفتويين فالعقل إنما يحكم بترجيح ما هو موافق للاحتياط ترجيحا استحسانيا لفرض قيام الحجة عليهما و مقتضى ذلك هو التخيير بينهما. (ثمَّ ذكر) أن رجوع التعارض الى التزاحم على القول بالسببية كما هو ظاهر كلام الشيخ «ره» مما لا أساس له لأن التزاحم بين الحكمين إنما هو فيما إذا كان التنافي

ناشئا من عدم قدرة المكلف على امتثالهما معا بعد الفراغ عن إمكان جعل كلا التكليفين في نفسهما كما في إنقاذ الغريقين و أما مع فرض عدم إمكان اجتماع التكليفين في مقام الجعل فلا معنى لتحقق التزاحم لأنه قد يكون التنافي بين الدليلين بالتناقض في نفس الحكمين كالفتوى بوجوب شي ء و فتوى الآخر بعدم وجوبه و قد يكون بالتضاد بينهما كما إذا أفتى أحدهما بوجوبه و الآخر بحرمته و قد يكون من جهة التضاد في المتعلقين مع عدم ثالث لهما كما لو أفتى أحدهما بوجوب الحركة و الآخر بالسكون فان التكليف بكل منهما تعيينا تكليف بغير المقدور و تخييرا طلب للحاصل و قد يكون من جهة التضاد في المتعلقين مع وجود ثالث لهما كما لو دل أحدهما على وجوب الجمعة و الآخر على الظهر فإنه لا يصح لتنافي الدليلين بحسب الدلالة الالتزامية فإن كل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 466

منهما يدل على عدم الآخر التزاما للعلم إجمالا بكذب أحدهما فرضا فيرجع الى التناقض في مقام الجعل. (و لا يخفى ما فيه) لما قد تقدم من أن السببية التي يذهب إليها الشيخ «ره» هي السببية في السلوك فاذا قام طريقان؟؟؟ في سلوك كل منهما مصلحة و ملاكا لحدوث وجوب السلوك حتى لو كان أحدهما حكما لا اقتضائيا كما لو دل أحدهما على الإباحة و الآخر على الحرمة فيكون المقام من قبيل الواجبين المتزاحمين كوجوب إنقاذ الغريقين فقد اتضح رجوع التعارض بناء على السببية الى التزاحم بين وجوبي السلوكين للطريقين المتعارضين.

(الدليل الثاني لوجوب تقليد الأعلم) الإجماع

على ذلك المحكي في مجمع الفائدة. و عن ظاهر كلام الشهيد الثاني و عن السيد «ره» في الذريعة و البهائي و في المعالم انه

قول أصحابنا الذي وصل إلينا. (و لا يخفى ما فيه) فقد منعه غير واحد من المتأخرين و قد عرفت مخالفة المحقق الثالث و الشيخ الشريف و النراقي صاحب المناهج و يعزى ذلك للأردبيلي و غيرهم من متأخري المتأخرين.

و (بعبارة أخرى) ان المحقق من الإجماع غير محقق و المنقول منه ليس على وجه يمكن الاعتماد عليه لأن ما حكاه في مجمع الفائدة من حكاية الإجماع على ذلك عن بعض لم يعرف الناقل منه فلعله ممن لا يكون دعاويه و أخباره يعتمد عليها. مضافا الى احتمال استناد المجمعين إلى الأدلة الموهونة المذكورة.

(الدليل الثالث لوجوب تقليد الأعلم) الأخبار الدالة على ترجيح الأعلم
اشارة

على غيره (منها) مقبولة عمر بن حنظلة التي رواها المشايخ الثلاثة و لا وجه للمناقشة في سندها بعد ما كانت مقبولة معمولا بها فهي منجبرة بعمل الأكثر و قد تمسك بهذه الرواية غير واحد من الأعاظم منهم الفاضل الهندي و الفاضل المازندراني و الشيخ الأنصاري «ره» على ما حكي عنهم قال المحقق الداماد في الرواشح.

[نقل مقبولة عمر بن حنظلة بأجمعها و الدليل على اعتبارها]
اشارة

و مقبولات الأصحاب كثيرة منها مقبولة عمر بن حنظلة التي هي الأصل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 467

عندنا في استنباط أحكام الاجتهاد و كون المجتهد العارف بالأحكام منصوبا من قبلهم (ع) و قال صاحب المعالم انه وجد بخط والده الشهيد «ره» ما صورته عمر بن حنظلة غير مذكور بجرح و لا تعديل و لكن الأقوى عندي انه ثقة لقول الصادق (ع) في حديث الوقت (إذن لا يكذب علينا) و قال المجلسي «ره» في مرآة العقول إن حديث عمر بن حنظلة موثق تلقاه الأصحاب بالقبول.

و بهذا يظهر جبران ضعف الرواية. و هي قال عمر بن حنظلة سألت أبا عبد اللّه (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما الى السلطان أو الى القضاة أ يحل ذلك قال من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم الى الطاغوت و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا و إن كان حقه ثابتا له لأنه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه أن يكفر به قال تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قلت فكيف يصنعان قال ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما

فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم اللّه و علينا رد و الراد علينا راد على اللّه و هو على حد الشرك باللّه قلت فان كان كل رجل يختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما و كلاهما اختلف في حديثكم قال الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما و لا يلتفت الى ما يحكم به الآخر قال قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر قال فقال ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمهما و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه و إنما الأمور ثلاثة أمر بين رشده فيتبع، و أمر بين غيه فيجتنب، و أمر مشكل يرد علمه الى اللّه تعالى و الى رسوله (ص). قال رسول اللّه (ص) حلال بيّن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 468

و حرام بيّن و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات و من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات و هلك من حيث لا يعلم قال قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم قال ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب و السنة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكم الكتاب و السنة و وافق العامة قلت جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفا لهم بأي الخبرين يؤخذ قال ما خالف العامة ففيه الرشاد فقلت جعلت فداك

فان وافقهما الخبران جميعا قال ينظر الى ما هم إليه أميل حكامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر قلت فان وافق حكامهم الخبرين جميعا قال إذا كان كذلك فارجه حتى تلقى إمامك فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات. و وجه استدلالهم بها على وجوب تقليد الأعلم ان الامام قدّم قول الأعلم و الأفقه على غيره عند المعارضة و المخالفة و هو المطلوب.

[ما يورد على الاستدلال بمقبولة عمر بن حنظلة]

(لا يقال) ان المراد بالحكم هو فصل الخصومة و القضاء لا الفتوى بقرينة السؤال عن منازعة الرجلين في دين أو ميراث فتكون الرواية أجنبية عما نحن فيه. لأنا نقول:

(أولا) الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم و الفتوى فكل من قال بتقديم حكم الأعلم قال بتقديم فتواه و قد اعترف بهذا الإجماع صاحب المفاتيح في ظاهر كلامه و اعترف به الشيخ الأنصاري «ره».

(و ثانيا) إن المراد بالحكم في الرواية ليس ما هو المصطلح عند الفقهاء أعني القضاء بل الظاهر أن المراد به المعنى اللغوي المتناول للفتوى مثل قوله تعالى في غير موضع وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ* الآية. بدليل عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

(و ثالثا) ثبوت الملازمة بين الحكم و الفتوى في الشبهات الحكمية فإن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 469

القاضي في الشبهات الحكمية لا يحكم بشي ء إلا إذا أفتى به فاذا رجح الحكم بمناط الأعلمية فلا بد من ترجيح تلك الفتوى بهذا المناط مضافا الى قول الراوي:

«و كلاهما اختلفا في حديثكم» فان ظاهره كون الاختلاف بينهما ليس من جهة اختلاف البينات أو الايمان و إنما هو من جهة الاختلاف في الفتوى فان المنازعة قد تكون من جهة الاشتباه في الحكم الشرعي فيرجعان الى من يحكم بينهما

بالفتوى و قد يكون من جهة الاشتباه في الأمور الخارجية فيحكم بينهما بالبينات و الايمان كما أن علماء الفقه في عصر الأئمة (ع) اختلافهم بالفتوى يكون باختلاف الحديث الذي يستندون اليه و كانت فتاواهم غالبا بلسان الحديث.

(مضافا) الى قوله (ع): الحكم ما حكم به أصدقهما في الحديث فان صدق الحديث إنما يناسب ترجيح الفتوى التي هي بمنزلة الحديث دون القضاء الذي هو إنشاء محض. مضافا الى أنه بعد ذكر المرجحات في الرواية قال الراوي:

فقلت إنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه قال فقال ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فإن الأمر بالنظر الى مدرك الحكمين من الروايات و الأخذ بالمشهور لا يلائم تعارض الحكم بمعنى القضاء و إنما يناسب الفتوى لأن شغل المترافعين ليس النظر الى مدرك الحكمين و الاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر بالإجماع مضافا الى انه إذا تعارض الحكمان و لم يكن في أحدهما مزية على الآخر فالمرجع هو أسبق الحكمين بل لا يبقى بعد صدور الحكم من أحد الحكام محل لحكم الآخر و لو حمل الرواية على ما إذا كان الحكمان يتساقطان حينئذ فلا وجه للأخذ بالمرجحات بخلاف الاختلاف في الفتوى المتعارضة فان السبق و اللحوق لا عبرة بهما أصلا مضافا الى أن الرواية فرض فيها اجتماع الحكمين في المسألة المتنازع فيها و الاجتماع يتصور على وجوه ثلاثة كلها بعيد إرادتها من الرواية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 470

لو أريد من الحكم القضاء بخلاف ما لو أريد منه الفتوى و ذلك لأن الاجتماع.

إما أن يكون المقصود منه صدور الحكم منهم أجمع و هذا الفرض

بعيدا جدا لم نسمع بوقوع مثله في شي ء من الأزمنة فلا وجه لحمل الرواية عليه. و إما أن يكون المقصود منه صدور الحكم من أحدهم و يكون المقصود من حضور الباقين إعانتهم للحاكم في مقدمات الحكم لئلا يخطأ و هذا لا وجه لحمل الرواية عليه لأن صريح الرواية صدور الحكم من كل من الحكمين و المفروض عدم صدور الحكم إلا من أحدهم. و إما ان يكون المقصود صدور الحكم من أحدهم و تنفيذ الباقين له و إمضائهم له و هذا بعيد أيضا حمل الرواية عليه لعين ما ذكرناه في الوجه الثاني و حينئذ فيتعين حمل الرواية على الفتوى فإنها بذلك تنطبق على جميع الصور المذكورة في غاية الوضوح فان اختلاف الفتاوى لا ينافي شيئا من المقاصد الثلاثة فتلخص ان ظاهر الرواية هي إنشاء الفتوى في القضية المتنازع فيها و حلها بالفتوى المنطبقة عليها.

(إن قلت): لا وجه لحمل الرواية على التقليد و أخذ الفتوى أيضا فإن أعمال هذه المرجحات ليس من شأن المقلدين ضرورة ان اللازم في حق المقلد هو الأخذ بالفتوى من دون مراجعة مدركها حتى يحتاج إلى إعمال المرجحات (قلنا) هذا من جهة اختلاف المقلدين في زماننا مع المقلدين في زمن الأئمة عليهم السلام إذ يمكن أن يكون المقلدون في ذلك الزمان من أرباب الاجتهاد و لا ينافي ذلك تقليدهم لحصول الاطمئنان لهم بأن المذكور في مقام الفتوى هو مضمون الرواية المسموعة عن الإمام ألا ترى إن الصادق (ع) أمر عبد اللّه ابن أبي يعفور مع كونه من أصحاب الرواية بالرجوع إلى الثقفي فالظاهر انهم كانوا يعتمدون على ما عندهم من الروايات و إذا احتاجوا في واقعة إلى حكم كانوا يسألون بعضهم بعضا فيعتمدون

على جوابه.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 471

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية أولا) بأن دعوى عدم التفكيك بين الحكم و الفتوى بالإجماع المركب فاسدة لأنه يجوز الحكم لحل النزاع بين مجتهدين و لا يجوز لهما التقليد. و يجوز صدور الفتوى من المجتهد بخلاف الحكم من المجتهد الآخر و لا يجوز للمجتهد الحكم بخلاف حكم الآخر (و لا يخفى ما في هذا الجواب) فان المدعي يدعي بواسطة الإجماع المركب ان كل من جعل الأفضلية شرطا للقضاء جعلها شرطا للفتوى فالأولى أن يقال بعدم تسليم الإجماع المركب لذهاب بعضهم الى اشتراط الأعلمية في القضاء دون الفتوى و أما الملازمة فهي باطلة لإمكان أن يقال ان الترجيح بالأعلمية في الحكم لحسم النزاع بخلاف نفس الفتوى حيث لا نزاع حتى يحسم بالمرجحات.

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية ثانيا) ان الحكم في الرواية ليس كما تخيله المستدل من ان المراد به الفتوى بل المراد به ما يفصل به الخصومة في مورد الترافع لقوله (ع) فيها و ما يحكم له فإنما يأخذه سحتا. و لكون موردها التنازع.

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية ثالثا) بأنها إنما تدل على تقديم فتوى الأعلم عند اختلافه مع غيره بعد رفع المتنازعين أمرهما اليه و لا دلالة فيها على المنع من الاستفتاء من غير الأعلم إذا لم يكن تنازع و لا على المنع عن اختيارهما غير الأعلم إلا أن يدعى القول بعدم الفصل و هو غير مسلم.

(و ربما يشكل على الاستدلال بالرواية رابعا) ان هذه الرواية إنما تدل على اشتراط الأعدلية و الأورعية و الأصدقية في تقديم الأعلم لا تقديم الأعلم مطلقا و محل النزاع هو الأخير و القائل بوجوب تقديم الأعلم لا

يقول باشتراطها و لكن يمكن الجواب عنه بالقول بعدم الفصل.

(و ربما يشكل على الرواية خامسا) بأنها لا تدل على المطلوب إذ ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 472

المطلوب هو إثبات وجوب الرجوع في الفتوى الى أعلم المجتهدين و الرواية إنما تدل على وجوب الرجوع الى الأعلم ممن اختاره المتنازعان.

(و ربما يشكل على الرواية سادسا) كما عن المفاتيح أن ظاهر هذه الرواية هو اختصاصها بالرواية و عدم شمولها للفتوى و لا أقل من التشكيك بالنسبة إليها فإن المتبادر في زمن التكلم بها ليس إلا الأعلم بالرواية لعدم وجود الأعلم بالفتوى في ذلك الزمان أو ندرته و ليس فيها لفظ عام يشمل الفتوى و إنما المذكور فيها مطلقات فتنصرف عن الفرد النادر و عليه فحملها على الفتوى لا يخلو عن مجازفة فالظاهر من المقبولة هو فصل الخصومة بنقل الرواية لا بالفتوى بدليل أمر الإمام (ع) السائل بالتحري و النظر في مستند الحكمين و أمره (ع) بالترجيحات مع أن ذلك لا يصح في باب الفتوى إذ ليس على العامي أن يرجح احدى الفتويين على الأخرى.

(إن قلت): إن الترجيح بالأفقهية و الأعلمية في المقبولة يناسب الإفتاء. (قلنا) ان الترجيح بذلك لعله باعتبار تطبيق الرواية على المورد فان ذلك يحتاج إلى معرفة معناها و عدم المخصص لها و المعارض لها أو لما قيل من أن الأغلب نقل الرواية بالمعنى فيتفاوت النقل وضوحا و خفاء بالفقاهة و الأفقهية.

[بقية الأخبار الدالة على وجوب تقليد الأعلم و المناقشة فيها]

(و من الاخبار الدالة على تقديم الأعلم) رواية الصدوق عن داود بن حصين عن أبي عبد اللّه الصادق (ع) في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم

قال عليه السلام ينظر الى قول أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه و لا يلتفت الى الآخر. و يعلم ما فيها مضافا لضعفها مما سبق فيما قبلها من مقبولة عمر بن حنظلة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 473

(و منها) خبر موسى بن أكيل عن أبي عبد اللّه (ع) عن رجل بينه و بين آخر منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما، قال: و كيف يختلفان؟ قلت: حكم كل منهما للذي اختاره الخصمان فقال عليه السلام: ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه. و هذه الرواية مروية عن القيسري أيضا و لعله لقب موسى بن أكيل: و يعلم ما فيها مضافا لضعفها مما سبق في مقبولة بن حنظلة.

و (منها) المروي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (ع) في كتابه إلى مالك الأشتر اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك و يعلم ما فيه مضافا لضعف سنده ما تقدم في مقبولة عمر بن حنظلة. مضافا الى ظهور سوقها مساق الاستحباب و إلا لكان اللازم تولي مالك الأشتر للقضاء لأنه الأفضل و لكان اللازم أن يختار للقضاء شخص واحد يرجع له الناس في كل البلدان لا انه يختار لكل بلد شخص واحد.

و (منها) المروي عن كتاب الاختصاص قال رسول اللّه (ص): من تعلم علما ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس الى نفسه يقول أنا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار: ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها فمن دعى الناس الى نفسه و فيهم من هو أعلم منه لم ينظر اليه يوم القيامة. و هو مضافا الى ضعف سنده انه ظاهر في الأعلمية بشؤون

الرئاسة و الإدارة لشؤون المسلمين و نحن قد سبق منا عدة مرات إن الزعامة الدينية التي هي منصب الإمامة غير المرجعية في معرفة الأحكام فإنها تستدعي الأعلمية بشؤون المسلمين و مصالحهم و مضارهم و ما يصلح شؤونهم و أمورهم في كل صقع صقع ففي البحار في باب استعمال العلم عن الباقر (ع) قال من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 474

و في المستدرك عن تفسير العياش بسنده عن أبي عبد اللّه عن أبيه (ع) قال:

من ضرب الناس بسيفه و دعاهم الى نفسه و في المسلمين من هم أعلم منه فهو ضال متكلف، قاله لعمرو بن عبيد حيث سأله أن يبايع عبد اللّه بن الحسن، و عن الشيخ بإسناده عن علي بن إبراهيم نحوه و في كتاب الغيبة بسنده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد اللّه يقول من خرج يدعو الناس اليه و فيهم من هو أعلم منه و في نسخة من هو أفضل منه فهو ضال مبتدع و من ادعى الإمامة و هو ليس بإمام فهو كافر. و في فقه الرضا (ع) و أروي من دعى الناس الى نفسه و فيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضال. و في البحار عن كتاب البرهان بسنده عن علي بن الحسين (ع) في خبر طويل قال قال الحسن بن علي (ع) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ما ولت أمة أمرها رجلا و فيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى

يرجعوا الى ما تركوا. و عن رسول اللّه أيضا إمام القوم وافدهم فقدموا أفضلكم. مضافا الى انها انما تدل على حرمة دعوى العالم لنفسه لا على رجوع الناس اليه كيف و الاخبار متضافرة على ان اللّه أخذ على العلماء ان يعلموا و على الجهلاء ان يتعلموا و لعل المتأمل في الأخبار الواردة في في ذم علماء السوء و غيرها يرى ان هذا الخبر انما هو ناظر لعلماء العامة و ان المراد بالأعلم هو الامام المفترض الطاعة ففي المحكي عن معاني الاخبار و عيون أخبار الرضا (ع) عن ابن عبدوس عن ابن قتيبة عن حمدان بن سليمان عن الهروي قال سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (ع) يقول: رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا فقلت له و كيف يحيي أمركم قال يتعلم علومنا و يعلمها للناس فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا قال: قلت يا ابن رسول اللّه فقد روي لنا عن أبي عبد اللّه (ع) انه قال من تعلم علما ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء أو ليقبل بوجوه الناس اليه فهو في النار فقال (ع): صدق جدي (ع) أ فتدري

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 475

من السفهاء؟ فقلت لا. قال: قصاص مخالفينا. و تدري من العلماء؟ فقلت لا. فقال: هم علماء آل محمد (ص) الذين فرض اللّه طاعتهم و أوجب مودتهم ثمَّ قال: و تدري ما معنى قوله أو ليقبل بوجوه الناس اليه؟ قلت لا، قال:

يعني بذلك ادعاء الإمامة بغير حقها و من فعل ذلك فهو في النار. هذا مضافا الى أن اعراض الأصحاب عن التمسك بهذه الرواية على اعتبار الأعلمية في المفتي مما يدل على عدم فهمهم منها

ذلك. مضافا الى ان إطلاقها و سياقها يقتضي وجوب الرجوع الى الأعلم حتى مع موافقة المفضول في الفتوى له و هذا ينافي أمر الإمام عليه السلام بالرجوع لمثل يونس مع وجود الامام (ع) و هو أعلم منه.

(و منها) المروي عن عيون المعجزات انه لما قبض الرضا (ع) كان سن الجواد (ع) سبع سنين فاختلفت الكلمة في بغداد و كان وقت الحج فاجتمع فقهاء بغداد و الأمصار ثمانون رجلا و قصدوا المدينة فأتوا دار الصادق (ع) لأنها كانت فارغة و خرج إليهم عبد اللّه بن موسى فسألوه عن أشياء أجاب عنها بغير الحق فورد على الشيعة ما غمهم و حيرهم و قالوا لو كان الجواد (ع) كاملا لما كان من عبد اللّه من الجواب بغير الحق فلما هموا بالانصراف فتح عليهم باب من صدر المجلس و دخل موفق و قال هذا الجواد (ع) فقاموا بأجمعهم و سلموا عليه فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحق ففرحوا و دعوا له و قالوا له ان عمك عبد اللّه أفتى بكيت و كيت فقال لا إله إلا اللّه يا عم انه عظيم عند اللّه ان تقف غدا بين يديه فيقول لك لم تفتي عبادي بما لم تعلم و في الأمة من هو أعلم منك. (و فيه) ان ظاهر الرواية ان المراد بالأعلم هو العالم في مقابل الجاهل لأن عبد اللّه كان جاهلا بالمسائل و لذا الامام (ع) وبخه على الفتوى بدون علم فالمقابل له هو العالم فالإمام (ع) يقول له: ان باب العلم غير منسد حتى تحكم بمقتضى عقلك و مخيلتك فان في الأمة من هو عالم يمكن معرفة المسائل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص:

476

منه مضافا الى ان هذه الرواية تخص الإمامة فكأنه يقول له كيف تفتي بما لا تعلم و أمامك موجود فلا ربط لها بما نحن فيه. و لعله بالنظر في الجواب عن رواية الاختصاص المتقدمة عليها يظهر لك إيرادات أخرى على الاستدلال بها.

و من ذلك يظهر لك الجواب عن رواية الصدوق في معاني الأخبار بإسناده للباقر (ع) يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم و معرفتهم فان المعرفة هي الدراية للرواية و بالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان إني نظرت في كتاب علي فوجدت فيه ان قيمة كل امرئ و قدره معرفته.

ان اللّه يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا، هذا قدر الجهد في جمع الروايات التي يمكن أن يستدل بها للمقام و قد عرفت ما في الاستدلال بها.

(الدليل الرابع لوجوب تقليد الأعلم) العقل

و حاصله ان الظن الحاصل من قول الأعلم أقوى من قول غيره و أقرب الى الواقع لزيادة العلم المانعة من زيادة الخطأ فيجب العمل به عينا لأن اتباع أقوى الظنين واجب عقلا على العامي كما على المجتهد أن يتبع أقوى الأمارتين لما في خلافه من الضرر المظنون الواجب دفعه عقلا و نقلا و للزوم التسوية بين الراجح و المرجوح في الحجية و ترجيح المرجوح على الراجح في العمل بقول الأدون و العقل مستقل في الحكم بقبح كل منهما. (أما الصغرى) فوجدانية: لأن لزيادة العلم تأثيرا آخرا في إصابة الواقع. (و أما الكبرى) فللاتفاق عليها كما يظهر من تتبع أقوال العلماء في باب التعارض بين الأمارتين و لشهادة بداهة العقل عليها.

(و أورد على هذا الدليل) تارة بمنع الصغرى، و أخرى بمنع الكبرى.

(أما منع الصغرى) فقد صدر عن جماعة من المحققين

كالنراقي و القمي و صاحب المفاتيح و الفصول و قد سبقهم الى ذلك الشهيد الثاني في محكي المسالك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 477

و يرجع منعهم من الصغرى الى أن الظن من المفضول قد يكون أقوى بملاحظة المرجحات الخارجية كموافقة المشهور أو أعلم الأموات أو ان المفضول باحث الأفضل فأفحمه بحسب نظر العامي فيكون الظن في جانب المفضول أو أن المقلد يقف على مدارك الطرفين فيترجح في نظره فتوى المفضول فاذا فرض اطلاع المقلد على هذه المرجحات يكون فتوى المفضول أقرب عنده.

و (أجيب عنه أولا): بأن الظنون المذكورة التي تحصل للمقلد بملاحظة المرجحات الخارجية لا دليل على اعتبارها في ترجيح امارة على معارضتها فمن أين يحصل بسببها قوة في قول المفضول تتكافأ مع قوة الظن الموجود في قول الأفضل (و لا يخفى ما فيه) فان الظن المذكور نظير الظن من قول الأفضل أيضا لا دليل على اعتباره في ترجيح أمارة على أخرى فإنه هو محل الكلام.

(و أجيب ثانيا): بأن الظنون المذكورة مما لا تنضبط بضابط للعامي إذ ربما يحصل له ذلك من قول عامي آخر أو من الرمل أو الجفر أو النجوم أو نحو ذلك فلو جاز له الرجوع الى هذه الظنون في الترجيح للزم الهرج و المرج و مفاسد عظيمة في الدين. (و لا يخفى ما فيه) فان ذلك يؤيد كلامنا من أن الترجيح بالظن لا بد له من دليل خاص و الأفضل لا دليل على الترجيح به.

(و أجيب ثالثا): ان الظن إنما صار حجة باعتبار استناده الى قول المجتهد المستند إلى الحجة فالحجة شرعا أو عقلا هو الظن الحاصل من الفتوى لا الحاصل من غيرها و من هنا ظهر الفرق

بين الظنون الداخلية و الخارجية.

(و لا يخفى ما فيه) فان الظنون الداخلية عبارة عن قرائن داخلية توجب حصول الظن بالواقع من الفتوى فتكون القرائن الخارجية نظيرها في أنها توجب حصول الظن من الفتوى بالواقع نظير الخبر المقترن بالقرائن الخارجية الموجبة للقطع منه بالواقع.

سلمنا لكن بعض تلك الظنون تكون داخلية كما لو حصل الظن من فتوى المفضول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 478

بكثرة الفحص أزيد من الأفضل أو بالجفر أو الرمل القائم على صحتها.

(و أجيب رابعا): بقيام الإجماع على عدم اعتبار تلك الظنون (و لا يخفى ما فيه) فان الإجماع في مثل هذه المسألة غير مسلم مضافا الى أنه يستكشف منه ان الأقربية و الأقوائية ليست بمرجحة عند الشارع و إلا لرجح بهذه الظنون و عليه فالكبرى غير صحيحة لتخلفها في هذه الموارد فيكون حكم العقل غير فعلي فيها فلا بد من دليل آخر لإثبات الترجيح بالأفضلية.

(و أجيب خامسا): كما في التقريرات بأن ذلك المجتهد الموافق قوله لقول المفضول ان كان أعلم ممن فرض أعلميته من المجتهد المفضول تعين عليه العمل به و إلا فلا أثر في موافقته لأن الأنظار المتقاربة و الافهام المتشابه لا يحصل من توافقها ظن يترجح على الظن الحاصل من قول أصوبهم و أفضلهم و من هنا انقدح الفرق بين تعاضد الأخبار و بين توافق الأقوال فإن الأول ربما يوجب تقديم المتعاضدين على معارضهما بخلاف الثاني فإن وجوده و و عدمه سيان بالنسبة لوجوب الأخذ بالأفضل. (و لا يخفى ما فيه) فان توافق الأفكار يدل على صوابها و لذا تجد كل نظرية تكون الشهرة مؤيدة لها في كل فن و قد تمنع الصغرى بوجوه أخر:

(الأول) انه قد تقرر في

محله أن كل مزية يحتمل أنها مرجحة يجب الترجيح بها و ان لم يقم دليل على المرجحية بها و الظنون الخارجية المذكورة يحتمل الترجيح بها لفتوى المفضول على الأفضل فلا وجه لعدم الأخذ بها. و أجيب عن ذلك بأن ما نحن فيه يكون الأمر دائرا بين المتباينين لأنه يحتمل تعيين الأعلم و يحتمل تعيين المفضول بواسطة تلك الظنون الخارجية. و ما تقرر في محله إنما كان فيما لو دار الأمر بين التعيين و التخيير.

(الثاني) ان بناء القوم على الترجيح بالمرجحات الخارجية عند تعارض الاخبار و إن لم يقم دليل على اعتبارها إلا إذا قام دليل على عدم اعتبارها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 479

كالقياس و لا ريب ان فتوى المجتهد أيضا طريق ظني للمقلد فينبغي عند التعارض أن يؤخذ بالمرجحات الخارجية فيها.

(و أجيب عنه) بأن ترجيح الاخبار بالمرجحات المذكورة مستفاد من أدلة التراجيح المختصة بالأخبار فلا تشمل الفتوى مضافا الى أن حجية الاخبار إنما هي لأجل إفادتها الظن في نظر العاملين بها و حيث اعتبر نظرهم في جعل الطريق الظني اعتبر نظرهم في طلب المرجحات عند التعارض. و أما حجية الفتوى للعوام فليست لأجل إفادتها الظن في نظر العاملين بها بل لأجل غلبة مصادفتها للواقع نوعا فلا وجه لاعتبار نظرهم في طلب المرجحات عند التعارض. (و إن شئت قلت): ان الشارع لما وجد العوام قاصري النظر في الأمور العلمية جعل لهم أقوال العلماء طريقا تعبديا باعتبار ما فيها من غلبة المطابقة و أمرهم بالرجوع إليها من غير النظر و الفحص عن شي ء فكأنه صار نظرهم عنده ساقطا عن الاعتبار في جميع المقامات. مضافا الى أن اعتبار ذلك يلزم منه تدين كل واحد

من المقلدين بغير ما تدين به الآخر.

(إن قلت): لو تمَّ هذا لزم عدم الترجيح للفتوى بالأعلمية لأن نظرهم ساقط عن الاعتبار. (قلنا) هذا مرجح داخلي و هو قليل و إنما الساقط هو الترجيح بالخارجيات للزوم الهرج و المرج لكثرتها و اختلافها بخلاف الداخلي و قد تقدم ما يظهر لك منه تحقيق ذلك.

(الثالث) ان قول المفضول قد يكون مفيدا للظن الأقوى من حيث الأمور الداخلية مثل أن يكون قوة ظن العامي منه مستندة الى اطلاع العامي على فحصه و بذل جهده زيادة عما يعتبر في اجتهاد المجتهدين من الفحص و هذا الظن يكون معتبرا لحصوله من الطرق الشرعية و لا يتوهم أن الأعلمية تنافي نقصان فحص الأعلم عن فحص المفضول لأن التعدي عن المقدار اللازم في الفحص ليس

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 480

بواجب على المجتهد فقد يقتصر الأعلم على ذلك المقدار في حين أن المفضول يزيد عليه فيصير الظن من قوله أقوى من قول الأعلم و معاقد الإجماعات لا نسلم شمولها لهذه الصورة. و ربما يجاب عنه بأنه إذا ثبت وجوب تقليد الأعلم فيما لو حصل الظن الأقوى من قوله فيثبت فيما عداه من الصور لعدم القول بالفصل. (لا يقال) يمكن معارضته بمثله فيما لو حصل الظن الأقوى من قول المفضول. (لأنه يقال): هذا حسن لو لم ينعقد الإجماع على عدم تعيين تقليد المفضول مطلقا حتى مع حصول الظن الأقوى منه.

و أما منع الكبرى فهو المحكي عن صريح القوانين و المفاتيح و ربما نقل عن مناهج النراقي أيضا و حاصله ان تعيين الأعلم لقوة الظن من قوله بالواقع إنما يصح إذا كان المناط في التقليد حصول الظن لا التعبد و لو من

باب الطريقية فإنه على تقدير كونه تعبدا يكون التقليد كالبينة و اليد و السوق عند القائلين إن حجيتها من باب التعبد بنحو الطريقية لا يلاحظ فيها قوة الظن و ضعفه. و أجاب عنه في التقريرات بما حاصله ان حجية جل الأمارات الشرعية بل كلها إنما هي من جهة إفادتها الظن شأنا و نوعا لا شخصا و لا فعلا و لا تعبدا محضا بل هي برزخ بينهما و بداهة العقول قاضية بمراعاة أقوى الأمارتين التي حجيتها من جهة الظن النوعي، و الذي يدل على اعتبار التقليد من باب الظن النوعي لا التعبد المحض هو اشتمال جملة من اخبار التقليد على وصف المفتي بالوثاقة و صدق الحديث.

و لكنه قد يقال: ان فتوى المجتهد حجة من باب التعبد المحض مثل اليد و البينة و الفراش و غيرها لإطلاق أدلة حجيتها و لسيرة المسلمين حيث يأخذون بقول مجتهدهم تعبدا و هذا لا ينافي كون حجيتها من باب الطريقية و الكاشفية (و أما دعوى) ان الأخذ بقول المفضول تخييرا يلزم منه التسوية بين الراجح و المرجوح فهي فاسدة إذ لو كان المراد بالراجح ما هو راجح عند المولى و المرجوح

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 481

ما هو مرجوح عنده نسلم الكبرى و لكن نمنع الصغرى و هو ان قول الأفضل أرجح عند المولى و إن كان المراد ما هو راجح و مرجوح عند العامي نسلم الصغرى و نمنع الكبرى. و أما دعواه احتمال الضرر في الأخذ بقول المفضول.

(ففيها) انه بعد وجود الملاك للحجية و انطباق موضوعها عليه ليس في الأخذ به احتمال للضرر.

(إن قلت): انه لا اشكال على الطريقية يكون القرب للواقع له دخل في الطريقية فهو

له دخل في ملاك الحجية أما وحده أو بضميمة شي ء آخر اليه و لا اشكال ان فتوى الأفضل أقرب للواقع فيكون الملاك فيها أقوى فنترجح على غيرها. (قلنا) الأقربية المذكورة لما كانت زائدة على ما هو ملاك الحجية فهي لا توجب الترجيح بعد وجود الملاك في كل منهما بل إنما يستحسن معها الترجيح كيف و لو كانت أقوائية الأقربية للواقع توجب فعلية الترجيح لوجب الترجيح بكل ما يوجب ذلك كما لو تساوى المجتهدان في الفضيلة و لكن أحدهما تفوق بالبصر أو بقوة الجسد أو نحو ذلك على أنا لا نسلم انه بناء على الطريقية يكون القرب للواقع له دخل في الملاك فلعل الملاك يكون شيئا آخرا كالتسهيل على المكلفين و نحو ذلك و لكن مورده ما فيه القرب الى الواقع.

(الدليل الخامس على وجوب تقليد الأعلم)

ما ذكره صاحب القوامع و غيره و تبعهم بعض أساتذة العصر. السيرة العقلائية فقد قالوا لا ينبغي الريب في قيام السيرة على الرجوع الى الأعلم في مورد الاختلاف بينه و بين غيره.

(و لا يخفى ما فيه) فان العضدي و الحاجبي و غيرهم قد حكى السيرة بعكس ذلك و ان السيرة مستمرة في الأخذ بقول المفضول مع وجود الفاضل و لعله بين أرباب الصناعات كذلك خصوصا إذا كان المفضول العمل برأيه أقل كلفة أو كان أقرب تناولا أو ألين عريكة أو نحو ذلك فان العقلاء يرجعون إليه في ذلك الفن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 482

مع علمهم بمخالفة الأفضل له و إلا لبارت سلعة المفضولين في كل فن و لعلك تجد ذلك في رجوع الناس الى الأطباء المفضولين و المعمارين مع وجود الأفضل فيهم و علمهم بمخالفته له (نعم) لا يبعد أن يدعي

ان العرف و العقلاء يأخذون بالأعلم بنحو الأولوية و الاستحباب لا بنحو الوجوب و التعيين بحيث يكون الآخذ بالمفضول قد ارتكب شططا و لم يأخذ بالحجة.

(الدليل السادس على وجوب تقليد الأعلم)

هو فحوى ما ورد في تقديم الأفضل على غيره في باب الجماعة فإنه إذا كان في هذا المنصب البسيط يقدم الأفضل فبالطريق الاولى ان يقدم في هذا المنصب العظيم الخطير. و فيه ان هذا مستحب كما قرر في محله و لو أخذنا بالفحوى المذكور لكان الأقرء يقدم على الأفضل لأنه في الجماعة يقدم الأقرء على الأفضل.

(الدليل السابع على وجوب تقليد الأعلم)

ان تجويز تقليد المفضول لازمه التسوية بينه و بين الأفضل و هي منفية بقوله تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ. (و جوابه) ان المراد عدم الاستواء في الإكرام و المنزلة مضافا الى أن الظاهر مما لا يعلمون هو الجاهل الذي لا يعرف شيئا لأن النكرة المنفية تفيد العموم. و لا ريب ان المفضول عنده علم فلا يصدق عليه انه من الذين لا يعلمون و ربما يستدل بالآية على العكس بأن يقال لو لم يجز تقليد المفضول لزم مساواته مع الجاهل و الآية تنفي المساواة.

(الدليل الثامن على وجوب تقليد الأفضل)

من انه لو لم نقل بوجوب تقليده و قلنا بالتخيير لزم استعمال اللفظ الدال على وجوب التقليد في المعنيين الوجوب التعييني في مورد وحدة المجتهد و التخييري في مورد تعدده و وجود الأفضل و أجاب عن ذلك استاذنا المشكيني (ره):

(أولا) بلزوم ذلك حتى لو قلنا بوجوب تقليد الأعلم و ذلك فان في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 483

صورة تساويهما في العلم يكون العامي مخيرا بينهما.

(و ثانيا) بأن اللفظ مستعمل في الوجوب التعييني و يستفاد التخيير في صورة التعارض من الخارج و هو العقل كما في خصال الكفارة.

(و ثالثا) يلتزم ان المستعمل فيه نفس الوجوب الجامع بينهما.

[الدليل التاسع على وجوب تقليد الأعلم]

(الدليل التاسع لهم) ان التخيير بين المفضول و الأفضل ان كان عقليا فهو باطل لأنه فرع التساوي و المفروض رجحان أحدهما و إن كان شرعيا فأيضا باطل لفقد المقتضي. (و جوابه) ان التخيير شرعي و المقتضي موجود و هو إطلاقات أدلة التقليد و الإجماع على عدم وجوب الاحتياط.

[الدليل العاشر على وجوب تقليد الأعلم]

(الدليل العاشر لهم) ان الفطرة تقتضي الرجوع الى الأعلم فان الطباع بصرفها تختار أحسن الأشياء فالإنسان إذا علم بوجود الأعلم في المجتهدين طبعه يقتضي اختياره إياه و هذا الدليل لو تمَّ فهو يقتضي ان وجوب الرجوع الى الأعلم مشروط بالعلم بوجوده كوجوب الحج بالنسبة للاستطاعة و قد ذهب الى ذلك المرحوم الكاظمي محشي الكفاية و لكن الدليل المذكور (فيه ما تقدم) في الاستدلال على المقام ببناء العقلاء و انه أمر ندبي عندهم لا واجب و لذا لا يسفهون من يرجع لمن هو الأدنى.

[الحادي عشر على وجوب تقليد الأعلم]

(الدليل الحادي عشر لهم) ان لكل عصر امام واحد فلا بد أن يكون القائم مقامه أيضا واحدا و إلا لزم زيادة الفرع على الأصل فلو لم نشترط الأعلمية لتعدد القائم مقام الامام بخلاف ما لو اشترطناها كان القائم مقامه واحدا و هو الأعلم.

(و فيه ما لا يخفى) فإنه منقوض بصورة تعدد المجتهدين مع تساويهم في العلم مضافا الى انه أي مانع من تعدد القائمين مقام الإمام فإنه طالما كان للشخص الواحد عدة وكلاء مع ان ذلك من القياس و هو باطل.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 484

[الأدلة على جواز تقليد المفضول]
[الدليل الأول إطلاق الكتاب و السنة الواردان في مشروعية التقليد]
اشارة

حجة المثبتين لجواز تقليد المفضول احتج المثبتون لجواز الرجوع للمفضول بوجوه:

(أحدها) إطلاق الكتاب و السنة الواردتين في مشروعية التقليد اما الكتاب فمثل آية السؤال حيث ان أهل الذكر فيها عام يشمل المفضول و الأفضل فيكون الأمر بالسؤال منهم يدل على قبول كل واحد منهم على حد سواء خصوصا بعد تفاوت مراتب العلم و ندرة مساواة أهله فيه و شيوع الاختلاف بينهم فإن الأمر بالرجوع إلى الطائفة المختلفين في الآراء و العلم دليل على اشتراك الجميع في المصلحة و هكذا آية النفر فإنها بإطلاقها تدل على مساواة المنذر بين في وجوب الحذر عقيب إنذارهم من دون ما يدل على اختصاصه بإنذار الأعلم مع جريان العادة بتفاوت مراتبهم في العلمية فتكون الآية تدل على حجية إنذار كل واحد منهم. و هكذا الكلام في باقي الآيات. (و أما السنة) كرواية التوقيع الشريف و هي قوله (ع): و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها لرواة أحاديثنا. و كقوله (ع): من عرف أحكامنا، و قوله (ع) و أما من كان من العلماء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه، فللعوام

أن يقلدوه. و كقوله (ع): اعتمدوا في دينكما على كل مسن في حبنا. و كقوله (ص): علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. و كقوله (ص):

أصحابي كالنجوم بأي اقتديتم اهتديتم (على تقدير صحته). و كقوله (ص) العلماء ورثة الأنبياء. و خبر عنوان البصري عن أبي عبد اللّه: سل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 485

العلماء ما جهلت. و عن روضة الواعظين عن النبي (ص): من تعلم بابا من العلم عمن يثق به كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة و غير ذلك مما تقدم من أدلة التقليد التي استدللنا بإطلاقها على حجية قول الميت و بها يخرج عن الأصل القاضي بالاقتصار على الأفضل و هكذا روايات الحكومة كقوله (ع) في خبر أبي خديجة و لكن انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فإن إطلاق الرجل يشمل كل واحد من الأفضل و المفضول. و مثله ما في مقبولة عمر بن حنظلة لكن انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا الى غير ذلك مما دل بإطلاقه أو عمومه على حجية فتوى الأفضل و المفضول على سبيل التخيير حيث ان امتثال الأوامر المطلقة يحصل بإتيان بعض أفرادها مخيرا بينها لأن قاعدة الإطلاق و قبح الإغراء بالجهل يقتضيان البناء على التخيير في مقام الامتثال و لا ينافي كونه تخييرا شرعيا تسميته تخييرا عقليا أيضا لأن المراد به استناد التخيير الى حكم العقل المستند إلى إطلاق الأدلة الشرعية و قبح الإغراء بالجهل، و بعبارة أخرى انه لا وجه لدعوى إنكار عدم شمولها لصورة الاختلاف في الفضيلة و الفتوى كما عن بعض لكثرة الاختلاف في الفضيلة و الفتوى. (و دعوى) ان هذه الكثرة نادرة في العصور التي صدرت فيها

هذه الأخبار. (فاسدة) فإنه لو سلم ذلك فكلام المعصومين ليس بناظر فقط لعصورهم بل هو ناظر لسائر العصور.

(و أجيب عن ذلك أولا): بأن ليس فيها دلالة على مساواة الأفضل و المفضول عند اختلافهم في حكم المسألة لأن الحكم بدخول المتعارضين معا تحت الدليل ممتنع و تعيين أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح مثل ما إذا وجب إنقاذ كل غريق عينا و وقع المزاحمة بين الانقاذين فان الدليل الدال على إنقاذ الغريق مما لا سبيل الى تناوله لهما معا و لا لأحدهما المعين بل الغير المعين فيرجع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 486

الأمر في الترجيح و التخيير الى ما رآه العقل و هو يحكم بترجيح ما فيه احتمال الرجحان كالأعلمية في المقام. (و لا يخفى ما فيه) فقد عرفت فيما تقدم ان الدليل يشمل المتعارضين ثمَّ انه على تقدير عدم شموله يتساقطان إلا أن يكون هناك دليل على التخيير بينهما أو الترجيح و حينئذ فيقتصر على المرجحات بمقدار ما دل الدليل عليه و لا يؤخذ بمحتمل الأرجحية و فيما نحن فيه إذا فرض عدم شمول دليل التقليد لا بد من التساقط و الرجوع الى الأصل و دعوى قيام الإجماع على عدم التساقط في هذا المورد لو سلمت فهي لا تقتضي الترجيح بالأعلمية فلا بد من التخيير بينهما (و أجيب ثانيا): إن مورد الإطلاقات هي الرواية دون الفتوى فان الإفتاء في الصدر الأول في مقام نشر الاحكام كان بنقل الروايات لا بإظهار الرأي و النظر و عليه فالاطلاقات غير متكفلة لحال الفتوى حتى يتمسك بإطلاقها كذا ذكره المرحوم الأصفهاني (ره). (و جوابه) ان هذا لا يمنع من شمولها للفتوى فان انحصار المطلق في فرد

حال صدوره لا يوجب اختصاصه به و لا يوجب انصرافه اليه مضافا الى أن الفتوى بنحو الرأي لا يمكن إنكار وجودها في ذلك العصر فان عوام الشيعة لما كانوا يرجعون للرواة في جزئيات قضاياهم لا يجيبونهم بالرواية بسندها إذ ليس عوامنا بأسوإ حال منهم مع أن عوامنا من العسر عليهم معرفة المعنى و صحة السند و كيف يعقل ان الامام (ع) يتعرض للفتوى بنحو الرواية و لا يتعرض للفتوى بنحو أعمال الرأي مع علمه (ع) بكثرة الابتلاء بها في العصور الآتية.

(و أجيب ثالثا): بأن مثل قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ* إنما ورد في مقام جعل طائفة من العلماء مرجعا للجهال فلا يدل إلا على انحصار الحجة في هذه الطائفة و عدم الرجوع الى غيرهم اما ان كل واحد منهم حجة مطلقا أو عند فقد المعارض فهو بمعزل عن ذلك فإن إضافة اسم الجمع الى الجمع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 487

لا تفيد إلا تعلق الحكم بجنس الجمع فلا يستفاد منها إلا ثبوت الحجية لجنس العلماء حتى لو احتملنا اشتراط اتفاقهم في أصل المرجعية و انهم إذا اختلفوا كان المرجع غيرهم لم يكن دفع هذا الاحتمال بالإطلاق و العموم (و لا يخفى ما فيه) فإنه لا يعقل من الشارع أن يهمل بيان الموضوع و شروطه مع كثرة الابتلاء به و أهميته في الدين إذ عليه يتركز عبادة الناس و أعمال البشر فلو كان يعتبر في موضوعه شيئا كالاعلمية و نحوها لبيّنه الشارع بكثرة توجب وصوله إلينا كما منع من القياس منعا وصل إلينا هذا مع أن الآية المذكورة في مقام سن القانون فيستفاد منها حجية كل فرد ثمَّ انه إذا شككنا ان المتكلم

في مقام البيان أم لا فالأصل كونه في مقام البيان ثمَّ انه لم يكن جمع في الآية أضيف إليه اسم الجمع و إنما أضيف أهل إلى الذكر و هو ليس بجمع.

(و أجيب رابعا): بأن مثل رواية أبي خديجة و لكن انظروا الى رجل منكم و مثل مقبولة عمر بن حنظلة لكن انظروا الى من كان منكم و قول العسكري (ع) في رواية الاحتجاج المروية عن تفسيره (ع) و أما من كان من الفقهاء الى غير ذلك من الاخبار مما يشاركها في إفادة التعميم قد وردت نهيا عن الرجوع الى فقهاء المخالفين و رواتهم و حكامهم فلا يستفاد منها سوى جعل فقهاء الشيعة مرجعا لعوام الشيعة. و عليه فهي غير واردة في مقام بيان الحجية الفعلية حتى يتمسك بإطلاقها بل إنما هي في مقام تشخيص طائفة المرجع من غيرها في الجملة. (و لا يخفى ما فيه) فإنه كيف يتصور فيها ذلك و هي في مقام إيضاح القانون و ضرب القاعدة فهي نظير قوله تعالى أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبٰا.

[الكلام في مقبولة عمر بن حنظلة]

(إن قلت): ان في مقبولة عمر بن حنظلة وقع السؤال من الراوي ثانيا عن حكم صورة الاختلاف فقال: فان اختار كل منهما (أي المتنازعان) رجلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 488

من أصحابكم فاختلفا في حكمكم الخبر، فإنه لو كان قوله (ع) في المقبولة المذكور (انظروا الى من كان منكم) يشمل صورة التعارض لم يكن وجه لهذا السؤال ثانيا و لكان تعيين الامام (ع) الأعدل الأفقه عند المعارضة مقيدا للقول المذكور و لا يذهب اليه ذاهب. و بعبارة أخرى ان هذه المطلقات لو كانت تشمل صورة التعارض لكان المطلق الموجود في صور المقبولة يشمل

صورة التعارض و لو كان شاملا لها لما سأل الراوي عن حكمها فسؤال الراوي عن حكم صورة التعارض أدل دليل على عدم الشمول. (قلت): ان الامام ذكر أولا حكم المتنازعين و أمرهم بالذهاب لكل من روى حديثهم و هذا يدل على جواز رجوع المتنازعين لكل حاكم حتى لو خالفه آخر أفضل منه ثمَّ بعد هذا تعرض السائل لصورة أخرى و هي صورة ما إذا كان المتنازعان كلا منهما يريد حاكما غير ما يريده الآخر فبيّن حكمها. و الحاصل انه (ع) في الصورة الأولى بيّن أن وظيفتهم الرجوع الى كل حاكم لحل الخصومة سواء كان له مخالف في الحكم أفضل منه أم لا ثمَّ لما سأل السائل عن صورة أخرى و هي صورة اختلاف المتنازعين في اختيار الحاكم و هي غير الاولى و لا يمكن الإرجاع فيها لاختيار المتخاصمين أي حاكم كان لبقاء الخصومة إذ كل منهما يختار ما يوافق هواه لذا عين الامام (ع) من يرجع إليه في هذه الصورة و من هنا تعرف وجه سؤال السائل عن هذه الصورة. فإنه بالقرينة العقلية المذكورة (و هي عدم حل الخصومة في هذه الصورة بالرجوع لمطلق المجتهد) علم السائل عدم إرادة الإطلاق من كلام الامام (ع) الأول الذي أرجع فيها المتنازعين لمطلق المجتهد بحيث يشمل هذه الصورة الثانية فسأل عنها الامام (ع) مرة أخرى لمعرفة حكمها هذا مع انا لا نسلم عدم صحة السؤال عن بعض افراد المطلق.

(إن قلت): ان رواية الاحتجاج واردة في مقام بيان الفرق بين علماء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 489

اليهود و علمائنا لا في مقام بيان التكليف الفعلي المحتاج إليه لأن السائل كان يعلم ان تكليف عوامنا هو الرجوع

إلى علمائنا و إنما أشكل عليه ذم اللّه تعالى لعوام اليهود على الرجوع الى علمائهم فلا وجه للتمسك بإطلاق ما فيها من قوله عليه السّلام:

«أما من كان» بعد وروده في ذلك المقام (قلت) ان التفصيل الموجود فيه يظهر منه انه في مقام ضرب القاعدة و لا ينافي ذلك كونه في مقام بيان الفرق بين علمائنا و علماء اليهود و قد تقدم ص 29 الكلام في هذا الخبر بما يوضح لك حقيقة الحال إنشاء اللّه.

(إن قلت) ان التوقيع الشريف قد أمر فيه بالرجوع للرواة و هو ليس بتقليد بل هو تحصيل دليل (قلنا) ان الرجوع للرواة قد يكون تقليدا و قد لا يكون تقليدا. و التوقيع الشريف يشمل الأمرين.

(و أجيب خامسا) ان الإطلاقات و إن كانت شاملة للفتوى بالمعنى المصطلح و لصورة التفاوت في الفضل مع الاختلاف في الرأي لكن مقتضاها الحجية الذاتية الطبيعية لا الفعلية لأنه لا يلزم منها محذور الاستحالة (و فيه) ان الإطلاقات كما انه لها الظهور في شمول المتعارضين و في الحجية التعينية كذلك لها الظهور في الحجية الفعلية و ذلك لأن الإنشاء بداعي بيان الملاك خلاف الظاهر (و أجيب سادسا) ان الانصاف أن الاستناد في حكم مخالف للأصل و الإجماعات المعتضدة بالشهرة إلى مثل هذه الإطلاقات التي كانت بمرأى و مسمع من أصحابنا السابقين القائلين بعدم التخيير بين الأفضل و المفضول في غاية الاشكال (و لا يخفى ما فيه) فانا لو سلمنا ذلك فان هذا مجرد استبعاد و لعل كان فتوى الكثير منهم بالأعلم من جهة الاحتياط أو الأصل. و كم خفي على الأوائل ما ظهر للأواخر، أو لعل ذلك لعدم اجتماع شرائط الحجية في نظرهم في مطلقات أدلة التقليد بحيث

تشمل الأفضل و المفضول و قد تقدم الكلام فيها في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 490

أدلة التقليد فراجعه. مضافا إلى ما عرفت من كثرة الابتلاء بهذه المسألة و أهميتها في الدين فلو كان الاشتراط بالأعلمية معتبرا لبينه الشارع بنحو يصل إلينا. ثمَّ ان (بعض أساتذة العصر) قرر الاستدلال بإطلاق الآيات و الروايات بما حاصله ان هذه الأدلة إنما نخرجها من ظهورها في الحجية التعيينية إلى الحجية التخييرية في مورد المعارضة من جهة القرينة الخارجية و العقلية. أما الخارجية فهي كثرة الاختلاف في الفتوى مع التفاوت في الفضيلة خصوصا في عصر صدور الروايات الدالة على حجية الفتوى فتحمل على الحجية التخييرية عند المعارضة بل ربما يقال ان الإجماع على عدم وجوب الاحتياط هو القرينة على الصرف المذكور. و أما القرينة العقلية فهي انه في مقام المعارضة يدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الحجية في كل من المتعارضين أو عن أصلها، و لا ريب ان الأول أولى لأنه المتيقن و لا موجب لرفع اليد عن أصلها فتقيد حجية كل منهما باختياره (ثمَّ أجاب عنه) أولا بالمنع من كثرة وقوع الخلاف بين المفتين في تلك العصور لتمكنهم من مراجعة الأئمة (ع) و ثانيا انه لو سلم وقوع الخلاف بهذا المقدار حتى في تلك العصور فلا يصلح ذلك قرينة على صرف الإطلاقات إلى الحجية التخييرية لأن الأدلة الدالة على الحجية لا تشمل حال المعارضة و الشاهد عليه وقوع السؤال عن علاج الروايات المتعارضة فلو كانت الإطلاقات الأولية كافية لما احتاجوا للسؤال، و أما القرينة العقلية ففيها ان ترجيح التقييد المذكور على تقييد حجية كل منهما باختيار الآخر بلا مرجح إذ اللازم هو الخروج عن الإطلاق

حذرا عن أدائه إلى التعبد بالمتناقضين و اما نحو التقييد فلا دليل عليه و بما انه يمكن أن يكون التقييد على النحوين المذكورين أو أكثر و لا مرجح لبعضها على بعض فلا محالة يسقط الدليل على أصل الحجية في مورد المعارضة، انتهى.

(و لا يخفى) ما في استدلاله و ما في جوابه عنه. أما في الاستدلال فلأن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 491

الأدلة بعد فرض إطلاقها و شمولها لمورد المعارضة تكون ظاهرة في ثبوت الحجية لكل منهما لا لأحدهما دون الآخر و حيث ان السلوك لا يمكن بهما معا فالعقل يخير بينهما في السلوك لا في الحجية لأن الجاعل حيث لم يرجح فلا بد أن يكون قد أرجع الأمر إلى العقل و هو يخير بينهما نظير ما إذا اختلف طبيبان في مرض فإن الإنسان يتخير بينهما و ليس يسقط قول الطبيب عن الحجية و يرجع لشي ء آخر و هكذا في كل فن و ليس ذلك إلا لعدم السقوط بالتعارض كما تقدم. ثمَّ كيف يجعل مجرد الإجماع على عدم وجوب الاحتياط هو القرينة على الصرف المذكور مع ان عدم وجوب الاحتياط يجتمع مع الرجوع الى الأصل. ثمَّ إن جعل القرينة العقلية هو الدوران المذكور ليس بصحيح مع فرض شمول الأدلة و إطلاقها فإنه مع الإطلاق يكون كل منهما حجة و لكن سلوكهما غير ممكن فالعقل لا محالة يتخير كما تقدم في سائر الحجج عند العقلاء إذا تعارضت. و أما ما أجاب به أولا ففيه ان كثرة وقوع الخلاف إن كانت قرينة فهي لا تخرج عن قرينيتها سواء كانت موجودة في تلك العصور السابقة أو بعدها لكون المتكلم عالما بالمستقبل لأنه المشرع الذي شرع الأحكام

على سبيل الدوام و نظره الى العصور على حد سواء. و أما ما أجاب به ثانيا فالتحقيق كما تقدم و سيجي ء إنشاء اللّه ان الأدلة الأولية تفي بحال المعارضة بواسطة شمولها بإطلاقها لها و هي تقتضي حجية كل من المتعارضين و لكن العقل يخير في سلوكهما، و أما ما استشهد به على عدم وفاء الأدلة بحال المعارضة (فلا يخفى ما فيه) فإنك لو نظرت الى الاخبار من أول الفقه الى آخره لرأيت من الإطلاقات الكثيرة التي وقع السؤال عن بعض مواردها و الامام (ع) يجيب و يستشهد بالمطلق و استشهاد الأئمة عليهم السلام بإطلاق الآيات في مورد السؤال عن بعض أفرادها أكثر من أن يحصى كيف و السؤال قد يكون من جهة غفلة السائل أو لعدم وضوح إطلاقها لديه أو لشبهة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 492

تعتريه. و قد عرفت فيما تقدم في مقبولة عمر بن حنظلة وجه سؤال السائل عن حكم المتعارضين في مبحث دلالة السنة على جواز تقليد المفضول.

(الدليل الثاني للمثبتين جواز تقليد المفضول)

أن الأئمة (ع) قد أمروا بالرجوع الى مثل الثقفي و ابان و زرارة و زكريا و عمير و يونس و نحوهم من دون التقييد بعدم وجود أفضل منه (و الجواب عنه) انه لم يثبت أن معاصري مثل الثقفي ممن أمر بالرجوع إليهم كان فيهم من يخالف الثقفي فيما يفتي به من المسائل الفرعية و كان أفقه و أعلم من الثقفي حتى يثمر إطلاق قوله عليه السّلام عليك بالثقفي و هكذا الكلام في سائر أصحابهم (ع) الذين أمروا بالرجوع إليهم بل الظاهر من وثاقتهم و اعتماد الامام عليه السّلام و تعيينهم للمرجعية كونهم أفضل من غيرهم أو مطابقة قولهم للواقع، و من

هنا قال في الشرائع و غيرها: ان نصب المفضول للقضاء جائز من الامام عليه السّلام لأن نقصانه مجبور بنظره، روحي و أرواح العالمين له الفداء.

[الدليل الثالث على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الثالث لهم) انه إذا لم يكن المفضول قابلا للتقليد كان مساويا للجاهل و الدليل دل على نفي المساواة قال تعالى هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ (و أجيب) انه يدل على العكس لأن المفضول جاهل في مقابل الأفضل في مقدار من العلم فلو جاز تقليده كالافضل كانا متساويين (و لا يخفى ما فيه) فان المراد من الآية نفي المساواة من جميع الجهات بمعنى انه لا مساواة بينهما من جميع الجهات و هذا لا ينافي ثبوت المساواة بينهما في بعض الجهات كجواز الصلاة خلفهم جماعة و صحة تزويجهم و نحو ذلك، فالآية لا دلالة فيها على عدم مساواة المفضول للأفضل في جواز الرجوع، و لو سلمنا انها تدل على عدم المساواة و لكنه لعله على سبيل الاستحباب و الأرجحية الاستحسانية و قد تقدم الكلام فيها في الدليل السابع على وجوب تقليد الأعلم.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 493

[الدليل الرابع على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الرابع لهم) أن نفرض شخصين مجتهدين في نفس الأمر أو في نظر المقلد و لم يقلد واحدا منهما حتى صار أحدهما أعلم اما باعتبار قوة ملكته أو نقصان ملكة الآخر ففي هذه الصورة كان العامي مخيرا في تقليد أي منهما شاء قبل حدوث الأعلمية في أحدهما و بعد حدوثها يشك في ذلك فيستصحب التخيير فاذا ثبت عدم لزوم تقليد الأعلم في هذه الصورة يثبت في سائر الصور بالإجماع المركب إذ لا قائل بالفصل (و لا يخفى ما فيه) فان الإجماع المركب غير مسلم و لو سلم فهو لا ينفع مع الأصل و إنما ينفع مع قيام الدليل كما قرر في محله (و قد أجيب أيضا) بأن الحكم بالتخيير حكم عقلي و مناط

الحكم العقلي عدم وجود المرجح و قد وجد المرجح و هو الأعلمية لأحدهما مضافا الى أن الاحكام العقلية لا يجري استصحابها (و لا يخفى ما فيه) فإنه مع قطع النظر عن إطلاقات الأدلة كما هو ظاهر حال المستدل المذكور يكون الحكم بالتخيير حكما شرعيا مستفاد من الإجماع أو من القطع بعدم تكليف العامي بالاحتياط كما عند بعضهم و لولاهما لما أمكن إثبات التخيير عقلا لإمكان الاحتياط فاذا كان التخيير حكما شرعيا صح استصحابه لاحتمال عدم المرجحية بالأعلمية إذ فرض الكلام انا نشك في المرجحية بها

[الدليل الخامس على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الخامس لهم) ما حكي عن صاحب الفصول من أن تقليد المفضول لو لم يكن جائزا لما جاز لمعاصري الامام عليه السّلام تقليد أصحابه بل كان عليهم الأخذ من الامام عليه السّلام بلا واسطة أو العمل برواياته لأن القائلين بوجوب تقليد الأعلم يقولون بوجوب الرجوع اما الى الأعلم أو الى الروايات أما الملازمة فواضحة و أما بطلان التالي فبالضرورة لان عوام الشيعة في زمن الامام عليه السّلام كانوا يأخذون معالم دينهم من الصحابة مع وجود الاختلاف بينهم و تفاوت مراتبهم فان في حديث منصور بن حازم عن الصادق عليه السّلام في اختلاف الحديث و الحكم ما يدل على أنه قد يقع الاختلاف بين أصحاب رسول اللّه في الاحكام و لم يكونوا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 494

مقتصرين على الأخذ من الامام عليه السّلام و رواية أبان بن تغلب كالصريحة في نفي ذلك و السيرة المستمرة شاهدة عليه (و لا يخفى ما فيه) فإنه إنما صح ذلك لتجويز الامام عليه السّلام نظير ما إذا جوز الأعلم الرجوع إلى المفضول ثمَّ انه لم يثبت من السيرة جواز الأخذ

من الصحابة مع العلم بالمخالفة للإمام كما هو مورد الكلام بل في هذه الصورة قامت الضرورة على بطلان الفتوى و عدم الأخذ بها.

[الدليل السادس على جواز تقليد المفضول]

(الدئل السادس لهم) و قد حكي التمسك به عن الحاجبي و العضدي و حكاه في النهاية و المنية عن جماعة و في المسالك عن بعض، السيرة المستمرة بين أهل التقليد من السلف الى هذا الآن فان عوام كل عصر لم يشتغلوا في طلب الأعلم في الذهاب إلى الأطراف و البلدان بل كانوا يعتمدون على فتوى المجتهد الجامع للشرائط و لم نسمع ان أحدا من الأئمة أو أصحابهم منع من الأخذ بفتوى المفضول مع ان التقليد من الأمور المهمة التي ينبغي كمال الاهتمام بشأنها (و الجواب عن ذلك) أولا بالمنع من تحقق السيرة المذكورة كيف و المشهور بين العلماء بل المدعى عليه الإجماع هو وجوب تقليد الأعلم و معلوم ان الإمامية كانوا مقلدين لأولئك العلماء فكيف يقال باستقرار سيرتهم على الرجوع لغير الأعلم و لو سلمناه فنقول: انا نمنع كشفها عن رأي المعصوم عليه السّلام لأنها ناشئة عن عدم المبالاة في الدين حيث ان أكثر العلماء يفتون بوجوب تقليد الأعلم (و ثانيا) أنا لم نحرز ان الامام عليه السّلام أو أصحابه قد علم بتقليد المفضول مع علم المقلد بمعارضة قوله مع قول الأفضل منه و لم يمنعهم عن ذلك (و الحاصل) انا لا نعلم باستمرار السيرة على الأخذ بفتوى المفضول مع العلم بالاختلاف مع فتوى الأفضل، هذا و ان السيرة المذكورة في زماننا ربما يمنع منها بدعوى انا لم نجد أحدا يقلد فقيها مفضولا في نظره و مخالفا للأفضل في فتواه إذ الغالب في تقليد المفضول إنكار مقلده أفضلية غيره عليه أو عدم

اختلافهما فيما يفتيان به

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 495

لمقلديهم أو عدم علمهم باختلافهما.

[الدليل السابع على جواز تقليد المفضول]

(الدليل السابع لهم) لزوم العسر و الحرج في الاقتصار على تقليد الأفضل لعسر اطلاع العوام و النساء و المكلفين أوائل بلوغهم على المجتهد الذي هو أفضل أهل زمانه و قد حكي الاستدلال بذلك عن صاحب المصابيح و الفصول.

(و الجواب عنه) بأن العسر المدعى اما أن يكون من جهة تشخيص الأفضل أو في الرجوع اليه من البلدان النائية أو في العمل بفتواه و الكل كما ترى.

(أما الأول) فبالنقض بتشخيص نفس المجتهد فكما ان تشخيص المجتهد لا عسر فيه و لا حرج كذا تشخيص الأفضل، و حله أن الأفضلية موضوع من الموضوعات العرفية كالعدالة و الاجتهاد يمكن إحرازها بالطرق المذكورة لإحراز الموضوعات العرفية و الفحص عنه يتقدر بقدر الإمكان الغير البالغ حد العسر أو الحرج.

(و أما الثاني) فلأن الرجوع الى الأفضل يتقدر بقدر الإمكان الغير البالغ حد العسر فإن أمكن أخذ فتاويه مطلقا و لو بواسطة الرسالة أو إخبار وكلائه العدول تعين الأخذ بها و إلا تعين الرجوع لغيره مراعاة للأفضل فالأفضل و قد تقدم الكلام في تعسر العمل بفتاوى المجتهد الجامع للشروط فراجعه.

(و أما الثالث) فلأن الأفضلية لا توجب صعوبة العمل بالفتوى بل ربما يكون العمل بفتاوى غير الأفضل أصعب لكثرة فتاويه بالاحتياط باعتبار عدم اقتداره على استخراج حكم المسألة مثل الأعلم.

[الدليل الثامن على جواز تقليد المفضول]

(الدليل الثامن لهم) ما هو المحكي عن المحقق القمي «ره» و حاصله الاستناد الى دليل الانسداد القاضي بوجوب الأخذ بفتوى العالم للعامي من دون فرق بين الأعلم و غيره (و جوابه) انه غير تامة مقدماته لأنه من جملتها لزوم العسر و الحرج في انحصار الأخذ بقول الأعلم و هذه المقدمة قد عرفت

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 496

فسادها على أنه يتم

لو لم يقم دليل لفظي على التقليد كل هذا في غير الزعيم الديني الذي يتولى شؤون المسلمين فإنه لا بد و أن يكون أعلم الموجودين في تطبيق الأحكام الشرعية على مصاديقها و تشخيص العناوين الثانوية في مواردها و أبصر بتدبير الأمور حسب القوانين الشرعية لئلا يوقع المسلمين في التهلكة و لئلا يفرط بأموالهم و أرواحهم و أعراضهم.

و ينبغي التنبيه على أمور لا بد لمن يذهب لوجوب تقليد الأعلم من اطلاعه عليها:
اشارة

المراد بالأعلم

«أحدها» أن المراد بالأعلم هل هو الأزيد إدراكا و أسرع من غيره معرفة

كما هو مقتضى وضعه اللغوي أو أكثر معلومات من غيره كما هو المتعارف إطلاقا أو الأقوى في ملكة الاستنباط من غيره بأعمال القواعد في مجاريها و تحصيل أدلة الوقائع في مواردها و معرفة نتائجها من معانيها و مبانيها كما هو مقتضى تفسير العلم بالملكة في تعريف الفقه. و لا بد لنا في تشخيص ذلك من الرجوع للأدلة التي أقامها القوم على وجوب تقليد الأفضل و الأعلم لأن المعنى الذي يثبت منها هو الذي يجب اتباعه و من راجع الأدلة ظهر له ان المعنى الثالث هو المراد خصوصا الأدلة اللفظية للتعبير فيها بالأفقه و لقوله عليه السّلام أنتم أعلم الناس إذا علمتم و فهمتم معاني كلامنا. و عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا، الحديث. و عن بصائر الدرجات و الاختصاص للشيخ المفيد بسندهما لأبي عبد اللّه «ع» انه قال: أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 497

لينصرف على سبعين وجها. و قوله عليه السّلام ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و إن كان مقتضى الأصل ارادة جميع المعاني الثلاثة المتقدمة بأن يكون المراد الأفضلية في جميعها لأن مقتضى الأصل الذي ذكروه لترجيح الأفضل و بعض الأدلة الأخرى هو الترجيح بكل مزية يحتمل الأرجحية بها و بكل من المذكورات يحتمل المرجحية بها فراجعها فعلى أي منها اعتمدت فاحكم بما يقتضيه.

وجوب الرجوع للأعلم عند المخالفة لغيره في الفتوى

(ثانيها) إنما يجب الرجوع الى الأفضل عند مخالفته في الفتوى للمفضول

أما مع اتفاقهما فهو مخير في الرجوع لأيهما شاء خلافا لبعضهم حيث ألزم بالرجوع للأفضل مطلقا مدعيا انه المعلوم حجيته و غيره مشكوك الحجية حتى عند

موافقته له فان العقل إنما يحكم بمعذورية العبد إذا خالف الواقع فيما إذا استند الى ما هو حجّة عنده فمثلا لو كان يعلم بعدم حجية شي ء كخبر الفاسق و كان خبره موافقا لخبر العادل فلا يجوز الاستناد إليه لأنه لم يكن معذورا لو كان مخالفا للواقع كما كان معذورا لو استند الى خبر العادل فالواجب على المكلف بحكم العقل أن يستند في عمله الى ما يراه حجة و حجية غير الأعلم مشكوكة حتى لو وافق الأعلم. (و جوابه) ان المكلف إذا علم عدم الاختلاف بينهما فالثابت له من الحكم الشرعي ليس إلا ما دل عليه كل منهما و كان معذورا لو استند الى كل واحد منهما لأنه يقطع بدلالة الحجة عليه و خصوصية الدليل ليس لها مدخل في الحكم و لذا لا يلزم الاستناد إلى الرواية الصحيحة فيما إذا توافقت مع الضعيفة. سلمنا ذلك لكن نقول ان فتوى المفضول إنما كان المانع من شمول

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 498

أدلة التقليد لها هي المعارضة و مع الاتفاق لا معارضة فيشملها الأدلة فهي بنفسها حجة و الاستناد إليها استناد إلى الحجة و أما الأدلة التي أقيمت على وجوب الرجوع للأفضل فهي اما ظاهرة في خصوص مخالفته للمفضول أو القدر المتيقن منها هو ذلك (نعم) لو بنينا على الموضوعية و قلنا بحجية قول الأفضل دون المفضول وجب الرجوع الى الأفضل حتى مع الاتفاق في الفتوى لأنه بناء عليها يكون العمل المستند الى فتوى الأفضل معنونا بعنوان فيه المصلحة التي يتدارك بها الواقع دون العمل المستند لفتوى المفضول.

(إن قلت) ان الفعل من حيث كونه مفتى به ذو مصلحة كما في مؤديات الامارات فمجرد تعلق الفتوى

بحكمه يوجب أن يكون موضوع الحكم ذا مصلحة مقتضية له فلا يجب الرجوع الى الأفضل بخصوصه مع الاتفاق في الفتوى كما لا يجب في الأمارات (قلنا) قد تقدم منا ان القول بالموضوعية معناه ان سلوك الامارة و تطبيق العمل عليها فيه مصلحة يتدارك بها ما يفوت من الواقع فالفعل من حيث كونه مفتى به لا مصلحة فيه و إنما المصلحة من حيث تطبيقه على الفتوى (نعم) يكون تقليد غير الأعلم بعنوان انه الحجة مع وجود الأعلم تشريعا محرما على مسلك من يقول بأن التقليد هو الالتزام كما هو مسلك السيد في عروته لأنه يكون قد التزم بحجية من ليس هو بحجة.

عدم وجوب الفحص عن الأعلم

(ثالثها) هل يجب الفحص عن الأعلم الظاهر عدم وجوبه لأصالة عدم الأعلمية

كما سيجي ء إنشاء اللّه بيان هذا الأصل في التنبيه الخامس (نعم) في صورة العلم الإجمالي بأعلمية أحدهما مع العلم باختلافهما يجب الفحص كما سيجي ء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 499

ذلك إنشاء اللّه في التنبيه السابع.

(إن قلت) ان أصالة عدم الأعلمية لا تنفع في إثبات حجية قول المفضول (قلنا) الأدلة على حجية الفتوى تشمله و إنما كان يمنع من ذلك فتوى الأفضل المخالفة لفتواه فبعد نفي ذلك بالأصل كانت شاملة له بلا مانع. نظير ما إذا شك في فسق زيد العالم فان الاستصحاب يثبت عدم فسقه فيكون مشمولا لوجوب أكرم العلماء، و عليه فلا وجه لما يقال من أن أصالة عدم الأعلمية لا تعين الحادث و ان احتمال التعيين الأصل لا يرفعه.

(إن قلت) يجب الفحص عن المعارض لفتوى المجتهد كما يجب الفحص عن المعارض للروايات عند العمل بها. (قلنا) السيرة مستقرة على عدم الفحص عن المعارض فإن العامي إذا أخذ الفتوى من المجتهد لا يجب عليه الفحص عنها

بخلاف الروايات. مضافا الى العلم الإجمالي في الروايات بوجود المعارض في أغلب محال الابتلاء بخلاف الفتاوى التي هي محل ابتلاء العامي فإنه لا يعلم إجمالا بذلك فيها.

(إن قلت) ان في رواية داود بن الحصين تنظر إلى أفقههما و لفظ «تنظر» يدل على وجوب الفحص (قلنا) ان لفظ «تنظر» ليس فيه دلالة على الفحص و إنما يراد به الأخذ. سلمنا لكن الرواية واردة في الخصومة و القضاء. سلمنا لكنها ضعيفة و قد تقدم الكلام فيها في أدلة الأعلم.

(إن قلت) انه قبل الفحص لا يعلم بالبراءة فيستصحب عدم براءة الذمة فيجب عليه الفحص (قلنا) باستصحاب عدم الأعلمية يحصل له العلم بالبراءة فلا مجال لاستصحاب عدم البراءة.

(إن قلت) ان وجوب الفحص موافق للقاعدة فإن التكليف معلوم إجمالا و يشك في أنه على وجه التعيين على تقدير الأعلمية أو على وجه التخيير على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 500

تقدير عدمها و ليس عنده ما يشخصه مع إمكان استعلامه فلا بد من الفحص حتى يعلم المكلف به (قلنا) أصالة عدم الأعلمية مع عمومات الأدلة الدالة على حجية العالم و الأعلم تشخص التكليف و ان العبد مخير في الأخذ بأيهما شاء، هذا كله مع إمكان إجراء أصالة البراءة عن وجوب الفحص لعدم العلم بوجوبه إلا اللهم أن يقال انه حكم عقلي مثل وجوب الامتثال و وجوب المقدمة لا يجري فيه الأصل و إنما موضوعه إذا جرى فيه الأصل كان وجوب الفحص تابعا له نظير وجوب المقدمة و وجوب الامتثال.

(إن قلت) انا نعلم إجمالا بوجود الأفضل بين المجتهدين و نعلم إجمالا بالاختلاف في الفتوى في بعض المسائل فيجب الفحص عن الأفضل نظير العلم الإجمالي بوجود المعارض و المخصص و

المقيد في الروايات الذي أوجب الفحص عنها عند الأخذ بالرواية (قلنا) ان المجتهدين الاحياء الجامعين للشروط الذين يجوز الأخذ بفتواهم و لا حرج في الرجوع إليهم في خصوص المسائل التي هي محل ابتلاء المكلف لا علم إجمالي كذلك يتعلق بهم و بفتاويهم حتى يجب الفحص عن أفضلهم و إنما هو أمر محتمل.

إذا لم تكن فتوى للأعلم في المسألة

(رابعها) إذا لم تكن للأعلم فتوى في مسألة يجوز الرجوع فيها لغيره ممن هو أعلم الموجودين

لشمول أدلة التقليد لها بدون معارض و لأنه القدر المتيقن عند التنزل من الأعلم بقول مطلق، و لعدم وجوب الاحتياط على العامي بالإجماع و لأنه كان وجود الأعلم كعدمه بل يكون المفضول أعلم منه لأنه يدري بحكم المسألة و ذاك لا يدري هذا بناء على جعل الفتوى المعارضة من الأعلم من قبيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 501

المانع عن حجية فتوى المفضول إذ مع عدم فتوى الأعلم لم يكن مانعا عن حجيته (نعم) لو قلنا بأن الأعلمية شرط فان مقتضى ذلك عدم حجية فتوى غيره لعدم حصول الشرط فيه.

طرق معرفة الأعلم و بيان أصالة عدم الأعلمية

(خامسها) ان طرق معرفة الأعلم هي الطرق المتقدمة لمعرفة الاجتهاد.

(نعم) قد يقال: ان الظن المطلق هنا كافي. و عليه فيجب تحصيله إذا لم يحصل العلم، بل قيل: انه يجوز التعويل على الظن بالأعلمية بل احتمالها مع إمكان تحصيل العلم إذا لم يحتمل أعلمية الآخر بل يحتمل مساواتهما إذ مع احتمال أعلمية الآخر يجب الفحص لاحتمال أنه هو الحجة الواجب اتباعها و ذلك لأن المقام يكون من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير لان المظنون الأعلمية و محتملها في الصورة المذكورة يكون ذا مزية يحتمل رجحانه بها على الآخر، و قد يورد على هذا الأصل بأنه إنما يتم فيما لم يوجد أصل مقدم عليه ينفي الأعلمية كما لو كان سابقا مفضولا أو مساويا فيستصحب ذلك أو كان مقلدا للآخر فإنه يستصحب بقاء تقليده له (و التحقيق) إن الأصل جاري في نفي الأعلمية في سائر الموارد ما عدى صورة العلم الإجمالي بأعلمية أحدهما على الآخر فإنه يتعارض أصالة عدم الأعلمية في كل منهما. (و توضيح ذلك) ان كل منهما قبل بلوغه مرتبة الاجتهاد لم يكن أعلم

من صاحبه فيستصحب ذلك الى ما بعده (نعم) إذا علم إجمالا بأعلمية أحدهما تعارض الأصلان و إذا جرى أصالة عدم الأعلمية ثبت جواز الأخذ بفتواه و فتوى غيره لان هذا الجواز من آثار عدم أعلمية أحدهما على الآخر كما انه من آثاره عدم وجوب الفحص عن الأعلمية

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 502

لأن هذا الأصل يثبت جواز الأخذ بكل منهما لا بواحد منهما حتى يفحص عنه.

و هو أصل في شبهة موضوعية و هي لا يجب فيها الفحص و هو نظير استصحاب عدم فسق زيد العالم ليندرج تحت وجوب أكرم العلماء.

(إن قلت) ان استصحاب عدم الأعلمية لا يثبت به التساوي بينهما الذي هو موضوع التخيير كما ذكره محشي الكفاية الشيخ محمد علي (ره) و تبعه بعض أساتذة العصر (قلنا) لا دليل على اعتبار التساوي في موضوع التخيير في باب التقليد و إنما في تعارض الأخبار ذكر الترجيح بالأفقهية في مقبولة عمر بن حنظلة فقط و هي لم يأمر الإمام عليه السّلام فيها بالتخيير بعد فرض التساوي و إنما أمر عليه السّلام فيها بالارجاء حتى يلقي الراوي أمامه (و إن شئت قلت) ان أدلة اعتبار الأعلمية إنما تدل على مانعية الأعلمية من تقليد المفضول لا على اعتبار التساوي في جواز الأخذ بأحدهما مخيرا فعدم الأعلمية كافي في التخيير.

(إن قلت) ان استصحاب عدم الأعلمية لأحدهما معارض باستصحاب عدم بلوغ المجتهد الآخر رتبة هذا المجتهد كما ذكره بعض أساتذة العصر (قلنا) هذا الاستصحاب لا أثر له لأن عدم جواز الأخذ إنما هو مرتب على أعلمية غيره منه لما عرفت من أن الأعلمية مانعة عن الأخذ و الاستصحاب المذكور لا يثبت ذلك إلا بناء على الأصل المثبت.

فظهر

من هذا كله ان الظن و الاحتمال للاعلمية لا أثر له و الأصل يقتضي التخيير بينهما و عدم الفحص عن الأعلم منهما (نعم) مع العلم الإجمالي بالأعلمية و الشك في الاختلاف في الفتوى يمكن أيضا أن يقال كذلك بإجراء الأصل في نفس الفتوى بأن يقال الأصل عدم صدور فتوى من الأعلم مخالفة لهذه الفتوى نظير أصالة عدم مخالفة الشرط للكتاب و السنة و أصالة عدم المعارض (نعم) الأصلين المذكورين لا يجريان في صورة ما إذا علم بأعلمية أحدهما و علم باختلافهما في الفتوى فان في هذه الصورة يجب الفحص عن الأعلم لأنه يعلم إجمالا بوجوب العمل بأحدهما و هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 503

الأعلم منهما دون الآخر و إذا لم يعرف الأعلم بعد الفحص فيعلم حكم ذلك في التنبيه السادس الذي سيجي ء إنشاء اللّه (فتلخص) ان أصالة عدم الأعلمية جارية في المقام و تقدم على الأصل المذكور لأنه أصل اشتغال و أصالة عدم الأعلمية هي استصحاب جاري في الموضوع الخارجي و هو الأعلمية فيكون من الأصل الجاري في الشبهة الموضوعية، و قد تقرر في محله ان الأصول تجري في الشبهة الموضوعية بدون الفحص بخلاف الشبهة الحكمية. هذا مع إمكان أن يقال ان الظن تنفي اعتباره العمومات الدالة على عدم اعتبار ما عدى العلم.

(إن قلت) نعم لكن نحن في المقام لم نقدم المظنون أو المحتمل أعلميته من جهة اعتبار الظن أو الاحتمال بل من جهة انه يكون ذا مزية على غيره فيدور الأمر بين التعيين و التخيير (قلنا) الأدلة التي تدل على عدم اعتبار غير العلم تدل على عدم اعتباره حتى بنحو جعله موجبا للمزية كالقياس (و بعبارة أخرى) ان جعل ما

عدى العلم موجبا للمزية إنما يكون باعتبار الكشف الناقص فيه و الشارع قد ألغى هذا الكشف هذا كله مع ما عرفت من عدم جريان دوران الأمر بين التعيين و التخيير في المقام كما تقدم ص 438.

وجوب الرجوع الى الأعلم مشروط بعدم كونه حرجيا

(سادسها) ان ما ذكر من وجوب الرجوع إلى الأعلم إنما هو مع الإمكان

و عدم لزوم الحرج أما إذا كان الرجوع اليه حرجيا لبعده أو لعدم فهم كلامه أو لعسر الوصول اليه فليس بواجب تقليده لما دل من الكتاب و السنة على رفع الحرج و لجريان السيرة على ذلك و لا وجه لما ذكره بعضهم من الرجوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 504

إلى الاحتياط لقيام الإجماع على عدم وجوبه على العامي و لأن المقام من قبيل التزاحم فان فتوى المفضول لا تسقط عن الحجية بالتعارض و إنما تكون فتوى الأعلم مانعة عن فعلية حجيتها فاذا سقطت فتوى الأعلم عن الحجية الفعلية لم يكن هناك مانع عن فعلية الحجية لفتوى المفضول نظير الجهل المانع عن فعلية الحكم و بزواله تتحقق فعلية الحكم المجهول و مع سقوط فتوى الأعلم عن الحجية يرجع للأعلم بعده فالأعلم، لأدلة وجوب الرجوع إلى الأعلم و مع التساوي يتخير و مع عدم التمكن من الرجوع للمجتهد الحي يرجع للميت إذا قلنا بحجية فتواه عند عدم الحي و إلا فيرجع للاحتياط و مع عدم إمكان الاحتياط أو لتعسره يعمل بظنه الأقوى فالأقوى لانسداد باب العلم عليه و لا وجه لإرجاعه للعمل بقول المشهور لعدم ثبوت حجيته عليه إلا من باب الانسداد و الانسداد لا يقتضي إلا حجية ظنه و مع عدمه يتعين العمل بالاحتمال لعلمه بعدم سقوط الواقع عنه. ثمَّ انه إذا انكشف عدم مطابقة عمله لما هو فتوى الأعلم

فقد ذكر السيد (ره) في عروته انه عليه الإعادة و القضاء، و لكن لا يخفى ان ذلك لا يتم فيما لو رجع لغير الأعلم لما عرفت من أن قول غير الأعلم مع العجز عن الرجوع الى الأعلم حجة شرعية فلا وجه للإعادة أو القضاء مع المخالفة و هكذا لو رجع لفتوى الميت من جهة انها حجة شرعية عند تعذر الرجوع للحي، و أما عند الرجوع لظنه أو لاحتماله فلما كان وجه الرجوع ليس إلا من جهة حكم العقل بواسطة مقدمات الانسداد و هو لا يوجب كون ذلك حجة شرعية عليه بل من باب ان العقل يرى لا مناص له إلا ذلك فان وافق الواقع أو وافق حجة من حجج الشارع أجزأه و إلا فذمة المكلف مشغولة بعد رفع الانسداد كما تقدم في باب تبدل رأي المجتهد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 505

العلم الإجمالي باختلاف الفتوى بين المجتهدين

(سابعها) إذا علم اختلاف المجتهدين إجمالا و وجود الأعلم فيهم إجمالا من دون تشخيصه

فان تمكن من تعيينه وجب الفحص عنه لمعرفته تحصيلا للحجة الشرعية ما لم يبلغ حد الحرج و ان لم يتمكن من معرفته كذلك تخير بين المجتهدين و لا يجب عليه الاحتياط و لا الجمع بين فتواهم و لا الأخذ بأحوط أقوالهم فيما إذا أمكن للإجماع على عدم وجوب الاحتياط و لأنه مع سقوط فتوى الأعلم عن الحجية التعيينية يكون العبد مخيرا بينها في هذه الحال لأنه في هذه الحال بمنزلة عدم وجود الأعلم (و الغريب) ممن يلتزم في أن الرجوع الى الأعلم من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير يذهب إلى أنه في هذه الصورة المذكورة يتساقط الفتويان عن الحجية عند المعارضة و يؤخذ بأحوط القولين لأنه مبرئ للذمة و (وجه الغرابة) ان الأمر في

المقام من قبيل باب التزاحم لأن فتوى المفضول غير ساقطة عن الحجية الشأنية و كان المانع عن فعليتها هو حجية فتوى الأعلم الفعلية فإن فتوى المفضول حجة لو لا حجية فتوى الأعلم على سبيل التعيين فاذا سقط الوجوب التعييني صارت فتوى المفضول حجة و لو التزمنا بسقوط الفتويين فلا بد من الرجوع الى الأصل أو الاحتياط لا الرجوع الى أحوط الفتويين (إلا اللهم أن يقال) إنهما حجة في نفي الثالث و لكن هذا معناه عدم سقوطهما و شمول دليل الحجية لهما حال التعارض. هذا كله مضافا الى وجود السيرة القائمة على التخيير حتى لو قلنا بأن وجوب تقليد الأعلم من جهة بناء العقلاء فإنهم عند تعذر معرفته يتخيرون و يؤيد ذلك دعوى الإجماع على عدم وجوب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 506

الاحتياط على العامي عند التردد في الأعلم بين اثنين أو أكثر قال الأستاذ كا (ره): هذا كله بناء على اشتراط الأعلمية لجواز التقليد و أما بناء على ما ذكرناه من كون صدور الفتوى المخالفة من الأعلم مانعا من جواز تقليد المفضول فيمكن القول بالتخيير من أول الأمر، يعني بدون الفحص و ذلك لأصالة عدم صدور الفتوى المخالفة ممن هو أعلم من الذي رجع اليه.

و (دعوى) ان الأصل المزبور يجري في حق كل منهما مع العلم بكذب أحدهما لأن إحدى الفتويين فتوى مخالفة للأعلم من صاحبه بلا إشكال (مدفوعة) بأنه لا يلزم من جريان الأصلين مخالفة عملية للواقع إذا لم نجز التخيير الاستمراري مع تعدد المجتهدين المتساويين (نعم) إذا قلنا بالتخيير الاستمراري هناك كان مقتضى الأصلين هنا أيضا ذلك فيلزم مخالفة عملية للتكليف المعلوم. ثمَّ أعلم ان هذا كله مع عدم سبقه

بتقليد أحدهما و قلنا بوجوب البقاء للاستصحاب (نعم) إذا قلنا بأن الأعلمية شرط كان المقام من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة نظير أن يعلم بعدم اجتهاد أحدهما و لا يتمكن من تعيينه فإنه لا وجه للتخيير. إلا اللهم أن يقال: ان اشتراط الأعلمية مع التمكن و يسقط مع عدم التمكن من أخذ فتواه و حينئذ فيتخير بينهما، و هل الظن بالأعلم في هذه الصورة مع تعذر العلم يكون حجة يمكن أن يقال ان اعتبار الأعلمية ان قلنا انه من جهة قيام أدلة عليها بخصوصها فالظن بها ليس بحجة كما هو الحال في سائر الموضوعات الخارجية لأن الأدلة العامة الدالة على عدم اعتبار الظن تشمل المقام و تدل على عدم اعتباره فيه، و إن قلنا باعتبار الأعلمية من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير فالظن بأعلمية أحدهما بعينه بل و احتمالها فيه دون الآخر موجب للترجيح لأنه يكون ذا مزية فيدور الأمر بين التعيين و التخيير و لكن يمكن أن يقال أن الأدلة الدالة على عدم اعتبار غير العلم ظاهرة في نفي اعتباره حتى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 507

بنحو الترجيح به نظير الأدلة المانعة عن القياس مضافا الى ظهورها في إلغاء الكشف الناقص الحاصل منه مضافا لما تقدم ص 438 من عدم صحة التمسك في المقام بدوران الأمر بين التعيين و التخيير (ثمَّ اعلم) ان الظن ان كان الأخذ به في المقام من جهة كونه يوجب المزية في المظنون لا من باب قيامه مقام العلم فلا يجب تحصيله كما تخيله بعضهم إذ ليس من الواجب على العامي أن يحصل المزية في المجتهد الموجبة لترجيحه على غيره فمن الغريب من سلك هذا المسلك

و أوجب تحصيل الظن، و ان كان من باب قيامه مقام العلم و انه حجة وجب تحصيله لمعرفة الأعلم إذا قلنا بوجوب الفحص.

العلم بوجود الأعلم مع الشك في الاختلاف في الفتوى

(ثامنها) إذا علم وجود الأعلم فيهم مع الشك في اختلافهم في الفتوى

فقد عرفت انه يجري أصالة عدم صدور فتوى مخالفة لفتوى المجتهد الذي يريد أن يرجع اليه فيتخير في الأخذ بأيهما شاء و لا يجب عليه الفحص لأنه بالأصل المذكور عرف جواز الأخذ بكل منهما و الشبهة موضوعية لا يجب الفحص فيها.

العلم بالاختلاف في الفتوى مع الشك في الأعلمية

(تاسعها) أن يعلم باختلافهم في الفتوى و يشك في أعلمية أحدهما

بحيث يحتمل تساويهما فأصالة عدم الأعلمية جارية في المقام كما تقدم ص 501 فيتخير بينهما و لا يجب الفحص لأنه بالأصل المذكور عرف جواز الأخذ بكل منهما.

(إن قلت) ان وجوب الفحص في المقام بمنزلة الفحص عن نفس المرجع في الأحكام الشرعية (قلنا) قد تقدم في التنبيه الثالث عدم وجوب الفحص.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 508

الشك في الاختلاف في الفتوى و الأعلمية

(عاشرها) أن يحتمل الاختلاف بينهم و يحتمل الأعلمية لأحدهم

فأيضا أصالة عدم الأعلمية و أصالة عدم صدور فتوى مخالفة لفتوى المجتهد جاريتان فيتخير بينهما و لا يجب الفحص عن الحجة لكون كل منهما كان حجة عليه لو أخذ به بواسطة الأصلين المذكورين.

العلم بالأعلمية و بالفتوى المخالفة

(الحادي عشر) إذا عرف العامي الأعلم من المجتهدين تفصيلا و علم الاختلاف بينهم إجمالا

فلو رجع الى الأعلم فلا إشكال و لو رجع الى المفضول وجب عليه أن يميز المسائل فيأخذ بفتوى الأعلم في المسائل التي اختلف المفضول فيها مع الأعلم و يصح له الرجوع في المسائل التي لم يختلف فيها معه.

إذا تساوى المجتهدان في العلم

(الثاني عشر) إذا كان المجتهدان متساويين في العلم يتخير العامي في الرجوع الى أيهما شاء

سواء اختلفا في الفتوى أو اتفقا فيها اما على مسلكنا فواضح لشمول أدلة حجية التقليد لهما و أما على مسلك المشهور من التساقط عند التعارض فيشكل التخيير بينهما مع أنهم أجمعوا على التخيير بينهما و لعل ذلك للإجماع و هو في مثل هذه المسألة في غاية الإشكال ثبوته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 509

الموارد التي يجوز فيها الرجوع الى المفضول مع وجود الأفضل

(الثالث عشر) انه قد يجوز الرجوع للمفضول مع وجود الأفضل في موارد

منها فيما لو كان مجتهدون ثلاثة أحدهم مفضول و الاثنين في مرتبة واحدة ثمَّ صار المفضول أعلم منهم فإنه يستصحب التخيير بينهما الثابت أولا.

(إن قلت) ان التخيير بينهما عقلي لأنه إنما كان بواسطة القطع بعدم المرجح و هو منتف في الآن الثاني فلا يجري الاستصحاب لأنه لا مجرى له في الأحكام العقلية كذا ذكره استاذنا المشكيني (ره) و أجاب عنه ان الظاهر ان الحكم بالتخيير حكم شرعي مستفاد من الإجماع و القطع بعدم تكليف العامي بالاحتياط و لولاه لما أمكن إثبات التخيير عقلا لإمكان الاحتياط فليس الحكم بالتخيير عقلي محض، لكن التحقيق ان هذا الجواب إنما يتم لو قلنا بأن اعتبار الأعلمية من جهة الأصل الذي يرجع لقاعدة الاشتغال و أما لو قلنا انه من جهة قيام أدلة خاصة على اعتبار الأعلمية من إجماع أو غيره فالأصل لا أثر له و كان يجب العدول إلى الأعلم لعدم معارضة الأصل للدليل، و أما دعوى الإجماع على حرمة العدول فيعارضها دعوى الإجماع على وجوب تقليد الأعلم.

و (منها) ما إذا كان مجتهدان متفاضلين ثمَّ صار الأمر بالعكس فيستصحب حجية فتوى المفضول قال استاذنا المشكينى (ره) ان الثابت في هذا المورد و ان كان هو الحجية التعيينية سابقا للمفضول و فعلا الحجية التخييرية له

إلا أن الظاهر مسامحة العرف في ذلك، و التحقيق كما عرفته في المورد السابق ان الأصل المذكور إنما يجري لو كان اعتبار الأعلمية من جهة قاعدة الاشتغال و أما لو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 510

كان من جهة الدليل الخاص فيجب العدول لتقديم الدليل على الأصل.

و (منها) ما لو قلد المفضول لتعذر الوصول إلى الأفضل فإنه بعد التمكن منه لا يجوز له العدول لاستصحاب حجية قول المفضول في حقه و عدم الإطلاق في أدلة وجوب تقليد الأفضل حتى تقدم على الاستصحاب المذكور فلا معارض للاستصحاب المذكور لا من دليل العقل و لا من النقل هذا إذا كان حرمة العدول من جهة الاستصحاب، و أما إذا قلنا انها من جهة احتمال التعيين بالأخذ بفتوى المفضول للعمل بها سابقا فتكون هنا معارضة باحتمال التعيين بالأخذ بفتوى الأفضل.

(إن قلت) انه يحتاط على هذا (قلنا) ان الإجماع قائم على عدم وجوب الاحتياط فيكون مخيرا بينهما و كيف كان فان وجد دليل خاص في المقام على الأخذ بفتوى أحدهما أخذ به و إلا فالمرجع هو الاستصحاب لأنه مقدم على جميع الأصول (و بعبارة أخرى) انه لا مرجح لأحد الاحتمالين على الآخر و مقتضى ذلك هو الأخذ بالاحتياط مع الإمكان و التخيير مع عدمه و حيث ان الاحتياط قام الإجماع على عدم وجوبه على العامي فالتخيير هو الثابت (و منها) ما إذا كان مجتهدان متساويين ثمَّ صار أحدهما أعلم فقد يقال بوجوب العدول باعتبار انه يجب تقليد الأعلم ابتداء و استمرارا فاذا وجد الأعلم زال مناط الحجية في غيره فيجب عليه العدول لسقوط قول المفضول عن الحجية و قد يقال انه يحرم عليه العدول لأنه قلد المجتهد الأول

و الرجوع إلى الأعلم من جهة انه القدر المتيقن و فيما نحن فيه لم يكن قدرا متيقنا لاستلزامه للعدول المحرم فيستصحب تقليده للمفضول. و قد يقال بالأخذ بأحوط القولين مع التمكن و التخيير مع عدمه و قد يقال بالتخيير بين الفتويين لاشتمال كل منهما على جهة مميزة لها و لا ترجيح فيستصحب التخيير بمعنى حجية فتوى كل واحد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 511

تخييرا (و أورد) في تقريرات الشيخ (ره) على استصحاب جواز تقليد المفضول بأنه ليس الجواز أمرا وراء التخيير. و أجاب عنه أستاذنا المشكيني (ره) ان الجواز غيره بل هو أمر تعييني ينشأ من التخيير فكيف يكون التعييني عين التخييري. و لكن التحقيق أن يقال كما قدمناه في المورد السابق ان اعتبار الأعلمية ان كان من جهة الدليل الخاص وجب تقليد الأعلم لتقديم الدليل على الاستصحاب و أما إن كان من جهة قاعدة الاشتغال أو أنه القدر المتيقن فالاستصحاب المذكور مقدم عليها (و كيف كان) فالكلام تارة في وظيفة المقلد و أخرى في وظيفة المجتهد و ما يفتي به لو رجع له المقلد (أما الأول) فالمقلد لا يسعه التقليد في هذه المسألة أعني خصوص مسألة التقليد لا بهما كان لأنه أمره دائر بين الرجوع للأول الذي هو المفضول أو للثاني الذي هو الأفضل و لا ثالث في البين يقلده إذ ليس الأفضل إلا الثاني و إلا كان أمره دائر بين الأول و هذا الثالث الأفضل، و عليه فالواجب على العامي هو الاجتهاد في هذه المسألة و يأخذ بما استقل به عقله و إلا فعليه أن يأخذ بالمتيقن الحجية و (توضيح الحال و تنقيحه) هو ان كان كل من المفضول و

الأفضل يفتيان بجواز العدول فلا إشكال لأنه يكون العدول هو المتيقن و فتوى الأعلم هي المتيقنة الحجية و كذا لو كان كل منهما يفتي بحرمة العدول تكون فتوى المفضول متيقنة الحجية و كذا لو كان أحدهما متوقفا و الآخر قائلا بالجواز بناء على أن التوقف عبارة عن عدم الفتوى فيكون أيضا الأخذ بفتوى الأعلم متيقن الحجية و كذا لو كان أحدهما يقول بالتخيير بين العدول و عدمه و الآخر يعين أحدهما فإن الأخذ بما يعينه الآخر و لو كان هو البقاء على المفضول يكون هو طريق الاحتياط لحجية فتاواه في سائر المسائل بفتوى الأعلم (نعم) لو كان أحدهما يعين العدول و الآخر يمنعه فلا متيقن في البين و عليه فيجب الأخذ بالاحتياط أو بأحوط القولين في الموارد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 512

لأنه متيقن الحجية عند كليهما فان من يفتي بغير الاحتياط يفتي بجواز العمل بالاحتياط أو بأحوط القولين و ان لم يمكن الاحتياط تخير في الأخذ بأحدهما، و اما (وظيفة المجتهد) و ما يفتي به للعامي عندما يبتلي بهذه المسألة فهو إن كان له دليل على شي ء منهما أخذ به و إلا فيرجع للاستصحاب. و أما دعوى الرجوع الى الأعلم من جهة بناء العقلاء فلا يخفى ما فيها فإنه قد عرفت فيما تقدم عدم ثبوت بنائهم على ذلك و في هذه الأيام من يرجع للسيرة العقلائية في رجوعهم لأهالي الفن يجد شاهدا على دعوانا فإنك لا تجد المفضولين معطلين مع العلم بأنهم يخالفون الأفضلين و قد استدل الخصم بالرجوع للاطباء، و أنت إذا رأيت العقلاء فهل تراهم يتركون أطباء النجف و يرجعون لأطباء بغداد المعروفين مع العلم بالاختلاف معهم في الأدوية.

ثمَّ ان السيد (ره) في عروته في المسألة الرابعة و الثلاثين ذهب الى أن الأحوط هو العدول إلى الأعلم و إن أفتى المجتهد الأول بحرمة العدول (و لا يخفى ما فيه) فإنه كما يحتمل تعيين تقليد الأعلم لأعلميته كذلك يحتمل تعيين تقليد المفضول لأسبقيته في التقليد و حرمة العدول عنه فليس لأحدهما جهة ترجيح على الآخر فكما يحتمل اختصاص حرمة العدول بغير ما إذا كان المعدول إليه أعلم كذلك يحتمل اختصاص تقليد الأعلم فيما إذا لم يستلزم العدول. فاذن ليس لأحد الاحتمالين مرجح على الآخر حتى يكون المقام من باب دوران الأمر بين التعيين و التخيير و عليه فالأحوط هو الأخذ بالاحتياط أو بأحوط القولين (نعم) ان منع من الإطلاق في دليل حرمة العدول بحيث لا يشمل صورة ما إذا وجد الأعلم و سلم الإطلاق في دليل وجوب تقليد الأعلم كان الأحوط ما ذكره السيد (ره) و لعل الأمر كذلك عند المشهور لأن دليل حرمة العدول عندهم أما الأصل أو الإجماع و الثاني منتف في محل الخلاف و الأصل لا يعارض الدليل سواء كان الأصل استصحاب حجية فتوى الأول أو وجوب تقليده أو الحكم الفرعي المطابق لفتواه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 513

(إن قلت) ان تعبير السيد (ره) بالأحوط من جهة أن اعتبار الأعلمية في المفتي عنده من باب الاحتياط لا من جهة دليل خاص (قلنا) يعارضه إذن الاحتياط بعدم العدول فلم يكن العدول أحوط من البقاء.

(و منها) المستحبات فقد ذهب بعضهم الى جواز تقليد المفضول فيها للتسامح في أدلة السنن فان فتوى المفضول ليست بأدنى من الخبر الضعيف بل لعل السيرة على ذلك كما هو ظاهر. بل و يجوز الرجوع الى

الميت فيها (و لا يخفى ما فيه) فان محل كلامه هو صورة العلم بالاختلاف في الفتوى و معه لا يجوز الرجوع للمفضول لاحتمال فتوى الأفضل بالوجوب (نعم) لو أفتى الأفضل بالحكم الغير الإلزامي فيجوز الرجوع للمفضول فيما لو أفتى في ذلك المورد بالاستحباب من باب أخبار من بلغ لا من باب التقليد فلا يترتب عليه آثار التقليد فإن الأحكام الاستحبابية أحكام شرعية لا يجوز التعبد بها بغير الطرق الشرعية.

(و منها) ما إذا مات المجتهد و قلنا بوجوب البقاء على تقليده و كان الحي الموجود أعلم منه فإنه ذهب بعضهم الى وجوب البقاء على تقليد المفضول دون تقليد الحي الذي هو أفضل و يعرف الكلام فيه مما سبق في المورد الثاني من هذه الموارد.

(و منها) ما إذا قلد الأعلم فأجاز له الرجوع الى المفضول أو كان مقلدا لمجتهد هو أعلم زمانه ثمَّ صار مجتهدا أعلم منه و قلنا في هذه الصورة يجب تقليد الأعلم فقلد الأعلم ثمَّ ان الأعلم أمره بالرجوع إلى الأول الذي صار مفضولا.

(و منها) ما لو قلد المفضول مع عدم علمه بالخلاف للأفضل بناء على أن تقليد الأفضل إنما يجب مع العلم بخلافه للمفضول.

(و منها) ما لو قلد المفضول لعدم علمه بالأفضل منه بناء على أن تقليد الأفضل إنما يجب إذا علم بخلافه للمفضول.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 514

الترافع عند المفضول

(الرابع عشر) انه يجوز الترافع عند المفضول مع وجود الأفضل

و قيل يحرم و بعضهم فصل في المقام بين صورة ما إذا كان القضاء يرجع لتشخيص الموضوعات الخارجية من جهة اشتباهها بالأمور الخارجية الذي يرجع حله لليمين و البينات فيجوز الرجوع للمفضول لعموم أدلة القضاء و بين صورة ما كان القضاء يرجع لبيان الحكم الشرعي من جهة عدم معرفته

كما لو كان النزاع في الزوجية من جهة نزاعهم في كون العشر رضعات توجب التحريم أم لا و علم باختلاف الأعلم مع المفضول في الفتوى فلا يجوز الرجوع للمفضول في القضاء بذلك لأنه يرجع لتقليد المتنازعين للقاضي. و ذهب المرحوم الشيخ حسن كاشف الغطاء في أنوار فقاهته الى جواز الرجوع للمفضول مع وجود الأفضل لدخول كل منهما تحت عموم أخبار النصب و الولاية لا سيما المرفوعة و المقبولة فإن الموجود فيهما (الى رجل منكم) لا إلى أفقهكم (نعم) ذكر الأفقه بعد ذلك عند الاختلاف بينهما. و للسيرة القطعية من زمن الأئمة (ع) مع تقريرهم أصحابهم على ذلك، و لم يثبت إجماع على لزوم تقديم الأفضل مطلقا (نعم) لو علم المقلد الاختلاف بينهما فلا يبعد القول بحرمة الرجوع الى المفضول لما يظهر من المقبولة في مقام اختلاف الراويين. قال (ره) بل قد يخص ذلك فيما لو رجع الترافع إليهما معا و اختلفا فلا بد من الترجيح و اما مع الرجوع للمفضول فإنه يلتزم بقوله و ان علم مخالفة الفاضل له، انتهى.

و يدل على ذلك أيضا ما في الوسائل في بيان صفات القاضي من روايتي موسى و داود.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 515

جواز الرجوع للمفضول في التصرفات الموقوفة على إذن الفقيه

(الخامس عشر) ان سائر التصرفات التي تختص بتدبير الأمور من الولايات

كما في أموال الأيتام و الغائبين و المجانين و الأوقاف التي لا متولي لها و الوصايا التي لا وصي لها و حق الامام (ع) و غير ذلك مما يرجع لولاة الأمور يجوز للمفضول القيام بها لشمول أدلتها للمفضول و الأفضل (و دعوى) اختصاص هذه التصرفات بالأفضل نظرا الى كونها من مناصب الإمامة فلا بد أن يقتصر فيها على مورد العلم بالاذن من الامام

(ع) و الأفضل معلوم إذن الامام له و الأصل عدم إذنه للمفضول (فاسدة) بأن إطلاق الأدلة حاكمة على هذا الأصل (و الحاصل) ان سائر ما دل على نيابة المجتهد العادل في تلك الموارد المخصوصة يقتضي عدم الفرق بين الأفضل و المفضول في صحة القيام بها حتى في مسألة القضاء لشمول أدلة القضاء أيضا إلا ان دعوى الإجماع في كلام بعضهم على وجوب الرجوع الى الأعلم أوجب الاحتياط فيه، إلا ان الأستاذ الشيخ كاظم أعلا اللّه مقامه قال انه لم يثبت عندنا هذا الإجماع و قوى جواز الرجوع الى كل مجتهد عادل في القضاء إلا أن يتحقق بينهما تعارض في الحكم على وجه جائز منهما فيقدم الأعلم. و قد يفصل بين الترافع في الشبهة الحكمية و بين الترافع في الموضوعية فيمنع اعتبار الأعلمية في الثاني دون الأول و منشأه ان حقيقة الترافع في الشبهات الحكمية تقليد المتحاكمين للحاكم و لكنه اشتباه لأن فصل القضاء بالفتوى ليس تقليدا منهما له و لذا لو تنازع المجتهدان رجعا للقاضي (نعم) يمكننا أن نقول بأن هذه المناصب تحتاج من هو أعرف بالأمور و أخبر بالأشياء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 516

و أبصر بالأحوال و (بعبارة أخرى) من له حسن التدبير و قوة التفكير فالأدلة المطلقة مخصصة بالأعلم بهذا المعنى بالقرينة العقلية و قد تقدم تحقيق ذلك و تنقيحه في أحكام المجتهد فراجعها لكي تعرف الحق في المقام.

الأعلم في مقدمات الفقه

(السادس عشر) انه لو كان أحدهما أعلم من الآخر في مقدمات الفقه كالنحو و الصرف

مع التساوي في الفقه ذهب صاحب الكشف الى وجوب تقليده و الحق انه ان كان مستند القول به هو قاعدة الاحتياط و دوران الأمر بين التعيين و التخيير فالحق مع صاحب الكشف و ان كان مستنده الأدلة

الخاصة فالظاهر ان المراد به هو الأعلم في الفقه لانصرافها إليه.

إذا عرضت على العامي المسألة و لا يمكنه تأخيرها جاز له الرجوع للمفضول

(السابع عشر) انه إذا عرضت مسألة على العامي و هو لا يعلم حكمها فيجوز الرجوع لأحد المجتهدين

و لو لم يكن هو الأعلم إذا لم يعلم اختلافه مع الأعلم في الفتوى تفصيلا أو إجمالا لما عرفت من أن الفتوى المخالفة من الأعلم مانعة عن تقليد غيره لا ان الأعلمية شرط و عليه فلا يجب عليه الاحتياط و لا تأخير السؤال عن الواقعة إلى ملاقاة الأعلم (نعم) لو قلنا بأن الأعلمية شرط أو علمنا بمخالفة فتواه لفتوى الأعلم و لو إجمالا فيما يبتلي به من الوقائع فان لم يتمكن من الرجوع للأعلم جاز له الرجوع لغيره كما عرفته في التنبيه السادس ص 504 و ان كان يتمكن من الرجوع اليه جاز له الاحتياط و جاز له

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 517

تأخير الواقعة إلى زمان ملاقاة الأعلم (نعم) صورة عدم إمكان تأخير الواقعة هل هي من صور عدم التمكن من الأعلم حتى يجوز الرجوع الى غير الأعلم أو أنها ليست منها حتى لا يجوز الرجوع لغير الأعلم و يجب الاحتياط يمكن أن يقال بالأول لفرض عسر الاطلاع أو عدم التمكن منه فعلا في هذه الواقعة و معه يسقط وجوب الرجوع إليه لأدلة الحرج و العسر فيجوز الرجوع لغيره و يمكن أن يقال بالثاني باعتبار ان عسر الاطلاع على فتوى الأعلم كان اتفاقيا من جهة فورية الواقعة مضافا الى انه مع إمكان الاحتياط لم يتعذر الرجوع الى الأعلم لأن الاحتياط يقول به الأعلم (نعم) مع تعذر الاحتياط يرجع لغير الأعلم و مع تعذر غير الأعلم يعمل بما ذكرناه في التنبيه السادس ص 504.

جواز الرجوع للمفضول عند فتوى الأعلم

بالاحتياط

(الثامن عشر) ان المسائل التي احتاط بها الأعلم و لم يكن له فتوى فيها

يتخير العامي بين العمل بالاحتياط فيها و بين الرجوع الى غيره الأعلم فالأعلم لأن معنى الاحتياط هو التوقف في الفتوى و مع توقفه في الفتوى لا معنى لتقليده مضافا الى ما عرفته من أن فتوى الأعلم المخالفة هي المانعة من الرجوع لغيره و مع عدم الفتوى منه يرتفع المانع و حينئذ فالعامى اما أن يحتاط أو يرجع لغيره

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 518

الشرط التاسع عشر من شروط المفتي الأورعية
[المراد بالأورعية]

(الشرط التاسع عشر: الأورعية) و المراد بها هي شدة الاحتياط في أمور دينه فإنه ذهب جماعة إلى اعتبارها في المفتي مطلقا

[الأدلة على اعتبار الأورعية في المفتي]

و يمكن أن يستدل على ذلك (أولا) بالإجماع من صاحب كتاب القوامع حيث قال فيه ان ظاهر إطلاقات معاقد إجماعاتهم عدم جواز استفتاء المجتهد الغير الورع و هكذا في شرح المبادي لفخر الإسلام الإجماع على انه لا يجوز استفتاء من اتفق بل يجب أن يجمع وصفي الاجتهاد و الورع و لنقل الإجماع عن المحقق الثاني في اعتبار الأورعية مثل الأعلمية (و فيه) انه موهون بحكاية الخلاف عن قوم في المنية مضافا الى ان الظاهر ان المراد بالورع في كلمات المذكورين هو العدالة لا الورع بمعنى شدة الاحتياط و يمكن أن يستدل على ذلك برواية الاحتجاج المتقدمة في أدلة التقليد حيث دلت على اعتبار مخالفة الهوى فإنها منتهى الورع. و لكن الظاهر انه لم يقل أحد باعتبار مخالفة الهوى بمعناه الظاهر في مرجع التقليد. نعم المشهور اعتبار الورع فيما إذا تساوى مع غيره في العلم فإنه يقدم الأورع كما أفتى بذلك السيد (ره) في العروة و قد حكي القول به عن التهذيب و النهاية و الذكرى و الدروس و الجعفرية و المقاصد العلية و المسالك و التمهيد و شرح الزبدة للمازندراني و غيرهم.

و (ثانيا) بالأصل الذي ذكروه في ترجيح الأعلم على غيره و قد تقدم ما فيه و (ثالثا) بالمروي من أن الفتيا لا تحل إلا لمن كان أتبع أهل زمانه لرسول اللّه (ص) و هو يدل على شرطية الورع لأصل التقليد و جوابه انه خبر ضعيف مرسل.

و (رابعا) بالمروي عن علي بن الحسين (ع) ان أحق الناس بالاجتهاد

النور الساطع في الفقه النافع،

ج 2، ص: 519

و الورع و العمل بما عند اللّه و يرضاه الأنبياء و أتباعهم (و فيه ما لا يخفى) من ضعف الدلالة و السند، و خامسا بالدليل العقلي المتقدم ص 476 من أن الظن الحاصل من قول الأورع أقوى من قول غيره لشدة ورعه و اتباع أقوى الظنين واجب عقلا (و فيه) ما تقدم في جوابه سادسا و بما في المقبولة من تقديم الأورع على غيره (و فيه) المناقشة المعروفة من أنها واردة في الحكومة و الخصومة و إلا فهي في الرواية، هذا و قد ذهب بعض المتأخرين انه مع العلم بالاختلاف في الفتوى بين الأورع و غيره يؤخذ بأحوط القولين لعدم ثبوت التخيير بينهما و لبناء العقلاء على الأخذ بالاحتياط إذا لم يكن أحدهما أعلم (و لا يخفى ما فيه) لما تقدم من شمول أدلة التقليد لمورد الاختلاف في الفتوى و لعدم تسليم بناء العقلاء على ذلك بنحو الالتزام لا بنحو الاستحسان و لو سلم أخذهم بالاحتياط في مثل هذه الصورة فهم إنما يأخذون بأحوط الاحتمالات لا بأحوط القولين كما هو ظاهر عبارته. و من هنا تعرف ان الحق أيضا عدم تقديم الأعدل على غيره.

تنبيه في تعارض الأعلم و الأورع

لو تعارض في الفتوى الأعلم و الأورع بأن أفتى الأعلم بشي ء و الأورع بخلافه فالمشهور على تقديم الأعلم لأن العلمية هي المناط في الفتوى دون الورع و الورع المعتبر في العدالة يكفي في اجتهاد الأعلم و لا يحتاج إلى الزيادة التي في الأورع فإن ذلك يمنعه عن التقصير في الاجتهاد و لكن زيادة العلم في الآخر يوجب زيادة الإتقان في الفتوى الأقربية للواقع (نعم) يمكن أن يقال ان في التعارض في الروايات بين الأعلم و الأورع تقدم رواية

الأورع لأن المناط في حجية الرواية هو صدق الراوي، و الأورع أصدق من الأعلم. و حكي في المنية عن قوم لزوم تقديم الأورع في الفتوى على الأعلم و لعل وجهه ان زيادة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 520

ورعه توجب تحمل المشقة في استفراغ الوسع أزيد من تحمل غيره و ذلك يوجب أن يدرك الأورع من الأحكام الواقعية ما لا يدركه الأعلم مع ان احتمال الكذب و التقصير في الاجتهاد و الفحص الواجب أهون في الأورع من الأعلم فيقدم.

(إن قلت) ان احتمال ذلك لا يجي ء في الأعلم لفرض عدالته (قلنا) ان العدالة لا توجب العلم و القطع بذلك فالاحتمال موجود معه إذ ليست العدالة كالعصمة (و استدل) بعضهم على تقديم الأعلم ببناء العقلاء على ذلك. و هذا دليل كيفي للخصم أن يمنع منه نظير الاستدلال بالوجدان و نحوه. و قد سبق في البحث السابق ما فيه.

و استدل بعضهم بالإجماع على تقديم الأعلم و هو غير مسلم كيف و المحكي في المنية عن قوم القول بلزوم تقليد الأورع، و حكي عن قوم التخيير بينهما مضافا الى أن المسألة مستحدثة.

و استدل أيضا على ذلك بأن المقدار من الورع الموجود في الأعلم يحجزه عن الاقتحام على الحرام و الفتوى بغير العلم فيبقى ترجيح العلم سالما عن المعارض و فيه إنا نقول ان العلم الموجود في الأورع يصح اجتهاده و الرجوع اليه فيبقى ترجيح الورع سالما.

و استدل أيضا بأن الظن الحاصل من قول الأعلم أقوى من الظن الحاصل من قول الأورع (و فيه) ان اعتبار التقليد ليس من باب الظن بل من باب التعبد و إلا فالفاسق قد يحصل الظن بقوله أقوى من الظن من قول العادل.

و

استدل على ذلك أيضا بمقبولة عمر بن حنظلة و نحوها. و الجواب عنه بعدم معلومية اندراج محل الفرض تحت إطلاق الرواية و ذلك اما لوقوع التعارض بين إطلاقي قوله (ع) أعدلهما و أفقههما مع عدم الترجيح أو لأن المفروض في

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 521

الرواية ترجيح من فيه جميع الصفات الأعدلية و الأفقهية و الأورعية، و قد تقدم انها واردة في القضاء فلا تشمل ما نحن فيه و حيث تقدم منا عدم اشتراط الأورعية في المفتي فلا تكون فيها معارضة للاعلمية.

الشرط العشرون من شرائط المفتي معرفة المفتي و تشخيصه
اشارة

الشرط العشرون في المفتي معرفته و تشخيصه فقد ذهب الكثير من علمائنا إلى اعتبار تعيين المفتي في العمل بالفتوى

[الأدلة على اعتبار الشرط المذكور]
اشارة

و يمكن أن يستدل عليه بوجوه:

(أحدها) ان فتوى المجتهد لا تكون حجة على العامي إلا إذا أخذ بها
اشارة

كما يظهر ذلك من صاحب الفصول (ره) و تبعه بعض محشي القوانين (ره) و انه قبل الأخذ بالفتوى لم تكن الفتوى حجة عليه و لو كان الاجتهاد منحصرا بصاحب تلك الفتوى مستدلين على اعتبار الأخذ بالفتوى في حجية الفتوى بأنه لو عصى المكلف و لم يأخذ بفتوى المفتي ثمَّ وجد مفت آخر جاز له الرجوع اليه بل قد يتعين، و على هذا لو لم يعين المفتي لم يكن آخذا بفتواه و إذا لم يأخذ بفتواه لم يكن آتيا بعمله على طبق الحجة فلا عذر له لو خالف الواقع و يكون عمله كالعمل الواقع على خلاف الفتوى (و لا يخفى ما فيه) فان ذلك لو تمَّ إنما يثبت وجوب الاستناد الى الفتوى لا وجوب تعيين المفتي فإنه لو علم بالفتوى و انها صادرة ممن جمع الشرائط، أو علم باتفاق المجتهدين عليها كلهم أو أكثرهم بحيث يعلم بوجود واحد فيهم جامع لشرائط المرجعية، أو لم يعلم بمخالفة أحد المجتهدين لها مع عدم تعيينه للمفتي بها فإنه يكون عمله قد استند للفتوى فتكون حجة عليه مع انه لم يعين المفتي.

[تحقيق دقيق في عدم اعتبار الاستناد الى الفتوى في حجيتها]
اشارة

هذا مع ان التحقيق ان الفتوى حجة في نفسها نظير الامارة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 522

و الأخذ بها و الاستناد إليها في مقام العمل يكون نظير الاستناد إلى الإمارة في ان العمل كان بما هو حجة في نفسه و ذلك لأن أدلة التقليد نظير أدلة الأمارات لا تثبت أكثر من أن فتوى المجتهد حجة من دون تقييد ذلك بالأخذ بها و الاستناد إليها، و هذا لا ينافي ما سبق منا من كون التقليد هو الأخذ بالفتوى فان حجية الفتوى غير التقليد كما ان حجية

الامارة غير الأخذ بها و غير الاجتهاد في المسألة المستند إليها (و أما ما استدل) به الخصم من جواز رجوع العامي بعد العصيان لمفتى آخر وجد بعد المفتي الأول (ففيه) ان من كان فتواه حجة على العامي ان كانت حجيتها باقية عليه كان من باب تعارض الحجتين نظير من ظفر بأمارة معتبرة بعد أمارة أخرى كانت عنده و إذا زالت حجيتها كما لو كان الثاني أفضل و قلنا ان الأفضلية مانعة من حجية فتوى المفضول فيجب عليه أن يرجع للثاني نظير من ظفر بأمارة أرجح من الأولى

[الثمرة في النزاع في كون حجية الفتوى منوطة بالاستناد إليه أم لا]

(و قد يفرع) على ثبوت كونها حجة في نفسها بأنه إذا أتى المكلف بالعمل المطابق لها من غير استناد لها فقد أتى بما يبرئ ذمته و ان خالف الواقع لأنه هو الذي قامت عليه الحجة الصحيحة و هي الفتوى إذ هي إنما قامت على نفس العمل لا على العمل بشرط الاستناد فمفادها براءة الذمة بنفس العمل الموافق لها لا بشي ء زائد عليه (لكن لا يخفى ما فيه) فان المستفاد من أدلة الامارات و من جملتها أدلة التقليد ان العمل بالأمارة عذر للعبد عند مخالفة الواقع فاذا لم يستند إلى الامارة و الفتوى و خالف الواقع لم يكن له عذر في مخالفة الواقع و (بعبارة أخرى) العذرية إنما تتحقق إذا كان الشي ء اتخذ وجها للعمل المخالف و كانت مخالفة الواقع تستند اليه و إلا لم يصبح عذرا و في المقام لم تكن مخالفة الواقع مستندة للأمارة فلا تكون الامارة حينئذ موجبة لرفع العقاب على مخالفته للواقع

[لزوم الاستناد الى الفتوى عقلا]

(و الحاصل) ان الأخذ بالفتوى بل بكل امارة و الاستناد إليها و ان لم يكن دخيلا في صحة العمل لكنه يحكم به العقل من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 523

جهة صحة الاعتذار عند المولى على مخالفة الواقع فالعقل يحكم على العبد بالاستناد للفتوى حتى يصح للعبد أن يعتذر عند المولى لو صادف مخالفة العمل للواقع خصوصا بناء على الموضوعية كما تقدم ص 443 و عليه فيجب الاستناد للفتوى من باب دفع العقاب المحتمل.

(إن قلت) لو كان الأمر كذلك لوجب أن يكون العمل الصادر منه لو ظهر بعد ذلك مطابقته لفتوى المجتهد أن يعيده لعدم العذر له لو كان مخالفا للواقع لأنه حين ما أتى به لم

يكن مستندا لحجة فلم يكن عذرا له لو كان مخالفا للواقع و عند ظهور مطابقته للفتوى لم يعلم بأنه مطابق للواقع، و هكذا الحال في سائر الأعمال بالنسبة لسائر الامارات مع ان الإجماع على عدم وجوب الإعادة (قلت) نعم و لكن الفتوى التي اطلع عليها و استند إليها بعد ذلك و كان العمل مطابقا لها تقتضي انه قد أتى بالواقع فتكون بعد استناده إليها عذرا له في عدم الإعادة و القضاء (و الحاصل) انه لا بد من الاستناد إلى الحجة في الاكتفاء بالعمل اما قبله أو بعده لتتحقق له العذرية في مخالفة الواقع، فالاستناد إلى الحجة قبل العمل تكون عذرا للعبد بإتيانه بهذه الصورة و الاستناد إلى الحجة بعد إتيانه يكون عذرا له في عدم الإعادة و القضاء و ترتيب الآثار لأنها تدل على انه قد أتى بالواقع و مراد المولى (هذا و قد ذهب بعضهم) إلى انه في صور اختلاف المجتهدين في الفتوى و تساويهم في جميع شرائط التقليد أو كانوا مختلفين في الشرائط لكن قلنا ان ذلك لا يوجب الترجيح ففي هذين الصورتين يكون الأخذ و الاستناد لإحدى الفتويين مقوم لحجية المأخوذ منهما بحيث تكون غير المأخوذ بها ليس بحجة و ذلك لعدم إمكان حجيتهما معا لتكاذبهما أو تناقضهما و لا أحدهما المبهم لأنه ليس بفرد و لا المعين لبطلان الترجيح بلا مرجح و لا التساقط رأسا و طرحهما و الرجوع لغيرهما لكونه خلاف الإجماع و السيرة (و لا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 524

يخفى ما فيه) لأنه قد عرفت فيما سبق ص 442 من ان دليل الحجية شامل لهما و انهما حجة و ان التخيير إنما يكون في سلوكهما

و العمل بهما.

(الثاني) من الوجوه التي أقيمت على لزوم تعيين المفتي

ما أشار إليه في الضوابط من أن المسموع نقلا عن أفاضل المتأخرين لزوم تعيين واحد من المجتهدين و استدلوا على ذلك بالسيرة بين المسلمين على ذلك من دون فرق بين المتفقين في الفتوى أو المختلفين فيها (و لا يخفى ما فيه) فإنه مضافا الى أنه ليس إلا نقل لاتفاق أفاضل المتأخرين و هو ليس بحجة انه يحتمل استنادهم الى ما ذكر من الأدلة على لزوم تعيين المجتهد.

(الثالث) هو ان المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيين و التخيير

فيؤخذ بالقدر المتيقن و هو تعيين المفتي و قد تقدم الكلام في هذا الأصل مفصلا في مبحث اشتراط الأعلمية في المفتي، و الحق عدم وجوب تعيين المفتي إذ لا دليل عليه و هو خارج عن حقيقة التقليد و ليس عبادته العبادة متوقفة عليه و على فرض شرطية التعيين للتقليد فإنما هو شرط لصحة التقليد لا لصحة العمل و لا ملازمة بينهما فلا يلزم على من قال بشرطية التعيين أن يلتزم ببطلان عبادة الجاهل. (و بعبارة أخرى) ان صحة التقليد من قبيل صحة الدليل و هي غير صحة العمل في الواقع.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 525

[الفروع التي تترتب على هذا الشرط و هو تعيين]
[الفرع الأول] لو قلد مجتهدا معينا أو مجتهدين معينين ثمَّ نسي ذلك

و مما ذكرناه يظهر لك التحقيق في فرعين آخرين أحدهما ما لو قلد مجتهدا معينا ثمَّ نسيه أو قلد مجتهدين معينين كزيد و عمرو كل في بعض من المسائل ثمَّ نسي المجتهد الذي قلده مع بقاء صورة المسألة في نظره مع القطع بعدم انتفاء الشرائط من المفتي بها أو الشك فيه فعلى القول بلزوم التعيين هل يبطل تقليده و يكون بمنزلة العامي الغير المقلد في هذه المسألة أو يبقى على تقليد فيها و لا يلزم التعيين الحق هو الثاني و ذلك للاستصحابات الثلاثة الحكم الوضعي و الحكم التكليفي الفرعي و الحكم التكليفي الأصلي أعني جواز العمل بالفتوى حين التعيين و للسيرة و لأن إلزام التعيين بقاء موجب للعسر و الحرج على من يرجع لعدة مجتهدين لصعوبة ضبط نسبة كل فتوى لمجتهد معين.

[الفرع الثاني] لو قلد شخصا بتخيل انه زيد فظهر انه عمرو

و مما ذكرناه أيضا يظهر التحقيق في الفرع الآخر المعروف و هو ما إذا كان العامي قد رجع الى شخص بتخيل انه زيد فظهر بعد أن أخذ الفتوى منه و عمل بها انه عمرو فهل عليه إعادة عمله، و الحق أن يقال ان التقليد إنما يكون عذرا للعبد عند المولى إذا خالف عمله للواقع و إلا فالتقليد ليس بمطلوب بالذات

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 526

و لا أثر له غير ذلك. و عليه فان كان قد أخذ الفتوى من الشخص بقيد انه زيد بحيث لو ظهر انه غير زيد لم يعمل بها و لم يتخذها حجة له حتى لو كان ممن يصح تقليده كان استناده لهذه الفتوى في عمله بعد ما تبين ان المفتي ليس بزيد غير معذر له عند المولى لأنه في الواقع لم يستند إليها حيث كان قاصدا

قصدا حقيقيا لغيرها فهو لم يجعلها مستندا له حتى تكون الفتوى عذرا له و عليه فلا بد أن يرجع لزيد فان كانت الفتوى مطابقة لفتواه لم يجب عليه الإعادة و لا القضاء استنادا لفتوى زيد لا لفتوى ذلك الشخص و إلا أعاد عمله مستندا فيه لفتوى زيد أو يعدل لتقليد عمرو إذا كان هناك ما يصحح عدوله، و أما إذا كان قد أخذ الفتوى من الشخص لا بقيد انه زيد بحيث لو انكشف انه غيره ممن يصح تقليده عمل بها بمعنى أخذ الفتوى باعتبار انه ممن يصح تقليده و لكن تخيل ان المأخوذ منه هو زيد فحينئذ يكون الاستناد لفتوى هذا الشخص معذرا للعبد عند المولى لأنه قد استند لها حقيقة و قاصد للمعذرية بها عند المولى واقعا و لعل الصحة التي حكم بها هنا السيد (ره) في عروته في هذه الصورة المراد بها ذلك و هي المعذرية عند المولى لا صحة العمل لأن صحة العمل تابعة لمطابقته للواقع و لا صحة التقليد فإن صحة التقليد تابعة لجامعية صاحب الفتوى للشرائط و قد تقدم عدم لزوم تعيينه و بهذا ظهر لك انه لا وجه للإشكال عليه من أن التقليد هو العمل فاذا كان المجتهدان متفقين في الفتوى كان العمل مطابقا لكليهما و لا أثر للتقييد. و وجه الظهور ان المقصود حصول المعذرية له و بالتقييد لم تحصل المعذرية بالعمل بالفتوى و ان اتفقت مع فتوى الغير لعدم تحقق الاستناد الى ما هو الحجة في عمله فمن رجع الى عمرو بتخيل انه زيد فعمل بفتواه فظهر انه عمرو فعلى التقييد بأنها فتوى زيد بحيث لو كانت فتوى غيره لم يعمل بها فلا بد له من الرجوع

لفتوى زيد ليعرف الموافقة لها أو المخالفة لها لان نفس الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 527

من دون معرفة ذلك غير معذرة له بخلافه مع عدم التقييد فإنه لا يلزم عليه ذلك و هكذا لا وجه لما ذكره بعض أساتذة العصر من أن ظهور الخلاف فيما قصده إنما يكون في أمر خارج عن محقق التقليد و الاستناد، لما عرفته من أن الميزان هو حصول المعذرية له لو كان عمله مخالفا للواقع و بالتقييد لم يحرز المعذرية إلا بعد الرجوع لزيد و لا يكتفي بفتوى عمرو بخلاف صورة عدم التقييد فإنه يكتفي بذلك و لا يرجع لزيد، و هكذا ظهر فساد من فصل بين كون من عمل بفتواه مفضولا لزيد فيكون تقليده فاسدا و بين كونه أفضل أو مساويا فيكون تقليده صحيحا، و وجه الفساد ان فرض المسألة في الرجوع لمن يعلم بصحة الرجوع اليه لكنه بتخيل انه زيد.

الزعامة الدينية و حالات المجتهد الخمس

قد ظهر مما تقدم في مباحث الاجتهاد ان المجتهد له حالات خمسة فإنه من حيث استفراغ وسعه لتحصيل الحكم الشرعي من الأدلة تكون له حالة الاجتهاد و يسمى باعتبارها مجتهدا. و من حيث حصول العلم أو الظن المعتبر له بالحكم الشرعي أو التوقف فيه بعد الفحص يحصل له حالة الفقاهة و يسمى باعتبارها فقيها، و من حيث تشخيصه موضوعات الاحكام يحصل له حالة القضاء و يسمى باعتبارها قاضيا، و من حيث جوابه عن المسائل و رجوع العوام له في معرفة أحكامهم مع قطع النظر عن أشخاص موضوعاتها يحصل له حالة الإفتاء و يسمى باعتبارها مفتيا و مقلدا، و من حيث تسلطه على الرعية و إدارته لشؤونها العامة و الخاصة و ولايته على الأيتام و

السفهاء و الغيب و نحو ذلك يحصل له حالة السلطنة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 528

عليهم و يسمى باعتبارها وليا و حاكما و زعيما دينيا، و ما تقدم من الشرائط و المناقشة فيها إنما كان في المجتهد المفتي و الذي هو يرجع له في التقليد.

[لزوم توفر الشروط في الزعيم الديني]

و أما الزعيم الديني و المدبر لشؤون المسلمين، فقد مر منا غير مرة انه يجب أن تتوفر فيه الشروط الموجبة لتأهله لهذا المنصب من حسن التدبير و البصيرة بالمصلحة العامة و الخبرة بشؤونها و اللازم الالتزام بالأخذ منه و عقد القلب على العمل برأيه نظير البيعة و العهد و لا يجوز التجزي في اجتهاده لاحتياجه إلى الإلمام بالأحكام الشرعية فمثلا لا بد أن يعرف حكم الخمر من حيث النجاسة و الطهارة و حلية الاستعمال و حرمته و صحة بيعه و عدمها و مقدار الحد على شربها و جواز تزويج شاربها و إعطائه الزكاة و الخمس و عدمه الى غير ذلك و لا يجوز العدول عنه لغيره لما في ذلك من الفساد في النظام بل و لا يجوز الرجوع لغيره فيما يصدره من الاحكام و هو المعبر عنه بالولي و هو الذي يرجع إليه في الأمور التي تتعلق بحفظ النظام و لعل أغلب الشروط التي ناقشنا في اعتبارها في المفتي المجتهد لا بد من ثبوتها فيه لأنه المنصب الخطير الذي يتولى به شؤون المسلمين و حفظ نظامهم و هو له النيابة عن الامام لا مطلق المجتهد، و أما الإفتاء فليس بمنصب و قد اشتبه الأمر على بعض أهل العصر فخلط بين المجتهد المفتي و بين الزعيم الديني.

[الأخبار الدالة على صلاحية طالب الزعامة للمرجعية في الفتوى]
اشارة

(إن قلت) انه قد تقدم في الشرط الخامس عشر ص 211 ما يدل على عدم صلاحية طالب الدنيا لمرجعية الفتوى مضافا لقوله تعالى تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لٰا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فَسٰاداً وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ و لما في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع) إياكم و هؤلاء الرؤساء الذين يترأسون فو اللّه ما خفقت النعال

خلف رجل إلا هلك و أهلك، و في الكافي أيضا بسنده عن جويرية بن مسهر قال: اشتددت خلف أمير المؤمنين (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 529

فقال يا جويرية انه لم يهلك هؤلاء الحمقى إلا بخفق النعال خلفهم، و في الكافي أيضا بسنده عن الرضا (ع) في رجل يحب الرئاسة و الزعامة انه قال (ع) ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعاؤها بأضر في دين المسلم من طلب الرئاسة.

و روي ان بعض موالي علي بن الحسين (ع) سأل أبا عبد اللّه (ع) أن يكلم الولاة على أن يوليه في بعض البلاد و أقسم بايمان مغلظة أن يعدل و لا يظلم و لا يجوز فرفع أبو عبد اللّه (ع) رأسه الى السماء فقال تناول السماء أيسر عليك من ذلك، و في الكافي أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه (ع): ملعون من ترأس، ملعون من هم بها، ملعون من حدث نفسه بها. و في الكافي و علل الشرائع أيضا بسنده عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه (ع) قال: إذا رأيتم العالم محبا لدنياه فاتهموه على دينكم فان كل محب لشي ء يحوط ما أحب و قال: أوحى اللّه تعالى لداود (ع). لا تجعل بيني و بينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدك عن طريق محبتي فان أولئك قطاع طريق عبادي المريدين ان ادنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم، فان المراد بقوله «فاتهموه على دينكم» هو عدم الوثوق به و الركون اليه فيما يذكره من مسائل الدين، و المراد ب «يحوط» هو المحافظة على ما أحب و الاعراض عما سواه. و قد روي عن أمير المؤمنين (ع) من أحب الدنيا و

تولاها أبغض الآخرة و عاداها. و قد روي عن رسول اللّه (ص) حب الدنيا رأس كل خطيئة.

و في بعض الأخبار يتمنون الناس يوم القيامة كونهم من الفقراء. و في الخصال بسنده عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: قال عيسى ابن مريم: الدينار داء الدين و العالم طبيب الدين فإذا رأيتم الطبيب يجر الداء الى نفسه فاتهموه و اعلموا انه غير ناصح لغيره. و في الكافي عن أبي عبد اللّه:

من طلب الرئاسة هلك. و في الكافي أيضا بسنده الى أبي عبد اللّه (ع) انه قال:

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 530

من أراد الرئاسة هلك. و في الكافي أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) قال:

قال رسول اللّه (ص): أول ما عصي اللّه تعالى بست خصال: حب الدنيا، و حب الرئاسة، و حب الطعام، و حب النساء، و حب النوم، و حب الراحة.

[بيان وجه الجمع بين الاخبار الدالة على حرمة طلب الرئاسة و بين ما دل على وجوب التصدي لأمور المسلمين]

(قلت) ان ذلك ناظر للرئاسة الدنيوية التي يطلبها الإنسان لذاتها أو يطلبها لنيل الملذات و الظفر بفواتن الحياة و إن جرت لارتكاب المحرمات و ترك الواجبات لا للرئاسة التي يطلبها الإنسان لتنفيذ الأحكام الشرعية و نشر المعارف الإلهية.

فعن معاني الأخبار بسنده عن سفيان بن خالد قال: قال أبو عبد اللّه (ع):

يا سفيان إياك و الرئاسة فما طلبها أحد إلا هلك، فقلت: جعلت فداك قد هلكنا إذ ليس أحد منا إلا و هو يحب أن يذكر و يقصد و يؤخذ عنه، فقال (ع):

ليس حيث تذهب إليه إنما ذلك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال و تدعو الناس الى قوله. و عن معاني الأخبار أيضا بسنده عن الثمالي قال:

قال أبو عبد اللّه (ع): إياك و الرئاسة

و إياك أن تطأ أعقاب الرجال، فقلت:

جعلت فداك أما الرئاسة فقد عرفتها و أما أن أطأ أعقاب الرجال فما ثلثا ما في يدي إلا مما وطأت أعقاب الرجال، فقال: ليس حيث تذهب إياك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كلما قال. و المراد بأعقاب الرجال هو باب دورهم و هو كناية عن أخذ العلم منهم. و في المروي عن أبى ذر قال: قلت يا رسول اللّه ألا تستعملني؟ فقال: فضرب بيده على منكبي ثمَّ قال: يا أبا ذر انك ضعيف و انها أمانة و انها يوم القيامة خزي و ندامة إلا من أخذ بحقها و أدى الذي عليه فيها. و عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلا من لا يصانع و لا يضارع و لا يتبع المطامع. و المصانع: هو المجامل في أموره و فسر بمن يستعمل الرشوة. و (المضارع) من يطلب الحاجة مهما كلفه الأمر. و في الكافي عن أبي جعفر (ع): من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 531

أو يصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار ان الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها. و في معاني الأخبار بإسناده عن الهروي قال: سمعت أبا الحسن الرضا (ع) يقول: رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا، فقلت: و كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا و يعلمها الناس فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا، فقلت: يا بن رسول اللّه فقد روي لنا عن أبي عبد اللّه انه قال: من تعلم علما ليماري به السفهاء أو يباهي به العلماء أو ليقبل بوجوه الناس اليه فهو في النار، فقال (ع) صدق

جدي أ فتدري من السفهاء؟ فقلت: لا يا ابن رسول اللّه، فقال: هم قصاص مخالفينا و تدري من العلماء؟ فقلت: لا. قال: قال رسول اللّه: هم آل محمد (ص) الذين فرض اللّه طاعتهم و أوجب مودتهم و تدري ما معنى قوله: أو ليقبل بوجوه الناس اليه؟ قلت: لا. قال: يعني بذلك و اللّه ادعاء الإمامة بغير حقها و من فعل ذلك فهو في النار. و في معاني الأخبار بإسناده عن حمزة بن حمران قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول: من استأكل بعلمه افتقر. فقلت: جعلت فداك ان في شيعتك و مواليك قوما يتحملون علومكم و يبثونه في شيعتكم و لا يعدمون على ذلك البر و الصلة و الإكرام. فقال (ع): ليس أولئك المستأكلين إنما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه عز و جل ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا و في الكافي بسنده الى أبي عبد اللّه عن آبائه (ع) قال: قال رسول اللّه (ص): لا خير في العيش إلا لرجلين: عالم مطاع أو مستمع واع.

و (الحاصل) ان هذه الاخبار المتقدمة إنما هي ناظرة للرئاسة الباطلة و الزعامة المزيفة و كسب المال الحرام و غصب منصب الإمامة و الخلافة و معارضة أئمة الحق فإنه على حد الشرك باللّه و إلا فالرياسة التي أعطاها اللّه تعالى للأولياء و الأنبياء و الأوصياء التي هي لإصلاح البشر و هداية الخلق و رفع الفساد و دفعه فإنه من اللازم طلبها و من الواجب الجهاد عنها فإنها مطلوبة للّه تعالى كما قال يوسف (ع)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 532

اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. و كما قال سليمان (ع)

وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي كيف و هي واجبة إذا أمر بها الامام (ع) في زمن الحضور و بسط اليد كما لو نصبه للقضاء و الحكم بين الناس أو للولاية على قطر خاص أو للفتوى و التدريس أو للوعظ و الإرشاد أو لإمامة الجماعة و العيد و الجمعة. و أما في زمن الغيبة فالمشهور انه يجب على الفقيه الجامع للشرائط الفتوى و الحكم ارتكاب ذلك عينا أو كفاية و الفتوى و التدريس و الوعظ و من هذا الباب إمامة الجماعة و الجمعة فإنه إن كان الغرض منها محض الشهرة و جلب القلوب و تحصيل الأموال و المغالبة مع أهل الدين فهي محرمة و ان كان الغرض منها إقامة شعائر الدين و إظهار عظمة المسلمين و عبادة رب العالمين فهي مستحبة مطلوبة و حيث فرغنا من مباحث التقليد و شروطه أخذنا في الكلام على أحكام التقليد و المقلد.

أحكام التقليد و المقلد
أحدها- في وظيفة المقلد إذا صار المجتهد فاقدا لبعض شروط المرجعية في التقليد
اشاره

(أحدها) إذا صار المجتهد فاسقا أو كافرا أو مجنونا أو عاميا أو طعنا في السن بحيث اختل فهمه و ضعف إدراكه أو غير ذلك مما يوجب فقده لشرط من شروط المرجعية في التقليد و هذا الموضوع و ان تكلمنا فيه عند الكلام في بعض الشروط المذكورة عند فقدها بحيث يعلم منه الحال في باقي الشروط لكن لا بأس بإعادة الكلام فيه مستقلا تتميما للفائدة فنقول:

ان المحكي عن ظاهر غير واحد القول بوجوب العدول على العامي عن ذلك المجتهد و بطلان تقليده له حتى في المسائل السابقة التي قلده فيها نظير قول المشهور

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 533

بوجوب العدول عند موت المجتهد فيكون عروض هذه الأمور عند المشهور نظير عروض الموت

عندهم بالنسبة للمسائل التي عمل بها سابقا و قد ذهب جدي في مقدمة كتابه كشف الغطاء الى عدم بطلان تقليده فقال و لو قلد حيا أو عاقلا أو عالما ثمَّ مات أو جن أو جهل بقي على تقليده و تبعه على ذلك شبله الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة، و هو الذي يظهر من المحكي عن صاحب الفصول

[الأدلة على بطلان تقليد المجتهد إذا فقد بعض الشروط]

و قد استدل القوم على البطلان بأمور:

(أحدها) ما اعتمد عليه استأذنا الشيرازي (ره) من أن ما كان شرطا في ابتداء التقليد فهو شرط في استمراره غير الحياة فبمجرد فقد أحد الشروط تسقط فتواه عن الحجية و يجب تتبع حجة أخرى (و فيه) إنما يقتضي ذلك عدم العمل بفتاواه المتجددة بعد فقد الشرط اما الفتاوى التي صدرت منه و كان الشرط موجودا فلا دلالة في الأدلة على عدم جواز استمرار العمل بها و عدم بقائه عليها و لا إطلاق لأدلة الاشتراط في اعتبار الشرط للعمل بالفتوى ابتداء و استمرارا و إنما هي ظاهرة في الابتداء بل الظاهر منها انها إنما تعتبر حال صدور الفتوى منه و مع الشك فيجري الاستصحاب بلا مانع نظير الاستصحاب في البقاء على الفتوى بعد موت المفتي فان المسألتين من باب واحد (و الحاصل) ان أدلة التقليد تقتضي بإطلاقها البقاء على تقليده و ليس عندنا مخصص أو مقيد يقيدها أو يخصصها بغيره، و لو سلمنا الشك فالأصل بقاء حجية الرأي.

(ثانيها) ما هو ظاهر المحكي عن الشيخ علي في حاشيته على الشرائع من ان العمل بفتوى الفاقد للشرط في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ و المفروض انه قد خرج عن الأهلية لذلك فكان تقليدا لغير الجامع للشرائط في حال البقاء على تقليده و ذلك

يقتضي أن يكون تقليده باطلا بالنسبة لمستقبل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 534

الزمان (و جوابه) ان الاستناد اليه كان حال جمعه للشرائط و أدلة الشرائط لا تقتضي أزيد من ذلك و خروجه عن الأهلية إنما كان يوجب عدم الاستناد إليه في المسائل الحادثة المتجددة.

(ثالثها) انه مع فقد الشرائط يشك في الحجية و الأصل عند الشك في الحجية و الطريقية عدمها و هو يقتضي الاشتراط (و جوابه) ان الاستصحاب و أغلب الأدلة الدالة على صحة البقاء على تقليد الميت تدل على الحجية في المقام لأن المسألتين من باب واحد.

(رابعها) دعوى الإجماع من غير واحد على بطلان التقليد (و جوابه) لعل مراد المجمعين بالنسبة للمسائل المتجددة مضافا الى احتمال استناد المجمعين للأدلة المذكورة على أنه معارض بإطلاق معاقد إجماعهم على حرمة العدول.

(خامسها) إطلاق ما دل على اعتبار بعض هذه الشروط كالعدالة و يتم في الباقي بعدم الفصل نحو قوله (ع) في رواية الاحتجاج: و أما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه إلخ. يتناول الحالتين ابتداء التقليد و استمراره كما يتناولهما ما في الرضوي الدال على اشتراط الايمان من قوله (ع): لا تأخذوا معالم دينكم من غير شيعتنا فإنك إن تعديتهم أخذت دينك من الخائنين و مثله ما عن الغنية بسنده الصحيح الى عبد اللّه الكوفي خادم الشيخ أبي القاسم بن روح عن الشيخ أبي القاسم ابن روح حين سأله أصحابه عن كتب الشلمغاني بعد ارتداده فقال الشيخ أقول فيها ما قاله العسكري (ع) في كتب بني فضال حيث قالوا ما نصنع بكتبهم و بيوتنا منها ملأ فقال: خذوا بما رووا و ذروا ما رأوا فإن النهي عن عن الأخذ بآراء بنى فضال

مع ترك الاستفصال بين الأخذ الابتدائي و الاستمراري يدل بعمومه على اعتبار الإسلام ابتداء و استمرارا و لا عبرة باحتمال إرادة النهي عما رأوا من الاعتقادات الفاسدة فإن ذلك خلاف الظاهر فإنه لا يتوهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 535

وجوب الأخذ بذلك فلا يكون موردا للسؤال بل الظاهر هو الآراء المستندة لاجتهادهم في الأحكام الشرعية، ثمَّ ان في قول العسكري (ع) و ذروا ما رأوا دلالة على اشتمال كتبهم على الفتوى و الرأي (و الجواب) اما عن رواية الاحتجاج فإنها ظاهرة في الابتداء فان قوله (ع) فللعوام أن يقلدوه هو الرجوع له في ابتداء التقليد على أنه عند عروض الفسق له يصدق على الآخذ بقوله حينما كان كذلك أنه آخذ بمن كان كذلك لان المشتق حقيقة فيمن تلبس بالمبدإ في حينه. نعم لا يجوز الأخذ بقوله في الأمور المستحدثة التي لم يكن أخذ بها قبل فسقه. و أما عن الرضوي فلأنه لا إشكال في شموله للرواية و لو كان يدل على اعتبار الايمان ابتداء و استمرارا للزم منه طرح الرواية لو فسق الراوي بعد روايتها و لا قائل بذلك بل هو ظاهر في الأخذ ابتداء لعين ما ذكرناه في الجواب عن رواية الاحتجاج، و أما رواية الغنية فقد تقدم الكلام فيها في عدة مواطن فراجعها تعرف عدم دلالتها في المقام.

هذا ما أمكن أن نظفر به من الأدلة على بطلان التقليد للمجتهد إذا عرض عليه فقدان ما يعتبر في صحة تقليده (ثمَّ ان بعض أساتذة العصر) ذكر ان مقتضى الأدلة هو جواز البقاء على التقليد إلا أن مذاق الشرع يقتضي عدم جواز البقاء على تقليده لان من زال عقله أو علمه أو عدالته

لا يليق بمنصب الزعامة و المرجعية في الدين (و لا يخفى) انه قد عرفت ان الزعامة الدينية غير المرجعية في المسائل الشرعية و نحن نتكلم في الثاني. و أما الأول فلا بد فيه من ذلك لتوقف الأمور الحسبية عليها.

[الأدلة على عدم بطلان التقليد عند فقد المجتهد بعض الشروط]

و أما أدلة المجوزين فهي الاستصحاب و هو أحرى بالجريان هنا من جريانه في صحة البقاء على تقليد الميت لان الموضوع عرفا باقي قطعا و هو المجتهد و إنما تبدل بعض حالاته بخلاف صورة الموت فان العرف يرى ان المجتهد قد انعدم و ان كان قد تقدم منا ان ذلك لا يضر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 536

بالاستصحاب في ذلك المقام فراجعه. مضافا الى ان أغلب الأدلة الدالة على جواز البقاء على تقليد الميت تدل هنا لأن المسألتين من باب واحد. و قد استدل جدي كاشف الغطاء (ره) على ذلك بما حاصله ان ما دل على الرجوع الى العلماء في قضاء أو إفتاء لا يفهم منه سوى الرجوع الى الاحياء و ان ماتوا في الأثناء بعد التقليد و كذا الى العقلاء و إن جنوا بعد ذلك و كذا إلى ذوي الملكات و إن زالت عنهم فالرجوع الى الميت و المجنون و المغمى عليه و الناسي و الجاهل و الساهي و النائم قبل أن تحصل فيه هذه الصفات يكون رجوعا للحي و العاقل و الصاحي و الذاكر و العالم و المتفطن و اليقظان لأنه حصل تعلق الافعال بالموضوعات على ذلك الاتصاف فيكون مشمولا للأخبار. (و استدل أيضا) بالاستصحاب و بأصالة عدم كون الطاري من موت أو جنون و شبههما مانعا من التقليد. (و استدل أيضا ره) بما دل على أن أحكام محمد (ص) مستمرة

إلى آخر الأبد فإنه يقتضي وجوب البقاء على التقليد إلا ما أخرجه الدليل كتبدل اجتهاد الحي. (و استدل أيضا) بما حاصله ان فتواه تعلقت بالاستمرار فان المفهوم منه عند الفتوى عدم اشتراطها بالحياة فيجب إمضائها على ذلك لوجوب التقليد عليه على نحو الفتوى (و استدل) ولده المرحوم الشيخ حسن بأن ما دل على تحريم العدول من إطلاق إجماع أو حكمة يقضي به قال (ره) و أيضا سهولة الشريعة و سماحتها و رفع العسر و الحرج يقضي به.

(تنبيه) [لو قلد شخصا ثمَّ شك في انه جامع للشرائط أم لا]

لو قلد شخصا ثمَّ شك في انه جامع للشرائط أم لا فان كان مسبوقا بالجامعية استصحب جامعيته لها و إلا وجب عليه الفحص و قد تقدم ذلك ص 63.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 537

تعذر المجتهد الحي على العامي

(ثانيها) لو تعذر عليه تقليد المجتهد الحي فهل له تقليد الميت الجامع للشروط ما عدى الحياة على القول بحرمة تقليد الميت أو يتعين عليه العمل بالاحتياط أو يجب عليه الأخذ ببعض الظنون المعتبرة عند البعض كالشهرة و الإجماع المنقول و شبههما و قد تقدم تنقيح البحث في ص 387 تحت عنوان حجة القائلين بالتفصيل بين التمكن من الرجوع الى الحي و بين عدمه.

تعذر المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء على العامي

(ثالثها) لو تعذر وجود المجتهد الجامع لشرائط المرجعية في التقليد فهل يجوز للعامي الرجوع الى الميت الجامع للشرائط أم لا و حيث ان العامي لا بد له من الرجوع لما يحكم به عقله و ليس يوجد الحي الجامع للشرائط الذي يصح أن يرجع له فيدور أمره بين الرجوع للميت الجامع للشرائط و بين الحي الفاقد لبعض الشروط فيكون حكم العامي ما ذكرناه في الحكم الثاني للتقليد أو المقلد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 538

من ليس له أهلية الإفتاء يحرم عليه الإفتاء
اشارة

(رابعها) ان من ليس له أهلية الفتوى ان كان من جهة انه ليس بعالم بها يحرم عليه الإفتاء من عند نفسه حتى لو كان عنده ملكة الاجتهاد و لكنه لم يعملها لتحصيل معرفة الحكم الشرعي في المسألة بل أفتى من جهة رأيه أو من جهة القياس أو الاستحسان أو من جهة فتوى مجتهده أو مجتهد آخر بها من دون نسبتها لذلك المجتهد فإنه يحرم عليه الإفتاء بها للأدلة الأربعة العقل باعتبار انه تعدي على مقام المولى بنسبة ما لم يعلم نسبته اليه فهو تقول على المولى و افتراء عليه و الإجماع و الكتاب لقوله تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ و السنة كرواية أبي الحسن (ع) من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء، و عن الصادق (ع) مثله بإضافة ملائكة الأرض، و عن النبي (ص): من أفتى الناس بغير علم فليتبوأ مقعده من النار و من هنا ظهر انه لا وجه لما ذكره بعض أساتذة العصر من أخذ الموضوع في الحكم المذكور هو من ليس بمجتهد فإنه حتى المجتهد إذا لم يعلم لم يجز له الفتوى كما ان غير المجتهد إذا علم بالحكم الشرعي

من ضرورة أو إجماع أو دليل خاص معتبر عنده جاز له الفتوى لأن الأدلة لا تمنع من صدور الفتوى من العالم بها كيف و في رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه (ع) عن آبائه قال قال علي (ع): ان العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحا تلعنه كل دابة من دواب الأرض الصغار.

(إن قلت) على هذا يجوز ان يفتي العامي إذا سمع من مجتهده الفتوى لأن الفتوى حجة شرعية فيكون ممن علم بالحكم الشرعي من طريق معتبر (قلنا)

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 539

التقليد ليس من العلم و المعرفة لا عرفا و لا لغة و لذا ترى أهل اللغة لا يسمون المقلد عالما و لو سلمنا فالأدلة منصرفة عن ذلك مضافا لقيام الإجماع على عدم جواز الإفتاء من جهة فتوى مجتهده (و لكن المشهور) ان غير المجتهد إذا علم بالحكم من دليل معتبر لا يجوز له الإفتاء لأنه تقول على اللّه بلا اجتهاد و لأنه إضلال و إغراء بالجهل (و لا يخفى ما فيه) فان المحرم هو التقول على اللّه تعالى بدون علم و المفروض انه يعلم بذلك و لأن الإضلال و الإغراء بالجهل إنما يحرم من الذي يعلم بأن ذلك إضلال و جهل و اما العالم بالمسألة فلم يكن ذلك منه إضلال أو إغراء بالجهل بل إرشاد للواقع في نظره. و قد يخص حرمة الإفتاء بصورة ما إذا أفتى لأجل عمل الغير بها مع عدم توفر شروط المرجعية المتقدمة فيه دون ما إذا أفتى لأجل عمل نفسه أو لبيان رأيه في المسألة بل لا يجوز له العمل بفتوى الغير و تقليده لفرض علمه بالمسألة و لعل المستند في ذلك

انه اعانة على الإثم لأن عمل الغير بها حرام فيكون الإفتاء لهذه الغاية اعانة على الإثم (و لا يخفى ما فيه) فان الإعانة على الإثم إنما تتحقق لو كان الغير يرى ان العمل بهذه الفتوى أثم فيكون اعانة على الإثم اما إذا لم يرى ذلك فلم تكن الإعانة عليه اعانة على الإثم.

[قاعدة حرمة التسبب للوقوع في الحرام]
اشارة

و قد يستدل على ذلك بأن المستفاد من الأدلة هو حرمة التسبب للحرام الواقعي. و هذا المفتي بالعمل للغير قد سبب وقوع الغير في الحرام الواقعي و هو العمل بفتوى من ليس بجامع لشرائط المرجعية في التقليد فإنه حرام واقعا و بالإفتاء بالعمل للغير قد أوقع الغير في هذا الحرام و ان لم يدري به الغير و هذه القاعدة أعني حرمة التسبب للحرام الواقعي يدل عليها وجوب إعلام البائع المشتري بنجاسة الدهن معللا ذلك في الشرع بأنه ليستصبح به فإن غاية الاعلام و التنبيه ليس تحقق الاستصباح إذ ربما لا يترتب الاستصباح على الاعلام بل هو عدم استعمال الدهن في الأكل لئلا يقع في الحرام الواقعي و إلا فلا حرمة على

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 540

المشتري لجهله بالنجاسة فليس بالنسبة إليه حرمة فعلية بل في مكاسب الشيخ الأنصاري (ره) و يشير الى هذه القاعدة كثير من الاخبار المتفرقة الدالة على حرمة تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرمات مثل ما دل على أن من أفتى بغير علم لحقه وزر من عمل بفتياه. و قوله (ص): ما من إمام صلى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلا كان عليه أوزارهم. و في آخر فيكون في صلاته أو صلاتهم تقصير إلا كان إثم ذلك عليه. و في ثالث لا يضمن الامام صلاتهم

إلا أن يصلي بهم جنبا. و مثله رواية أبي بصير المتضمنة لكراهة أن يسقى البهيمة أو تطعم ما لا يحل للمسلم أكله و شربه فان في كراهة ذلك في البهائم اشعار بحرمته في المكلفين. و يؤيده حرمة الإيقاع في القبيح الواقعي بل ربما يقال بوجوب الاعلام و التنبيه و ان لم يكن للشخص أي تسبب كما عن العلامة في أجوبة المسائل المهنائية حيث أجاب بوجوب الاعلام على من رأى في ثوب المصلي نجاسة معللا بوجوب النهي عن المنكر (قلنا) ان غير ما علم من دليله انه مبغوض الوقوع من المكلف بحيث يريد الشارع من كل أحد عدمه في الخارج لا دليل لنا على حرمة التسبب له إذ أقوى ما يستدل به هو وجوب إعلام البائع للدهن النجس بالنجاسة معللا بقوله ليستصبح به بالتقريب الماضي و هو لا يخلو من نظر لأنه يحتمل التعبد من جهة ان الشراء يقع فيه باعتبار الأكل و هو محرم واقعا فيكون باطلا فإذا أعلم بذلك وقع الشراء لا باعتبار تلك المنفعة المحرمة بل بإزاء منافعه المحللة فيصح الشراء مضافا الى ان الدهن النجس ماليته الواقعية تنقص بالنجاسة من جهة عدم جواز الانتفاع به في غير الجهة الخاصة فالجهل به جهل بمقدار ماليته

[وجه عدم جواز بيع الدهن المتنجس إلا إذا اعلم المشتري بالنجاسة]

فيجب الإعلام لأمرين:

أحدهما- نقصان المالية له باعتبار حرمة المنافع التي هي غير الاستصباح.

ثانيهما- وقوع البيع باعتبار منافعه المحرمة فإن منفعته الظاهرة التي يقع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 541

البيع باعتبارها هو الاستعمال للأكل. و من هنا ظهر لك ان المفتي إذا كانت عدم أهليته للفتوى من جهة فقده لشروط المرجعية الأخرى مثل الأعلمية و العدالة و الحرية و طهارة المولد جاز له الفتوى لنفسه

بل لغيره. نعم لا يجوز للغير الرجوع له فالافتاء جائز و لكن رجوع الغير له غير جائز لأن أدلة الاشتراط تقتضي حرمة الرجوع لغير واجد الشرط بل لو فرض سكوتها عن فاقد الشرط كان الرجوع لفاقد الشرط حرام لأنه يكون عملا بغير العلم الذي لم تثبت حجيته كما ظهر لك ما في عروة المرحوم السيد كاظم في (المسألة الثالثة و الأربعين) من أن من ليس له أهلية الفتوى يحرم عليه الإفتاء و لو أبدل حرمة الإفتاء بحرمة الرجوع لكان أولى (نعم) الجلوس للإفتاء للناس أو تلبسه بالزعامة الدينية حرام فإنها من المناصب الإلهية التي لا يثبت الأول منها إلا لمن له أهلية الإفتاء للناس و لا يثبت الثاني منها إلا لمن له أهلية الإدارة لأمور المسلمين مع معرفته أحكام سيد المرسلين فيكون من ليس له الأهلية غاصب لهذا المقام.

تخيير العامي في تقليد المجتهدين المتساويين

(خامسها) انه يجوز للعامي أن يقلد أي من المجتهدين المتساويين على سبيل التخيير سواء كانا متوافقين في الفتوى أو متخالفين للإجماع و للسيرة و لما تقدم في الأعلمية ص 441 من أن الأصل في المتعارضين هو التخيير من دون فرق بين القول بالطريقية أو السببية وفاقا لاستاذنا كا (ره) و أما بناء على ما ذهب اليه المشهور من كون الأصل في تعارض الحجتين بناء على الطريقية التساقط فيشكل الأمر عند تعارض الفتويين لكون الظاهر ان حجية الفتوى من باب الطريقية عندهم

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 542

لتمسكهم على حجيتها برجوع الجاهل الى العالم، و الارتكاز الفطري أو من جهة انسداد باب العلم على العامي و مقتضى التساقط هو الرجوع الى الاحتياط في المسألة كما ذهب اليه بعض المتأخرين أو نلتزم بالأخذ بأحوط القولين

لو كان و إلا فالاحتياط باتيانهما معا (نعم) بناء على أن سقوط الطريقين إنما هو في خصوص ما يتعارضان فيه دون ما يجتمعان فيه و هما يجتمعان على نفي الاحتياط نظير العامين من وجه فالقاعدة هو التخيير و يمكن أن يكون فتواهم بالتخيير من جهة الإجماع عليه عندهم.

التخيير بين المجتهدين المتساويين ابتدائي لا استمراري

(سادسها) انه بعد ما ثبت التخيير بين المتساويين فهل يجوز للعامي العدول من أحدهما إلى الآخر بمعنى ان التخيير ابتدائي أو استمراري قد تقدم بيان ذلك في مبحث العدول عن مجتهد لآخر ص 144 و هل ان الملزم للبقاء هو مجرد اختيار المكلف قول المجتهد و عقد قلبه على العمل به أم لا بد فيه من العمل و هل يكفى الاختيار الإجمالي بأن يختار أحد المجتهدين في التقليد له في سائر أموره حتى في الفتاوى التي لم يستنبطها فعلا أو لا يكفي إلا الاختيار التفصيلي أو الإجمالي للفتاوى التي استنبطها بالفعل ثمَّ انه هل يكفي الاختيار و لو قبل زمان العمل أو بشرط حضور وقت العمل و ان كان موسعا بشرط ضيق وقت العمل أو حين ارادة العمل كل ذلك يعلم مما تقدم في مبحث العدول عن مجتهد لآخر ص 144.

وجوب التقليد مقدمي

(سابعها) ان التقليد أن كان بمعنى الأخذ بفتوى الغير كان وجوبه تخييريا مقدميا لأنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 543

مخير بينه و بين الاجتهاد و الاحتياط مقدمة لامتثال الأحكام الواقعية و ان كان عبارة عن نفس العمل استنادا لفتوى المجتهد كان وجوبه نفسيا لأنه حينئذ لا يكون إلا عبارة عن نفس الصلاة الواجبة مثلا استنادا لفتوى المجتهد، و لكن يمكن أن يقال انه أيضا وجوبه مقدمي لأن عمل الصلاة باعتبار استناده لقول المجتهد يكون تقليدا و باعتبار انه المطلوب الواقعي يكون واجبا فله حيثيتان إحداهما الاستناد لقول المجتهد و الأخرى قيام المصلحة الإلزامية فيه و الحيثية الأولى إنما وجدت من جهة تحصيل الثانية.

حجية التقليد من باب التعبد لا من باب الوصف و الظن

(ثامنها) ذهب بعضهم الى أن اعتبار التقليد من باب الوصف أعنى باعتبار افادته الظن كامارات القبلة كما عن المقدس الأردبيلي (ره) و صاحب الضوابط (ره) و المحقق القمي (ره) و ذهب جل العلماء الى ان اعتباره من باب التعبد فقول المجتهد حجة و ان لم يفد الظن كاليد و الشهادة و حكم الحاكم هكذا حرر القوم هذا المبحث و الاولى جعل الموضوع هو فتوى المجتهد و ان اعتبارها من باب إفادتها الظن أم لا (و كيف كان) فتظهر الثمرة فيما لو حصل الظن بخلاف قول المجتهد فإنه على الأول لا يجوز تقليده بخلاف الثاني و الحق هو الثاني فإن أدلة التقليد ليس فيها ما يدل على اعتباره من باب افادته الظن مع ان سيرة المسلمين على ذلك فانا لم نر أحدا من العلماء أفتى بوجوب حصول الظن على العامي من قول مفتيه مضافا الى أنه لو كان قول المفتي للعامي حجة من حيث كونه مظنونا فاما أن يكون ظنه

قبل الفحص أو بعده، و الأول باطل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 544

للزوم كون ظن العامي أقوى من ظن المجتهد ضرورة انه لا عبرة بظن المجتهد بالحكم قبل الفحص بالإجماع المحقق و المنقول من أصحاب الظنون المطلقة و أصحاب الظنون المخصوصة فكيف يجوز للعامي أن يعمل بظنه قبل الفحص.

(و الثاني) مستلزم للعسر العظيم و الحرج الشديد على العوام لا سيما النساء و أهل البوادي و الصبيان في أوائل بلوغهم و هما منفيان في الشريعة مع ان سيرة المسلمين على عدم التفحص عن ذلك (و توهم) عدم انحصار الدليل على لزوم التقليد على العوام في الإجماع و الاخبار، بل يدل على التقليد عندهم الدليل العقلي المعروف بدليل الانسداد بل هذا هو عمدة دليل المقلد في تعويله على قول مفتيه لأن الأخبار ليس له اطلاع على حجيتها و الإجماع لا يعلم بثبوته و العسر و الحرج لا يعرف مقداره و لا تشخيص موارده فليس عنده إلا الدليل العقلي و هو دليل الانسداد و هو لا يقتضي إلا العمل بالظن (فاسد) فإن العامي له دليل غير ذلك و هو الارتكاز و الضرورة الدينية الثابتة لكل أحد و لعمري انه ليس علم العامي بأنه يجب الرجوع الى العالم في معرفة أحكامه أضعف من علمه بوجوب الصلاة و الصوم و غيرهما من الضروريات فيكون دليله على التقليد هو ذلك و أما ما ذكره من الدليل العقلي فهو على فرض تماميته لا يصلح ان يكون دليلا للمقلد ضرورة أن تمسكه به موقوف على فهم كل واحدة من مقدماته للعامي فهما قطعيا و إلا كانت نتيجته غير قطعية لأن النتيجة تتبع أخس المقدمات و فهمه لها قطعيا من أصعب

الأشياء مع أن نوع مقدماته معركة لأصحاب الآراء ثمَّ يتوقف على فهمه انسداد باب العلم فهمه وجب العمل بالظن ثمَّ على فهمه انه يجب عليه العمل بالظن فهمه العمل بكل ظن حتى الظن الحاصل من فتوى المجتهد.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 545

جواز التبعيض في التقليد

(تاسعها) يجوز التبعيض في التقليد بأن يقلد مجتهدين فصاعدا فيأخذ بعض مسائل الصلاة من بعض و بعضها من آخر و تحقيق ذلك قد تقدم في ص 180 في الأمر الثالث عشر من الأمور التي لا يجوز التقليد فيها.

وجوب التقليد على العامي طريقي

(عاشرها) لا يخفى أن العامي يجب عليه التقليد لأنه يتعسر عليه الاحتياط و تحصيل الاجتهاد و لكن وجوبه عليه طريقي نظير إيجاب العمل بخبر الواحد و ليس بشرط في صحة العمل كما يظهر من كلمات بعضهم حيث ذهب الى بطلان عمل تارك الاجتهاد و التقليد و قد تقدم في صدر الكتاب ج 1 ص 9 تحقيق المطلب و توضيحه بل قد ذكرنا هناك ان العامي الملتفت الغير المقلد يتمكن من قصد القربة فلا وجه لما ذكره بعض مقرري بحث المرحوم آغا ضياء العراقي من عدم تمكن الجاهل الملتفت من قصد القربة في عباداته.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 546

عدم جواز التقليد للمجتهد إذا علم العامي بخطئه في فتواه أو في مدركها

(الحادي عشر) انه قد تقدم ص 65 ان العامي إذا علم بخطإ المجتهد في الفتوى لا يجوز له تقليده فيها و هكذا إذا علم بخطئه في مدركها و هكذا لو عرف ذلك بعد تقليده له فيها فإنه يجب عليه العدول عنه فيها و ان احتمل صحة الفتوى في الواقع فمثلا المجتهد اعتمد في فتواه على خبر لاعتقاده انه خبر العادل و العامي يراه انه خبر الفاسق فلا يجوز له تقليده في هذه الفتوى و لا بقاؤه على تقليده فيها و ان احتمل صحة الفتوى في نفسها و مطابقتها للواقع لأن المجتهد إنما يفتي للعامي بما هو المأمور به العامي و العامي لما اعتقد عدم صحة هذا المدرك لم يكن مأمورا بالعمل به، و إن شئت قلت: ان أدلة الأحكام يشترك فيها العامي و المجتهد غاية الأمر ان العامي عاجز عن تحصيلها فيقوم المجتهد مقامه في تحصيلها و يكون نائبا عنه في معرفة الحكم منها فاذا كان العامي لا يرى هذا الشي ء دليلا على الحكم

و يعتقد بعدم صحته فلا يكون المجتهد قائما مقامه في تحصيله و لا نائبا عنه في معرفة الحكم منه لأنه إنما يقوم مقامه و ينوب منابه في الأدلة و هذا ليس بدليل عنده حتى يقوم مقامه و ينوب منابه في معرفة الحكم منه (و بعبارة أخرى) ان الحكم الظاهري الذي يفتي به المجتهد و يجب على المقلد متابعته فيه إنما موضوعه الأدلة الصحيحة لأنه إنما يستفاد من صغرى وجدانية و هي هذا ما قام عليه الدليل الصحيح و كبرى برهانية و هي و كلما قام عليه الدليل الصحيح فهو حكم اللّه تعالى في حقي و حق مقلدي ينتج من هذين المقدمتين هذا حكم اللّه في حقي و حق مقلدي فثبوت كونه حكما لمقلده باعتبار اندراجه في موضوع

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 547

الكبرى و هو ما قام عليه الدليل الصحيح و العامي حسب الفرض لا يراه مندرجا تحت هذا الموضوع في الواقع و ان مجتهده مشتبه في اندراجه تحته فالدليل غير تام المقدمات فلا يثبت الحكم الظاهري في نظر العامي.

(إن قلت) على هذا لو طلق أمام شاهدين عدلين في نظره أن لا يجوز لمن يجهل حالهما أو يعلم بفسقهما أن يتزوج من المرأة المطلقة لعدم صحة موضوع الطلاق عنده لعدم كونه أمام شاهدين عدلين (قلنا) مضافا لأصالة الصحة عند الجهل بالحال فيما ذكر من المثال ان ما نحن فيه أجنبي عن ذلك فان ما نحن فيه كان التكليف الواحد متوجه للمجتهد و العامي و ينوب أحدهما عن الآخر في معرفته بخلاف ما ذكر من المثال فان التكليف متوجه للمطلق و العدالة إنما هي شرط لتكليفه فاذا أحرزها صح عمله عند نفسه و

الشخص الآخر إنما هو مكلف بما هو صحيح عند الفاعل فموضوعه متحقق بالنسبة اليه.

(إن قلت) على هذا إذا كان العامي جاهلا بأدلة المجتهد و لم يعرفها أن لا يقلده في الفتوى و ان كان أعلم الموجودين لأنه لم يحرز صحة مدركه للفتوى و هو مخالف للإجماع (قلنا) لما كان المجتهد نائبا عن العامي في تحصيل الحكم كان إحراز المجتهد للشرائط كافيا عن إحراز العامي لها و بدلا عنه و إنما ذهبنا الى عدم الكفاية في صورة علم العامي بفساد مدرك المجتهد لعدم صلاحيته للنيابة عنه في هذه الصورة.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 548

من قلد غير جامع للشروط

(الثاني عشر) إذا قلد من لم يكن جامعا للشرائط و مضى عليه مدة من الزمن كان كمن لم يقلد أصلا فحاله حال الجاهل القاصر إذا كان معذورا في تقليده و إلا فكالمقصر و قد تقدم ذلك ص 173.

وقت وجوب التقليد على العامي

(الثالث عشر) ان التقليد إنما يجب على العامي فيما إذا احتمل العقاب على مخالفة الواقع كما في الأفعال التي يحتمل حرمتها أو وجوبها إذا لم يحتط فيها لأنه بتركه للتقليد و الاحتياط يحتمل الضرر الأخروي و هو العقاب و دفعه واجب عقلا و كما في المعاملات إذا لم يحتط فيها و احتمل استحقاقه للعقاب فيما لو خالف الواقع فيها و كما فيما إذا دار العمل بين الواجب و الحرام فإنه يجب عليه التقليد لاحتماله العقاب بارتكاب أحد طرفيه و كما في شرطية شي ء أو جزئيته أو مانعيته إذا احتمل ان عدم تقليده في ذلك ينجر الى العقاب على مخالفة الواقع اما إذا كان العمل لم يحتمل فيه ذلك كالتسبيح فلا يجب التقليد فيه لعدم احتمال الضرر بمخالفة الواقع و كالمعاملة التي لا يحتمل أن ينجر عدم التقليد فيها على مخالفة الواقع كالهبة بالنسبة إلى الواهب و كالشرطية أو المانعية أو الجزئية في العمل المستحب الذي يدري انه مستحب كما لو شك في جزئية السورة في صلاة الزيارة فلا يجب التقليد لعدم احتماله العقاب على مخالفة الواقع في ذلك.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 549

الشك في التقليد و صحته
اشارة

(الرابع عشر) انه تارة الإنسان يشك في أصل صدور التقليد في أعماله الماضية بمعنى انها صدرت منه عن تقليد أم لا؟ فأصل الصحة لا يثبت صدورها عن تقليد و لكنك قد عرفت ص 36 ج 1 انه يثبت صحتها واقعا فيما إذا لم يعرف أنها بأي كيفية وقعت و اما مع علمه بكيفيتها و لكنه لا يدري بمطابقتها للواقع فأصل الصحة لا يجري فيها لأنه لا يجري في الشبهة الحكمية إذ لا يثبت به الحكم الشرعي و إنما يثبت

به مطابقة المأتي للحكم الشرعي الذي هو معنى الصحة كما قرر في محله (و أخرى) يشك في صحة التقليد بعد القطع بصدور أعماله عن تقليد و لكن يشك في أن تقليده كان صحيحا أم لا نظير من شك بعد صلاته ان طهارته كانت صحيحة أم لا فهو يعتقد صدور الطهارة منه و لكن شك في صحة الصلاة من جهة الشك في صحة الطهارة لا في أصل وجودها و هذا يتصور على وجوه:

(أحدها) أن يكون شكه في الصحة من قبيل الشك في الشبهة الحكمية كأن يكون قد قلد الأصم أو الاعمى ثمَّ شك في صحة ذلك ففي هذه الصورة لا بد له من الفحص و المعرفة لصحة تقليد مثل ذلك أم لا لأنه شك في أصل حجية تقليده.

(ثانيها) أن يشك في الصحة فعلا مع العلم بتحققها سابقا كما في صورة ما إذا شك في عروض الفسق و الجنون على المفتي و في هذه الصورة يبني على البقاء على الصحة استصحابا لها أو استصحاب لسببها و قد تقدم الكلام في ذلك ص 63 ج 1 و ص 532 ج 2.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 550

(ثالثها) أن يشك في صحة تقليده فعلا بنحو الشك الساري بأن يحتمل ان تقليده من أصله فاسد كأن احتمل ان مجتهده من أول الأمر فاسق أو مجنون أو ليس بمجتهد ففي هذه الصورة و ان تقدم الكلام منا فيها ص 63 ج 1 إلا أنه كان مجملا فنقول انه إذا علم بأن تقليده لم يكن مستندا لميزان شرعي فلا إشكال في فساد تقليده و تكون أعماله الماضية كمن عمل بلا تقليد أو اجتهاد و وجب عليه الفحص و ان علم

بأنه استند لميزان شرعي فلا إشكال أيضا في صحة تقليده بواسطة قيام الميزان الشرعي عليه و ان شك في استناد تقليده لميزان شرعي فيكون شاكا في صحة تقليده فيجب عليه بالنسبة إلى إعماله المستقبلة الفحص لان الشك في الطريق موجب لعدم حجيته و أصالة الصحة لا تجري في الأعمال المستقبلة. و عليه فيجب عليه الفحص (إلا اللهم أن يقال) ان أصالة الصحة لو كانت جارية في الأعمال نفسها صح ما ذكر لأنه لا بد من طريق لإحراز صحة أعماله في المستقبل و التقليد المذكور مشكوك صحته فلا بد من الفحص و اما إذا قلنا بجريان أصالة الصحة في نفس التقليد كما هو التحقيق كان التقليد صحيحا و لا حاجة الى الفحص لوجود الطريق الصحيح عنده بالنسبة لأعماله المستقبلة نظير ما إذا شك في صحة الصلاة من جهة صحة الوضوء فإن جرى أصل الصحة في الصلاة و قلنا بعدم جريانه في الوضوء وجب الوضوء للصلوات الأخرى و أما إذا قلنا بجريانه في الوضوء صار الوضوء هو الصحيح فتصح الصلوات الأخرى و لا يجب اعادة الوضوء بالنسبة إليها فهكذا فيما نحن فيه فان أصل الصحة لما جرى في التقليد كان التقليد صحيحا فيصح صدور الاعمال المستقبلة على طبقه و لا يجب الفحص (نعم) في المسائل التي لم يقلده فيها يجب عليه الفحص.

(ان قلت) ان التقليد بالنسبة للأعمال المستقبلة يكون عملا مستقبلا فلا يجري فيه أصل الصحة بالنسبة للأعمال المستقبلة (قلت) ان التقليد هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 551

نفس الاستناد و هو قد تحقق فيما مضى و الأعمال المستقبلة تستند اليه لا انه يتجدد بالنسبة إليها و اما بالنسبة إلى إعماله الماضية فلا مجرى

لأصل الصحة فيها لان الشك إنما كان فيها من جهة الشك في صحة التقليد فأصل الصحة لا يجري فيها. و إنما هو يجري في نفس التقليد فتكون صحيحة بواسطة أصالة الصحة في التقليد (نعم) لو قلنا ان أصل الصحة لا يجري في التقليد بالنسبة للأعمال المستقبلة و انه يجب الفحص بالنسبة إليها فإذا تفحص فان انكشف له بواسطة الفحص ان تقليده صحيح فلا كلام في بقائه عليه و صحة أعماله الماضية و ان انكشف له ان تقليده فاسد غير صحيح قلد غيره و رجع له في صحة أعماله الماضية و ان لم ينكشف له شيئا كان أصل الصحة في نفس تقليده جاريا لأنه عمل من الاعمال و معنى صحته انه عذر له لو كانت الاعمال الماضية التي أتى بها على طبق قول مقلده مخالفة للواقع و لكنه لا يبقى على تقليده لأن أصل الصحة كما هو الفرض لا يجري بالنسبة للعمل المستقبل (و الحاصل) ان نفس أعماله الماضية الواقعة على طبق تقليده المذكور بواسطة أصالة الصحة في تقليده فيها يكون حاله بالنسبة إليها كمن عدل عن تقليد مجتهد لآخر مخالف له في الفتوى لأنه ببركة أصالة الصحة في تقليده الماضي كانت واقعة عن تقليد صحيح فيكون حالها حال من أتى بأعمال مقلدا بها لمجتهد جامع للشرائط ثمَّ رجع لغيره لموته أو جنونه أو هرمة فأفتى بصحتها (نعم) في صورة الرجوع قد تكون معلومة المخالفة لفتوى المجتهد الحالي و قد تكون موافقة و قد تكون مشكوكة الحال و قد بنينا فيما سبق على عدم وجوب الإعادة أو القضاء في جميع الصور كما ان السيرة على ذلك و (دعوى) أن أصالة الصحة لا تجري في التقليد لاختصاص

أصالة الصحة بما إذا كان الشك في انطباق المأمور به على المأتي به دون ما إذا شك في وجود الأمر كما فيما نحن فيه للشك في وجود الأمر الظاهري للشك في حجية الفتوى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 552

(فاسدة) لوضوح ان الشك في صحة التقليد نظير الشك في صحة اجتهاده بعد انقضاء أمده لأنه شك في انطباق الأمر بالتقليد للعامي على تقليده المذكور (نعم) لو كان شكه في التقليد شكا في الشبهة الحكمية صح ما ذكره المدعي كما تقدم لكن محل الكلام هو الشك بنحو الشبهة الموضوعية و (دعوى) ان هذا إنما يتم في صورة معرفة الواقع مع عدم الالتفات من العامي الى ان الصادر منه مطابق له أم لا كما لو صدر منه تقليد لكن لا يدري انه كان لزيد المستجمع للشرائط أو لعمر الفاقد لها ففي هذه الصورة تجري أصالة الصحة و كما لو شخص الماء المطلق من الماء المضاف و لكنه بعد الوضوء شك انه توضأ من المضاف أو من المطلق أو ميز جهة القبلة عن غيرها و بعد الصلاة شك في انه صلى لجهة القبلة المعلومة لديه أم لغيرها فإنه تجري أصالة الصحة و أما في صورة ما إذا قلد شخصا يعرفه بعينه لكنه تردد في أنه مستجمع للشرائط أم لا فلا تجري أصالة الصحة نظير ما إذا صلى إلى جهة معينة و لكنه تردد أنها القبلة أو غيرها أو توضأ بماء معين و لكنه تردد انه ماء مضاف أو مطلق فلا تجري أصالة الصحة (فاسدة) لما تقدم ج 1 ص 37.

(رابعها) أن يشك في صحة تقليده الماضي مع العلم بصحة تقليده فعلا كأن يعلم فعلا ان هذا

المجتهد الذي رجع إليه أعلم الموجودين فعلا و لكنه يشك في أعلميته سابقا حينما قلده و في هذه الصورة لا يجب عليه الفحص بل يبني على صحة تقليده الماضي ببركة أصالة الصحة فتكون أعماله الماضية واقعة عن تقليد صحيح و مع مخالفتها لتقليده الفعلي يكون حاله كمن عدل عن تقليد مجتهد لآخر مخالف له في الفتوى، و قد أورد على هذا المطلب بعدة إيرادات (أحدها) ما وجدته بخط المرحوم أستاذي و والدي الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء نقلا عن أستاذه المرحوم آقا ضياء العراقي من أن في جريان أصالة

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 553

الصحة في الأخذ بالحجج الشرعية على الأحكام الكلية نظر، للشك في موضوع الحجية الشرعية الذي هو عنوان نفس العمل (نعم) في التقليد و إن كان جهة الصحة صفة زائدة لكن التقليد ليس موضوعا للحكم الشرعي و إنما هو موضوع إلزام العقل بمناط لزوم تحصيل الحجة و مثل هذا الحكم من الأحكام العقلية الخارجة عن مورد التعبدات الشرعية كما لا يخفى كما ان لنفس العمل بعنوان نفسه أيضا جهة صحة و فساد لكن الشك فيها من جهة راجع إلى الشبهة الحكمية الغير الجاري فيها الأصل المزبور، انتهى. و لا يخفى ما فيه فان الأصول تجري في المجعولات الشرعية إذا كانت لها آثار عقلية فيستصحب الوجوب و يرتب عليه الأثر العقلي و هو استحقاق العقاب على المخالفة و عدم استحقاق العقاب مع الموافقة و فيما نحن فيه أصالة الصحة في التقليد عبارة عن إثبات أن التقليد المذكور هو من التقليد المجعول شرعا حجيته و لازم التعبد بذلك هو عدم استحقاق العقاب بالمخالفة للواقع نظير التعبد بصحة العمل فان معناه مطابقة

العمل للأمر المولوي تعبدا و يثبت به أثره العقلي و هو عدم العقاب لو خالف الواقع.

ثاني الإيرادات: ان أصالة الصحة لا عموم لها للمورد (و لا يخفى ما فيه) فإنها إن كانت مستندها بناء العقلاء، فالعقلاء إذا شكوا في أن أعمالهم المتقدمة وقعت عن مستند صحيح يبنون على انهم قد أتوا به عن مستند صحيح و إن كانت من جهة الأخبار فلعموم قوله (ع): إنما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه و للعموم المستفاد من التعليل في قوله (انه حين ما يتوضأ اذكر) فإنه يستفاد منه انه كلما كان أذكر لم يعتد بشكه.

ثالث الإيرادات: ان أصالة الصحة سواء أخذناها من بناء العقلاء أو من الأخبار فهي إنما تجري في العمل بعد انتهائه، و اما لو شك في الصحة في أثنائه فلا تجري فيه كما يرشد اليه قوله (ع): إنما الشك في شي ء إذا لم تجزه. و عليه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 554

فأصالة الصحة لا تجري في نفس التقليد لأن التقليد أمر استمراري فهو ليس بعمل قد انتهى فلا يجري فيه أصل الصحة (و فيه) ان التقليد بالرجوع إلى الفتوى قد تحقق و وقعت الأعمال على طبقه من جهة الاستناد اليه لا انه يتجدد بتجددها نظير إجراء أصالة الصحة في الطهارة عند الشك فيها مع أنها مستمرة فإن ذلك باعتبار عملها الابتدائي و هكذا بالنسبة إلى التقليد فإنما تجري فيه أصالة الصحة في عمله الابتدائي و الاستمرار عليه من آثاره الشرعية أو ليس إلا عبارة عن العمل به

تنبيه ينفع فيما تقدم إذا جهل المكلف مقدار الفائت منه من الواجبات
اشارة

قد تقدم ج 1 ص 41 الكلام فيه و لا بأس بالإعادة فإنها لا تخلو عن الإفادة فنقول: إذا شك الإنسان في

مقدار الفائت منه من الفرائض كأن لا يدري انه قد فاته خمس سنين من الصوم أو الصلاة أو أكثر أو شك في أنه فعل ما يوجب عليه كفارة إطعام عشرة مساكين أو كفارة إطعام ستين مسكينا بنحو الشبهة الموضوعية أو الواجب كان عليه في السابق من الزكاة و الخمس ما يساوي خمسة دنانير أو أكثر و نحو ذلك

[راي المشهور فيما إذا جهل مقدار الفائت و حججهم على ذلك]

، فالمعروف بين الأصحاب بل قيل انه المقطوع به في كلامهم كما عن المدارك بل ذكر المرحوم المحقق الشيخ جواد ملا كتاب ظهور الإجماع عليه. و عن الشيخ الأنصاري أنه المقطوع به من المفيد الى الشهيد الثاني (ره) هو الإتيان بالعمل حتى يظن بفراغ ذمته منه و مستندهم كما يظهر من الكثير منهم إنما هو قاعدة الاشتغال و مقتضاها هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 555

الإتيان بالعمل حتى يحصل له اليقين بفراغ ذمته لكنهم إنما اكتفوا بالظن بالفراغ من وجوه:

(أحدها) ان الظاهر من حال المسلم أن لا يفوت منه الواجب.

(ثانيها) ان الظن هنا يقوم مقام العلم بالفراغ للعسر و الحرج و الضرورة تقدر بقدرها.

(ثالثها) صحيحة عبد اللّه بن سنان الواردة في قضاء النوافل قال قلت لأبي عبد اللّه (ع) أخبرني عن رجل عليه من صلاة النوافل ما لا يدري ما هو من كثرتها كيف يصنع؟ قال فليصلي حتى لا يدري كم صلى من كثرتها فيكون قد قضى بقدر علمه من ذلك فإنه بواسطة التعليل يفهم منها ان الرجوع الى المظنة في مثل ذلك هو الوجه الأتم و انه نهاية الاحتياط في فراغ الذمة و تدل بمفهوم الأولوية على عدم الاكتفاء بالإتيان بالقدر المتيقن في الواجبات لأنه إذا في النوافل لا يكتفي بذلك فبالطريق

الاولى أن لا يكتفي بذلك في الفرائض.

و نظير ذلك خبر علي بن جعفر المروي عن قرب الاسناد عن أخيه موسى (ع) قال سألته عن الرجل ينسى ما عليه من النافلة و هو يريد أن يقضي كيف يقضي؟

قال (ع) يقضي حتى يرى انه قد زاد على ما عليه و أتم.

(رابعها) المرسل الدائر على ألسنتهم (من أن المرء متعبد بظنه).

(خامسها) خبر إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه (ع) قال: سألته عن الصلاة تجتمع علي؟ قال: تحر و اقضها.

(سادسها) نقل الإجماع على ذلك الى زمان الشهيد الثاني كما يظهر من الشيخ الأنصاري و صاحب المدارك و الشيخ ملا كتاب كما تقدم نقل كلامهم (ره) فالتحقيق أن يقال ان ما كان منه موقتا كالصلاة و الصيام فالشك في الزائد يكون شكا في خارج الوقت و شكا فيما مضى و مقتضى القاعدة عدم الالتفات اليه لما

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 556

في صحيح زرارة عن أبي عبد اللّه (ع) إذا خرجت من شي ء و دخلت في غيره فشكك ليس بشي ء. و صحيح إسماعيل كل شي ء شك فيه و دخل في غيره و جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه، و أما غير الموقت كمثال الكفارة و الزكاة و الخمس فالأصل عدم وجوب الزائد لعدم العلم بوجوبه عليه سابقا فلا يستصحب وجوبه نظير ما إذا شك في أنه مقروض لزيد مائة دينار أو ألف دينار فان الواجب عليه أن يدفع مائة دينار.

(إن قلت) انه في صورة الموقت إذا علم الوقت و شك في أنه أتى بالواجب فيه في جميع أجزائه أم في بعضها دون بعضها الآخر فاستصحاب عدم الإتيان بالعمل الواجب في تلك الاجزاء يقتضي وجوبها عليه

فمثلا لو شك ان في الخمس السنين التي كان في المدرسة صلى ثلاثة سنين منها فقط أو صلى فيها بأجمعها فيستصحب عدم الإتيان بها في سنتين منها فيجب عليه قضائها (قلنا) انه منقوض بصورة ما إذا شك في إتيان العمل الموقت بعد أن خرج الوقت فإنه لا يستصحب عدم الإتيان فيه و لا يقضي العمل فكذا ما نحن فيه فإنه يكون الشك من قبيل هذا الشك حرفا بحرف مضافا الى أن موضوع القضاء هو صدق الفوت لا مجرد عدم الإتيان و باستصحاب عدم الإتيان لا يثبت الفوت لأنه أمر وجودي و هو ذهاب الشي ء عنه في جميع الوقت أو من قبيل عدم الملكة و لذا قبل الوقت و في أثناء الوقت يصدق عدم الإتيان بالعمل و لا يصدق فوته، و لا ريب ان الذهاب أو عدم العمل المقيد بجميع الوقت ليس له حالة سابقة حتى يستصحب و إنما الذي له الحالة السابقة هو عدم الإتيان بالعمل الغير المقيد بوقت بل المستصحب العدم الأزلي للفوت (و الحاصل) ان عدم الإتيان و إن كان له حالة سابقة إلا أنه ليس بموضوع للتكليف بالقضاء، و الفوت و ان كان موضوعا للقضاء لكنه ليس له حالة سابقة حتى يستصحب بل المستصحب عدمه، و لو سلمنا جريان الاستصحاب

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 557

فهو محكوم بما ذكرناه من الأدلة الدالة على عدم الالتفات للشك في الواجب بعد خروج وقته.

(إن قلت) هذا يتم ان قلنا بأن القضاء تكليف آخر جديد موضوعه الفوت، و لكن الظاهر ان الأمر بالقضاء كاشف عن بقاء الأمر السابق فان لسانه لسان الأداء للتكليف السابق لا انه تكليف آخر، و عليه فالتكليف السابق الثابت

في السنتين المشكوك أدائه فيهما في المثال المتقدم يستصحب بقائه و عدم أدائه (قلنا) مضافا الى عدم تسليم ذلك هو منقوض بصورة ما إذا شك في فوت فريضة معينة منه بعد خروج وقتها، و حله انه إنما يستكشف به بقاء التكليف السابق في مورد الفوت، و الفوت غير محرز عندنا بل الأصل عدمه، مضافا الى أن الاخبار الصحيحة المتقدمة الدالة على إلغاء الشك بعد خروج الوقت حاكمة على مثل هذا الأصل.

[صورة ما إذا جهل مقدار الفائت مع سبق العلم بمقداره ثمَّ نسيه]

(إن قلت) هذا لا يتم فيما إذا علم بمقدار الفائت ثمَّ طرأ عليه النسيان فلم يعرف مقدار الفائت كما إذا فرض انه كان عالما بمقدار الذي فاته من الصلاة ثمَّ طرأ عليه النسيان فلم يتذكر ان الذي كان عالما بفوته صلاة خمس سنين أو ثلاثة سنين فإنه ينسب الى المحقق صاحب الحاشية على المعالم الشيخ محمد تقى (ره) انه ذهب في هذه الصورة إلى وجوب الاحتياط بإتيان الزائد بأن يصلي في المثال المذكور خمس سنين لان العلم السابق بمقدار الفرائض قد نجزها على المكلف فلا يكون عروض النسيان موجبا لارتفاع التكليف المنجز عليه فهو بعد عروض النسيان يحتمل أن الزائد قد تنجز عليه و عروض النسيان لا يرفعه فيكون شكه في الزائد شكا في تكليف لو كان موجودا لكان منجزا عليه لأنه لا يرفعه النسيان نظير الشك في التكليف قبل الفحص، و أصل البراءة لا يجري في التكليف المتنجز لو كان موجودا فلا محالة يحكم العقل بوجوب الاحتياط دفعا للضرر

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 558

المحتمل (قلنا) ان العلم إنما ينجز ما دام موجودا فان زال زال تنجيز التكليف إذ لا دليل عليه حينئذ فلم يكن التكليف حال ارتفاع العلم به

واصل إلينا و لذا لو حدث العلم بالتكليف ثمَّ حدث بعده الشك الساري لم يتنجز التكليف بعد حدوث الشك المذكورة لعدم الدليل فعلا عليه فنحن لا ندعي أن عروض النسيان موجب لزوال التكليف و إنما ندعي ان الزائد بعد النسيان لا دليل عليه فيرفعه أصل البراءة أو أدلة إلغاء الشك بعد خروج الوقت (و دعوى) ان العلم الإجمالي إذا حصل و نجز التكليف الذي هو متعلقه ثمَّ فقد بعد ذلك أحد أطرافه أو خرج عن محل الابتلاء فيصير الطرف الآخر مشكوكا لا معلوما و مع هذا يبقى التكليف الذي هو متعلقه منجزا لو كان موجودا فصار العلم حدوثا مؤثرا لا بقاءا (فاسدة) فإن العلم الإجمالي لم يتبدل بذلك و إنما زال تنجز التكليف في أحد أطرافه و بقي تنجزه على حاله في طرفه الآخر فالعلم المنجز لم يزل بخلاف ما نحن فيه فان العلم قد زال و عليه فلم يبق دليل على الزائد على القدر المتيقن فيقبح العقاب عليه لأنه عقاب بلا بيان و يكون غير معلوم وجوبه فيكون مرفوعا لأنه رفع عن العباد ما لا يعلمون.

[المناقشة في أدلة المشهور]

(و أما ما تقدم من الأدلة للمشهور) ففي الأول منها انه لا دليل على حجية هذا الظهور. و في الثاني منها انه لا عسر و لا حرج غالبا و في مورد تحققه يقتصر على ما يرتفع به الحرج لا على حصول الظن بالوفاء كما هو المدعى على أن العسر و الحرج إذا حدث من سوء اختيار العبد فلا دليل على رفعه لأن أدلته واردة في مقام التخفيف عن العباد. و في الثالث منها ان الظاهر من الرواية الاكتفاء بمقدار علمه و يقينه إذ (مقدار علمه) هو القدر المتيقن،

مع انها في النافلة فلا وجه لقياس الفريضة عليها مع انها غير دالة على الاكتفاء بالظن و الأولوية ممنوعة لأن في قضاء الفريضة إلزام و تحتيم بخلاف قضاء النافلة فإنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 559

ليس فيه ذلك، ألا ترى انه في النافلة يستحب البناء على الأقل فيلزم التكليف الزائد بخلاف الفريضة فإنه يبني على الأكثر و فيه تخفيف للكلفة فتأمل.

و في الرابع منها انه ضعيف مرسل على أنه غير واضح الدلالة. و في الخامس منها انه خبر ضعيف. و في السادس منها انه إجماع منقول ليس بحجة على انه يحتمل فيه استناد المجمعين إلى الأدلة المذكورة التي عرفت فسادها.

عدم جواز فتوى العامي لغيره

(الخامس عشر) لا يجوز للمجتهد و لا العامي المقلد أن يفتي للغير حتى بما أفتى له مرجع تقليده على نحو تكون له لا بنحو النقل عن مجتهده و الحكاية عنه و إلا فلا إشكال في الجواز. لأنها منه فتوى بلا علم و قد قام الإجماع على حرمتها و الروايات المتظافرة على النهي عنها كما قد تقدم ص 538.

(إن قلت) ان الروايات الدالة على النهي عن الفتوى بغير العلم لا تشمل المقلد المفتي بفتوى مرجعه لأنه عالم بالحكم من أمارة معتبرة و هو فتوى مجتهده كما ان المجتهد يعلم به من الكتاب و السنة (قلنا) ان معرفة الحكم من الفتوى ليس من المعرفة بالعلم أو العلمي و لذا التقليد لا يسمى بالعلم و لا بالعلمي لا لغة و لا عرفا فالأدلة الدالة على النهي عن الفتوى بغير العلم تشمله و يؤيدها العمومات الدالة على حرمة الكذب إذ فيه تلبيسا على الغير إذ العالم إنما يسئل عما عنده و ما استفاده باجتهاده لا عما

قلد به الغير و قد أرسل علمائنا الاعلام هذا الحكم بدون ذكر الخلاف فيه من أحد منا كما في المعارج و التهذيب و المنية، خلافا للعامة فقد حكي الخلاف عنهم فيه (نعم) للعامي أن ينقل فتوى مجتهده لغيره كما يجوز له نقل سائر الحوادث.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 560

وجوب الفحص عن المجتهد الجامع للشرائط على العامي و في زمن الفحص يجب عليه العمل بالاحتياط

(السادس عشر) انه قد عرفت انه يجب على العامي الفحص عن جامعية المجتهد الذي يريد تقليده للشرائط لأن الأخذ بفتواه بدون إحراز الشرائط أخذ بما لم يحرز حجيته، و هل يجب عليه الاحتياط في زمن الفحص أم لا، ظاهر عبارة السيد في عروته وجوب الاحتياط زمن الفحص حتى عن الأعلم (و التحقيق أن يقال) انه في زمان الفحص عن المجتهد حيث انه لم يطلع على المجتهد و لا دليل على حجية قول غيره و قد ابتلي بالمسألة فيجب عليه الاحتياط لعدم الأمن من العقاب بدونه، و الاحتياط الواجب هنا هو الأخذ بأحوط الفتاوى التي يعلم بوجود من يصح تقليده لا بأحوط الاحتمالات للعلم بأن ما عداها ليس بحجة عليه، و مع عدم إمكان الاحتياط لا يبعد وجوب اختيار ما هو الأقرب للواقع كالفتوى التي توافق المشهور أو ما حصل الظن أو الاطمئنان بها لأنها الأقرب للواقع بعد العلم بعدم سقوط التكليف و عدم وجود طريق اليه، و اما زمان الفحص عن الأعلم فلا يبعد جواز الأخذ بفتوى كل من المجتهدين الى أن يتبين عنده الأعلم منهم بناء على ان العلم بالفتوى المخالفة من الأعلم هو المانع من جواز الأخذ بفتوى غيره، و المفروض انه لم يعلم بذلك لأنه في زمن الفحص (و الغريب) ان من بنى على هذا المطلب و لكنه لم يلتفت

في هذا المقام الى ذلك فأفتى بوجوب الفحص، و أما بناء على أن تكون الأعلمية شرطا، فعليه الاحتياط بين الفتاوى ان علم بأعلمية أحدهم إجمالا و إلا فيتخير مع تساوي الاحتمالات و مع وجود الاحتمال في أحدهم دون البقية يتعين الأخذ بمحتمل الأعلمية على التفصيل

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 561

المتقدم. هذا كله في التقليد الابتدائي، و أما مثل ما لو قلد شخصا ثمَّ مات ففي زمان الفحص عمن يرجع اليه فله أن يبقى على تقليده السابق إذا كان عنده حجة على جواز البقاء.

الاستفتاء فيما يتعلق بالوصايا و غيرها

(السابع عشر) لا يجوز أن يستفتي فيما يتعلق بالوصايا و الأقارير و الايمان و نحوها مما يتعلق بمراد اللافظ إلا من كان خبيرا بمرادات بلد الموصي و المقر و الحالف بحسب العادة الجارية بينهم كما انه لا يجوز للمفتي أن يفتي إلا إذا كان خبيرا بمراداتهم لأن الألفاظ المستعملة فيها إنما تكون حجة في ذلك قال الشهيد الثاني (ره) لا يجوز أن يفتي بما يتعلق بألفاظ الايمان و الأقارير و الوصايا و نحوها إلا من كان من أهل بلد اللافظ أو خبير بمرادهم في العادة.

وجوب معرفة كلام المفتي

(الثامن عشر) ان المستفتي عليه أن يعرف كلام المفتي إذا شافهه بالسؤال فيأخذ بظاهره و عامه و مطلقه و ان لم يعرفه ترجم له و هل يكفي في الترجمة الواحد أو لا بد من الاثنين الظاهر كفاية الواحد و اما إذا كاتبه فلا بد له من إحراز انها كتابته و الظاهر كفاية الاطمئنان و لذا يعمل برسالته و قد تقدم ذلك في الشرط السابع ص 53

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 562

خاتمة في حقوق العلم و آداب المعلم و المتعلم

اشارة

و لا بأس بختم هذا الموضوع بذكر آداب المعلم و المتعلم و حقوق العلم و آدابه التي قد استفدناها من كلمات العلماء الاعلام و هي و ان كانت لا تخص العامي المقلد و ينتفع بها الفقيه و غيره إلا انها فيها النفع العظيم للعامي المقلد و ما يلزمه عند طلبه المسألة من مجتهده و ما ينبغي له إذا عرف الحكم الشرعي من مورده.

[ (أحدها) إخلاص النية في طلب العلم و الفتوى]

اشارة

(أحدها) ان حق العلم إخلاص النية للّه تعالى في طلبه و بذله و في تعليمه و تعلمه فإن الأعمال بالنيات و بها تحسن الأمور و تطيب كما ان بها يقبح الخير و يشين و بسببها تكون الأفعال تارة وبالا على صاحبها مكتوبا في ديوان السيئات و أخرى سعادة يرتقي بها أعلى الدرجات، فعلى طالب العلم و باذله أن يقصد بعمله وجه اللّه تعالى و امتثال أمره و استصلاح نفسه و إرشاد غيره و لا يقصد بذلك شيئا من أغراض الدنيا و أعراضها من مال أو جاه أو عجب أو رياء أو حب المدح و الثناء أو شهرة بين الأصحاب أو امتياز عن النظائر و الأشباه أو افتخار على الناس أو ترفع على الأقران أو غير ذلك من المقاصد الفاسدة التي ثمرتها الخذلان من اللّه تعالى و البعد عن دار الجنان فيصير من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون انهم يحسنون صنعا. قال النبي (ص): إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى فمن كان هجرته الى اللّه و رسوله فهجرته الى اللّه و رسوله و من كان هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته الى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 563

ما هاجر

اليه، قال الشهيد الثاني (ره) و هذا الخبر من أصول الإسلام و أحد قواعده و أول دعائمه قيل و هو ثلث العلم (و وجهه بعض الفضلاء) بأن كسب العبد يكون بقلبه و لسانه و نياته فالنية أحد أقسام كسبه الثلاثة و هي أرجحها لأنها تكون عبادة بانفرادها بخلاف القسمين الأخيرين

[ما يستفتح به السلف كتبهم.]

و كان السلف و جماعة من تابعيهم يستفتحون المصنفات بهذا الحديث تنبيها للمطالع على لزوم حسن النية و تصحيحها و اهتمامه بذلك و اعتنائه به. و روي عنه (ص): إنما يبعث الناس على نياتهم و ان نية المرء خير من عمله.

و في الكافي عن أبي جعفر (ع): من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار أن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها. و في الكافي أيضا عن أبي عبد اللّه (ع): من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب و من أراد به خير الآخرة أعطاه اللّه خير الدنيا و الآخرة. و في الكافي عن أبي عبد اللّه (ع): من تعلم العلم و عمل به و علم للّه دعي في ملكوت السموات عظيما، فقيل تعلم للّه و عمل للّه و علم للّه. و في الكافي في خبر سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (ع): و من أخذ العلم من أهله و عمل بعلمه نجا و من أراد به الدنيا فهي حظه.

[ما نقله لي جدي الهادي قدس سره في إخلاص النية في طلب العلم]

و إخلاص النية مما يحق في كل عمل و ان كان في العلم أحق. إلا أنه لا يخفى قد نقل لي جدي الهادي كاشف الغطاء عن آبائه الكرام عن جدنا الشيخ جعفر كاشف الغطاء انه يقول انه طالب العلم و ان طلبه للدنيا و لكن بعد ذلك تنقلب نيته الى طلب الآخرة و يؤيد ذلك ما ورد عنهم (ع): اطلبوا العلم و لو لغير اللّه فإنه ينجر الى اللّه تعالى. و ما ورد في شرف العلم و فضله من قوله (ع) سلك اللّه به طريقا إلى الجنة فهو ظاهر في ذلك

[حكاية الشاه عباس (ره) مع ملا عبد اللّه التوني (ره)]

(و يحكى) ان الشاه عباس الثاني الصفوي المتوفى سنة 1077 هجرية دخل مدرسة المولى

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 564

ملا عبد اللّه التوني المتوفى سنة 1071 هجرية صاحب الوافية في الأصول و كان معاصرا للسيد الداماد فرأى أن المدرسة خالية من طلبة العلم فسأل الشاه المولى ملا عبد اللّه عن السبب في ذلك فقال له انى أجيب السلطان بعد أيام، فلما كان بعد أيام ذهب ملا عبد اللّه المذكور لمجلس السلطان فأكرم قدومه و قال له السلطان اطلب مني ما يهمك فقال الملا ما يهمني شي ء فأصر عليه السلطان فقال له لي إليك حاجة واحدة و هي انى أركب فرس السلطان و السلطان يمشي قدامي راجلا حتى يجتاز الميدان الفلاني فسأله السلطان عن الغرض من ذلك فقال الملا أبينه لك بعد أيام، ثمَّ ان السلطان فعل ما سأله الملا و بعد أيام عاد السلطان إلى المدرسة فرآها مملوءة من الطلاب مشحونة بالتلاميذ و هي مجدة في التحصيل غاية الجد فسأل السلطان عن السبب في تغير الحالة فقال الملا السبب فيما يراه حضرة السلطان و فيما طلبت منه ان الناس ما كانوا عارفين قدر العلم و فضيلة العلماء حتى إذا رأوا بعيونهم من فعل السلطان مع العالم و مشيه قدامه راجلا و هو راكب فعلموا من ذلك ان مرتبة العالم في الدنيا أعلى من مرتبة السلطان، فطلبا لهذه المرتبة و طمعا في الجاه و الجلال و جمع المال اجتمعوا في المدرسة وجدوا في تحصيل العلم و ان تمَّ لهم ذلك و بلغوا بعض المراتب العلمية تتبدل نياتهم و تصلح سرائرهم و تحصل لهم القربة في سائر العبادات.

[ (ثانيها) العمل بالعلم أو الفتوى و عدم العمل بدونهما]

(ثانيها) العمل بالعلم و عدم العمل

بدونه فيما يطلب للعمل إذ بدون ذلك لا ينفعه علمه في سلامة العاقبة و كان كمن به مرض شديد و هو يعلم كيفية العلاج و ترتيب الأدوية فيظن ان ذلك يكفيه في خلاصه عن مرضه و يشفيه بدون العمل به فلا يزال يزداد مرضه حتى يهلكه. قال في المعالم: و يجب على العالم العمل كما يجب على غيره لكنه في حق العالم آكد و من ثمَّ جعل اللّه تعالى ثواب المطيعات من نساء النبي (ص) و عقاب العاصيات منهن ضعف ما لغيرهن

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 565

و في الحديث في الكافي لا تطلبوا علم ما لا تعلمون و لما تعملوا بما علمتم فان العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلا كفرا و لم يزدد من اللّه إلا بعدا.

و في الكافي ان العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن الصفا ا ه و لو فرض ان آحادا من الأكياس ممن لا خبرة لهم بحاله اهتدوا بعلمه كان ذلك حسرة و وبالا عليه كما في الكافي عن النبي (ص) العلماء رجلان رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج و عالم تارك لعلمه فهذا هالك و ان أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه و ان أشد الناس ندامة و حسرة رجل دعا عبدا الى اللّه فاستجاب له و قبل منه فأطاع اللّه فأدخله اللّه الجنة و أدخل الداعي إلى النار بتركه لعلمه و اتباعه الهوى و طول الأمل، أما اتباع الهوى فيصد عن الحق و طول الأمل ينسي الآخرة ا ه. على أن العمل عقال العلم و هو بدونه في معرض الذهاب. و في الكافي

بسنده الى أبي عبد اللّه (ع): العلم مقرون الى العمل فمن علم عمل و من عمل علم، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلا ارتحل و في الكافي أيضا بسنده الى هاشم بن البريد قال: جاء رجل الى علي بن الحسين (ع) فسأله عن مسائل ثمَّ عاد ليسأل عن مثلها فقال (ع): مكتوب في الإنجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون و لما تعملوا بما علمتم فان العالم إذا لم يعمل بعلمه لم يزدد صاحبه إلا كفرا و لم يزدد من اللّه إلا بعدا، هذا في العلم بلا عمل، و اما العمل بدون العلم. ففي الكافي و الفقيه بسندهما عن أبي عبد اللّه (ع): ان العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا تزيده سرعة السير إلا بعدا و روي في أمالي الصدوق و المحاسن و فقه الرضا و في الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه (ع) قال قال رسول اللّه (ص) من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

[ (ثالثها) القول بما يعلم و الوقوف عند ما لا يعلم و حرمة الفتوى بلا روية و القضاء بلا بصيرة]

(ثالثها) القول بما يعلم و الوقوف عند ما لا يعلم فلا يتسرع بالفتوى و القول و يغلب عليه حب الدنيا الدنية و تفتنه محاسنها المادية فيزج نفسه في الفتوى بلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 566

بصيرة و يجلس للقضاء من دون معرفة و روية شوقا للرئاسة و طلبا للزعامة، فان حب الشي ء يعمي و يصم و المساهلة و المسامحة في ذلك فيها أعظم الخطر و أشد الضرر و لقد أخبر اللّه تعالى عن أعز خلقه عنده و أقربه منزلة لديه و هو رسول اللّه (ص) بقوله تعالى وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ الْأَقٰاوِيلِ لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ

لَقَطَعْنٰا مِنْهُ الْوَتِينَ. و في الكافي عن زرارة بن أعين قال سألت أبا جعفر (ع) ما حق اللّه على العباد قال أن يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون. و في الكافي مثله عن أبي عبد اللّه (ع) و زاد فان فعلوا ذلك فقد أدوا الى اللّه حقه. و في الكافي الموثق عن أبى جعفر (ع) و ما علمتم فقولوا و ما لم تعلموا فقولوا اللّه أعلم و في الكافي كالصحيح عن أبى عبد اللّه قال: للعالم إذا سئل عن شي ء و هو لا يعلمه أن يقول اللّه أعلم و ليس لغير العالم أن يقول ذلك. و في الكافي الصحيح عن أبى عبد اللّه (ع): إذا سئل الرجل منكم عما لا يعلم فليقل لا أدري و لا يقل اللّه أعلم فيوقع في قلب صاحبه شكا و إذا قال المسؤول لا أدري فلا يتهمه السائل. و عن علي (ع) إذا سئلتم عما لا تعلمون فاهربوا، قالوا و كيف الهرب؟

قال: تقولون اللّه أعلم. فعليك الاحتراز عن الفتوى بالرأي و عن التدين بما لا تعلم ففي الصحيح في الكافي عن أبى عبد اللّه (ع): إياك و خصلتين ففيهما هلك من هلك إياك أن تفتي الناس برأيك و تدين بما لا تعلم. و في الكافي الصحيح بسنده الى أبي جعفر (ع) من أفتى الناس بغير علم و لا هدى لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه. و عن الصادق (ع) كل مفتي ضامن. و عن علي (ع) في ذم علماء السوء و قضاتهم تبكي منه المواريث و تصرخ منه الدماء و يستحل بقضائه الفرج الحرام و يحرم بقضائه الفرج الحلال

[ (رابعها) التفهم للمسألة و السؤال عن المشكلة]

اشارة

(رابعها)

التفهم للمسألة و السؤال عما أشكل أمره من العلم بأن يستوضح في كل مقام ما يليق به من تفهم المسألة و تعرّفها دون الاقتصار على مجرد حفظ

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 567

الألفاظ و الأقوال فيكون مثله كمثل الحمار يحمل أسفارا. و في الكافي عن أمير المؤمنين (ع) «لا خير في علم ليس فيه تفهم». و في الكافي بسنده عن زرارة و محمد و العجلي قالوا: قال أبو عبد اللّه (ع) لحمران بن أعين في شي ء سأله إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون.

[ما ينسب لمولاي أمير المؤمنين (ع) من الشعر في هذا المقام]

و عن أمالي الشيخ (ره) روى منيف عن مولاه جعفر (ع) عن أبيه عن جده قال: قال علي (ع):

صبرت على مر الأمور كراهة و أيقنت في ذاك الصواب من الأمر

إذا كنت لا تدري و لم تك سائلا عن العلم من يدري جهلت و لا تدري

[ (خامسها) الاستبصار في أنحاء الحق و متشابهاته]

(خامسها) الاستبصار في احناء الحق و متشابهاته حتى لا ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة كما في حديث أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد النخعي في وصف حملة العلوم المعروف.

(سادسها) بذل العلم لأهله.

قال اللّه تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ. و عن الكافي بسنده الى أبى عبد اللّه (ع) قال: قرأت في كتاب علي ان اللّه لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال لان العلم قبل الجهل. و روي عنهم (ع) من كتم علما ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار. و عن أبى جعفر (ع) في الكافي من علّم باب هدى فله مثل أجر من عمل به و لا ينقص أولئك من أجورهم شيئا. و من علم باب الضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به و لا ينقص أولئك من أوزارهم شيئا و في حديث آخر في الكافي و ان مات. و عن رسول اللّه (ص): علماء هذه الأمة رجلان رجل أتاه اللّه علما فبذله للناس و لم يأخذ عليه طمعا و لم يشتريه ثمنا فذلك يستغفر له حيتان البحر و دواب البر و الطير في جو السماء و يقدم على اللّه سيدا شريفا حتى يرافق المرسلين، و رجل أتاه اللّه علما فبخل به على عباد اللّه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 568

و أخذ عليه طمعا و شرى به ثمنا فذلك يلجم يوم القيامة بلجام من نار و ينادي مناد: هذا الذي أتاه اللّه علما فبخل على عباده و أخذ عليه طمعا و اشترى به

ثمنا حتى يفرغ من الحساب. و روي عن النبي (ص) إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنه اللّه. و أيضا العلم يقوى بالبذل و يتكامل كما ورد عن أمير المؤمنين (ع) العلم يزكى بالإنفاق. و في الكافي بسنده الى أبى جعفر (ع) قال زكاة العلم أن تعلمه عباد اللّه.

و كما يراعى في زكاة المال استحقاق المبذول له و أهليته لها حتى يترتب على إعطائه ما وعد اللّه المزكين من المثوبات فيمنع غير المستحق الذي لا يليق به العطاء و ان سأل إلحافا كذلك يراعى في بذل العلم كونه لأهله المستوجبين له المنتفعين به.

[ (سابعها) منع الفتوى و العلم عن غير أهلها]

اشارة

(سابعها) منعه عن غير أهله حذرا عن الظلم و الكدر و تعليق الدر على أعناق أهل سقر. و في الكافي عن أبى عبد اللّه (ع) قال انه قام عيسى بن مريم (ع) خطيبا في بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل لا تحدثوا الجهال بالحكمة فتظلموها و لا تمنعوها أهلها فتظلموهم.

[ما ينسب للإمام زين العابدين (ع) من الشعر في هذا المقام]

و نسب الى الامام زين العابدين (ع)

أني لا أكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

و بهذا يظهر لك وجه كتمان أهل العلم بعض علومهم كما يتضح لك

[رد ابي جعفر (ع) على الحسن البصري]

وجه جواب الامام (ع) في ما رواه الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سليمان انه كان عند أبى جعفر (ع) رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الاعمى يقول ان الحسن البصري يزعم ان الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار فقال أبو جعفر (ع) فهلك إذن مؤمن آل فرعون ما زال العلم مكتوما منذ بعث اللّه تعالى نوحا فليذهب الحسن يمينا و شمالا فو اللّه ما يوجد العلم إلا هاهنا. و حكي عن صدر الدين الشيرازي ليس الظلم في إعطاء غير المستحق أقل منه في منع المستحق بل هو

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 569

في الثاني أقل لأنه تأخير يمكن أن يتدارك بخلاف الأول لأنه تفويت. و لقد أحسن القائل:

و من منح الجهال علما إضاعة و من منع المستوجبين فقد ظلم

قال الشهيد الثاني (قده) لا يمتنع المعلم من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية فربما عسر على كثير من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النية لضعف نفوسهم و انحطاطها عن إدراك السعادة الآجلة و قلة أنسهم بموجبات تصحيحها فالامتناع من تعليمه يؤدي الى تفويت كثير من العلم مع انه يرجى ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم لكن يجب على المعلم إذا شعر من المتعلم فساد النية أن يستدرجه بالموعظة الحسنة و ينبهه على خطر العلم الذي لا يراد به وجه اللّه و يتلو عليه من الاخبار الواردة في ذلك حالا فحال حتى يقوده الى القصد الصحيح فان لم ينجع

ذلك و يئس منه قيل يتركه حينئذ فإن العلم لا يزيده إلا شرا و فصل آخرون فقالوا إن كان فساد نيته من جهة الكبر و المراء و نحوهما فالأمر كذلك و إن كان من جهة حب الرئاسة الدنيوية فينبغي مع اليأس من إصلاحه أن لا يمنعه لعدم ثوران المفسدة و تعديها و لأنه لا يكاد يخلص من هذه الرذيلة أحد في البداية فإذا وصل الى أصل العلم عرف أن العلم إنما يطلب للسعادة الأبدية بالذات و الرئاسة لازمة له قصدت أم لم تقصد. انتهى.

و قد تقدم في الأمر الأول و هو إخلاص النية ما ينفع في المقصود.

[ (ثامنها) الشفقة في التعليم و بيان الفتوى]

اشارة

(ثامنها) الشفقة في التعليم ففي من لا يحضره الفقيه و الخصال من رسالة علي ابن الحسين (ع) الى بعض أصحابه في تعداد الحقوق الواجبة ثمَّ حق رعيتك في العلم فان الجاهل رعية العالم، الى أن قال: فان تعلم ان اللّه إنما جعلك قيما لهم فيما أتاك من العلم و فتح من خزائنه لك فإن أحسنت في تعليم الناس و لا تخرق بهم و لا تضجر عليهم زادك اللّه من فضله و إن أنت منعت الناس من

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 570

علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على اللّه أن يسلبك العلم و بهاؤه و يسقط من القلوب محلك، الحديث. و أيضا فإن المتعلم بالنسبة إلى المعلم ولد روحاني فينبغي أن ينظر اليه نظر الوالد الشفيق الى الولد البار المسترشد و يؤدبه أحسن الأدب و أول ذلك أن يحضره على الإخلاص للّه في علمه و سعيه و مراقبته تعالى في جميع اللحظات و يعلمه ان بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف و

ينشرح صدره و تنفجر من قلبه ينابيع الحكمة و يبارك له في حاله و علمه و يوفق للإصابة و يتلو عليه الآثار الواردة في ذلك و يزهده في الدنيا و يصرفه عن التعلق بها و الاغترار بزخارفها و يرغبه في العلم و يذكره بفضائله و فضائل العلماء و انهم ورثة الأنبياء و ان مدادهم يرجح دماء الشهداء و ان الملائكة لتضع أجنحتها لهم و انهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء و الشهداء و نحو ذلك مما ورد في فضل العلم و أهله من الاخبار و الاشعار و الأمثال ففي الأقاويل الخطابية و الكلمات الشعرية هز عظيم للنفوس الإنسانية كما يرى. و يتلطف في موعظته بالاقتصار على الميسور و قدر الكفاية من الدنيا و القناعة بذلك عما يشغل القلب عن طلب العلم و يزيد الهم. و يحب و يكره له ما يحب لنفسه و يكره، و يزجره عن سوء الأخلاق و ارتكاب المناهي و كل ما يؤدي الى فساد حال أو بطالة عن اشتغال أو إساءة أدب أو كثرة كلام لغير فائدة أو معاشرة من لا يليق أو نحو ذلك بطريق التعريض ما أمكن فان لم ينجع نهاه سرا ثمَّ جهرا و غلظ عليه القول بحسب اقتضاء الحال لينزجر هو و غيره و يتأدب به كل سامع فان لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده و الاعراض عنه الى أن يرجع لا سيما إذا خاف على بعض رفقته من الطلبة موافقته. و ان لا يسامح في نشر العلم و تقريبه الى ذهنه متلطفا في الإفادة برفق و نصيحة و تحريض على حفظ ما يبذله له من الفوائد النفيسة و لا يدخر عنه من فنون العلم شيئا

يحتاج اليه أو يسأل عنه إذا كان أهلا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 571

لذلك فان لم يتأهل بعد لما سأل عنه نبهه على أن ذلك يضره و انه لم يمنعه عنه شحا بل شفقة و لطفا ثمَّ يرغبه بعد ذلك في الاجتهاد و التحصيل ليتأهل لذلك و لغيره،

[تفسير الرباني]

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

النور الساطع في الفقه النافع؛ ج 2، ص: 571

و قد ورد في تفسير (الرباني) انه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، و يأمر الطلبة بالاجتماع في الدرس لما يترتب عليه من الفائدة التي لا تحصل مع الانفراد و ينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم و ان كان صغيرا و يسمع السؤال من مورده على وجهه و لا يترفع عن سماعه فيحرم الفائدة و يطرح عليهم أحيانا من النكات و الدقائق الغريبة ما يشحذ به أذهانهم

[ (تاسعها) الاقتصار على مقتضى الحال و قدر الفهم]

(تاسعها) الاقتصار على مقتضى الحال و قدر الفهم و بيان المسائل و توضيح المشكلات التي لها وجوه متعددة متفاوتة على ما يبلغه فهمه و يكتم عنه ما لا يبلغه فهمه لأنه يفرق عليه الهم و ينفر الطبع و يفسر الحال و في الحديث النبوي نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم فنكلمهم على قدر عقولهم.

و فيه ما احد يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم الا كان فتنة على بعضهم و لا يفوته الاقتصار على ما يبلغه فهمه من المراتب متدرجا من كل مرتبة الى ما فوقها و لا يخالف الترتيب فيتبلد ذهنه و يضيع سعيه.

[ (عاشرها) قطع الطمع حتى عن المتعلمين عنده]

اشارة

(عاشرها) قطع الطمع حتى عن المتعلمين عنده فلا يستأكل بعلمه و لا يسألهم الأجر عليه لمنافاة ذلك للإخلاص و تأسيا بالأنبياء فان العلماء ورثتهم بل يعلمهم لوجه اللّه لا يريد منهم جزاء و لا شكورا بل و لا يرى لنفسه منة عليهم و ان كانت المنة لازمة عليهم بل يرى الفضل لهم لان ثوابه في التعليم أكثر من ثوابهم في التعلم عند اللّه و لولاهم لما نال هذا الثواب الجسيم و عن معاني الأخبار بسنده عن حمزة بن حمران قال سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول من استأكل بعلمه افتقر فقلت جعلت فداك ان في شيعتك و مواليك قوما يتحملون علومكم و يبثونها في شيعتكم فلا يعدمون على ذلك البر و الصلة و الإكرام فقال (ع) ليس أولئك

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 572

بمستأكلين إنما المستأكل بعلمه الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه عز و جل ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا

[ما أنشده القاضي أبو الحسن الجرجاني]

و ما أحسن ما أنشده القاضي أبو الحسن بن عبد العزيز الجرجاني لنفسه.

يقولون لي فيك انقباض و انما رأوا رجلا عن موضع الذل احجما

ارى الناس من داناهم هان عندهم و من أكرمته عزة النفس أكرما

و ما كل برق لاح لي يستفزني و لا كل من لاقيت أرضاه منعما

و اني إذا ما فاتني الأمر لم أبت أقلب كفي نحوه متندما

و لم أقضي حق العلم ان كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما

إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى و لكن نفس الحر تحتمل الظما

و لم ابتذل في خدمة العلم مهجتي لاخدم من لاقيت لكن لأخدما

أ أسقي به عزا و

اسقيه ذلة أذن فاتباع الجهل قد كان أحزما

و لو ان أهل العلم صانوه صانهم و لو عظموه في النفوس لعظما

و لكن أذلوه فهانوا و دنسوا محياه بالاطماع حتى تجهما

[ (الحادي عشر) التواضع في طلب العلم و معرفة الفتوى]

(الحادي عشر) التواضع بخفض الجناح و حسن اللقاء و التلطف و بشاشة الوجه إلى غير ذلك من المعلم و المتعلم فإنه يكون باعثا لمزيد التوجه و الاستفادة ففي الكافي و معاني الاخبار عن ابي عبد اللّه (ع) اطلبوا العلم و تزينوا معه بالحلم و الوقار و تواضعوا لمن تعلمونه و تواضعوا لمن طلبتم منهم العلم و لا تكونوا علماء جبارين فيذهب باطلكم بحقكم. مضافا الى ان ذلك هو مطلوب بنفسه فعن النبي (ص) ما تواضع احد للّه الا رفعه، و قد قال تعالى وَ اخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مخاطبا لأحب خلقه اليه، و عن الصادق (ع) ان في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع رفعاه و من تكبر وضعاه و قوله تعالى تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لٰا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لٰا فَسٰاداً وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 573

[ (الثاني عشر) التملق للمعلم و للمفتي]

(الثاني عشر) التملق و هو التودد و لين الجانب و التواضع للمعلم زيادة على غيره من ذوي الحقوق حتى الأبوين لأنهما و ان تسببا لوجوده فان ذلك انما اتفق منهما من غير قصد له في الأغلب بل بمقتضى الشهوة البهيمية المركوزة فيهما و هو وجود ناقص في أخس المراتب يشترك فيه الديدان و الخنافس. و المعلم المرشد يتسبب بقصده و عنايته لتكميل هذا الوجود الناقص و إيصاله إلى أقصاه و استخراج ما فيه بالقوة إلى الفعل فحقه أعظم و نعمته أحق بالشكر. و الموفق لا يألوا جهدا في تعظيمه.

[ (الثالث عشر) حسن الأدب مع المعلم و الخدمة له]

(الثالث عشر) حسن الأدب مع المعلم و الخدمة له في محضره و مغيبه و في الحديث النبوي ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم. و سئل الإسكندر ما بالك توقر معلمك أكثر من والدك فقال لان الوالد سبب لحياتي الفانية و المعلم سبب لحياتي الباقية. و في المجلي لابن ابي جمهور الأحسائي انه قد روي عنه (ص) قال من علم شخصا مسئلة فقد ملك رقبته فقيل يا رسول اللّه أ يبيعه فقال لا و لكن يأمره و ينهاه.

[ (الرابع عشر) التسليم للمعلم و المفتي]

(الرابع عشر) التسليم بأن يلقي اليه زمام أمره بالكلية و يذعن له في كل ما يعين له من العلم المناسب لمرتبته و حاله حتى يجعل نفسه بين يديه كالمريض الجاهل بين يدي الطبيب الحاذق يداويه بما يشاء من الدواء بل كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء فيذعن لما ينقله من علم الى علم.

[ (الخامس عشر) إحضار القلب و الإقبال بكليته عليه]

اشارة

(الخامس عشر) إحضار القلب و الإقبال بكليته عليه في مجلسه متعقلا لقوله بحيث لا يحوجه إلى إعادة الكلام و لا يلتفت من غير ضرورة و لا سيما عند بحثه معه أو كلامه له

[ (مرسلة الجعفري المشتملة على جملة من آداب المتعلم]

و قد اشتمل على جملة من آداب المتعلم مرسلة الجعفري في الكافي عن ابي عبد اللّه (ع) قال كان أمير المؤمنين يقول ان من حق العالم ان لا تكثر عليه السؤال و لا تأخذ بثوبه و إذا دخلت عليه و عنده قوم فسلم عليهم جميعا

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 574

و خصه بالتحية دونهم و اجلس بين يديه و لا تجلس خلفه و لا تغمز بعينيك و لا تشر بيدك و لا تكثر من القول قال فلان و قال فلان خلافا لقوله و لا تضجره بطول صحبته فإنما مثل العالم مثل النخلة تنتظرها متى يسقط عليك منها شي ء الحديث.

[الرواية عن علي بن الحسين (ع) المشتملة على جملة من آداب المعلم و المتعلم]

و في الحديث المشتمل أيضا على جملة من آداب المتعلم عن الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان عن الشيخ الصدوق بسنده عن الثمالي عن علي بن الحسين (ع) انه حق سائسك «1» بالعلم التعظيم له و التوقير لمجلسه و حسن الاستماع اليه و الإقبال عليه و ان لا ترفع عليه صوتك و لا تجيب أحدا يسأله عن شي ء حتى يكون هو الذي يجيب و لا تحدث في مجلسه أحدا و لا تغتاب عنده أحدا و أن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء و أن تستر عيوبه و تظهر مناقبه و لا تجالس له عدوا و لا تعادي له وليا فاذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة اللّه عز و جل بأنك قصدته و تعلمت علمه للّه جل اسمه لا للناس و حق رعيتك بالعلم ان تعلم ان اللّه عز و جل انما جعلك قيما لهم فيما آتاك من العلم و فتح لك من خزائنه فإن أحسنت في تعليم الناس و لم تخرق بهم

«2» و لم تضجر عليهم زادك اللّه عز و جل من فضله و أن أنت منعت الناس من علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقا على اللّه عز و جل أن يسلبك العلم و بهائه و يسقط من القلوب محلك. و عن الصادق (ع) و تواضعوا لمن تعلمونه العلم و لمن طلبتم منه العلم و لا تكونوا علماء جبارين. و عن تحف العقول في مواعظ السجاد (ع) في رسالته المعروفة برسالة الحقوق و اما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له و التوقير لمجلسه و حسن الاستماع اليه و الإقبال عليه و المعونة له على نفسك فيما

______________________________

(1) اي المدبر أمر تعليمك.

(2) عن تحف العقول عن أمير المؤمنين (ع) انه قال لولده الحسين (ع) يا بني رأس العلم الرفق و آفته الخرق. و الخرق هو الدهشة و التخويف و لو بحدة النظر.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 575

لا غنى بك من العلم بان تفرغ له عقلك و تحضره فهمك و تجلي له بصرك بترك اللذات و نقص الشهوات و ان تعلم انك فيما القى إليك رسوله الى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه و لا تخنه في تأدية رسالته و القيام بها عنه إذا تقلدتها.

[ (السادس عشر) ترك الحياء في الاستفسار عن المسئلة و عما أشكل عليه امره]

(السادس عشر) ينبغي ترك الحياء في الاستفسار عما أشكل عليه امره و ترك الاستنكاف عنه فان من رق وجهه رق علمه و من رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال. و في الصحيح في الخصال عن أمير المؤمنين (ع) قوام الدين بأربعة عالم ناطق مستعمل له و غني لا يبخل بفضله على أهل دين اللّه و فقير لا يبيع أخرته بدنياه و

جاهل لا يتكبر عن طلب العلم فاذا كتم العالم علمه و بخل الغني بماله على مستحقه و باع الفقير آخرته بدنياه و استكبر الجاهل عن طلب العلم رجعت الدنيا على ورائها القهقرى. الحديث.

[ (السابع عشر) تجنب الإكثار و الإلحاح في المسئلة]

(السابع عشر) تجنب الإكثار و الإلحاح في المسئلة كما في الحديث المتقدم و في حديث آخر في الكافي نهى رسول اللّه (ص) عن القيل و القال و إفساد المال و كثرة السؤال عما لا يهمه فإنه من الخوض فيما لا يعنيه.

[ (الثامن عشر) ان يتحر الوقت المناسب لمعرفة المسئلة]

(الثامن عشر) ان يتحرى الوقت المناسب و يغتنمه عند طيب نفس المعلم و فراغ باله و الخلو و هذا حسن السؤال و في الحديث النبوي حسن السؤال نصف العلم. و كأن النصف الآخر حسن الحفظ أو حسن التفكر.

[ (التاسع عشر) تقديم الأهم فالأهم من العلوم و المسائل التي أشكل أمرها عليه]

(التاسع عشر) تقديم الأهم من العلوم فالأهم فإنها و إن كانت مرتبطة بعضها ببعض الا ان لكل منها مرتبة و مقاما معلوما فلا يشتغل بالغايات قبل المبادي و لا بالمقاصد قبل المقدمات و لا باختلاف العلماء في العقليات و السمعيات قبل إتقان الاعتقادات فيختل ذهنه و يحير عقله و يضيع سعيه و يعسر عليه طلبه بل يلاحظ الترتيب اللائق و يؤت كل ذي حق حقه فيكون ممن أتى البيوت من أبوابها

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 576

و عند ذا يسهل عليه درك البغية و نجح الامنية.

[ (العشرون) الكتابة للعلم و الفتوى]

(العشرون) الكتابة له فان كل علم ليس في القرطاس ضاع و لولاها لاندثرت كوامن الحكمة و رموزها و خفيت معادن المعارف و كنوزها و لبنت على اسرار العلوم عناكب النسيان و يدل على فضيلة الكتابة جعل اللّه تعالى من نعمه على الإنسان تعليمه الكتابة بالقلم في قوله تعالى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ و وصفه تعالى للحافظين بأنهم كاتبين في قوله تعالى وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحٰافِظِينَ كِرٰاماً كٰاتِبِينَ و عن أمالي الصدوق و عن خط الشهيد الثاني نقلا من خط قطب الدين و عن كتاب الدرر الباهرة من الاصداف الطاهرة ان رسول اللّه (ص) قال المؤمن إذا مات و ترك ورقة واحدة عليها علم تكون تلك الورقة يوم القيامة سترا فيما بينه و بين النار و أعطاه اللّه تبارك و تعالى بكل حرف مكتوب عليها مدينة و ما من مؤمن يقعد ساعة عند العالم الا ناداه ربه عز و جل جلست إلى حبيبي و عزتي و جلالي لأسكننك الجنة معه و لا أبالي. و عن غوالي اللئالي بسنده عن رسول اللّه قلت يا رسول اللّه اكتب كل ما اسمع

منك قال نعم قلت في الرضا و الغضب قال نعم فإني لا أقول في ذلك كله الا الحق. و في الكافي بسنده الى الفضل بن عمر و عن كشف المحجة لابن طاوس عن الفضل بن عمر أيضا قال قال لي أبو عبد اللّه (ع) اكتب و بث علمك في إخوانك فإن مت فورّث كتبك بنيك فإنه يأتي على الناس زمان هرج ما يأنسون فيه الا بكتبهم.

و في منية المريد للشهيد الثاني عن النبي (ص) انه قال قيدوا العلم قيل و ما تقيده قال كتابته و مثله عن غوالي اللئالى. و روي ان رجلا من الأنصار كان يجلس إلى النبي (ص) يستمع منه الحديث فيعجبه و لا يحفظه فشكا ذلك الى النبي (ص) فقال له النبي (ص) استعن بيمينك و أومأ بيده اى خط. و عن الحسن بن علي (ع) انه دعا بنيه و بني أخيه فقال انكم صغار قوم و يوشك ان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 577

تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم فمن لم يستطع منكم ان يحفظه فليكتبه و ليضعه في بيته. و في الكافي بسنده عن ابن بصير قال سمعت أبا عبد اللّه يقول اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا. و في الكافي بسنده عن ابي عبد اللّه (ع) قال القلب يتكل على الكتابة و في الكافي بسنده عن عبيد بن زرارة قال قال أبو عبد اللّه (ع) احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها.

(ان قلت) ان الكتابة للعلم لو كانت صفة حسنة لا تصف بها النبي (ص) قلت لا نسلم عدم اتصاف النبي (ص) بها فقد روى في بصائر الدرجات عن احمد بن محمد عن ابي عبد اللّه البرقي

عن جعفر بن محمد الصوفي قال سألت أبا جعفر (ع) محمد بن علي الرضا (ع) و قلت له يا ابن رسول اللّه لم سمي النبي الأمي قال ما يقول الناس قال قلت له جعلت فداك يزعمون انما سمي النبي الأمي لأنه لم يكتب فقال كذبوا عليهم لعنة اللّه أنى يكون ذلك و اللّه تبارك و تعالى يقول في محكم كتابه هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ.

فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن و اللّه لقد كان رسول اللّه (ص) يقرأ و يكتب باثنين و سبعين أو بثلاثة و سبعين لسانا و انما سمي الأمي لأنه كان من أهل مكة و مكة من أمهات القرى و ذلك قول اللّه تعالى في كتابه لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا* و عن عبد اللّه بن محمد عن الحسن بن موسى الخشاب عن علي بن أسباط أو غيره قال قلت لأبي جعفر (ع) أن الناس يزعمون أن رسول اللّه لم يكن يكتب و لا يقرأ فقال كذبوا لعنهم اللّه أنى ذلك و قد قال اللّه هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلٰالٍ مُبِينٍ فكيف يعلمهم الكتاب و الحكمة و ليس يحسن أن يقرأ و يكتب قال قلت فلم سمي النبي (ع) أميا قال

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 578

نسبة إلى مكة و ذلك قول اللّه عز و جل لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا*، فأم القرى مكّة فقيل أمي لذلك.

و عن الحسن بن علي عن احمد بن هلال عن

خلف بن حماد عن عبد الرحمن ابن الحجاج قال قال أبو عبد اللّه (ع) أن النبي (ص) كان يقرأ و يكتب و يقرأ ما لم يكتب.

(ان قلت) انه في غوالي اللئالي عن النبي (ص) انه قال: خذوا العلم من أفواه الرجال و قال (ص) و إياكم و أهل الدفاتر و لا يغرنكم الصحفيون، و في علل الشرائع أنه أعاب أبو حنيفة على جعفر الصادق (ع) بأنه صحفي و لما بلغ الامام (ع) قال صدق قرأت صحف إبراهيم و موسى.

قلت سيجي ء إنشاء اللّه في الخامس و العشرين ما يوضح لك المراد من ذلك

[ (الحادي و العشرون) مجالسة أهل العلم و الفتوى]

(الحادي و العشرون) مجالسة أهل العلم فان فيها شرف الدنيا و الآخرة ففي ثواب الاعمال و الخصال و أمالي الصدوق مسندا إلى الصادق (ع) عن آبائه (ع) عن رسول اللّه (ص) انه قال مجالسة أهل الدين شرف الدنيا و الآخرة قال المجلسي (ره) أهل الدين علماء الدين و العاملون بشرائعه. و عن أمالي الشيخ بسنده إلى علي (ع) قال قال رسول اللّه (ص) المتقون سادة و الفقهاء قادة و الجلوس إليهم عبادة. و عن روضة الواعظين عن بعض الصحابة قال جاء رجل من الأنصار إلى النبي (ص) فقال يا رسول اللّه إذا حضرت جنازة و مجلس عالم أيهما أحب إليك ان اشهد فقال رسول اللّه (ص) إذ كان للجنازة من يتبعها و يدفنها فان حضور مجلس عالم أفضل من حضور ألف جنازة و من عيادة ألف مريض و من قيام ألف ليلة و من صيام ألف يوم و من ألف درهم يتصدق بها على المساكين و من ألف حجة سوى الفريضة و ألف غزوة سوى الواجب تغزوها في سبيل اللّه بمالك و

نفسك و اين تقع هذه المشاهد من مشهد عالم اما علمت ان اللّه يطاع بالعلم و يعبد

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 579

بالعلم و خير الدنيا و الآخرة مع العلم و شر الدنيا و الآخرة مع الجهل. و عن العدة عن علي (ع) قال جلوس ساعة عند العلماء أحب إلى اللّه من عبادة ألف سنة و النظر إلى العالم أحب إلى اللّه من اعتكاف سنة في البيت الحرام و زيارة العلماء أحب الى اللّه تعالى من سبعين طوافا حول البيت و أفضل من سبعين حجة و عمرة مبرورة مقبولة و رفع اللّه له سبعين درجة و انزل عليه ملائكة الرحمة و شهدت له الملائكة ان الجنة وجبت له.

[ (الثاني و العشرون) المذاكرة و المناظرة في العلوم الدينية و المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية]

اشارة

(الثاني و العشرون) المذاكرة و المناظرة مع أقرانه من الطلبة الصالحين فإنها نعم المعين على الحفظ و رسوخ العلم في الذهن و انتعاش النفس و توسع القلب كيف لا و الحقيقة لا زالت تبرق من تصادم الآراء و اللئالي المكنونة انما تستخرج بالغوص في بحار الأفكار. و لا بأس ان يمتحن العالم بالمحاورة و المباحثة لتظهر فضيلته. و يصلى الياقوت لتبان مزيته و في (الكافي) عن رسول اللّه (ص) ان اللّه عز و جل يقول تذاكر العلم بين عبادي مما تحيي عليه القلوب الميتة إذا هم فيه انتهوا إلى أمري. و في (الكافي) عن رسول اللّه (ص) أيضا تذاكروا و تلاقوا و تحدثوا فان الحديث جلاء للقلوب ان القلوب لترين كما يرين السيف الحديث. و في الكافي بسنده عن ابي جعفر (ع) انه قال: رحم اللّه عبدا أحيا العلم، قيل: ما إحياؤه؟ قال ان يذاكر به أهل الدين و أهل الورع و في الكافي

بسنده عن ابي جعفر (ع) تذاكر العلم دراسة و الدراسة صلاة حسنة هذا (و قد يتراءى) كون المجادلة من جملة أنواع المذاكرة بل أقوى أنواعها لما تلزمه غالبا من استحضار الذهن و تذكر الأدلة و تنقيحها و الفحص عن دلالتها و تشحيذ الخاطر و رياضة الفكر و تقوية النفس لدرك المآخذ و ترغيب الناس في العلم و نحو ذلك و هو كذلك لكنها كثيرة الآفات غير مأمونة التبعات و التحفظ على شروطها و آدابها على وجه السلامة في غاية التعسر و الصعوبة إلا ما رحم ربي ففي فقه الرضا و أمالي الصدوق

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 580

بسنده الى الحذاء قال قال أبو جعفر (ع) إياك و الخصومات فإنها تورث الشك و تحبط العمل و تردي صاحبها و عسى ان يتكلم الرجل بشي ء فلا يغفر له، و عن الأمالي أيضا بسنده عن ابى عبد اللّه الصادق (ع) إياكم و الخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر اللّه عز و جل و تورث النفاق و تكسب الضغائن و تستجيز الكذب و عن كتاب الاعتقادات ما رواه الصدوق عن أمير المؤمنين (ع) انه قال (من طلب الدين بالجدل تزندق) قال المجلسي (ره) ان الذي يظهر من الاخبار ان المذموم من الجدال هو ما كان الغرض فيه الغلبة و إظهار الكمال و الفخر و التعصب و ترويج الباطل و اما ما كان لإظهار الحق و رفع الشبهة عن الدين و إرشاد المضلين فهو من أعظم أركان الدين لكن التمييز بينهما في غاية الصعوبة و الاشكال و للنفس فيه تسويلات خفية لا يمكن التخلص منها الا بفضله تعالى، و عليه فالأولى ترك النزاع الا مع

الحاجة كتجدد قضية واقعة أو مترقبة لا يسعه الجهل بحكمها و لا يثق بنفسه إذا انفرد بالنظر فيها فلا بد له من الاستعانة بنظر غيره من الثقات المأمونين فيقتصر على قدر الحاجة و هي معرفة حكم ذلك المشكل الواقع و إذا كانت في الخلوة كانت اجمع للفهم و أحرى بصفاء الفكر و درك الحق و أبعد من حركة دواعي الرياء و الحرص على طلب الافحام و ان يكون في طلب الحق كمنشد ضالة يكون شاكرا متى وجدها و غير مقصر إذا فقدها و لا يفرق بين أن يظهر على يده أو يد غيره فيجعل مخاطبة بمنزلة المشير الناصح و المعين المساعد و يكون التنازع بنحو التشاور و التناصح و التعاون دون الخصومة و المغالبة شاكرا للمصيب إذا عرّفه خطأه كما لو أخذ طريقا في طلب ضالته فنبهه غيره عليها في طريق آخر معترفا بالخطاء إذا ظهر منه غير مهم بظهوره من الطرف الآخر فإنه من المراء المذموم

[أقسام المناظرة و شروطها]

(و عليه) فينبغي في المناظرة أولا تحرير محل النزاع و تشخيصه و تقرير المذاهب المتخالفة فيه ان كان فيه خلاف ثمَّ بيان

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 581

دلائلها بأحسن تقريب و أحسن توضيح و يذكر مختاره. و المناظرة معه ان كانت في الطرق النقلية فإنما تنصب في صحة النقل أو في دلالته أو فيما يعارضه و الأول يسمى بالسند و الثاني بالمتن و الثالث بالمعارض و ان كانت في الطرق التصويرية الكسبية فإنما يكون مصبها في اطراد التعريف اعنى مانعيته عن دخول الأغيار في المعرف و في انعكاسه بمعنى جامعيته لافراد المعرف دون خروج بعض منها و لذا قد يعبرون عن الاطراد بالمانعية و

عن الانعكاس بالجامعية و في اجلائيته عن المعرف بمعنى ان يكون اعرف و أظهر عند العقل من المعرف كما ان النقاش في كونها حدا أو رسما ناقصا أو تاما لا بد و ان يكون منصبا على بيان عدم توفر ما يعتبر فيها و اما ان كانت في الطرق التصديقية الكسبية فإنما يكون مصبها على عدم صحة مقدماتها أو هيئة شكلها و تسمى مناقضة ان كانت منعا عن بعض مقدماتها على سبيل التعيين أو جميعها على سبيل التفصيل سواء كان منعا مجرد أو مع السند و اما لو منع من مجموع الدليل فلا يسمى مناقضة بل ان كان منعه من مجموعه مقترن بشاهد يدل على المنع فيسمى نقض إجمالي و الا فيسمى مكابرة و هي غير مسموعة في باب المناظرة و تسمى معارضة فيما إذا أقام الدليل على ما ينافي ما استدل عليه كما إذا أقام شخص الدليل على قدم العالم و الآخر يقيم الدليل على حدوثه. كما انه تعارف عند المصنفين ان يسمون ابطال الدليل بتخلف الحكم الذي أقيم عليه في بعض الصور بالنقض كما انهم يسمون الابطال بالدليل لمقدمات الدليل أو بعضها على سبيل التعيين (بالحل) فتعيين موضع غلط الدليل بالحجة يكون حلا.

[ (الثالث و العشرون) ضبط اللسان في المجالس و المجامع و عدم التسرع في الفتوى]

(الثالث و العشرون) ضبط اللسان في المجالس و المجامع فان في إرخاء اللسان مزالق طالما أوقعت العبقري في المهالك و أسقطت العالم النحرير في الأندية و المجالس، و لا تكن ثرثارة في كل نادي تخطب.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 582

فعن النبي (ص) كما في الكافي انه جاء اليه رجل فقال يا رسول اللّه أوصني فقال احفظ لسانك قال يا رسول اللّه أوصني قال احفظ لسانك، قال يا رسول

اللّه أوصني قال احفظ لسانك ويحك و هل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم و عنه (ص) انه خرج على أصحابه فقال من ضمن لي ما بين لحييه و ما بين رجليه ضمنت له الجنة.

و عنه (ص) يعذب اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول اي رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا من الجوارح فيقال له خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض و مغاربها فسفك منها الدم الحرام و انتهب بها المال الحرام و انتهك بها الفرج الحرام و عزتي و جلالي لأعذبنك بعذاب لا أعذب به شيئا من الجوارح و عن أمير المؤمنين (ع) انه مر برجل يتكلم بفضول الكلام فوقف عليه فقال يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا الى ربك فتكلم بما يعنيك.

و عنه (ع) في حديث ما خلق اللّه شيئا أحسن من الكلام و لا أقبح منه. بالكلام ابيضت الوجوه و بالكلام اسودت الوجوه و اعلم ان الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فاذا تكلمت به صرت في وثاقه فاخزن لسانك كما تخزن ورقك و ذهبك فان اللسان كلب عقور فإن أنت خليته عقر و رب كلمة سلبت نعمة و عنه (ع) من كثر كلامه كثر خطأه و من كثر خطأه قل حياؤه و من قل حياؤه قل ورعه و من قل ورعه مات قلبه و من مات قلبه دخل النار و عن الكاظم (ع) يأتي على الناس زمان تكون العافية في عشرة أجزاء تسعة منها في اعتزال الناس و واحدة في الصمت.

هذا و لكن ما ذكر في غير الكلام في رضاء اللّه تعالى و آلائه و نعمائه و في الأمر بالمعروف و النهي

عن المنكر و إرشاد الضالين و نشر العلوم في الصالحين و الدعاء و التلاوة و الصلاة و الاستغفار و نحو ذلك مما ورد الحث عليه و الطلب له.

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 583

و قد سئل السجاد (ع) عن الكلام و السكوت أيهما أفضل فقال (ع) لكل واحد آفات فاذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت قيل و كيف ذاك يا ابن رسول اللّه (ص) قال لان اللّه عز و جل ما بعث الأنبياء و الأوصياء بالسكوت انما بعثهم بالكلام و لا استحقت الجنة بالسكوت و لا استوجبت ولاية اللّه بالسكوت و لا توقيت النار بالسكوت و لا يجنب سخط اللّه بالسكوت انما ذلك كله بالكلام ما كنت لأعدل القمر بالشمس انك تصف فضل السكوت بالكلام و لست تصف فضل الكلام بالسكوت.

[ (الرابع و العشرون) الدعاء عند الخروج للدرس من المنزل و الدعاء عند الشروع في التدريس]

اشارة

(الرابع و العشرون) ان المدرس للعلم يدعو عند خروجه من منزله مريد للدرس بالدعاء المروي عن النبي (ص) اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل و أزل أو أزل و أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي عز جارك و تقدست أسماؤك و جل ثناؤك و لا إله غيرك ثمَّ يقول بسم اللّه حسبي اللّه توكلت على اللّه و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم اللهم ثبت جناني و أدر الحق على لساني.

و ان يجلس مستقبل القبلة لقوله (ص) خير المجالس ما استقبل بها و قبل الشروع في التدريس و البحث يستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم و يسمي و يحمد اللّه و يصلي و يسلم على النبي و آله و أصحابه الطيبين الطاهرين قال الشهيد الثاني أن هذا و ان لم يرد فيه نص على

الخصوص لكن فيه خير عظيم و فيه اقتداء بالسلف الصالح فقد كانوا يستحبون ذلك و قد ذكر بعض العلماء إنه يقول عند الشروع بالبحث اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل على اللهم انفعني بما علمتني و علمني ما ينفعني و زدني علما و الحمد للّه على كل حال. اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع و من قلب لا يخشع و من نفس لا تشبع و من دعاء لا يسمع. و كان بعض العلماء يقرأ سورة الأعلى و يزعم انه متأس و متفئل بما فيها. و روي أنه من اجتمع مع جماعة و دعا يكون

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 584

من دعائه إليهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معصيتك و من طاعتك ما تبلغنا به جنتك و من اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا و قوتنا ما أحييتنا و اجعله الوارث منا و اجعل ثارنا على من ظلمنا و انصرنا على من عادانا و لا تجعل مصيبتنا في ديننا و لا تجعل دنيانا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا.

[ما نستحسنه عند الشروع في الدرس]

(و اني لأستحسن) عند الشروع في الدرس أن تقرأ فاتحة الكتاب لما فيها من الحمد للّه و تعظيمه و الدعاء بالهداية للصواب

[ما يختم به الدرس من الدعاء و الآيات الشريفة]

و ان يختم الدرس بما ورد عن النبي (ص) بما كان يختم به مجلسه فيقول اللهم اغفر لنا ما أخطأنا و ما تعمدنا و ما أسررنا و ما أعلنا و ما أنت اعلم به منا أنت المقدم و أنت المؤخر لا إله إلا أنت.

[ما يقرأ عند القيام من المجلس]

و ان يقول إذا قام من مجلسه سبحانك اللهم و بحمدك اشهد ان لا آله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد للّه رب العالمين. قال الشهيد الثاني (ره) رواه جماعة انه من فعل النبي و في بعض الروايات أن الايات الثلاث كفارة المجلس و كما يستحب ذلك للعالم يستحب لكل من من مجلسه قائم لكنه في حقه آكد.

[الخامس و العشرون) أخذ العلم من أفواه الرجال لا من الكتب و الأقوال]

اشارة

(الخامس و العشرون) ان يأخذ العلم من أفواه الرجال و يستفيده من الحضور عند الاساتذة المهرة فيه و ليحترز من أخذه من بطون الكتب من غير قراءة على أربابه من مشايخ عصره خوفا من وقوعه في التصحيف و الغلط و التحريف قال بعض من تقدم من الأصحاب من تفقه من بطون الكتب ضيع الاحكام

[ذم الصحفيين]

و قال آخرون إياكم و الصحفيين الذين يأخذون علمهم من الصحف و الكتب فان ما يفسدون أكثر مما يصلحون و عن غوالي اللئالي عن النبي (ص) خذوا العلم من أفواه الرجال و انه قال (ص) و إياكم و أهل الدفاتر و لا يغرنكم الصحفيون و في علل الشرائع في حديث تضمن أعابه أبي حنيفة لجعفر الصادق (ع) بأنه

النور الساطع في الفقه النافع، ج 2، ص: 585

صحفى و لما بلغ ذلك الامام (ع) قال صدق قرأت صحف إبراهيم و موسى و بهذا ظهر لك وجه الجمع بين ما ورد من الحث على طلب كتابة العلم كما تقدم ص 578 و بين ما ورد من الإعابة على الصحفيين و أهل الدفاتر.

[ (السادس و العشرون) الصبر و المثابرة على تحصيل العلم]

(السادس و العشرون) الصبر و المثابرة على تحصيل العلم فان العلم يحتاج الى الكد و التعب و الجد و الاجتهاد و هذا يستدعي ترك الملذات و توطين النفس على المذلات قال تعالى وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا قال والدي الرضا (ره) ان النجاح ان كان في السماء فلا نناله الا بسلم الثبات و ان كان في الأرض فلا نظفر به الا من طريق التصميم و المثابرة و قد روي عن النبي (ص) انه قال لا تنالوا ما تحبون الا بالصبر على ما تكرهون و لا تبلغوا ما تهوون الا بترك ما تشتهون و مما ينسب لأمير المؤمنين (ع)

لا تعجزن و لا يدخلك مضجرة فالنجح يهلك بين العجز و الضجر

قد تمَّ بهذا الجزء الثاني من كتابنا النور الساطع في الفقه النافع الكلام في طرق امتثال الاحكام بحمد اللّه تعالى و منه و كرمه و به تمت مباحث الاحتياط و الاجتهاد و التقليد

و سيجي ء بعده إنشاء اللّه تعالى الجزء الثالث في مبادي علم الفقه و المدخل له و الباب لمدينته و اللّه الموفق للإنجاز و الصواب

________________________________________

نجفى، كاشف الغطاء، على بن محمد رضا بن هادى، النور الساطع في الفقه النافع، 2 جلد، مطبعة الآداب، نجف اشرف - عراق، اول، 1381 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.